جهتگیری سیاسی مصر در دوران محمد علی: بنیانگذار مصر مدرن
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
ژانرها
ولكن القاهرة ودمشق كانتا وقتئذ قاعدتي الثقافة الإسلامية، وقد كانت المدينتان في قبضة محمد علي، وهذا ما جعل له أهميته خاصة في العالم الإسلامي، فلو أنه استطاع ترقية هاتين المدينتين وجعلهما مركزا للثقافة العربية لا للثقافة الإسلامية فحسب، ولو أنه جعل نفسه محاميا للقضية العربية ضد القضية التركية؛ نقول: لو أنه فعل ذلك لتوصل إلى إيجاد روابط للاتحاد بين البلاد التي يحكمها أقوى بكثير من روابط الخضوع لسيد مشترك.
ولقد وجه بعضهم إلى محمد علي قوارص اللوم على تهاونه في تحقيق هذه الفكرة، ولكن صاحب ذلك الانتقاد تناسى بعض العوامل الرئيسية في الحالة العامة كما كانت وقتذاك؛ فإن الإسلام كدين من الأديان لم يشجع مطلقا على ظهور القومية أو العنصرية؛ فإن صفته العامة قد أضعفت بدلا من أن تتقوى ما بين الأجناس من اختلاف في الثقافة مما كان يمكن أن يتحول يوما ما إلى خلال وطنية. ومما يلفت النظر حقا أن الحكام الوطنيين - حتى بعد مرور قرن بأكمله لعبت فيه الآراء والأفكار الغربية دورها - كانوا يشعرون بما تقيمه أمامهم تعاليم الدين الإسلامي من العقبات بسبب غاياته العامة التي لا حصر لها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فلم تكن بين الأمم العربية إذ ذاك روابط مشتركة عدا رابطة اللغة ورابطة الخضوع لسيد واحد؛ فالسوري والمصري والعربي المتنقل والفلاح والعلماء والكافة، كل أولئك كانوا منقسمين فيما بينهم بسبب العادة والتقاليد أو الآراء المحلية إلى حد أنهم لم يكونوا ميالين إلى التسليم برابطة أخرى غير رابطة الدين، وهذا ما جعل محمد علي يظهر بمظهر المدافع عن الأمة الإسلامية بدلا من الأمة العربية التي لم يمكنه حتى التفكير فيها، وهذه حقيقة اقتنع بها إبراهيم؛ فقد تبين له أن الخلافات بين السوريين والمصريين أكبر وأشد من أن تجمع الفريقين في صعيد واحد أو تجعلهم أمة واحدة.
أما محمد علي فكان يرى أن أهمية البلاد التي تتكلم العربية تنحصر في مزاياها العسكرية لا فيما يمكن أن تؤدي إليه من احتمالات لم يكن يمكن التفكير فيها أو تصورها في عهده.
ففكرة الوطنية العربية لم تتولد وتظهر على المسرح السياسي إلا في أيامنا، ويرجع الفضل في ظهورها إلى ازدياد النفوذ الغربي وانتشار التعليم ووجود الصحافة الشعبية، وفوق هذا كله إلى سهولة طرق المواصلات.
فلم تكن فكرته متجهة إذن إلى إنشاء وحدة عربية داخل دائرة الإسلام، بل أن يصبح زعيم الإسلام الأشهر المشار إليه بالبنان، وأن ينادي به الناس كإمام لهم. ولكن تحقيق هذه الفكرة كان يقتضي إما خلع السلطان وتمزيق أملاكه أو قلب الديوان في الآستانة رأسا على عقب وإحلال نفوذ محمد علي محل نفوذ خسرو باشا. أما موقفه فإنه كان دائما غامضا، وقد أصبح الآن أشد غموضا، وخاصة بعد انتهاء الحرب السورية التي أسفرت عن انتصار إبراهيم الباهر. وقد كتب كامبل يصف الموقف على حقيقته، فقال: «إنه تابع للسلطان من الوجهة القانونية ولكنه مستقل عنه في الواقع، ومع أنه لا يفتأ يعلن أنه تابع وخاضع للسلطان إلا أن توكيداته هذه أقنعتني أنه لا يرغب أن يعتقد غير ذلك عنه.»
6
ولقد طالما عززت الصحف الفرنسية والتصريحات الرسمية الفرنسية الأمل في نفسه بأنه لو أعلن الاستقلال لقوبل ذلك الإعلان بكثير من العطف والتأييد. وكان يدفعه إلى السير في ذلك الطريق نفسه ما كان يظهره السلطان ووزراؤه حياله من سوء النية الظاهرة - وهو أمر كان طبيعيا - وبهذه المناسبة كتب كامبل بعد ذلك بأسبوع، فقال: «إن ما بدا من ناحية الباب العالي أخيرا من التهديدات المصحوبة بالمظاهرات سوف يقوي عزيمة محمد علي في رغبته الحصول على الاستقلال وتحقيق الغاية التي لا شك في أنه يعمل لها، ألا وهي إنشاء خلافة عربية ... وهو شديد الحنين إلى نيل السلطة والمجد طبعا، ويختلف عن بقية المسلمين بأنه مدفوع برغبة شديدة في تخليد اسمه في صفحات التاريخ، ولا مناص من الاعتراف بأن النجاح كان على الدوام حليفه.»
7
وساعد مسلك السلطان في التجائه إلى الروسيا على اشتداد احتقار محمد علي واشمئزازه من الطريقة التي تدار بها الأمور في الآستانة؛ لأنها أدخلت في دائرة النزاع عاملا لم يكن يحسب أحد حسابه، ولقد كانت بمثابة طعنة فجائية لم تفتق له الحيلة وسيلة لدرئها، بل كان ذلك المسلك أحد الأساليب القوية التي تجعله يشن الغارة على رجال الآستانة علنا، وألا يتورع عن تقديم وتوجيه أشد عبارات النقد إليهم، وحسبك أن دعوة روسيا إلى مساعدة الباب العالي رجت عواطف المسلمين رجة عنيفة وكادت تشق وحدتهم، وفي الحق أنها نفرت الناس جميعا، بحيث إن الغازي الذي وصل أخيرا إلى القاهرة - والذي كان تعيينه في منصبه من الآثار البارزة الدالة على سيادة تركيا على مصر - صرح بأن مهمته تقضي بإصلاح الأمور مع الباشا لإعادة المياه إلى مجاريها، وأنه واثق من أن كثيرين من أصحاب الرأي في الآستانة ينظرون إلى محمد علي باعتباره أكبر دعامة للإمبراطورية العثمانية فيما لو نشبت الحرب بينها وبين روسيا يوما ما،
8
صفحه نامشخص