وكان لا مناص بعد سقوط رشيد باشا أن يتولى الوزارة رجال يتصفون بالرجعية، فعاودوا السياسة القديمة الاستبدادية، واضطهدوا المناصرين لحركة الإصلاح، ولكنهم أصروا على ضرورة الإصلاح العسكري، فلقد خبروا تجربة الثلاثينيات؛ ولذا حاولوا تنفيذ التجنيد الإجباري في سنة 1843 وأدى ذلك التصميم على الإصلاح العسكري إلى قيام الثورة في كثير من جهات الدولة، فزاد تعقد الأمور. •••
لم يكن من السهل في مثل ظروف الدولة العثمانية في الأربعينيات القيام بأية إحصائية دقيقة لسكان الدولة، وكانت حالة الجيش بصفة عامة سيئة، فكان عدد كبير من الجنود لا يصلحون مطلقا للخدمة العسكرية، وكان الكثير منهم يؤخذون من قراهم بالقوة أو من السجون أو من المساجد أثناء تأدية الصلاة، ويؤخذون إلى حيث لا يعرف لهم مصير. لقد بين الإحصاء الذي عمل في ذلك الوقت أن بالدولة حول أربعة عشر مليونا من المسلمين، ولم يرد الرجعيون في ذلك الوقت تجنيد المسيحيين؛ لشكهم فيهم وعدم الاطمئنان لإخلاصهم للدولة، وقاوم المسيحيون أنفسهم فكرة تجنيدهم، فهم لا يرون التضحية بأنفسهم في سبيل الدولة، وعلى هذا جندت الدولة المسلمين فقط، وجندت منهم حول ربع مليون جندي، قام بتدريبهم بعض الضباط الألمان، وسار الجيش التركي على أسلوب الجيش المصري؛ ولذا تحسنت حاله كثيرا عن ذي قبل، وأثبت الجيش التركي بالفعل في حرب القرم وقبلها في حروب البلقان كفاية أعظم بكثير من ذي قبل، أعظم مما أظهر في حرب سنة 1828 و1829 مع الروس.
كذلك نجحت الدولة إلى حد كبير في إصلاح البحرية والارتفاع بمستواها، وإن كانت لم تستفد منها استفادة حقيقية في حرب القرم، فلقد انهارت البحرية العثمانية عند أول صدمة، والواقع أن الدولة العثمانية لم تستفد من قوتها البحرية كثيرا إبان القرن التاسع عشر، فلقد دمرت في نوارين، ودمرت في سينوب، ولم تقم بدور كبير يذكر في حرب سنة 1877. •••
لقد عمل إصلاح جلخانة على تدخل أوروبا في صالح الدولة العثمانية ضد محمد علي، وكانت نتيجة سياسة الرجعيين قيام الثورة في البوسنة وفي لبنان.
ففي لبنان قام الصراع حادا شديدا بين المارونيين والدروز، فلقد أراد المارونيون - تؤيدهم البابوية وفرنسا - القضاء على ما للدروز من حقوق إقطاعية على رعاياهم من المارونيين، واغتبط الأتراك لذلك الصراع بين رعاياهم ليكفوا شر الاثنين، وبينوا للدروز أنهم لن يؤيدوا المارونيين ضدهم. لقد كانت الدول الأربع في تدخلها في سنة 1840 قد وعدت سكان لبنان بحكم خير من الحكم المصري؛ ولذا رأت الدول الكاثوليكية بالذات التدخل لحماية المارونيين من الدروز، فسبب الثورة اللبنانية في نظر بعضهم هو عدم قيام الدولة العثمانية بالتزاماتها وتنفيذ سياسة الإصلاح.
لقد تدخل السفير الإنجليزي ستراتفورد كاننج وممثلو الدول الأربع لوقف اعتداءات الدروز على المسيحيين، واقترح ستراتفورد تقسيم الجبل إلى قسمين؛ منطقة مارونية إلى الشمال، ومنطقة درزية في الجنوب، وقبل الأتراك ذلك بعد تردد، وبالرغم من ذلك، سار الباب العالي على سياسة استغلال النزاع بين الطائفتين، وتدخلت الدول الأوروبية في ذلك النزاع؛ فرنسا والنمسا يعطفان على المارونيين ويتصلان بهم، كما حاول الروس الاتصال بالأرثوذكس والدروز، وعملت إنجلترا كما تقول على حفظ التوازن بين عناصر الجبل، وأخيرا اضطر الأتراك إلى السماح للجبل ببعض الحكم الذاتي، وغادروا فكرة الحكم المباشر واطمأنت الحالة في لبنان بعض الشيء إلى أن انفجرت الثورة مرة أخرى في سنة 1858.
وأما في البوسنة فلقد قامت الثورة فيها في سنة 1853 مباشرة قبل حرب القرم، لقد كان خط جلخانة منقذا لتركيا من محمد علي، ولكنه كان السبب المباشر لقيام الاضطراب في البوسنة؛ فلقد كانت أكثر الولايات العثمانية محافظة، ومعنى تنفيذ الإصلاح قيام الثورة. كانت الأمور في هذه الولاية في يد أرستقراطية إسلامية تمتعت بشيء من الاستقلال عن الآستانة، بحيث كانت سلطة الباب العالي محدودة إلى حد أنه لم تسمح هذه الأرستقراطية للباشا والي السلطان بالإقامة بسراييفو، وكان لهذه الأرستقراطية من النبلاء الرجعية اهتمام كبير بالمحافظة على أتباعها وقصورها وحصونها، وأما البقية من السكان فبعضها مسيحي كاثوليكي، والبعض أرثوذكسي، وكان هؤلاء المسيحيون يكرهون بني جنسيتهم من المسلمين أكثر من كرههم للأتراك.
لقد حاول السلطان محمود إدخال شيء من النظام في هذه البلاد، فوجد معارضة شديدة من الأرستقراطية الصربية الإسلامية. فقامت ثورة على رأسها حسين أغا تطالب بحرب مقدسة ضد السلطان «الكافر» في نظرها، وامتدت الثورة إلى بلغاريا وألبانيا، ولكن حسينا هذا فشل أخيرا في ثورته وهرب إلى النمسا.
وتكرر قيام الثورة حين حاول رشيد باشا استئناف سياسة الإصلاح، وامتدت الثورة إلى جبل الأسود، فأرسل الباب العالي عمر باشا للقضاء على ثورة البوسنة والجبل الأسود، وتمكن عمر باشا وهو من قواد الدولة الممتازين من قمع الثورة في البوسنة، وهدم كثيرا من حصون الأرستقراطية، وبذا انتهى عهد بكوات البوسنة الإقطاعيين ومن هناك تقدم إلى الجبل الأسود، حينئذ تقدمت النمسا بإنذار للباب العالي بأنها لن تسمح بالقضاء على الجبل الأسود، وتطالب بسحب عمر باشا، وأمام الإنذار النمساوي الذي كانت تؤيده روسيا، اضطر الباب العالي إلى سحب عمر باشا من الجبل الأسود والبوسنة، فكان هذا إذلالا لتركيا شجع روسيا فيما بعد على أن تتقدم هي الأخرى بإنذار للباب العالي مما سيكون سببا في إثارة حرب القرم.
لقد أخذت الدولة النمساوية تلقي نظرة طمع إلى البوسنة والهرسك في حالة ازدياد النفوذ الروسي في شرق البلقان؛ ولذا رأت في سياسة عمر باشا الإصلاحية القوية ضياع الفرص أمام التدخل النمساوي، وكانت الحكومة النمسوية تعمل على انتهاز الفرصة للانتقام من الدولة العثمانية؛ لإيوائها اللاجئين المجريين؛ ولذا سارعت إلى الاحتجاج على سياسة عمر باشا، وحين هاجم عمر باشا الجبل الأسود، تقدمت الحكومة النمساوية بإنذارها تطلب عزله تؤيدها الحكومة الروسية كما ذكرنا. •••
صفحه نامشخص