والرؤية -أيضا- وجوه: فرؤية هي جنس، ورؤية هي علم. وقد نفيتم الدرك عن الله، وإن كان متصرفا في اللغة. فلذلك يجب /23/ نفي الرؤية عن الله، وإن كانت متصرفة في اللغة، وقد قال الله تعالى لموسى: {لن تراني}. ولا فرق بين أن يرى بالبصر، ويدرك بالبصر، ويحاط به النظر.
ووجه آخر: ولما كان لا يرى إلا جسم أو قائم بجسم وكان الله تعالى ليس بجسم ولا قائم بجسم لم يجز أن يرى.
ووجه آخر: أنك لا ترى إلا ما قابلك أو حاذاك، فكان بين الرائي والمرئي اتصال الصورة، ورفع الموانع عن الأبصار، فلما لم يجز أن يقابل ولا يحاذى ولا يتصل الضياء بينه وبين الرائي له لم يجز أن يرى.
ووجه آخر: لو جاز أن يرى جاز أن يشار إليه بالرائي، فلما لم يجز أن يشار إليه بالرائي ويراه غيره لم يجز أن يرى.
ووجه آخر: هو أن الله -تبارك وتعالى- معنا، وهو بكل مكان، وذلك قوله: {وهو معكم أين ما كنتم} وليس يرى، ولا يخلو أنه لا يرى؛ لأنه لا تجوز الرؤية عليه، أو يكون ليس يرى لساتر وحجاب بيننا وبينه، وليس يرى لأنه في أبصارنا لصغره ولطافته.
فلو كان لا يرى لحجاب لكان الحجاب أكبر منه، ولوجب أنه جسم محدود؛ لأن الحجاب انقطاع الجسم ما بينك وبين المحجوب عنه، وقد قام الدليل أن الله ليس بجسم، ولا محدود.
ولو كان لا يرى لآفة في الأبصار لقد كان يجب أن يحبس تلك الآفة، وكانت تلك الآفة تمنع رؤية المرئيات، ولجاز أن ترتفع تلك الآفة فيرى الله في الدنيا.
كذلك لا يجوز أن يوصف الله بصغر ولا لطافة ولا مسافة بعيدة فلم يبق إلا أنه لا يرى لذاته، وما لا يجوز على الله في وقت، فهو لا يجوز عليه في وقت من الأوقات؛ لأنه لا يتغير -تبارك وتعالى-.
فإن قال: فما تنكر أن يرى على خلاف المرئيات؟
صفحه ۳۲