وسيكون التدخل الأوروبي الأجنبي من عوامل فشل حركة الإصلاح في الدولة العثمانية إلى جانب الرجعية - وهناك عوامل أخرى، منها الامتيازات الأجنبية والقضاء القنصلي في الأمور المدنية والجنائية - حقيقة بدئ في إنشاء محاكم مختلطة في الآستانة منذ سنة 1847، وكان أعضاؤها من الأجانب الذين اشتهروا بالفساد والتحيز، ثم أنشئت محاكم مختلطة أخرى في زمير وبيروت ودمشق وحلب، ولم تشتهر هذه المحاكم أبدا بالعدالة أو النزاهة، وازداد تدخل القناصل في أمور الدولة.
حقيقة قامت محاولات للإصلاح وتكونت لجنة لإصلاح التعليم في سنة 1845، وقررت مرتبات للمدرسين، وأخذت الدولة في إنشاء بضع مدارس ثانوية، وأنشئت مدارس فنية لتخريج الموظفين من مدنيين وعسكريين، وأخذ في إنشاء جامعة في سنة 1846، فلما قامت ثورات سنة 1848 الجامحة في أوروبا، واشترك فيها طلبة الجامعات، أوقف إنشاؤها، وفي سنة 1850 ألغت الدولة نظام الرق، وأعادت تنظيم نظام الضرائب، واقتبست من القانون النابليوني قانونها الجنائي، كما وضع قانون تجاري.
ولقد حاول ستراتفورد كاننج السفير الإنجليزي إقناع السلطان بمعاملة المسيحيين على قدم المساواة مع المسلمين، أمام القانون وفي الشهادة، ولكن محاولات ستراتفورد لم تنجح، فلم يمتزج المسيحيون والمسلمون ليكونوا شعبا واحدا، وما كان ذلك أمرا ممكنا؛ فلقد رفض ساسة الدولة تجنيد المسيحيين، ولم يكن المسيحيون من ناحيتهم ليقبلوا ذلك النظام بعد أن كانوا معفين منه، وقامت محاولة لإدخال شيء من حسن الإدارة في الولايات، وأصبح من الممكن نظريا محاكمة الباشاوات إذا أساءوا التصرف، وتحسن نظام القضاء في الولايات نسبيا. لقد وضع رشيد نظاما من شأنه إنشاء مجلس بجانب كل وال يمثل الهيئات المختلفة من مسلمين ومسيحيين للاستشارة في الأمور المحلية، وكان للعناصر التركية بطبيعة الحال أكبر تمثيل فيه، فعملت على حماية مصالحها دون سواها.
وبالرغم من تدخل الدول، وتدخل القناصل فلقد تحسنت نسبيا أحوال الرعايا المسيحيين في الدولة، وازدادت ثروتهم لاشتغالهم بالأمور الإنتاجية في الزراعة والصناعة والتجارة. •••
لقد خارت قوى الإصلاح بصفة عامة بعد رشيد أمام تدخل الدول، وتدخل القناصل، والمحاكم المختلطة، والقضاء القنصلي، وتغلب العناصر الرجعية، ولم يستطع الشعب التركي أن يتابع سياسة الإصلاح التي نادى بها رشيد، فلم يكن له من وسيلة للتعبير عن آرائه؛ إذ لم يكن هناك تعليم بالمعنى الصحيح، ولم تكن هناك صحافة، فلم يتكون إذن رأي عام تركي يؤيد سياسة الإصلاح.
وأما الحالة المالية، فازدادت سوءا على سوء، ولم تجد الدولة من يقرضها بشروط معقولة، وأخذت الدولة في التدهور والانحدار، ولم تفد كثيرا سياسة الإصلاح إلا في نواح محدودة، ولم تعد تركيا لسياسة الإصلاح مرة أخرى إلا في سنة 1853، حين اشتد الخطر الخارجي، فأزمة مصر أدت إلى خط جلخانة، وأزمة سنة 1854 إلى الخط الهمايوني، وسيكون وراء حركة الإصلاح في كل من الأزمتين السفير الإنجليزي في الآستانة ستراتفورد دي ردكلف. •••
وأما علاقات الدولة العثمانية بروسيا، فبحكم اعتناق الروسيا للمذهب الأرثوذكسي المسيحي الشرقي كانت ترى نفسها وريثة للدولة البيزنطية، ويحلم قياصرتها بذلك اليوم الذي يستطيعون فيه دخول القسطنطينية، وكانت مصالحها الجغرافية والمادية والاستراتيجية تقضي بضرورة تحديد علاقاتها بالدولة التي تسيطر على المضايق، البوسفور والدردنيل، إما عن طريق القضاء عليها، أو السيطرة عليها أو على الأقل ضمان حرية المرور في كل الأوقات لسفنها التجارية والحربية وإغلاق هذه الممرات أمام سفن أعداء الروسيا. كانت سياسة الروسيا بصفة عامة في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر العمل على انحلال الدولة العثمانية، وتشجيع شعوبها البلقانية على الاستقلال عنها، وانتزاع ما يمكن انتزاعه من ممتلكاتها. لم يكن من سياسة روسيا إعطاء الدولة العثمانية فرصة للاستقرار أو اتخاذ سياسة الإصلاح، فهدف روسيا في هذه الفترة هو الإسراع بالدولة العثمانية في طريق الانهيار والدمار. عملت روسيا بلا ريب على توسيع حدودها في البلقان وفي القوقاز، واستطاعت أن تنجح في القوقاز، ولكنها أصيبت بالفشل في البلقان، فلقد وقفت القوميات الناشئة في البلقان في طريقها عقبة كأداء. كان يعترضها في النفوذ إلى البلقان ولايتا الدانوب، الأفلاق والبغدان (ولاشيا وملدافيا)، وكانتا تخشيان النفوذ الروسي وتمقتانه.
لقد اهتم القيصر الروسي في مؤتمر فينا 1815 برفض الفكرة التي قدمت بضمان ممتلكات السلطان العثماني لتكون له حرية العمل بإزاء الدولة العثمانية وليستطيع اتباع سياسته العدوانية الاستفزازية. •••
ويهمنا هنا أن نعرض لعلاقة الدولة العثمانية بالدول الأخرى وبإنجلترا بصفة خاصة؛ لأن إنجلترا ستضع سياسة تقليدية بإزاء الدولة العثمانية تتبعها مدة طويلة، وعلى موقف إنجلترا سيتوقف إلى حد كبير نجاح تركيا في رد دسائس الدول الأخرى وفي البقاء إلى حين.
اهتمام إنجلترا بتركيا يرجع إلى القرن التاسع عشر، وقبل ذلك القرن كانت إنجلترا أكثر اهتماما بصداقة روسيا منها بصداقة الدولة العثمانية إلى أن جاءت وزارة بت، فوجد الوزير الإنجليزي أن في تقدم روسيا إلى الجنوب خطرا واضحا على مصالح إنجلترا السياسية والتجارية.
صفحه نامشخص