وفي هذه السنة شيد الرهبان الشويريون كنيسة دير النبي إلياس الطوق؛ لأنهم كانوا قبل ذلك قد بنوا الأقبية والممشى الشمالي فقط، وكانوا يقيمون الصلاة بغرفة صغيرة.
وسنة 1774 كان الأمير أحمد قد قويت شوكته في البقاع، وحصن قلعة قب إلياس بالمدافع كما مر، فعصى على أخيه الأمير يوسف وسولت له نفسه محاربته، فانحاز إلى الذين أبعدهم أخوه من اليزبكية مثل الشيخ عبد السلام العماد والشيخ حسين تلحوق وغيرهما، وكان عنده في القلعة الأمير فارس يونس، فاستمال إليه الأمير منصورا صاحب راشية، وانضم إليه كثير من مناوئي أخيه، فثقل على قرى الشيخ علي جنبلاط في البقاع، فحنق عليه أخوه الأمير يوسف وزحف بعساكره لقتاله، وحاصر قلعة قب إلياس نحو شهر فلم يظفر منها بطائل، فانفض أكثر عسكره ضجرا بدسيسة الشيخ عبد السلام المذكور. فاستقدم إليه عسكر المغاربة من دمشق، وأقامهم على حصارها حتى استنفد ما فيها من الماء والزاد فضويق الأمير سيد أحمد، وكتب إلى الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي أنه يريد التسليم لأخيه على أيديهما. فتوسط الأمر فقبل الأمير يوسف بذلك. فخرج أخوه الأمير سيد أحمد من القلعة بمن معه، وسلمها لأخيه وسار إلى حارة حدث بيروت، وتوطنها مع بعض مريديه الذين كانوا محاصرين معه. فاستولى الأمير يوسف على القلعة، وأراد تقويض دعائمها فلم يستطع الفعلة الكثيرون إلا هدم بعض جدارها لمناعتها.
ثم كتب الأمير يوسف إلى محمد باشا العظم خلف عثمان باشا المصري في ولاية دمشق أن يسند إليه إدارة ولاية البقاع، فأرسل إليه الخلعة بذلك، وطلب منه أن يعيد لتجار دمشق ما كان سلبه منهم أخوه الأمير سيد أحمد من قافلتهم ففعل، وكان ذلك اقتصاصا من الأمراء اللمعيين؛ لأن الأمير شديدا منهم قتل دهقانه، فنهض الأمير يوسف من غزير إلى الرمتانية لقصاصهم، فوضع يده على أملاكهم ورجع إلى غزير، وأقام أخاه الأمير قاسما وكيلا عنه في ولاية البقاع، فأخذ من أخيه مال التجار وأرجعه إلى أصحابه ، وعوض عليه مالا من عنده.
وسنة 1775م في أواخرها سقف البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي في دير القديس أنطونيوس القرقفة في كفر شيما (لبنان) القس يوسف فرحات الراهب المخلصي على ضيعة الفرزل باسمه، وشرع ببناء كنيسة حذاء داره الأسقفية في زحلة، وكان يلقب بأسقف الفرزل، فزاد على لقبه لفظة البقاع؛ أي أسقف الفرزل والبقاع، وكان قد تكاثر مجيء سكان بعلبك إلى زحلة واستعمارها تخلصا من ظلم الأمراء الحرفوشيين، فكثر البناء فيها وبنى المطران بعض غرف في الدار الأسقفية، وهو أول من طاف بالقربان المقدس في زحلة، إذ كان قد أدخل عيد الجسد الإلهي البطريرك مكسيموس الحكيم الكاثوليكي، فكان كثير من السكان والمجاورين يقصدون زحلة للاحتفال بذلك، ولن تزال هذه العادة جارية إلى عهدنا.
وسنة 1776م في 16 نيسان صار ثلج وبرد كثير، حتى اتصل الثلج بحدود الساحل، وكان في زحلة وما يجاورها كثيرا، فحصل ضيق للسكان والمواشي.
وفيها في أول تموز جاء عسكر من دمشق إلى بعلبك، فعزلوا الأمير مصطفى الحرفوشي حاكمها وولوا عوضه أخاه محمدا، فهرب الأمير مصطفى إلى زحلة ودخل في حماية الأمراء اللمعيين، ولبث فيها مدة وتمكنت المودة بينه وبين الزحليين، (راجع تفصيل ذلك في «دواني القطوف»).
وفيها صار أحمد باشا الجزار واليا على صيداء، وعزل عنها محمد باشا الذي كان قد وضعه حسن باشا القبطان فيها. ولما بلغ الأمير يوسف قدومه اضطرب، لما كان بينهما من الضغينة عند حصار بيروت، ولكنه رأى من المناسب أن يتظاهر بالسرور، فأرسل يهنئه وبعث إليه هدايا من الخيول المطهمة ونحوها، فأجابه الجزار شاكرا صداقته. ومالأ الأمير يوسف حسن باشا اقتصاصا من الجزار منتهزا الفرصة لذلك، وأراد خدمته بتقديم المال المرتب عليه، فاستشار مريديه وأعوانه فقر رأيهم على أن يضع الأمير يوسف يده على عقارات الأمراء الشهابيين أنسبائه ويدفع المال من ريعها ففعل. وأغضب بذلك الأمراء، فنهضوا إلى البقاع وعاثوا فيه وكدروا مياه الأمن، وأثاروا القلق وسلبوا ما لأهل البلاد هنالك. فسار الأمير بعسكره إلى قب إلياس لردعهم؛ ففروا إلى إقليم البلان ومنه إلى الحولانية، فتوسط أمرهم نسيبهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبية. فقبل الأمير يوسف وساطته، وتعهد لهم بإرجاع ما تناوله من ريع عقاراتهم ورجع كل إلى وطنه، ما عدا شقيقيه الأميرين سيد أحمد وأفندي، فبقيا يناوئانه بالانحياز إلى ناصيف النصار زعيم المتاولة، فاسترضاهما وأعادهما إلى البلاد، وعاد هو إلى دير القمر فجمع المال الذي تعهد به إلى حسن باشا ودفعه له، فأعطاه البراءة والخلعة بحكم جبل الشوف وملحقاته وبيروت وجبيل والبقاع. وكتب له ميثاقا بأن والي صيداء لا يطالبه إلا بالمال الأميري، وسار إلى الأستانة فانتهز الجزار الفرصة وحرك دفين حقده على الأمير يوسف، وجاء بيروت وملكها ورفع يد الأمير يوسف عنها، وضبط ما فيها من عقارات وأبنية للشهابيين، وكتب إلى الأمير يوسف يطلب منه الأموال السلطانية عن السنوات الثلاث الماضية وألحف في الطلب، فخشي الأمير غدره وكتب إلى حسن باشا يستصرخه، فأدركه الرسول في جزيرة قبرس، فعاد ببعض السفن إلى بيروت وأخرج الجزار منها، ووعد الأمير أنه سيعزل الجزار عن الولاية واستأنف السفر إلى الأستانة. وكان عسكر الجزار الذي جاء به بيروت ستمائة فارس من اللاوند الشجعان، فساروا إلى صيداء برا فأرسل لهم الأمير المشايخ النكدية، فكمنوا لهم في أرض السعديات قرب الدامور، وكان معهم مائتا رجل والتقيا في الصباح، فاستظهر عليهم اللاوند وجندلوا زعيمهم الشيخ أبا فاعور، وأمسكوا ولده الشيخ محمودا والشيخ واكدا، وجرح أخوه الشيخ بشير فساروا بالأسيرين إلى الجزار غانمين الأسلاب فحبسهما في القلعة. ثم فكهما الأمير يوسف معتذرا إلى الجزار أن ذلك جرى دون علمه؛ ولذلك اضطر الأمير يوسف أن يوزع فدية الأسيرين، وهي مائة ألف غرش على البلاد، فعصى عليه الأمراء اللمعيون وأبوا دفع تلك الضريبة وأثاروا الخواطر ضده، فأوغر ذلك صدر الأمير والجزار معا فأرسل هذا مصطفى أغا قراملا (أي القارئ الأسود) قائد عسكره بجماعة إلى بيروت، ومنها إلى مقاطعة اللمعيين في المتن وزحلة والبقاع، فأحرقوا قرى المكلس والدكوانة والجديدة وقتلوا جماعة من أعوانهم، وساروا إلى البقاع فاستولوا على ما للأمراء الشهابيين واللمعيين فيه من العقارات والقرى. فانحاز الأمير يوسف إلى اللمعيين، وجمع عسكرا من البلاد كان بينه الزحليون وزحف به إلى المغيثة.
وفي آخر شهر نيسان من سنة 1777 كان قراملا مع عسكره الأكراد قد مروا بقلعة قب إلياس، فعلم محافظ القلعة بقدومهم فحصنها، حتى امتنعت عليهم وردهم عنها بقنابل المدافع، فساروا إلى بعلبك وعاثوا فيها كل العيث وأمسكوا زعماء الشيعيين فيها، وصادروهم بأموال كثيرة وحبسوا الأمير محمدا الحرفوشي وضبطوا أمواله، وكان في بعلبك القس أكلمينضوس الراهب الحناوي بارعا في الطب فطبب ذات يوم قراملا وشفاه، فصار له عليه دالة، فاستأمنه على المسيحيين فأمنهم وجمعهم في الدار الأسقفية في بعلبك، وأقام عليهم محافظين فلم يمسوا بسوء.
وكان الجزار قد استصرخ حاكم الشام وولده حاكم طرابلس ليساعداه على محاربة جبل لبنان، فامتنعا حفظا لعهدهم مع الأمير حاكمه.
فجاء عسكر قراملا وخيموا في البقاع، وقطعوا الطريق على المارة، ونازلوا قرية سعد نايل في جوار زحلة ونهبوا مواشيها وقتلوا بعض سكانها وذلك في شهر حزيران، وأرادوا الهجوم على زحلة فمنعهم المطر الكثير الذي انهمر في تلك الأثناء.
صفحه نامشخص