مَسْألةٌ فِي تَوحِيدِ الفَلاسِفَةِ
تَألِيفُ
الإمَام أحْمَد بْن عَبْد الحَليم ابْن تَيْميَّة
المُتَوَفَّى سَنَة ٧٢٨ هـ
اعْتَنَى بِتَحْقِيقِه
مُبَارَك بْن رَاشِد الحَثْلَان
يُنْشَر لأوَّلِ مَرّةٍ عَن نُسْخَةٍ فَرِيدَةٍ
دار الفتح للدراسات والنشر
1 / 1
مَسْألةٌ فِي تَوحِيدِ الفَلاسِفَةِ
تَألِيفُ
الإمَام أحْمَد بْن عَبْد الحَليم ابْن تَيْميَّة
المُتَوَفَّى سَنَة ٧٢٨ هـ
اعْتَنَى بِتَحْقِيقِه
مُبَارَك بْن رَاشِد الحَثْلَان
يُنْشَر لأوَّلِ مَرّةٍ عَن نُسْخَةٍ فَرِيدَةٍ
دار الفتح للدراسات والنشر
1 / 2
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
مسألة في توحيد الفلاسفة
تأليف: الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
الطبعة الأولى: ١٤٣٩ هـ - ٢٠١٨ م
جميع الحقوق محفوظة باتفاق وعقد
قياس القطع: ١٧ × ٢٤
الرقم المعياري الدولي: ٧ - ٤٦٠ - ٢٣ - ٩٩٥٧ - ٩٧٨: ISBN
رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية: (٧٢٩/ ٢/ ٢٠١٨)
دار الفتح للدراسات والنشر
هاتف: ٦٤٦٤٦١٩٩ (٠٠٩٦٢)
فاكس: ٦٤٦٤٦١٨٨ (٠٠٩٦٢)
جوال: ٧٧٧٩٢٥٤٦٧ (٠٠٩٦٢)
ص. ب: ١٨٣٤٧٩ عمّان ١١١١٨ الأردن
البريد الإلكتروني: [email protected]
الموقع على الشبكة الإلكترونية: www.daralfath.com
- الدراسات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الناشر -
جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أيّ جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأيّ شكل من الأشكال دون إذن خطي سابق من المحقق.
All rights reserved. No part of this book may be reproduced، stored in a retrieval system or transmitted in any form or by any means without prior permission in writing from the editor
1 / 4
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل كتابه بالحق المبين، والصلاة والسلام على نبيه الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغُرِّ الميامين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا أثرٌ جديد لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - أفاضَ الله على قبره وابلًا من الرضوان وأحلَّه أعالِيَ غُرفِ الجِنان - في رده على أباطيل الفلاسفة، وهو مكثِر من الرد عليهم، ففي الصفدية رد قولهم: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية، وقولهم بقِدم العالم، وفي درء تعارض العقل والنقل ناقشهم في إثبات واجب الوجود وصفاته وأفعاله، وفي نقض المنطق تناول المعاد ونفيهم للمعاد الجسماني (١). وهذا الكتاب جولة من جولاته معهم خصصه لمناقشتهم وكشف زيغهم في التوحيد.
وقد ظلت هذه الرسالة في رفوف المخطوطات طويلًا حتى يسر الله
_________
(١) هذه نماذج لأبرز القضايا التي تناولتها هذه الكتب، وإلا ففي بعضها قد يناقش أكثر من قضية، وفي كتبه الأخرى مناقشات لهم؛ كـ"منهاج السنة النبوية"، و"الجواب الصحيح"، ورسالة "مسألة حدوث العالم"، وفي أجوبته المبثوثة في المجموع المعروف بـ "مجموع الفتاوى".
1 / 5
الوقوف عليها. وقد ذكرها تلميذه المحقق ابن القيم في نونيته عند سرده لبعض كتبه بقوله:
فاقرأْ تصانيفَ الإمامِ حقيقةً ... شيخِ الوجودِ العالمِ الربَّانِي
أعني أبا العبَّاسِ أحمدَ ذلك الـ ... ـبحرَ المحيطَ بسائرِ الخلجانِ
إلى أن قال:
وكذاك توحيدُ الفلاسفةِ الأُلى ... توحيدهم هو غاية الكفرانِ
سِفرٌ لَطيفٌ فيه نقضُ أصولهم ... بحقيقةِ المعقولِ والبرهانِ
ففي البيتين الأخيرين ذكر اسم الكتاب، وذكر وصفه بما ينطبق على كتابنا هذا اسمًا ووصفًا.
وقد تكدرت فرحة الوقوف عليه بما ظهر لي أثناء تقليب النظر فيه؛ حيث وجدت أن الناسخ قد صعب مهمة تحقيقه فترك الكثير من كلماته دون إعجام؛ مما زاد من إبهام الكثير من الكلمات، وجعل التعامل معها يحتاج إلى مزيد من التأمل للاهتداء إلى مراد المؤلف، كما أنه صحّف الكثير من الكلمات، ويظهر أنه نسخ الكتاب من نسخة سيئة الخط؛ فكان يرسم بعض الكلمات دون معرفة بمعناها. وقد يسر الله بفضله التعامل مع الكثير منها، وأرجو أن أكون قد وُفِّقتُ في قراءتها بشكل صحيح، فما كان منها ظاهرَ الخطأ قمتُ بتصويبه ونبهتُ على ذلك في الهامش، أما ما كان محتمِلًا فإني أبقيتُ عليه كما هو مع التنبيه عليه، ولا أبرئ نفسي من الخطأ.
1 / 6
وبعد الانتهاء من تحقيق الكتاب وتصحيحه قدر المستطاع طلبتُ من اللجنة العلمية بالدار مشكورة إتمام العمل بالترجمة للأعلام ووضع الفهارس المطلوبة ونحو ذلك من الأعمال الفنية.
وقبل الختام لا يفوتني تقديم الشكر الجزيل لأخي فضيلة الشيخ نزار حمادي؛ الذي قام مشكورًا بتزويدي بصورة من المخطوط.
* * *
1 / 7
وصف النسخة الخطية
مصدرها: المكتبة الوطنية بتونس.
رقمها: ٢٣٨٣٧ ضمن مجموع.
اسم الناسخ: لا يوجد.
تاريخ النسخ: لا يوجد، ولعل الناسخ من تلاميذ المؤلف ﵀ وأنه نسخها بُعيد وفاته؛ فقد وصفه بأنه شيخه ودعا له بأن ينور الله ضريحه؛ مما يرجح ما ذُكر، والله أعلم.
عدد الأوراق: ١٠٠ ورقة.
الوصف العام: كُتبت النسخة بخط مقروء - في الجملة - لا يخلو من ملاحظات سبق ذكرها، وعلى النسخة بعض التصحيحات والبلاغات، وكُتب على هامشها بخط مغربي عبارات تنبه على بعض المطالب؛ فقد يشير إلى عنوان المطلب أو يكتفي بقول: "قف واعرف" أو: "قف".
1 / 8
نماذج من المخطوطة المعتمدة في التحقيق
1 / 9
الصفحة الأولى
1 / 11
الصفحة الأخيرة
1 / 12
مَسْألةٌ فِي تَوحِيدِ الفَلاسِفَةِ
تَألِيفُ
الإمَام أحْمَد بْن عَبْد الحَليم ابْن تَيْميَّة
المُتَوَفَّى سَنَة ٧٢٨ هـ
يُنْشَر لأوَّلِ مَرّةٍ عَن نُسْخَةٍ فَرِيدَةٍ
اعْتَنَى بِتَحْقِيقِه
مُبَارَك بْن رَاشِد الحَثْلَان
دار الفتح للدراسات والنشر
1 / 13
مَسألةٌ في توحيدِ الفلاسفةِ
أجابَ عنها شيخُنا الإمامُ العلّامةُ شيخُ الإسلامِ أبو العبّاسِ أحمدُ بن تَيميةَ قدَّسَ اللهُ رُوحَهُ، ونوَّرَ ضريحَهُ، آمينَ يا ربَّ العالمينَ:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ما يقولُ السّادةُ العُلماءُ ﵃ أجمعينَ في توحيدِ الفلاسفةِ وبُرهانِهم عليهِ الذي تحريرُهُ أنْ يُقالَ: الأشياءُ التي تختلفُ بأعيانِها، وتتَّفقُ في أمرٍ مُقوِّمٍ لها، فلا تخلو إمَّا أنْ يكونَ ما تتَّفقُ فيهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما تختلفُ به، أو بالعكسِ هوَ أنْ يكونَ ما تختلفُ بهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما تتَّفقُ فيه، أو يكونَ ما تتَّفقُ فيهِ عارضًا مفارِقًا لِما تختلفُ به، أو بالعكسِ هوَ أنْ يكونَ ما تختلفُ بهِ عارضًا مفارِقًا لِما تتَّفقُ فيهِ.
فأمّا الأوَّلُ فهوَ جائزٌ، كما أنَّ الأنواعَ مختلفةٌ بالحقيقةِ والجِنْسُ لازمٌ لها.
وأمّا الثّاني فهوَ غيرُ جائزٍ؛ لأنَّ الطَّبيعةَ الواحدةَ لا تَقتضي أُمورًا مختلفةً، ألا تَرى أنَّ الجِنسَ لا يَقتضي لِذاتِهِ أُمورًا مختلفةً، لأنَّهُ لوِ اقتَضى أُمورًا مختلفةً، لكانَتْ حاصلةً أينما حصلَ، وليسَ الأمرُ كذلكَ.
وأمّا الثّالثُ فهوَ جائزٌ؛ لأنَّ المختلفاتِ بالحقائقِ قد تتَّفِقُ في أُمورٍ
1 / 15
عارضةٍ كاتِّفاقِ الإنسانِ والحيواناتِ في الغذاءِ والحرَكة، وما أشبهَ ذلكَ.
وأمّا الرَّابعُ فهوَ جائزٌ أيضًا، كما أنَّ أفرادَ النَّوعِ متَّفِقةٌ بالحقيقة، وتعرِضُ لها الأفعالُ المختلفةُ لكونِ أحدِها فَقيهًا والآخرِ كاتبًا.
المقدِّمةُ الثّانيةُ: فيما يُحتاجُ إليهِ مِنْ وحدانيّةِ الله تعالى هوَ أنْ يُقالَ: يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ سببًا لِصفةٍ، كما أنَّ الماهيّاتِ سببًا لقابليّةِ الوجودِ الثّاني يجوزُ أنْ تكونَ صفة الماهيّةِ سببًا لِصفةٍ أُخرى، كما أنَّ الفَصلَ علةٌ للخاصّةِ.
الثّالثُ: لا يجوزُ أنْ تكونَ الماهيّةُ ولا صِفةٌ مِنْ صِفاتِها سببًا للوجودِ؛ لأنَّ العِلّةَ متقدِّمةٌ بالوجودِ على المعلول، فلوْ كانَ أحدُهُما أو كِلاهُما عِلّةً للوجود، لزِمَ أحدُ المُحالين، وهوَ أنْ يكونَ الشَّيءُ متقدِّمًا بالوجودِ على نفسِهِ أو موجودًا مرَّتين، وهوَ ظاهرُ البُطلانِ.
فنقولُ: لو كانا واجِبي (١) وجودٍ، فلا يَخلو إمّا أنْ يمتازَ أحدُهُما عَنِ الآخر، أو لا، فإنْ لم يَمْتَزْ أحدُهُما عَنِ الآخر، فلا واجبي وجودٍ، وإنِ امتازَ أحدُهُما عَنِ الآخرِ عادَتِ الأربعةُ الأقسام، فإمّا أنْ يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا لازمًا مِنْ لوازمِ ما يُختلفُ به، أو بالعكس، أو يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا مفارِقًا لِما يُختلفُ به، أو بالعكسِ.
فأمّا الأوَّلُ مِنَ الأربعة، إنْ كانَ جائزًا لكنَّهُ لا يجوزُ هنا؛ لأنَّ اختلافَهما إمّا أنْ يكونَ في الوجودِ والوجوبِ معًا وإنِ اختلَفا في أحدِهِما،
_________
(١) في المخطوط (واجبا) والمثبت هو الصحيح.
1 / 16
فيكونُ أحدُهُما موجودًا واجبًا، والآخرُ مَوجودًا فقَط، أو واجبًا فقَط، وهوَ المطلوبُ، فلا واجبَي وجودٍ.
وإنْ كانَ الاختلافُ في الماهيّاتِ والاتِّفاقُ في الوجودِ والوُجوب، فلا يجوزُ لِما تقدَّمَ مِنْ أنَّ الماهيّةَ لا يجوزُ أنْ تكونَ، ولا صِفةٌ مِنْ صِفاتِها سببًا للوجودِ للمُحالينِ المذكورَينِ.
الثَّاني: أنْ يكونَ ما يُختلفُ بهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما يُتَّفقُ فيه، فقَدْ مَرَّ إبطالُهُ؛ لأنَّ الطَّبيعةَ الواحدةَ لا يَلزمُها أُمورٌ مختلفةٌ.
الثّالث: إمّا أنْ يكونَ ما يُتَّفقُ فيهِ عارضًا مِنْ عوارضِ ما يُختلَفُ بالوجودِ والوجوب ويعرض لهما أمرٌ آخرُ، ويختلفا بأمرٍ آخرَ، ويعرضَ لهما الوجودُ والوجوبُ، فإنِ اختلَفا بالوجودِ والوجوب، فلا واجبَي وجودٍ، والمفروضُ خلافُهُ، وإنِ اتَّفَقا في الوجودِ والوجوب، وعرضَ لهما أمرٌ آخرُ فعلتُهُ، إمّا أنْ تكونَ الوجودَ والوجوبَ أو أمرًا خارجًا عنهُما لا يجوزُ أنْ يكونَ للوجودِ عِلَّة الأمر العارض؛ لأنَّ الواحدَ لا يعرضُ عنهُ أُمورٌ مختلفةٌ، وإنَّما جازَ في أفرادِ الأنواعِ لِتَركُّبِها، ولا يجوزُ أنْ تكونَ عِلَّتُهُ الأمرَ العارضَ غيرَ الوجودِ والوجوب، لأنَّهُ يلزمُ أنْ يكونَ واجب مفتقرًا إلى غيرِه، وهوَ مُحالٌ؛ لأنَّ وجوبَ الوجودِ غيرُ مفتقِرٍ إلى غيرِهِ.
الرّابع: وهوَ أنْ يكونَ ما يختلفُ بهِ عارضًا مفارِقًا لِما يتَّفقُ فيه، فهوَ وإنْ كانَ جائزًا لكِنْ لا يجوزُ هُنا، لأنَّ العارضَ إمّا أنْ يكونَ الوجودَ والوجوبَ أو غيرَهما، فإنْ كانَ الوجود والوجوب عارضًا مفارِقًا فهوَ مُحالٌ؛ لأنَّ وجوبَ الوجودِ مغايِرٌ لهذا المعنى.
1 / 17
وإنِ اتَّفَقا في الوجودِ والوجوب، وعرَضَ لهما أمرٌ آخرُ فعلتهُ إمّا أنْ تكونَ داخلَهُ أو خارجَهُ أو لا داخلَهُ ولا خارجَهُ، فإنْ كانَتْ داخلَهُ فيكونُ لازمًا لوجودِ عِلَّتِه، والفرضُ أنَّهُ مفارِقٌ، وإنْ كانَ خارجًا، فيكونُ واجبُ الوجودِ مفتقِرًا إلى الغير، وهوَ مُحالٌ؛ وإنْ لم يكُنْ لا داخلَهُ ولا خارجَهُ، فلا ثبوتَ لِعلَّتِه، فلا يثبتُ، فعلى تقديرِ أنْ يكونَا واجبي (١) الوجود، يلزمُ المحالاتُ المذكورةُ، والمحالاتُ غيرُ لازمةٍ، فيَنتفي الملزومُ، وهوَ أنْ يكونا واجبي (٢) وجودٍ، فلا واجبَي وجودٍ؟
أجابَ: الحمدُ لله رَبِّ العالَمينَ، بَل توحيدُ الفلاسفةِ هوَ في الحقيقةِ تعطيلُ الواجبِ الوجودِ؛ فإنَّهم أثبَتوا واجبَ الوجود، ونَفَوْا لوازمَهُ، ونَفيُ اللَّوازمِ يَقتضي نَفْيَ الملزوم، والحجَجُ التي يَذكرونَها على توحيدِهم سُوفسطائيّةٌ لا بُرهانيّةٌ، ومَقصودُهم بما يَزعمونَهُ مِنْ نفيِ التَّركيبِ والتَّعدُّدِ فيما يدخُلُ في مُسمَّى واجبِ الوجود، إنَّما هوَ تعطيلُ الصِّفاتِ والمعاني المستلزِمةِ لِتَعطيلِ ذاتِ واجبِ الوُجود، وإنْ كانوا هُم لا يَعلمونَ ما في كلامِهم مِنَ التَّناقُضِ والبُطلانِ.
ونحنُ نتكلَّمُ على هذهِ الحُجّةِ المذكورةِ في السُّؤال، ولا حَوْلَ ولا قُوّةَ إلّا بالله.
فنقولُ: قَولُهم: لو كانَ لنا واجبا وجودٍ، فلا يَخلو إمّا أنْ يمتازَ أحدُهُما عَنِ الآخر، وإمّا ألَّا يمتازَ، وإذا امتازَ فإمّا أنْ يكونَ ما يتَّفقُ فيهِ لازمًا مِنْ لوازمِ ما يختلفُ فيه، أو بالعكسِ أو عارضًا أو بالعكسِ.
_________
(١) في المخطوط (فعل تقدير أن يكون واجبًا) ولعل المثبت هو الصحيح.
(٢) في المخطوط (واجبا) ولعل المثبت هو الصحيح.
1 / 18
فيُقالُ: الجوابُ عَنْ هذهِ الحُجَّةِ مِنْ وجوهٍ كثيرةٍ، لكِنَّ المُستدِل بها قدَّمَ لنفسِهِ مقدِّمتينِ قبلَ الاحتجاجِ بها، ونحنُ نتكلَّمُ على مُقدِّمتيهِ أوَّلًا، ليكونَ الجوابُ مطابقًا للحُجّةِ؛ قيامًا بالقِسط، واتِّباعًا للحَقّ، فنَتكلَّمُ على المقدِّمةِ الأُولى أوَّلًا لنكونَ قدِ ابتدَأْنا الكلامَ على ما وضعَهُ في أوَّلِ الحُجَّة، مَع أنَّ عليهِ مؤاخذاتٍ تتعلَّقُ بصورةِ الحُجّةِ لا بمادتها؛ فلِهذا نؤخِّرُ الكلامَ عليها.
فنقولُ: قولُهُ: الأشياءُ التي تختلفُ بأعيانِها وتتَّفقُ في أمرٍ مقوِّمٍ لها، إمّا أنْ يكونَ ما بهِ الاتِّفاقُ لازمًا لِما بهِ الاختلافُ، أو بالعكس، أَو عارضًا لهُ أو بالعكس، فإنَّهُ يُقالُ: الأشياءُ الموجودةُ سواءٌ كانَتْ متماثلةً أو مختلفةً، وبينَها قَدرٌ مشترَكٌ كأعيانِ النَّوع، وأنواعِ الجِنس، ونحوِ ذلكَ، كإنسانَين، والإنسانِ والفَرس، والحبَّتين، والدِّرهمَين، ونحوِ ذلكَ ممّا يُقالُ: إنَّ بينَهما أمرًا اتَّفَقا فيه، وأمرًا اختلَفا فيه، كما إذا قيلَ: الإنسانانِ يتَّفقانِ في الإنسانيّة، ويمتازُ أحدُهُما عَنِ الآخرِ بِتَعَيُّنِهِ وبتَشَخُّصِه، أو قيلَ: إنَّ واجبَي الوجودِ يشتركانِ في وجودِ الوجود، ويمتازُ أحدُهما عَنِ الآخرِ بِتَعَيُّنِه، وأمثالُ هذهِ الأُمور، فإنَّهُ يُقالُ: ليسَ المرادُ باتِّفاقِهما في القَدرِ المشترَكِ كالإنسانيّةِ مَثلًا أنَّهُ في الخارجِ شيءٌ موجودٌ بعَينِه، هُما مشتركانِ فيه، فإنَّ هذا لا يقولُهُ عاقلٌ.
وهُم يَعلمونَ أنَّ هذا باطلٌ، وأنَّ الكُلِّيّاتِ الخمسةَ: الجِنسَ والنَّوعَ والفَصْلَ والخاصَّةَ والعَرَضَ العامَّ، لا يوجدُ في الخارجِ كُلِّيّةً مطلقةً بشرطِ الإطلاق، فليسَ في الخارجِ حيوانٌ مشترَكٌ كُلِّيٌّ مطلَقٌ بشرطِ
1 / 19
الإطلاق، ولا مشترَكٌ كُلِّيٌّ مطلَقٌ بشرطِ الإطلاق، ولكِنَّ الذِّهنَ يأخذُ مِنَ الأُمورِ المتشابهةِ قَدْرًا مشترَكًا، كما هوَ الكُلِّيُّ، وهوَ في الذِّهنِ يكونُ كُلِّيًّا بمعنى أنَّهُ صادقٌ على الجُزئيّاتِ المعيَّنةِ مطابقٌ لها مطابقةَ المعنى العامِّ لأَفرادِه، ولكِنْ في نفسِهِ جُزئِيٌّ؛ أي: هوَ في الذِّهنِ صِفةٌ لهُ وحالٌ فيه، والحالُ في المعيَّنِ الجُزئيِّ أَوْلى أنْ يكونَ معيَّنًا جُزئيًّا، لكنَّهُ كُلِّيٌّ باعتبارِ مطابَقةِ الأُمورِ الجُزئيّةِ المتشابهة، فإذا قِيلَ: إنسانٌ فلَهُ وجودٌ في الأعيان، ووجودٌ في الأذهان، ووجودٌ في اللِّسان، ووجودٌ في البَنَان، ووجودٌ عَينيٌّ وعِلميٌّ ولَفظيٌّ ورَسميٌّ، ففِي الذِّهنِ معنًى مطلَقٌ عامٌّ يتناولُ الأفرادَ، إمّا بطريقِ عُمومِ الجمع، وإمّا بطريقِ عُمومِ البدَل، وذلكَ المعنى لهُ لفظٌ يُعبِّرُ عنهُ، وهوَ لفظُ إنسانٍ، والخطّ، ولذلكَ اللَّفظِ خطٌّ يدلُّ عليه، وهوَ كتابةُ الإنسانِ والخطُّ، واللَّفظُ والمعنى.
إذا قيلَ: هيَ كُلُّهُ وعامُّهُ ومطلقُهُ ونحوُ ذلكَ، فبِاعتبارِ تناوُلِها للأفرادِ الموجودة، وشمولِها لها، ودَلالتِها عليها، وإلّا فهيَ أنفسُها خطٌّ معيَّنٌ جُزئيٌّ، ولفظٌ معيَّنٌ جُزئيٌّ، وبهذا البيانِ تزولُ الإشكالاتُ التي يُورِدُها أبو عبد الله الرّازي (١) ونحوُهُ في هذا المكانِ على أهلِ المنطِقِ.
والأفرادُ الموجودةُ في الخارجِ كالإنسانينِ بينَهما تشابهٌ وتماثلٌ في بعضِ الوجوه، فهُما متشابهانِ في الإنسانيّةِ؛ أي: الإنسانيّةُ التي في هذا
_________
(١) هو: محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد الله، فخر الدين الرازيّ، إمام المتكلمين في عصره ومن أعيان أئمة أهل السنة، توفي سنة (٦٠٦ هـ). من مصنفاته (مفاتيح الغيب)، و(معالم أصول الدين) و(المسائل الخمسون في أصول الكلام). انظر: الأعلام للزركلي (٦/ ٣١٣).
1 / 20
تشابِهُ الإئسانيّةَ التي في هذا، فهذا معنى قولِنا: اتَّفَقا في الإنسانيّة، وهُما متَّفقانِ في الإنسانيّة، أو مشتركانِ في الإنسانيّة، فإنَّ التَّشابهَ والتَّماثلَ والاتِّفاقَ والاشتراكَ في هذا الموضعِ يُرادُ بها شيءٌ واحدٌ، فهذا الإنسانُ يوافِقُ هذا ويشابهُهُ ويُماثلُهُ (١)، ويشاركُهُ في أنَّهُ إنسانٌ، فهذهِ الإنسانيّةِ مثلُ هذه، ليسَ المرادُ أنَّ إنسانيّةَ زيدٍ الموجودةَ في الخارجِ هيَ بعينِها إنسانيّةُ عمرٍو الموجودةُ في الخارج، فإنَّ هذا مكابَرةٌ للحِسِّ لا يقولُهُ عاقلٌ؛ فإنَّ إنسانيّةَ كُلِّ إنسانٍ صفةٌ لهُ قائمةٌ به، وصِفةُ الموصوفِ لا تقومُ بغَيرِه، فكما أنَّ هذا الإنسانَ ليسَ هوَ هذا الإنسانَ، بَلْ هوَ نظيرُهُ، فكذلكَ هذهِ الإنسانيّةُ ليسَتْ هذهِ الإنسانيّةَ في العَينِ والشَّخص، بَلْ هيَ نظيرُها.
وكذلكَ إذا قيلَ: الإنسانُ والفرَسُ يَشتركانِ في الحيوانيّة، فالمرادُ بهِ أنَّ في هذا حيوانيّةً تناظِرُ الحيوانيّةَ التي في هذا، فهُما جِنسٌ واحدٌ يَجمعُهما الحِسُّ والحرَكةُ الإراديّةُ، ليسَتْ حيوانيّةُ الإنسانِ هيَ بعَينِها حيوانيّةَ الفرَس، ولا إحساسُهُ إحساسَ الفَرس، ولا حركتُهُ الإراديَّةُ حرَكةَ الفرَس، بَلْ ولا حيوانيّةُ فردٍ مِنْ أفرادِ الإنسانِ والفرَسِ هيَ بعينِها حيوانيّةَ الآخر، ولا إحساسُ هذا الإنسانِ هوَ إحساسَ هذا، ولا حرَكتُهُ هيَ بعينِها حركتَهُ، كما أنَّهُ هوَ في نفسِهِ ليسَ هوَ ذلكَ بعينِه، ولكنَّ الواحدَ يُقالُ على الواحدِ بالنَّوعِ والواحد بالعَين، فإذا قيلَ: الحيوانيّةُ واحدةٌ، والإنسانيّةُ واحدةٌ، وهذهِ الحيوانيّةُ هيَ هذه، وهذهِ الإنسانيّةُ هيَ هذهِ؛ كانَ المرادُ بذلكَ الواحدِ بالنَّوعِ والوحدةِ النَّوعيّةِ ليسَ المرادُ الواحدَ بالعينِ ولا الوحدة العَينيّةِ.
_________
(١) في المخطوط تكررت كلمة (ويماثله).
1 / 21
وهذا الموضِعُ اشتبهَ على طوائفَ مِنَ الأُمَمِ؛ فلم يُميِّزوا بينَ هذا وهذا في مواضعَ، مَع ظهورِ التَّمييزِ بينَهما، وصارُوا يتكلَّمونَ بلفظِ الواحد، ويَظنُّونَ أنَّهُ واحدٌ بالعين، وإنَّما هوَ واحدٌ بالنَّوع، ولهذا قيلَ: أكثرُ اختلافِ العُقلاءِ مِنْ جهةِ اشتراكِ الأسماء، حتَّى آلَ الأمرُ بطوائفَ يَدَّعُونَ التَّحقيقَ والتَّوحيدَ والفُرقانَ، وأنَّهم بيَّنوا العِلمَ الذي رمزَ إليهِ هُرامسُ الدُّهورِ الأوليّة، ورامَتْ إفادتُهُ الهدايةَ النَّبويّةَ؛ إلى أنْ جَعلوا الوجودَ واحدًا بهذا الاعتبارِ؛ بناءً على أنَّ الموجوداتِ تشتركُ في مُسمَّى الوجودِ.
ولا ريبَ أنَّ الموجوداتِ مشترِكةٌ في مسمَّى الوجود، وأنَّ الوجودَ واحدٌ بهذا الاعتبار، ولكِنْ فرقٌ بينَ الواحدِ بالعَينِ والشَّخص، وبينَ الواحدِ بالنَّوعِ أو الجِنْسِ أو العرضِ العامّ، ونحوِ ذلكَ مِنِ اصطلاحِ المنطقيِّينَ التي يجمعُها كُلَّها اسمُ الجِنسِ في اصطلاحِ النُّحاة، فإنَّ هذهِ الكُلِّيَّاتِ الخمسةَ هيَ أسماءُ جنسٍ في اصطلاحِ النُّحاةِ؛ إذِ اسمُ (١) الجِنسِ عندَهم اسم لِما عُلِّقَ على الشَّيء، وعلى ما أشبهَهُ، بمنزلةِ ما يقولُ المنطقيُّونَ الكُلِّيّ، فاللَّفظُ يُسمِّيهِ هؤلاءِ كُلِّيًّا، أو يُسَمُّونَ معناهُ كُلِّيًّا يسمِّيهِ هؤلاء اسمَ جنسٍ.
فإذا قيلَ: الموجوداتُ مشترِكةٌ في مسمَّى الوجود، فهيَ بمنزلةِ أنْ يقالَ: الجواهرُ مشترِكةٌ في مسمَّى الجَوهر، والأجسامُ مشترِكةٌ في مسمَّى الجِسم، والحيواناتُ مشترِكةٌ في مسمَّى الحيوان، والأناسيُّ مشترِكةٌ في مسمَّى الإنسان، بَلْ والعربُ مشترِكةٌ في مسمَّى العربيّ، وأمثالُ ذلكَ ممّا لا يُحصى أمثلتُهُ.
_________
(١) رسمت في المخطوط (اسمي) ولعل المثبت هو الصحيح.
1 / 22