وأعني بالاستجداد الجهد في ألا يواطئ من قبله في مجموع عبارة أو جملة معنى، وبالتأنق طلب الغاية القصوى من الإبداع في وضع بعض أجزاء العبارات والمعاني من بعض وتحسين هيئات الكلام في جميع ذلك. فإن العبارة إذا استجدت مادتها وتأنق الناظم في تحسين الهيأة التأليفية فيها وقعت من النفوس أحسن موقع. وكذلك الحال في المعاني، فتأمل ذلك.
د- معرف دال على طرق المعرفة بكيفية التصرف في مقاصد الشعر وجهاته
وجهات الأقاويل الشعرية هي ما يكون الكلام منوطا به من الأشياء المقصود وصفها أو الإخبار عنها. والجهات ضربان: ضرب يع في الكلام مقصودا لنفسه. وهو ما كان له بالغرض المقول فيه علقة وله إليه انتساب بوجه يوجب ذكره.
والصنف الثاني ما لم يكن له بالغرض علقة، ولكن له علقة ببعض الجهات المتعلقة بالغرض، فيذكر تابعا لما ذكر معتمدا على جهة إحالة أو محاكاة أو غير ذلك؛ وقد يكون له بالغرض علقة إلا أنه لم يذكر إلا من حيث ما هو تابع لغيره ومتعلق به.
١- إضاءة: وكانت للأوائل عناية بتعليق الأوصاف بهذه الجهات الثواني. وذلك حيث يكون في قوة الكلام أن يعود من الأوصاف المتعلقة بالثواني ما يفيد مبالغة أو غير ذلك في الجهات الأول.
٢- تنوير: واعلم أن الشعراء تتفاوت طبقاتهم فيا لتصرف في الجهات الأول، وتتفاوت في الجهات الثواني. والتفاوت في الثواني أكثر، لأن الجهات الأول يمكن حصرها في كل فن، وأما الجهات الثواني فقلما يتأتى حصرها لكثرة ما يمكن أن يستطرد من الشيء إليه أو يحال به عليه أو يحاكى به أو يعلق على الجملة به لنسبة في المعنى تقتضي ذلك.
فإذا كانت الجهة الواحدة من الأول يمكن أن يناط بها جهات ثوان كثيرة على أنحاء من الاستدراج والاستطراد وما جرى مجرى ذلك من أنحاء الانتقالات المتنوعة بتنوع المقاصد، وكان كل نحو من ذلك ممكنا أن يذهب فيه إلى ضروب كثيرة من الهيئات الحاصلة عن الترتيب الذهني وعن النسب الواقعة بين بعض المعاني وبعض، صارت الصور الحاصلة عن جميع ذلك في تشفيع معاني الجهات الأول بمعاني الثواني وإردافها بها كثيرة التشعب بعيدة عن الحصر. وعظم التفاوت بين الشعراء في مقدار التصرف في ذلك. وإذا كانوا يتفاوتون في مقدار التصرف في الجهات الممكن حصرها فهم أجدر بالتفاوت فيما يبعد على الحصر.
٣- إضاءة: فأما تصرفهم في الجهات الأول فمنهم من يقتصر على الجهات الأكيدة في الغرض، ومنهم من يزيد إلى ذلك جهات هي أبعد من غرض الكلام من الجهات المقتصر عليها، ومنهم من لا يستوفي جميع الجهات الأكيدة ويقتصر على ما تيسر له منها. فهذا نوع من التصرف.
٤- تنوير: وهناك تصرف ثان. وهو مقدار ما يتصوره الشاعر من معاني الجهة. والشعراء في ذلك ثلاث طبقات: منهم من في قوته أن يستقصي معاني الجهة إذا شاء، ومنهم من لا يبلغ إلى الاستقصاء ويأتي من ذلك بمقدار كاف، ومنهم من يقصر عن المقدار الكافي.
٥- إضاءة: وهناك تصرف ثالث. وهو ملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات الحسن أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها حسنة حقيقية أو تمويها، وملاحظة ما في الجهة التي عدمت فيها صفات القبح أو قلت من الأوصاف التي يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، يقصد بذلك تحسين القبح وتقبيح الحسن. ويتمكن من هذا الغرض من حصل له التصرف في الأول والتصرف في الثواني والتصرف في الجمع بين الأول والثواني.
٦- تنوير: والشعراء يختلفون أيضًا في هذا: فمنهم من يقوى على حشر ما يمكن أن يوصف به الشيء الحسن من صفة يرى أنها قبيحة حقيقة أو تمويها، وما يمكن أن يوصف به القبيح من صفة يرى أنها حسنة حقيقة أو تمويها، ومنهم من لا يتهدى إلا إلى الشيء القليل من ذلك؛ ومنهم من يتوسط بين الطرفين.
وهذا النوع من المقاصد من مجالات الشعر الضيقة. وكان أقوى الناس عارضة وأكثرهم تصرفا في هذا ابن الرومي. واعتبر قوته على ذلك بما قال في صفة السوداء في الشعر الذي يقول فيه: (المنسرح -ق- المتراكب)
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق
وبما قال في النرجس والورد وبتحسينه التصابي في حال المشيب بشعره الذي أوله: (الخفيف -ق- المترادف)
لاح شيبي فظلت أمرح فيه ... مرح الطرف في اللجام المحلى
1 / 69