34
مأوى (أنطوش) دير القديس أنطونيوس في محله الحاضر الآن مع كنيسة صغيرة،
35
وصار لها فيه رئيس ينوب عن أسقف صور وصيداء،
36
الذي كانت زحلة تابعة له إذ ذاك.
وسنة 1770م ثار متاولة جبل عامل، وناهضوا درويش باشا والي صيداء، الذي سلم ولاية لبنان إلى الأمير يوسف الشهابي بدلا من حليفهم عمه الأمير منصور، في شهر آب من تلك السنة. فانحازوا إلى الشيخ ظاهر العمر الزيداني، وشرعوا يزرعون الفتن ويقلقون الراحة حتى اتصلوا بحاصبيا، وكان أشدهم تحمسا وعيثا الصغيرية والصعبية. فأوغر تعديهم صدر الأمير يوسف ونوى التنكيل بهم، فنهض من دير القمر في أول تشرين الأول بزهاء عشرين ألف مقاتل بين فرسان ومشاة، وقيل: كان عددهم ثلاثين ألفا وبينهم الزحليون، فاحتدم القتال بينهم وبين المتاولة في نواحي جبل عامل، ولما كاد اللبنانيون ينالون النصر ويستظهرون على الأعداء، ارتد بعض الجنبلاطيين والأمراء على أعقابهم في إبان العراك، فأضعف ذلك قلوب اللبنانيين، وانهزموا فطمع بهم المتاولة، ولا سيما بعد أن وصلت نجدة لهم من ظاهر العمر، فتأثروا اللبنانيون وأصلوهم نارا حامية وأعملوا السلاح في أقفيتهم، حتى قتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة قتيل من دروز ونصارى. وكان بينهم بشير بن صعب كساب كاخية الأمير عساف اللمعي من أمراء صليما. والمتناقل على ألسنة الشيوخ، أنه قتل في هذه الموقعة مائتا زوج أخوة من لبنان، ومن عسكر اللمعيين ستة عشر زوج أخوة معظمهم من المعلوفيين من كفر عقاب وزحلة. وفي هذه الأثناء كان قد وصل عسكر الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا وخال الأمير يوسف لنجدته، إذ كان قد استصرخه قبل زحفه وهو كثير بقيادة الأمير إسماعيل، فاشتد أزر اللبنانيين ولكنهم كانوا قد بعدوا عن المتاولة، فدخلوا لبنان مدحورين، واستثأر المتاولة منهم لقاء ما فعل بهم سلفه الأمير ملحم سنة 1734 كما مر.
وقد اشتهر بهذه الموقعة مخايل عيد المعلوف ببسالته وطنوس أبو عقل المعلوف، وهما من فرع أبي مدلج، فهذا خلص العلم (البيرق) عند انكسار اللبنانيين ولم يقو الأعداء على أخذه. ويقال: إنه لم يسلم سواه فشكره الأمير ولقبه بالكحيل، واشتهر فرعه بهذا اللقب (راجع «دواني القطوف» صفحة 207). وعرفت هذه الموقعة بحادثة الجرمق أو الزهراني، حيث حدثت في بلاد الشقيف في وادي الجرمق وقرب نهر الزهراني. ولم يذق اللبنانيون فشلا مثل هذا في مواقعهم؛ لأن بعض المشايخ خانوا الأمير يوسف وأرادوا خذلانه انتصارا للأمير منصور، وكان الأمير يوسف في بدء هذه المعركة منتصرا؛ لأنه لما وصل إلى جباع الحلاوة أول بلاد المتاولة هاجم الشيخ حيدر الفارس زعيمهم المقيم هناك، فهزمه ودخل الأمير القرية وأحرقها، ثم انتقل إلى النبطية. فورد إليه كتاب من الشيخ ظاهر العمر يسأله أن يكف عن القتال بثلاثة شروط؛ أولها: إنه يرسل إليه شيوخ المتاولة ليقدموا له الطاعة، وثانيها: إنهم يقدمون له دراهم نفقة عساكره، وثالثها: إنه يعطيه مدينة صيداء فيتولى شئونها. وكانت هذه الشروط على يد الشيخ علي جنبلاط فلم يقبل الأمير يوسف بها. فتراجع عنه الجنبلاطيون بإشارة زعيمهم الشيخ علي. وكذلك مال عنه كل من الشيخين عبد السلام العماد وكليب نكد خدمة للأمير منصور الذي كان يحركهما سرا ضد الأمير يوسف، وهما اللذان أقنعاه بعدم قبول شروط الشيخ ظاهر الآنفة الذكر. وكانا يراسلان مشايخ المتاولة سرا، وأنهما سيغدران بالأمير خدمة لهم، فتشدد المتاولة وهجم نحو مائة فارس منهم على عسكر الأمير يوسف فانهزم زعماؤه من أمامهم إنجازا لوعدهم، وتمت المكيدة وتمزق شمل اللبنانيين وعم العويل والنحيب في جميع لبنان وما يجاوره، حتى كانت النساء في كل مكان كالأغربة حدادا على القتلى، وتمرد المتاولة كما فصل ذلك القس حنانيا المنير في تاريخه الدر المرصوف، في تاريخ الشوف وغيره من المؤرخين.
وسنة 1772م طلب الأمير يوسف حاكم لبنان من عثمان باشا المصري والي الشام ولاية البقاع لأخيه الأمير سيد أحمد، فألقى إليه مقاليد أمورها، فجاء الأمير سيد أحمد، وتوطن قلعة قب إلياس التي كانت الزلازل قد هدمتها، ورممها وجهزها بالمدافع والرجال وصار يمخرق في البقاع، فنهب قافلة لتجار دمشق كانت مارة في طريق البقاع، فكتب عثمان باشا إلى الأمير أن يردع أخاه عن العيث في البلاد وأن يرد ما سلبه، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يرعو، فاعتذر الأمير يوسف للوزير فرأى اعتذاره غير واقع في محله.
وسنة 1773م خرج الوزير مع بعض الباشوات بعساكر جرارة أكثر من خمسة عشر ألفا، فنزلوا في صحراء بر إلياس، وضربوا فيها خيامهم وارتجت البلاد لقدومهم، وكانوا يحبون الاقتصاص من الأمير سيد أحمد الذي لم يترك المخرقة في البقاع ولا رد مال القافلة الذي سلبه. فلما بلغ الأمير يوسف قدوم عساكر دمشق جمع رجاله وسار إلى المغيثة. ثم انتقل إلى زحلة فانضم إليه رجالها الأشداء، فحارب عسكر دمشق مرارا، فلم يظفر بهم ولا ظفروا به، وذلك لخيانة الأمراء والمشايخ الذين كان الجزار قد رشاهم بالمال الذي قبضه من مركب فرنسي جاء بيروت حاملا الدراهم لتجارها، وقيمتها أربعمائة كيس في أثناء محاصرة الجزار إياها. فاستصرخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، فأرسل إليه عسكرا وافرا بقيادة ولده الشيخ علي والشيخ ناصيف النصار زعيم المتاولة، فلما وصلوا إلى القرعون في أول البقاع من جهة الجنوب علم بهم عثمان باشا وأعوانه، فأركنوا إلى الفرار بعساكرهم وتركوا خيامهم وذخائرهم وعددهم ومدافعهم وساروا إلى دمشق، فغنم كل ذلك عسكر الأمير وجهزوا بالمدافع قلعة قب إلياس وحصنوها، وتجددت المودة بينهم وبين الشيخ ناصيف النصار ورجاله، وأذهبت الحفائظ أحقادهم القديمة. فعاد عسكر الشيخ ظاهر ظافرا مشكورا من الأمير الذي عاد إلى دير القمر . وجدد المواثيق بينه وبين المشايخ آل ظاهر العمر وآل علي الصغير وغيرهم.
صفحه نامشخص