============================================================
فإن قيل : فما تقول في مدارس علماء الآخرة، ورباطات الصوفية سالكي طريق الاخرة، والكون فيها ؟(1) فاعلم : أن تلك الطريقة المثلى في هلذا الشأن لعامة أهل العلم والاجتهاد ، وذلك أنها جمعت المعنيين والفائدتين اللتين إحداهما : العزلة عن الناس، والتفرود عنهم بالضحبة والمخالطة والمزاحمة في أمورهم ، والثانية : المشاركة معهم في جمعهم وجماعاتهم، وتكثير شعائر الإسلام، فتحصل السلامة التي هي للمنفردين ، والخير الكثير الذي هو لعامة المسلمين ، مع ما للناس فيهم من العدة والبركة والتصيحة ، فصار الكون فيها أعدل طريق، وأحسن حال، وأسلم سبيل ، ولهلذا الشأن أقام أكثر العارفين بين الناس ؛ لنفعهم لعباد الله تعالى في باب الدين، وقلة أذاهم، ومشاهدة الخلق لادابهم وحسن رسومهم ليقتدوا بهم ؛ فإن لسان الحال أفصح من لسان المقال ، فصار ذلك أحسن تدبير في أمر الدين للعلم والعبادة، وأحكم رأي: فإن قيل : فما حال المريد مع المجتهدين والمرتاضين، أيصحبهم أم يعتزلهم؟
فاعلم: أنهم إذا كانوا ثابتين على رسومهم الأولى، وسيرتهم الموروثة عن سلفهم.. فهم أجل إخوان في الله عز وجل، وأصحاب وأعوان على عبادة ألله تعالى؛ فلا تسعك عنهم عزلة وتفرد، وإنما مثلهم مثل ما تسمع من زهاد لبنان وغيرهم أن منهم جماعات يتعاونون على البر والتقوى ، ويتواصون بالحق والصبر: وأما إذا تغيروا وتركوا رسومهم، وأخلوا بطريقتهم الموروثة عن أسلافهم الصالحين. فحكم هذا المجتهد المرتاض معهم كحكمه مع سائر الناس ، يلزم زاويته ويكفك لسانه، ويشاركهم في خيراتهم، ويجانيهم في سائر أحوالهم وآفاتهم، فيكون هو في عزلة من أهل العزلة، منفردأ عن المنفردين فإن قلت : فإن أختار هاذا المجتهد المرتاض أن يخرج من بينهم إلى مكان آخر؛ لصلاح يراه في نفسه ، وتجنب آفة تدخل عليه في صحبتهم؟
صفحه ۸۲