ثبوت موجودينِ لا عِلّةَ لهما، ولا أحدُهما علّةٌ للآخر، فقولكُم: إنَّ الذي لا علّةَ لهُ لذاتِهِ أو لسببٍ تقسيمٌ خطأٌ، لأنَّ نفيَ العِلّةِ واستغناءَ الوجودِ عَنِ العِلّةِ لا يُطلبُ لهُ علّةٌ، فأيُّ معنًى لقول القائلِ: إنَّ ما لا علّةَ لهُ لا علّةَ لهُ لذاتِهِ أو لعلّة، إذْ قولُنا: لا علّةَ لهُ سلبٌ محضٌ، والسَّلبُ المحضُ لا يكونُ لهُ سببٌ، ولا يقال فيهِ: إنَّهُ لذاتِهِ.
وإنْ عنيتُم بوجوبِ الوجودِ وَصفًا ثابتًا لوجوبِ الوجودِ سِوى أنَّهُ موجودٌ لا علّةَ لوجودِهِ فهوَ غيرُ مفهومٍ في نفسِه، والذي يشكلُ مِنْ لفظِهِ نفيُ العِلّةِ لوجودِه، وهوَ سلبٌ محضٌ لا يقال فيهِ: إنَّهُ لذاتِهِ أو لعلّةٍ حتَّى يُبنى على وضعِ هذا التَّقسيمِ غرَضٌ، فدل على أنَّ هذا برهانٌ مزخرفٌ لا أصلَ لهُ، بَل نقولُ: معنى أنَّهُ واجبُ الوجودِ أنَّهُ لا علَّةَ لوجودِه، ولا علّةَ لكونِهِ بلا عِلّةٍ، وليسَ كونُهُ بلا علّةٍ معلَّلًا أيضًا بذاتِه، بَل لا علّةَ لوجودِه، ولا لكونِهِ بلا علّةٍ أصلًا، فكيفَ وهذا التَّقسيمُ لا يتطرَّقُ إلى بعضِ صفاتِ الإثبات، فضلًا عمّا يرجعُ إلى السَّلبِ؛ إذْ لو قال قائلٌ: السَّوادُ لونٌ لذاتِهِ أو لعلَّةٍ، فإنْ كانَ لذاتِهِ فينبغي ألَّا تكونَ الحمرةُ لونًا ولا أنْ يكونَ هذا النَّوعُ، أعني اللَّونيَّةَ إلّا لذاتِ السَّواد، وإنْ كانَ السَّوادُ لونًا لعلَّةٍ جعلتهُ لونًا، فينبغي أنْ يعقلَ سوادٌ ليسَ بلونٍ إنْ لم تجعلْهُ لونًا، فإنَّ ما ثبتَ للذّاتِ زائدًا على الذاتِ بعِلّةٍ يمكنُ تقديرُ عدمِهِ في الوهم، وإنْ لم يتحقَّقْ في الوجود، ولكِنْ يُقالُ: هذا التَّقسيمُ خطأٌ في الوضع، فلا يُقالُ في السَّوادِ: إنَّ كونَهُ لونًا لذاتِهِ أو لا علّةَ لهُ لذاتِهِ قولًا يمنعُ أنْ يكونَ ذلكَ لغيرُ ذاتَهُ بحالٍ (١).
_________
(١) انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي ص ٦١.
1 / 81