فعلى ضوء هذا المتن عادت هيئة أبي زيد حية.
وقد ولد أبو زيد في قرية من ولاية بلخ، وقد ذهب هذا الفيلسوف في شبابه للدراسة في العراق، حيث كان الشوق يسوقه إلى الانضمام إلى الإمامية، ولكنه تعرف في العراق بالكندي الشهير، ولازمه ووقف نفسه على الفلسفة والعلم، ويغدو بالغ الفضل مع بقائه متواضعا متحفظا، فيجلب إلى نفسه احترام الأقوياء، ويكون أمير بلخ حاميه الرئيس، ويحسن حظ عالمنا بفضل صداقته، فينال في بلخ أملاكا مهمة، حافظت عليها ذريته عدة أجيال. ويرجع تاريخ كتبه في الجغرافية والفلسفة - على الخصوص - إلى الربع الأول من القرن الرابع.
وساح أبو زيد في مصر وفارس، وكان أبو زيد صريحا طريفا، ولكن مع سذاجة، وقد اطلع على كثير من المناهج، ونراه قد عاد إلى «بلد سابور؛ كيما يقوم باستقصاء في شأن رجل كانت تظهر مذاهبه مخالفة لمذاهب الآخرين، وكان يزعم أنه الله ذاته.»
8
وقد عرف القرمطية والمانوية والمزدكية والهنود، وما كان عليه من بساطة قلب صان أرتدكسيته حيال إغوائه بمذاهبهم. ويشتمل كتابه «البدء والتاريخ» على معارف مؤثرة عن المشبهة، والاثنينية، والقائلين بوحدة الوجود، والحرانيين، والمعتزلة، وغيرهم.
وليلاحظ - مثلا - هذا المذهب الذي لم يذكر أتباعه: «(ص77) ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة، ولا يعرف ولا يعلم، ولا يجوز أن يذكر، ودونه العقل، ودون العقل النفس، ودون النفس الهيولي، ودون الهيولي الأثير، ثم الطبائع، ويرون كل حركة أو قوة حساسة أو نامية منه.» فهذا المذهب الذي هو من أصل أدري هو الذي انتحلته - تقريبا - فرقة الإسماعيلية المشهورة التي ظهرت في الزمن الذي ألف فيه أبو زيد.
وقد أجاب فيلسوفنا عن النظريات القائلة بوحدة الوجود، والقريبة من هذه بما يأتي: «(ص75) من الدلائل على أن البارئ - جل جلاله - ليس بالنفس ولا بالعقل ولا بالروح، كما ذهب إليه من ذهب أن الأنفس متجزئة قد فرقت بينها الهياكل والأشخاص.» والواقع أنه لا يوجد شيء ينقسم من غير أن يتصور إمكان التئامه، والالتئام من عوارض الجوهر، وبعض يحيا وبعض يموت، ولا بد من أن تفنى النفس بموت حائزها، أو أن تعود إلى النفس العامة، أو أن ترتحل إلى آخر. والواقع أن الفناء والرجوع من عوارض الجوهر أيضا، فهذا الطراز من التفلسف طريف لا ريب.
ويعنى أبو زيد بنظرية الصفات الإلهية التي أثارها المعتزلة كثيرا ، كما يعنى بنظرية القضاء والقدر، ويظل اعتقاده حول هاتين النقطتين أرتدكسيا، وتكون نتيجته متواضعة: فقد قال: «(ص100) وأعدل الأمور أوساطها، فقد قيل: الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس، لا يزداد على طول النظر إلا حيرة ودهشا، ومن طاوعته نفسه بالإمساك عن الخوض فيه والاقتصار على ما في الكتاب رجوت أن يكون من الفائزين.»
ولذا يجب أن يبدو أبو زيد لنا ذكيا جدا، أكثر من ظهوره فيلسوفا ضمن المعنى الذي أوضحنا. وعندنا أنه يشابه المعتزلة بوضعه أكثر من أن يشابه الفلاسفة، وإن كان قد ناهض المعتزلة وعدهم من الفلاسفة، وتذكرنا كثرة المناهج التي عني بها بتلك المجموعة المبهمة من الأفكار، بذلك الاختلاط الفلسفي الذي ترد العنعنات السكلاسية الكبيرة إليه، وقد كان من المفيد أن يذكر لتتراءى لنا هذه الرؤيا مرة أخرى، ولكنه لا يظهر تقدما وفق النظام الذي نتبع. فعلينا - بعد أن وقفنا دقيقة بجانبه - أن ننساه في ظل أستاذه الكندي.
وكان محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي، الذي هو أعظم فيلسوف مسلم قبل ظهور ابن سينا، من أصل تركي، وتقع مدينة فاراب التي ولد فيها، وتدعى اليوم أطرار، على نهر سيحون أو سيرداريا، وكان الفارابي تلميذا لطبيب نصراني اسمه يوحنا بن حيلان، الذي مات ببغداد في عهد المقتدر، فاقتطف كثيرا من ثمرة معرفته. ويروى - أيضا - أنه كان رفيق درس لأبي بشر متى، الذي صار مترجما كما تكلمنا سابقا، والذي تعود أن يجمع بجانبه رأيه في الجمل الموجزة البعيدة الغور. وقد قصد بلاط سيف الدولة بن حمدان، ويظهر أنه عاش عيشا هادئا تحت حمايته بزي الصوفية، ويغدو موضع تقدير هذا الأمير الذي أنعم عليه بمقام كريم بين ذويه. ولما استولى سيف الدولة على دمشق ذهب الفارابي معه إلى هذه المدينة، حيث توفي سنة 339ه. ويروي ابن أبي أصيبعة أن الفارابي قام برحلة إلى مصر قبل موته بعام واحد.
صفحه نامشخص