وقد خالفَ ابنُ سِينا في هذا غيرَهُ مِنَ الفلاسفةِ الذينَ ذَهبوا إلى أنَّهُ لا يعلمُ إلّا نفسَهُ احترازًا مِنْ لزومِ الكثرة، فكيفَ شاركَهم في نفيِ الكثرة، ثمَّ يأتيهم في إثباتِ العِلمِ بالغير، ولَمّا استحيا أنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ لا يعلمُ شيئًا في الدُّنيا والآخرة، وإنَّما يعلمُ نفسَهُ، وأمّا غيرُهُ فيعرفُهُ ويعرفُ غيرَهُ، فيكونُ غيرُهُ أشرفَ منهُ في العِلم، فتركَ هذا حياءً مِنْ هذا المذهب، واستِنكافًا منهُ، ثمَّ لم يستحيِ مِنَ الإصرارِ على نفيِ الكثرةِ مِنْ كلِّ وجهٍ، وزعمَ أنَّ عِلمَهُ بنفسِهِ وبغيرِهِ بَلْ وبجميعِ الأشياءِ هوَ ذاتُهُ مِنْ غيرِ مزيدٍ، وهوَ عينُ التَّناقُضِ الذي استحى منهُ سائرُ الفلاسفةِ؛ لظهورِ التَّناقضِ فيهِ مِنْ أوَّلِ النَّظرِ.
فإذًا ليسَ ينفَكُّ فريقٌ منهم عَنْ خزيٍ في مذهبٍ، وهكذا يفعلُ اللهُ بمَنْ ضَلَّ عَنْ سبيلِهِ وظَنَّ أنَّ الأُمورَ الإلهيّةَ يَستولي على كُنهِها بنَظرِهِ وتخييلِهِ.
فإنْ قيلَ: إذا أُثبِتَ أنَّهُ يعرفُ نفسَهُ مبدأ على سبيلِ الإضافةِ فالعِلمُ بِالصِّفاتِ واحدٌ؛ إذْ مَنْ عرفَ الأينَ عرفَهُ بمعرفةٍ واحدةٍ، وفيهِ العِلمُ بالآنِ والأبوّةِ ضِمنًا، فتكثرُ العلومُ ويتَّحدُ العِلمُ، فكذلكَ هوَ يعلمُ ذاته مبدأ لتغيُّرِهِ فيتَّحِدُ العِلمُ، وإنْ تعدَّدَ المعلومُ، ثمَّ إذا عقلَ هذا في معلولٍ واحدٍ وإضافتِهِ إليهِ ولم يوجِبْ ذلكَ كثرةً، فالزِّيادةُ فيما لا يوجِبُ جنسه كثرة لا يُوجِبُ كثرةً، وكذلكَ مَنْ يعلمُ الشَّيءَ ويعلمُ (١) علمه بالشَّيءِ.
قُلت: ظهرَ بالكلامِ الذي حكيناهُ عَنْ أبي حامدٍ أنَّهُ يقولُ: إنَّ واجبَ الوجودِ الذي قامَ الدَّليلُ على إثباتِهِ هوَ ما ليسَ لهُ علّةٌ فاعلةٌ، وأمّا العِلّةُ القابليّةُ فهوَ لا يجعلُها منافيةً لوجوبِ الوجودِ حتَّى يثبتَ وجوبَ الوجودِ للصِّفاتِ
_________
(١) في المخطوط تكررت كلمى (ويعلم).
1 / 76