مقدمة المؤلف
1 - لاهوتية القرآن
2 - المعتزلة
3 - المترجمون
4 - الفلاسفة والموسوعيون
5 - ابن سينا: سيرته، كتبه
6 - منطق ابن سينا
7 - طبيعيات ابن سينا
8 - نفسيات ابن سينا
9 - إلهيات ابن سينا
10 - تصوف ابن سينا
جدول المطابقات بين السنين الهجرية والميلادية
مقدمة المؤلف
1 - لاهوتية القرآن
2 - المعتزلة
3 - المترجمون
4 - الفلاسفة والموسوعيون
5 - ابن سينا: سيرته، كتبه
6 - منطق ابن سينا
7 - طبيعيات ابن سينا
8 - نفسيات ابن سينا
9 - إلهيات ابن سينا
10 - تصوف ابن سينا
جدول المطابقات بين السنين الهجرية والميلادية
ابن سينا
ابن سينا
تأليف
برنارد كارا دو فو
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المؤلف
ليس هذا الكتاب وقفا على مذهب ابن سينا وحده، وإنما يتناول بيانا نسبيا للحركة الفلسفية، التي ظهرت في الشرق بين الهجرة ووفاة ابن سينا، والتي بدا فيها مذهب هذا الفيلسوف كأعلى ذروة، ويوجد بجانب الفرق والمذاهب التي جعلناها موضع بحث في هذا الكتاب فرق ومذاهب أخرى ظلت خارج نطاقه؛ أي المذاهب الكلامية والفرق السياسية والصوفية، ولم يعرض علم الكلام إلا في بداءته، وذلك مثل نقطة انطلاق، وقد قدم في سياق عرضه تحت شكل ما بعد الطبيعة، وألم بالسياسة مع الإيجاز في فقره حيث رسم النطاق التاريخي الذي تحرك فيه أبطالنا، وكذلك تناولنا بالبحث قليلا، وفي مواضع كثيرة، أمر السياسة مثل علم منفصل معدود قسما من الفلسفة وفق السنة اليونانية. وأما التصوف، فإن مؤلفينا سيسوقوننا في الغالب حتى عتبته، ولكن مع امتناعنا عن الخوض فيه، وعلى ما نحن مضطرون إليه من قول بعض كلمات لإتمام ما بعد الطبيعة، فإننا لن ندرسه مثل مذهب مستقل.
والعلوم التي نعنى بها عناية خاصة هي؛ أولا: علم المنطق، الذي كان يشغل مكانا واسعا في فلسفة ذلك الزمن، وإن ترك في أيامنا، ثم الطبيعيات، وعلم النفس، وما بعد الطبيعة؛ أي هذه العلوم الثلاثة المرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وستمثل الفصول الثلاثة، التي سنقفها على هذه العلوم الأخيرة - والتي ستسبقها مقدمة عن المنطق وتعقبها تتمة عن التصوف - جوهر المذهب الناشئ عن حركة الفكر التي يتألف منها موضوع هذا الكتاب.
وإنا لنطلب من القارئ أن يتفضل بتناول هذا الكتاب من غير تعصب، ومن الحسن أن ينقاد لنا كانقيادنا لمؤلفينا، ولا ينبغي - في حقل علمي لا يزال معروفا قليلا لدى الجمهور، كالفلسفة العربية - أن توضع تقسيمات الموضوع وما يقتضيه من مسائل بداهة؛ فالأجدر أن ينتظر ظهورها من تلقاء نفسها كلما أوغل في الدرس.
ومع ذلك فإن هذه الملاحظة لا تعني أن الموضوع الذي نعالجه جديد على الإطلاق؛ فعلى العكس لا ترى قسما من هذا الكتاب لا يستند إلى جهود سابقة متينة عميقة، وهذا ما تدل عليه تعليقاتنا، بيد أن هذه الجهود لم تشع - في الغالب - خارج وسط الاختصاص، ولم تتجمع نتائجها ضمن مجموع قط، ونعتقد أن ساعة القيام بهذا الجمع وتسليم المادة التي أعدت في مختبرات الاستشراق إلى الجمهور قد حلت. ونرى أن هذا المشروع يعرض الآن من الطمأنينة ما فيه الكفاية، وعلى ما كان من عدم امتناعنا عن الإشعار بعملنا الشخصي في هذا الكتاب، فإننا نعتقد، مع ذلك، أنه أثر موضوعي قائم بذاته، حي بحياته الخاصة، مستقل عن مؤلفه على الخصوص، وأن الجزئيات تتجمع فيه، وتتسلسل بطبيعتها أكثر مما بصنع الكاتب.
ولا نتكلم باطمئنان مثل ذلك عن أقسام تاريخ الفلسفة الأخرى في الشرق الإسلامي، التي ظلت خارج نطاقنا، ولم تتقدم دراسة المذاهب الكلامية - ولا سيما الصوفية - تقدم المدرسة الفلسفية الخالصة، ولا نجرؤ على عرض نتائجها على المثقفين قبل أن نتناول من أيدي المستشرقين - أيضا - بعض التصانيف التمهيدية الخاصة التي نستدعيها بأفئدتنا.
البارون دو فو
باريس، مايو 1900
الفصل الأول
لاهوتية القرآن
عيان الله لدى محمد - تجلي القدرة الإلهية - المعجزة القرآنية - ذات الله وصفاته - مشكلة القدر وعلم الله - جبرية القرآن - نظرية الوحي والملائكة. ***
ليس القرآن رسالة فلسفة، ولم يكن محمد فيلسوفا ضبطا، وإنما لمس محمد - مثل نبي - مسائل من النظام الفلسفي، ومنحها حلولا عيانية، عبر عنها تعبيرا حماسيا، وقد صارت هذه الحلول التي تألفت العقيدة الإسلامية منها نقاطا ثابتة في البحث النظري الفلسفي لدى العرب؛ ولذا لم تقم أعم معضلة في الفلسفة العربية على البحث عن الحقيقة، ما دامت هذه الحقيقة قد عرضت في كثير من نقاطها الجوهرية، بل قامت على تأييد هذه الحقيقة، التي وضعت وضعا عيانيا ببيان تحليلي عقلي، وبإقامة تعبير موافق لطرز الفلسفة القديمة مقام التعبير الحماسي، وهذا ما يمكن أن يسمى المعضلة السكلاسية.
1
أجل، وجد من استطاعوا بعد ذلك أن يغفلوا غاية هذه المعضلة، وأن يكونوا أكثر مبالاة بالفلسفة مما بالعقيدة، التي كان يجب أن تظهر الفلسفة صورة لها فقط، وأن يستخدموا الفلسفة حتى لتحريف العقيدة، بيد أن هذه الأمور لم تكن غير حركات ثانوية في تاريخ الفكر العربي، وأن البحث السكلاسي هو الحركة الأولية؛ ولذا، فإن من المهم أن تذكر، في البداءة، مسألة الاعتقاد، التي نمت هذه الحركة على أثرها، وهذا ما نصنعه بعرضنا لاهوتية القرآن.
وأول ما قام عليه عيان الله لدى محمد هو عيان الإله الواحد القادر، وأول ما لازم النبي منذ عزلته في غار حراء هو مبدأ الوحدانية الإلهية، خلافا لمعتقدات العرب المشركين. وأما مبدأ القدرة الإلهية، فقد تقدم في نفسه بنسبة تجلي مقاومة العرب الجاحدين، ثم تسليمهم.
وقد وكدت وحدانية الله بلا برهان في نص القرآن كما في صيغة الدين الإسلامي القائلة: «لا إله إلا الله»، وهذا الإله الواحد هو «يهوه» اليهود وإله إبراهيم وظهور نار العليقة:
وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا ،
فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ،
إنني أنا الله لا إله إلا أنا (20: 8-14).
2
ونزع محمد من الرب قوة الإنسال حاكما رفعه على المعتقدات النصرانية الثالوثية وعلى كثير من المعتقدات الشعبية، كالتي كانت تجعل من العزير ابنا لله، أو كالتي تحاول أن تجعل من الملائكة بنات لله. وهكذا، جعل من الله موجودا واحدا منفصلا عن العالم انفصالا مطلقا.
والنصوص الخاصة بالقدرة الإلهية كثيرة إلى الغاية في القرآن، وهي أكثر تفصيلا مما هو خاص بالوحدانية، وتكاد كلها تكون ذات معنى دفاعي. وإله المسلمين كإله اليهود، يثبت بقدرته، وترى قدرته نفسها.
وتتجلى القدرة الإلهية على ثلاثة أوجه؛ أي في الطبيعة والتاريخ العام والمعجزة الحاضرة، وأوجه التجلي الثلاثة هذه تورائية.
والإله الذي يراه محمد في الطبيعة هو خالق العالم ومدبره، فكفى أن يقول له في سفر التكوين: «ليكن نور، فكان نور.» وهو الذي تفر أمامه البحار وتثب التلال، وهو الذي تحمده السماوات والأرض والشمس والنجوم والرياح والصقيع، وتسبح له جميع الموجودات، كما قال مؤلف المزامير. واسمع يا محمد:
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه (24: 41). واسمع أيضا:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (2: 159).
3
وليس لهذا التنبيه معنى غير البرهان أو الدليل على الباعث إلى الإيمان، وهذا ظاهر من آية أخرى يعترف محمد فيها بالأصل التورائي لبرهانه:
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه (6: 83).
والدليل على قدرة الله بالتاريخ العبري وافر في التوراة، حيث يرن - بلا انقطاع - صدى صوت يهوه، وهو يصرخ قائلا: «أنا الذي أخرج آباءكم من أرض مصر، وفتح البحر أمامهم، وأرشدهم بالسحاب ... إلخ.» وتناول محمد هذا الدليل، ولكنه وضع فيه قوة وبلاغة أقل مما في السابق. ثم بما أن التاريخ العبري وحده لم يكن ليهز نفوس العرب هزا كافيا، فإنه أضاف إليه وقائع أسطورية خاصة بتاريخ جزيرة العرب، كإهلاك بعض الأجيال القديمة الفاسدة بالغضب الإلهي وببعض الوقائع الصحيحة القريبة من زمن الإسلام؛ كانهيار سد مأرب،
4
وهذا الحادث الأخير صغير إذا ما قيس بالخروج أو سبي بابل، وله فائدة الدلالة على اتخاذ أساليب الدفاع التورائية في القرآن. وفضلا عن ذلك، فإن النبي قد اختار لإثبات وجود الإله خير ما في الطبيعة وأشد ما في التاريخ هولا.
وأما الإثبات بالمعجزة، فقد ادعى محمد أنه يأتي به، ومع ذلك فقد طلب منه ذلك، بيد أن من المعلوم أنه - وهو خال من موهبة الخوارق - حاول أن يجعل القرآن في نظر الناس معجزة. ومن الطريف أن يلاحظ أنه كان يشعر بالأحوال التي لا بد منها لجعل الإثبات بالمعجزة مؤثرا، وذلك بمطالبته من يشاهدونها باستعداد قلبي:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (6: 109-110).
وفي القرآن يظهر أن علم الله شرط لقدرته وأحد وجوهها تقريبا، ولا مراء في أن القرآن لا يشتمل على نظرية للعلم لدى الإنسان ولا عند الله، وإنما وكد علم الله في القرآن، ونص فيه على أنه مطلق كقدرته:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (6: 59). ويساور أتقياء المسلمين - دائما - رأي قائل بأنه لا ينبغي للإنسان أن يحاول الخوض كثيرا في أسرار الله، وهم - كمؤلف «التقليد» - يكادون يعدون الفضول العلمي تدنيسا للقدسيات.
وليست ذات الله وحياته موضعا لبحث منظم أكثر من صفاته لدى محمد؛ فهو لم يقل عنهما غير ما هو عياني، وإنما يؤكد بجلاء روحانية الله التي يبصرها في صلته بوحدانيته وقدرته وعلمه وجلاله. وعنده أن الله لا يمكن أن يدرك، وهو يدرك كل شيء، وأنه ليس ذا عاهة بدن، وأنه يعلو الإنسان وكل شيء بطبيعته، وأنه من العلو فوق العالم ما يتعذر معه حتى النظر إليه، وليس هنالك غير مثال موسع لعاهل شرقي، غير صورة معظمة لملكة سبأ، التي تستقبل من وراء حجاب مليك الجزر القاصية، الذي تنحني الرقاب في طريقه، وتغلق النوافذ.
وترتبط في مبدأ جلال الله مسألة كانت موضع جدل في علم الكلام الإسلامي، كما اشتهر أمرها في السكلاسية النصرانية، وهي رؤية الله في الحياة الآخرة. ومما يجدر ذكره ما يظهر في القرآن من صعوبة كبيرة في نيل هذه الرؤية، وهي قد وقع تقديرها في السور التي تشتمل على أقاصيص تورائية، ومن ذلك أن الله نادى آدم من غير أن يظهر نفسه، وأن نوحا - الذي نجا من الطوفان وحده - لم ير الله، وأن إبراهيم - الذي يدعى خليل الله - لم يستقبل غير ملائكته، وأن موسى طلب أن يرى الله، فلم يكد يلمحه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق تاب إليه، وأن خاتم الأنبياء محمدا لم ير غير روح القدس؛ الملك العظيم جبرائيل.
وفي وصف القرآن للجنة أن الأخيار يتمتعون برؤية المنازل الجميلة والرياض ومختلف النفوس من ذكور وإناث، ولكن من غير قول بأنهم يتمتعون برؤية الله. وفي يوم الفصل يؤتى بالناس أمام الله، من غير أن يعلم من النص كيف يكون هذا المثول، وكيف يدرك.
وفي القرآن آيات على شيء من الغرابة، قال محمد فيها إن الله «نور»، وإن نور الأخيار يمشي عن يمينهم يوم الحساب:
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار (24: 35). ولا يرى المفسرون غير تشبيهات في هذه الصور الغريبة،
5
ونحن نتساءل عن كون هذه التعبيرات صادرة عن بعض العوامل الأدرية.
وقدم الله مما وكده القرآن، وذلك من غير إصرار خاص. وفضلا عن ذلك، فإن هذا المبدأ لم يحلل، ولم يعن محمد بالبحث عما يمكن أن يكونه وجود الله خارج العالم وخارج الزمان.
ولم يحدد مبدأ الخلق تماما. ونص القرآن - كنص التوراة - لم يناقض وجود خواء يطبق الخلق عليه ويكون أصله غير محدود، ولم يرض محمد عن فكرة لا نهائية الزمان، ونكاد نحار من إبهام كلامه حول أبدية الثواب والعقاب:
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (11: 108-110). وقد عينت فكرة الأبدية بعد زمن من قبل علماء الكلام بتأثير الفلسفة، وأنت ترى نقص معالجة محمد لها، ولما تزل تربيته حول هذه النقطة غير تورائية.
وعدم تغير الله ملازم لعلمه وقدمه، بيد أن محمدا يتمثل الله غير متغير، مثل مدبر للعالم على الخصوص:
سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (48: 23). والمقصود هنا هو عدم التغير التاريخي والأدبي. ولم يبال النبي بعدم التغير اللاهوتي، وهو لم يفكر قط في كيفية إمكان الله أن يكون فعالا مع بقائه غير متغير.
وبما أن محمدا كان يتمثل الله على وجه أقل لاهوتية من تمثله إياه أدبيا، فإنه كان يكترث لصلاته بالإنسان، وقد عبر بجلاء عن مبدأ العناية الإلهية، فوضع معضلة القدر الهائلة غير خالية من الجفاء.
ويشمل علم الله وحكمته وقدرته المستقبل. وتهدف أعمال الله إلى غاية؛ فلمجموع الخلق غرض عرض - فقط - بالكلمة القائلة:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (51: 56). وإلى هذا أضف أن كل جزئي في الطبيعة قد صنع من أجل المجموع، وهو حسن نظرا إلى غايته. وهذه نظرية في التفاؤل مشتقة - بلا جهد - من مبدأ كون الله قادرا عالما لطيفا:
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (15: 19-21).
غير أن محمدا قد حفز بعبقريته الخاصة وبالكفاح إلى الاتكاء على مبدأ مجانب - من بعض الوجوه - لمبدأ العناية الإلهية؛ أي على مبدأ القدر، وهو قد أصر عليه بعزم قوي شديد. ومع ذلك، فإننا إذا ما أجلنا البصر بروح هادئ - ومن غير ابتسار - في آي القرآن الخاصة بالقدر وجدنا أنها ليست جبرية محضا، كما يعتقد كثير من الناس؛ فهي - مع كونها هائلة - ليست مخالفة لكل عدل مطلقا.
وإليك الفكرة التي تشتمل عليها كما أرى: إن الله يعلم كل شيء مقدما؛ ومن ثم يعلم السيئات والعقاب عليها، كما يعلم الحسنات والثواب عليها، فكل شيء مسطور في كتاب محفوظ في السماء، وهنا لا نبالي كثيرا في أن لهذا الكتاب وجودا خفيا، أو في أنه ليس غير رمز لعلم الله بالغيب، فهو - على كل حال - يعدل من الناحية الفلسفية توكيدا لعلم الغيب، ولكن توكيد علم الغيب ليس إنكارا للاختيار أيضا:
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها (57: 22).
وهذا لا يعني أن هذه المصائب تحل ظلما
إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (36: 11). وهذا لا يدل على أن أفعال الناس مقدرة، وهذه إشارة إلى كتابين: كتاب علم الغيب، أو المثال، أو الرسم، لحياة الدنيا؛ أي ضرب من الموازنة، وكتاب العلم الحاضر المسطورة فيه أعمال الناس على مقدار ما يأتونها، والذي سيفتح يوم الفصل، وهذا كتاب حساب، ولا يزيل الاختيار أي من هذين الكتابين أيضا.
ولكن إليك ما هو أكثر تخويفا؛ قال الله:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (32: 12). وقل مثل هذا عن الكلمة الموكدة الآتية، التي كررت غير مرة:
فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء (35: 9). فإذا ما نظرنا إلى هذين القولين على انفراد لاح لنا أنهما يدلان على أن الله يريد - أول وهلة - أن يهلك فريقا من الناس، وأنه لا مناص من هذا الهلاك. بيد أن قراءة الآيات الأخرى تدل بوضوح على أن هذه ليست فكرة محمد؛ فقد قال الله في سورة أخرى:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (7: 178)، وقال أيضا:
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين (14: 27).
أجل، إن هاتين الآيتين موازيتان للسابقتين، غير أنهما تنطويان على تكملة، وهذا الفرق الدقيق مهم؛ وذلك أن من خلقهم الله لجهنم ليسوا من أي أناس كانوا؛ أي ممن اختيروا اختيارا مراديا، بل هم أولئك الذين يأبون أن يستمعوا إلى رسالة النبي، وأن من يضلهم ليسوا من أي أناس كانوا، بل هم الأشرار، والأبرار هم الذين يهديهم الله على هذا النحو؛ ولذا، فإن من الواضح من هذه الآيات وحدها أن الضلال وجهنم ليسا سوى عقاب ناشئ عن ذنب سابق اقترف اختيارا لا ريب.
وآي القرآن الأخرى التي تناسب عين المسألة كثيرة، وهي تؤيد هذا الوجه من الرأي، ونعتقد أن هذا أصلي، ويبدو لنا أن هذا التفسير - الذي أدرك إدراكا ناقصا حتى الآن - شديد الصلاح لسد باب النزاع الطويل حول جبرية القرآن؛ فالقرآن ليس جبريا، ولم يرد فيه أن الله يقدر الشر وهلاك أي إنسان بداهة، والواقع أن المذهب - الذي أريد إدراكه كما تقدم - يقوم على أن الله، بعد أول خطيئة - ولا سيما بعد الخطيئة الأولى حيال الإيمان - يضل المجرم ويعميه، ويقسيه مقدارا فمقدارا، فيسير نحو هلاكه مثل مكره، وإنما يبقى الكفر الأول طليقا، وليس هذا المذهب - من جهة أخرى - غير تعبير عن ملال النبي من المقاومة الطويلة التي لاقتها رسالته، وذلك أن الذين كانوا يسمعونه عدة مرات، وكانوا شاهدين لجميع آياته، إذا لم يذعنوا في آخر الأمر، عدوا - بالحقيقة - أناسا فقدوا عقلهم بقوة خارجية، أناسا غدوا أنعاما صما عميا، على حسب تعبير محمد، هدفا للعقاب الإلهي، فكانت جهنم تستحوذ على روحهم في أثناء حياتهم، فإذا ما طعنوا على هذا الوجه فلأنهم أبوا أن يؤمنوا في وقت كانوا فيه أحرارا في اختيارهم، مالكين لعقلهم.
وأصرح الآيات في هذا المعنى هي:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون (2: 17). وهذه الآية الأخرى التي كنا قد استشهدنا بها، وهي:
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون .
ومن المفيد أن يضاف إلى هذا البيان عن لاهوتية محمد بضع كلمات خاصة بنظرية الوحي ونظرية الملائكة: وذلك بما أن إله القرآن صعب الاقتراب من الإنسان إلى الغاية، فإن الوحي جعل ضروريا لهذا السبب:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب (42: 50). وقد تلقت هذه الآية الجافية - فيما بعد - كثيرا من مخالفة متصوفي الإسلام عمليا.
وقد تمثل محمد أمر الوحي نفسه على وجه مماثل للوجه الذي تمثل به إدارة العالم؛ فالفكرة في ذلك تتصل بفكرة الإله القادر، والوحي هو رسالة من الله، ويوجد مثال للكتاب الموحى به، يوجد نوع من القرآن السماوي المحفوظ لدى الله، ويقرأ الملك في هذا الكتاب، ويأتي ليبلغ النبي ما قرأ، وهذا جهاز بسيط جدا؛ أي خارجي تماما، فهنا نبتعد عن حماسة التنبؤ التورائي وهيامه اللذين ضيق مفهومهما وأنحل.
وذهب محمد إلى التدرج النبوي؛ فقد قال:
لكل أجل كتاب (13: 39). ولا تتناقض هذه الكتب، وإنما يوضح بعضها بعضا وتتكامل، وتكون هذه الفكرة الجميلة بنفسها - والتي هي على شيء من الفتون - ضارة بالإسلام؛ فقد تناولها كثير من الفرق إضافة إلى القرآن وحيا جديدا تحت ستار تفسيره، فكانت تقوضه.
ويحفظ القرآن لعيسى لقب «كلمة الله»، بيد أن هذه الكلمة عادة لا يكون لها أي معنى معين في فكرة الوحي القرآنية.
ويجب أن تذكر نظرية الملائكة ليذكر - فقط - أنها لا تسلم بشيء لنظريات الفيوضات الأدرية، وكانت نفس محمد ثابتة جدا حول النقطة الأساسية للوحدانية الإلهية، وهي لا تترك أي مجال تفاجأ به من هذه الناحية؛ فالملائكة الذين يقول بهم مع الجن مخلوقون منفصلون عن الله كانفصال الناس عنه، ولهم وظائف عند الله، ومنها أنهم يدبرون حركات الطبيعة الكبيرة، وأنهم رسل بين الله والإنسان. وعرف محمد مبدأ الفلك، ولكنه لم يكن لديه حس عن مبدأ إدراك الأفلاك إلا بالمقدار الذي كان ضروريا لتحريم عبادة الكواكب، وقد قال ببعض القوى السحرية التي حكم عليها من غير أن يبالي بإيضاحها.
ومجمل القول: أنه يمكن أن يقضى في أمر محمد - مثل فيلسوف - بأنه معتدل حكيم بصير عملي خلقي أكثر من أن يكون لاهوتيا بدرجات، وبأنه أبدع لاهوتية عالية ثابتة محاكية للاهوتية التوراة، وقد نزه بجمال شعوره عن كل تطرف ساق إليه متكلمون لاحقون، ولم تسمح أميته النسبية له بأن يتوقع أيا من المصاعب التي سوف يثيرها البحث الفلسفي بعده.
الفصل الثاني
المعتزلة
النظريات الأساسية عند المعتزلة - صفات الله والقدر والاختيار - المعتزلة في كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني - ظهور مسألة الاختيار قبل المعتزلة - واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد - الاتصال بالفكر اليوناني - العلاف والنظام - معمر بن عباد السلمي - مذهب التناسخ - الجاحظ - الجبائي وأبو هاشم - الكرامية ومحمد بن كرام. ***
أخذت لاهوتية القرآن تكون موضوعا للبحث الفلسفي منذ القرن الأول من الهجرة؛ ولذا فإن حركة فلسفية تلقائية حدثت في الإسلام قبل إدخال كتب الفلسفة اليونانية إليه، ويمحص هذا البحث النظري، ويصير أكثر تركيبا كلما أشعر المؤثر اليوناني بنفسه، ومن حب الاطلاع أن ترقب تحولات هذه اللاهوتية حتى الزمن الذي ترجمت فيه كتب الأوائل وأدركت تماما، فبرزت المسألة السكلاسية، وقد تألفت أهم سلالة للعلماء، الذين امتازوا في هذا الدور من الفرقة التي تعرف بالمعتزلة.
والنظريات الأساسية التي تناولها المعتزلة بالدرس هي نظريات صفات الله ونظرية القدر والاختيار. وقد تناولت مناقشاتهم مسألة من النظام السياسي كان لها شأن كبير في التاريخ الإسلامي؛ أي ما العلامات التي يعرف بها الإمام الشرعي. والإمام - كما يذكر - هو رئيس الجماعة الإسلامية؛ أي الخليفة أو السلطان. وقد قامت حول هذا الموضوع فرق كثيرة، ارتبط كل منها في بعض المعتقدات اللاهوتية مع اعتقاد سياسي خاص.
1
وفي هذا الكتاب ندع - على الإطلاق - كل نقاش سياسي جانبا، وذلك؛ لكيلا نشغل بالنا بغير سياق الأفكار الفلسفية. أجل، يؤلف المعتزلة فرقة واسعة يمكن تقسيمها إلى فرق فرعية كثيرة، غير أن هذه الفرقة تمتاز في مجموعها بمناحيها العقلية الحرة، وفي هذه الفرقة يتجمع نصيب كبير من حياة المسلمين الفلسفية قبل ظهور الفلاسفة الخلص بجانبها.
وليست لدينا كتب علماء المعتزلة قبل زمن ابن سينا، ولكننا نملك عن هذا الدور بعض المصادر الثانوية، التي تعد مجموعة الشهرستاني المشهورة عن «الملل والنحل» أهمها،
2
فقد خص هذا المؤرخ الممتاز للأفكار في الإسلام عددا كبيرا من المعتزلة بمقالات تستحق الثقة بها، وذلك إذا ما قضي في أمرها بالعناية، التي حبا بها بيانه عن ابن سينا، حيث يمكن الانتقاد، وكذلك توجد معارف أخرى في رسالة لعضد الدين الإيجي (المتوفى سنة 756ه ) في الفلسفة وعلم الكلام اسمها «المواقف»، ولم تدرس بما فيه الكفاية أيضا، وقد طبع سرنسن قسمي هذا الكتاب الأخيرين مع شرحهما للجرجاني،
3
وينتفع شتاينر بهذين المصدرين المهمين، فينشر كتابا جيدا عن المعتزلة بعد قليل.
4
ووضعت مسألة الاختيار قبل ظهور فرقة المعتزلة، وذلك من قبل معبد الجهني وعطاء بن يسار، اللذين كانا ينتسبان إلى مدرسة الفقيه الشهير الحسن بن أبي الحسن البصري (المتوفى سنة 110). فهذان العالمان صرحا بأنهما نصيران لمبدأ اختيار الإنسان، وكان المذهب المعاكس - الذي نفينا وجوده في القرآن - قد انتصر في الإسلام في أثناء حروب بني أمية، فكان قد ارتبط - ضمنا على الأقل - في الجبرية؛ أي إنه كان يعتقد أن الإنسان صالح أو طالح معد لجهنم أو للجنة وفق أوامر الله الأزلية، وكانت آيات القرآن المخالفة لهذا الرأي موضع تأويل، ويؤدي مذهب معبد الحر إلى اضطرابات، فيأمر الخليفة عبد الملك بتعذيبه وصلبه في السنة الثمانين من الهجرة، ويصلب عالم آخر اسمه أبو مروان الدمشقي على باب دمشق بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك لاتباعه هذه الآراء.
وكان أبو مروان هذا بالغ الجرأة، وأما عطاء بن يسار، فقد نجا من القتل ولم يمت في غير السنة 103 من الهجرة، ابنا للرابعة والثمانين من سنيه، وكان قد أعتق من قبل إحدى أزواج النبي: ميمونة.
وكان أتباع حرية الإرادة الأولون قد اتخذوا اسم «القدرية»، بيد أن هذه التسمية كانت ترى مبهمة؛ وذلك لأن كلمة «القدر» يمكن أن تدل - بالتساوي - على قدرة الله وأمره أو على قدرة الإنسان وحريته، كما أن كلمة «القدرية» يمكن أن تدل - في الوقت نفسه - على أنصار حرية الإرادة أو على خصومهم، فلما قال المعتزلة بعقيدة حرية الإرادة نبذوا اسم القدرية، وأطلقوا على حرية الإرادة كلمة «العدل».
ومؤسس فرقة المعتزلة الكبرى هو واصل بن عطاء. وقد ولد في المدينة سنة 80، وأعتقه بنو مخزوم أو بنو ضبة، ومات سنة 131، وكان خطيبا، ولكن مع عجزه عن النطق بحرف الراء واستبدال حرف الغين به، وإن شئت فقل: إنه كان يلثغ بالراء، بيد أنه كان من الاطلاع على العربية وسهولة اللفظ بحيث يوفق في كلامه لاجتناب الألفاظ المشتملة على الراء، وهذا ما حمل أحد الشعراء على القول:
أجعلت وصلي الراء لم تنطق به
وقطعتني حتى كأنك واصل
وكان واصل تلميذا للحسن البصري في البداءة، ثم انفصل عنه بسبب رأي جديد أبداه حول حال المؤمنين الذين يقترفون إحدى الكبائر، فقال: «إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، منزلة بين منزلتين.» وظل هذا الرأي في فرقته، حاملا اسم مذهب «المنزلة بين المنزلتين»، وإلى هذا الظرف يرد أصل اسم المعتزلة.
وبدأ واصل بإنكار صفات الله أيضا، وكان يقصد بإبدائه هذا المذهب تخليص التوحيد المحض، فكان لا يدرك وحدانية إله ذي صفات، وكان يقول: «من أثبت معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين.» ومع ذلك، يظهر أنه لم ينضج هذه النظرية بما نستطيع أن نحكم فيه لفقدان كتبه. وقد كان كجميع المعتزلة، كثير الصراحة في الإيمان بحرية الإرادة فقال: «لا يجوز أن يريد الباري من العباد خلاف ما يأمر.» وقد كان يوافق على الأمر الإلهي فيما يتعلق بالحوادث الخارجية واليسر والعسر والمرض والصحة والحياة والموت، وإن شئت فقل: إنه كان يوافق على الجبرية الفزياوية، ولكنه كان يرفض الجبرية الأدبية.
وكان عمرو بن عبيد - الذي هو رئيس مشهور آخر للمعتزلة - معاصرا لواصل بن عطاء، فانفصل مثله عن مدرسة الحسن البصري، وكان وجيها ذا طبع ممتع، ويظهر أنه من أصل أفغاني؛ أي إن جده من الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في كابل، وقد أعتقه بنو تميم، وقد حضره الموت سنة 144 أو سنة 145.
ويبدي المسعودي إعجابا كبيرا بعمرو بن عبيد، قائلا عنه: «كان شيخ المعتزلة في وقته والأول فيها، وكذلك لمن طرأ بعده، وله رسائل وخطب وكلام كثير في العدل والتوحيد، وغير ذلك.» ولا نعرف هذه المؤلفات، ويستند هذا المؤرخ في هذا المديح إلى بعض الأحاديث التي تدل على طبع هذا الوجيه الرفيع مع شيء من المجون.
5
والأبيات الآتية - التي روى المسعودي أن عمرا أنشدها بين يدي المنصور - تعطي عن عمرو فكرة عالية:
يا أيهذا الذي قد غره الأمل
ودون ما يأمل التنغيص والأجل
ألا ترى إنما الدنيا وزينتها
كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا
حتوفها رصد وعيشها نكد
وصفوها كدر وملكها دول
تظل تقرع بالروعات ساكنها
فما يسوغ له لين ولا جذل
كأنه للمنايا والردى غرض
تظل فيه بنات الدهر تنتضل
والنفس هاربة والموت يرصدها
وكل عثرة رجل عندها زلل
والمرء يسعى لما يبقى لوارثه
والقبر وارث ما يسعى له الرجل
وعلى ما لعمرو بن عبيد من شهرة، فإننا لا نعرف غير القليل عن مذهبه، كما هو حاصل القول.
وبعد هؤلاء الأولين من المعتزلة أدخلت إلى الإسلام معرفة الكتب اليونانية، وقد درسها المعتزلة، فنبصر أي تقدم أسفرت عنه هذه الدراسة في مذهبهم، وأي غنى وصقل اتفقا له، وذلك بلقائنا بعد جيل أو جيلين طائفة من علماء هذه الفرقة، يجدر أن نذكر أبا الهذيل العلاف البصري على رأسهم، وقد ولد أبو الهذيل سنة 135، وكان بنو عبد القيس قد أعتقوه، ودرس الفلسفة في بغداد تحت إدارة أحد تلاميذ واصل بن عطاء، وألف عدة كتب لا نملكها مطلقا، واشترك في المجادلات الكلامية التي وقعت في عهد المأمون. وروى الشهرستاني أنه مات سنة 235 ابنا للمائة، غير أن أبا المحاسن روى أنه مات سنة 226، وهذه الرواية أرجح من تلك لا ريب.
لم يوافق أبو الهذيل موافقة مطلقة على رأي أسلافه في إنكار الصفات الإلهية، وإنما قال بالصفات على أنها وجوه تتجلى بها الذات الإلهية، وقد شبه الشهرستاني هذا المبدأ بمبدأ الأقانيم لدى النصارى. بيد أن هذا التشبيه ليس مقنعا؛ فقد روى هذا المؤرخ بأوضح من ذلك أن الصفات الإلهية عنده هي عين ذات الله، وأنها ليس لها غير معنى سلبي صرف، أو أنها تعبر - فقط - عما ينطوي عليه مفهوم الذات، ولم يقل أبو الهذيل إن الله عالم بذاته لا بالعلم، وإنما قال: إن الله عالم بعلم هو ذاته، والصيغة الأولى التي يمكن أن تكون صيغة المعتزلة السابقين تنفي الصفة، وتقول الصيغة الثانية بذات هي صفة اتحادا أو بصفة هي ذات اتحادا.
وتوجد هذه الدقة التحليلية الممتازة في القواعد الأخرى من فلسفة أبي الهذيل، وتعد نظريته في الإرادة الإلهية والبشرية ممتعة؛ فالإرادة في الله ليست سوى وجه للعلم، والله يريد كل شيء يعلم أنه خير. ويوجد نوعان للإرادات أو الأعمال الإلهية؛ فبعضها لا ضرورة لأن يكون في مكان، وإنما يحدث معلوله المباشر بنفسه، وذلك كالإرادات في نظام الخلوة، وهي ما يعبر عنها بكلمة: «كن»، وبعضها الآخر يحتاج إلى الوقوع في مكان لإحداث معلوله، وهذه هي الإرادات الأدبية التي يعبر عنها بأوامر الله ونواهيه وبلاغاته. وفي الإنسان تكون الإرادات والفاعلية الباطنية حرة وجوبا، ويقول عالمنا، على رواية الشهرستاني: إنه لا يمكن تصورها على شكل آخر، وهذا دليل على حرية الإرادة عن شعور بها. وأما الفاعلية الخارجية، فليست حرة بنفسها، ولكنها تكون - عادة - نتيجة لإرادات الباطن الحرة.
ونظرية أبي الهذيل عن حركة العالم على شيء من الغرابة، ويلوح أن هذا الفيلسوف حاول قبول المذهب اليوناني في دوام العالم من غير أن يناقض القرآن صراحة، وبما أنه لم يستطع الذهاب إلى حركة دائمة بلا بداية ولا نهاية، فإنه قال: إن الخلق هو في حركة العالم، وإن نهاية العالم هي دخوله في السكون؛ ولذا، فإنه يكون هناك دوام، وإن مادة تبقى ساكنة إلى الأبد.
ثم إن هذا السكون أدرك على وجه كثير اللاهوتية؛ وذلك أنه لا ينبغي اتخاذ هذه الكلمة ضمن معناها العادي، فحال السكون الأبدي للعالم هي حال النظام المطلق كما هو الأحرى، هي هذه الحال التي ينتهي إليها كل وفق سنن لازمة، وذلك طبق تبصر باق. ومجمل القول أن هذه حال ينقطع فيها كل هوى وكل حرية، ولا ريب في أن أبا الهذيل قد قصدها على هذا الوجه، وهو لم يدرك حرية الإنسان في غير هذا العالم كما روى الشهرستاني؛ فالناس بعد هذا العالم يدخلون في ضرب من حال الإطلاق التي هي حال سعادة بالغة لأناس، وحال عذاب هائل للآخرين.
ومن ثم ترى مبلغ البراعة في هذه المذاهب ، وكيف أن الاتصال بالذهن اليوناني قد أيقظ العبقرية الفلسفية لدى المسلمين مع الإنذار بتحريف العقيدة القرآنية.
وأخيرا؛ يجب أن يلاحظ وجود فكرة جريئة لدى أبي الهذيل ليست أقل شأنا مما تقدم؛ وهي فكرة السنة الطبيعية، وقد عبر عنها بوضوح كثير من قبل الشهرستاني؛ وذلك أن الإنسان يمكنه - قبل كل وحي - أن يصل إلى معرفة الله والشعور بالخير والشر، وأنه مسئول عن هذا أيضا. فعلى الإنسان أن يميز بعقله الخاص جمال الخير وقبح الشر، وهو ملزم بالسعي في العمل وفق الحق والعدل، وباجتناب الكذب والظلم؛ فإذا لم يقم بهذا الواجب استحق العقاب، وقد قبلت مدرسة المعتزلة هذه النظرية في السنة الطبيعية.
وقد تألق - بجانب أبي الهذيل العلاف - نجم إبراهيم بن سيار النظام، الذي هو عالم كبير آخر من علماء المعتزلة، وهو أهم رجال الجدل بمدرسة البصرة في عهد المأمون،
6
وكان يطيب لهذا الخليفة أن يسمع تحاور هذين الأستاذين، فكان يدعوهما إلى بلاطه مع علماء من الفرق الأخرى، وبهذا كان ينشر بين الجمهور حب البحث النظري وعادته. وأكثر النظام من مطالعة كتب فلاسفة اليونان على رواية الشهرستاني، الذي بقي مصدرنا الأساسي لفقدان مؤلفات هذا الأستاذ. ومع ذلك، فإنه لم يصل إلى فلسفة تختلف عن فلسفة أبي الهذيل كثيرا كما يبدو، وإنما يمكن أن يعتقد أنه كان ذا عبقرية أقل دقة فيما بعد الطبيعة، وذا ذهن أكثر انصرافا إلى العلوم الطبيعية، وقد كان موسوعيا.
وقد فصل النظام - مع الإمتاع - مذهب العدل الإلهي المرتبط في مذهب التفاؤل، فنزع من الله قدرة فعل الشر، وكان الرأي الشائع عند المعتزلة هو أن الله قادر على صنع الشر، ولكنه لا يفعله؛ لأن الشر قبيح. فذهب النظام إلى أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح بالفعل فإن القبيح بالفعل لا يمكن تجويزه من الله بالقدرة، وإن شئت فقل: إن الشر مما لا يقدر عليه من الله لا قوة ولا فعلا. ويسير النظام بفكرته إلى ما هو أبعد من ذلك، فيذهب إلى أن الخير الأقل ليس مما يقدر عليه من الله، فالله لا يريد غير الخير الأكبر؛ فمن التجديف على الله أن يفترض خير بالغ العظم ولا يذهب إلى أن الله لا يختاره.
ويجيب النظام عن اعتراض القائلين إن جميع أعمال الخالق تكون محدودة إذ ذاك بقوله: «إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا، فلا فرق.» وإنما أخذ النظام هذه المقالة من قدماء الفلاسفة.
وقد تطرق الوهم إلى عالمنا بمحاولته أن يقتبس من الأغارقة المفهوم المشهور القائل: إن النفس هي صورة البدن، فهو قد أساء فهم الفكرة، فذهب إلى أن البدن هو صورة النفس والروح الخارجية، فالروح جسم لطيف مشابك للبدن، مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد، والدهنية في السمسم، والسمنية في اللبن. وهكذا كان النظام أكثر اتجاها إلى علماء الطبيعة منه إلى علماء ما بعد الطبيعة كما لاحظه الشهرستاني.
ومن الطريف رأيه في الخلق وإن زعم الشهرستاني أنه أخذه عن اليونان؛ فعنده أن الله خلق جميع الموجودات دفعة واحدة، ولكنه أخفاها ولم يظهرها إلا بالتدريج. وهذا الظهور هو ما نسميه الولادة. والحقيقة أن آدم وجميع ذريته وجدوا معا منذ اليوم الأول، وأنه لم يحدث غير خلق واحد يتعذر وقوع خلق آخر بعده، وتنمو جميع الأشياء وتبدو على هذا الأساس الطبيعي مرة واحدة.
ويؤدي هذا المذهب عند النظام إلى جبرية طبيعية صريحة يعود شرفها إليه؛ فعنده أنه لا يوجد في الطبيعة غير فاعلية حرة واحدة، وهي فاعلية الإنسان، فإذا عدوت هذا وجدت أن جميع الأشياء تحدث وجوبا؛ «فالحجر إذا دفعته اندفع، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طبعا.»
وكذلك تناول هذا العالم مسألة قابلية الأجسام للتجزؤ إلى ما لا نهاية له، فأبدى رأيه النهائي منكرا الجزء الذي لا يتجزأ، وقد أصدر نظرية في الأعراض الطبيعية، ووحد بينها وبين الأجسام، فقال: إن الطعوم والألوان والروائح أجسام؛ ولذا فإن النظام عالم مفكر ذو آراء جريئة واسعة، ويدلنا عمله وعمل أبي الهذيل، مع إيجاز ما عرف عنهما، على تأثير لاهوت الأغارقة وخطابتهم وعلمهم الطبيعي في العالم الإسلامي في ذلك الحين.
ويجب أن يضم إلى العالمين الكبيرين المشار إليهما علماء آخرون، تعزى إليهم آراء ممتعة في مسائل مشهورة. وقد سارت هذه الطائفة من المفكرين، في وقت قصير، بمباحثها إلى أكثر الاتجاهات تنوعا سيرا يعتقد معه - عند سماع ما يقال حولها - أنها تدل على منازل لتطور فلسفي طويل، مع أنها وقعت في زمن واحد تقريبا، فحث الذهن الشرقي بالرسائل اليونانية كان من القوة ما يقضي بالعجب إذن.
وضع بشر بن المعتمر مسألة «التوالد»، التي تقوم على درس انتقال فعل الفاعل من خلال سلسلة من الأشياء، وفي «المواقف» مثال على عمل اليد الممسكة مفتاحا؛ فالفاعل يحرك يده، فتنشأ عن هذا حركة المفتاح، التي لم تكن قد أريدت على ما يحتمل.
7
وتنال هذه المسألة أهمية في الأخلاق، وتثير كثيرا من النقاش لدى متأخري المعتزلة كما يمكن أن يرى في «المواقف»، ويدور الأمر حول معرفة إمكان العلل الخارجية أن تغير فاعلية الفاعل الحر وتقلل مسئوليته، وهذه نظرية عن العلل المتداخلة.
وكذلك أثار بشر مسألتين مشهورتين في اللاهوت، تعدان من أصعب مسائل هذا العلم، وهما: مسألة عدل الله نحو الأطفال، ومسألة عناية الله نحو الأمم التي لا علم لها بالدين؛ فأما المسألة الأولى فينكر بها كون الله يمكن أن يدين الأطفال، لا لأن هذا ظلم ضبطا، بل لأن هذا يفترض كون الطفل أهلا للوم، وحينئذ لا يكون طفلا، وهذا متناقض.
وأما المسألة الثانية، فبها يبتعد بشر عن التفاؤل السائد للمعتزلة، فهو يعتقد أن الله يمكنه أن يوجد عالما آخر، يدعى به جميع الناس إلى الدين ويستحقون النجاة، ولا حد للكمال الذي يمكن أن يحققه الله، ويمكن أن يفترض دائما وجود عالم أصلح من كل عالم محدث؛ ولذا فإن الله لا يتعلق بالأصلح، وإن شئت فقل: إن أحكامنا في الصالح والعدل لا تطبق عليه، وإنما يقوم الله بمنح الإنسان إرادة حرة، ووحيا في بعض الأحيان، فإذا عدوت الوحي وجدت للإنسان هاديا أنوار العقل، التي تكشف له سنة الطبيعة.
وإذا ما نظر إلى آراء بشر - وفق تلخيص الشهرستاني - رئي أنها أقل إحكاما وسموا من آراء العلماء السابقين.
وبمعمر بن عباد السلمي يكتسب مذهب المعتزلة إقداما عجيبا، ويتقدم نحو وحدة الوجود؛ فهذا العالم يرى أن الله لم يخلق غير الأجسام، لا الأعراض، والأجسام هي التي تحدث الأعراض، وذلك إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، وكالقمر الذي يحدث التلوين، وإما اختيارا، كما هو أمر الحياة الحيوانية. وعند معمر أن الجسم والفناء عرضان أيضا؛ ولذا فإنهما لا يكونان سوى معلولين مباشرين لأفعال الخالق، والخالق لا يحدث سوى مادة عامة تصدر عنها صور جميع الموجودات بقوة ملازمة.
وبما أن معمرا قد أبعد الله من الطبيعة فإنه يقصيه خارج متناول علمنا؛ وذلك استنادا إلى رأيه البالغ الإطلاق في نفي الصفات الإلهية. ولا يمكن العلم - مثلا - أن يسند إلى الله؛ وذلك لأنه إما أن يكون موضع علمه، وهنالك يكون تفريق بين العالم والمعلوم، ومن ثم ثنائية في ذات الله، وإما أن يكون موضع علمه خارجا عنه، وهنالك لا يكون عالما إلا بهذا الموضع الخارجي، وبذلك يعود غير مطلق، ويؤدي هذا النقد إلى القول بأن مداركنا لا تطبق على الوجود الإلهي، وأن هذا الوجود لا يمكن أن يعرف.
وتجد ميول معمر في وحدة الوجود حاصلها لدى ثمامة بن الأشرس، وقد اضطهد الرشيد هذا العالم المعروف جيدا عند المؤرخين، فألقاه في السجن سنة 186. وعلى العكس تمتع بحظوة كبيرة لدى المأمون. وقد مات سنة 213، وكان ذا موهبة في التنادر والتهكم، كما هو ظاهر مما جاء في روايات المسعودي.
8
ومن الممتع قصة الطفيلي، الذي انساب بين جماعة من المانوية، معتقدا أنه أتى جمع لهو، فهذا الرجل أدرك خطأه حينما رأى نفسه ورأى المانويين مقرنين في الأصفاد كما أمر المأمون، فلما أتي بهؤلاء الزنادقة أمام الخليفة قتلوا. وأما الطفيلي، فقد صرح بأنه مستعد للكفر بماني وتدنيس صورته، قائلا: إنه كان مخطئا؛ فسري عن الخليفة. وإلى ثمامة ينسب الرأي القائل: إن العالم من عمل الله وفق الطبيعة؛ أي إن العالم ليس نتيجة عمل حر من الخالق، وإنما يصدر عن الطبيعة الإلهية وجوبا، وهكذا يكون العالم قديما كقدم الله ووجها من الألوهية.
ويظهر مبدأ التناسخ ثانية لدى عالمين من فرقة النظام، وهما أحمد بن حائط وفضل الحدثي، وقد طبقاه - مع التحديد وشيء من الغلظة - على أناس ليسوا صالحين تماما ولا أشرارا تماما، على أناس ليسوا أهلا للجنة ولا للنار؛ فأرواح هؤلاء الناس تدخل ثانية في أرواح أناس أو حيوانات وتستأنف حيوات أخرى. ولهما - كذلك - تأويل مبتكر لرؤية الله يوم البعث؛ وذلك أن الناس لن يروا الله نفسه، وإنما يرون العقل الأول؛ أي العقل الفعال، الذي تسري منه الصور إلى الموجودات. وعندهما أن هذا هو الذي قصده النبي حين قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر.» وهذا مثال مكاني في تطبيق فكرة يونانية على نص إسلامي.
ونصل إلى مؤلف موسوعي كثير التأليف؛ نصل إلى عمرو بن بحر الجاحظ، الذي كان رئيسا لمعتزلة مدرسة البصرة، وكان هذا العالم خادما للنظام؛ فلازم دروسه وانتفع بعلمه. وتشتمل مكتباتنا على عدد كبير من المصنفات المعزوة إلى الجاحظ، وعلى ما يدور حول هذه النسبة من شك غالبا، فإن من المؤسف ألا تكون هذه المخطوطات موضع عناية كافية،
9
فقد تناول الجاحظ أكثر الموضوعات تنوعا؛ أي تناول الآداب والخطابة والأقاصيص وعلم الكلام والفلسفة والجغرافية والتاريخ الطبيعي، ويشتمل أثره على جميع الحياة الدينية والاجتماعية والأدبية في زمنه، وفاز أثره بأعلى مديح. قال المسعودي:
10 «لا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه ... وكتب الجاحظ مع انحرافه المشهور تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ.»
ويلوح أن الجاحظ زاول نفوذا عظيما؛ فأسهم في نشر روح فرقته الحر والانتقادي بين كثير من المؤلفين. وأما فلسفته الخاصة التي تعرف دائما من خلاصة الشهرستاني، فيلوح أنها لا تخلو من دقة وقوة.
فلا حرية في العلم، والعلم يصدر عن وجوب طبيعي، وليست الإرادة نفسها غير وجه من العلم ونوع من العرض، والعمل الإرادي يعين العمل الذي يعرف بفاعله، وليست الإرادة بالنسبة إلى العمل الخارجي غير ميل.
وللأجسام - أيضا - هذه الميول الطبيعية التي تصدر عن قوى باطنية، والجواهر وحدها أبدية، والأعراض هي المتقلبة والمتحركة، وهي تعبر - بسبب القوة الملازمة للجواهر - عن ظهور حياة الأجسام والروح، فإذا ما أحسن إدراك هذا النظام جيدا وجد أنه يؤدي إلى ضرب من علم الذرات الحية.
وأظهر الجاحظ الرأي الغريب القائل: إن المحكوم عليهم بالعذاب لا يعذبون في النار إلى الأبد، وإنما يتحولون إلى طبيعة النار. وأما من حيث نظرية الوحي، فإنه يعزى إلى الجاحظ رأي غريب آخر قائل: إن القرآن جسد مخلوق يمكن أن يتحول إلى إنسان أو إلى حيوان.
أجل، إننا نصل بالجاحظ - المتوفى سنة 255 - إلى عصر الكندي، الذي هو أول عظماء الفلاسفة، ولكننا، لكيلا نعود إلى المعتزلة مؤخرا، نتتبع - مع الإيجاز - تاريخ هذه الفرقة الممتعة حتى زمن العالم اللاهوتي: الأشعري.
يمتاز الخياط - في هذا الدور - في مدرسة المعتزلة ببغداد؛ فقد أقام نظرية ذات مظهر نفساني على شيء من الابتكار، فهو يطلق اسم الشيء على ما هو معروف؛ أي ما يمكن أن يحدث عنه، وللشيء عنده حقيقة مستقلة عن وجوده، وليس الموجود سوى صفة تضاف إلى الشيء؛ فالسواد - مثلا - سواد حتى في العدم، وإن شئت فقل: إن الشيء حقيقي - قبلا - في المعقول البسيط مع ماهيته وصفاته، وإن إيجاد الشيء يحدد بإضافة صفة الموجود إلى هذه الماهية أو الصفات الحقيقية.
وفي مدرسة المعتزلة بالبصرة يتغلب اسمان، وهما: اسم الجبائي المتوفى سنة 303، واسم ابنه أبي هاشم. وينطوي اختلاف هذين العالمين في موضوع الصفات الإلهية على دقة متناهية. وقديما كان العالم الكبير أبو الهذيل قد أزال جميع الصفات حتى في معقول الوجود الإلهي، فيجد أبو هاشم أن هذا المعقول المحض على شيء من الفراغ، ويحاول أن يملأه، وأن يجعل منه صورة عن الله أكثر حيوية.
وعند أبي هاشم أن الصفات وجوه منفصلة عن الوجود، ولكن مع كونها غير موجودة ولا معروفة بنفسها، فلا يمكن أن تكون موجودة معروفة إلا بالماهية الإلهية؛ فالعقل يميز الشيء المعروف بذاته والشيء المعروف بإحدى صفاته. وهذه الأحكام التي يجمع العقل بها الصفات أو يفصلها لا تأتي لتوكيد الموجود وحده ولا لتوكيد الأعراض بجانب الموجود؛ ولذا، فإن الصفات أنواع وجوه ذات وجود نفساني لدى من يعرف الوجود الإلهي، حتى إن نفسانية هذه النظرية مما أنكر الجبائي، وقد لاح للجبائي أن هذه الوجوه ترد إلى أسماء لا تنطوي على معقول ولا على تصورات للنفس نسبية محضا، عاجزة عن المباهاة مثل صفات، وهو يكاد يلزم مذهب أبي الهذيل.
وكان العالم اللاهوتي المشهور، الأشعري (260-324) - الذي يأتي في الذروة من تاريخ اللاهوت الفلسفي لدى المسلمين - تلميذا للجبائي وابنه، ولكن بما أننا لا نريد الكلام عنه في هذا الكتاب فإن من الملائم أن نقف. •••
قلنا إن المعتزلة كانوا أكثر الفرق الإسلامية فلسفة، وإننا لا نتعرض لتاريخ الفرق الكلامية والفقهية والصوفية والسياسية، وتكفي أسطر قليلة عن الفرق المعارضة للمعتزلة للإشعار بأفضلية هؤلاء، ولتمثل الحركة الفكرية الواسعة التي تمت في الدور الذي نتفرغ له، والذي ذكرنا أنه أكثر ما تلتفت إليه الفلسفة الصرفة.
وقد رئي - في مقابل النظرية الاعتزالية القائلة بنفي الصفات الإلهية - قيام نظرية معاكسة توكد هذه الصفات إلى حد تقع به في مذهب المشبهة؛ فيطلق - على العموم - اسم «الصفاتية» على المسلمين الذين يوكدون حقيقة الصفات الإلهية وفق السنة. ولما ظهر النقد الاعتزالي لجأ بعض الصفاتية إلى نظرية حذرة عن الألوهية التي يتعذر إدراكها، فقالوا: لا ريب في أن الله ليس شبيها بالإنسان، وأنه لا مثيل له ولا شريك، وأنه يجهل - كما هو مجمل القول - المعنى الحقيقي لآي القرآن التي تشتمل على صور تشبيهية. ووجد صفاتية آخرون وقعوا - بالعكس - في إفراط عجيب، ومن بينهم نذكر محمد بن كرام، الذي هو مؤسس لفرقة مهمة في سورية على الخصوص، وأصل هذا الوجيه من سجستان، وتوفي سنة 256 بزغر ودفن في القدس.
11
وهو يذهب إلى أن لله جسما ووجها مماثلا لما في المخلوقات، وهو يوضح الصفات الإلهية على الكيفية البشرية . وفي الشهرستاني تفصيلات مطولة عن هذه الفرقة. ويلاحظ الشهرستاني وجود المسائل عنها في اليهودية، حيث يرى أنها حلت حلا تشبيهيا من قبل القرائين.
12
وعلى العموم، تطلق كلمة «الجبرية» - المشتقة من كلمة «الجبر» - على علماء الكلام المعارضين لمذهب حرية الإرادة، ويجب أن يذكر من بينهم جهم بن صفوان، الذي كان يدرس في ترمذ من بلاد ما وراء النهر، والذي قتل في أواخر العهد الأموي. ومن رأي جهم أنه لا سلطان للإنسان على أفعاله، وأنه لا يمكن ألا يوصف بالخضوع لله؛ فالإنسان مكره بالحقيقة، وأنه لا قدرة له ولا إرادة ولا حرية، والله يخلق جميع أفعاله كما يخلقها في الموجودات الأخرى، كما يخلقها في الشجر الذي ينبت، والماء الذي يجري، والحجر الذي يسقط. وأعمال الإنسان الصالحة أو السيئة موجبة، والثواب أو العقاب نتيجة لهذه الأعمال الواجبة.
وترى كيف تبعدنا هذه النظريات الجافية من تحليل مفكري المعتزلة اللطيف ومن الفلسفة الحقيقية.
الفصل الثالث
المترجمون
بدء حركة النقل في عصر المنصور - سير العنعنات الفلسفية الحقيقي - انتشار المذهب اليوناني عند الآراميين - دراسة الآداب اليونانية عند السريان - دور الطبيب سرجيس الرأس عيني - مملكة الحيرة النصرانية - تجاوز العرب حدود صحرائهم قبل الهجرة - حنين بن إسحاق وتلميذاه - جماعة من النقلة - دور الصابئة في حركة الترجمة - ظهور أدب فلسفي قبل ابن سينا. ***
لقد وضعنا في الفصلين الأولين قضية المعضلة السكلاسية؛ أي اللاهوتية المحمدية وتحولاتها المباشرة، والآن نضع ما يقابل ذلك، وهو ما يقوم على إدخال الفلسفة اليونانية إلى الإسلام، وهنا نضطر إلى توسيع نطاقنا كثيرا. ولا يجوز تمثل الفلسفة الإسلامية، حصرا، سواء أمثل نتيجة لبعث مفاجئ ظهر بعد اكتشاف الكتب القديمة أم مثل مواصلة مباشرة للفلسفة اليونانية، وذلك أن أصلها على شيء من التعقيد.
وقد بدأت حركة الترجمة إلى العربية في عهد المنصور (136-158)، وكانت موسوعية، فترجمت المؤلفات العلمية والأدبية والفلسفية والدينية الخاصة بخمسة آداب، وهي: الأدب اليوناني، والأدب العبري، والأدب السرياني، والأدب الفارسي، والأدب الهندي، ولم تدرك المؤلفات الفلسفية أول وهلة، ولم تحز العربية ترجمات لأرسطو كاملة بما فيه الكفاية إلا في زمن الفارابي، في أوائل القرن الرابع من الهجرة.
ولكنك إذا نظرت إلى الأمر من ناحية أخرى وجدت تقاليد التعليم الفلسفي اليوناني قد دامت في العالم الشرقي حتى الوقت نفسه، وبينما كانت المؤلفات العظيمة للدور الكلاسي
1
الراقي منسية أو مفهومة فهما سيئا، كانت الكتب الثانوية للدور المنحط المشتملة على مناهج ذات صبغة سكلاسية واسعة الانتشار. ويلوح لي أنه لم يحاول - قط - بذل جهد كبير ليقام ثانية تاريخ التعليم الفلسفي منذ الزمن الذي عقب أرسطو حتى قيام الفلسفة الكلامية الإسلامية، فلما ظهرت هذه السكلاسية الإسلامية عدت الفلسفة علما وحيدا حيا، متصلا بالعنعنات على الخصوص، لا مجموعة نظم غير ملتحمة. وقد حدث البعث الفلسفي عند العرب بدراسة الكتب القديمة مباشرة على ضوء تلك العنعنات وتحت تأثيرها.
ووجد مؤلفون من العرب كثير - ومنهم الفارابي، كما سنرى - قد أعربوا بصراحة عن الاعتقاد القائل بوحدة الفلسفة المخلوطة - في نظرهم - بالعلم ودوامه. وأشار المسعودي إلى كتاب له قد فقد، مع الأسف، وقال في موضع ما: «كنا ذكرنا كيف انتقل مجلس التعليم من أثينة إلى الإسكندرية من بلاد مصر، وجعل أوغسطس الملك، لما قتل قلوبطرة الملكة، التعليم بمكانين؛ الإسكندرية ورومية. ونقل تيدوسيوس الملك - الذي ظهر في أيامه أصحاب الكهف - التعليم من رومية ورده إياه إلى الإسكندرية، ولأي سبب نقل التعليم في أيام عمر بن عبد العزيز من الإسكندرية إلى أنطاكية، ثم انتقاله إلى حران في أيام المتوكل.»
2
فهذه الأسطر على شيء من الاختصار، ومن المحتمل ألا يكون قد عرض فيها بدقة بالغة سير العنعنات الفلسفية الحقيقي، وإنما تشير - على الأقل - إلى شيء من الروح، الذي يجب أن يكتب به هذا الفصل ويقرأ. •••
لم يكن فرع الأرومة السامية الذي كان يهيمن على الشرق قبل الفتح الإسلامي عربيا، بل آراميا يرد إليه الأدب السرياني، وكان المذهب اليوناني قد تسرب في الآراميين باكرا، وكان لدى هؤلاء كل الوقت لمعاناة نفوذه، وذلك حينما أزاحهم جيرانهم العرب عن سيطرتهم؛ ولذا يكون العرب قد وجدوا العنعنات الفلسفية قائمة - منذ زمن - عند قوم يمتون إليهم بالقرابة، فاستقبلهم هؤلاء القوم بلا عناء، وعلينا أن نوضح هذا الانتقال.
أخذ المذهب اليوناني - منذ أواسط القرن الثاني من التاريخ الميلادي - ينتشر في العالم الآرامي، مجلوبا بالنصرانية واللاهوت. وتم - حوالي ذلك الزمن - نقل الأسفار من العبرية إلى السريانية نقلا يشهد بمعرفة الترجمة السبعينية اليونانية،
3
وكان المرقونيون والفلنتيون، في الوقت نفسه، ذوي أتباع في الرها،
4
ويمر وقت قصير فيقيم بردزان الأدب السرياني في هذه المدينة، ويؤسس فرقة لا يمكن ربطها إلا بالمذهب الأدري، على الرغم من الريب التي أثيرت حديثا،
5
ولما كانت أوائل القرن الثالث، أذعن أسقف في الرها لأسقف أنطاكية، فألحق الكنيسة السريانية بالكنيسة اليونانية
6
بهذا العمل، فقامت منذ هذا الزمن رابطة رسمية بين الآرامية واليونانية.
وظلت مدينة الرها من أسروين (ديار مضر)، والواقعة في الاستدارة الغربية القصوى من الفرات بغرب العراق، مركزا للثقافة الآرامية زمنا طويلا، وأقيمت فيها مدرسة اشتهر أمرها، وكان القديس إفريم (المتوفى سنة 373م) من أعلامها، وكان يتزاحم على هذه المدرسة طلاب من النصارى يقصدونها من مختلف جهات العراق وبلاد فارس المعرضة لمظالم المجوس، وكان يكب على دراسات اليونان المعدودة فرعا من علم اللاهوت، ويؤخذ في القيام بترجمات.
ثم يتغلب المذهب النسطوري على هذه المدرسة، ويغلقها الإمبراطور زنون سنة 489، وينفى الأساتذة والتلاميذ الذين ظلوا متمسكين بإلحاد نسطور، ويتجمعون في جهات أخرى، ولا سيما في نصيبين الواقعة في أرض فارسية،
7
ويقيم كسرى أنوشروان في جنديسابور، من ولاية خوزستان - وذلك حوالي سنة 530م - مجمعا للفلسفة والطب دام حتى زمن العباسيين،
8
وكان أسقف الرها، إيباس، قد درس في المدرسة، وساعد على نشر الإلحاد النسطوري، وقد تم لعمل الترجمة أكبر تشجيع من هذا الوجيه، فلهذا الأسقف وتلاميذه يعد السريان مدينين بالترجمات الأولى عن اليونانية لكتب ديودرس الطرسوسي وتيودور المبسوستي،
9
وكانت هذه فرصة لترجمة كتب أرسطو الكثيرة أيضا، وفسر إيباس نفسه بعضها، وترجم المدعو بروبوس، وشرح «العبارات» وأقساما أخرى من «المنطقيات» لأرسطو على ما يحتمل، وسنلقى مترجمين مشهورين من سريان النسطورية حتى العهد العربي.
ولم يقطع انهيار الرها، مثل عاصمة علمية، دراسة الآداب اليونانية عند السريان التابعين للفرقة القائلة بطبيعة واحدة في المسيح، غير أن الأديار كانت مركزا لهذه الدراسة منذ ذلك الحين. وكان بطريرك أنطاكية القائل بطبيعة واحدة في المسيح - فيلوكسانوس المنبجي - أحد من حرضوا الإمبراطور على تخريب مدرسة الفرس، وقد كان فيلسوفا ولاهوتيا معا. ويقال: إنه يجب أن يبحث في كتبه عن بواكير السكلاسية الأولى،
10
ووجد رجل آخر قائل بطبيعة واحدة للمسيح، وهو أسقف بيت أرشام سيميون، وقد عاش في أوائل القرن السادس، ولقب بالسفسطي الفارسي.
ولكن أطرف شخصية في هذه الفرقة من حيث النقطة التي تهمنا هي شخصية العالم سرجيس الرأس عيني، ويكاد جميع عمله يتألف من ترجمة كتب يونانية، ولا يتصف القس العلامة الأديب الطبيب سرجيس الرأس عيني بطبع يناسب سمو نبوغه، فهو يلام على فساد أخلاقه، ويظهر سلوكه السياسي مذبذبا مركبا من الدسائس، فمع أنه قائل بطبيعة واحدة في المسيح كان صديقا للأسقف النسطوري تيودور المروي، وقام ببعثة دبلمية
11
لدى البابا أغابه، وذلك من قبل بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي، وقد أتى بالبابا إلى القسطنطينية، ومات معه في العام نفسه تقريبا؛ أي سنة 536، وقد تعلم اليونانية في الإسكندرية.
وكان سرجيس الرأس عيني بليغا لغويا، وكان الأول في هيئة الأطباء، وقد ترجم من اليونانية إلى السريانية كتبا في الفلسفة والطب، وترجم قسما من كتب جالينوس، وانتهت منه ترجمة لمقولات أرسطو والإيساغوجي لفرفريوس، ورسالة العالم التي نسبت إلى أرسطو، ورسالة في النفس، مختلفة كل الاختلاف عن رسالة لأرسطو تحمل عين العنوان. وأهدى سرجيس إلى صديقه تيودور المروي، الذي كان عاكفا مثله على الفلسفة المشائية، رسالة أصلية في المنطق. وألف حول «النفي والإثبات»، وحول «الجنس والنوع والفرد»، وحول «علل الكون وفق مبادئ أرسطو»، وتبارى العرب والسريان في الثناء عليه مثل مترجم، وكانوا على حق في هذا، كما رأى أحد العلماء المعاصرين: مسيو فكتور ريسل. فعند هذا العالم أنه يجب عد رسالة «العالم» من قبل سرجيس من بدائع فن المترجم؛ فقد ظهر من مقابلة المتون اليونانية وهذا الأثر كون سرجيس لم يعتمد على مخطوط واحد فقط، بل عول على عدة مخطوطات، عرف أن يدقق فيها تدقيقا انتقاديا.
12
واشتهر بولس الفارسي في الفلسفة في أواخر القرن السادس، وروى ابن العبري أنه ألف مقدمة عجيبة في المنطق قدمها إلى كسرى أنو شروان،
13
وراج سوق تعلم اليونانية في أوائل القرن السابع في قنسرين الواقعة على ضفة الفرات اليسرى، وهناك حوالي سنة 640، شرح الأسقف ساويروس سيبوخت تحليلات أرسطو الأولى وعباراته، ويواصل تلميذان لساويروس سيبوخت أثره، والتلميذان هما: أثناسيوس البلدي (المتوفى سنة 687 أو سنة 688)، والموسوعي الكبير يعقوب الرهاوي (المتوفى سنة 708). وظهر بعدهما أسقف العرب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح في الكوفة جورجيوس، فترجم «المنطقيات» لأرسطو، بيد أننا وصلنا إلى زمن الفتح العربي، فمال الأدب السرياني إلى الزوال.
وهكذا كان السريان على اتصال بالعلم اليوناني خمسة قرون فأساغوا عنعناته، وترجموا متونه وفسروها، وأنتجوا آثارا مهمة في ميدان الفلسفة اللاهوتية. وقد ولدت أشكال الفلسفة السكلاسية بين أيديهم، وازدهرت فنون المنطق في مدارسهم؛ ولذا كان الذهن اليوناني وآثار الأغارقة وعنعناتهم - حين ظهور الإسلام - أمورا قد نقلت إلى عالم يمت إلى العالم العربي بصلة القرابة، وسنرى - عما قليل - أن علماء المسلمين اطلعوا على الثقافة اليونانية تحت إدارة السريان واليعاقبة والنساطرة.
ومن المناسب - قبل إيضاح الكيفية التي تلقى العرب بها العلم من أيدي النصارى على الخصوص - أن نتناول المسألة ثانية من عل، وذلك لإزالة الانطباعات غير الصحيحة التي يمكن أن تكون عالقة بذهن بعض القراء؛ وذلك أن العنصر العربي كان لا يؤلف بنفسه عالما مغلقا على الإطلاق في أثناء الدور الطويل السابق للإسلام، والذي رأينا فيه أن الفرع الآرامي من الأرومة السامية يسيغ النصرانية والثقافة اليونانية.
فمما لوحظ غالبا - وذلك بسبب تاريخ الأصول الإسلامية - أن جنوب جزيرة العرب الغربي - أي اليمن - كان يشتمل في ذلك الدور على عناصر نصرانية، وأنه كان ذا صلات بالمملكة الأفريقية النصرانية: الحبشة. وأهم من ذلك أمر وكد قليلا كما يلوح، وهو توسع العرق العربي نحو الشمال قبل الإسلام، وإقامة دويلات عربية تابعة للإمبراطوريتين ؛ الفارسية والبزنطية، على طول حدودهما.
كان القياصرة والأكاسرة من البراعة بحيث استخدموا بعض القبائل العربية الحضرية؛ ليجعلوا منها متراسا حيال غارات العرب البدويين أو الأعراب. ويروي المسعودي
14
أن عرب قبيلة تنوخ أول من جاء إلى سورية، وأنهم ذهبوا إلى الروم هنالك بعد أن اعتنقوا النصرانية، وأن القيصر عهد إليهم بالسلطان على جميع العرب من الحضر المقيمين بسورية، وتعقب قبيلة السليح قبيلة تنوخ، وتصير نصرانية أيضا، وتزاح بدورها من قبل الدولة الغسانية، التي داومت على الحكم في العرب نيابة عن الروم، وكان ملوك غسان يقيمون باليرموك وغيرها من الأماكن الواقعة بين غوطة دمشق والمحال المجاورة التابعة لهذه المدينة، وقد زالت هذه المملكة حين الفتح الإسلامي، واعتنق الإسلام فريق كبير من العرب.
وكانت مملكة الحيرة مملكة عربية مهمة، يتبع أمراؤها ملوك الفرس، وكانت الحيرة واقعة جنوب بابل وغرب الفرات غير بعيدة من المكان الذي أنشأ المسلمون فيه الكوفة في السنين الأولى من الهجرة، وكان قد جاء عرب باكرا للاستقرار بهذه البقاع، وكان للحيرة قبل الإسلام تاريخ طويل، مثل العنصر النصراني فيه دورا مهما.
15
وكان لملك الحيرة المسمى عمرو بن المنذر، والذي دام عهده حتى سنة 568 أو سنة 569، أم نصرانية، قد تكون من سبايا الحرب، أقامت ديرا في الحيرة في زمن كسرى أنو شروان، ويمكن أن يستدل بكتابة وضعت في هذه الكنيسة على أن هذا الأمير تنصر أيضا،
16
ويمضي على ذلك الزمن وقت قصير، فتكون هذه المدينة مشتملة على عدد قليل من الأسر النصرانية الراقية، وكانت هذه الأسر على مذهب نسطور، ويطلق عليها اسم العبادية، تمييزا لها من الوثنيين.
17
وقد برز في ذلك الحين - على الخصوص - مترجم يدعى عديا العبادي،
18
من قبيلة تميم العربية، فعدي هذا قام بمهنة المترجم من العربية إلى الفارسية لدى كسرى برويز، وكان - فضلا عن ذلك - شاعرا وخطيبا ودبلميا وعنوانا كاملا للثقافة مادة ومعنى لدى الفرس والعرب، ولا بد من أنه كان واقفا - أيضا - على السريانية التي كانت لغة نصارى العرب في ذلك الحين، ويعهد إلى عدي في تربية النعمان بن المنذر ، الذي جلس على عرش الحيرة بفضل ما يتمتع به من نفوذ لدى ملك الفرس، ومن المحتمل أن يكون النعمان قد دخل في النصرانية بفعل هذا النفوذ نفسه، وليس أقل من هذا دوامه على العيش بمبدأ تعدد الزوجات وفق طباع الوثنية، وقد أغوي بمكايد كثيرة قتل مربيه عديا بسببها، وكان من عمل ابن عدي - الوارث لذكاء أبيه ومنزلته عند ملوك الفرس - أن جعل برويز ينتقم من هذا القاتل،
19
فغلب النعمان، وقتل سنة 602 على ما يظهر.
وتمضي على تلك الأمور سنون قليلة، فتقع قبل الهجرة بنحو عشر سنين معركة ذي قار، حيث يغلب الفرس الذين كانوا حلفاء عرب قبيلة تغلب النصرانية، وذلك من قبل عرب قبيلة بكر،
20
ويقضى على مملكة الحيرة. وبسقوط هذا المتراس تجد فارس نفسها بلا سور حيال العرب المسلمين، وتخرب الحيرة عام قيام الكوفة (سنة 15 أو سنة 17 من الهجرة)، وتزول في عهد المعتضد تماما.
قال المسعودي: «وقد كان في هذه المدينة ديارات كثيرة فيها رهبان، فلحقوا بغيرها من البلاد لتداعي الخراب إليها، وأقفرت من كل أنيس في هذا الوقت إلا الصدى والبوم.»
21
ومن ثم ترى أن العرب كانوا قد جاوزوا حدود صحرائهم قبل الهجرة بزمن طويل، ومن العادة أن يشبه الفتح الإسلامي بعمل قوة كانت راقدة في بطن الصحاري زمنا طويلا، فانفجرت بغتة، وقلبت ثلث ممالك الأرض أمامها رأسا على عقب. أجل، إن هذا التشبيه مفيد إذا ما أتي به حصرا، لبيان فكرة ساطعة عن سرعة هذا الفتح، ولكنه إذا ما طبق على تاريخ الثقافة وجد خاطئا، والعكس هو ما يجب أن يذهب إليه، فيقال إن العرب كانوا - حين ظهور الإسلام - على اتصال بكثير من الإمبراطوريات، وإنهم كانوا قد طرقوا باب تلك الحضارة النصرانية، التي سوف يتلقون منها أمانة العلم كيما يعيدونها إليها بعد أن يوجبوا نموها في قرون كثيرة.
وكان محمد يكن احتراما لرجال الدين من مختلف المعتقدات، ويسير علي على غراره، فينعم بامتيازات على كثير من أديار النصارى، وفضلا عن ذلك، فإن القرآن يعترف للنصارى واليهود بمنزلة في ميدان الإيمان، وذلك لحيازتهم كتبا منزلة، ويطلق عليهم لقب «أهل الكتاب»، ويحمل لهم من الازدراء ما هو أقل مما يحمل حيال المشركين. وكانت هذه الأحوال ملائمة لحفظ العلم، فلما تم فتح القدس أنعم عمر على النصارى بمرسوم أو امتياز اتخذ نموذجا لمعظم الخاصة بأهل الذمة من النصارى، وطبق في الإسلام بعد ذلك. وقد انتهى إلينا نص هذا الامتياز مع اختلاف قليل في العبارة، وذلك من قبل كثير من المؤرخين، ولا سيما الطبري.
22
أجل، سمح للنصارى بالمحافظة على كنائسهم، ولكن على أن تكون مفتوحة لرقباء من المسلمين، ومع منع إقامة كنائس جديدة، وعاد لا يجوز دق النواقيس ولا إظهار إشارات دينية جهرا، ووجب على النصارى أن يحتفظوا بزيهم، وألا يلبسوا خواتم ولا زنانير كعلامة فارقة، وحظر عليهم حمل السلاح وركوب الخيل، وكان يمكن هذه التدابير العامة أن تفسر مع التسامح أو أن تؤدي - على العكس - إلى ظلم أليم، وذلك وفق هوى السلطات. بيد أن هذه التدابير كانت قليلة الأهمية في أحوال خاصة، حيث يحبو الأمير المسلم بعض الكفار بحظوة عن ود مباشر، وبما أن العلم من عمل الأفراد خاصة، فإن هذه الأحوال الخاصة هي أكثر ما يهمنا هنا.
وكانت توجد أربعة من المواهب تؤدي إلى نيل من ليسوا بمسلمين حظوة لدى الخلفاء، وهي: المواهب الفنية والمواهب الطبية والمواهب الإدارية والمواهب العلمية. وكان يثنى على حذق النصارى في الحرف، لما لا يوجد لدى المسلمين ما هو في درجته، وكان الخليفة عمر قد خالف تصرفا للنبي بسماحه في جزيرة العرب بوجود أبي لؤلؤة، الذي كان نصرانيا
23
صانعا بالغ المهارة في كثير من الحرف، وقد تحول هذا المقرب إلى قاتل له.
وكان الشعر والموسيقى من الفنون التي يتلذذ العرب بها كثيرا قبل زمن محمد، ولم يكن وعظ القرآن كثير الملاءمة لهما، بيد أن خلفاء بني أمية، الذين كانوا ذوي ارتياب غالبا، هاوين للملاذ، حبوهما بإحسانهم. وكان شاعر بني أمية المفضل نصرانيا اسمه الأخطل، وكان الأخطل من فطاحل شعراء العرب، وكان معاصرا لعبد الملك بن مروان، وكان - من جهة أبيه - ينتسب إلى قبيلة تغلب النصرانية، المستقرة بالكوفة وأذربيجان، وكان - من جهة أمه - ينتسب إلى قبيلة إياد النصرانية، التي استقرت بالعراق باكرا،
24
وكان الأخطل يظهر في بلاط الخليفة مختالا، حاملا صليبا ذهبيا حول عنقه، وفي ذلك الدور كان يتلهى في الكوفة بشرب الخمر على الرغم من تحريم النبي لها، كما كان يستمع إلى الأغاني.
وكان أخو عبد الملك يجلب إليه في هذه المدينة، من مدينة الحيرة المجاورة، الموسيقي النصراني حنينا، فيخلو إليه في أقاصي منازله، محاطا بعشرائه، متوج الجبين بالأزهار.
25
وكان الأطباء الذين يعتمد الخلفاء الأولون عليهم من السريان واليهود عادة؛ وذلك لأنه لم يكن لدى المسلمين من الوقت ما يتعلمون الطب فيه. فعند مروان بن الحكم الأموي نجد طبيبا يهوديا سرياني اللغة اسمه ماسرجويه، وقد ترجم هذا الطبيب رسالة الكاهن أهرن، وكان أهرن
26
هذا طبيبا إسكندرانيا في عهد هرقل، فاتفق لكتابه انتشار عظيم لدى السريان. وكان يوجد بجانب الحجاج - الذي كان قائد عبد الملك الجبار - طبيبان روميا الاسم، وهما تيادوق وثيودون، اللذان خلفا مدرسة.
27
ويمضي زمن فيأمر هارون الرشيد بأن ينبه طبيب هندي ابن عمه إبراهيم، الذي سقط في سبات عميق، على حين كان يترجم له طبيب نصراني اسمه يوحنا بن ماسويه
28
كتب الطب القديمة من السريانية إلى العربية. وكان ابن ماسويه هذا يشرف هو وبختيشوع على الخليفة المأمون وهو يحتضر.
29
وقام النصارى للمسلمين بخدم عظيمة في النظام الإداري، ولولا النصارى ما استطاعت دولة الخلفاء أن تنتظم؛ وذلك أن فاتحي المسلمين، إذ لم يجدوا في عرقهم الخاص غير ذكريات الحياة القبلية وأمثلتها، لم يكن عندهم أية معارف عملية إدارية، فاضطروا إلى تسليم كثير من المناصب إلى النصارى. وترك معاوية - الذي كان داهية سياسيا أكثر من كونه متين الإيمان - في معظم الولايات التي فتح، موظفي النصارى في مناصبهم، مكتفيا بتغيير الحاميات، وسار خلفاؤه على سنته. ونرى المدعو أثناسيوس - الذي كان نصرانيا وجيها من الرها - ينال منزلة كبيرة لدى عبد الملك بن مروان بسبب أهلياته كرجل أعمال.
30
ومنع الوليد بن عبد الملك كتبة الدواوين - الذين كان كثير منهم نصارى - من إمساك سجلاتهم باليونانية، آمرا إياهم أن يمسكوها بالعربية،
31
وشغل سرجيوس منصور أو سرجيون الرومي، الذي أخبرنا المسعودي أنه قام بوظيفة الكاتب عند أربعة خلفاء،
32
مناصب عالية عند المسلمين. وكان لسرجيوس هذا ابن فاق أباه شهرة، وصار أحد آباء الروم ومن أوائل فلاسفة اللاهوت، وهو القديس يوحنا الدمشقي.
وأخيرا؛ غدا العلم والفلسفة لأربابهما سببا للمنزلة لدى أمراء المسلمين، وهم قد دخلوا في الإسلام بفعل البلاطات نهائيا. وإلى الخليفة أبي جعفر المنصور يعود شرف فتح عصر الدراسات العربية الكبير وتزيين الإمبراطورية الإسلامية بنور العلم؛ فقد أمر المنصور بأن ينقل إلى العربية كثير من كتب الأدب الأجنبية ككتاب «كليلة ودمنة»، و«السند هند»، ورسائل أرسطو الكثيرة في المنطق، و«المجسطي» لبطليموس، وكتاب «المقالات» لأقليدس، وكتب أخرى يونانية وبزنطية وفهلوية وفارسية وسريانية.
33
وقد ترجم كتاب كليلة ودمنة من قبل ابن المقفع، الذي كان من أشهر فضلاء ذلك الزمن، ويقال: إنه ترجم من الفهلوية والفارسية كتب ماني وبردزان ومرقون.
34
ويظهر أن العرب حولوا عيونهم - في ذلك الزمن - إلى فارس والهند على الخصوص، كمركزين للعرفان. ومع ذلك، فإن ابن المقفع ترجم خلاصة «العبارات» لأرسطو، وكان هذا العالم نفسه من أصل فارسي، وعاش في البصرة، وجلب إلى نفسه حقد الخليفة بسبب آرائه المشايعة لعلي وذريته؛ فقتل سنة 140.
35
وفي سنة 156 من الهجرة، يدخل هندي إلى بلاط المنصور، ويأتي بكتاب في الحساب والفلك الهندي،
36
واسم هذا الكتاب السندهند، ويترجم إلى العربية من قبل الفلكي الفزاري، ويكون نقطة انطلاق لدراسات العرب الفلكية والحسابية، ويستلهمه الفلكي الكبير محمد بن موسى الخوارزمي بعد زمن؛ أي في عهد المأمون، وذلك في وضع أزياج فلكية ورسائل مزج فيها الطرق الهندية والطرق اليونانية.
ومما روى المسعودي كذلك، أنه في زمنه - أي قبل ظهور ابن سينا - انتشر بين الجمهور كتاب اسمه «ألف ليلة وليلة» ومصدره فارسي، وكان هذا مجموعة أقاصيص غير مطابقة للمجموعة التي لدينا بهذا الاسم.
37
أجل، عرف العرب الفلسفة المزدكية ، بيد أنهم عرفوا - أو فهموا - قليلا جدا من المناهج الهندية، وإذا عدوت التصوف لم تجد نفوذ هذه المناهج محسوسا فيهم.
والمأمون هو الخليفة الذي أتم ما بدأ به المنصور من عمل علمي، وقد كان هذا الأمير كثير الذكاء، كريما، محبا للاطلاع، فحث الناس بقوة على الدراسات، وقد أنشأ - حوالي سنة 217 - مكتبا رسميا للترجمة في «دار الحكمة»،
38
وجعل على رأس هذا المكتب عالما مفضالا، اسمه حنين بن إسحاق، فشغل حنين هذا المنصب في عهد خلفاء المأمون: المعتصم، والواثق، والمتوكل، وولد حنين بن إسحاق في سنة 194 بالحيرة،
39
حيث كان أبوه يمارس مهنة الصيدلة، وكان ينتسب إلى إحدى الأسر العبادية أو النسطورية في هذه المدينة. وقد قصد بغداد، وتلقى دروسه فيها من طبيب معروف.
ولما كان كثير السؤال فقد بلغ من إزعاج معلمه ما رفض معه هذا المعلم أن يجيبه، هنالك انصرف حنين مسافرا إلى بلد بزنطي، حيث أقام عامين، وتعلم اليونانية تماما، وحصل على مجموعة من كتب العلم، ثم عاد إلى بغداد، وساح في فارس، وذهب إلى البصرة لإتقان معرفة العربية، ثم رجع إلى بغداد حيث استقر، واتسعت شهرة حنين، وانحنى أمامه علماء أجلاء، مع أنه كان لم يزل شابا، ووكدوا أنه سيفوق سرجيس الرأس عيني صيتا، وكانت مواهبه كطبيب تعدل أهلياته كمترجم، ويتمسك المتوكل به، ويريد امتحانه فيدفع إليه - ذات يوم - خمسين ألف درهم، ثم يأمره، من فوره، أن يدله على سم شديد يستطيع أن يتخلص به من بعض الأعداء، ويرفض حنين ذلك، ويلقى به في السجن.
ولما طال أمد الامتحان، سأله الخليفة أن يوضح له سبب سلوكه، فأجابه حنين بقوله: «الدين والصناعة؛ فأما الدين فيأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا، وأما الصناعة فتمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس؛ لأنها موضوعة لنفعهم، ومقصورة على مصالحهم.» فلما سمع الخليفة هذا الجواب هدأ بالا، وأفاض على حنين جاها.
ولقي هذا العالم حتفه في نزاع وقع حول مسألة حادة في ذلك الحين، حول عبادة الصور، وذلك أنه وجد ذات مساء، في منزل نصراني ببغداد بين أناس كانوا يحسدونه، وأنه كان يوجد عند هذا النصراني صورة للمسيح، وأمامها مصباح موقد، فقال حنين لصاحب البيت: «لم تسرف في الزيت؟ ليس المسيح هناك، بل صورته»، فقال أحد الحاضرين: «إذا كانت هذه الصورة لا تستحق الإكرام فابصق عليها»، فبصق، وأذيع الخبر، وعد الأمر زلة عظيمة، ويستشير الخليفة، ويسلم العالم إلى أبناء دينه ليقضوا فيه وفق شريعتهم، ويحرم حنين، ويقطع زناره، الذي هو صفة النصارى الفارقة، بيد أنه وجد في الغد ميتا في غرفته، ويعتقد أنه سم (260ه).
وكان لحنين تلميذان، تعاونا معه على عمل الترجمات العظيم، وهما: ابنه إسحاق، الذي نال مثل شهرة أبيه، ومات سنة 298 أو سنة 299، وابن أخته حبيش.
وكان عمل هؤلاء العلماء عظيما جدا،
40
ومن الملائم أن يذكر في أول الأمر نقل التوراة إلى العربية من قبل حنين نقلا عن الترجمة السبعينية. وليس حنين أول مؤلف في ذلك الدور ترجم التوراة إلى العربية؛ فقد كان اليهود ينتفعون بترجمات أخرى، ولا سيما ترجمة رباني طبرية، أبي كثير يحيى بن زكريا، المتوفى سنة 320، وترجمة سعديا الجاءون الفيومي،
41
الذي كان ربانيا مشهورا جدا وتلميذا للسابق، والذي أعيد طبع كتبه حديثا بسبب مرور ألف سنة عليه.
وقد ترجم حنين إلى السريانية عبارات أرسطو، وقسما من التحليلات، وكتاب الكون والفساد، وكتاب النفس، والجزء الثاني عشر مما بعد الطبيعة، وكثيرا من الشروح، وكتبا من جالينوس وبقراط، وإيساغوجي فرفريوس، وخلاصة فلسفة أرسطو لنيقولاؤس، وترجم حنين إلى العربية كثيرا من كتب الطب والعلم لبقراط وجالينوس وأرشميدس وأبلونيوس وغيرهم، كما ترجم من كتب الفلسفة كتاب السياسة وكتاب طيماؤس لأفلاطون، وشرح ثامسطيوس للجزء الثاني عشر مما بعد الطبيعة لأرسطو، والمقولات والطبيعيات والأخلاق لأرسطو، وقد ألف بعض رسائل أصيلة استوحى هذه الكتب في تأليفها.
ونقل إسحاق بن حنين إلى العربية سفسطي أفلاطون، وما بعد الطبيعة لأرسطو، ورسالة النفس، وكتاب العبارات، ورسالة الكون والفساد، وذلك مع شروح كثيرة للإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وأمونيوس.
وكان قبل هؤلاء العظماء قد قدم مترجم قدير اسمه يحيى بن البطريق - وهو ممن أعتق المأمون - ترجمة سريانية لكتاب الحيوان لأرسطو، وترجمة عربية لكتاب طيماؤس لأفلاطون، وكان العرب يعرفون طيماؤسين لأفلاطون، ويقسمونهما إلى أجزاء كثيرة، فلا يعرف بوضوح أي الكتابين يقصدون بذلك، وقد يكون الطيماؤس طيماؤس لقريق مع بعض شروح لجالينوس على فلسفة أفلاطون،
42
وترجم ابن ناعمة الحمصي النصراني إلى السريانية رسائل السوفسطائيين، كما نقل إلى العربية شرح يحيى فيلوبنوس لأجزاء طبيعيات أرسطو الأربعة.
وقدم أبو بشر متى بن يونس خدما ثمينة كمترجم، وقد كان نسطوريا من دير قنى، وتلميذا لرهبان من اليعاقبة، ومات ببغداد سنة 328، وإليه يعود فضل نشر رسائل السوفسطائيين بالسريانية، وترجم من السريانية كتاب التحليلات الثانية، وصناعة الشعر، وشرح الإسكندر الأفروديسي على كتاب الكون والفساد، وشرح ثامسطيوس للجزء الثاني عشر مما بعد الطبيعة، وجعل من نفسه شارحا أيضا، ففسر بالعربية كتاب المقولات، وكتاب الحس والمحسوس، والإيساغوجي لفرفريوس.
وكان قسطا بن لوقا - الذي ازدهر في عهد المعتصم - سريانيا نصرانيا من بعلبك، وقد ذهب للدرس في بلاد اليونان، حيث حصل على كثير من الكتب، وقد نال شهرة عظيمة كعالم ومترجم، ومما ترجم كتاب بلوتارك عن آراء الفلاسفة في الطبيعيات.
43
وتخرج يحيى بن عدي التكريتي، الذي هو نصراني يعقوبي، على المسلم العظيم: الفارابي، واشتهر في الجدليات، وتألق نجمه في عهد المطيع، ومات سنة 364، وقد أكمل كثيرا من الترجمات السابقة، وإليه يرجع الفضل في ترجمات لمقولات أرسطو مع شرح الإسكندر الأفروديسي، والرسائل السوفسطائية، وصناعة الشعر، وما بعد الطبيعة، والنواميس، وطيماؤس أفلاطون، وكتاب ثؤفرسطس في الأخلاق.
وبأبي علي عيسى بن زرعة - الذي هو نصراني يعقوبي آخر - نصل إلى زمن ابن سينا. وقد مات عيسى بن زرعة سنة 398، وقد ترجم إلى العربية - وفق الترجمات السريانية السابقة - المقولات والرسائل السوفسطائية، وكتاب الحيوان، وأقسام الحيوان مع شرح يحيى فيلوبنوس، وكان مؤلفا لرسائل أصلية في فلسفة أرسطو على العموم وفي إيساغوجي فرفريوس.
أجل، كان معظم هؤلاء المترجمين، الذين تكلمنا عنهم من النصارى، بيد أن المسلمين لم يلبثوا أن أساغوا علمهم، وأضافوا جهودهم إلى جهودهم، حتى إنه يلوح - عند الحكم في أمر العرب - أن أبناء دينهم فاقوا النصارى من فورهم في معرفة الفلاسفة الأولين وتفسيرهم، وأن من الواجب أن يوضع، فوق المترجمين الذين ذكرناهم، المسلمين المشهورين: الكندي والفارابي. ومع ذلك، فبما أن هذين الرجلين العظيمين مدينان بمجدهما لعبقريتهما كفيلسوفين أكثر مما لنبوغهما كمترجمين، فإننا سنتكلم عنهما بهذه الصفة في الفصل الآتي. •••
وبقي علينا أن نشغل بالنا بصنف من العلماء لم ينتسبوا إلى النصرانية ولا إلى الإسلام، ولا إلى ديانتي فارس والهند أيضا، بل إلى ملة خاصة، تألق نجمها بعد عهد المأمون، وأقصد بذلك الصابئين.
ولا توجد في حقل العلم الشرقي معضلة أكثر بلبلة، وأشد إثارة للغيظ من معضلة أصل بعض الملل أو الديانات الصغيرة، التي بقيت حية بجانب الإسلام، جارة معها جميع أنقاض كل نوع من المذاهب والمعتقدات القديمة، كالمندائية والصابئية، وديانتي اليزيدية والنصيرية، وتعد الصابئية جديرة بالذكر بين جميع هذه الملل، بعلو مزية الرجال الذين ازدانت بهم، وبسبب ما أظهر هؤلاء الرجال من تمسك بها.
ويوجد في هذه الديانات الصغيرة عناصر كثيرة بعضها قديم إلى الغاية، وبقايا من الوثنية الكلدانية، وأفكار من الأفلاطونية الجديدة ومن الأدرية، وأساطير يهودية وطقوس ترجع إلى أصول النصرانية، ولكنه لم يوصل بعد إلى تقديم صيغ نهائية عن هذه المجموعات الغريبة، ولا إلى رد دقيق مقبول لمختلف الأطوار التاريخية، التي مرت بها هذه الملل، وأجدني محمولا - مع ذلك - على الاعتقاد بأن تأثير هذه الديانات الصغيرة - ولا سيما الصابئية - في الإسلام أعظم مما يفترض أول وهلة، وأبعد غورا في كل حال لا يوافق مؤلفو الإسلام على الاعتراف به.
ويفرق في الآداب العربية بين نوعين من الصابئة: الصابئين الذين ذكروا في القرآن، وصنفهم محمد بين «أهل الكتاب»؛ أي بين الأمم الحائزة كتابا منزلا؛ أي بجانب اليهود والنصارى، والصابئين الذين امتازوا في العلم بعد زمن المأمون، وكان محل إقامتهم الرئيس في حران من العراق، وقد انتهى كلسن، في كتابه الضخم عن الصابئين والصابئية،
44
إلى تطابق صابئة القرآن والحسيحية، التي لم تكن ملة ومطابقة للمندائية كما ذهب إليه، بل كانت كثيرة الشبه بهم .
وكانت الحسيحية قد أقيمت في أوائل القرن الثاني من تاريخنا بجنوب العراق في مكان واسط والبصرة، وذلك من قبل رجل يدعى الحسيح، جاء من شمال فارس الغربي، مشبعا من آراء زرادشت خاصة، وآمرا بشعائر فارسية، وكان العماد والتطهير بالماء شعاري الحسيحية والمندائية الجوهريين، ويشتق اسم الصابئي من كلمة «صابا» الآرامية، التي تجيء بمعنى الاغتسال، ويرى أن لهذا الاسم معنى العماد تقريبا، وكان يوجد للمندائية - الذين نعلمهم أكثر مما نعلم الحسيحية - كتب مقدسة.
وترجم براند إلى الألمانية قسما من هذه النصوص،
45
التي يجب وضع تاريخ كتابتها بين سنتي 650 و900 من الميلاد كما يرى نلدكه؛
46
أي في الدور الذي ننظر إليه ضبطا، وموضوع هذه النصوص العام أدري؛ أي جعل تعارض بين عالم النور وعالم الظلام، فينزل من السماء رسول من ملك النور، ويغوص في الهوة للقضاء على سلطان أمير الظلام.
ومجد ملك النور بهذه الكلمات: «هو الأول، والشامل لما بين الحدين، والخالق لجميع الصور، ومصدر كل شيء جميل، هو المحفوظ بحكمته والخفي غير الظاهر ... هو الضياء الذي لا يتغير، والنور الذي لا يزول ... هو الحياة فوق كل حياة، والسناء فوق كل سناء، والبهاء فوق كل بهاء، بلا عيب ولا نقصان.»
47
ويخرج من أمير النور هذا خمسة أشعة ضخمة طويلة: «فالأول، هو الدين ينتشر على الموجودات، والثاني هو النفس العطر الذي يهب عليها، والثالث هو الصوت العذب الذي يجعلها تهتز طربا، والرابع هو كلمة فيه التي يهذبها بها ويربيها، والخامس هو جمال صورته الذي تنمو به كما تنمو الثمرات بالشمس.»
48
وولد ماني في المندائية، فما بين عالم النور وعالم الظلام من عراك، وفق المانوية، ذو شبه كبير بما يقرأ في كتب المندائية.
49
فعند ماني أن ملك جنة النور سلح الإنسان الأصلي بالعناصر الخمسة المنيرة، وهي: النفحة العذبة، والريح، والضياء، والماء، والنار، وقد سلح الشيطان الأصلي بالعناصر المظلمة، وهي الدخان، والفحمة، والعتمة، والإعصار، والغيم، وفي الأسفار المندائية وصف نزول رسول النور إلى الجحيم وصفا حماسيا وبتنغيمات غريبة، ترى من خلالها رموز آشورية قديمة أيضا.
وكانت الملة الأخرى التي اتخذت الصابئية اسما لها، والتي كان مركزها الرئيس بحران، ملة مشركة تعبد النجوم. ويروى
50
أن الخليفة المأمون كان ذاهبا لغزو دولة الروم في سنة 215، فمر من حران، فدهش إذ رأى بين أهلها الذين أتوا لتحيته أناسا ذوي زي غريب؛ أي لابسين ثيابا ضيقة وطويلي الشعور، فسأل الخليفة هؤلاء الرجال عن أصلهم فأجابوه: نحن حرانيون، هل أنتم نصارى؟ كلا. يهود؟ كلا. مجوس؟
51
كلا. هل لكم كتاب مقدس أو نبي؟ فأتوه بجواب قائم على المراوغة، فقال الخليفة صارخا: إذن، أنتم زنادقة. وبما أنهم طلبوا أن يدفعوا الجزية، فقد صرح لهم بأنه لن يطيق وجودهم ما لم يسلموا أو يعتنقوا - على الأقل - أحد الأديان التي كان النبي قد بين أنه يمكن المسامحة فيها، وإن لم يفعلوا ذلك فإنه يبيدهم عن بكرة أبيهم.
وقد منح الخليفة أهل حران - كيما يقطعون في الموضوع - جميع الوقت الذي ينقضي حتى رجوعه، وقد مات في طريقه، غير أنه كان من الممكن إثارة المسألة في كل وقت، ولا بد لأهل حران من البت، فاعتنق بعضهم الإسلام والنصرانية، وتردد طويلا عدد كبير منهم كان متمسكا بدينه، فنجا من الورطة بفضل عالم مسلم كان يقيم بحران، فقد قال لهم هذا العالم: «إنه يوجد دين معروف قليلا جدا، وإن النبي سمح به، وهذا الدين هو دين الصابئين، وهو دين لا يعرف ما هو مطلقا، فانتحلوا اسمهم، فإذا فعلتم ذلك لم يعارضكم أحد، وعشتم مطمئنين.» وهكذا رئي في زمن خلفاء المأمون ظهور جماعات صابئية في حران وفي أماكن أخرى كانت مجهولة سابقا، ولم يكن بينها وبين المندائية أية صلة كانت.
وقديما كان أهل حران قد تعرضوا لأخطار عظيمة في عهد الرشيد؛ وذلك أنه وجد في معبدهم - كما يزعم - رأس بشري مجفف، مزخرف بشفتين من ذهب، كان ينفعهم في كشف الغيب، ففكر في استئصالهم، فأقاموا بهذه المناسبة مذخرا من البلايا.
وقد اطلعنا على مذهب صابئة حران بمصدرين رئيسين، مستقل كل منهما عن الآخر وهما: الفهرست الذي هو مجموعة عربية مهمة عن تاريخ العلوم ألفها النديم، وكتاب الشهرستاني الذي صار مألوفا لدى قرائنا، ويقوم أساس هذا المذهب الديني على عبادة أرواح النجوم مع اتباع علم التنجيم والسحر له، وهذه مواصلة للوثنية البابلية، كما قال مسيو دوغويه.
ومع ذلك، فإن هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد - من قبل العلماء على الأقل - بأن هذه الوثنية كانت قد قامت على أفكار مستنبطة من الأفلاطونية الجديدة أو الأدرية، ولم يتفق العلماء على معرفة هل كان أهل حران موحدين، أو مشركين حقا. وأما مذهب الصابئة، الذي روى مؤلفو العرب خبره، فمن الواضح أنه رتب نحو التوحيد، فآلهة السيارات تابعون لإله عال، يكونون بالنسبة إليه كأرواح الأدريين تقريبا، ومن الدعاء إلى برج الدب الأكبر استنجاد هذا البرج باسم القوة التي وضعها فيه خالق الجميع، ويتوسل إلى المشتري «بسيد البناء الرفيع وصاحب اللطف والخيرات والأول بين الجميع والأبدي الوحيد»، وتدعى الشمس بعلة العلل، وهذا لا يعني أنها الإله الأعلى.
وعند النديم أن أهل حران كانوا قد انتحلوا - حول الهيولي والعناصر والصورة والزمان والمكان والحركة - كثيرا من الآراء المشائية، فيقولون: إن الأجسام التابعة مركبة من العناصر الأربعة العادية على حين صنع الجسم السماوي من عنصر خامس، وعندهم أن الروح جوهر خال من عوارض الجسم، وأن الله ضرب من اللامعلوم غير الحائز لصفة، فلا يمكن أن ينطبق عليه أي حكم ولا برهان.
ويروي الشهرستاني أن النفس المشتركة بين الناس والملائكة لدى الحرانيين هي على خلاف النفس الحيوانية، فهي جوهر لا جسمي، متم للجسم ويتحرك بحرية،
52
وهي تكون في حال الفعل عند الملائكة وفي حال القوة عند الإنسان، ويكون العقل وظيفة أو شكلا لهذه النفس التي تدرك جواهر الأشياء المجردة للهيولي، ويكفي هذا - بين كثير من مختلف الأنباء - لإثبات كون الصابئة قد اقتطفوا العنعنات الفلسفية الكبيرة.
وفي موضع آخر يوجد في نظامهم، كما في نظام المندائيين،
53
اختلاف بارز بين النور والظلام وفق العنعنات المانوية، فهم يقولون على رواية الشهرستاني: «إن الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية كثيفة ... فعالم الروحانيات العلو لغاية النور واللطافة ، وعالم الجسمانيات السفل لغاية الكثافة والظلام، والعالمان متقابلان، والكمال للعلوي، لا للسفلي، والصفتان متقابلتان، والفضيلة للنور لا للظلمة.»
ويعترف الصابئة بوجود نبيين من أصل مصري، وهما: عاذيمون، وهرمس. وكان الصابئة أسطوريين متفوقين، وأعتقد أن هذه الصفة أصيلة في ملتهم، وأنهم لم يبسطوها لإرضاء المسلمين فقط، مغالين في أقاصيصهم، وإنما أرى العكس، فأقول: إن القصص التي تبدو في القرآن آتية من التوراة، أو من موضع آخر قد أحكمت وفق ذهن الصابئة، ولا ريب في أن هؤلاء ساعدوا على انتشار مبدأ التدرج النبوي في الفرق الإسلامية، هذا المبدأ الذي أدى إلى ظهور كثير من الإلحادات. ومع ذلك فإن دراسة هذه العوامل لا تزال محتاجة إلى جد أكثر مما في السابق.
وأشهر صابئي حران، الذين يستحقون أن تحفظ أسماؤهم بسبب الخدم التي قاموا بها في ميدان العلم هو ثابت بن قرة، المولود سنة 221 على الراجح، والمتوفى سنة 288ه، وكان ثابت بن قرة ينتسب إلى أسرة كبيرة، وكان بدء حياته في حران، حيث زاول مهنة الصرافة، ثم عاش في كفر توثا، فأتى الفلكي محمد بن موسى بن شاكر به إلى بغداد ليقدمه إلى الخليفة المعتضد قبل جلوسه على العرش، ثم بقي ذا منزلة كبيرة لدى هذا الأمير، وقد انتفع بما نال من اعتبار، فأقام جمعية صابئية ببغداد، وقد عد العرب ذا النفس الموسوعية، ثابت بن قرة، فيلسوفا قبل كل شيء.
ومن دواعي الأسف أن عدنا غير حائزين لآثاره الفلسفية، وقد ضمنت مؤلفاته الهندسية - التي نعرف بعضها - مكانا مهما له في تاريخ الرياضيات، وكان يعرف العربية والسريانية واليونانية، وامتدح ابن العبري - الذي يمكن عده حكما منصفا - أسلوبه في السريانية، ويثني الفلكي أبو معشر على أهلياته في الترجمة. ويروى أنه أصلح إصلاحا عجيبا كثيرا من الترجمات السابقة، وقد بلغ الغاية خصبا، ويعزو ابن العبري إليه 150 رسالة بالعربية وست عشرة رسالة بالسريانية، وكان قد كتب عن ديانته كتابا، يجب أن يرثى لضياعه، ولكنه سار وفق ذهنية ملته، فعكف بعض العكوف على التنجيم ومخالطة الأرواح.
وأحصي لثابت كثير من الكتب الرياضية. وأما ما يتعلق بالفلسفة - على الخصوص - فقد ترجم قسما من تفسير برقلس على وصايا فيثاغورس الذهبية، كما ترجم كتاب الجوامع لجالينوس، وبحث في المقولات والتحليلات الأولى والعبارات لأرسطو، وألف رسالة في الحجة المنسوبة إلى سقراط، ورسالة أطرف من هذه في حل رموز كتاب السياسة لأفلاطون.
ولثابت كثير من التلاميذ، اتفق بعض الشهرة لاثنين مفضلين لديه منهم، وهما: ابن أبي الطانا اليهودي، وعيسى بن أسيد النصراني، ومن ثم يرى أنه كان يوجد بين العلماء ود حقيقي لا ينافي أي دين، فيقضي العجب من تمثل عالم صابئي يلقي دروسا على تابع لموسى وتابع لعيسى تحت رعاية الخليفة المسلم. وما انفكت أسرة ثابت بن قرة تشغل بعده مكانا عاليا عدة أجيال، وقد ألف سنان بن ثابت - بين كثير من الكتب - رسالة في سيرة أبيه، وكان سنان هذا صديقا للمسعودي.
وظهر صابئي آخر، نال شهرة كبيرة أيضا، ولكن مثل عالم على الخصوص، وهو محمد بن جابر البتاني، ومن المحتمل أن كان أصله من «بتنان سروج» بالعراق، وقد عاش في الرقة، وقد كان رياضيا وفلكيا مفضالا، واتفق لأزياجه الفلكية صيت بعيد في جميع القرون الوسطى، التي كانت تذكره باسم
Albategnus ، ويرى أنه كان يعرف اليونانية، وشرح المقالات الأربع لبطليموس، وقوم المجسطي، وكتبا كثيرة لأرشميدس، وقام البتاني بأرصاده بين سنة 264 وسنة 306، وكان ذا صلة بجعفر بن الخليفة المكتفي.
وكان أبو جعفر الخازن، وأكثر ما يكنى بابن روح، رياضيا أيضا، وكان فلكيا وعلى شيء من الفلسفة، ونقل من السريانية إلى العربية شرح الإسكندر الأفروديسي للجزء الأول من طبيعيات أرسطو، وأعيد النظر في هذه الترجمة من قبل يحيى بن عدي، وكان ابن روح صديقا للفيلسوف المسلم: أبي زيد البلخي، الذي سنلقاه في الفصل الآتي.
ولذا؛ فإنه يمكن أن يلاحظ في ملة الصابئين المذكورة الممتعة اتصال الفلسفة بدراسة العلوم الهندسية والرياضية والفلكية اتصالا وثيقا. أجل، إن هذا الظرف كان يشتق في الظاهر من عادة هؤلاء العلماء القديمة في عبادة النجوم ورصدها، بيد أنه كان كذلك على اتفاق مع روح الأفلاطونية الجديدة. •••
ويظهر من هذا الفصل - الذي تكمل نتائجه فيما بعد - أنه كان لدى الشرقيين - قبل زمن ابن سينا - أدب فلسفي كثير الغنى قليل الامتزاج.
وكان أرسطو يسيطر عليه، وكان أرسطو يظهر فيه بكتبه الخاصة وبشراحه: الإسكندر الأفروديسي وثامسطيوس وأمونيوس ويوحنا فلبونس، وكان هذا الأخير - المعروف جيدا لدى العرب باسم يحيى النحوي - يسوق المدرسة اليونانية حتى عتبة الإسلام. والواقع أنه مات قبل الهجرة بسنين قليلة، حتى إن القصة الإسلامية تمد في أيامه، وتأتي به أمام فاتح مصر الهائل، عمرو بن العاص، كيما يتوسل إليه أن يبقي مكتبة الإسكندرية.
ويأتي بعد أرسطو أفلاطون، الذي يصعب فهم فلسفته أكثر من فلسفة أرسطو، والذي تعد فلسفته أقل مادية وأقل حفظا بالعنعنات المدرسية، فكان العرب أقل اطلاعا عليها مما على فلسفة خلفه لا ريب، ويأتي دون هذين الأستاذين موكب على شيء من عدم الالتحام يماز فيه الأفلاطوني الجديد فرفريوس، والطبيب جالينوس، والفارسي ماني، والأدري مرقون، وكثير غيرهم أيضا، وكان ينشأ عن هذا المجموع عنعنات فلسفية توفيقية كثيرة القرب من الأفلاطونية الجديدة.
ويصرح المسعودي تصريحا كافيا بأن الفلسفة الأكثر اعتبارا في زمنه (وقد توفي سنة 345)، هي فلسفة فيثاغورس،
54
ويجب أن تكون الأفلاطونية الجديدة هي المقصودة، وما سنقول عن الفارابي سيأتي مؤيدا لهذا البيان الموكد على ما أعتقد، وكان السريان يولعون بالأدب الحكمي، الذي يلائم انتشار الأفلاطونية الجديدة التوفيقية، فتجد مجموعات الأمثال التي يظهر فيها فيثاغورس وأفلاطون ومناندر وسكندوس إقبالا كبيرا.
55
ولا يتفق لهذا الطراز مثل ذاك الاعتبار كما يلوح. ومن دواعي الدهش - على ما يحتمل - كون العنعنات الأفلاطونية الجديدة السائدة للعرب لم تحو- على رأس مؤلفي اليونان الذين عرفوهم - اسم فلوطين المعدود من أهم أساتذة الأفلاطونية الجديدة، والواقع أنه كان من النادر ذكر فلوطين من قبل العرب الذين كانوا يميزونه - مع ذلك - بلقب «الشيخ اليوناني»،
56
ومع ذلك فإن اسم فلوطين - إذا ما جرد من حروف العلة - على حسب عادة المؤلفات السامية، شابه اسم أفلاطون مشابهة مؤلمة، فحدث غير مرة أن احتمل أفلاطون - الذي هو أشهر الاثنين - مسئولية آراء شبه سميه، حتى إن هذا حدث لأرسطو، مع أن السبب أقل من ذلك كثيرا، وذلك أن كتابا، لم يشتمل بالحقيقة على غير مقتطفات من الجزء الرابع والجزء السادس من كتاب الإنياد لفلوطين، ترجم في ذلك الزمن، فانتشر تحت اسم أرسطو في القرون الوسطى، ولا مراء في أن ذلك من أغرب القصص عن الاختلاق في الفلسفة، وهو يستحق أن نقف عنده دقيقة قبل إغلاق هذا الفصل.
وعلم اللاهوت (الأثولوجيا) لأرسطو،
57
وهذا هو عنوان الكتاب، قد ترجم إلى العربية من قبل ابن ناعمة الحمصي حوالي سنة 226. وقد أعاد الكندي الشهير النظر في هذه الترجمة من أجل أحمد بن الخليفة المعتصم، واتفق لهذا الكتاب رواج كبير في الشرق، وتكلم عنه اليهودي موسى بن عزرا، مطلقا عليه اسم بدلاخ، الذي يرجح أنه ليس شيئا غير كلمة أثولوجيا المحرفة بنقل نقاط شكلية، وقد شرح باللاتينية في عصر النهضة هنا، وظهر برومة سنة 1519 تحت عنوان «علم اللاهوت أو الفلسفة الصوفية للعلامة أرسطو على رواية المصريين، وقد وجدت مؤخرا، ونشرت باللاتينية بعد التهذيب والتنقيح». وقد أعيد طبعه بباريس سنة 1572.
وإليك مع الاختصار، كيف تظهر هذه «الأثولوجيا»، وهي على سوء انتظامها تسيطر عليها معضلة الواحد والتعدد، كما يلوح بسرعة. «فالواحد الخالص هو علة جميع الأشياء، وهو ليس أحد الأشياء، وإنما هو مبدأ كل شيء، وهو ليس الأشياء بنفسه، وإنما ينطوي على جميع الأشياء»، وكل يصدر عنه، فالعقل يصدر عنه في البداءة بلا واسطة، ثم إن جميع الأشياء التي في العالم المعقول الأعلى تصدر عن هذا العقل، ثم إن الأشياء التي في العالم الأسفل تخرج من أشياء العالم المعقول، وهي تخرج من الواحد بوساطتها.
ويجب أن يدرك على الوجه الآتي هذا الصدور عن العقل الأول، وذلك أن الموجود الأول يقف بعد خروجه من الواحد، ويلقي نظراته على الواحد ليراه، فهنالك يصير عقلا، وتصير أفعاله مشابهة لأفعال الواحد المحض؛ وذلك لأنه بعد أن يلقي نظراته على الواحد، ويراه وفق قدرته يفيض الواحد عليه قوى كثيرة كبيرة ، وهنالك تخرج صورة النفس من العقل من غير أن يتحرك العقل، وكما خرج العقل من الواحد المحض من غير أن يتحرك الواحد؛ ولذا فإن النفس معلول لمعلول، وهي تعود عاجزة عن إحداث الفعل من غير حركة، ويكون ما تحدث زائلا، وسنرى فيما بعد أن فلاسفة العرب تمسكوا بهذه النظرية.
والنفس التي تخرج من العقل هي صورة العقل، ولا يقوم عملها إلا على معرفة العقل والحياة، التي تجعلها تفيض على الأشياء بدورها. والعقل العام كالنار، والنفس العامة كالحرارة التي تشع من النار حولها، ويسمى عمل النفس صورة. ومتى أرادت النفس أن تنتج نظرت إلى خيال الشيء الذي تريد أن تنتج، وهي بهذا النظر تمتلئ قوة ونورا، ثم تتحرك إلى الأسفل وتكون الصورة التي تخرج منها محسوسة. وهكذا فإن النفس تكون متوسطة بين عالم العقل والعالم المحسوس مرتبطة فيهما، وهي عندما تتحول عن تأمل العقل لتتجه إلى الأشياء السفلى تنتج الأفراد وفق مراتبهم؛ أي تنتج أفراد عالم الكواكب وأفراد العالم الأرضي. ولكل موجود في العالم السفلي مثاله في العالم العقلي. أجل، تكون النفس - التي هي رابطة ما بين العالمين - جميلة بالنسبة إلى المحسوس لتعلقها بالعقلي، وتكون بشعة بالنسبة إلى العقلي لتعلقها بالمحسوس، بيد أن صورة النفس جميلة دائما، ويصدر جمال الطبيعة عن جمالها.
والحياة خاصة بالنفس، وهي غير خاصة بالأجسام التي هي زائلة، والنفس مكانها في العقل، وفي العقل العام جميع العقول وجميع الحيوات. وكما أن جميع الموجودات التي هي دون العقل العام - أي الكل خلا الواحد الساكن - هي ضمن العقل العام، تكون جميع الطبيعات الحية في الحي العام الذي هو النفس، وتشتمل كل حياة على حيوات كثيرة، ولكن كلا منها أقل من التي تقدمتها وأضعف، ولا تنفك الحياة تسيل، حتى تصل إلى أصغر ما يكون من طبيعة وأضعف، وتهبط القوة العامة فيها، وهذا هو الفرد الحي، وهكذا فإن جميع الأشياء المتباعدة مرتبة مجتمعة عن حب. ويجمع الحب الحقيقي - الذي هو العقل - جميع الموجودات المعقولة الحية ، ويجعلها واحدة، وهي لا تنفصل مطلقا لما لا يوجد شيء يعلو هذا الحب، فالعالم الأعلى هو حب خالص.
هذه هي الأفكار التي كان عرب القرن الرابع من الهجرة يعزونها إلى أرسطو، والآن يدرك كيف أن الفلسفة استطاعت أن تعلمهم كواحد كل مركب متباين على شكل موافق يدرك إدراكا مزجيا. أجل، كانت الفلسفة واحدة، ولكن مع وجود ألف وجه لها، وقد كانت تمتد من الاختبارية الأكثر وضعية إلى الصوفية الأكثر حمية. وكان الفيلسوف الكامل هو الذي يدرك انسجام وحدة هذه الوجوه المختلفة أحسن من غيره. وكانت المعضلة الفلسفية توضع في ذلك الزمن على هذا الوجه كما هو مجمل القول. ومهما يكن من إمكان محاولة عدها غير معقولة، فإنه إذا ما أريد إعمال الخيال وتمثل الشرق، الذي هو بلد المزج والتركيب والتأليف اعترف - بعد فحص الأمر من جميع وجوهه - بأنها لم تعوزها شاعرية ولا عظمة، تحت هذا الشكل.
الفصل الرابع
الفلاسفة والموسوعيون
معنى الفيلسوف وظهور بعض الفلاسفة قبل ابن سينا - الكندي والفارابي - أبو زيد بن سهل البلخي - كتب الفارابي وأثره العلمي والفلسفي - ما بعد الطبيعة عند الفارابي - المدينة الفاضلة - نظرية المعرفة - جماعة إخوان الصفا. ***
ليس لاسم الفيلسوف في الأدب العربي ما له في لغتنا من معنى عام مبهم، ولم يكن أولئك الذين سماهم العرب «فلاسفة» نسخا عن اليونانية جميع الباحثين عن الحقيقة، ولا جميع مديري الفكر والعقلاء والنظريين، فقد دعوا هؤلاء بالحكماء. وأما الفلاسفة - بحصر المعنى - فقد كانوا مواصلي العنعنات الفلسفية اليونانية المعدودة واحدة على الخصوص؛ فعند هؤلاء كانت الفلسفة اليونانية صحيحة صحة الوحي، وكانوا يرون أنه يوجد - على البداهة - اتفاق بين الفلسفة والعقيدة، كما بين العلم والدين في نظر المؤمنين في أيامنا.
بيد أن الفلسفة اليونانية كانت تشتمل بالحقيقة، على جملة من الأفكار المركبة المتباينة، وأنه ليس من السهل - دائما - أن يرى، أول وهلة، كيف يمكن هذه النظريات أن تلائم علم الكلام الإسلامي؛ ولذا يجب أن تكون إحدى النتائج المهمة لعملنا قائمة على الإشعار بالمدى الذي حقق فيه هؤلاء العلماء ما بين الفلسفة اليونانية والأرتدكسية الإسلامية من الانسجام، وما الحد الذي أخفقوا فيه.
ويقدم الشهرستاني
1
قائمة بأسماء عشرين رجلا استحقوا - في الأدب العربي - لقب «الفيلسوف» قبل ظهور ابن سينا، وتعرف في هذه القائمة أسماء رأيناها في فصل المترجمين؛ أي أسماء حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، ويحيى بن عدي. ولم يكن هؤلاء الحكماء مسلمين، وأشهر المسلمين الذين ذكرهم الشهرستاني مع أولئك اثنان، وهما: يعقوب بن إسحاق الكندي، ومحمد أبو نصر الفارابي. والكندي والفارابي هما العميدان الكبيران اللذان يهيمن اسماهما على الدور التدريجي للفلسفة العربية الممتد مدى القرنين السابقين لابن سينا.
وعلى ما نال يعقوب بن إسحاق الكندي من شهرة واسعة في الشرق، وعلى ما وجدت هذه الشهرة من صدى في الغرب، فإننا لا نعرف عنه غير أمور قليلة كما هو حاصل القول. ولذا فإننا نخشى أن يتعذر علينا إعادة صورته إليه مع شيء من القوة.
وقد لقب الكندي بفيلسوف العرب، وهو مدين بهذا اللقب لكونه واضعا سلالة الفلاسفة لدى المسلمين، ولصفاء أصله العربي، وكان سليل أسرة مشهورة، وكان ينتسب إلى قبيلة كندة الكبيرة، التي هي من نسل قحطان. ويدلنا تاريخ آله، الذي عني به المستشرق فلوغل،
2
على جده السادس - من جهة الأب - آتيا على رأس سبعين فارسا في السنة السادسة من الهجرة، كيما يدخل في الإسلام؛ فعد بهذا بين صحابة النبي، وكان آل كندة يسكنون اليمن قبل ذلك الزمن، وهاجر أجداد مؤلفنا الأدنون إلى كلدة، وكان أبوه أميرا على الكوفة في عهد الخليفتين: المهدي والرشيد، وكان جده أميرا على كثير من المدن، وكانت أملاكه المهمة في البصرة، ويرى أن فيلسوفنا ولد فيها. وذهب الكندي في شبابه إلى بغداد ليدرس فيها، ولا يعرف على أي الأساتذة تخرج، وإنما لا يوجد أي شك في تخرجه على يد معلمين من النصارى.
ونعلم من الإشارات القصيرة، التي وردت عن سيرته من قبل القفطي وابن أبي أصيبعة أنه صار بعد ذلك ذا صلة بالخلفاء، ودخل في خدمتهم مثل أديب، وكان أخص ما نال من منزلة عند المعتصم وعند أحمد بن المعتصم، الذي أهدى إليه كثيرا من مؤلفاته. وقد صار في أواخر حياته هدفا لحملات واضطهادات جلبها إليه الحسد والتعصب لا ريب. وقد مقته الفلكي أبو معشر، ثم صالحه وصار تلميذا له، ومعجبا به، وكذلك كاد له أبناء موسى بن شاكر الرياضيون، ويعتقد أن الوفاة حضرته في عهد المعتمد
3
حوالي سنة 260.
وكان الكندي مترجما مهما، وموسوعيا منتجا، يندر وجود من يعدله خصبا.
وقد جمع فلوغل قائمة بكتبه، فوجد أنها بلغت رقم ال 265 الضخم، المشتمل على قسم عظيم من علوم زمنه، وقد ترجم الجزء الرابع عشر مما بعد الطبيعة لأرسطو، وشرح التحليلات الأولى والثانية، وتلخيص الرسائل السوفسطائية، وكتاب الأبولوجيا المدسوس على أرسطو، ولخص صناعة الشعر لأرسطو، وصناعة الشعر للإسكندر الأفروديسي، والعبارات، والإيساغوجي لفرفريوس، وألف رسالة في المقولات.
وتشهد عناوين كتبه على عمله الجبار في شرح الكتب اليونانية وتطبيقها، ويمكن أن يذهب إلى أنه لم يأل جهدا في استخلاص جوهرها وإيضاحه، وتبسيط مذاهبها، وتنسيق هذه المذاهب. وكان موضوع إحدى رسائله «ترتيب كتب أرسطوطاليس»؛ أي الترتيب الذي يجب أن تدرس به على ما يظهر.
وقد عني الكندي بالفلسفة السياسية؛ فألف نظرية في الأعداد التوافقية، التي ذكرها أفلاطون في كتاب السياسة، وكان الكندي جدليا ماهرا، وبهذا تفسر كثرة أعدائه أيضا.
ويعد عمله العلمي - على الخصوص - من الأهمية بمكان، ويخمن أنه ترجم كتاب جغرافية بطليموس، الذي كانت توجد له ترجمة سريانية سابقا،
4
وأحصى مقالات أقليدس، وألف عن كتب هذا العالم الهندسي وعن المجسطي لبطليموس. وكثر عدد مؤلفاته في الرياضيات والفلك، وعني بالآثار العلوية؛ وذلك بسبب ما أخذ على نفسه من مناهضة الأفكار المانوية في تركيب السماء ونظرية النور والظلام.
وفضلا عن ذلك، فقد حمل على المانوية في مؤلف خاص، ولم يكن الطب غريبا عنه، وإن لم يزاوله على ما يظهر، ثم إنه عرف الموسيقى، وعلم هذا الفن علما وعملا. ويتألف من أهليات الكندي العلمية إحدى مميزات عبقريته، ويظهر أنه بذل مثل تلك العناية بالعلوم الطبيعية والعلوم النظرية، عادا إياها أساسا ضروريا للفلسفة وقسما متمما لها، ويحمل أحد كتبه عنوان «لا تنال الفلسفة إلا بعلم الرياضة». ولا يرى أنه التفت إلى التصوف كثيرا، خلافا لكبار الموسوعيين الآخرين.
وحديثا نشر الدكتور ألبينو ناجي ترجمات لاتينية لثلاث رسائل ألفها الكندي،
5
فاثنتان من هذه الرسائل تحملان عنوان الجواهر الخمسة والعقل، وتعالج النظريات المألوفة في السكلاسية العربية. ومن الممتع إظهار الحال التي تبدو بها هذه النظريات في القرن الثالث من الهجرة بقلم فيلسوفنا. فالجواهر الخمسة - التي يرى من الأصلح أن يعبر عنها بكلمة أكثر لزوما؛ أي بالأشياء الخمسة - هي التي توجد في جميع الجواهر كما قيل، وهي الهيولي، والصورة، والحركة، والزمان، والمكان.
وأسلوب الكندي في هذه الرسائل متين، كثير الإيجاز، غير خال من الجمال، وإليك كلمته - على علاتها - عن الهيولي: «الهيولي، هي ما يقبل ولا يقبل، والهيولي هي ما يمسك ولا يمسك، والهيولي إذا ارتفعت ارتفع ما هو غير لها، وأما إذا ارتفع ما هو غير لها فهي نفسها لا ترتفع، ومن الهيولي كل شيء، وهي ما يقبل الأضداد دون فساد، والهيولي ليس لها حد بتة.»
وللصورة صنفان؛ فأما أحدهما فيؤلف الجنس، ولا يكون قسما من المبادئ البسيطة التي نتكلم عنها، وأما الآخر فيصلح لتمييز الشيء من جميع الأشياء الأخرى بالجوهر والكمية والكيفية وبقية الأجناس العشرة، وهناك الصورة التي تؤلف كل شيء، «وتوجد في الهيولي البسيطة قوة، بها تكون الأشياء من الهيولي، وتلك القوة هي الصورة، وفي هذا دليل على أن الصورة موجودة بالقوة، فمثلا من الحرارة واليبوسة اللتين هما بسيطتان - إذا اجتمعتا - تكون النار، وإذن فالهيولي في الحرارة واليبوسة البسيطتين. أما الصورة فهي النار، ولكن القوة هي تلك التي - إذا اجتمعتا - تصير بالهيولي نارا ... فأقول - إذن - إن الصورة هي الفصل الذي به ينفصل شيء عن الأشياء الأخرى بالبصر، والبصر هو علم ذلك.» ولا يدل هذا التحديد على فهم تام لرأي أرسطو، ولا على حيازة كاملة للفكرة السكلاسية، وإنما يشعر هنالك بنظرية في طريق التكوين. ومع ذلك، فإن من الصواب أن يذكر أن لاتينية هذه الترجمة رديئة .
ويميز مؤلفنا ستة أنواع للحركة وفق العنعنات المشائية، وهي: حركة الكون والفساد في الجوهر، وزيادة الكمية ونقصانها، وتغير الصفة، والحركة في المكان، مستقيمة كانت أو دائرية. وكان تحديد المكان يزعجه كما كان يزعج أرسطو، فقد قال: «أما المكان، فقد اختلف فيه الفلاسفة بسبب غموضه وخفائه، فقال بعضهم: إنه لا يوجد مكان بتة، وقال بعضهم إنه جسم كما قال أفلاطون، وقال بعضهم إنه موجود، لكنه ليس جسما.» ورأى اتباع رأي أرسطو، فرفض الرأي القائل إن المكان جسم، وقال: «إن المكان هو السطح الذي هو خارج الجسم.» ويكون المكان هيولي ذات بعدين، ويلاحظ الكندي - كعالم طبيعي - أن المكان لا يزول برفع الجسم، فالهواء يأتي إلى المكان الذي جعل فيه فراغ، والماء يأتي إلى المكان الذي ذهب منه الهواء.
وكذلك مبدأ الزمان أدى إلى اختلافات بين الفلاسفة، فبعضهم قال إنه الحركة بنفسها، وقال بعض آخر إنه ليس إياها. ويؤكد مؤلفنا أننا نرى الحركة مختلفة في أشياء مختلفة، وذلك مع أن الزمان في الكل يكون على نوع واحد ونمط واحد؛ ولهذا، فإن الزمان ليس الحركة، وإنما يجب لتحديد الزمان أن يقال: إن الوقت هو الذي يجمع الماضي والمستقبل، وإن كان الوقت لا يدوم بذاته. «وليس الزمان في شيء سوى القبل والبعد، وهو ليس سوى العدد، وهو عدد عاد للحركة.» وهذا العدد من الأعداد المتصلة.
ويدرك من الوجه الذي عرضت به هذه المبادئ - حتى بهذا الأسلوب - ما لما بعد الطبيعة لأرسطو من تأثير مباشر، وعلى ما يمازج ذلك الفكر من ارتباك وضعف قليلين، فإنه يلاحظ في ذلك المؤلف جهد كريم نحو النظام والوضوح.
وعلم النفس لدى الكندي، كما يسميه في رسالة «العقل» الموجزة، هو على ذات النقطة فيما بعد الطبيعة عنده، فالمذهب كان قد أوضح وكثف بما فيه الكفاية، ولكن مع عرضه - بعد - قليلا من عدم الشفوف وعدم الرشاقة في كثير من النقاط؛ وذلك أن المؤلف يزعم أنه يروي رأي أرسطو وأفلاطون، مفترضا أنه واحد من حيث النتيجة، ويميز أربعة أنواع، أو درجات، للعقل: ثلاثة منها داخل النفس وواحدا منها خارجها . وأول هذه الأنواع الثلاثة التي في النفس، هو بالقوة، وثانيها بالفعل على وجه تمارس النفس به هذا الفعل متى تريد، وذلك كالكاتب الذي يمارس فن الكتابة، وثالثها هو هذا العقل الذي هو في حال الاستعمال فعلا، وذلك ككتابة الكاتب.
وأما النوع الذي يوجد خارج النفس، فهو العقل الفعال، وسنرى ما لنوع العقل هذا من الشأن الكبير في فلسفة الفارابي وفلسفة ابن سينا، وقد تكلم عنه الكندي «إن كل ما كان بالقوة يخرج إلى الفعل بآخر، هو ذلك الشيء بالفعل؛ فإذن النفس عاقلة بالقوة وخارجة بالعقل الأول «العقل الفعال»، بشيء من القوة.» فقال: ومتى اتحدت النفس بالصورة المعقولة، نظرا إلى العقل الفعال، فإن هذه الصورة والعقل يكونان الشيء عينه في النفس، بيد أن العقل الذي يكون بالفعل دائما، خارج النفس؛ أي العقل الفعال، ليس المعقول عينه، ولا مكان لهذه المطابقة في غير النفس.
وكان للكندي تلاميذ، ويظهر أن نفوذه الشخصي كان عظيما، واثنان من هؤلاء التلاميذ يستحقان الذكر؛ فأما أحدهما فهو أحمد بن الطيب السرخسي، الذي يذكر المسعودي له رسائل في الجغرافية وموجزا في المنطق،
6
ويعزو إليه حاجي خليفة شرحا على الرسالة الذهبية لفيثاغورس، وكان في البداءة معلما للمعتضد، ثم صار نديما له، ولكنه أظهر من الغفلة ذات يوم ما أفشى مع سرا ائتمنه هذا الأمير عليه؛ فأمر بقتله سنة 286، وقد كان أحمد السرخسي مفضالا ممتازا، وكاتبا بارعا.
وأما تلميذ الكندي الآخر المعتبر، فهو أبو زيد بن سهل البلخي، ولا ريب في أن أبا زيد البلخي كان دون أستاذه أهمية بدرجات، وإنما يعد أحسن ثروة بالنسبة إلينا؛ وذلك أن أحد كتبه المهمة انتهى إلينا، فنشر وترجم إلى الفرنسية من قبل مسيو كليمان هوار،
7
فعلى ضوء هذا المتن عادت هيئة أبي زيد حية.
وقد ولد أبو زيد في قرية من ولاية بلخ، وقد ذهب هذا الفيلسوف في شبابه للدراسة في العراق، حيث كان الشوق يسوقه إلى الانضمام إلى الإمامية، ولكنه تعرف في العراق بالكندي الشهير، ولازمه ووقف نفسه على الفلسفة والعلم، ويغدو بالغ الفضل مع بقائه متواضعا متحفظا، فيجلب إلى نفسه احترام الأقوياء، ويكون أمير بلخ حاميه الرئيس، ويحسن حظ عالمنا بفضل صداقته، فينال في بلخ أملاكا مهمة، حافظت عليها ذريته عدة أجيال. ويرجع تاريخ كتبه في الجغرافية والفلسفة - على الخصوص - إلى الربع الأول من القرن الرابع.
وساح أبو زيد في مصر وفارس، وكان أبو زيد صريحا طريفا، ولكن مع سذاجة، وقد اطلع على كثير من المناهج، ونراه قد عاد إلى «بلد سابور؛ كيما يقوم باستقصاء في شأن رجل كانت تظهر مذاهبه مخالفة لمذاهب الآخرين، وكان يزعم أنه الله ذاته.»
8
وقد عرف القرمطية والمانوية والمزدكية والهنود، وما كان عليه من بساطة قلب صان أرتدكسيته حيال إغوائه بمذاهبهم. ويشتمل كتابه «البدء والتاريخ» على معارف مؤثرة عن المشبهة، والاثنينية، والقائلين بوحدة الوجود، والحرانيين، والمعتزلة، وغيرهم.
وليلاحظ - مثلا - هذا المذهب الذي لم يذكر أتباعه: «(ص77) ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة، ولا يعرف ولا يعلم، ولا يجوز أن يذكر، ودونه العقل، ودون العقل النفس، ودون النفس الهيولي، ودون الهيولي الأثير، ثم الطبائع، ويرون كل حركة أو قوة حساسة أو نامية منه.» فهذا المذهب الذي هو من أصل أدري هو الذي انتحلته - تقريبا - فرقة الإسماعيلية المشهورة التي ظهرت في الزمن الذي ألف فيه أبو زيد.
وقد أجاب فيلسوفنا عن النظريات القائلة بوحدة الوجود، والقريبة من هذه بما يأتي: «(ص75) من الدلائل على أن البارئ - جل جلاله - ليس بالنفس ولا بالعقل ولا بالروح، كما ذهب إليه من ذهب أن الأنفس متجزئة قد فرقت بينها الهياكل والأشخاص.» والواقع أنه لا يوجد شيء ينقسم من غير أن يتصور إمكان التئامه، والالتئام من عوارض الجوهر، وبعض يحيا وبعض يموت، ولا بد من أن تفنى النفس بموت حائزها، أو أن تعود إلى النفس العامة، أو أن ترتحل إلى آخر. والواقع أن الفناء والرجوع من عوارض الجوهر أيضا، فهذا الطراز من التفلسف طريف لا ريب.
ويعنى أبو زيد بنظرية الصفات الإلهية التي أثارها المعتزلة كثيرا ، كما يعنى بنظرية القضاء والقدر، ويظل اعتقاده حول هاتين النقطتين أرتدكسيا، وتكون نتيجته متواضعة: فقد قال: «(ص100) وأعدل الأمور أوساطها، فقد قيل: الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس، لا يزداد على طول النظر إلا حيرة ودهشا، ومن طاوعته نفسه بالإمساك عن الخوض فيه والاقتصار على ما في الكتاب رجوت أن يكون من الفائزين.»
ولذا يجب أن يبدو أبو زيد لنا ذكيا جدا، أكثر من ظهوره فيلسوفا ضمن المعنى الذي أوضحنا. وعندنا أنه يشابه المعتزلة بوضعه أكثر من أن يشابه الفلاسفة، وإن كان قد ناهض المعتزلة وعدهم من الفلاسفة، وتذكرنا كثرة المناهج التي عني بها بتلك المجموعة المبهمة من الأفكار، بذلك الاختلاط الفلسفي الذي ترد العنعنات السكلاسية الكبيرة إليه، وقد كان من المفيد أن يذكر لتتراءى لنا هذه الرؤيا مرة أخرى، ولكنه لا يظهر تقدما وفق النظام الذي نتبع. فعلينا - بعد أن وقفنا دقيقة بجانبه - أن ننساه في ظل أستاذه الكندي.
وكان محمد بن محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي، الذي هو أعظم فيلسوف مسلم قبل ظهور ابن سينا، من أصل تركي، وتقع مدينة فاراب التي ولد فيها، وتدعى اليوم أطرار، على نهر سيحون أو سيرداريا، وكان الفارابي تلميذا لطبيب نصراني اسمه يوحنا بن حيلان، الذي مات ببغداد في عهد المقتدر، فاقتطف كثيرا من ثمرة معرفته. ويروى - أيضا - أنه كان رفيق درس لأبي بشر متى، الذي صار مترجما كما تكلمنا سابقا، والذي تعود أن يجمع بجانبه رأيه في الجمل الموجزة البعيدة الغور. وقد قصد بلاط سيف الدولة بن حمدان، ويظهر أنه عاش عيشا هادئا تحت حمايته بزي الصوفية، ويغدو موضع تقدير هذا الأمير الذي أنعم عليه بمقام كريم بين ذويه. ولما استولى سيف الدولة على دمشق ذهب الفارابي معه إلى هذه المدينة، حيث توفي سنة 339ه. ويروي ابن أبي أصيبعة أن الفارابي قام برحلة إلى مصر قبل موته بعام واحد.
وقد غمر الشرقيون الفارابي بالمدائح؛ فقد قال القفطي عنه: «برز على أقرانه، وأربى عليهم في التحقيق، وشرح الكتب المنطقية، وأظهر غامضها، وكشف سرها، وقرب متناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي.» ويقول أبو الفرج معمما المديح: «جاءت كتب الفارابي المنطقية والطبيعية والإلهية والسياسية الغاية الكافية والنهاية الفاضلة.» ولكن بما أننا حائزون على كتب كثيرة مهمة للفارابي، فإننا نفضل أن نحكم في الأمر بأنفسنا.
وقائمة كتب هذا الفيلسوف التامة طويلة، وقام شناينشنايدر حول مؤلفاته بدراسة مضنية دقيقة تنم على فضل.
9
ويعد الفارابي كالكندي مفسرا وشارحا لمؤلفي اليونان أكثر من عده مترجما حقيقيا بمراحل.
وألف الفارابي كتاب المدخل إلى المنطق، وكتاب مختصر المنطق على طريقة المتكلمين،
10
وسلسلة من الشروح على إيساغوجي لفرفريوس، وعلى المقولات والعبارات والتحليلات الأولى والثانية، والجدل والمغالطة والخطابة وصناعة الشعر، وتتألف من الجميع منطقيات كاملة مقسومة إلى تسعة أقسام، وشرح الفارابي كتاب الأخلاق إلى نيقوماخس.
وألف في السياسة كتبا مهمة كما نتكلم عنه؛ فأحدها حاصل نواميس أفلاطون، وآخر منها عنوانه «نيل السعادات»، وتناول بالبحث مسائل كثيرة في ما بعد الطبيعة، وذلك في مؤلفات مختلفة يوجد بعضها في مكتباتنا، وهي العقل والمعقول، والنفس وقوة النفس، والواحد والوحدة والجوهر، والزمان والخلاء والحيز والمقدار، وشرح كتاب النفس للإسكندر الأفروديسي، وعني بالتوفيق بين أفلاطون وأرسطو كما نرى ذلك، وألف حول أغراض أفلاطون وأرسطو وحول اتفاقهما، ودافع عن أرسطو حيال مفسريه، ووضع كتابا في الرد على جالينوس والرد على يحيى فيلوبنوس، وذلك من حيث سوء تفسيرهما لأرسطو، ووضع كتابا في «التوسط بين جالينوس وأرسطوطاليس».
وليس أثر الفارابي العلمي عظيما جدا إذا ما قيس بأثره الفلسفي، ومع ذلك قام بشروح على طبيعيات أرسطو، وعلى الآثار العلوية، وعلى رسائل السماء والعالم، وبشرح على المجسطي لبطليموس، ووضع رسالة عن حركة الأجرام السماوية، كما وضع رسالة لإيضاح القضايا الغامضة في كتاب الأصول لأقليدس، وعني بعلوم السحر والتنجيم، فألف في السيمياء وضرب الرمل والجن والرؤيا. ولم يكن طبيبا، وترانا مدينين له في ميدان الفن برسائل مهمة في الموسيقى، قام كوزغارتن بدراستها،
11
وكان الفارابي موسيقيا بارعا، وكان يثير ببراعته فيها إعجاب سيف الدولة، فحفظت الآداب لنا ذكرى ذلك.
وفضل الفارابي طريقة الإيجاز في عباراته، ويروى أنه قليل العناية في جمع ما بينها، واليوم ترى هذه الأحوال غير ملائمة لفهمها، ومن ذلك أن هذه الرسالة أو تلك التي نشرها ديتريسي
12
ليست سوى مجموعة من الشرح الوجيز الخالي من الترتيب والارتباط، والذي يزيد غموضه بما أدخله إليه من الاصطلاحات الصوفية. ومع ذلك فإننا سنحاول أن نستخرج من كتب الفارابي المنشورة بعض العبارات البارزة، التي يمكن أن تعطي فكرة صريحة عن هذا الوجه العالي القوي.
وكان الفارابي عالما كبيرا بالمنطق،
13
فلقب بالمعلم الثاني، والمعلم الأول هو أرسطو، وفي رسالة عنوانها «رسالة للمعلم الثاني في الجواب عن مسائل سئل عنها»، فصل في بعض المشكلات التي كانت تشغل بال علماء المنطق في ذلك الزمن، وإليك ما قرره حول المقولات: (19 من الرسالة) ليس كل الأجناس العشرة بسيطة عند قياس بعضها ببعض، وإنما هي بسيطة عند قياسها إلى ما دونها، فأما البسيطة المحضة من هذه العشرة فهي أربعة: الجوهر، والكم، والكيف، والوضع. فأما ما يفعل وينفعل فهما مما يحدثان بين الجوهر والكيف، ومتى وأين يحدثان بين الجوهر والكم، وله يحدث بين الجوهر والجوهر المطبق به بكله أو ببعضه، والمضاف يحدث بين كل مقولتين من العشرة. (13) سئل عن العرض كيف يحمل على الأجناس العالية بالتقدم والتأخر، فقال: إن الكم والكيف هما بذواتهما عرضان، لا يحتاجان في إثبات ماهيتهما إلا إلى الجوهر الحامل لهما فقط. وأما المضاف - مثلا - فلأن إثبات أنيته إنما يكون بين جوهر وجوهر، أو بين جوهر وعرض، أو بين عرض وعرض، فحاجته في إثبات ذاته إلى أشياء أكثر من جوهر أو شيء واحد. (18) وسئل عن مقوله «يفعل وينفعل»، قال السائل: إذا لم يمكن أن يوجد أحدهما إلا مع الآخر - مثلا - إنه لا يمكننا أن نتصور يفعل إلا مع ينفعل، وأيضا لا نتصور ينفعل إلا مع يفعل، فهل هما من باب المضاف أو لا؟ فقال: لا؛ لأنه ليس كل شيء يوجد إلا مع شيء آخر، فهما من باب المضاف؛ لأنا لا نجد التنفس إلا مع الرئة، ولا النهار إلا مع طلوع الشمس، ولا العرض بالجملة إلا مع الجوهر، ولا الجوهر إلا مع العرض، ولا الكلام إلا مع اللسان، وليس شيء من ذلك من باب المضاف، لكنه داخل في باب اللزوم، واللزوم منه ما يكون عرضيا ومنه ما يكون ذاتيا؛ فالذاتي مثل وجود النهار مع طلوع الشمس، والعرضي مثل مجيء عمرو عند ذهاب زيد، ومنه أيضا ما هو تام اللزوم، ومنه ما هو ناقص اللزوم، والتام هو أن يوجد الشيء بوجود شيء آخر، وذلك الشيء الآخر يوجد أيضا بوجود الشيء الأول، والناقص هو عندما تكون هذه التبعية وحيدة الجانب. وهذا تحليل دقيق لفكرة الصلة. (24) وسئل عن المساوي وغير المساوي: هل هي خاصة الكم؟ والشبيه وغير الشبيه: هل هي خاصة الكيفية؟ فقال: إنما تكون الخاصة شيئا واحدا، كالضحك والصهل والجلوس وغيرها، إلا أنا إذا سمينا الرسم، وهو قول يعبر عن الشيء بما يقوم ذاته خاصة، فإن كل واحد من المساوي وغير المساوي هو خاصة للكم، وكذلك كل واحد من الشبيه وغير الشبيه خاصة للكيف. وجملة قولنا مساو وغير مساو هو رسم للكم، وجملة قولنا شبيه وغير شبيه هو رسم للكيف.
وكذلك نظرية المتضادات أدت إلى ملاحظات نفاذة. (18)، (17) وسئل عن المتضادات، وهل البياض عدم السواد أو لا؟ فقال: ليس البياض بعدم للسواد، وبالجملة ليس شيء من المتضادات هو عدم للضد الآخر، لكن في كل واحد من المتضادات عدم الضد الآخر. (37) سئل عن معنى قولهم: العلم بالأضداد واحد، هل تصح هذه القضية أو لا؟ فقال: هذه مسألة جدلية، فمن نظر في هذه المسألة ينظر في ذوات الضدين، فليس العلم بها واحدا؛ وذلك أن العلم بالسواد غير العلم بالبياض، والعلم بالعادل غير العلم بالجائر. وأما من نظر في الضد من حيث هو ضد ضده، فإنه حينئذ يصير نظره في بعض المضافات؛ إذ الضد من حيث هو ضد ضده هو من باب المضاف، والعلم بالمضافات واحد. (38) والمتقابلان هما الشيئان اللذان لا يمكن أن يوجدا في موضوع واحد من جهة واحدة في وقت واحد ، والمتقابلات أربع: المضافان مثل الأب والابن، والمتضادان مثل الزوج والفرد، والعدم والملكة، والموجبة والسالبة.
والجواب الآتي جدير بالذكر لشكله الرياضي؛ وذلك أنه يسأل عن عدد الأشياء الضرورية لمعرفة غير معلوم، فاثنان ضروريان - وهما كافيان - فإذا ما وجد أكثر من اثنين، فإنه يرى بالبحث الدقيق أن ما زاد على الاثنين ليس ضروريا لمعرفة الشيء المطلوب، أو أن ما زاد يرد إلى المعلومات التي كانت قد قدمت.
وإليك أيضا سؤالا طريفا، ما برح يكون معضلا، فعالجه الفارابي بكلمتين مع ذوق سليم بين. سئل عن هذه القضية، وهي قولنا الإنسان موجود، هل هي ذات محمول أو لا؟ فقال: هذه مسألة اختلف القدماء والمتأخرون فيها، فقال بعضهم: إنها غير ذات محمول، وبعضهم قالوا: إنها ذات محمول، وعندي أن كلا القولين صحيحان بجهة وجهة؛ وذلك أن هذه القضية وأمثالها إذا نظر فيها الناظر الطبيعي الذي هو نظره في الأمور، فإنها غير ذات محمول؛ لأن وجود الشيء ليس هو غير الشيء، والمحمول ينبغي أن يكون معنى الحكم بوجوده أو نفعه عن الشيء، فمن هذه الجهة ليست هي قضية ذات محمول، وأما إذا نظر إليها الناظر المنطقي، فإنها مركبة من كلمتين، وإنها قابلة للصدق والكذب.
وتنقلنا مسألة الكليات من المنطق إلى ما بعد الطبيعة، وقد أدلى الفارابي - حول هذا الموضوع - بعض الآراء العميقة بكلمات قليلة. ويسأل (14) كيف يجب فهم نظام الجواهر المتساندة؟ فيجيب: إن الجواهر الأولى هي الأفراد، وهي لا تحتاج إلى غيرها حتى تكون. وأما الجواهر الثانية، فهي الأنواع والأجناس التي تحتاج إلى الأفراد حتى تكون؛ ولهذا فإن الأفراد سابقة في الجوهرية، وهي أحق باسم الجوهرية من الأجناس، غير أن مؤلفنا يقول، بذوقه في الحلول المتضادة الذي يتسم به كما يلوح، وذلك من وجهة نظر أخرى: إن الكليات ثابتة دائمة قائمة؛ ولهذا فهي أحق باسم الجوهر من الأفراد الزائلة.
وهنالك يسأل عن (10) كيفية وجود الكليات، فيقول: إن الكليات لا توجد بالفعل، وإنما توجد بالأفراد فقط، وهنالك يكون وجودها عرضيا، وهذا لا يعني أن الكليات أعراض، وإنما يعني أن وجودها بالفعل لا يمكن أن يكون إلا بالأعراض. (39 و40) ويوجد نوعان للكليات، يقابلهما نوعان للأشخاص، ولا يكون الجوهر في موضوع معين؛ أي في مادة، ولا تعرف ذاته بموضوعات، ولا يمكن أن تعرف أشخاص هذا النوع إلا بكلياتها، ولا توجد هذه الكليات في غير هذه الأشخاص، ويعرف شخص العرض بموضوعات معينة، وذلك ككلية العرض التي تكون في موضوعات.
والآن، يمكن أن يحكم - بما فيه الكفاية - في أسلوب منطق الفارابي، الذي يدل به في مجموعه على علم عميق بالمنطقيات وإيساغوجي، وإن كان حادا مقحاما في جزئياته.
وعندنا كتاب رئيس لدراسة علم النفس لدى مؤلفنا، أعني الرسالة التي نشرها ديتريسي حول معنى كلمة العقل، وقد كان لهذه الرسالة - الناضجة الأسلوب نسبيا - أهمية عظيمة في القرون الوسطى، وقد طبعت ترجمتها اللاتينية عدة مرات في عصر النهضة بعنوان العقل، أو العقل والمعقول،
14
وتجد لمنك
15
تحليلا لها.
وفي هذه الرسالة التي يتناول بها الفارابي ذات المسألة في رسالة العقل للكندي، ولكن مع دقة ووضوح أكثر مما في هذه بدرجات، يعنى الفارابي بتحديد مختلف المعاني، التي استعملت بها كلمة العقل من قبل العوام الفلاسفة.
فالإنسان العاقل عند العوام هو الفاضل الصحيح الرأي، الذي يعرف ما يجب أن يصنع من الخير ويجتنب من الشر، ولا يقال عن الإنسان البارع في الشر إنه عاقل، بل يقال إنه خبيث ماكر.
ويذهب علماء الكلام إلى معنى آخر، فيقولون عن العقل إنه هو الذي يقبل هذه القضية ويرفض تلك، وهم يشيرون بذلك إلى الملكة التي تتقبل الحقائق الجلية جلاء عاما. وذهب أرسطو إلى معنى مختلف عن ذلك بعض الاختلاف، فتكلم في التحليلات عن الملكة التي يبلغ الإنسان بها - مباشرة - يقين المقدمات العامة اللازمة. ويقول الفارابي: إن هذا هو قسم النفس الذي تحدث المعرفة الأولى فيه، والذي يدرك مبادئ العلوم النظرية، وكذلك يوجد عقل للحقائق الخلقية، ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، وهذا هو قسم النفس الذي تحدث فيه التجربة الخلقية، وهي التي يتعود بها، مع الزمن وبوساطة المبادئ الأولى، أن يماز في الأمور الإرادية ما يجب أن يفعل وما يجب أن يجتنب، ثم يأتي العقل الذي بحث عنه في كتاب النفس والذي هو العقل بحصر المعنى عندنا.
ويصنع الفارابي - كما صنع الكندي - ولكن مع وضوح أشد من ذلك، فيقسم العقل إلى أربع درجات، وهي: العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل الفعال، ومع ذلك فيوجد في النظرية، أو في قائمته على الأقل، تموج نجد من المفيد ملاحظته، قال مؤلفنا على حد تعبيره: «إن العقل الذي هو بالقوة، هو نفس ما أو جزء نفس، أو قوة من قوى النفس، أو شيء ما ذاته معدة، أو مستعدة لأن تنتزع ماهيات الموجودات كلها وصورها دون موادها، فتجعلها كلها صورة لها.» وهذه الصور المستخرجة من الموضوعات تصير صورا للعقل بالقوة الذي ينتقل - إذ ذاك - إلى حال العقل بالفعل. وهذه الصور هي المعقولات بالفعل التي تطابق العقل بالفعل. أجل، كانت النظرية جلية لدى الكندي في هذه النقطة، غير أن من المهم إيضاح الوجه الذي أدرك به الفارابي وجود المعقولات، ثم إيضاح شأن العقل الفعال.
ومتى صارت هذه الصور، التي كانت في مواد خارج النفس، معقولات بالفعل، «فإن هذه المعقولات بالفعل ليس وجودها - من حيث هي معقولات بالفعل - هو وجودها من حيث هي صور في مواد.» ويرتبط وجودها بذاتها، وهو ما ندعوه بالوضعي، في مختلف مقولات الزمان والمكان والوضع والكمية والكيفية، وهي بتحولها إلى معقولات بالفعل تفلت من كثير من هذه المقولات، «فإذا حصلت المعقولات بالفعل صارت حينئذ أحد موجودات العالم، وعدت من حيث هي معقولات في جملة الموجودات.» «ومتى عقل العقل بالفعل لم يعقل موجودا خارجا عن ذاته، بل إنما يعقل ذاته.» ويطلق اسم العقل المستفاد، وهو اسم حال العقل الثالثة، على العقل بالفعل في وقت عقله المعقولات التي هي صوره، ولهذه المعقولات وجود بذاتها، «فإن الوجه الذي به نقول فيما هو فينا بالفعل عقل إنه فينا، فعلى ذلك المثال ينبغي أن يقال في تلك الصور إنها في العالم.» والعقل المستفاد هو كالقوام لهذه المعقولات، التي هي صوره الحاضرة، ولكنه بذاته كالصورة بالنسبة إلى المعقول بالفعل، وذلك على حين يكون العقل بالفعل بالنسبة إليه كالقوام والهيولي، والعقل بالفعل هو صورة بدوره، وذلك بالنسبة إلى العقل بالقوة، وهذا العقل بالقوة هو كالهيولي من حيث الأساس، ويهبط - بعد هذا - إلى الصور الجسمية والمادية.
ولذا؛ توجد سلسلة تصعد فيها الصور بدءا من المادة الأولى التي في الأساس مفترقة من المادة بالتدريج، وتكون أصفى صور المادة متفوقة، ويوجد تحت العقل بالقوة قوى النفس الأخرى، التي هي دون هذه الدرجة من العقل، ثم توجد الطبيعة وصور العناصر التي هي أسفل الصور في الوجود، ويوجد فوق العقل المستفاد عقول الأجسام المنفصلة، ويكون العقل الفعال في المرتبة الأولى.
قال الفارابي: «وأما العقل الفعال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن من مادة، وهو الذي جعل تلك الذات - التي كانت عقلا بالقوة - وجعل المعقولات - التي كانت معقولات بالقوة - معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين، التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.» والتي تصير ناظرا بالفعل بعد أن يظهر النور.
ومثل هذا ينصب من العقل الفعال ضرب من النور على العقل بالقوة، ويجعله يرى المعقولات التي كانت موجودة بالقوة فتصير بعد ذلك معقولات بالفعل، «والعقل الفعال نوع من العقل المستفاد، وصور الموجودات هي فيه لم تزل ولا تزال»، بيد أنها توجد هنالك وفق نظام آخر غير الذي يكون لها في العقل بالفعل. والواقع أن عقلنا ينبثق من المعلوم إلى المجهول، وفي الغالب يكون المعلوم هو الأسفل، ويكون الأكمل هو الأكثر ما نجهل، وينبثق العقل الفعال وفق نظام معاكس؛ أي إن الأكمل هو أول ما يشتمل، وتكون الصور المقسومة في المادة متحدة في العقل الفعال.
ومن الإنصاف أن يرد شرف هذه النظرية الرائعة إلى الفارابي، ولا ريب في أنه لم يظهر عند العرب - قبل الفارابي - أحد عرضها مثله عمقا وبراعة. أجل ، إن من السهل أن يرى - من جهة أخرى - أنه ليس مشائيا كما ينبغي، وإن كان يرجعها إلى أرسطو، غير أنها تحمل طابعا واضحا من الفكر الأفلاطوني الجديد.
وأحب الفارابي الفلسفة السياسية كما أحبها أفلاطون، وقد نشر له ديتريسي رسالة مطولة عنوانها «المدينة الفاضلة»،
16
وتعد هذه موسوعة فلسفية قصيرة لا تشغل السياسة فيها غير مكان وضيع. ومن خيبة الأمل أن يبحث في هذا الكتاب عن محاولة لتطبيق الأفكار القديمة على الدولة الإسلامية، فلم يكن الفارابي أسبق من الفلاسفة الآخرين في منحنا مظهر هذه التجربة الجريئة، فاقتصر على تقويمه إلينا، في صفحات قليلة عالية هادئة، وصفا لما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة، وذلك من غير أن يفتح بابا لمناقشات صعبة ضد أساتذته الوثنيين.
والفارابي في السياسة هو ما يمكن تسميته ملكيا إكليرسيا؛ فرأيه يقوم على وجوب حيازة الناس لحكومة ملكية وعقيدة دينية، ويمكن نظامه الملكي - من ناحية أخرى - أن يتحول إلى جمهورية أرستوقراطية بغتة. ويلاحظ فيلسوفنا أن أكمل دولة هي التي تشتمل على جميع الأرض المعمورة، وذلك بعد أن وضع - كما صنع أفلاطون - مبدأ قائلا: إن الناس خلقوا ليعيشوا في مجتمع. ويمكن هذا الرأي - القائل بحصر جميع الأرض ضمن نظام سياسي واحد - أن يلقي الحيرة في نفوس بعض القراء، ولا غرو، فقد تعودنا الاعتقاد بأن مثل هذه الفكرة لم تستطع أن تنبت في بعض النفوس إلا بعد أحدث تقدم، وأنها لا تعبر عن شيء غير الحد الممكن البعيد من التطور السياسي في العالم.
وليس الأمر كذلك؛ وذلك أنني - من غير أن أذكر أن فكرة الشمول السياسي كانت سائدة للمبدأ الإمبراطوري الروماني، ثم للمبدأ الكنسي الكاثوليكي - أكتفي بأن أصرح، وأنا سائر، بأنه كان - أيضا - ضمن مبدأ الحكومة الدينية الإسلامية، وأنه كان منتشرا في القرون الوسطى الشرقية أكثر مما يحاول تصوره بمراحل. ومع ذلك، فإن الفارابي لم يقف هناك، وإنما اقتصر على وصف نظام كامل للمدينة، ولم يخل بيانه من سذاجة، وذلك أن المدينة التي يطلعنا عليها هي مدينة قديسين يقوم بإدارتها حكماء ؛ ومن ثم تظهر هذه المدينة نموذجا قليل الصلاح للتطبيق العملي، ومن يرد أن يشعر بما هو جميل في نظريته فعليه أن يوصلها كما صنع هو، بنظرية العالم العامة.
وكما أن العالم كل منسجم منظم تحت سلطان الله الأعلى، وكما أن النجوم والعالم الأرضي آخذ أحدهما برقاب الآخر ويتبع أحدهما الآخر، وكما أن النفس البشرية مؤلفة من درجات متوالية من العقل أوضحناها منذ قليل، وكما أن الجسم البشري كل منظم يسيطر عليه القلب، فإنه يجب أن تكون المدينة كلا منظما تنظيما مشابها لهذه النماذج الكريمة.
وينصب في المدينة سلسلة من الحكام، يسودها رئيس عال. ويلوح أن الصفات التي يطلب الفارابي وجودها في هذا السيد مفرطة بالحقيقة؛ فهذا الرئيس «الذي لا يرأسه إنسان آخر»، هذا الإمام الذي هو سيد المدينة الكامل، والذي يجب أن يكون - كما يقول الفارابي غير مرة - «رئيس المعمورة من الأرض كلها»؛ لا بد من اتصافه بالخصال الآتية؛ أي أن يكون: جيد الفهم، جيد الحفظ، حسن العبارة، محبا للتعليم، غير شره، كبير النفس، محبا للعدل، صعب القياد، قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل.
ومع ذلك، فإن هذه هي عين الخصال التي يطلبها أفلاطون من حكامه، بيد أن الفارابي يشك - بعد أفلاطون - في اجتماع هذه الفضائل الكثيرة في رجل واحد فيحل هذه المشكلة ببراعة ساذجة، وذلك أنه يقول: إن هذه الخصال إذا لم توجد في رجل واحد، فاجتمع بعضها في رجل، واجتمعت الأخرى في آخر نصب هذان الرجلان على رأس المدينة، وإن هذه الخصال إذا لم تجتمع في غير ثلاثة رجال جعل هؤلاء الثلاثة على رأسها، وإنها إذا لم تجتمع إلا في أكثر من ثلاثة جعل من اجتمعت فيهم على رأسها، وهكذا فإن نظامه يؤدي إلى الجمهورية الأرستوقراطية.
ونمتنع عن تلخيص «ما بعد الطبيعة» لدى الفارابي؛ وذلك أن النظريات الأساسية التي تتألف منها - أي النظريات عن واجب الوجود، وانبثاق الكثرة وسلسلة الموجودات - غير خاصة بهذا الفيلسوف حصرا، وسوف نتفرغ لدراستها - فيما بعد - تحت إشراف ابن سينا ، الذي عرضها بإيضاح بديع، وأهم من هذا لدينا أن نعين نهج الفارابي بإظهارنا كيف أن لهذا النهج في جميع أجزائه الجوهرية تقريبا مناحي ونتائج صوفية.
فللسياسة - التي تناولناها منذ هنيهة - غاية صوفية لدى فيلسوفنا، فهدف المدينة الكاملة في الأرض هو إنالة نفوس المواطنين السعادة بعد الموت، ولا أستطيع أن أقاوم رغبة الاستشهاد بالعبارة التي دلنا الفارابي فيها على هذه النفوس الصالحة، التي انتهت إلى نيل غايتها.
قال الفارابي: «وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها، وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم أناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم، فإذا مضت هذه أيضا وخلت، صاروا أيضا في السعادة إلى مراتب أولئك الماضين، واتصل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية، ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها - ولو بلغ ما بلغ - غير مضيق بعضها على بعض مكانها؛ إذ كانت ليست في أمكنة أصلا، فتلاقيها واتصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام. وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتصل بعضها ببعض - وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول - كان التذاذ كل واحدة منها أزيد شديدا. وكلما لحق بهم من بعدهم زاد التذاذ من لحق الآن بمصادفة الماضين، وزادت لذات الماضين باتصال اللاحقين بهم؛ لأن كل واحدة تعقل ذاتها، وتعقل مثل ذاتها مرارا كثيرة فتزداد كيفية ما يعقل، ويكون تزايد ما تلاقي هناك شبيها بتزايد قوة صناعة الكتابة بمداومة الكاتب على أفعال الكتابة. ويقوم تلاحق بعض ببعض في تزايد كل واحد مقام ترادف أفعال الكاتب، التي بها تتزايد كتابته قوة وفضيلة، ولأن المتلاحقين إلى غير نهاية يكون تزايد كل واحد واحد، ولذاته على غابر الزمان إلى غير نهاية، وتلك حال كل طائفة مضت.» وهذه الزيادة لا حد لها.
ونظرية السببية لدى الفارابي غريبة جدا، ونحن نستخرجها من الرسالة التي عنوانها «فصوص الحكم»، والتي نشرها ديتريسي: «(48) كل ما لم يكن فكان فله سبب، ولن يكون العدم سببا لحصوله في الوجود، والسبب إذا لم يكن سببا ثم صار سببا فلسبب صار سببا، وينتهي إلى مبدأ تترتب عنه أسباب الأشياء على ترتيب علمه بها.»
وكذلك ليس هذا - بشكله الموجز - سوى نظرية السبب الأول المشهورة، التي يعرفها جميع فلاسفة العرب جيدا، غير أن رأي الفارابي لم يلبث أن أتى بوثبة، فقد قال: «لن تجد في عالم الكون والفساد طبعا حادثا أو اختيارا حادثا إلا عن سبب، ويرتقي إلى مسبب الأسباب، ولا يجوز أن يكون الإنسان مبتدئا فعلا من الأفعال من غير استناد إلى الأسباب الخارجية التي ليست باختياره، وتستند تلك الأسباب إلى الترتيب، والترتيب يستند إلى التقدير، والتقدير يستند إلى القضاء، والقضاء ينبعث عن الأمر، وكل شيء مقدر.»
وأين نحن؟ من الواضح أننا جاوزنا في ثلاثة أسطر ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الشرقية من فاصلة، ولكن هل انتهينا إلى مذهب جبري؟ إن من الصعب أن يعرف ذلك. ومع ذلك، فإن المؤلف يقول موضحا: «(49) إن ظن ظان أنه يفعل ويختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعدما لم يكن أو غير حادث، فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أول وجوده، ويلزم أن يكون مطبوعا على ذلك الاختيار لا ينفك عنه، ولزم القول بأن اختياره مقتضى فيه من غيره، وإن كان حادثا، ولكل حادث سبب محدث، فيكون اختياره عن سبب اقتضاه ومحدث أحدثه، فإما أن يكون بالاختيار هو أو غيره، فإن كان هو بنفسه فلا يخلو إما أن يكون إيجاده للاختيار، وهذا يتسلسل إلى غير النهاية، أو يكون وجود الاختيار فيه، لا بالاختيار، فيكون محمولا على ذلك الاختيار من غيره، وينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره؛ فينتهي إلى الاختيار الأزلي، الذي أوجب ترتيب الكل في الخارج على ما هو عليه؛ فإنه إن انتهى إلى اختيار حادث عاد الكلام إلى الرأس، فتبين من هذا أن كل كائن من خير أو شر يستند إلى الأسباب المنبعثة عن الإرادة الأزلية.»
وهل أفضت هذه البرهنة القوية إلى الجبرية نهائيا؟ إنني لا أجرؤ على توكيد ذلك بالحقيقة؛ وذلك أنني لا أجد في أي قسم آخر من أثر الفارابي أنه أنكر حرية الإنسان، وترى له في كل موضع لهجة رجل يؤمن بالأخلاق والعمل الحر، ولو نظر إلى هذا المذهب المزعج، من حيث الأساس، لوجد أنه جبري وغير جبري معا؛ فالإنسان عند الفيلسوف مختار، وهذا ما أنا مطمئن إليه، ولكن الفيلسوف يرى وجود سبب للعمل الحر، وقد يكون من المناسب أن يطلق معنى آخر على كلمة السبب هنا؛ أي معنى أقل إطلاقا من المعنى الذي لها في الحياة الفزياوية. وكل سبب - ولو ضمن هذا المعنى الجديد - مسبب أيضا، والله هو سبب الأسباب؛ ولذا يوجد هناك تناقض، أو تعارض خفي على الأقل، ومن الجلي أن الفارابي لا يقصد حل ذلك إلا بالتصوف.
ويزدهر علم النفس لدى هذا المؤلف بالتصوف أيضا، «(27) فأنت مركب من جوهرين: أحدها مشكل مصور، مكيف مقدر، متحرك ساكن، متحيز منقسم، والثاني مباين للأول في هذه الصفات، غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل ويعرض عنه الوهم، فقد جمعت من عالم الخلق ومن عالم الأمر؛ لأن روحك من أمر ربك، وبدنك من خلق ربك.» ومما هو جدير بالنظر في هذه العبارة مقدار ما يفصل فيه من تقسيم الإنسان إلى روح وجسم تقسيما ثنائيا، وأغلب ما عليه الفلاسفة هو التقسيم الثلاثي مع الإيضاح، والقائم على كون النفس من روح وبدن. «(39) فالروح الإنسانية كمرآة، والعقل النظري كصقالها، والمعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة.» فإذا كان رونق نفسك صافيا ولا يداخله أي عائق «لحظت الملكوت الأعلى واتصلت باللذة العليا»، «(41) والروح الإنسانية - وهي التي تتلقى المعقولات بالقبول - جوهر غير جسماني، وليس بمتحيز ولا بمتمكن، بل غير داخل في وهم، ولا مدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.»
وتعبر صيغ كثيرة أخرى عن هذه المعارضة بين الحس والعقل إليك أكثرها تكثيفا: «(44) الحس تصرفه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تصرفه فيما هو من عالم الأمر.» وقد أتبعت هذه الصيغة بهذه النتيجة، التي هي أكثر تصوفا أيضا: «وما هو فوق الأمر والخلق فهو محتجب عن الحس والعقل ، وليس حجابه غير انكشافه.»
ويرى الفارابي أن يعرف الله: «(45) الذات الأحدية لا سبيل إلى إدراكها، بل تعرف بصفاتها، وغاية السبيل إليها الاستبصار بأن لا سبيل إليها»، ونظرية الله عميقة جدا: «(8) واجب الوجود بذاته لا جنس له، ولا فصل له، ولا نوع له، ولا ند له ... وهو مبدأ كل فيض»، وهو داخل وخارج؛ أي ظاهر وباطن معا، «(53) فهو في ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن»؛ أي إن نور ظهوره وهو من الشدة ما يعمي، وهو خفي بهذا، «وبه يظهر كل ظاهر»، وكل شيء ظاهر فيه كما في نور الشمس، وله بعد ظهوره بذاته ظهور ثان بآياته، «وظاهريته الثانية تتصل بالكثرة، وتنبعث من ظاهريته الأولى التي هي الوحدة.»
وإليك بعض الصيغ التي تتعلق بالمعرفة بالله: «لا يجوز أن يقال: إن الحق الأول يدرك الأمور المبدعة عن قدرته من جهة تلك الأمور كما تدرك الأشياء المحسوسة من جهة حضورها وتأثيرها فينا، فتكون هي الأسباب لعالمية الحق، بل يجب أن يعلم أن يدرك الأشياء من ذاته تقدست؛ لأنه إذا لاحظ ذاته لاحظ القدرة المستعلية فلحظ من القدرة المقدور، فلحظ الكل، فيكون علمه بذاته سبب علمه بغيره، إذ يجوز أن يكون بعض العلم سببا لبعضه، فإن علم الحق الأول بطاعة العبد الذي قدر طاعته سبب لعلمه بأن ينال رحمته.» «(55) وفي علم الله الكثرة الغير المتناهية بحسب كثرة المعلومات الغير المتناهية، وبحسب مقابلة القوة والقدرة الغير المتناهية، فلا كثرة في الذات، بل بعد الذات، فإن الصفة بعد الذات لا بزمان، بل بترتيب الوجود.»
ومن ذلك كله، يرى أن الفارابي يبتعد عن النظرية الفلسفية القائلة: إن الله لا يعرف العالم، وأنه يوغل في الرأي الصوفي القائل إن الوجود الإلهي قادر على كل شيء، ويقدر كل شيء، ويرى كل شيء، ويعلم كل شيء، ويجاوز الفارابي معضلة الفلسفة اللاهوتية من بعض الوجوه، وهو في كل دقيقة يتخطى حدود الفلسفة إلى التصوف، وإليك العبارة الآتية أيضا: «(13) لحظت الأحدية نفسها فكانت قدرة، فلحظت القدرة، فلزم العلم الثاني المشتمل على الكثرة، وهناك أفق عالم الربوبية يليها عالم الأمر، يجري له القلم على اللوح،
17
فتتكثر الوحدة حيث يغشى السدرة ما يغشى، ويلقى الروح والكلمة، وهناك أفق عالم الأمر، يليها العرش والكرسي والسماوات وما فيها كل يسبح بحمده، ثم يدور على الأمر، وهناك عالم الخلق يلتفت منه إلى عالم الأمر، ويأتونه كل فردا.»
وقد خلط الفارابي اصطلاح القرآن بالاصطلاح الفلسفي، ولكنه ترك القرآن والفلسفة بالحقيقة، وذلك ليدخل مناطق لا نستطيع أن نتبعه إليها الآن على الأقل، وسنحيد عن هذه المذاهب، وسنتقبل منه هذا اللوم البسكالي تقريبا: «(11) انفذ إلى الأحدية تدهش إلى الأبدية.»
بقي علينا أن نقول كلمات قليلة عن كتاب يظهر أنه كثير الإمتاع إذا ما حكم عليه بعنوانه، وأنه كذلك بمقصده لا ريب، ولكن مع كون مطالعته تخيب الأمل بعض الشيء؛ أي إننا نريد أن نتكلم عن رسالته في «اتفاق آراء أرسطو وأفلاطون». والواقع أن الفارابي لا يعتقد وجود فلسفات كثيرة كما أشرنا إليه سابقا، بل يرى وجود فلسفة واحدة، وهو لا يسلم - مبدئيا - بوجود اختلاف بين آراء معلمين يونانيين، ولا مراء في أن من عقائد ذلك الزمن التقليدية أن فلسفاتهما تتفق، بيد أن كثيرا من العلماء المعاصرين لمؤلفنا اعتقدوا، إذ درسوا آثارهما الصحيحة أو المختلفة، أنهم يلاحظون عدم وجود هذا الاتفاق في كثير من المسائل، فإلى هؤلاء وجه الفارابي جوابه في هذه الرسالة.
وأول ما يحقق الفارابي، كون أفلاطون وأرسطو قد أدركا الفلسفة على وجه واحد، كعلم الموجودات وأحوالها؛ فاتفق جميع الناس من مختلف اللغات على وضعهما على رأس الفلسفة؛ ومن ثم يجب أن يتفقا، وهذا هو الرأي التقليدي كما هو واضح، ثم يشير الفارابي - من الناحية المنطقية - إلى بعض أسباب ما يمكن من خطأ في تفسير آثارهما. وكان، بين الاختلافات التي ينبه إلى وجودها بين أفلاطون وأرسطو ما يأتي، وهو: أن أفلاطون كان بمعزل عن الأمور الدنيوية، على حين كان أرسطو يحبها، فيبحث عن الثراء والمراتب السنية، وأن أفلاطون كان يتكلم بالرموز والأساطير، فيطالب بصفاء القلب لفهم كتبه، على حين كان أرسطو يصنف الأفكار ويرتبها، فيوضحها لاستعمال الجميع، وأن أفلاطون جعل على رأس الجواهر أفضلها وأقربها إلى الروح، وأبعدها من الحسيات، على حين ذهب أرسطو إلى أن الأفراد كانت أول الجواهر، وهذا فرق بسيط في وجهة النظر على رأي الفارابي، وأن أفلاطون بدا - في بعض عبارات من كتاب طيماؤس - غير قائل بضرورة وجود نتيجة للقياس المنطقي، الذي تقوم مقدمتاه على: «الوجود أفضل من لا وجود، والأفضل تشتاقه الطبيعة أبدا»، على حين يرى أرسطو ضرورة وجود نتيجة لمثل هذا القياس المنطقي، وذلك من غير قول عن وجود اختلافات أخرى حول فصول الطبيعيات والمنطق والسياسة.
ويحل الفارابي المناقضات المذكورة ببراعة، وذلك من غير إبداء رأي أصلي، يستحق أن نقف عنده، ولكنه من حيث نظرية المعرفة يفسر فرضية التذكر الأفلاطوني تفسيرا اختباريا جديرا بالذكر، فقد قال: إن أرسطو بين في كتاب «التحليلات» أن المعارف لا تأتي إلى النفس إلا بطريق الحواس. وهكذا فإن المعارف تأتي في البداءة من غير أن يبحث عنها، ولا يكون العلم تذكرا، ولكنه متى شعر بالعلم كان هذا بعد تكون معارف في النفس على وجه غير محسوس؛ ولهذا فإن النفس حينما تدرك هذه المعارف تعتقد أنها دائمة فيها، ويساورها وهم في أنها تذكرها. ومع ذلك فإن الحقيقة هي «أن العقل ليس هو شيئا غير التجارب، وكلما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلا ... وهذا ما قاله أفلاطون: إن التعلم تذكر، وإن التفكر هو تكلف العلم، والتذكر تكلف الذكر، والطالب مشتاق متكلف، فمهما وجد مهما قصد معرفته طلب دلائل وعلامات ومعاني ما كان في نفسه قديما، فكأنه يتذكر عند ذلك.» ويجب أن يعترف بأن هذه محاولة في التوفيق تقضي جرأتها بالعجب.
وأما مسألة قدم العالم، فقد قال الفارابي عن معاصريه إنهم يرون أن أرسطو كان يعتقد قدم العالم، وأن أفلاطون كان على عكس ذلك، ولا يسلم الفارابي بأن أرسطو كان على هذا الرأي، وإنما يزعم أن هذا الاعتقاد عزي إليه بسبب مثال ورد في كتاب الجدل، وبسبب قضية جاءت في كتاب السماء. فرأي أرسطو الحقيقي يقوم على أن الزمان هو تعداد حركة الفلك، وأنه يحدث بهذه الحركة؛ ولذا فقد اضطر إلى القول بأن الخالق أظهر العالم بلا زمان دفعة واحدة، وأن حركة العالم أحدثت الزمان.
وأما بقية الرسالة فلا قيمة لها عندنا تقريبا؛ وذلك لأن النظريات التي عزيت فيها إلى أرسطو مستخلصة من الكتاب المختلق الذي عنوانه «إلهيات أرسطو».
والآن يرى - كما أرجو - ما غزارة أثر الفارابي وإبداعه، ما هذا الأثر الذي يشتمل على قضايا لا نحمل نفسنا حلها، لما لا نرى في أنفسنا من الجرأة ما كان عليه فيلسوفنا حيال نماذجه اليونانية. والواقع أن الفارابي - الذي كان اختباريا، صوفيا، سياسيا، زاهدا، منطقيا، شاعرا - ذو طبع قوي غريب. وعندي أنه أكثر جاذبية من ابن سينا؛ لأنه كان أكثر منه حرارة باطنية وقدرة على الصولة المفاجئة والضربات الأقل توقعا، ولفكره من الوثبات ما للشاعر الغنائي، وهو حاد في جدله بارع متضاد، ويتصف أسلوبه بمزية الإيجاز والعمق النادرين، ويسمو هذا الأسلوب بضرب من الرونق الشعري.
ونرى أن الفارابي قام بخدمة عظيمة في دراسة الفلسفة لا ريب، ولكن مع وثوبه فوق المعضلة السكلاسية.
ويلوح أنه - بدلا من أن يبحث عن توفيق عقلي متين بين العنعنات اليونانية وعلم الكلام الإسلامي - اقتصر على جمع غير ملتحم الآراء تماما، محتفظا لنفسه بكشف الرابطة الغامضة في ربى التصوف.
ولا جرم أن لقب الموسوعي يلائم كلا من الفلاسفة الذين تكلمنا عنهم. والواقع أنهم كانوا موسوعيين، سواء بطبيعة ذهنهم أم بطبيعة آثارهم. ومع ذلك فإننا - بوضعنا هذا العنوان على رأس هذا الفصل - قصدنا على الخصوص جماعة من الفلاسفة الموطئين الناشرين، أخذت على نفسها بكل صراحة أن تقوم بوضع موسوعة للعلوم صالحة لاستعمال الجمهور؛ أي إننا نقصد الكلام عن «إخوان الصفا». وبما أن إخوان الصفا كانوا موطئين - ضبطا - فإننا لا نعلق أهمية كبيرة عليهم، وسنلزم جانب الاختصار في شأنهم. وفضلا عن ذلك، فإن مما يشجعنا على هذا الاختصار في هذه الحال كون أحد مستشرقي الألمان، وكنا قد ذكرنا اسمه، وهو فردريك ديتريسي، قد خص هؤلاء الفلاسفة بسلسلة من الكتب المفصلة، تؤلف علما جامعا من الآداب.
18
وليس لدينا علم دقيق عن أصل هذه الجماعة، وإنما نعرف أن بعض الفلاسفة، في أواسط القرن الرابع من الهجرة، حين أشرفت خلافة بغداد على الأفول، اجتمعوا بالبصرة في مكان بعيد من مركز الدولة المفتوح لمؤثرات مختلفة، صالح ليكون مركزا للدراسة النظرية الحرة وللدعاية الجريئة. ومما لوحظ أن هذا النظام لجمعية مغلقة لم يكن بدعا في الإسلام، فقد كان الشاعر بشار بن برد ومؤسس فرقة المعتزلة، واصل بن عطاء، ينتسبان - قبل ذلك - إلى جماعة مماثلة،
19
وكان فلاسفة البصرة يدعون حلفاء الصفاء، وندماء الصفاء، وإخوان الصفاء على العموم.
20
ولم تكن هذه الجماعة سياسية فقط، بل كانت شيئا أكثر من هذا. ومن الصعب أن يقال ماذا كان ذلك تماما، ويحوم حولها بعض الغموض، فلا يدع هذا ما يماز به غرضها ولا شعائرها ولا وسائل عملها ضبطا.
ولا مراء في أنه كان لدى إخوان الصفا أدوات للدعاية غير كتبهم، حتى إن هذه الكتب لم تقل كل شيء، ولا ماذا كانوا، ولا ماذا أرادوا، وإنما كان لهم عمل سياسي، وكانوا يؤلفون في المدن التي يقيمون بها أنواعا من المنازل لا يستطيع دخولها أحد غيرهم،
21
وفضلا عن ذلك، فإنهم كانوا لا يقتصرون على قبول الفلاسفة بينهم حصرا؛ فقد كان يمكن جميع الناس أن يقبلوا في المنظمة مبدئيا، ولكل دوره وفق أهلياته؛ وذلك أن بعض الناس يلقي دروسا، وآخرين يعطون نقودا، ومن لم يكن من ذوي القرائح أو الغنى كان يقوم بأعمال وضيعة. والخلاصة أن هذه كانت جماعة عامة مؤلفة من عناصر متفاوتة، تربط ما بينها إدارة لا نعرف نوابضها، وروح لا نعلم عنه غير قليل، وليس من العسير أن نجد في زماننا مثل هذه الجماعة.
ومن ينظر إلى دعاية إخوان الصفا يعتقد - أول وهلة - أنهم علماء أخلاق، فما يعرضون على مريديهم هو وسائل تطهير نفوسهم. وكانت هذه هي الحقيقة الدينية، وكان هذا هو العلم، ضمن المعنى الخلقي - الصوفي تقريبا - للكلمة؛ أي الذي يبشر بالنجاة. وإذا كانت قد وجدت جمعية تبيح لنفسها في الإسلام أن تعظ بإنجيل للنجاة، مستندة إلى نفوذها الخاص، فاجتذبت النفوس إليها بوسائل سرية، دل هذا على كون مذهبها يبتعد عن الإسلام لا ريب. وإذا ما نظر إلى هذا المذهب في مجموعه - كما نعرفه من رسائل الإخوان - وجد أنه لا يختلف عن مذهب الفلاسفة إلا قليلا جدا على كل حال. أجل، يمكن أن يبدو إخوان الصفا بجانب الفلاسفة مثل موطئين لأثر الفلاسفة، وناشرين له في الأوساط الشعبية، بيد أن الفلسفة، بتوطئتها في هذه الأوساط، تعرض - بالنسبة إلى الوجه الذي تتجلى به عند الفلاسفة المحترفين - فروقا في المنظر، نرى من المفيد أن نشير إليها.
يكون المذهب الفلسفي في الجماعة أقل رسوخا مما في ممثليها المستقلين، وكذلك يكون أكثر توحيدا بين الآراء، ويكون أكثر انجذابا إلى الأساطير، ويكون أسهل دفقا في التصوف، وتستدعى الأفكار الصوفية فيه كل لحظة، على حين لا تظهر هذه الأفكار إلا مثل تكملة ومثل حد في الفلسفة العلمية، ويكون العلم ممزوجا بالعاطفة الدينية. وكان إخوان الصفا يسلمون بكتب موسى وغيره من الأنبياء مع تسليمهم بكتب الفلاسفة. ويجب أن تفسر كلمة «وغيره» هذه بأوسع معنى. ومجمل القول أن العامل الخلقي سائد لتعليمهم، ففي كل عشر سنين كان كل من يثبت هذه المدة يوعد خيرا، فإذا ثبت خمسين عاما فاز بالعقل الملائكي.
غير أن أطرف نقطة يشار إليها في موضوع هذا المذهب هو الوجه الذي وضع به إخوان الصفا معضلة الفلسفة الكلامية. أجل، إنهم وضعوها على شكل قاطع جدا، ولكن مع تحديد وجيز خطير حرفت به المسألة. ولا يوجد عند الفلاسفة - ولم يحدث قط - أن جهر الفلاسفة بأية حملة مباشرة على الدين الإسلامي. وقد كان وضع المعضلة الفلسفية الكلامية يحتمل لديهم قبولا تاما للعلم والشريعة. وقد كان إخوان الصفا أكثر جرأة من هذه الناحية بمراحل، ومن المحتمل أن كانوا أكثر حرية فقط.
وقد رأوا - كما أخبرنا به الصوفي أبو حيان التوحيدي،
22
المتوفى سنة 380 أو سنة 400، والذي كان موسوعيا أيضا - أن الشريعة الدينية لم تكن كاملة، وأنها كانت تشتمل على أغاليط تحتاج إلى تنقيتها منها، وأنها لا يمكن أن تبلغ ذلك إلا بالفلسفة. وقد كانوا يعتقدون أنه يوصل إلى الكمال المذهبي الحقيقي بربط الشريعة العربية بالفلسفة اليونانية ربطا وثيقا، فللحصول على هذه الغاية كتبوا موسوعتهم.
وتشتمل تصانيف إخوان الصفا على إحدى وخمسين رسالة في مجموع علوم الإنسان، وقد جمعت العلوم فيها على شكل يختلف بعض الاختلاف عما تعود الفلاسفة صنعه، وذلك على أربعة أصناف تحتوي على علوم الرياضيات والفلسفة العامة، وعلوم الطبيعة والأجسام، والنفس والعقل، والشريعة والله. ويرجح أن تكون هذه الرسائل قد كتبت من قبل كثير من أعضاء الجمعية، يذكر من بينهم أبو سليمان المقدسي، وكان الرياضي الأندلسي المجريطي مسلمة - المتوفى سنة 395 أو سنة 398 - قد ساح في المشرق، فجلب إلى وطنه مجموعة الرسائل، وقام بتجديد إنشائها على ما يحتمل واضعا اسمه عليها؛ فلهذا عزيت هذه المجموعة إليه في بعض الأحيان.
وكانت الرسائل موجهة إلى الإخوان، وكانت تعد جامعة للعلم التركيبي التام، فلا بد من أن تزود القارئ بزبدة ممزوجة من جميع الكتب الأخرى. وقد قيل فيها:
23 «وبالجملة، ينبغي لإخواننا أن لا يعادوا علما من العلوم أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها.»
ويكفي أن نضيف إلى البيان السابق ثلاثة شواهد أو أربعة لفهم طابع هذه الموسوعة التي هي أقل إمتاعا بكونها مستودعا للعلم من إمتاعها بما تقدم من مناح فلسفية واجتماعية.
ففي إحدى الرسائل يوجد مثل طويل،
24
مموه الإنشاء، يرى فيه أناس ينتسبون إلى أمم مختلفة من يونان، وهنود وفرس، وتتر، وعرب، ويتجادلون هم والحيوان حول منافع الإنسان والحيوان النسبية، وذلك أمام تلك الجن، فلما رأى الإنسان أن جميع المنافع التي كان يظن إمكان استخلاصها من دقة ملاذه الحسية وكمال حرفه ومهنه قد ردت إلى العدم، اضطر إلى الاعتراف بأنه لا فضل حقيقيا له على الحيوان إلا بخلقيته. وقد عبر عن هذه النتيجة بهذه العبارة:
25 «والآن ثق ، يا أخي، بأن هذه الصفات التي انتصر بها الإنسان على أنواع الحيوان أمام ملك الجن تقوم على التزام هذه العلوم والمعارف التي جمعناها في هذه الرسائل الإحدى والخمسين مع الإيجاز والاستقامة ما أمكن.» وهذه إشارة إلى أسلوب في الدعاية على أساس خلقي.
ومن التسلية أن تجد في هذه الرسائل بعض المناظر الدنيا لنظريات فلسفية راقية جدا بنفسها، فاتفق لها بهذه الأشكال الغليظة رواج عظيم حتى أيامنا. ومن ذلك أن نظرية فيثاغورس العميقة في الأعداد ظهرت فيها، كما تعرض على الفتيان في الوقت الحاضر أحيانا؛ وذلك أن الخالق نظم الموجودات وفق سلسلة الأعداد،
26
وأن كل نوع من الوجود يناسب عددا معينا، فأشياء تتصل اثنين اثنين؛ أي تتصل الهيولي والصورة، والعلة والمعلول، والليل والنهار، والذكر والأنثى، وأشياء تتصل ثلاثة ثلاثة؛ أي تتصل أبعاد الحيز الثلاثة، وأقسام الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ووجوه الأمور الثلاثة: الممكن والمحال والواجب، وأشياء تتصل أربعة أربعة؛ أي تتصل الطبيعات الأربع: الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة، والعناصر الأربعة، وأمزجة بدن الإنسان الأربعة، والفصول الأربعة، والجهات الأربع ... إلخ، وهذا من الفلسفة الشعبية تماما.
وهنالك نظرية أخرى كانت واسعة الانتشار في القرون الوسطى، وهي من أصل بالغ السمو، وهي نظرية العالم الأكبر والعالم الصغير. فالعالم إنسان كبير، ويكون الفلك الخارجي جسمه وتؤلف أجزاء العالم أعضاءه، والعالم كالإنسان حي بالنفس العامة، وكما أن الإنسان يدير نفسه بعقله يدار العالم بالعقل العام، وتعد قوى الطبيعة قواه المحركة. وعلى العكس يعد الإنسان عالما صغيرا، ويعد بدنه طرفة الطبيعة، ويدرك خياله وعقله مجموع الموجودات، وتنطوي فيهما خلاصة جميع الأشياء.
وتكون هذه المقارنات جميلة أول وهلة، ولكنها إذا ما أصر عليها لم تدع للاعتبارات العلمية مجالا، وقد أصر إخوان الصفا عليها، وكان إصرارهم عليها ضمن معنى أفلاطوني جديد بالغ،
27
وذلك أن الله تام الوجود والجلال، وهو عالم بجميع الأشياء قبل أن تكون، وهو قادر على دعوتها إلى الوجود متى أراد، وهو ينشر الفيض والفضل بحكمته، كما تنشر الشمس النور، ويدعى بدء هذا السكب الذي يصدر عنه بالسبب الخلاق، وهذا جوهر بسيط ونور خالص متناهيا الكمال، وتوجد فيهما صور كل شيء كوجود صور الشيء المعلوم في النفس العالمة، وتحدث النفس العامة درجة ثانية من السكب؛ أي تحدث الجوهر الروحاني البسيط، ويخرج من النفس فيض آخر يدعى المادة العامة.
وأول صورة تتلقاها هذه المادة الأصلية هي صورة البعد، وتصير المادة الثانية التي تنشأ عنها مادة الأجسام، فعند هذه النقطة يقف الفيض، ثم تتحد النفس بالأجسام، وتمنحها الكمال والجمال. والصورة الأولى التي توجدها النفس في الجسم هي صورة الفلك السماوي، والأرض هي أكثف الأجسام وأكثرها ظلاما؛ ولذا فإن الله يغضي عن هذا الخلق، ولكنه يريده، ويعلمه بالفعل.
وأخيرا، إليك نداء من الإخوان إلى أتباعهم،
28
يؤلف أطرف مثال على توحيد ما بين الآراء، فهم يقولون: «فهل لك يا أخي، أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة، التي بناها أبونا نوح، فتسلم من أمواج بحر الهيولي، ولا تكون من المغرقين؟ أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السماوات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تتم الميعاد، وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن، حيث قيل: يا موسى، فيقضى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟ أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي ينفخ فيك الروح، فيذهب عنك اللوم حتى ترى الأيسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب، أو ترى من حوله من الناظرين؟ أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن، حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريحون؟ أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون، حتى ترى الأفلاك التي يحوكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية، لا ما يشير إليه المنجمون؟» •••
لقد انتهينا إلى حد القسم الأول من كتابنا، وقد سرنا أربعة قرون، متتبعين حركة الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي. وقد رأينا قيام عمل هذا الزمن على وضع المعضلة الكلامية الفلسفية على الخصوص، وعلى استخلاص حلولها بالتدريج، والآن نقف. ونحن إذ نقيم على أرض ثابتة ندقق - على مهل - في الحل الكبير الأول لهذه المعضلة على يد ابن سينا.
الفصل الخامس
ابن سينا: سيرته، كتبه
ترجمة الفيلسوف لنفسه - حال الدولة في عصر ابن سينا - صلة ابن سينا بأمير بخارى - بعض مصنفات الشيخ الرئيس في الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والتصوف، والطب. ***
يجب على القارئ - الذي تفضل باتباعنا حتى هذا الموضع - أن يتخلص الآن من بعض المبتسرات، التي يمكن أن تكون لديه عند تناول هذا الموضوع. والواقع أن مما يفترض بعض الناس، بسماعهم إيانا نتكلم عن فلاسفة عظماء من العرب، كون هؤلاء الرجال لم يكونوا عظماء إلا بالنسبة إلى زمنهم وأمتهم، فمن التهور أن يذهب إلى مقارنتهم بالفلاسفة والعلماء المشهورين، الذين ظهروا في بيئات أخرى.
وأما نحن فنقول: إن من الجلي أن فضلاء كالذين ذكرنا - من أمثال سرجس الرأس عيني، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، والكندي، والفارابي - يستحقون بقوتهم الطبيعية وأصالة طبعهم - كما بعدد مؤلفاتهم وقيمة كتبهم - أن يصفوا بين أحسن أكفياء الذهن البشري من غير نظر إلى البيئة والزمان. ومع ذلك فإنني أرى عند الكلام عن ابن سينا أن من غير الممكن بقاء أي شك حول المقام الذي يجب أن يوضع فيه أمثال أولئك الرجال، وإنه - بعد النظر إلى هذا الرأس المنقطع النظير، ونضج مواهبه، وسرعة ذكائه، وسمو عقله، وجلاء ذهنه، وقوة فكره، وكثرة آثاره، واتساع مؤلفاته، التي وضعها في أثناء ما كان يساور حياته من اضطراب متصل، وإلى صولة أهوائه وتنوع ميوله - يقنع بأن حاصل النشاط الذي بذل في مثل حياته يفوق - بمراحل - نشاط ما تستطيعه المثل البشرية المتوسطة، حتى في زماننا أيضا.
نعرف سيرة ابن سينا من مصدر رائع، قل وجود مثله في الأدب العربي، وهذه ترجمة كتبها الفيلسوف بنفسه فاقتطفها وأتمها تلميذه الجوزجاني، وقد حفظ ابن أبي أصيبعة لنا هذه الوثيقة الثمينة،
1
ولا نجد ما هو أصلح من اقتباس معظمها. ومع ذلك فإننا نرى - لمطالعة هذه القصة بلا بلبلة - أن نرجع في البداءة إلى تاريخ المشرق الإسلامي العام في زمن ابن سينا.
وتمتد سيرة فيلسوفنا إلى عهد كل من الخلفاء: الطائع والقادر والقائم، وإذا ما قيست أسماء هؤلاء الخلفاء بأسماء أمثال المنصور والرشيد والمأمون وجدت مجردة من الرونق؛ وذلك أننا وصلنا - بالحقيقة - إلى دور انحطاط الخلافة العباسية؛ وذلك أن سلطان خلفاء بغداد المركزي قد ضعف، وأنه ظهر مغامرون في مختلف الجهات، فأقاموا دولا متنافسة. ومما حدث في عهد المتقي سابقا أن أميري الموصل الحمدانيين؛ ناصر الدولة وسيف الدولة، اللذين وجها سلاحهما المجيد إلى البزنطيين والروس خارج العالم الإسلامي، نازعا أمراء الترك حرس الخليفة مع لقب أمير الأمراء. وقد رأينا أن الفارابي لزم سيف الدولة.
ومما حدث في عهد المستكفي أن أولاد بويه - وهم أبناء فقير صائد للسمك على شواطئ بحر قزوين، فكانوا يزعمون أنهم من سلالة الملك الفارسي الساساني سابور ذي الأكتاف - دخلوا بغداد في سنة 334 على رأس كتائب من الديلم، فخلع المستكفي، وعمي واستبدل المطيع به. ولما انتحل الزعيم البويهي معز الدولة لقب السلطان الجديد، أضاف اسمه في الخطبة على المنابر إلى اسم الخليفة، وكان الأمراء البويهيون يميلون إلى معتقدات الرافضة، فسنوا - حتى ببغداد في يوم عاشوراء من سنة 352 والسنين التالية - عيد الشيعة، تذكارا للحسين بن علي، وأمروا بالاحتفال به.
ويستند السلاطين البويهيون إلى أمراء الديلم، فيمثلون - بجانب الخلفاء في سنين قليلة - دور وزراء البلاط، ويحملون الضعيف المطيع، الذي صار مفلوجا، على التنزل عن العرش، ويدوم عهد الطائع ثماني عشرة سنة مجهول الأمر تقريبا، ثم يخلع في نهاية الأمر ويسجن، ويجلس القادر في مكانه، ويدوم عهده إحدى وأربعين سنة من غير أن يكون ذا شخصية بارزة في التاريخ. وأخيرا زالت دولة آل بويه، التي نهكتها الفتن في عهد خلفه القائم، ولكن هذا لم يقع إلا لتقوم مقامها دولة الأتراك السلجوقيين، التي هي أكثر شهرة، وكان أفراد آل بويه قد تفرقوا في الإمبراطورية في إبان سلطانهم، ولما غدا ركن الدولة - أخو معز الدولة - مسنا، قسم البلاد الخاضعة لسلطانه بين أولاده في سنة 365؛ فأعطى أحدهم فارس وكرمان، وأعطى آخر الري وأصبهان، وأعطى ثالثا منهم همذان ودينور .
2
وسنرى أن ابن سينا كان ينتقل بين هذه المراكز.
وكان الملك في بخارى للسامانيين، الذين يرجع سلطانهم إلى أواخر القرن الثالث من الهجرة، وقد مات منصور بن نوح الساماني، الملقب بأمير خراسان سنة 365، وخلفه نوح بن منصور، فهذا كان أول حام لابن سينا.
وكانت فرقة القرامطة الغريبة قد ظهرت في جنوب إمبراطورية الخلفاء، وكان هذا منذ عهد المكتفي المجيد أيضا، وقد تكلمنا عن هذه الفرقة في كتاب آخر،
3
وكانت صولة القرامطة قد وقفت في زمن ابن سينا، ولكن فرقة الإسماعيلية الكبيرة المشهورة - التي كانت هذه الفرقة ترتبط بها - قد قبضت على زمام السلطة السياسية بمصر، وأقامت الدولة الفاطمية على أنقاض الدول الغابرة.
ولذا؛ يمكن أن تعرض حال الإمبراطورية الإسلامية، في الزمن الذي تتناوله كحال إقطاعية عاصفية غير منظمة حيث ترتفع طائفة من السلطات التابعة تناوبا، وذلك تحت ظل سلطة مركزية خاملة مشوشة، فتسيطر تلك السلطات على قسم من الإمبراطورية، ثم تختفي، وتتصادم شعوب ومعتقدات، وتتقدم أو تتأخر وفق طالع المغامرين السياسيين الذين تتقمصهم، ويميل روح العرب إلى الزوال، ويكون للروح الفارسي القديم يقظات، ولكن من غير وصول إلى الخلاص من الاضطراب تماما، ممنوعا من ذلك بنزوات التوحش الناشئ عن العنصر التركي على الخصوص،
4
ومع ذلك، فإن العلم يتبع مصايره متسكعا تحت حمايات زائلة، يحبوه بها أمراء هنا وهناك، ففي مثل هذه البيئة - التي ينعكس كدرها وصولتها في حياة ابن سينا - قدم هذا الفيلسوف للمرة الأولى تعبيرا واضحا منظما كاملا عن هذا المنهاج العظيم الهادئ، الذي نطلق عليه اسم السكلاسية.
وإليك ما يقص أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المدعو
Avicenne
5
عامة؛ وذلك أن أباه - الذي هو من بلخ أصلا - أتى إلى بلاد بخارى في زمن نوح بن منصور، وقد كان يسكن قرية قريبة من بخارى اسمها خرميثن، حيث يزاول مهنة الصرافة، وقد تزوج امرأة من أفشنة، فرزق منها ولدين، كان فيلسوفنا أكبرهما، وقد ولد في شهر صفر من سنة 375، فبعد ولادة هذين الابنين انتقل أبوا ابن سينا إلى بخارى .
ولما كان ابن سينا صبيا وكل إلى معلم؛ ليتعلم القرآن ومبادئ الأدب. ولما بلغ العاشرة من سنيه اتفق له من التقدم ما كان يثير به العجب، فحوالي هذا الزمن جاء بخارى دعاة من إسماعيلية مصر، كانوا يعلمون نظرية مذهبهم في النفس والعقل، فاعتنق والد ابن سينا هذا المذهب. وأما فيلسوفنا فيقول لنا: «وكانوا ربما تذاكروا بينهم، وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي.» وكذلك كان هؤلاء الدعاة يعلمون العلوم الدنيوية كالفلسفة اليونانية، والهندسة، وحساب الهند، وقد تعلم ابن سينا هذا النوع من الحساب من تاجر بقل، كما تخرج في الفقه والتردد فيه بنجاح على زاهد اسمه إسماعيل.
وبعد ذلك، أتى بخارى رجل اسمه الناتلي، وكان يدعى المتفلسف، وبلغ أبو ابن سينا من الولع بالعلوم - كما يلوح - ومن الحرص على تقدم ابنه ما أنزل معه هذا الرجل داره، وذلك رجاء أن يتعلم ابنه الفتى منه شيئا كثيرا.
أجل، تعلم ابن سينا مبادئ المنطق منه، غير أن هذا الرجل كان غير عالم بجزئيات هذا العلم، فكانت كلما عرضت مسألة حلها التلميذ خيرا من أستاذه. هنالك أخذ ابن سينا يدرس بنفسه، فقرأ رسائل المنطق، وأنعم النظر في الشروح، وقد فعل مثل هذا حيال هندسة أقليدس، وتعلم من أولها خمسة أشكال أو ستة أشكال على الناتلي، ثم تولى بنفسه حل بقية الكتاب، ثم انتقل إلى دراسة المجسطي، الذي أخبرنا أنه فهمه بسهولة عجيبة، ثم فارقه الناتلي متوجها إلى كركانج، ثم اشتغل ابن سينا بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح من الطبيعي والإلهي، «وصارت أبواب العلم تنفتح علي» على حد تعبيره.
هنالك رغب في علم الطب، وبما أن «علم الطب ليس من العلوم الصعبة» - كما قال موكدا - فقد برز فيه في أقل مدة، وبعد أن أخذ ابن سينا يقرأ الكتب المصنفة في الطب، صار يتعهد المرضى، فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وبدأ الأطباء يفدون للدراسة تحت إدارته، مع أن سنه كانت لا تزيد على ست عشرة سنة في ذلك الحين.
ولما بلغ هذه المرحلة، توفر على القراءة سنة ونصفا، ولم يصنع في أثناء هذه المدة غير مطالعة كتب المنطق والفلسفة تكرارا؛ قال ابن سينا: «وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق ويسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام.»
وهكذا، تبحر الفيلسوف الشاب في سلسلة من العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية إلى الحد الذي يستطيع الرجل أن يبلغه. ويروي أنه عاد لا يأتي بتقدم بعد ذلك الحين، ثم توجه إلى ما بعد الطبيعة، ولكن ما بعد الطبيعة لأرسطو ظل صعب المنال عليه زمنا طويلا، على الرغم من تلك الأهلية المتناهية وتلك القدرة المدهشة على العمل، التي يباهي بها مع التوكيد.
قال ابن سينا: «وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشتر مني هذا؛ فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة،
6
فرجعت إلى بيتي، وأسرعت في قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر القلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء، شكرا لله تعالى.»
وما انفك نوح بن منصور يكون سلطان بخارى في ذلك الحين، ويمرض هذا الأمير، ويدعى ابن سينا، ويشفيه، ويصير ابن سينا من المقربين إليه بعد ذلك. ويطلب ابن سينا من نوح أن يسمح له بدخول مكتبته، ويروي ابن سينا أن هذه المكتبة كانت منقطعة النظير، فهي دار ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضد بعضها على بعض، في بيت منها كتب الفقه، وفي آخر كتب الشعر، وهكذا. فاكتشف ابن سينا فيها من الكتب ما هو نادر، لم يره من قبل ولا من بعد، وقد احترقت هذه المكتبة بعد حين، فزعم بعض الحساد أن الفيلسوف هو الذي أحرقها بنفسه؛ كيما يكون وحده حائزا للمعارف التي اكتسبها فيها.
وكان ابن سينا في الثامنة عشرة من سنيه عندما فرغ من هذه العلوم كلها. قال ابن سينا موكدا: «وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.» فلما بلغ ابن سينا الحادي والعشرين من عمره صار يؤلف، وقد ألف عادة تلبية لطلب مختلف الوجوه المعروفين قليلا في الغالب، ومن ذلك أن أحد جيرانه، أبا الحسين العروضي سأله أن يصنف كتابا جامعا في العلم، ففعل ذلك، وسمى هذا الكتاب باسم هذا الرجل، وهو «الحكم العروضية». وكان في جواره رجل آخر يقال له أبو بكر البرقي، فسأله أن يضع شرحا فلسفيا؛ فصنف له كتاب «الحاصل والمحصول»، كما صنف له كتابا في الأخلاق.
ولما كان فيلسوفنا في الثانية والعشرين من سنيه فقد أباه، وتغير وضعه؛ وذلك أنه دخل باب الحياة السياسية، وقلده السلطان شيئا من أعماله. ثم يقول ابن سينا إن الضرورة دعته إلى الارتحال عن بخارى والانتقال إلى كركانج، وهناك كان أبو الحسين السهلي محبا للعلوم، ووزيرا للأمير علي بن مأمون، وأقام ابن سينا بهذا البلاط الصغير على زي الفقهاء، ثم دعت الضرورة إلى انتقاله - كما قال - إلى نسا ومنها إلى بادر، ومنها إلى طوس وإلى مدن أخرى، ومنها إلى جرجان، وكان قصده أن يضع نفسه تحت حماية الأمير قابوس، ولكن بينا كان في صحبة هذا السري اعتقل هذا الأخير، ومات في السجن.
ثم مضى ابن سينا إلى دهستان، ومرض بها مرضا صعبا، وعاد إلى جرجان، واتصل به أبو عبيد الجوزجاني، وأنشأ في حاله قصيدة جاء فيها:
لما عظمت فليس مصر واسعي
لما غلا ثمني عدمت المشتري
وتمثل الحال التي وصفها ابن سينا على هذا الوجه ما كانت عليه حال العلم - أيضا - في ذلك العصر.
وهنا تقف سيرة ابن سينا بقلمه، ومن المحتمل أن يكون قد كتبها عملا بطلب البوزجاني، ولهذا الأخير - الذي هو شاهد عياني لسلوك الفيلسوف - ترانا مدينين ببقية القصة.
وفي جرجان كان يوجد رجل يقال له أبو محمد الشيرازي، وكان أبو محمد هذا محبا للعلوم، وقد اشترى هذا الرجل دارا للشيخ؛ أي لابن سينا، في جواره، وكان الشيخ يعطيه - في كل يوم - دروسا في الفلك والمنطق. وصنف ابن سينا له - وهو في هذا المنزل - قسما من مؤلفاته.
ثم انتقل الفيلسوف إلى الري، واتصل بسيدة الري وابنها مجد الدولة، واشتغل بمداواة هذا الأمير، الذي كان مصابا بالسوداء، وأقام بالري إلى ما بعد قتل هلال بن بدر وهزيمة عسكر بغداد، فقضت الضرورة بأن ينتقل إلى قزوين ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة كذبانويه، والنظر في أسبابها.
وحدث في تلك الأثناء أن استدعاه أمير همذان، شمس الدولة، الذي كان مريضا، فعالجه، وشفاه بعد أن أقام عنده أربعين يوما بلياليها، وفاز من الأمير بخلع كثيرة، وصار من ندمائه، ويمضي زمن فيشترك الفيلسوف في حملة وجهها شمس الدولة إلى قرميسين، ويعود إلى همذان منهزما، ثم قلد الوزارة، ثم ثار العسكر عليه، وخافوا منه على أنفسهم، وحاصروا داره، وقبضوا عليه وسجنوه، واستولوا على جميع أمواله، وحاولوا أن يحملوا الأمير على قتله، فامتنع الأمير عن ذلك، ولكن الأمير أراد أن يرضيهم فوافق على إقصائه عن السلطة، والتجأ ابن سينا إلى دار صديق له اسمه أبو سعد بن دخدوك، حيث توارى أربعين يوما، فلما انقضت هذه المدة عاد المرض إلى الأمير، وبحث عن ابن سينا، وقلده الوزارة مرة أخرى .
واختار الجوزجاني هذا الوقت ليسأل الشيخ أن يؤلف شرحا عاما على كتب أرسطو، فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك في ذلك الوقت، ولكن الجوزجاني لم يكن ليرغب منه في غير تصنيف كتاب جامع لآرائه بلا اشتغال بالرد على المخالفين، ففعل ابن سينا ذلك، وابتدأ بالطبيعيات من كتاب الشفاء، وكان ابن سينا قد صنف الكتاب الأول من القانون في الطب، وكان يقدم تأليف هذين السفرين العظيمين، وكان يجمع كل ليلة في داره لفيفا من أهل الفضل وطلبة العلم، وكان الجوزجاني يقرأ من الشفاء نوبة، ويقرأ غيره من القانون نوبة. وهكذا كانت تتناوب القراءة حتى يكون كل واحد قد قرأ في دوره، ثم يتناول الشراب، وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار خدمة للأمير، وهكذا كان الشيخ يقضي حياته في همذان، بيد أن حاميه ذهب لمحاربة أمير مجاور، فعاودته علة القولنج في الطريق، ومات.
وينادى بابن شمس الدولة خلفا له، ويطلب من ابن سينا أن يقوم بمنصب الوزارة أيضا، ويرفض ابن سينا ذلك، وقد اختفى في دار أبي غالب الوطار، حيث داوم على تصنيف كتبه، فألف هناك فصول الطبيعيات، ومما بعد الطبيعة من كتاب الشفاء، خلا كتابي الحيوان والنبات، وقد كان يكتب خمسين ورقة في كل يوم، ثم شعر بأنه في غير مأمن بهمذان؛ فأرسل كتابا في السر إلى أمير أصبهان، علاء الدولة، طالبا أن يسمح له بأن يكون في جواره، ويعلم تاج الملك - الذي صار صاحب السلطة في همذان - أمر هذا الكتاب، ويغضب، وقد حث في طلب الشيخ، فدل عليه بعض أعدائه، فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها فردجان، وأنشأ هناك قصيدة منها:
دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
وبقي في هذه القلعة أربعة أشهر، وقام علاء الدولة بحملة على همذان في ذلك الحين. وينهزم تاج الملك ومعه شمس الدولة، ويجيء للبحث عن ملجأ في هذه القلعة، التي كان ابن سينا معتقلا فيها، ويعود علاء الدولة إلى أصبهان بعد قليل، فيغادر تاج الملك ملجأه، ويدخل همذان آتيا بالشيخ معه، وكان هذا الشيخ قد ألف كثيرا من الكتب في سجنه.
وتزيد رغبة ابن سينا في مغادرة همذان عقب تلك الحوادث، ويخرج من هذه المدينة متنكرا هو والجوزجاني وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية، ويصلان إلى أصبهان بعد أن قاسوا شدائد في الطريق، ويحسن علاء الدين قبول الفيلسوف، ويجد في مجلسه الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله، ويأخذ في العمل ليلا، وفي عقد المجالس الفلسفية وفق المنهاج الذي اتبعه في همذان، ويرأس الأمير نفسه هذه المجالس في ليالي الجمعة. وقد ألف ابن سينا كتبا كثيرة في صحبة علاء الدولة، فأتم الشفاء في السنة التي توجه فيها علاء الدولة إلى سابور خواست، كما صنف في الطريق - أيضا - كتبا كثيرة، ولا سيما «النجاة».
وقد استمر الفيلسوف في البقاء بجوار علاء الدولة حتى وفاته، ومما حدث ذات يوم أن ذكر للأمير أمر وقف الأرصاد الفلكية المعمول بها لدى الأقدمين في الدولة الإسلامية؛ نتيجة للفتن والحروب، وأن من الصالح أن يرجع إليها؛ فلم يلبث الأمير أن أعانه بالمال للقيام بهذا العمل، وقد عهد الشيخ إلى البوزجاني بالإشراف على نصب الآلات، غير أن الأرصاد أهملت بسبب كثرة التكاليف والأسفار.
وفي هذا الزمن، ألف ابن سينا كتبا مختلفة، ولا سيما الكتاب الذي يحمل اسم حاميه، وهو «الحكمة العلائية»، وهذا الكتاب بالفارسية عن الفلسفة، ومما لاحظ الجوزجاني مع الدهش أنه في الخمس والعشرين سنة التي قام بخدمته فيها لم يره يقرأ كتابا جديدا قراءة متتابعة، وإنما كان يقصد المواضع الصعبة منه، فيحكم بهذا في أمر الكتاب، فهذه الطريقة عادت لا تثير عجبنا في الوقت الحاضر.
وقال كاتب سيرته، مصورا فيلسوفنا: «وكان الشيخ قوي القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرا ما يشتغل به، فأثر في مزاجه.» وكان القولنج الذي أصابه سبب موته، وكان من شدة الميل إلى الشفاء منه ما جعله يأخذ منه ثماني حقن في يوم واحد، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به زحار، وتنحط قواه نتيجة للقولنج، ويبلغ من الضعف حدا لا يقدر معه على النهوض، ومع ذلك فقد استمر على معالجة نفسه، واستطاع أن يمشي مجددا، ولكنه لم يتحفظ، فأكثر من الانهماك في الشهوات والتخليط في التداوي، فلم يبرأ من العلة كل البرء، فكان ينتكس، ويبرأ كل وقت.
ويزعم أنه أمر يوما بوضع دانقين من بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، فوضع الطبيب الذي يقوم بمعالجته خمسة دوانق، فازداد مرضه من حدة الكرفس، ودس خادمه مقدارا كبيرا من الأفيون في أدويته، فأوجب هذا الخادم فيه بعض الضرر، وكان الخادم يخشى عاقبة أفعال له إذا ما شفي الشيخ.
ثم قصد علاء الدولة همذان، وأتى بالشيخ معه فعاوده القولنج في الطريق، وشعر الشيخ بأن قوته سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، وصرف أطباءه، وأخذ يقول: «المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.» ثم توجه إلى ربه بأفكاره، واغتسل وتاب، ووزع كثيرا من الصدقات، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم مات بعد أيام قليلة.
لقد توفي سنة 428، وعاش ثماني وخمسين سنة، وقال فيه بعض الناس:
رأيت ابن سينا يعادي الرجال
وبالحبس
7
مات أخس الممات
فلم يشف ما نابه بالشفا
ولم ينج من موته بالنجاة
وليس النصيب الذي اتفق لذكرى ابن سينا في الشرق والغرب، وما كان لفلسفته من نفوذ، من نابض كتابنا الآن، ما دمنا نعد نهجه نقطة وصول، لا نقطة انطلاق. ولكننا لا نستطيع أن نقاوم رغبتنا في الإشارة إلى أحد الوجوه التي تمت لسيماه في نظر الشرقيين. ما كان أصل هذا الوجه الأسطوري في بعض سمات خلقه الحقيقي، ويوجد في آداب الشرق الشعبية، ولا سيما الآداب التركية، ابن سينا وهمي؛ أي ساحر هزلي مفيد، جعل منه خيال العامة بطل مغامرات غريبة ومرحيات مضحكة، وتوجد مجموعة من الأقاصيص التركية خص بها، وإليك إحدى هذه الفكاهات، التي جاءت في مجموعة من الأقاصيص التركية،
8
ورئي انهماك هذا الفيلسوف المرح فيها: «كان يوجد ملك في حلب، وكانت هذه المدينة قد خربت بعدد عظيم من الفئران ، التي ما انفك الأهلون يتضررون منها، ومما حدث يوما أن كان الملك يكلم ابن سينا، وأن الحديث دار حول الفئران، فسأل الملك هذا الطبيب عن وجود وسيلة لإبادتها، فأجاب الطبيب بقوله: «أستطيع أن أصنع ما لا يبقى معه أية فأرة في المدينة في بضع ساعات، ولكن على أن تكون أنت عند أبواب المدينة، وألا تضحك مما ترى».»
فرضي الملك بذلك مسرورا، وشد السرج على فرسه، وذهب إلى الباب وانتظر، وذهب ابن سينا من ناحيته إلى الطريق المؤدية إلى الباب، وأخذ يقرأ إحدى الرقى، فجاءت فأرة، فأمسكها ابن سينا وقتلها ووضعها في تابوت، ودعا أربعة فئران لحمله، ويداوم على رقاه، وتأخذ الفئران في المشي وهي تخبط أرجلها، وتحضر فئران المدينة كلها لحضور الجنازة، وتتقدم مصفوفة إلى الباب حيث كان الملك، ويسبق بعضها الجنازة، ويسير بعضها الآخر خلفها، وينظر الملك، ولكنه لم يتمالك أن قهقه عندما رأى الفئران الحاملة للتابوت، وتموت جميع الفئران التي جاوزت الباب حالا، وأما التي لم تزل داخل المدينة فقد انفصل بعضها عن بعض وفرت. فقال ابن سينا: «أيها الملك، لو أمسكت عن الضحك بضع دقائق أخرى ما بقي في المدينة واحدة منها، ولكشف الهم عن جميع الناس.» فندم الملك، ولكن ما الحيلة؟ لا فائدة من ندم بعد الأوان.
وهكذا، اتفق لابن سينا - بعد موته على الأقل - شعبية ضخمة وصغرى نواحي المجد. •••
وتعد الكتب التي ألفها ابن سينا،
9
وما لا يزال يوجد منها في مكتباتنا، كثيرة. وقد ذكر لنا الجوزجاني كتب هذا الفيلسوف في غضون القصة التي تركها لنا عن حياته، فجاء ابن أبي أصيبعة وأعاد النظر فيها. وليس من المهم أن ننقل عناوين الكتب التي ذكرها الجوزجاني، وأن نضع قائمة كتبه الموجودة في جميع مكتبات أوربة، فهذا عمل سهل ممل، مع عدم وجود فائدة مباشرة منه لقرائنا، وإنما يجب أن نشير إلى أهم هذه الكتب، وإلى أيها كان موضوع درس من قبل علماء الغرب، فيمكن أن ينتفع بها اليوم لمعرفة فلسفة المؤلف، وسنضيف إلى هذه المعارف تفصيلات كافية ليستطاع تكوين فكرة على شيء من الضبط عن نشاط هذا الرجل العظيم الأدبي.
توجد بين آثار ابن سينا رسائل عامة عن الفلسفة، وأهم كتبه التي هي من هذا النوع هو سفره الضخم المسمى «الشفاء». وقد رأينا أن ابن سينا ألفه دفعة بعد دفعة في أماكن مختلفة، فلما أتمه لخصه في كتاب سماه «النجاة».
ويشتمل «الشفاء» على أقسام العلم الأربعة، وهي: المنطق، والرياضيات، والطبيعيات، وما بعد الطبيعة. وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية باكرا، أو نقل بعضه إلى هذه اللغة، وكان من غير الصحيح في ذلك الحين ترجمة كلمة «الشفاء» بكلمة
Sufficientiae ،
10
ويلاحظ في طبعة لاتينية واسعة لابن سينا، نشرت في البندقية، أن قسما مطولا مما بعد الطبيعة هو من الشفاء كما هو ظاهر، وهذه الرسالة - التي عنوانها «إلهيات ابن سينا أو فلسفته الأولى» - مقسومة إلى عشرة أبواب مجزأة إلى فصول، ويظهر أن ترجمتها التي قام بها الراهب الفرنسيسي فرنسوا دو ماسيراتا، وتالي الفلسفة في كلية بارو أنطوان فيسنتينوس، غير خالية من البراعة، ومما يحمد فعله في أيامنا أن تدرس فلسفة ابن سينا في «الشفاء» الذي لا تعد نسخه الخطية قليلة.
ولكن هذه الدراسة الطويلة الشاقة تطالب من يكبون عليها بتجرد كبير من الغرض، وذلك في هذا الزمن الذي قلت فيه حظوة الفلسفة، ولا سيما السكلاسية. ومن الممكن أن يطلع على أفكار ابن سينا بلا عناء، وفي وقت غير طويل، من خلاصة كتاب الشفاء التي صنعها بنفسه؛ أي من كتاب «النجاة»، وكتاب النجاة هذا رائع واضح طافح قوة، وهو سهل المأخذ في طبعته التي تمت برومة سنة 1593، وذلك عقب طبعة «القانون». وقد ترجم قسم المنطق من كتاب «النجاة» إلى الفرنسية، وذلك من قبل بيار فاتيه،
11
وكان كتاب النجاة قد شرح من قبل فخر الدين الرازي،
12
المتوفى سنة 600ه.
ويجب أن يوضع كتاب «الإشارات والتنبيهات» بجانب ذينك الكتابين، وسنشير إلى هذا الكتاب بكلمة «الإشارات»، وهذا هو آخر الكتب التي ألفها ابن سينا وأجودها على قول الجوزجاني، وقد كان مؤلفه يعلق عليه أهمية كبيرة، ومع صدور هذا الحكم عن حجة، فإنني أبيح لنفسي تفضيل «النجاة» على «الإشارات»؛ وذلك أن تخطيط الإشارات أقل كمالا من تخطيط النجاة، وأن المنطق فيها يشغل مكانا كبيرا على حسب مزاجنا، وأن إنشاء النجاة أكثر إيجازا وأشد قوة. ولا يعني هذا أن الإشارات أقل أهمية، وهو الكتاب الذي جعل في متناول المتعربين بطبعة الراهب فورجه بليدن
13 (1892)، وتجد له شرحا بقلم نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672،
14
وللنجاة ذكر حسن في كتاب الشهرستاني.
ولابن سينا في الفلسفة رسائل عامة أخرى هي: الحكمة العروضية، وهي رسالته الأولى التي ذكرناها، ويوجد هذا الكتاب في مكتبة أبسال،
15
والحكمة العلائية، وقد ألفها لعلاء الدولة، وهي موجودة في المتحف البريطاني،
16
والهداية في الحكمة، وقد صنفها في سجن فردجان، وقد اتفق لها شرح كثير،
17
والتعليقات في الحكمة الفلسفية،
18
وعيون الحكمة، وهي رسالة صغيرة لطيفة جدا، تجد نسخا منها في ليدن وفي أماكن أخرى، وقد طبعت هذه الرسالة مع رسائل كثيرة أخرى في الشرق.
19
وفضلا عن ذلك، فإننا نطلع في جداول الجوزجاني على عنوان يصحبه شرح ذو غرابة، وهو كتاب الإنصاف، فيقول كاتب السيرة: إن ابن سينا شرح في هذا الكتاب جميع كتب أرسطو، وأنصف فيه المشرقيين والمغربيين، وقد ضاع هذا الكتاب في أثناء غارة السلطان مسعود، ولا ندري تلك القسمة الجغرافية، التي أشار إليها الجوزجاني.
وكان المنطق الذي شغل بال ابن سينا كثيرا موضوعا لكتب مهمة، وتماز لابن سينا ثلاثة كتب في المنطق، وهي: كتاب الموجز الكبير في المنطق، والكتاب الأوسط، وقد ألفه في جرجان لأبي محمد الشيرازي،
20
والكتاب الأصغر، وهو منطق النجاة الذي ترجمه فاتيه. وفضلا عن ذلك فإن ابن سينا صنف في المنطق قصيدة طريفة طبعها شمولدرز، وترجمت من قبله،
21
ويمكن أن تضاف إليها رسالة «في تقسيم الحكمة والعلوم»، نشرت في الآستانة.
22
وفي علم النفس، نجد في مكتباتنا رسائل كثيرة جدا عن النفس معزوة إلى فيلسوفنا، ومن الصعب أن يعرف بعنوانها وحده هل هذه الرسائل خلاصات من كتب عامة في الفلسفة، ولا سيما من النجاة، أو مؤلفات مستقلة. وقد نشر لندوير رسالة في علم النفس لابن سينا
23
وفق مخطوط بليدن ومخطوط بالأنبروازية الميلانية.
وتحمل ترجمة لاتينية قديمة لهذه الرسالة محفوظة في فلورنسة إهداء للسلطان نوح بن منصور، وهذا يدل على كون هذه الرسالة من عمل ابن سينا في شبابه، وللفيلسوف رسالة في النفس نقلها إلى اللاتينية أندره البلوني فتوجد كمخطوط في المكتبة البودلية بأكسفورد (2، رقم 366)، وكانت قد طبعت مع رسائل أخرى لابن سينا في البندقية سنة 1546. وتوجد في معظم قوائم مكتبات أوربة رسائل في النفس، كالتي بسان بطرسبرغ (رقم 2052)، وبليدن (رقم 1464 و1467 ... إلخ)، وبالإسكوريال (رقم 656 و663)، وبالمتحف البريطاني (القسم الثاني من القائمة، ص209)، وبأماكن أخرى.
ولابن سينا قصيدة صغيرة في النفس (القصيدة في النفس)، نقلها ابن أبي أصيبعة نقلا ناقصا عقب سيرة الفيلسوف وبين قطع شعرية، واشتهرت هذه القصيدة في الشرق، وشرحت عدة مرات،
24
وقد نشرناها وترجمناها وحللناها في المجلة الآسيوية.
25
وفضلا عن ذلك فإن الجورجاني يذكر كتبا مختلفة في علم النفس لفيلسوفنا، ككتاب «مناظرات في النفس» مع أبي علي النيسابوري، ورسالة «في القوى الإنسانية وإدراكاتها»، التي طبعت بالآستانة في مجموعة «رسائل في الحكمة».
وتصانيف ابن سينا في الأخلاق قليلة على الخصوص، وتجد له في مكتبة بالآستانة رسالة عنوانها «رسالة في الأخلاق»،
26
وقد أفاض في إيضاح ما بعد الطبيعة في رسائله العامة في الفلسفة. وأما كتبه التي تناول فيها ما بعد الطبيعة فقط، فنادرة قليلة الأهمية كما هو ظاهر. وعلى العكس ترى مؤلفاته الصوفية ذات فائدة كبيرة.
ودرس مسيو مهرن سلسلة من رسائل ابن سينا الصوفية،
27
ومنها رسالة «حي بن يقظان»، التي ألفت في قلعة فردجان، واشتهر أمرها كثيرا في القرون الوسطى، وقد قلدها ابن عزرا، ورسالة الطير، وقد شرحها ساوه جي بالفارسية، ورد المنجمين، ورسالة في العشق، ورسالة القدر التي ألفها الفيلسوف في أصبهان، حيث التجأ بعد تركه همذان. ومن المناسب أن نذكر - في سياق هذه الأفكار - قصة سلامان وأبسال، التي درسها نصير الدين الطوسي
28
تبعا لابن سينا، وكتاب المعاد الذي ألفه في الري لمجد الدولة، وفلسفة الموت التي ألفها الفيلسوف لأخيه، والتي توجد بالفارسية في المتحف البريطاني (إضافة 16، 659).
وقد تكلم الجوزجاني وغيره من المؤلفين عن كتاب لابن سينا يجب أن يكون في التصوف خاصة مع تعليق أهمية كبيرة عليه، وهذا هو الكتاب الذي يسمى «الحكمة المشرقية» عادة، والذي يجدر تسميته «الحكمة المشرقية». ويروي الجوزجاني أن هذا الكتاب لا يوجد كاملا، ويقول عنه ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان»، وهو لا يجوز خلطه بكتاب ابن سينا الذي يحمل هذا الاسم أيضا،
29
ما يأتي: «إنه ألف كتاب الشفاء على مذهب المشائين، وإن من أراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتابه في الفلسفة المشرقية.»
وقد ذكره ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت»، وذلك في النقاش حول ماهية واجب الوجود، فقال:
30
إن تلاميذ ابن سينا يرون «أنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية، وإنما سماها فلسفة مشرقية؛ لأنها مذهب أهل المشرق، فإنهم يرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية ... إلخ.»
ومن ثم ترى أن الخطأ - الذي أوجب ترجمة النعت المشتمل عليه هذا العنوان - قديم ما دام يرجع إلى تلاميذ ابن سينا، الذين أرادوا الانحراف عن مذهبه ضمن معنى الوثنية الكلدية والتصوف الهندي. ومن المحتمل جدا أن كان هؤلاء التلاميذ مفسرين غير صادقين لأستاذهم، ولا شيء يبيح لنا أن نذهب إلى أن مؤلفات ابن سينا الفلسفية الكبرى لا تعبر عن رأيه الحقيقي، وأن حكمته المشرقية تنطوي على مذهب غير ما جاء في الرسائل الصوفية التي نعرفها له.
وفي عبارة لمترجم الأحوال، حاجي خليفة، إيضاح كاشف كامل الاحتمال حول ما يجب أن يفهم من «حكمة الإشراق»؛ وذلك أنه قال إنه يوجد طريقان للوصول إلى معرفة بارئ الأشياء؛ فالأول هو طريق التأمل والبرهان، ويدعى من يتبعون هذا الطريق بالمتكلمين، إذا ما آمنوا بالوحي واستمسكوا به، ويدعون فلاسفة إذا لم يؤمنوا بذلك، أو إذا ما قاموا بتجريد لذلك. والطريق الآخر هو طريق الرياضات الزهدية. ويطلق اسم الصوفي على من يتبعونها إذا ما كانوا مسلمين مخلصين، فإذا لم يكونوا من هؤلاء سموا «الحكماء الإشراقيين». وتحتل الحكمة الإشراقية في العلوم الفلسفية وفق معناها اليوناني، عين مرتبة التصوف في العلوم الإسلامية، وإن شئت فقل: إن الحكمة الإشراقية هي التصوف اليوناني؛ ولم يكن فلوغل مخطئا - لا ريب - عندما ترجم عبارة حاجي خليفة،
31
التي ذكرناها آنفا، مضيفا إلى كلمة «حكمة الإشراق» تحشية «أو الأفلاطونية الجديدة».
32
وسنضيف بعض الإشارات القصيرة عن كتب ابن سينا الطبية ومختلف مؤلفاته. وكان كتابه الجليل المشهور، القانون في الطب - الذي يوجد مخطوطا في باريس (رقم 2885-2891) وفي أماكن أخرى - قد طبع بالعربية في رومة سنة 1593، كما تجد له عدة طبعات لاتينية، وأحصى مؤلفنا مقالات من بقراط في الطب موجودة في مكتبة أيا صوفية (رقم 3706)، ويوجد له كتاب في «الأدوية القلبية» (رقم 3799، تكملة)، وفي نور عثمانية (رقم 3456)، وفي ليدن (رقم 1330).
ونظم ابن سينا عددا من القصائد في الطب، وأكثر هذه القصائد من وزن الرجز؛ فسميت «أراجيز» لهذا السبب. ومنها أرجوزة طويلة في الطب موجودة في المكتبة البودلية (رقم 945) وفي ليدن، وأرجوزة في الحميات والخراجات (المكتبة البودلية أيضا، الرقم نفسه)، وأرجوزة في المحاجم (في باريس، رقم 2562)، والأرجوزة المنظومة، التي توجد في سان بطرسبرغ (رقم 3458)، وفي باريس (رقم 1176 و2992 و3038).
وصنف مؤلفنا في الكيمياء أيضا «رسالة في الكيمياء» على رواية الجوزجاني،
33
وله رسالة في الموسيقى محفوظة في المكتبة البودلية (رقم 1026)، وله في الفلك رسالة اسمها «قيام الأرض في وسط السماء»، وهي موجودة في المكتبة البودلية (رقم 980)، وقد ذكر الجوزجاني أنه ألفها لأحمد بن محمد السهلي. وقد ألف الفيلسوف مقالة في آلات الرصد بمناسبة ما أمره به علاء الدولة من القيام بأرصاد فلكية، ولخص ابن سينا أقليدس والمجسطي.
وأخيرا، ترانا مدينين لابن سينا بمقالات في الجدل أو الرسائل، قد تكون أجوبته إلى العلامة الرحالة المشهور البيروني
34
أكثرها إمتاعا.
وقد درس ابن سينا، مثل شاعر
35
فارسي من قبل المستشرق: إته.
36 •••
فإزاء الأثر البالغ ذلك الاتساع، والذي لا نستطيع أن نعرف عنه غير قسم قليل من الناحية العملية، وذلك في وقت نحاول أن نتكلم عنه مفصلا، نشعر باستيلاء دوار وذعر علينا، لو لم نعلم أن ذوي العقول الكبيرة في القرون الوسطى والقرون القديمة كانوا - في الغالب - أقل اكتراثا للابتكار مما للجمع، وأنهم كانوا أكثر كلفا بالعلم مما بالإبداع عن إخلاص. ونعتقد أن من الواجب أن نحيي هنا - بسبب ابن سينا - أولئك العظماء السابقين، الذين كانت آثارهم وسيرهم موسوعية بالتساوي، فهذه الآثار والسير - وإن لم تكن مثلا كاملا من الناحية الخلقية - كانت خلاصة ورمزا للنشاط الإنساني بأسره، وقد عادت أزمنتنا لا تعرض وجوها مماثلة، وترانا راضين عن اعتقادنا عدم وجود أناس من ذلك الطراز؛ وذلك لأن العلم بلغ اليوم من الاتساع ما لا يستطيع معه دماغ رجل واحد أن يستوعبه.
أجل، قد يكون هذا، ولكن من الإنصاف أن يعترف بأن العلم اليوم ذو وحدة وانسجام أقل مما في الماضي، وأنه أقل بساطة مما كان عليه تحت ظل النظام المشائي العظيم، وفضلا عن ذلك، فإن وضعنا حيال العلم أقل تواضعا وإخلاصا؛ وذلك أننا أكثر حرصا على إذاعة صيتنا من إنعام نظرنا في قياس واسع من العلم، وأننا أكثر سعيا وراء المراتب من ولعنا بالدرس، وأننا نطلب الألقاب أكثر من طلبنا للمعارف، ونحن إذ نود أن نكون أكثر كمالا من أجدادنا في الاختصاص نوافق أن نكون ذوي أذهان أضيق أفقا، وطباع أقل قوة، ونفوس أقل حرية.
الفصل السادس
منطق ابن سينا
أهمية المنطق في المناهج القديمة - كيف أوضح ابن سينا غرض المنطق في «النجاة» - فائدة صناعة المنطق - أيساغوجي لفرفريوس الصوري. ***
عاد المنطق لا يكون مكينا في ذوق زماننا، ويا للخسارة في ذلك على ما نرى! كان المنطق - فيما مضى - علما مليحا ومن أتم ما شاد ذهن الإنسان، ثم سقطت مكانته بسبب ما أدخل من سوء استعمال في القياسات، ولكن ليعلم أنه كان من السهل إصلاح هذا السوء وتنقية الأسلوب من القياس، وأن القياس لم يكن جميع المنطق، وأنه لم يكن غير قسم منه فقط، لا أمتع ما فيه،
1
فالمنطق في مجموعه كان يؤلف منذ الزمن القديم علما واسعا حيا، قائما في أساس جميع أقسام الفلسفة الأخرى؛ من علم نفس، وطبيعيات، وإلهيات، وأخلاق، ومن سياسة أيضا.
والحق أن المنطق كان آلة العلوم وجهازها، والمنهاج الذي يعد تقدمها، والقانون الذي يصونها من الخطأ. وكان المنطق نفسه يتصل ببعض هذه العلوم إلى حد ما، ويرتبط فيها، ولا سيما علم النفس وما بعد الطبيعة. وكان هذا الاتصال المتبادل لا يؤلف حلقة مفرغة بالحقيقة، بل يؤلف توفيقا مع الإيضاح بين الأداة وموضوعها، وملاءمة تتحقق الوحدة الفلسفية بها ما دامت مبادئ المنطق تعد نتائج العلوم، وما دامت العلوم ترقب المنطق.
وإذا كانت هذه أهمية هذا العلم في المناهج القديمة، فإن من الواجب أن نشغل بالنا به. فعلى القارئ - عند رغبته في اتباعنا - أن يحتمل سماع قول عنه مهما كان الرأي الذي يحمل حوله في الوقت الحاضر. ومع ذلك فإننا لا نتورط في وحل من التمحكات، والتمحكات مما لم يأت به ابن سينا أيضا، فمنطقه واضح صريح عظيم الأسلوب، ولا غرو، فهذا المنطق نسيج عصر صالح، وهو خال من الأشكال المعقدة الجافية التي أظهرها هذا العلم في القرون الوسطى السفلى؛ ولهذا فلا احتياج إلى تجريد فكر ابن سينا من كل زخرف حشوي، ينم على فساد ذوق ما دام هذا الحشو غير موجود في أثر فيلسوفنا.
وإنا سنقتصر - بعد هذا التنبيه - على إيضاحنا في هذا الفصل ماذا كان غرض المنطق في ذهن ابن سينا، وماذا كانت أقسام هذا العلم المهمة في مدرسته، وماذا كانت الفكرة التي كونها لنفسه عن العلم على العموم.
وإليك كيف يوضح ابن سينا غرض المنطق في «النجاة»:
2 «كل معرفة وعلم فإما تصور وإما تصديق، والتصور هو العلم الأول، ويكتسب بالحد وما يجري مجراه، مثل تصورنا ماهية الإنسان، والتصديق إنما يكتسب بالقياس أو ما يجري مجراه، مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ، فالحد والقياس آلتان بهما تكتسب المعلومات، التي تكون مجهولة، فتصير معلومة بالروية، وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو دون الحقيقي ، ولكنه نافع منفعة بحسبه، ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي، والفطرة الإنسانية في الأكثر غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف، ولولا ذلك لما وقع بين العقلاء اختلاف، ولا وقع لواحد منهم في رأيه تناقض.
وكل واحد من القياس والحد، فإنه معمول ومؤلف من معان معقولة بتأليف محدود، فيكون لكل واحد منهما مادة منها ألف، وصورة بها يتم التأليف. وكما أنه ليس عن أي مادة اتفقت يصلح أن يتخذ بيت أو كرسي، ولا بأي صورة اتفقت يمكن أن يتم من مادة البيت بيت، ومن مادة الكرسي كرسي، بل لكل شيء مادة تخصه وصورة بعينها تخصه، كذلك لكل معلوم يعلم بالروية مادة تخصه، وصورة تخصه منهما يصار إلى تحققه.
وكما أن الفساد في اتخاذ البيت قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة، وقد يقع من جهتيهما جميعا، كذلك الفساد في الروية قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة، وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة، وقد يقع من جهتيهما جميعا.
فالمنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح، الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح، الذي يسمى بالحقيقة برهانا، وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي، الذي يسمى رسما، وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي، الذي يسمى ما قوي منه وأوقع تصديقا شبيها باليقين جدليا، وما ضعف منه وأوقع ظنا غالبا خطابيا، وتعرف أنه عن أي صورة ومادة يكون الحد الفاسد، وعن أي صورة ومادة يكون القياس الفاسد، الذي يسمى مغالطيا وسوفسطائيا، وهو الذي يتراءى أنه برهاني أو جدلي، ولا يكون كذلك، وأنه عن أي صورة ومادة يكون القياس الذي لا يوقع تصديقا البتة، ولكن تخييلا يرغب النفس في شيء، أو ينفرها ويقززها، أو يبسطها، أو يقبضها، وهو القياس الشعري.
فهذه فائدة صناعة المنطق، ونسبتها إلى الروية نسبة النحو إلى الكلام، والعروض إلى الشعر، لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض، وليس شيء من الفطر الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله تعالى.»
وليلاحظ من هذه الديباجة مقدار الأهمية، التي يعلقها ابن سينا على الحد، وكيف قابل به القياس، عادا إياهما معا وسيلتين أساسيتين لفن المنطق، وتدل هذه الحال على اتساع الفكرة التي كونها عن هذا الفن، وهي ملاحظة تقوى - كذلك - باكتراثه لإدخال دراسة مختلف درجات اليقين، ودراسة جميع طرق الإقناع من البرهان الصارم حتى الإيحاء الشعري، إلى موضوع المنطق.
ومع أن ابن سينا فرض في «الإشارات» عين الغرض لهذا العلم، فإنه عرفه على وجه أجف وأوجز، حيث ترى الحدود التي أراد حصره فيها أحسن مما هناك، فقد قال في الإشارات:
3 «المراد من المنطق أن تكون عند الإنسان آلة قانونية، تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره.»
ويظهر من هذا البيان أن قيمة المنطق عند ابن سينا أقل إيجابية منها سلبية؛ فلا تقوم وظيفة المنطق على كشف الحقيقة، فهذا من شأن خصائص الحواس والذهن الفعالة. وأما شأن المنطق، فيتجلى في وضع قوانين لممارسة هذه الخصائص وعصمتها من الضلال. وليست القوة الفاعلة التي تحصل على الحقيقة في القانون مطلقا، بل في الذهن الذي يرقبها، وهي ليست في الآلة، بل في العقل الذي ينتفع بها. وإذا أردنا أن نضيف وصفا إلى وصف مؤلفنا، قلنا: ليست الفروسة هي التي تحمل الفارس من مكان إلى آخر، بل الفرس، وإنما الفروسة تنفع الفارس في قيادة الفرس، وكذلك ينفع المنطق الإنسان في قيادة عقله ويعصمه من الزلات، ومع ذلك، فإن هذا الوصف في الانتقال يوجد عند ابن سينا نفسه، فقد ختم تعريفه في «الإشارات» بقوله: «فالمنطق، علم يتعلم منه ضروب الانتقالات من أمور حاصلة في ذهن الإنسان إلى أمور مستحصلة.»
4
وقد يكون من الممتع - من ناحية تاريخ التعليم الفلسفي - أن يصر على تقسيمات المنطق الذي لنا بالبيان السابق فكرة عنه، فمع أن أنواع المنطق لابن سينا قد كتبت بوضوح كبير، فإنها قسمت إلى فصول كثيرة، لا يبدو ترتيبها جليا أول وهلة، وكان فاتيه قد شعر بهذا النقص، فعرض في ترجمته تقسيما كثير الإحكام؛
5
وذلك أنه لاحظ أهمية ما أقام المؤلف من مقابلة بين الحد والقياس، فقسم الكتاب إلى ثلاث رسائل: إحداها في القياس، والثانية في الحد، والثالثة في السوفسطائية. ثم استند إلى التفريق بين المادة والصورة، فأتى بتقسيم فرعي لهذه الرسائل وفق ما للقياس والحد والسوفسطائية من مادة وصورة، فهذا الترتيب مما يرتضيه الذهن بعض الرضا، ولكن بما أنه غير جلي لدى ابن سينا، الذي ما كان ليرتبك في وسمه بسمة الوضوح لو أرادها، فإننا لا نرى وجوب الارتباط في ذلك.
والأمر التاريخي الذي نرغب في الإشارة إليه هو وجود تقسيمات سكلاسية كبيرة بادية من إنشاء أنواع المنطق في ذلك العصر إنشاء حرا، ولدينا رسالة صغيرة في تقسيم العلوم معزوة إلى ابن سينا،
6
تعين هذا التقسيم بكل ما يبتغى من وضوح.
لقد قسم المنطق - خلا العلوم الأخرى في هذه الرسالة - إلى تسعة أقسام مطابقة لكتب أرسطو الثمانية المسبقة بإيساغوجي فرفريوس، وقد عبر عن موضوع هذه الأقسام التسعة والكتب التي تطابقها على الوجه الآتي، وهو: إن موضوع القسم الأول هو الألفاظ والمعاني، ويشتمل عليه كتاب «إيساغوجي». وإن موضوع القسم الثاني هو عدد المعاني الذاتية والشاملة بالعموم لجميع الموجودات، ويشتمل عليه كتاب قاطيغورياس «المقولات». وإن موضوع القسم الثالث هو تركيب المعاني المفردة حتى تصير قضية، ويشتمل عليه كتاب أرمينياس «العبارة». وإن موضوع القسم الرابع هو تركيب القضايا لتكوين دليل يعرف به المجهول، ويشتمل عليه كتاب أنولوطيقا الأول «التحليل بالقياس».
وإن موضوع القسم الخامس هو الشروط التي يجب أن تقوم بها مقدمتا القياس، ويشتمل عليه كتاب أنولوطيقا الثاني «البرهان». وإن موضوع القسم السادس هو القياسات المحتملة النافعة عند عدم وجود البرهان التام، ويتضمنه كتاب طوبيقا «الجدل». وإن موضوع القسم السابع هو المغالطات، ويتضمنه كتاب سوفسطيقا «نقض شبه المغالطين». وإن موضوع القسم الثامن هو تعريف المقاييس الخطابية البلاغية النافعة في مخاطبات الجمهور، ويتضمنه كتاب ريطوريقا «الخطابة». وإن موضوع القسم التاسع هو الكلام الشعري، ويشتمل عليه كتاب أبوطيقا «الشعر».
وأقام فرفريوس - الذي اتفق لكتبه في المنطق نفوذ عظيم في القرون الوسطى - نوعا من فلسفة اللسان ما بقي معه أداة لاصقة بمنطقيات أرسطو وما راق معه العرب، على الخصوص، بما فيه الكفاية، وذلك بمقدمته للمنطق أو بإيساغوجي. والعرب قد بدوا نحويين بارعين جدا، والعرب قد قاموا بتقديس لغتهم باكرا جدا، فحللوها بحس فلسفي عميق، وكان لسانهم نفسه يفتح سبيلا لهذا العمل؛ أي كانت العبارة العربية، البسيطة المرنة المؤلفة من جمل قصيرة عناصرها ذات أدوار محددة بلا التباس، ويربط بينها على مائة شكل مختلف ألهوة من الحروف، حسنة الإعداد للقياس السكلاسي، وكان من طبيعة طريقة اشتقاق الكلمات التي تتناول الفكرة في أصلها أول الأمر، فتدل بعدئذ على جميع الوجوه وجميع المظاهر بوساطة عدد قليل من الحروف الطارئة أو التحولات اللفظية، أن تشحذ الذهن الفلسفي وتساعده.
وقد قامت مدرستا نحويي العرب العظيمتان - أي مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة - باكرا، وذلك منذ القرن الأول بعد الهجرة، فدرستا الأشعار القومية القديمة وآي القرآن، وجعل الوحي القرآني المنزل بلغة العرب من غير أن تجوز ترجمته هذا اللسان مبجلا مقدسا حتى عند الأجانب، فبادر هؤلاء إلى خدمة مجده.
أجل، ترى نتيجة أعمال هؤلاء النحويين الأولين قد كثفت في كتب ظهرت بعد زمن، ولكن مع القدم البالغ، ككتاب النحو المشهور لسيبويه الفارسي، ما دام هذا العلامة قد توفي سنة 177 أو سنة 180 من الهجرة، ومن ثم ترى أن اللسان العربي درس فلسفيا قبل بدء الحركة الفلسفية العظيمة، وأن النحويين وضعوا - كما وضع فرفريوس - ضربا من إيساغوجي أو مقدمة للتوسعات التي تقع فيما بعد.
وقد يكون من المفيد أن يذكر كيف يظهر هذا القسم الأول من المنطق في هذه المناهج السكلاسية القديمة. ويدور الأمر - كما هو معلوم - حول القيمة التي تكون للكلمات بالنسبة إلى المعاني التي تنطوي عليها، فيرى هناك ما يكون اللفظ المفرد واللفظ المركب، واللفظ الذاتي واللفظ العرضي، والمعين والمطلق، والكلي والجزئي. ويعرف هناك ما تكون الألفاظ الخمسة التي هي: جنس، ونوع، وفصل، وخاصة، وعرض عام، وكيف يجب أن يجاب عن السؤالين: ما هو؟ ما هذا الشيء؟ فهذان السؤالان يؤديان إلى مذهب المقولات ومذهب العلل، بيد أن هذين المذهبين لم يلمسا غير لمس سطحي جدا في هذا البدء، ولأن ينتظر للكلام عنهما خير من أن نلقاهما في مكان آخر.
وكذلك ترتبط دراسة القضايا المعدة لتأليف عناصر القياسات في التحليل النحوي، وقد قام ابن سينا بهذه الدراسة بكل عناية وتفصيل، ولا سيما في «الإشارات».
7
وهناك ما تجد إيضاحا لما كان يدور في ذهن مؤلفنا، عندما تكلم في مادة الأحكام ووجوهها، فأما مادة الحكم، فهي ما هو صحيح في الحقيقة حول نسبة المحمول إلى الحامل. وأما الوجه فهو ما يفكر فيه حول هذه النسبة، وتكون المادة والوجه ضروريين أو غير ممكنين أو ممكنين، وهكذا فإن لفظة الحيوان المعطاة مثل محمول للإنسان تؤلف حكما مادته ضرورية؛ وذلك لأن الإنسان حيوان على الإطلاق وفي كل وقت، ولكنني إذا ما عبرت عن الحكم بالشكل القائل: قد يكون الإنسان حيوانا، فإن وجه الحكم يكون ممكنا مع كون مادته لا تنفك تكون ضرورية، ويميل هذا المثال إلى إثباته كون مقدمة مفاهيم الطبيعيات وما بعد الطبيعة حول المادة والصورة في المنطق هي على شيء من الزيادة.
وقد أشار ابن سينا في أثناء دراسته للأحكام إلى خاصية طريفة، أو خاصيتين في اللغة العربية؛ وذلك أنه عندما يتكلم مثلا عن بعض القضايا السيئة التعيين فلا يعرف هل الحامل - كالرجل - قد أخذ بمعنى كلي أو جزئي، فلاحظ أن هذا لا يمكن أن يكون في العربية، والواقع أنه يعرف في هذه اللغة، بما لا شك فيه، وذلك بحرف التعريف أمام كلمة «الرجل»، كون المقصود هو الرجل كليا، فإذا نون الاسم فقيل: «رجل» قصد رجل جزئيا.
وإليك مثالا ممتعا آخر اقتطفناه من قسم المنطق هذا؛ فهو يصلح لإثبات الدقة التي تسود هذا السرد كله، فلا نود أن نوكده على شكل آخر:
8 «أنت تعلم - على اعتبار ما سلف لك - أن الواجب في الكلية السالبة المطلقة الإطلاق العام الذي يقتضيه هذا الضرب من الإطلاق، أن يكون السلب يتناول كل واحد واحد من الموصوفات بالموضوع الوصف المذكور تناولا غير مبين الحال والوقت، حتى يكون كأنك تقول: كل واحد واحد مما هو «ج» ينفي عنه «ب» من غير بيان وقت النفي وحاله، لكن اللغات التي نعرفها قد خلت عن استعمال النفي الكلي على هذه الصورة في عاداتها، واستعملت للحصر السالب الكلي لفظا يدل على زيادة معنى على ما يقتضيه هذا الضرب من الإطلاق.
فيقولون بالعربية: لا شيء من «ج» «ب»، ويكون مقتضى ذلك عندهم أنه لا شيء مما هو «ج» يوصف البتة بأنه «ب» ما دام موصوفا بأنه «ج»، وهو سلب عن كل واحد واحد من الموصوفات ب «ج» ما دامت موضوعة له إلا أن لا توضع له، وكذلك ما يقال في فصيح لغة الفرس، هيج «ج» «ب» نيس، وهذا الاستعمال يشمل الضروري وضربا واحدا من ضروب الإطلاق الذي شرطه في الموضوع، وهذا قد غلط كثيرا من الناس أيضا في جانب الكلي الموجب، لكن السالب الكلي المطلق بالإطلاق العام أولى الألفاظ به هو ما يساوي قولنا: كل «ج» يكون ليس ب «ب»، أو يسلب عنه «ب» من غير بيان وقت وحال، وليكن السالب الوجودي وهو المطلق الخاص ما يساوي قولنا: كل «ج» ينفي عنه «ب» نفيا غير ضروري ولا دائم، وأما في الضرورة، فلا بعد بين الجهتين، والفرق بينهما أن قولنا: كل «ج» فبالضرورة ليس ب «ب» يجعل الضرورة لحال السلب عند واحد واحد.
وقولنا: بالضرورة لا شيء من «ج» «ب» يجعل الضرورة لكون السلب عاما ولحصره، ولا يتعرض واحد لواحد إلا بالقوة، فيكون مع اختلاف المعنى ليس بينهما افتراق في اللزوم، بل حيث صح أحدها صح الآخر، وعلى هذا القياس فاقض في الإمكان.»
وقد قلنا آنفا: إن القياس المنطقي عند ابن سينا معتدل جدا، وليس لدينا أي قصد في الوقوف عنده، فمن السهل على القارئ أن يتمثل ما يكون القياس البسيط الحسن الترتيب المكتوب بلا ارتباك ولا إسهاب فعجل فيه، كما في المثال السابق، استعمال ملائم للحروف عرضا لحدود القياس، وأوضح ببعض الأمثلة القليلة، وقد أضيفت إلى دراسة القياس المنطقي دراسة التراكيب القياسية التي يسميها المؤلف بالقياسات المركبة.
وإنا نستخلص من هذا الفصل الأخير صفحة أخذناها اتفاقا للدلالة على أسلوبه،
9
وذلك أن: «تركيب القياس قد يكون موصولا، وهو أن لا تطوى فيه النتائج، بل تذكر مرة بالفعل، ومرة مقدمة كقولك: كل «ج» «ب»، وكل «ب» «ه»، فكل «ج» «ه»، وكل «ج» «ه»، وكل «ه» «د»، فكل «ج» «د»، (وقد يكون تركيب القياس مفصولا، وهو أن تطوى فيه النتائج، كقولك كل «ج» «ب»، وكل «ب» «ه»، وكل «ه» «د»، فكل «ج» «د»). والقياس الذي زاده المحدثون في الشرطيات الاستثنائية هو قياس مركب، وأخذوه على أنه مفرد، كقولك: كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود، وإن كان النهار موجودا فالأعشى يبصر والشمس طالعة؛ فإذن الأعشى يبصر.»
وجميع ما استشهدنا به وما قلناه يكفيان للإشعار بسمة منطق ابن سينا الواضحة الوجيزة الدقيقة الثابتة، حيث يتبع المؤلف أرسطو وشارحيه بكل استقلال، وذلك من غير أن يبدو عبدا لرسمهم ولا لتعليمهم، وإنما كان يكملهم ويكافحهم ويقومهم في بعض الأحيان. ومع ذلك فإننا نخشى أن يفرغ صبر القارئ، وأن تفوته أهمية هذا التقدم التفصيلي الذي حققه ابن سينا في المنطق اليوناني. فترانا نبادر إلى إيصاله إلى قسم هذا المنطق، الذي ظل حيا، والذي موضوعه فن التصديق على العموم ونظرية العلم.
وقد رأينا في تعريف المنطق أن العلم تصور وتصديق. وقد بين ابن سينا - الذي لم يكن عالما نفسيا نفاذا أقل منه عالما منطقيا دقيقا، وذلك في منطقه - أن هذين العنصرين متحدان اتحادا وثيقا، وأنهما يتعاونان تعاونا شديدا في جميع درجات العمل الذهني. «وكل تصديق وتصور فإما مكتسب ببحث ما، وإما واقع ابتداء.»
10
ويكتسب التصديق بالقياس، ويكتسب التصور بالحد، ولا يمكن وقوع القياس بلا تصور، «وللقياس أجزاء مصدق بها ومتصورة»، ويقوم الحد على تصورات أيضا، غير أن هذه التصديقات والتصورات التي يستخدمها الذهن في وقت ما من أوقات دراسة العلم تقوم نفسها على تصديقات وتصورات سابقة، ولا يمكن ذهاب سلسلة ذلك إلى غير نهاية، كما لا تذهب سلسلة المعلولات والعلل؛ ولذا فلا بد من أن تنتهي الأمور إلى «مصدقات ومتصورات بلا واسطة، ولنعد المصدق بها بلا واسطة»، وهذا الحد الذي ينطلق المنطق منه يلقى - كما هو واضح - في تجارب الحواس الأولى وفي مبادئ الذهن الأولى.
وفي المنطق يتناول ابن سينا بالتدريج شأن الإحساس كمبدأ للمعرفة، فيتاح له الكلام عنه فيما بعد، ومع ذلك فإن الكلمات القليلة التي تكلم بها عنه هنا ذات فائدة، وذلك كما أنه لاحظ عدم وجود قياس بلا تصور وكد عدم وجود محسوس بلا قياس. «فالمحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس»؛ ومن ثم يرى أنه يريد بالمحسوسات مجربات الحواس، وهو يوضح الدور الذي تمثله الذاكرة في هذه التجربة، فيقول: «إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء، مثل الإسهال للسقمونيا، والحركات المرصودة للسماويات، تكرر ذلك منا في الذكر، وإذا تكرر منا ذلك في الذكر حدثت لنا منه تجربة بسبب قياس اقترن بالذكر، وهو أنه لو كان هذا الأمر كالإسهال مثلا عن السقمونيا اتفاقيا عرضيا، لا عن مقتضى طبيعته، لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة، فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد. وإذا اجتمع هذا الإحساس وهذا الذكر مع هذا القياس أذعنت النفس بسبب ذلك التصديق بأن السقمونيا من شأنها إذا شربت، أن تسهل صاحبها.»
وفضلا عن الذاكرة، فإن الوهم يمثل عند ابن سينا دورا مهما في مبادئ قياساتنا، «فالعقل يبتدئ من مقدمات، يساعده عليها الوهم»، وتنطوي هذه المقدمات على حقائق متفاوتة، فبعضها ما هو من الإيمان، «والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به، أو لرأي وفكر قوي تميز به، مثل اعتقادنا أمورا قبلناها عن أئمة الشرائع»، وأخرى مقدمات حس كلي . «فالذائعات مقدمات وآراء مشهورة محمودة، أوجب التصديق بها، إما شهادة الكل - مثل أن العدل جميل - وإما شهادة الأكثر، وإما شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور». ومثل هذا النوع من المقدمات - أيضا - المبادئ التي تقوم على العادات المكتسبة منذ الصبا، أو القائمة على أهواء يكون الإنسان عرضة لها، أو على «الاستقراء الكثير»، فليست حقيقة مثل هذه المقدمات مطلقة، ثم توجد مبادئ العقل (الأوليات)؛ «فالأوليات، هي قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها ... فوجب أن يصدق بها الذهن ابتداء ومن غير أن يشعر»، ومن هذه الأوليات - مثلا - كون الكل أعظم من الجزء.
أجل، إن للحس نصيبه - أيضا - في تكوين هذا النوع من المقدمات، ولكن ليس النصيب الرئيس. «نعم، قد يمكن أن يفيده الحس تصورا للكل وللأعظم وللجزء. وأما التصديق بهذه القضية فهو من جبلته (أي العقل).»
وللعلوم موضوعات ومسائل ومقدمات،
11
وقد تكلمنا عن المقدمات الكلية، وتوجد مقدمات لكل علم. وهذه هي متعارفات هذا العلم، وذلك خلا بعض الافتراضات أو بعض المبادئ المسلم بها من غير برهان فيوجبها الأستاذ؛ وذلك إما لأن هذه الافتراضات أثبتت في علم قريب، وإما لأنها ستثبت في عين العلم الذي يعلم، وإما لأن للتلميذ الذي يتعلم العلم لا يجد فيها ما يعاند. ومن هذه المبادئ المسلم بها من غير برهان في الهندسة مثلا: أن الخطين إذا وقع عليهما خط مستقيم فكانت الزاويتان اللتان من جهة واحدة أقل من قائمتين، فإن الخطين يلتقيان من تلك الجهة.
وموضوعات العلوم هي الأمور التي توضع في العلوم، وتطلب أعراضها الذاتية مثل المقدار للهندسة، ومثل العدد للحساب، ومثل الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن للعلم الطبيعي، ومثل الموجود والواحد للعلم الإلهي، ولكل منها أعراض ذاتية تخصه مثل المنطق والأصم للمقادير، ومثل الشكل لها، ومثل الزوج والفرد للعدد، ومثل الاستحالة والنمو والذبول وغير ذلك للجسم الطبيعي، ومثل القوة والفعل والتمام والنقصان للموجود، وبالحد تعين موضوعات العلم، فلنقل بضع كلمات عنها.
يفرق فلاسفة العرب بين الحد والرسم،
12
وإليك إيضاح ابن سينا لذلك في الإشارات:
13 «الحد قول دال على ماهية الشيء، ولا شك في أنه يكون مشتملا على مقوماته أجمع، ويكون لا محالة مركبا من جنسه وفصله؛ لأن مقوماته المشتركة هي جنسه، والمقوم الخاص فصله، وما لم يجتمع للمركب ما هو مشترك وما هو خاص لم تتم للشيء حقيقته المركبة، وما لم يكن للشيء تركيب في حقيقته لم يمكن أن يدل عليها بقول، فكل محدود مركب في المعنى.» ومثل هذا قول ابن سينا في النجاة:
14 «إن البرهان والحد متشاركان في الأجزاء، فما لا برهان عليه فلا حد له، وكيف يكون له حد، وإنما يتميز بالعوارض الغير المقومة، فأما المقومات فمشتركة لها؟»
والوجه - الذي يكون به الرسم - أقل تعيينا من الوجه الذي ينال به الحد، قال فيلسوفنا:
15 «وأما إذا عرف الشيء بقول مؤلف من أعراضه وخواصه، التي تخصه بالاجتماع، فقد عرف ذلك الشيء برسمه، وأجود الرسم ما يوضع فيه الجنس أولا، ليفيد ذات الشيء، مثاله ما يقال للإنسان: إنه حيوان مشاء على قدميه، عريض الأظفار، ضحاك بالطبع، ويقال للمثلث: إنه الشكل الذي له ثلاث زوايا، ويجب أن يكون الرسم بخواص وأعراض بينة للشيء، فإن من عرف المثلث بأنه الشكل الذي زواياه مثل قائمتين لم يكن رسمه إلا للمهندسين.»
والمسائل التي توضع في العلوم هي - عدا مسائل معرفة ما الشيء، وهل هو موجود - ما يؤخذ في الجواب عنه بالحد والرسم، ومسائل معرفة أين يكون هذا الشيء ومتى يكون، وكيف يكون، ولماذا يكون، وتسوقنا هذه المسائل المختلفة، التي تستدعي نظرية المقولات ونظرية العلل، إلى حدود المنطق وإلى النقطة التي يلمس عندها هذا العلم ما بعد الطبيعة.
وكانت مسألة العلل قد ارتبطت في مسألة الحد، قال ابن سينا:
16 «إن الجواب عن لم؟ والجواب عن ما هو؟ متفقان؛ وذلك لأن الجوابين يكونان بما هو داخل في ماهية الشيء، مثاله: لم انكسف القمر؟ فنقول: لأنه توسط بينه وبين الشمس الأرض؛ فانمحى نوره، ثم نقول: ما كسوف القمر؟ فنقول: هو انمحاء نور القمر لتوسط الأرض.»
والجواب العادي للسؤال: لم؟ في البراهين هو العلة القريبة الحاضرة، وتدخل العلل الجوهرية الاتساع المتساوي أو الأعلى للشيء في حده، ولكن علل الاتساع الأقل لا تدخل فيه، وهي لا يمكن أن تستدعى إلا في البراهين التي تقدم بسببه، ومما يحدث أحيانا أن تدخل علل السكلاسية الأربع، وهي: المادية، والصورية، والفاعلية، والغائية في حد الشيء معا، مثاله: أن يقال عند تحديد القدوم: «إنه آلة صناعية من حديد شكلها كذا، ليقطع به الخشب نحتا.»
17
فالآلة جنس، والصناعية تدل على المبدأ الفاعل، والشكل على الصورة، والنحت على الغاية، والحديد على المادة، وإذا ما نظر إلى الأمر نظرة عامة وجد وجوب كون العلة أو مجموع العلل المستدعاة من ذات الاتساع كالمعلول؛ وذلك إنتاجا في البراهين المنطقية.
ويرتبط بعض مختلف العلوم في بعض بموضوعاتها، ويصنف بعضها تحت بعض وفق سلسلة مراتب هذه الموضوعات، وبما أن معضلة تصنيف العلوم كانت شائعة في القرون الوسطى، فإننا نقدم قائمة مختصرة عن العلوم كما جاءت في مدرسة ابن سينا، وذلك وفق الرسالة التي كنا قد استخرجنا منها تقسيم المنطق،
18
وبذلك نختم هذا الفصل.
تقسم الفلسفة، التي هي اسم يطلق على مجموع علوم الحكمة، إلى قسمين: الفلسفة النظرية، والفلسفة العملية؛ فغرض الأولى هو الحقيقة، وغرض الثانية هو الخير.
وتقسم الفلسفة النظرية إلى ثلاثة أقسام، وهي: العلم الأسفل ويسمى الطبيعيات، والعلم الأوسط ويسمى الرياضيات، والعلم الأعلى ويسمى الإلهيات، وكذلك الفلسفة العملية تقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: علم ما يجب أن يكون عليه الإنسان مثل فرد، وهو الأخلاق، وعلم ما يجب أن يسلكه حيال بيته وزوجه وأولاده وأمواله، وهو الاقتصاد (تدبير المنزل)، وعلم الحكومات ونظام المدن الكاملة والناقصة، وهو السياسة.
ويقسم كل من العلوم التي تتألف الفلسفة النظرية منها إلى طائفة من العلوم الصرفة أو الأولى، وإلى طائفة من العلوم التطبيقية أو الثانية.
والعلوم التي تصف في الطبيعيات الصرفة هي: علم الموجودات على العموم، والهيولي، والصورة، والحركة، والمحرك الأول، وعلم الأجسام الأولى التي يتكون منها العالم والسماوات والعناصر وحركاتها، وعلم الكون والفساد، وعلم الآثار العلوية، وعلم المعادن، وعلم النباتات، وعلم الحيوان، وعلم النفس وخواصها، سواء أفي الحيوان أم في الإنسان، ويربط المؤلف بهذا القسم الأخير من العلم الطبيعي الصرف مسألة خلود النفس.
وتشتمل الطبيعيات التطبيقية على الطب، والتنجيم، والفراسة، وتفسير الأحلام، وعلم الطلاسم، وعلم السحر، وعلم السيمياء.
ووضعت أربعة علوم في الرياضيات الأولى، وهي: العدد، والهندسة، والفلك، والموسيقى.
وتطابق هذه العلوم في الرياضيات الثانية علوم تطبيقية مختلفة؛ فيرتبط في علم العدد الحساب الهندي الستوني، والجبر، ويرتبط في علم الهندسة المساحة، والميكانيكا، وجر الأثقال، وصنع الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا والمائيات (نقل المياه)، ويرتبط في علم الفلك فن وضع الأزياج والتقاويم، ويرتبط في الموسيقى إنشاء الآلات الغريبة مثل الأرغل، وما أشبهه.
وللإلهيات الأولى خمسة أقسام، وهي: (1) علم المعاني العامة التي تشتمل على جميع الموجودات؛ أي: الهوية والواحد والكثرة والوفاق والخلاف والتضاد والقوة والفعل والعلة والمعلول. (2) معرفة المبادئ الأولى للعلوم. (3) النظر في إثبات الحق الأول وتوحيده، والدلالة على تفرده وربوبيته، وغير ذلك من الصفات. (4) علم الجواهر الأولى الروحانية التي هي أقرب المخلوقات إلى الحق الأول كالكروبيين، وعلم الجواهر الروحانية الثانية التي تكون دون الأولى، كالملائكة الموكل إليهم أمر السماوات والحملة لعرش الإله أو المدبرين للطبيعة. (5) علم الوجه الذي تخضع به الجواهر الجسمانية السماوية والأرضية لتلك الجواهر الروحانية.
وأخيرا؛ تشتمل الإلهيات الثانية على علم الوحي وعلم المعاد؛ أي الثواب والعقاب في الحياة الأخرى.
الفصل السابع
طبيعيات ابن سينا
الطبيعيات عند القدماء - دخول قسم من علم النفس عند الشيخ الرئيس تحت عنوان الطبيعيات - مبدأ الكمالات ومبدأ القوة عند ابن سينا - القياس الزماني والسرعة - المكان وتعريفه عند ابن سينا - الخلاء والحركة - قابلية الأجسام للتجزؤ. ***
جرت العادة في القرون القديمة والقرون الوسطى على عد الطبيعيات قسما من الفلسفة؛ وذلك لأن الفلسفة كانت علم الموجودات وأحوالها وفق تعريفها القديم على الخصوص، وأدق من ذلك أن يقال: إن الطبيعيات كانت تدخل ضمن نطاق الفلسفة لاحتياجها إلى ما بعد الطبيعة، ولاحتياج ما بعد الطبيعة إليها، وكانت الطبيعيات في نظر قدماء الفلاسفة توجد في حقل الملاحظة وحقل العقل، وما كانت الملاحظة المحسوسة لتستغني عن القياس ولا العقل عن الحواس، فما كنت تجد هوة بين الدائرتين على الإطلاق.
ومن عدم الإنصاف نحو المناهج السكلاسية؛ أن اتهمت بتكوينها حول الموجودات آراء سابقة من غير اكتراث للتجربة، فلو أحسن إدراك روح هذه المذاهب المسنة لرئي أنه لا شيء أكثر خطأ من ذلك؛ وذلك أن القياس والملاحظة متداخلان في ذلك، وأن البحث النظري قائم على العلم الوضعي في ذلك، وأن العلم منتظم في ذلك بواسطة البحث النظري، فيوجد في ذلك انسجام بين الفكر والموضوع وبين المجرد والعين، وبين العقل والأشياء. والمبدأ السابق الوحيد الذي تجده هنالك هو المبدأ الذي يوكد وجود هذا التوافق، والذي يطالب الفيلسوف بيقين سابق بإمكان تطبيق العقل على الأشياء.
وليعن بدراسة تكوين فلسفة القرون الوسطى، ولينظر إلى أنها مدينة بأغاليطها - ضبطا - لوضعها نفسها ضمن تابعية وثيقة لعلم كان لا يزال ناقصا، لا لأنها استخفت بالعلم الوضعي.
وسنبدأ بإلقاء نور على هذا الأمر في الفصل الحاضر، وما نقوله، بعد ذلك، عن علم النفس وما بعد الطبيعة يتم إقامته.
ويستند علم النفس إلى الطبيعيات بلا انقطاع، وفي سكلاسية ابن سينا يدخل قسم من علم النفس، وهو الذي يدور موضوعه حول علم الأنفس، تحت عنوان الطبيعيات. وفضلا عن ذلك، فإن الطبيعيات ترتبط بما بعد الطبيعة؛ وذلك لأن سلسلة الموجودات متصلة من الهيولي إلى العقل، ثم إن من المفيد أن يذكر وجود صلات متبادلة تجمع بين الطبيعيات والمنطق. ولا غرو، فالمنطق يستعير من العالم الطبيعي كثيرا من المبادئ التي يحتاج إليها، ولا سيما مبادئ المقولات والعلل، كما أن المنطق، من ناحية أخرى، يعير الطبيعيات آلة مناهجه ونابض قياساته، ما دمنا نسلم بأن قوانين العقل تطبق على الطبيعة.
ولا نقصد القيام هنا بعرض تام لطبيعيات ابن سينا، فتاريخ الفلسفة، لا تاريخ العلوم هو ما نرى شغل بالنا به، ولكن بما أننا أشرنا - بالضبط - إلى أن الطبيعيات السكلاسية تشتمل على فلسفة، فإنه يجب أن نستخرج منها ما يتصل بموضوعنا، وهذا ما سنصنعه بسهولة ، وذلك بدرسنا بعض مبادئ هذا العلم الرئيسة أو قضاياه. •••
من الواضح أنه يوجد أساس طبيعي لمبدأي ما بعد الطبيعة الكبيرين: المادة، والصورة. وهما يبدوان في بدء الطبيعيات من النجاة
1
حيث جاء: «نقول إن الأجسام الطبيعية مركبة من مادة هي محل، وصورة هي حالة فيه، ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال.» وكذلك المقولات مبادئ استوحتها الطبيعيات، «وفي مادة الجسم الطبيعي صور أخرى غير الصورة الجسمية، فلها صور مناسبة لباب الكيف ولباب الأين، ولغير ذلك. وإذا كان الأمر على هذا فللأجسام الطبيعية إذا أخذت على الإطلاق من المبادئ المقارنة مبدآن فقط: أحدهما المادة، والآخر الصورة. ولواحق الأجسام الطبيعية هي الأعراض العارضة من المقولات التسع، وفرق بين الصور وبين الأعراض؛ فإن الصور تحل مادة غير متقومة الذات على طبيعة نوعها، والأعراض تحل الجسم الطبيعي الذي تقوم بالمادة والصورة، وحصل نوعه.»
وللأجسام كمالات أولى وكمالات ثانية حددت هكذا: «وذلك إما كمالات أولى، وهي التي إذا ارتفعت بطل ما هي له كمالات، وإما كمالات ثانية لا يؤدي ارتفاعها إلى بطلان الشيء الذي هي له كمالات، بل يؤدي إلى ارتفاع صلاح حاله.»
وينتقل ابن سينا من مبدأ الكمالات هذا إلى مبدأ القوة، الذي نرى من المفيد تحليله. ويقول في بدء الأمر: «ليس شيء من الأجسام الموجودة يتحرك أو يسكن بنفسه.» وهذا بيان صريح عن مبدأ الجمود، ولم تلبث الفكرة أن صارت أكثر عمقا؛ وذلك أنه «ليس جسم يتحرك عن جسم آخر أو قوة فائضة عن جسم، فليس يصدر عنه شيء إلا وفيه قوة» مناسبة، ويمكن تفسير هذه الفكرة بعدها مفهوما حركيا، قائلا بأن القوة تكون دائما كامنة في الشيء الذي يتحرك، وذلك خلافا للمفاهيم السكونية الدارجة، القائلة بأن القوة تتحرك عن أشياء خارجية كما يلوح.
بيد أن ابن سينا يوضح رأيه: إن هذه القوى الملازمة للجسم ليست غير الكمالات الأولى التي تصدر عنها الكمالات الثانية، وعن الكمالات الثانية تصدر أفعال الأجسام، وللقوى ثلاثة أقسام: فالقوى الأولى هي التي تحفظ في الأجسام كمالاتها الخاصة بأشكالها ومواضعها الطبيعية، فإذا زالت عن مواضعها الطبيعية وأشكالها أعادتها إليها وثبتتها عليها، وهذه القوى تسمى طبيعية، وهي مبدأ لحركاتها بالذات وسكوناتها بالذات، ولسائر كمالاتها التي لها بذاتها، وليس شيء من الأجسام الطبيعية بخال من هذه القوة، والنوع الثاني قوى تفعل في الأجسام أفعالها من تحريك أو تسكين وغيرها من الكمالات بتوسط آلات ووجوه مختلفة؛ فبعضها يفعل ذلك دائما من غير اختيار ولا معرفة، فيكون نفسا نباتية، ولبعضها القدرة على الفعل وتركه، وإدراك الملائم والمنافي، فيكون نفسا حيوانية.
وتدخل ضمن هذا النوع كمالات النفس الإنسانية، التي تستطيع الإحاطة بحقائق الموجودات على سبيل الفكرة، وبهذا نصل إلى علم النفس، «والنفس بالجملة كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة»، والنوع الثالث قوى تفعل مثل هذا الفعل لا بآلات، بل بإرادة متجهة إلى سنة واحدة لا تتعداها، وتسمى نفسا فلكية، وبهذا النوع نصل إلى ما بعد الطبيعة.
ومما تقدم ترى - إذن - تحليلا للمبدأ الطبيعي الذي جاوزنا به جميع الفلسفة في بضع كلمات، وفضلا عن ذلك فإن هذا التحليل جميل، وإن من طبيعة هذا المفهوم الحركي عن القوة أن يروق بعض الأذهان في الزمن الحاضر أيضا، وفي فصل آخر،
2
يدنو ابن سينا من السكونية الحديثة، وهو يوكد فيه الملاحظة التي لها فائدتها فيما بعد الطبيعة، والقائلة بعدم وجود قوة غير متناهية، ما دامت أحوالها قابلة للزيادة والنقصان، ثم إنه يعرض أحوال القوة بجر الأثقال ورفع الأوزان، وهو يذكر المبدأ الميكاني القائل: إن ما يكسب بالشدة يخسر بالمسافة، ونحن نقول: إن ما يكسب بالقوة يخسر بالسرعة.
ولذا؛ فإن ابن سينا كان ذا إدراك جلي للمبادئ الميكانية، وكان لإدخال روح ما بعد الطبيعة في هذه الطائفة من المسائل نتيجة حمله على إهماله بعض الإهمال للقوة السكونية؛ كيما يطيل الكلام عن المبدأ الحركي، الذي هو أرفع شأنا لا ريب.
ومبدأ الزمان ومبدأ الحركة متلازمان، وإذا ما خطوت أكثر من ذلك في روح مدرسة ابن سينا وجدت أن مبدأ الزمان تابع لمبدأ الحركة، قال ابن سينا: «لا يتصور الزمان إلا مع الحركة، ومتى لم يحس بحركة لم يحس بزمان.»
3
ويشد فيلسوفنا على المظهر النفسي لهذه الفكرة بإثارته المقارنة القائلة: «مثل ما قيل في قصة أهل الكهف»، وتقوم هذه القصة على خبر النيام السبعة؛ وذلك أن سبعة شباب كانوا قد التجئوا إلى كهف، فرارا من ظلم دقيانوس، فناموا فيه نوما عجيبا، ثم أفاقوا بعد 240 سنة، ظانين أنهم لم يناموا غير ليلة واحدة. وقد عبر عن ذات الفكرة على وجه إلهي في عبارة جاءت في رسالة «عيون الحكمة» لابن سينا.
4
قال ابن سينا: «فأما السكون، فالزمان لا يتعلق به، ولا يقدره إلا بالعرض؛ إذ لو كان متحركا ما هو ساكن لكان يطابق هذا الجزء من الزمان، والحركات الأخرى يقدرها الزمان، لا بأنه مقدارها الأول، بل بأنه معها كالمقدار الذي في الذراع يقدر خشبة الذراع بذاته ويقدر سائر الأشياء بتوسطه؛ ولهذا يجوز أن يكون زمان واحد مقدار الحركات فوق واحدة.» والواقع أن الأجسام الطبيعية - وفق هذا المنهاج - لا تكون في الزمان مباشرة، وإنما تكون أولا في الحركة التي تكون في الزمان. وقد عبر عن هذه الفكرة البالغة الدقة في العبارة التي جاءت بعد الكلمة المذكورة: «والجسم الطبيعي في الزمان لا لذاته، بل لأنه في الحركة والزمان.»
ويحكم - بمطلع هذا التحليل - في السهولة التي وقعت بها معالجة هذه المبادئ، وقد كان سكلاسيو الشرق كثيري الاستقلال في أفكارهم حول الزمن، وهم لم يقاسوا عسرا في عده محدثا، في عده مخلوقا. وما أكثر ما اعتبر تفكيرهم نفسه محررا من الشرط الزماني، الذي يبدو لنا أكثر جبروتا في الوقت الحاضر.
وانظروا إلى مقدار البساطة التي يتكلم بها ابن سينا
5
عن ذلك. قال ابن سينا: «ليس الزمان محدثا حدوثا زمانيا، بل حدوث إبداع لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة، بل بالذات، ولو كان له مبدأ زماني لكان حدوثه بعدما لم يكن؛ أي بعد زمان متقدم»، وهذا ينافي الفرضية القائلة بوجود أصل له، «فالزمان مبدع؛ أي يتقدمه باريه فقط»، وقد يحاول بعض الناس عد هذه التأملات رفيعة الشأن ، ولكن القارئ الذي يتفضل بالاطمئنان إلى سياق مؤلفنا بلا غرض يحكم بسذاجتها من ناحيتها العقلية أكثر من أن يرى ذلك؛ ولذا فلنواصل التحليل. «ومعنى المحدث الزماني أنه لم يكن، ثم كان. ومعنى لم يكن أنه كان حال هو فيه معدوما، وذلك الحال أمر قد وجد». وأما الزمان فإنه لم يحدث في الزمان، ومثل هذا أمر الحركة، لا كل حركة، بل حركة السماوات المستديرة، والواقع أنه يجب أن نتعود الفكرة القائلة - في هذا المنهاج - إن حركة الأفلاك السماوية، أو الفلك الخارجي على الأقل، قد وضعت مثل مبدأ لجميع فعالية العالم على الوجه الذي سنوضحه؛ وذلك أن الزمان ليس سوى خضوع لازم لهذه الحركة، «فالزمان مقدار للحركة المستديرة». وهذه هي النظرية التي كنا قد لقيناها عند الكندي، وبما أن هذه الحركة متصلة فالزمان متصل.
ويقول ابن سينا مواصلا: إن جميع الموجودات ليست في الزمان حادثة في الحال، «بل الشيء الموجود في الزمان. أما أولا فأقسامه، وهو الماضي والمستقبل، وأطرافه وهي الآنات. وأما ثانيا فالحركات، وأما ثالثا فالمتحركات، فإن المتحركات في الحركة، والحركة في الزمان، فتكون المتحركات بوجه ما في الزمان»، وتكون الآنات كالوحدات في العدد، وتكون المتحركات ككون المعدودات في العدد، وكل متصل من المقادير الموجودة قد يفصل فيقع عليه العدد، فلا عجب لو فصل الزمان، ولا يكون ما لا يدخل في الأصناف الثلاثة المذكورة، في الزمان، بل إذا قوبل مع الزمان واعتبر به، فكان له ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه، وسميت تلك الإضافة وذلك الاعتبار دهرا له، فيكون الدهر هو المحيط بالزمان، ويطبق القياس الزماني على الأشياء التي ليست ضمن الزمان بواسطة هذا الدهر الثابت. ولا بد من الاعتراف بأن هذا تحليل نفاذ يمكن الانتفاع بكثير منه في هذه الأيام.
وقد يكون من الممتع أن يستمع إلى قول ابن سينا عن السرعة؛ وذلك لكلامه عنها بروح سكلاسية، فبعد أن لاحظ ابن سينا
6 «أن كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة»، وضع لنفسه سؤالا قائلا: علام يطبق هذا المقدار ، فاسمع جوابه: «وهذا المقدار وجوده في مادة؛ لأنه يوجد منه جزء بعد جزء، وكلما كان كذلك فكل جزء يفرض منه حادث، وكل حادث ففي مادة، أو عن مادة، وليس هذا عن مادة؛ لأن مجموع المادة والصورة لا يحدثان حدوثا أوليا، بل الهيئة والصورة. فهو - إذن - مقدار في مادة، وكل مقدار يوجد في مادة وموضوع. فإما أن يكون مقدار للمادة أو الهيئة فيها، ولكن ليس هذا المقدار للمادة؛ لأنه لو كان مقدارا للمادة بذاتها لكان بزيادتها زيادة المادة، ولو كان كذلك لكان كل ما أسرع أكبر وأعظم، والتالي باطل، فالمقدم باطل، فإذن هو مقدار للهيئة.»
وقد ترجمنا هذه العبارة التي هي على شيء من الطرافة بأسلوبها، ولكن النتيجة فيها ممتازة أيضا. وحاصل القول: إن ابن سينا يضع مبدأ الحركة في هيئة لمادة المتحركات، فالحركة تكون بالقوة في هذه الهيئة، ثم تنتقل إلى الفعل مقدارا فمقدارا، قال ابن سينا في موضع آخر:
7 «الحركة تقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء، والوصول بها إليه هو بالقوة، لا بالفعل على وجه متصل، لا دفعة واحدة.» ويسوقنا هذا التعريف إلى مفهوم مماثل لمبدأ القوة الحية الحديث، ولكن مع كونه أكثر لاهوتية وأقل رياضية في الوقت نفسه، وهو يأتي بنا إلى وجهة نظر حركية، حيث رأينا وضع ابن سينا في تحليل مبدأ القوة عن تفضيل.
وقد عرف ابن سينا المكان كما عرفه الكندي. قال مؤلفنا:
8 «يقال مكان لشيء يكون فيه الجسم، فيكون محيطا به.» وقال في مكان آخر:
9 «المكان هو نهاية الحاوي المماسة لنهاية المحوي، وهذا هو المكان الحقيقي. وأما المكان غير الحقيقي، فهو الجسم المحيط.»
ويستخلص فيلسوفنا نتائج مفيدة من مبدأ المكان الطبيعي، الذي يجب أن يماز من السابق، فيقول: «لكل جسم مكان طبيعي واحد.» وهذا هو المكان الذي يميل إليه في حركته الطبيعية، وإن شئت فقل: إن كل جسم يترك لنفسه يميل إلى مكان يكون واحدا دائما، وكذلك يكون للجسم شكل وموضع طبيعيان، «فالجسم، إذا خلي وطباعه
10
لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين»، ويجب أن يكون الشكل الذي يقتضيه البسيط مستديرا.
ومما تجب ملاحظته في هذه النظرية مبدأ الميل، الذي لم ينتفع به في الطبيعيات الحديثة مع كونه فلسفيا بسيطا، فالجسم الذي يزاح عن مكانه أو يقصى عن شكله يميل إلى العودة إليه بواسطة الحركة. قال ابن سينا: «الجسم له في حال تحركه ميل يتحرك به، ويحس به الممانع.» وكلما كان ميل الجسم نحو مكانه الطبيعي قويا ضعف الميل الآخر، الذي يمكن أن يعطاه قسرا، ويعم مبدأ الميل هذا في هذه الفلسفة كما يعم مبدأ الحركة، ويطبقه ابن سينا بصراحة على الحركة الحيوية، التي تذهب بالموجودات جاعلة إياها تنتقل من صورة إلى أخرى بين كونها وفسادها:
11 «فكل كائن فاسد فيه ميل إلى الحركة المستقيمة»، تنقله في كل آن من صورته الحاضرة إلى الصورة التالية، وقد شعر بجميع هذا شعورا عميقا، وأوضح إيضاحا موفقا، وهذه النظرية دائمة الملاءمة لمبدأ القوة الحركي، الذي أثنينا عليه فيما تقدم.
غير أن فكرة المكان الطبيعي، في حال خاصة، خانت ابن سينا، وحملته على طرح رأي طبيعي، عرض في زمانه واعترف - بعد حين - بأنه صحيح، والأمر هو مذهب الضغط الجوي والمائي، الذي أبصره فلاسفة في زمن ابن سينا، فقال لنا ابن سينا نفسه:
12 «ومن فساد الظنون ظن من رأى أن النار تتحرك إلى فوق بالقسر، والأرض تتحرك إلى أسفل بالقسر، وكيف والأعظم يتحرك أسرع، خصوصا ظن من يظن من هؤلاء أن هذا القسر ضغط، وأن النار تعلو الهواء، والهواء يعلو الماء، والماء يعلو الأرض بسبب ضغط الكثيف للطيف من فوق، وكيف والاندفاع من الضغط يكون خلاف جهة الضاغط لا نحوه، ويكون انضغاط الأعظم أبطأ؟ فبين من هذا غلط من ظن أن الأجسام كلها تهوي إلى أسفل، ولكن الأكثف يضغط الألطف.»
ومن المتعذر أن تعرض بأوضح مما صنع علماء القرن الحادي عشر هؤلاء نظرية الضغط الجوي والضغط المائي، التي قام على اكتشافها مجد علماء القرن السابع عشر، وإنا لنأسف - حرصا على مجد ابن سينا - أن نحقق أنه أنكر صحة هذا الرأي متبعا تعليم أرسطو القائل: إن الخفيف يذهب إلى فوق وإن الثقيل يذهب إلى أسفل على أنهما مكاناهما الطبيعيان.
ثم إن فكرة المكان الطبيعي في فلسفة ابن سينا أدت إلى النتيجة الغريبة بعض الغرابة القائلة: «إن العالم واحد، وإنه لا يمكن التعدد.»
13
وسبب ذلك «أنه لا يمكن أن يكون لجسم واحد مكانان طبيعيان؛ فإذن الأجسام المتشابهة الصور والقوى حيزها الطبيعي واحد ووجهتها الطبيعية واحدة، فبين من هذا أنه لا يكون أرضان في وسطين من عالمين، وناران في أفقين محيطين من عالمين.»
وهناك مسألة مشهورة في القرون الوسطى، حتى علم القرن السابع عشر، وهي مسألة الخلاء، وقد تناولها ابن سينا بتفصيل، يزودنا بمثال ممتع عن حال المنهاج السكلاسي في ذلك العصر؛ وذلك أن ابن سينا يزعم أنه يثبت استحالة وجود الخلاء، وإليك مجملا لبرهانه: بدأ فيلسوفنا قوله:
14 «وأقول: أولا، إنه إن فرض خلاء خال، فليس هو لا شيئا محضا، بل هو ذات وكم وجوهر؛ لأن كل خلاء خال يفرض، فقد يوجد خلاء آخر أقل منه وأكثر، ويوجد متجزئا في ذاته، والمعدوم واللاشيء ليس يوجد هكذا، فليس الخلاء لا شيئا، وأيضا كل ما كان كذلك فهو كم؛ فالخلاء كم، وكل كم فإما منفصل وإما متصل، والخلاء ليس بمنفصل؛ لأن كل منفصل فإما أن يكون الانفصال عرضا له أو يكون لذاته منفصلا، وكل ما عرض له الانفصال فهو متصل بالطبع، وإن كان منفصلا لذاته فهو عديم الحد المشترك بين أجزائه، وكل ما كان كذلك فكل واحد من أجزائه لا ينقسم، وكلما كان كذلك فليس يمكن أن يقبل في ذاته متصل الأجزاء؛ فإذن الخلاء ليس بمنفصل الذات، فهو إذن متصل الذات. كيف لا وقد يفرض مطابقا للملاء في مقداره؟! وكلما كان كذلك فهو مطابق للمتصل، وكل ما طابق المتصل فهو متصل؛ فالخلاء إذن متصل، وأيضا الخلاء ثابت الذات متصل الأجزاء منحازها في جهات، وكل ما كان كذلك فهو كم ذو وضع.»
ويتابع ابن سينا هذا البرهان مثبتا أن الخلاء إذا كان موجودا فإنه يكون ذا مسافة، حائزا للأبعاد الثلاثة، قابلا للقياس بالذات، ثم يوضح كون «الخلاء ليس له مادة»؛ وذلك لأن «كل قابل للانفصال فله مادة؛ فإذن الخلاء لا ينفصل»، ثم يشرع في نقاش طويل حول امتناع التداخل لا يخلو من إمتاع.
وذلك أن الجسمين - كالمكعبين المتساويين - يمتنع تداخلهما؛ أي يستحيل استغراق كل واحد منهما الآخر، ويبحث ابن سينا عن كون هذا الامتناع واقعا بين المادتين من الجسمين، أو بين البعدين، أو بين البعد والمادة، أو بين كل واحد منهما مع كل واحد منهما، فينتهي إلى تمانع البعدين عن التداخل.
وهذا البرهان الذي هو على شيء من الجدوبة قد عرض على شكل أكثر سهولة في رسالة «عيون الحكمة»
15
الصغيرة، والأمر يدور حول البحث في كيف يمكن دخول أبعاد الجسم في أبعاد الخلاء. جاء في «عيون الحكمة»: «إما أن تكون أبعاد الجسم تداخل أبعاد الخلاء، وإما أن لا يكون ذلك، فإن لم يداخلها كان ممانعا فكان ملاء، وهذا خلف؛ فإن داخلها دخل أبعاد في أبعاد، فحصل من اجتماع بعدين متساويين بعد مثل أحدهما، وهذا خلف، والأجسام المحسوسة يمتنع عليها التداخل من حيث يصح أن يتوهم عليها التداخل، وهي الأبعاد، فإنها لأجل أنها أبعاد تتمانع عن التداخل، لا لأنها بيض أو حارة، أو غير ذلك، فالأبعاد لذاتها لا تتداخل، بل يجب أن يكون بعدان أعظم من الواحد، لمجموع وحدتين أكثر من وحدة، وعددين أكثر من عدد، ونقطتين أكثر من نقطة، ليس أكبر من نقطة؛ لأن النقطة لا حصة لها في الكبر والبعد، ولها حصة في الكثرة.»
وهكذا لا بد لوضع الجسم في الخلاء من افتراضنا في الوقت نفسه إمحاء الخلاء، وذلك كما جاء في استنتاج «النجاة»:
16 «إما المتمكن موجود لا في أبعاد الخلاء، وإما الخلاء موجود ولا متمكن فيه.»
وإلى ذلك أضاف ابن سينا قوله: «فبين من هذه الأصول أن الخلاء لا حركة فيه؛ لأنه إذا تحرك فيه شيء فإما أن يداخل بعده بعده، وقد قيل: إن ذلك محال، وإما أن يتحرك بأن يغلبه إذا مانعه بالنفوذ فيه، وقد قيل: إن ذلك محال أيضا، فإذن لا حركة في الخلاء، وكذلك لا سكون فيه.»
ونتيجة جميع البرهان هي: «الخلاء غير موجود أصلا، وهو كاسمه، كما قال المعلم الأول.»
وإنا - بعد أن عنينا بمنهاج هذا النقاش الوجيز العنيف - نرغب في تقدير الأفكار التي يشتمل عليها، فنلاحظ - بلا عناء - أن النقطة المعينة التي تصدم أفكارنا الحاضرة من هذه النظرية هي النقطة التي وكد فيها أن أبعاد الخلاء لا يمكن نفوذها، ففي هذا التوكيد ضرب من مادية مبدأ الاتساع الذي يلقي الحيرة فينا، وعندنا - نحن الذين عادوا لا يتكلمون عن المكان ولا عن الخلاء، بل عن الفضاء والاتساع بلا انقطاع - أن لأبعاد الفضاء تلك الخاصية التي يمكن أن تنضد فيها أبعاد الأجسام المادية.
وعندنا أن من الممكن نفوذ الفضاء جوهريا، وأن الاتساع المادي المرتبط في الأجسام غير ذلك، ولم طرحت السكلاسية هذا المبدأ البالغ الملاءمة عن الفضاء الخالي القابل للنفوذ؟ لا ينبغي أن يكون هذا مقصورا على البراهين العقلية المذكورة آنفا؛ وذلك لأن السكلاسية - كما أعتقد - كانت منهاجا تجريبيا تماما، خلافا لبعض المبتسرات، فلا وجود للفضاء الخالي كما تقضي به المشاهدة التجربية.
ويجد معظم النظريات السابقة تكملته في الطريقة التي تناول بها ابن سينا معضلة اللانهاية المخيفة الأزلية، وكان لهذه المعضلة في هذه الفلسفة عدة وجوه، نعد أهمها ما يأتي: هل يوجد خلاء لا نهاية له؟ وهل يوجد ماض لا نهاية له؟ وهل يمكن تجزئة الأجسام إلا ما لا نهاية له؟ وهل يوجد عدد لا نهاية له؟ إن الحل العام الذي قدم حيال هذه الأسئلة هو: أن اللانهاية غير موجودة بالفعل، وإنما هي موجودة بالقوة.
لقد عرف الفارابي أن يصوغ - بإيجاز مؤثر - الجواب الآتي حول مسألة لانهاية العالم،
17
وهو: «الأفلاك كلها متناهية، وليس بورائها جوهر، ولا شيء، ولا خلاء ولا ملاء، والدليل على ذلك أنها موجودة بالفعل، وكل ما هو موجود بالفعل فهو متناه.» ومن المتعذر أن تفصل معضلة بالغة الصعوبة كهذه بأحزم من هذا. ومع ذلك، فإن الفارابي لم يزعم أنه مصدر هذا الحل، كما أن ابن سينا لم يأت بمثل هذا الزعم، ولا يكتفي الفارابي بعزوه إلى أرسطو، بل يرجعه إلى سقراط، وقد أضاف إلى ذلك قوله: «وحكي عن أفلاطون عن سقراط أنه كان يمتحن عقول تلاميذه، فيقول: لو كان الموجود غير متناه وجب أن يكون بالقوة، لا بالفعل.»
وإليك البرهان النموذجي، الذي يقدمه ابن سينا؛ ليثبت استحالة وجود لانهاية حاضرة، وتجد هذا البرهان غير مرة في آثاره على أشكال مختلفة بعض الاختلاف، وأول ما نصنع، هو أننا نقدمه على شكل هندسي، كما صاغه ابن سينا في المطلب الذي أنكر فيه إمكان وجود خلاء لا نهاية له، فنرجو القارئ - والحالة هذه - أن يتتبعه بانتباه، وذلك لكي يلاحظ نقصه، وهذه وثيقة مهمة عن تاريخ الذهن البشري، فقد ألقى هذا البرهان السهل الناقص عائقا ثقيلا مستمرا حيال تقدم الفلسفة والعلوم.
قال ابن سينا:
18 «لتكن حركة مستديرة في خلاء غير متناه، إن أمكن، أن يكون خلاء غير متناه، وليكن الجسم المتحرك مثل كرة «أ ب ج د»، المتحركة على مركزها، ولنتوهم في الخلاء الغير المتناهي خط «ط ح»، وليكن «ه ج» من المركز إلى جهة من المحيط، لا يلاقي خط «ط ح» من جهة «ح»، وإن أخرج بغير نهاية، لكن الكرة إذا دارت صار هذا الخط بحيث يقاطعه، ويجري عليه، وينفصل عنه، فيكون الالتقاء والانفصال بمسامتة نقطتين لا محالة، وليكونا «ك» و«ل»، لكن نقطة «م» تسامتها قبل نقطة «ك»، ونقطة «ك» أول نقطة تسامت هذا خلف، لكن الحركة المستديرة موجودة، فالخلاء ليس بلا نهاية، والخلاء إن وجد كان مقدارا متناهيا، وكل مقدار متناه فهو مشكل، فإذن الخلاء مشكل.»
والفرضية فاسدة، ونرى ذلك بلا عناء؛ وذلك أن الفرضية فاسدة لإمكان ملاحظتنا على الخط الثابت نقطة «ك»، التي هي أول نقطة يلتقي بها الخط الدائر، غير أن ابن سينا اعتقد أن الفرضية الفاسدة هي التي جعلها على رأس برهانه، وهي الخلاء اللانهائي، ولو كان هذا البرهان صحيحا لكانت نتيجته استحالة الخلاء اللانهائي، الذي لا يهمنا أمره كثيرا، فضلا عن استحالة المسافة الهندسية، التي لا نهاية لها، واستحالة العلم الهندسي الذي لا نهاية له، ولم يكن هذا قد قام في زمن ابن سينا، وقد عانته الفلسفة، ومع ذلك، فإن من الإنصاف أن يلاحظ أن تحليل هذه المسألة كان يتعلق - على الأقل - بالذهن الفلسفي بمقدار تعلقها بالذهن الرياضي، فيمكن أن يلام العلم على تضليله الفلسفة، والفلسفة على عدم تقويمها العلم.
وإليك شكلا آخر للبرهان عينه: «أقول إنه لا يتأتى أن يكون كم متصل موجود الذات ذو وضع غير متناه، ولا أيضا عدد مرتب الذات موجود معا غير متناه، وأعني بمرتب الذات أن يكون بعضه أقدم من بعض في ذاته، ولنبرهن أنه لا يتأتى أن يوجد مقدار ذو وضع غير متناه؛ لأنه إما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف. فإن كان غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم، فيؤخذ ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئا على حدة، وبانفراده شيئا على حدة، ثم نطبق بين الطرفين المتناهيين في التوهم فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معا، متطابقين في الامتداد، فيكون الزائد والناقص متساويين، وهذا محال، وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهيا، والفضل أيضا كان متناهيا، فيكون المجموع متناهيا، فالكل متناه، مع أنه غير متناه، فوجب أن يلزم ذلك محال.»
ومن الواضح اليوم أن جميع هذه الأنواع من البراهين سفسطية، وقد قلنا هذا، ولا يجدي التوكيد نفعا، ويسرنا أن نغتم هذه الفرصة، فنذكر إمكان كون معظم القضايا المشهورة وأضدادها، وهي ما تدعى في الفلسفة «الكنتية» بمبادئ العقل الخالص المتناقضة، لم يتفق لها إثبات بالبراهين أكثر قيمة مما تقدم، ومن المحتمل في زماننا - الذي عمت فيه معرفة المبدأ اللانهائي في الرياضيات، وهذا لم يكن في زمن «كنت» - أنه إذا ما بحث في هذه المبادئ المتناقضة لم تر أكثر صوابا من التي كان يزود بها مخالف المدارس في زمن ابن سينا، وليس مما يلقي الحيرة في نفسي، مطلقا أن يوصل - بسرعة - إلى النتيجة القائلة، في هذه الموضوعات، إن القضية وضدها لا يمكن إثباتهما، وإنه لا يوجد مبادئ متناقضة، بل براهين فاسدة، ومع ذلك فإننا كيما نحصر أنفسنا ضمن نطاق المؤرخ، نقتصر هنا على ختم قولنا - وفق ما كنا قد لاحظناه - بأن فلسفة ابن سينا إذا كانت قد ضلت فذلك لأنها عانت ضعف العلم.
وأما من حيث لانهائية الماضي، فتعليم ابن سينا إيجابي، ففيلسوفنا يسلم بإمكان سلسلات من اللانهايات، عادا هذه السلسلات الماضية أنها عادت لا تكون موجودة إلا بالقوة. وليس هذا الرأي جليا أول وهلة، فاضطر ابن سينا إلى بذل بعض الجهود ليسوغه، ولكن بما أننا قد أثرنا ذكرى «كنت» منذ هنيهة، فإننا نبيح لنفسنا ملاحظة مقدار التعمل في نقد هذا الفيلسوف للمبادئ المتناقضة. وتبدو نظرية «كنت»، التي صاغها حول التناقض الأول، وذلك «أن للعالم بدءا في الزمان، وهو محدود في الفضاء»، من قلة المتانة والمطابقة بما لا يسلم معه جميع المدرسة السكلاسية الشرقية الكبرى بعد القرون القديمة بغير نصفه، وذلك بقولها: «إن العالم محدود في الفضاء» ومع إضافتها نصف التضاد القائل «ليس للعالم بدء في الزمان.»
ويدعم ابن سينا هذه القضية الأخيرة بقوله
19
تقريبا: إن المناهج التي تتخذ لإنكار إمكان اللانهاية في الماضي تقوم إما على برهان فاسد، وإما على مقدمات سوفسطائية، «فالعدد لا يتناهى، والحركات لا تتناهى، بل لها ضرب من الوجود، وهو الوجود بالقوة، لا القوة التي تخرج إلى الفعل، بل القوة بمعنى أن الأعداد تتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة ليس وراءها مزاد.»
ومن قوله أيضا:
20 «إذا كانت الأجزاء لا تتناهى، وليست معا، وكانت في الماضي والمستقبل، فغير ممتنع وجودها واحدا قبل آخر أو بعده، لا معا، أو كانت ذات عدد غير مترتب في الوضع أو الطبع، فلا مانع من وجودها معا.» وقال أيضا:
21 «وأما وجود الأشياء، فبأنه لم يكن في الماضي لها بدء، وأنها كانت واحدة بعد واحدة منذ كانت، فلو أخذت تحسبها من الآن لم يقف الحساب عند حد.»
ولم يحدد ابن سينا ما كان يوجه من اعتراضات على إمكان سلسلة غير المتناهي في الماضي، ويمكننا أن نذكر للغزالي اعتراضا بالغ البراعة على ذلك. فلنفترض سلسلة غير متناهية لموجودات خالدة - كسلسلة الأرواح مثلا - قد ولدت بالتتابع في الماضي، فجميع هذه الموجودات قائمة في الوقت الحاضر، ومن ثم يكون العدد الغير المتناهي موجودا بالفعل، وهذا ما تصرح مدرسة ابن سينا بأنه محال.
وعند ابن سينا أن الأجسام قابلة للتجزؤ بالقوة إلى ما لا نهاية له، ففيلسوفنا يرفض الذرية على أنها فاسدة عقلا.
ومع ذلك فإنه كان للذرية أنصار في ذلك الزمن كما يلوح، وقد رأى ابن سينا أن من المفيد ذكر بعض اعتراضات لهم، قال ابن سينا:
22 «وجد من اعترض بأن إمكان التجزؤ إلى غير نهاية يجعل الحركة مستحيلة»، فلنفترض أن متحركا يجاوز خطا محدودا، قابلا للتجزؤ إلى غير نهاية، فهذا الخط قابل للتجزؤ مناصفة، وكذلك النصف، ونصف هذا النصف، وهكذا. فننتهي إلى النتيجة القائلة: إن المتحرك يجاوز في زمن محدود أنصافا لا حد لها، وهذا محال. وإليك اعتراضا آخر، وهو: أنه لا كثرة بلا وحدة فيها، فإذا كانت الكثرة موجودة بالفعل فإن الوحدة توجد فيها بالفعل، ولكن الوحدة بالفعل غير قابلة للتجزؤ؛ ولهذا فإن للجسم ذي الكثرة أجزاءه الأولى غير القابلة للتجزؤ.
ومن الواضح أنه لا قيمة لهذه الاعتراضات، وليست أكثر من هذا قيمة الاعتراضات التي يوجهها ابن سينا - من ناحيته - إلى الذرية، وإليك جوابه عن الاعتراض الثاني المذكور: لنفترض أن من الممكن تركيب جسم من عدد معين من الأجزاء، وسيكون الجسم البسيط جسما لا يكون مركبا من أجزاء كثيرة، ولكن الجسم البسيط قابل للتجزؤ؛ إذن يوجد تناقض والفرضية فاسدة.
وبرهان ابن سينا المفضل حول قابلية التجزؤ إلى غير نهاية هو ما يستنبطه من مبدأ التماس،
23
قال ابن سينا : «من الناس من يظن أن كل جسم ذو مفاصل تنضم عندها أجزاء غير أجسام تتألف منها الأجسام ، وزعموا أن تلك الأجزاء لا تقبل الانقسام، لا كسرا، ولا قطعا، ولا وهما، ولا فرضا، وأن الواقع منها في وسط الترتيب يحجب الطرفين عن التماس.»
ويقوم جواب ابن سينا - كما هو حاصل القول - على أن هذا الجزء الأوسط إما أن يكون قد مس على وجه واحد من قبل الجزأين اللذين هما في الطرفين؛ أي يكون قد دخل فيه من قبلهما، فيقع تداخل جميع الأجزاء، ولا يتكون حجم مطلقا، وإما ألا يكون ذلك الجزء الأوسط قد مس من قبل الجزء الذي يكون في طرف على الوجه الذي يمس به من قبل الطرف الآخر، فيكون قابلا للتجزؤ، وإن شئت فقل: إنه إما أن يوجد تماس كامل، وهنالك تداخل، أو أن يوجد تماس جزئي، وهنالك تجزؤ.
وأخيرا يعتقد ابن سينا - إذ يوكد أن الحركة قابلة للتجزؤ بالقوة إلى غير نهاية لمكانها على طول الخطوط القابلة للتجزؤ بالقوة إلى غير نهاية - أنه يفند القضية المعاكسة، القائلة: إن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ، منفصلة بسكنات،
24
فهو يقول: «نعلم أن السهم في نفوذه، والطائر في طيرانه إن كانت حركاته مركبة من حركات لا تتجزأ، وهي في أنفسها لا أسرع منها، لم يخل: إما أن تكون مركبة منها بلا تخلل سكنات، أو تكون بتخلل سكنات قليلة جدا بالقياس إلى الحركات، فإن كان لا بتخلل السكنات فيجب أن تكون حركة السهم والطائر مساوية لحركة الشمس المشرقية، أو أسرع منها، وهذا محال، وإن كان بتخلل السكنات، وهي أقل من الحركات، فيجب أن يكون فضل حركة الشمس عليها أقل من الضعف، لكن ليس بينهما نسبة يعتد بها.»
ولذا؛ لا يدافع عن هذه الفرضية. أجل، نقول هنا، أيضا: إن من الجلي أنه لا يدافع عن هذه الفرضية كما عرضها ابن سينا، بيد أنها تعود غير ذلك، إذا ما أجرينا عليها تعديلا يسهل تصوره.
لقد أصررنا على جميع هذه البراهين بلا وجل من إتعاب القارئ؛ وذلك لاعتقادنا أنها مهمة - لا لذاتها - لا ريب، ما دامت غير صحيحة، بل لدلالتها على مرحلة وقف الذهن البشري عندها زمنا طويلا، وقد مرت قرون كثيرة على الفلاسفة وهم يأتون بحلول متناقضة لهذه المسائل، التي كان يدخل فيها مبدأ اللانهاية الرياضي، وقد زعم «كنت» أنه يضع حدا للجدال بطرحه هذه المتناقضات على حساب العقل، فعندنا أن من السهولة بمكان، ومن الصواب البالغ أن يعترف - على ضوء علم أكثر تقدما - ببطل جميع هذه البراهين المتناقضة، فيذهب إلى أن القضية وضدها في هذا النوع من المسائل مقبولتان على السواء، وأن كلا منهما غير خاضع لأية ضرورة عقلية.
الفصل الثامن
نفسيات ابن سينا
دراسة النفس والعقل عند ابن سينا - نظرية الإدراك الحسي عند الشيخ الرئيس - قوى المصورة، والمفكرة، والوهم، والحافظة - العقل الفعال والموجودات والمعقولات - خلود النفس ونتيجة ذلك لروحانيتها. ***
يتألف من علم النفس لدى ابن سينا بناء رائع جدا متين جدا، فيبدو جديدا وفق الترتيب الذي نتبع، وأقصد بذلك أنه لا يلقى تاما بجميع مميزاته الجوهرية عند أي من المؤلفين قبل ابن سينا ما دامت آثار الفارابي غير معلومة لدينا بما فيه الكفاية، وترانا نود القيام بعرض عن هذا المجموع كامل تقريبا، حتى نكون معبرين تعبيرا صادقا عن فيلسوفنا.
يشتمل علم النفس عند ابن سينا على دراسة النفس ودراسة العقل، على دراسة هذين العنصرين اللذين لا نحسن التفريق بينهما، ولكن مع أنهما كانا في هذا الدور من التعليم السكلاسي يقدمان فرقا واضحا وضوح الفرق بين الجنس والنوع. والنفس - إجمالا - أول ما تكون مجموعة من الخصائص أو القوى المضافة إلى الجسم المادي، الذي يكمل بها ويصير فعالا، قال ابن سينا: «النفس كمال أول لجسم طبيعي.»
وقبل ذلك قال ابن سينا: «إن جميع الأفعال النباتية والحيوانية والإنسانية تكون من قوى زائدة على الجسمية وعلى طبيعة المزاج.»
1
وإن شئت فقل: إن جميع أفعال الأجسام الحية تصدر عن خصائص، ومما يدرك مقدار ما تجعل به هذه القضية من اتصال وثيق بين مبدأ القوة اللاهوتي ومبدأ الخاصية النفساني، ويخرج الفعل من القوة اللاهوتية على العموم، وذلك كما تخرج أفعال الأجسام من قوى النفس، فيوجد انسجام تام، يكاد يكون ذاتيا، بين المبدأين. وفضلا عن ذلك فإنه لا يوجد في العربية غير كلمة واحدة للتعبير عن المبدأين، وهي كلمة «القوة».
وللنفس النباتية قوى ثلاث عند ابن سينا:
2
القوة الغاذية، والقوة المنمية، والقوة المولدة، قال ابن سينا: «القوة الغاذية، وهي القوة التي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه، فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه. والقوة المنمية، وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه في أقطاره طولا وعرضا وعمقا، متناسبة للقدر الواجب؛ لتبلغ به كماله في النشوء. والقوة المولدة، وهي القوة التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءا هو شبيه له بالقوة، فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى، تتشبه به من التخلق والتمزيج ما يصير شبيها به بالفعل.»
وكان إخوان الصفا قد عدوا سبع قوى للنفس الحيوانية، فكان منهاج هؤلاء الموطئين أقل بساطة في هذه النقطة من منهاج العالم، وقد يكون لنا هذا سببا للاعتراف هنا بوجود قوة للتكثيف في ابن سينا، يظهر أنها إحدى المزايا المهمة في أهم فلاسفة العرب، وإليك قوى النفس النباتية في مذهب إخوان الصفا:
3 «قوى النفس النباتية سبع، وكل قوة من هذه تفعل شيئا خلاف ما تفعل القوة الأخرى، وهذه القوى هي: القوة الجاذبة، ويقوم فعلها على جذب عصارات الأركان الأربعة، ومصها لطينها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لنوع نوع من أصول النبات، والقوة الماسكة، وتمسك لها ذلك، والقوة الهاضمة، وتنضج لها ذلك، والقوة الدافعة، وتدفع ذلك إلى الأطراف، والقوة الغاذية، وتغذي النبات، والقوة النامية، وتقوم بإنماء النبات وزيادته، والقوة المصورة، وتصور النبات بأنواع الأشكال والأصباغ.»
وتقوم خصائص النفس الحيوانية على كونها تدرك الجزئيات وتتحرك بالإرادة، وهي في الحيوانات تتصل بالنفس النباتية، وتتصف النفس العاقلة، المتصلة في الإنسان بالنفس النباتية والنفس الحيوانية، بإدراكها الأمور الكلية، وبأنها تفعل بالاختيار، وتتصف النفوس الحيوانية والعاقلة بخصائص الإدراك وخصائص الفعل، وتتألف من دراسة الثانية نظرية التأثرات التي لم يفصلها ابن سينا كثيرا، وتتألف من الأولى - في النفس الحيوانية - نظرية الإدراك، وفي النفس العاقلة، نظرية العلم، وهذا ما سنعنى به.
ولا يغب عن البال، لحسن فهم نظرية إدراك الحس والعلم العقلي في هذا المذهب، أمر الترتيب العام لرسم جميع هذه الفلسفة، الذي هو رسم على درجات، فمواليد النبات والحيوان والإنسان منضدة فيه على درجات الموجودات، مستندة في الأسفل إلى مولد المعدن وإلى المادة متصلة في الأعلى بالمولد الملائكي وعالم الروح، ويتألف من الخواص الجوهرية لأنواع النفس الثلاثة تدرج يمتد من حياة النباتات غير الشاعرة حتى فعالية الإنسان الحرة العقلية، وقد نظم علم النفس، بحصر المعنى، وفق مبدأ التدرج هذا، وإذا ما وقع تناول النفس الحيوانية والإنسانية معا، وجد أنهما تعرضان سلسلة من القوى، سائرة من التي تعطي الإحساس الجافي حتى التي تقوم غايتها على الإشراق الصوفي.
ولذا تكون في أسفل النفس الحيوانية قوى الحواس الأولية، وتكون فوق هذه القوى من القوى ما يمسك المعطيات المحسوسة، ويجمعها، ويفسرها على وجه مباشر. قال ابن سينا محدثا عن الروح الحيوانية:
4 «إن القوة المدركة تنقسم قسمين، فإن منها قوة تدرك من خارج، ومنها قوة تدرك من داخل»، فأما المدركة من خارج فتشتمل على الحواس، والمدركة من داخل فتشتمل على الذاكرة والخيال وعلى درجة أولية من التأمل.
وتوجد حواس خمس، وهي التي يعرفها العوام، وذلك ما لم يفضل عد ثماني حواس، وذلك بتقسيم حاسة اللمس إلى أربع على الوجه الآتي، قال فيلسوفنا:
5 «يشبه أن تكون هذه القوة لا نوعا واحدا، بل جنسا لأربع قوى منبثة معا في الجلد كله، فالواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد، والثانية حاكمة في التضاد الذي بين اليابس والرطب، والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين، والرابعة حاكمة في التضاد بين الخشن والأملس.»
وقد درس ابن سينا طريقة قيام الحواس بوظائفها، غير أن هذا التحليل، الذي يتعلق بالتاريخ الطبيعي أكثر مما بالفلسفة، ليس ذا فائدة كبيرة على ما أرى، فيكفي - والحالة هذه - أن نلخص - على سبيل المثال - ما قاله عن حاسة البصر:
6 «ظن قوم أن البصر يخرج من شيء يسمى شعاعا، فيلاقي المبصر، ويأخذ صورته من خارج»، ويقول آخرون: إن البصر إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل - وهو جسم لا لون له متوسط بينه وبين البصر - تأدى شبح ذلك الجسم ذي اللون الواقع عليه الضوء إلى الحدقة، فأدركه البصر، فهذه النظرية الثانية تبدو لنا في هذه الأيام معقولة جدا على ما فيها من غموض.
وقد فند ابن سينا أولى النظريتين بدقة، فقد قال، بين أمور أخرى: إن الشعاع الذي يخرج من البصر إذا لم يكن جسما، فإنه لا يمكن أن يطبق عليه مبدأ الحركة الطولانية، وإنه إذا كان جسما فإنه يكون - حين يلاقي كرة الثوابت - جسما عظيما جدا خارجا من البصر، الذي هو جسم صغير. ويسلم فيلسوفنا بأنه يوجد في الرؤية شبح للشيء، يرد بالنور إلى الباصرة، بيد أنه لا يعين هذه النظرية أكثر مما فعلنا آنفا، وهو، في رسالة النفس التي نشرها لندور،
7
يعزو الرأي الذي يرضاه إلى أرسطو، ويعزو الرأي الأول الذي يرفض إلى أفلاطون.
وإذا نظر إلى الأمر بوجه عام وجد أن موضوع نظرية الإدراك الحسي كما يأتي:
8 «إدراك الشيء هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك.» فصورة الشيء المدرك هي في المدرك، ومع ذلك، فإن هذا المذهب هو عين مذهب الإدراك العقلي تماما.
وإليك مسألة تنشأ عن ذلك بحكم الطبيعة، وهي: كيف تحفظ هذه الصور المرسلة إلى الأعضاء؟ فالجواب العام هو - من حيث المحسوسات - كون الصور تأتي إلى الحس المشترك، فهناك تكون الصور في متناول مختلف القوى التي تعاني بها سلسلة من الأعمال، ولا تقف نظرية ابن سينا طويلا عند الحس المشترك أكثر مما تقف الإدراكات المحسوسة، وليس لهذا الحس نفسه دور معين تماما، وهو لا يكاد يكون قوة، وهو ليس له غير وظيفة إدارية؛ أي مثل مكتب مركزي تمر منه الإدراكات، التي تأتي من الخارج قبل أن تنضج بقوى الباطن. وأما من حيث الموضع التشريحي، فإن آلة الحس المشترك هو الروح المنتشر في الجهاز العصبي، ولا سيما في قسم الدماغ المقدم،
9
وقد صفت مواضع القوى كهذه القوى نفسها.
وليس رسم قوى النفس الحيوانية التي تؤثر - داخلا - في معطيات الحواس ثابتا عند فلاسفة العرب، ولا سيما كتب ابن سينا، على الإطلاق. وقد درس لنداور قسما من هذه الفروق،
10
ولنا بهذا ما لا نعسر به على أنفسنا، فلا نقدم هنا غير الرسم الذي نحكم بأنه أكثر ما يكون وضوحا. وفضلا عن ذلك، فإن شأن هذه القوى المتبادل هو من الدقة بحيث لا يحدد، وهي تقوم معا بإحداث عمل تجريدي ناقص في معطيات الحواس، وذلك من غير تجريدها من المادة تماما، وهذا ما هو خاص بالعقل، وهي تقوم أيضا بجمعها للحواس بنوع من التركيب الخيالي من غير أن يكون شأن الخيال قد جلي تماما، ومن غير أن يكون للخيال في ذلك وجود بين لا التباس فيه، وذلك خلا كونها تحفظ نتائج هذا التجريد وهذا التركيب كما تصنع الذاكرة.
ويمكن أن يبين أن هذه القوى الباطنية أربع، وهي: المصورة، والمفكرة، والوهم، والحافظة أو الذاكرة.
فالمصورة هي خزانة ما تدركه الحواس، وهي تحفظ الصورة المحسوسة، التي تتخلص جزئيا من أحوال الأين، والوضع، والكم، والكيف، وذلك بعد أن ينقطع الشيء المحسوس عن التأثير في الحواس. فالقطرة التي تسقط، والنقطة المشتعلة التي تدور بسرعة تجعلنا نشاهد خطا مستقيما سائلا أو دائرة نار،
11
ولذا فنحن نداوم على رؤية الشيء في مكان عاد لا يكون فيه، وبذلك يوجد حادث حفظ الخيال في الدرجة الأولى من الذاكرة، ومع ذلك فإن شأن المصورة الذاكري أوسع مدى - لا ريب - مما يرى وفق هذا المثال، ففي مكان آخر قال ابن سينا:
12
إن للماء قوة تقبل الخيال، لا حفظه، وتتلقاه الحاسة على هذا الوجه، ولكن لا بد من وجود قوة أخرى لحفظه، وهذه القوة هي المصورة، وإذا ما استعمل من التعابير ما هو أقرب إلى ما بعد الطبيعة
13
يرى أن الصورة المحسوسة عند انتزاعها من المادة التي تحتملها في الحقيقة، لا تزول دفعة، وهذا ما يجعل كل علم مستحيلا إلى الأبد، وإنما تحفظ مجردة من المادة، إن لم يكن هذا من جميع لواحق المادة، وذلك في قوة هي المصورة، وقد سميت هذه القوة في هذا الموضع باسم يدنيها من الخيال (فنطاسيا)،
14
وقال ابن سينا في عبارة أخرى:
15 «الشيء قد يكون محسوسا عندما يشاهد، ثم يكون متخيلا.» ولهذا يمكننا أن نعرض المصورة، كما هو مجمل القول، مثل درجة جنينية للذاكرة والخيال، وقد جعل مكان هذه القوة في التجويف المقدم من الدماغ.
وأتبعت المصورة بقوة تشابه جنينا للعقل، وإن كان يجب ألا ينسى أنها ليست سوى قوة حيوانية كجميع هذا الجمع من القوى، وتسمى هذه القوة «مفكرة»، كما تسمى «المتخيلة»، و«المقلدة» أيضا، ويقوم شأن المفكرة السيئ التحديد على إحداث أول عمل كثير التعقيد أيضا، في التجريد والجمع والضم والتعميم حول معطيات الحواس التي حفظت بالمصورة، فالمفكرة تعد المفهومات التي تأتي لخدمة القوة التالية - أي الوهم - لتكوين ضروب حكمه، ومع ذلك فليعلم أن مفهومات المفكرة ليست أفكارا بالحقيقة، كما أن أحكام الوهم ليست أحكاما عقلية؛ وذلك لأن الأشياء التي تؤثر فيها هذه القوى ليست كليات، بل جزئيات مستخلصة استخلاصا ناقصا جدا عن أحوال المادة، ومركز المفكرة هو في القسم المقدم من تجويف الدماغ الأوسط قريبا من الوهم.
وللوهم - ومكانه في القسم المؤخر من تجويف الدماغ الأوسط - قوة جمعه، في ضروب من الأحكام ذات العمومية، مفاهيم مجردة تجريدا غليظا بمفكرة معطيات الحواس، ولهذه القوة، التي هي قوة مسيطرة على النفس الحيوانية كما هو واضح، شأن كبير وأهمية عظيمة؛ فهي تطابق - تقريبا - كما هو مجمل القول، ما نسميه بالغريزة في الحيوان، وهي تشتمل في الإنسان على مجموعة الآراء والمشاعر والمبتسرات، التي تولد فينا بفعل التجارب الابتدائية، أو الاندفاعات اللاشعورية، وكنا نود أن نسميها تسمية مجردة لو لم نخش صدم الاصطلاح السكلاسي القائل ب «العقل الحيواني»، وإذا ما استخلصنا مثالا من كتب ابن سينا، وجدنا للشاة إدراكا لذئب خاص، وهذا الإدراك هو عند هذا الفيلسوف - كما أفترض - نوع من الصورة المحسوسة ارتسمت ارتساما غليظا في نفس الشاة بالقوة المفكرة،
16
وأما الوهم، فيولد - في صدد هذا المفهوم - مشاعر أقل مشابهة للأحكام العقلية مما للاندفاعات الطبيعية تحذر بها الشاة، فيما تحذر به، عندما ترى الذئب كيما تفر، ومثل ذلك حال الرجل الذي يشعر بضرورة معاملة الصبي برفق حينما يراه، وذلك قبل كل تعقل.
17
وقد أكمل مجموع هذه القوى بقوة رابعة، وهي: «الحافظة أو الذاكرة»، التي تحفظ ما ينضج بالوهم من أحكام، ومركز الذاكرة هو في القسم المؤخر من الدماغ.
وإليك سطورا اقتطفناها من «النجاة»، يمكن أن ينتفع بها مثل قطعة لتسويغ النظرية التي عرضناها، وذلك مع تقديمها إجمالا، حول هذه النقطة الغامضة بعض الغموض، عن وجود ضروب من الأفكار العامة في النفس الحيوانية، قال ابن سينا:
18 «الحس (الخارج) يأخذ الصورة عن المادة مع لواحقها (الأين، والوضع، والكم، والكيف) ... وأما الخيال، فإنه يبرئ الصورة عن المادة تبرئة أشد، وذلك بأخذها عن المادة، بحيث لا يحتاج في وجودها فيها إلى وجود مادة، (كما كان ذلك ضروريا للإدراك بالحس الخارج)؛ لأن المادة، وإن غابت أو بطلت، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال، إلا أنها لا تكون مجردة عن اللواحق المادية، فالحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاما، ولا جردها عن لواحق المادة. وأما الخيال، فإنه قد جردها عن المادة تجريدا تاما، ولكنه لم يجردها البتة عن لواحق المادة؛ لأن الصورة في الخيال هي على حسب الصور المحسوسة ... وأما الوهم، فإنه قد تعدى قليلا عن هذه المرتبة في التجريد؛ لأنه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بمادية، وإن عرض لها أن تكون في مادة ...
وأما الخير والشر، والموافق والمخالف، وما أشبه ذلك فهي أمور في أنفسها غير مادية؛ (لأنها من المعقولات)، وقد يعرض لها أن تكون في مادة ... والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور ... فهذا النزع أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين، إلا أنه - مع ذلك - لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة.» والعقل وحده هو الذي يدرك الصورة المجردة عن المادة وعن جميع لواحقها. •••
وقد قدمنا نظرية العقل عند الكلام عن الفارابي، فإذا عدنا إليه هنا بإيجاز؛ فلكيلا نقطع وحدة عرضنا، وذلك فضلا عن ملاحظتنا أن هذا المذهب هو من أهم جميع ما في هذه الفلسفة، وأبرز ما تنطوي عليه وأجمل، وأن الوجه الذي يعرضه به ابن سينا يختلف به بعض الاختلاف عن سلفه.
قال ابن سينا نقلا عن الفارابي، ولكن من غير أن يذكره: «الحس هو عالم الخلق، والعقل هو عالم البدء، وأما الذي هو فرق الاثنين فلا يدركه الحس ولا العقل.» ويقسم العقل أو النفس الناطقة (العاقلة) إلى عقل عملي، وعقل نظري، كما كنا قد أشرنا إليه؛ فأما الأول فهو القوة المحركة التي تسيطر على الفعل، وهو على اتصال بما هو تحته؛ أي بالعالم الحيواني الذي يجب أن يهيمن عليه. وأما الثاني فهو القوة المدركة، التي نطلق عليها اسم العقل حصرا، وهو على اتصال بما هو فوقه؛ أي بالمبادئ العليا التي يجب أن يخضع لها. وليعلم - دائما - ما وجهنا إليه نظر قرائنا من ترتيب مدرج.
ويقسم العقل النظري بدوره إلى سلسلة مرتبة من العقول الخاصة، نظمت وظائفها وفق مفهوم ما بعد الطبيعة في القوة والفعل، وذلك وفق ما كان الفارابي قد علمنا إياه سابقا، فموضوع المذهب يقوم على تناول العقل في حال القوة، وجعله ينتقل إلى الفعل. وكان الفارابي قد اتخذ في هذا السبيل ثلاث مراق موضوعة في نفس الإنسان، أقام فوقها العقل الفعال خارج النفس. وأما ابن سينا فقد قال بأربع مراق، لحم بها من عل عقلا خفيا كان سلفه قد تركه خارج هذه النظرية قليلا، وهو لم يغفل عن إضافة العقل الفعال إلى هذه العقول الخمسة.
وإليك كيف ينبثق فيلسوفنا:
19
توجد للقوة ثلاثة أنواع؛ فالأول هو قوة للاستعداد المطلق الذي لا يخرج منه شيء إلى الفعل، وهذه كقوة الصبي على الكتابة، وهذه هي القوة المادية، ثم تكون القوة استعدادا قريبا من الفعل، ولكن من غير أن يتحقق هذا الفعل لعدم وجود الواسطة أو المعرفة، وذلك كقوة الصبي على الكتابة، إذا كان لا يعرف شيئا، أو كان القلم غير موجود ، وتسمى هذه القوة قوة «ممكنة»، ويسميها آخرون «ملكة»، ثم يكون الاستعداد تاما، ولا يعوزه غير الإرادة، وذلك كالقدرة على الكتابة لدى الكاتب عندما تكون عنده وسائطه، ويسمي ابن سينا هذه القوة «ملكة»، ويسميها آخرون «كمال قوة».
والواقع أنه كما يوجد ثلاث أحوال للقوة يوجد للعقل ثلاث أحوال، والعقل ما قلنا إنه خاصية أو قوة في الأساس؛ فالأولى هي العقل الهيولاني الذي ليس سوى إمكان مطلق للعلم، ويصرح الفيلسوف بأنها سميت هيولانية تشبيها بالهيولي الأولى، التي ليست سوى إمكان مطلق لتقبل الصور، وهي من علم النفس على أساس ما بعد الطبيعة، والحال الثانية هي العقل الممكن أو «العقل بالملكة» الذي يكون بالفعل بالنسبة إلى السابق؛ وذلك لأنه يحصل على أشياء كالحقائق الأولية الضرورية، مثل كون الكل أعظم من الجزء، وكون الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، ولا تجد هاتين الدرجتين في الفارابي، والدرجة الثالثة هي درجة العقل الذي يكون في حال الاستعداد التام، والذي يمكن أن تحصل فيه في كل وقت صور المعقولات المكتسبة بعد الحقائق الأولية، وتسمى هذه الدرجة «العقل بالفعل»، وإن كان لا يزال بالحقيقة درجة «العقل بالقوة» العليا.
وبما أن العقل يكون مستعدا على هذا الوجه، فإن قوة إدراك الصور تتحقق فيه، ويتحول هذا العقل إلى ما يجب أن يسمى «العقل بالفعل» ضبطا، ولكن الاصطلاح الناقص يطلق عليه اسم «العقل المستفاد».
ويضع ابن سينا فوق هذه الدرجة من العقل حالا ثالثة، مشتركة بين عدد قليل من الناس، وهي ما يسميها «العقل القدسي»، فهذا العقل يعرف الأشياء مباشرة، وبه يدخل في التصوف.
وقد يسر القارئ بالاطلاع على المقارنة الآتية، المقتطفة من «الإشارات»، والتي تفسر فيها أدوار هذه العقول المتتابعة؛ قال ابن سينا:
20 «ومن قوى النفس ما لها، بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها، عقل بالفعل؛ فأولها قوة استعدادية لها نحو المعقولات، وقد يسميها قوم «عقلا هيولانيا»، وهي المشكاة، وتتلوها قوة أخرى تحصل لها عند حصول المعقولات الأول لها، فتتهيأ بها لاكتساب الثواني إما بالفكرة، وهي الشجرة الزيتونة إن كانت أضعف، أو بالحدس، فهي زيت، أيضا، إن كانت أقوى من ذلك، فتسمى «عقلا بالملكة»، وهي الزجاجة، والشريفة البالغة منها قوة قدسية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، ثم يحصل لها بعد ذلك قوة وكمال. أما الكمال فأن تحصل لها المعقولات بالفعل مشاهدة متمثلة في الذهن، وهو نور على نور. وأما القوة فأن يكون لها أن تحصل المعقول المكتسب المفروغ منه كالمشاهد متى شاءت من غير افتقار إلى اكتساب، وهو المصباح. وهذا الكمال يسمى «عقلا مستفادا»، وهذه القوة تسمى «عقلا بالفعل»، والذي يخرج من الملكة إلى الفعل التام، ومن الهيولاني أيضا إلى الملكة، فهو «العقل الفعال»، وهو النار.»
وللعقل الفعال في مذهب ابن سينا عين الدور الذي له في مذهب الفارابي، قال مؤلفنا: «من الواضح أن العقل بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بسبب وجود عقل بالفعل دائما»، وكل نوع من الإدراك أو العلم يقوم على ارتسام صورة الشيء في الفاعل. والواقع أن هذه الصور المحسوسة أو المعقولة لا تكون أمام الفاعل دائما، فيجب حفظها في موضع ما، وتحفظ الصور المحسوسة في الذاكرة، ولكن الصور المعقولة التي لا يمكنها الاستقرار إلا في جوهر لا جسمي، ما دام مفترضا خروجها من عقلنا، لا يمكن أن تلقى في غير جوهر خارج عنا، وهذا الجوهر هو عقل بالفعل، ومتى اتصلت النفس الناطقة به أدركت الصور المعقولة فيه، أو هذه أو تلك الصور من هذه الصور وفق استعداده، «ولا تدرك النفس العاقلة شيئا إلا باتصالها بالعقل الفعال.»
21
وناهض ابن سينا الفلاسفة الذين يزعمون أن النفس - باتصالها بالعقل الفعال - تصير هذا العقل نفسه، فقد لاحظ أن هذا يجعل العقل الفعال قابلا للتجزؤ، ما دامت النفس متحدة بأحد أقسامه، أو أن هذا يفترض النفس الكاملة حائزة لجميع المعقولات. ولقد فند من قبل هذا الرأي على الوجه الآتي، وهو: أن النفس إذ تشتمل على صورة تصير إياها. وقد سأل: ما يفكر في أمر النفس إذا ما اشتملت على «ب» بعد اشتمالها على «أ»؟ أتصير نفسا أخرى، أم إنه يستحيل عليها أن تشتمل على «ب» عقب اتصالها ب «أ»؟
وفي نظرية ابن سينا أن وظيفة العقل الخاصة هي إدراك الكليات، وأن وظيفة الحواس هي إدراك الجزئي، غير أن دراسة الكليات عند هذا الفيلسوف لا تؤدي إلى نظرية مستقلة، وإنما تظهر هذه النظرية مثل تابعة في مواضع كثيرة من فلسفته، وقد لقيناها في المنطق، وسنلقاها فيما بعد الطبيعة حيث ألحقت بنظرية العلل. وأما هنا - في علم النفس - فنستطيع استنباطها من جميع ما قلناه عن الحواس والعقل.
والمعقولات موجودة، وقد وكد هذا تكرارا في كلام ابن سينا والفارابي، وهذه المعقولات تختلط بالكليات كما هو حاصل القول، ويقول ابن سينا في مكان ما:
22
إن العامي يتصور أن الموجود هو المحسوس، وأنه لا وجود لغير المحسوس، فيكفي - والحالة هذه - أن ينعم النظر قليلا ليرى بطلان هذا الاعتقاد، فخذ مثلا حدا مجردا بذاته، كحد الإنسان مثلا، تجده يطبق على شيئين محسوسين: زيد وعمرو، وهذا الحد إما أن يدرك بالحواس أو لا يدرك، فإذا ما أدرك بها فيجب أن يكون له - ككل محسوس - مكان، ووضع، وكم، وكيفية وجود معينة، ولكنه يرى أنه ليس له من هذا شيء، فليس لمفهوم الإنسان كمية ولا وضع ولا مكان ولا كيفية خاصة؛ ولذا فإن هذا المفهوم ليس محسوسا، وإنما هو معقول صرف، وقل مثل هذا عن جميع الكليات.
والحواس تأتي النفس بالجزئيات التي هي محسوسة، فتستخرج النفس منها الكليات التي هي معقولات، ولكنها لا تدركها بالفعل إلا باتصالها بالعقل الفعال حيث المعقولات قائمة. وأما الجزئيات فإنها - فضلا عن إدراكها بالحواس - قابلة لإدراك العقل إياها، لا على أنها جزئيات، بل على أنها معلولات لعللها. وهنا تتعلق هذه النظرية بما بعد الطبيعة، ويتألف من هذا الإدراك علم الجزئي الذي هو عمل عقلي لا ينبغي أن يخلط بإدراك الجزئي بالحواس، وهكذا يكون الأمر وفق مثال في فصل المنطق، يكرره ابن سينا نفسه، وهو أنه يشعر بالكسوف الخاص في عين الوقت الذي يدرك فيه أنه معلول لحركات النجوم. ثم إن الكليات - مع إدراك العقل لها - تدرك في الوقت نفسه في علاقاتها بمعلولاتها وعللها، فالكسوف - على العموم - يدرك مثل معلول لتوسط القمر بين الشمس والأرض.
والخلاصة أن الإدراك الحسي هو على أساس جميع أعمال النفس، ولكن النفس العاقلة، بعد انتفاعها بالمحسوس كيما تستعد لتقبل المعقولات في ذاتها، تنفصل عن الحواس بالتدريج وتقترب - وفق طبيعتها - من الحقائق الكلية. وقد أجاد ابن سينا حيث قال:
23 «إن النفس - بعد أن تستعين بالحواس - ترجع إلى ذاتها شيئا فشيئا.» أي إنها تتخلص من المادة مقدارا فمقدارا؛ كيما ترتقي إلى أحكام معقولة صرفة.
ولا مراء في جمال هذه النظرية. ومع ذلك فإنني أرى أن من طبيعتها تحريض من يقولون بإعادة الأذهان أو المناهج إلى نطق مرسومة سلفا، وهي توفق ببراعة بين آراء جرت العادة على عدها متباينة، وإلى مثالية أفلاطونية خالصة، تمتد هذه النظرية التي هي تجربية في أولها بما تعطيه الحواس من شأن أساسي، فتكون أرسطوطاليسية بهذا، وذلك لما يوشك العقل الفعال أن يتصل بعالم الأفكار. ومن الصعب أن يعين بالضبط من يرجع إليه فضل هذا التوفيق، ولا أظن أننا نستطيع أن نشك الآن في قيام جهد شخصي في حقل التوفيق والتنسيق من قبل فلاسفة العرب على أساس العنعنات الفلسفية، ويرجع النصيب الوافر من هذا الجهد إلى ابن سينا نفسه مع كل احتمال، وذلك عقب سلفه العظيم: الفارابي. وأما السنة التي سار عليها هؤلاء المفكرون، فمن الجلي أنها طريقة الأفلاطونية الجديدة في الانتخاب. •••
ويجد برهان روحانية النفس العاقلة لاحقه في برهان خلودها، وهذا ما قدمه ابن سينا مع الإفاضة، وسنحاول عرض جوهر ما قاله في هذا الموضوع.
لقد استخلص أول وجه للدليل من شعور النفس المباشر بذاتها، أو بقواها على الأخص، ويشابه هذا البرهان ذلك الدليل الذي يثبت الاختيار بالشعور به، ومهما يكن من أمر فإن النفس تدرك ذاتها الخاصة، وهي تدركها بلا واسطة، وهي لا تخلط هذا الإدراك بالإدراكات الحسية، ويسأل المؤلف في «الإشارات»:
24
أتوجد حال يشك الإنسان فيها في وجود ذاته الخاصة، ولا يكون موقنا بأمره؟ وليكن الإنسان غارقا في التأمل أو نائما أو سكران، فإنه يدرك نفسه، وافترض أن ذاتك منفصلة عن الكل، وأن أقسامها غير مرئية، وأن أعضاءها غير ملموسة، وأنها كالمعلقة في الخلاء، تجد أنها تعود لا تشغل بالها بأي شيء خلا توكيدها أمر حقيقتها، وكل يدرك ذاته من غير احتياج إلى أية قوة أخرى، ولا إلى أية واسطة، وكل ما تدرك كأنه أنت، ليس ما ترى ولا ما تلمس، ولا عضوا من بدنك، ولا قلبك ولا دماغك، فالذي تدرك كأنه أنت ليس المحسوس ولا أي شيء يشابهه.
وقد يخيل إليك - كما يوكد ابن سينا - أنك تدرك ذاتك بواسطة فعلك، ولكنك إذا كنت توكد الفعل فإنك توكد الفاعل، وإذا كنت موقنا بفعاليتك فإنك تكون موقنا بنفسك مثل فاعل، لا بطريق الاستنتاج، بل من فورك، وإن مبدأ القوى التي تدرك مجموع عناصر الجسم البشري وتحفظه وتحركه هو ما تسميه النفس، وهو جوهر ينبسط في جسمك كالساق التي تنشر أغصانها، وهذا الجوهر هو أنت لا ريب.
وفي «النجاة» بيان قوي عن البرهان القائل: إن القوة العاقلة تدرك بلا آلة، ولهذا البيان قيمة برهان ثان، فقد عاد الأمر لا يدور - فقط - حول إثبات كون النفس العاقلة شاعرة بنفسها مباشرة، بل حول كون القوة العقلية «تتعقل بذاتها، لا بآلة جسدية»، «فنقول:
25
إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية، حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية، لكان يجب أن لا تعقل ذاتها، وأن لا تعقل الآلة، ولا أن تعقل أنها عقلت، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة، وليس بينها وبين آلتها، ولا بينها وبين أنها عقلت آلة.»
وعلى العموم تدرك القوى - التي تعقل بآلة - شيئا خارجا عن ذاتها وعن هذه الآلة نفسها. أجل، إن إدراك الحواس الخاص وإدراك قوى النفس الحيوانية الأخرى يتم بآلة، غير أن الحواس وهذه القوى تدرك أمورا خارجية فقط، وهي لا تدرك آلاتها ولا ماهياتها الخاصة، والقوة العقلية وحدها هي التي تدرك ماهيتها الخاصة؛ ولذا فهي تدرك بلا آلة.
ويقول ابن سينا مواصلا: «وأيضا، مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكل لأجل أن الآلات تكلها إدامة الحركة، وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها ... والأمر في القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للتعقل وتصورها للأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها.»
26
ولو كانت القوة العقلية خاصية جسمانية مشابهة للأخرى، لوجب أن تضعف بعد سن الأربعين. أجل إنه يعترض بأن النفس في دور الهرم وفي بعض الأمراض تنسى ما أدركت، غير أنه لا قيمة لهذا الاعتراض؛ وذلك لأننا بعد إثبات كون النفس تعمل بذاتها، إذا ما سلمنا - زيادة على ذلك - بأنها تنقطع عن العمل عندما يعوزها البدن، لا يمكننا أن نجد في ذلك تناقضا ولا إشكالا.
وهناك وجه آخر للإثبات يقوم على بيان أن مكان المعقولات جوهر غير عقلي، ويطبق هذا الدليل على النفس العاقلة كما يمكن أن يطبق على العقل الفعال، فابن سينا يقدمه في «النجاة» على شكل رياضي، نرى من حب الاطلاع نقله، قال المؤلف:
27 «إن الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم، ولا قائم بجسم على أنه قوة فيه أو صورة له بوجه، فإنه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير، فإما أن يكون محل الصور فيه طرفا منه لا ينقسم، أو يكون إنما يحل منه شيئا منقسما، ولنمتحن أولا أنه هل يمكن أن يكون طرفا غير منقسم، فأقول إن هذا محال؛ وذلك أن النقطة هي نهاية ما لا تميز لها في الوضع عن الخط والمقدار الذي هو منته إليها حتى ينتقش فيها شيء من غير أن يكون في شيء من ذلك الخط، بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها، وإنما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار كذلك، إنما يجوز أن يقال بوجه ما: إنه يحل فيها شيء إذا كان ذلك الشيء حالا في المقدار الذي هي طرفه ، فيتقدر به بالعرض، فكما أنه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة.
ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات، فكانت النقطة حينئذ ذات جهتين؛ جهة منها تلي الخط الذي تميزت عنه، وجهة منها مخالفة لها مقابلة، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط، وللخط نهاية غيرها يلاقيها، فتكون تلك النقطة نهاية الخط، لا هذه، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد، ويؤدي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخط، إما متناهية وإما غير متناهية، وهذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته، فقد بان أن النقط لا تتركب بتشافعها، وبان أيضا أن النقطة لا يتم لها وضع خاص، ونشير إلى طرف منها، فنقول: إن النقطتين حينئذ اللتين يطيفان بنقطة واحدة من جنبتيها، إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا يتماسان، فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأولية أن يكون كل واحد منهما يختص بشيء من الوسطى تماسه، فتنقسم حينئذ الواسطة، وهذا محال، وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس، فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقطة، وجميع النقط كنقطة واحدة، وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها، فتلك النقطة تكون مباينة لهذه في الوضع، وقد وضعت النقط كلها مشتركة في الوضع.
هذا خلف، فقد بطل أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم، فبقي أن يكون حلها من الجسم، إن كان محلها جسما، شيئا منقسما، فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم، فإذا فرضناها في الشيء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم، فحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين، فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس إياهما، اللهم إلا أن يكون ذلك الشيء شيئا يحصل فيهما من جهة الزيادة في المقدار أو الزيادة في العدد لا من جهة الصورة، فيكون حينئذ للصورة المعقولة شكل ما أو عدد ما، وليس صورة معقولة بمشكلة، وتصير حينئذ الصورة خيالية، لا عقلية ... وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة ، فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول، ويلزم من هذا محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا في القوة قبولا غير متناه، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوة غير متناهية.
وقد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية، ولأنه ليس يمكن أن يكون توهم القسمة يفيد الجنس والفصل تمييزا بينهما، بل ما لا يشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تمييزا في المحل أن ذلك التمييز لا يتوقف على توهم القسمة، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية. وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كل وجه، ولو كانت غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية، وأيضا لتكن القسمة وقعت من جهة، فأفرزت من جانب جنسا ومن جانب فصلا، فلو غيرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل، أو كان ينقلب الجنس إلى مكان الفصل والفصل إلى مكان الجنس، فكان فرضنا الوهمي يدور مقام الجنس والفصل فيه، وكان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج، على أن ذلك أيضا لا يفنى، فإنه يمكننا أن نرقع قسما في قسم، وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه؛ فإن ها هنا معقولات هي أبسط المعقولات ومبادئ للتركيب في سائر المعقولات، وليس لها أجناس ولا فصول، ولا هي منقسمة في الكم، ولا هي منقسمة في المعنى، فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة، كل واحد منها هو في المعنى الكل، وإنما يحصل الكل بالاجتماع، فإذن كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة، ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ، ولا بد لها من قابل فينا، فبين أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم، ولا أيضا قوة في جسم، فيلحقه ما يلحق الجسم من الانقسام، ثم يتبعه سائر المحالات.
ولا أدري ما يفكر فيه حول هذا البرهان، وقد يجب وجود روح هندسية لتذوقه، وأعترف بأنني نقلته مسرورا لما وجدت من طعم كثير على ما فيه من تطويل، ثم إن مما لا ريب فيه أنه كان يعلق أهمية كبيرة على ابن سينا، فقد دعاه الشهرستاني، الذي كرره مع تلخيص القسم الأول منه ب «البرهان القاطع»؛ ولذا فإن لنا عذرا في إيراده.»
وقد أتبع ابن سينا هذا الدليل الطويل بآخر أقصر منه كثيرا على أنه وجه آخر له، واليوم عادت النفوس غير متعودة جفاء البرهنة السكلاسية، فقد يبدو الشكل الآتي للبرهان أحسن من ذاك. قال ابن سينا: «ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر، فنقول: إن القوة العقلية هي التي تجرد المعقولات عن الكم المحدود، والأين، والوضع، وسائر ما قيل، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هي مجردة عنه، هل ذلك التجرد بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه، أو بالقياس إلى الشيء الآخذ؟ أعني أن هذه الذات المعقولة تتجرد عن الوضع في الوجود الخارجي أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل، ومحال أن يكون كذلك في الوجود الخارجي، فبقي أن تكون إنما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل، فإذن إذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع، وبحيث تقع إليها إشارة تجري أو انقسام أو شيء مما أشبه هذا المعنى، فلا يمكن أن تكون في جسم.»
وقد أضاف المؤلف إلى ما تقدم قوله: «وأيضا فإنه قد يصح لنا أن المعقولات المفروضة التي من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوة، ليس واحد أولى من الآخر. وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوة في جسم.»
وخلود النفس نتيجة مباشرة لروحانيتها ، وبما أن النفس العاقلة غير مرتسمة في البدن، وبما أنها جوهر روحاني مستقل ليس البدن سوى آلة له، فإن زوال هذه الآلة لا يصيب هذا الجوهر. وبما أن النفس - عند اتصالها بالعقل الفعال - تدرك بذاتها من غير احتياج إلى أعضاء، فإن زوال هذه الأعضاء لا يمكن أن يضرها، وهذه النتائج واضحة،
28
ثم إن ابن سينا هو الآن أقل إقبالا على إثبات خلود النفس العاقلة مما على البحث عن وجه تعلقها بالبدن.
وقد قال ابن سينا
29
بثلاثة أنواع للتعلق، وهي: تعلق المكافئ في الوجود، وتعلق المتأخر، وتعلق المتقدم، فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ، وكان هذا التعلق ذاتيا، فإن كلا منهما يضاف إلى صاحبه إضافة ذات، ولا يكون في الحقيقة جوهران، بل جوهر واحد، وهذا باطل، وإن كان هذا التعلق عرضيا فقط، فإن أحد الاثنين لا يزول بموت الآخر، بل يكون هناك جوهران: البدن والنفس، يمكن أن يوجدا انفرادا،
30
وإن كان التعلق تعلق المتأخر في الوجود، فإن البدن يكون علة للنفس في الوجود حينئذ، والعلل أربع كما هو معلوم، فمن المحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس، معطية لها الوجود؛ وذلك لأن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا، وإنما يفعل بقواه، ومن المحال أن يكون البدن علة مادية، فقد قلنا: إن النفس جوهر مطبوع في البدن كصورة الصنم المطبوعة في النحاس، ومحال أن يكون البدن مطبوعا في النفس بتركيب تدخل النفس فيه، فيكون البدن علة صورية للنفس، ومحال أن يكون البدن علة كمالية للنفس، والأولى أن يكون الأمر بالعكس؛ ولذا ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية، وإنما يمكن أن يكون البدن علة بالعرض، ومتى حدث البدن والمزاج صلحا أن يكونا آلة النفس وملكا لها.
وأما القسم الثالث من التعلق، فهو تعلق المتقدم، فيكون التقدم للنفس على البدن، وتكون النفس علة البدن في الوجود، فإن كان هذا التقدم في الزمان، فإن من المحال أن تتعلق النفس بوجود البدن وقد تقدمته في الزمان، وإن كان هذا التقدم في الذات ، فإن هذا يعني أن الذات المتقدمة تصدر عن الذات المتأخرة لزوما، ولكن عدم المتأخر يوجب افتراض عدم المتقدم حينئذ، مع أن المتأخر لا يمكن أن يكون معدوما إلا إذا عرض للمتقدم ما أعدمه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون السبب المعدم قد عرض في جوهر النفس، فيفسد معه البدن، وألا يكون البدن قد فسد بسبب يخصه، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير المزاج أو التركيب، فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات؛ ومن ثم يستنتج عدم وجود تعلق ذاتي في النفس بالبدن، وإنما يوجد تعلق عرضي يأتي من مبادئ عالية، وبما أنه لا يوجد غير تعلق عرضي، فإن النفس لا تفسد بموت البدن.
ثم بما أن النفس جوهر بسيط، فإنها لا تستطيع أن تجمع في نفسها فعل الوجود وقوة الفساد؛ وذلك لما يرى ابن سينا من تضاد هذين الشرطين، وعدم إمكان التوفيق بينهما ببساطة الجوهر، ولا يمكن وجود قوة الفساد في غير الأشياء المركبة أو الأشياء البسيطة التي تبقى في المركبة.
وجميع هذه البراهين في خلود النفس خاصة بما بعد الطبيعة قطعا، ولا يلوح أن ابن سينا عني كثيرا بالأدلة الخلقية أو الصوفية، ولا يعني هذا أنها كانت مجهولة في ذلك الحين، ولا ريب في وجودها لدى علماء الكلام، وقد قدم إخوان الصفا، الذين تجد لمنهاجهم مسحة خلقية أكثر مما تجد في منهاج الفلاسفة، برهانا شعبيا ظريفا نفعا للخلود،
31
فقالوا: إنه يرى أن جميع الناس يبكون موتاهم، وليست الأبدان هي التي يبكون ما دامت الأبدان تحت أعينهم، وما داموا يدفنونها عادة بدلا من تحنيطها، وإنما نشأ بكاؤهم عن أمر آخر، فر بعيدا من الجثث.
وفي مذهب ابن سينا أن النفس الإنسانية لا توجد قبل البدن، فكل نفس تخلق عند حدوث البدن،
32
وهي تكتسب تكييفا خاصا بالنسبة إلى البدن، ومن المستحيل أن توجد الأنفس قبل أبدانها؛ وذلك لأنها لا يمكن أن تكون في ذلك متكثرة ولا واحدة، وهي لا يمكن أن تكون متكثرة؛ لأنه لا يمكن أن تتغاير، وعلى العموم لا يمكن أن تصير الأشياء المجردة الصرفة متكثرة إلا بأشياء أخرى عينية تحتملها، وأما في حد ذاتها فإنها لا تتغاير ولا يمكن أن تعين، ثم إن النفوس ليست آحادا متحدة قبل دخولها في الأبدان؛ وذلك لأن النفوس التي هي في الأبدان إما أن تكون أجزاء لهذه النفس الوحيدة، ولكن مع كونها شيئا واحدا بلا عظم ولا حجم، غير قابلة للانقسام بالقوة، وإما أن تكون هذه النفوس آحادا في الأبدان أيضا، وهذا باطل بيقين شعوري.
وتحدث النفوس وتكثر - إذن - عند ولادة الأبدان، وهي تعاني إعدادا يناسب به كل واحدة منها الجسم الذي يجب أن تسيطر عليه، ويظهر أن الوجه الذي يتم به هذا الإعداد قد بقي خفيا بعض الخفاء على عين ابن سينا.
ومتى تركت الأنفس الأبدان فإن هذا الاختلاف الأصلي، المضاف إلى اختلاف أزمنة حدوثها وانطلاقها خارج الأبدان، يحول دون اختلاطها، فتبقى ذوات منفصلة.
والحاصل،
33
أن كل حي يدرك بشعوره أنه لا يوجد فيه غير نفس واحدة، تحس وتعمل ببدنها، وتسيطر على البدن اختياريا، وما كان لنفس أخرى أن تحس بهذا البدن، ولا أن تعمل به، ولا أن تتجلى فيه على الإطلاق، فلا تعلق بينها وبين هذا البدن، وينتهي ابن سينا بوحدة النفس الفردية هذه إلى استحالة التناسخ.
34
ومن الواضح أن ابن سينا بذل وسعه بهذه البراهين الأخيرة، وذلك كما أعتقد مخلصا، في مكافحة مناحي وحدة الوجود، التي كان يمكن أن يجر إليه مذهبه، وهذا الجهد هو من الإمتاع البالغ؛ وذلك لأننا ندرك به الحد الذي يتغلب به - في ذهن الفيلسوف - نفوذ العقيدة على نفوذ الفلسفة، فعلى الفلسفة أن تنحني أمام علم الكلام فيما وراء هذا الحد، وعلى كل منهاج - في هذه الناحية - أن ينظم، عند امتداده إلى هذه النقطة، على وجه لا يصدم به العقيدة، ويجاوز ابن سينا هذا المجاز بلا عائق، فيثبت أنه وفق لإقامة اتصال بين العلم والاعتقاد، اللذين لحم أحدهما بالآخر، وإن شئت فقل: إنه قام بعمل السكلاسي.
الفصل التاسع
إلهيات ابن سينا
العالم العلوي - نظرية انبثاق الأفلاك - اختراع المسبب الأول - الموجود الأول والمسبب الأول - مبدأ العلة وتحليله عند ابن سينا - التوحيد بين العقل والعلة - نظرية الكليات المتفرعة عن نظرية العلل - واجب الوجود. ***
اعلم أن ما بعد الطبيعة، الذي يطلق عليه فلاسفة العرب اسم «الحكمة الأولى»، والذي يدعوه كتاب النجاة ب «الإلهيات» على الخصوص هو علم عالم الموجودات العلوية والله، وهو يؤلف في منهاج ابن سينا رسما كريما، تلقي سطوره الرئيسة شعاعا حول مذهبين كبيرين، وهما: انبثاق الموجودات، والسببية.
وفي العالم العلوي تتم سلسلة الموجودات التي رأينا أن درجاتها تجاوز العالم الطبيعي والعالم النفسي، وإليك كيف يبسط ترتيب الموجودات بين عالمنا والله، كما جاء في الرسالة النيروزية
1
الطريفة التي ذكرها ابن أبي أصيبعة، ونشرت في مجموعة «رسائل في الحكمة»: «واجب الوجود هو مبدع المبدعات ومنشئ الكل، وهو ذات لا يمكن أن يكون متكثرا، أو متحيزا، أو متقوما بسبب في ذاته، أو مباينا في ذاته، ولا يمكن أن يكون وجود في مرتبة وجوده فضلا عن أن يكون فوقه ... هو الوجود المحض، والحق المحض، والخير المحض، والعلم المحض، والقدرة المحضة، والحياة المحضة من غير أن يدل بكل واحد من هذه الألفاظ على معنى منفرد على حدة، بل المفهوم منها عند الحكماء معنى وذات واحد ... وأول ما يبدع عنه عالم العقل، وهو جملة تشتمل على عدة من الموجودات قائمة بلا مواد خالية عن القوة والاستعداد، عقول ظاهرة وصور باهرة، ليس في طباعها أن تتغير، أو تتكثر، أو تتحيز، كلها تشتاق إلى الأول، والاقتداء به، والإظهار لأمره، والالتذاذ بالقرب العقلي منه سرمد الدهر على نسبة واحدة.
ثم العالم النفسي هو يشتمل على جملة كثيرة من ذوات معقولة، ليست مفارقة للمواد كل المفارقة، بل هي ملابستها نوعا من الملابسة، وموادها مواد ثابتة سماوية، فلذلك هي أفضل الصور المادية، وهي مدبرات الأجرام الفلكية وبواسطتها للعنصرية، ولها في طباعها نوع من التغير ونوع من التكثر لا على الإطلاق، وكلها عشاق للعالم العقلي، لكل عدة مرتبطة في جملة منها ارتباطا بواحد من العقول، فهو عامل على المثال الكلي المرتسم في ذات مبدئه المفارق مستفاد عن ذات الأول، ثم عالم الطبيعة، ويشتمل على قوى سارية في الأجسام، ملابسة للمادة على التمام، تفعل فيها الحركات والسكونات الذاتية، وترقى عليها الكمالات الجوهرية على سبيل التسخير، فهذه القوى كلها فعال، وبعدها العالم الجسماني، وهو ينقسم إلى أثيري وعنصري، وخاصية الأثيري استدارة الشكل والحركة ... وخاصية العنصري التهيؤ للأشكال المختلفة والأحوال المتغايرة.»
ومع ذلك، فإن الشكل الاعتيادي الذي تشتمل عليه نظرية انبثاق الأفلاك لدى ابن سينا، وفي جميع المدرسة الفلسفية العربية كما هو ظاهر، ليس الشكل المعروض بهذه الرسالة الجميلة، وتكون هذه النظرية أكثر جفاء بمظهرها المعتاد، ومع أن عالم العقل موجود فيها أيضا لم يذكر فيها باسمه، ولا يستخلص منها بصراحة، وإليك هذا الشكل المشترك: وفوق الكل يكون الله الذي لا يدعوه الفلاسفة باسمه، بل يدلون عليه بتعابير ما بعد الطبيعة، وهي: الواحد، والأول، وواجب الوجود، والسبب الأول، والحق الأول، وعن الله يصدر موجود واحد ثان، وهو الذي يسمى العقل المحض المسبب الأول، وعن المسبب الأول تصدر نفس فلك العالم المحدود وجسمه معا كما يصدر عقل، وعن هذا العقل تصدر نفس زحل، الذي هو أبعد السيارات، كما يصدر عقل ثالث، وعن هذا العقل الثالث تصدر نفس المشتري، الذي هو سيارة تالية، كما يصدر عقل رابع يكون عقل الفلك، الذي يتبع المشتري في نظام السيارات، ويدوم الانبثاق وفق هذا النظام، وعن عقل القمر الذي هو آخر سيارة يصدر آخر عقل محض، وهو العقل الفعال، وعن العقل الفعال يصدر العالم الأرضي.
فمن هذا البيان يرى أنه يتألف من العقل الفعال وعقول الكواكب الصرفة مجموع عالم العقول، الذي كان أكثر وضوحا في المنهاج الأول.
ولكننا نشعر بأنه سيكون لدى القراء أثر سيئ ضد ابن سينا عند سماع هذه النظرية، فيستعدون، كما يلوح لنا - لإغلاق الكتاب - لائمين إيانا على إنفاق كثير من العلم والتدقيق لنيل إعجابهم، ثم لجعلهم ينقضون نهائيا، على منهاج همجي أو منهاج صبي، فنرى - والحالة هذه - أن من الواجب أن ندافع عن بطلنا حيال هذه المشاعر الجائرة، كما نرى من الواجب أن نساعد القارئ ، الذي يمكن أن تؤدي دقيقة غيظ أو خور إلى خسرانه جميع ثمرة صبره السابق.
والحق أننا لا نزعم أن فكرة تثبيت النجوم على أفلاك من بلور مشتملة على هذه وتلك، ومنح هذه الأفلاك أرواحا وعقولا، تنطوي على فائدة في زماننا، وإنما نريد الإشارة إلى أن هذه الفكرة إذا ما وضعت في مكانها في تاريخ معتقدات الإنسان، وجد أنها - بالأمد الطويل الذي شغلت فيه ذهن الإنسان - تعود مهمة ممتعة جميلة، فتستحق ضربا من الاحترام بسبب عمق الجذور التي تغرس في الماضي. والحق أن اعتقاد حياة النجوم ليس شيئا غير حال خاصة عجيبة لاعتقاد حياة الطبيعة، التي تسمى في تاريخ الأديان بالطبيعية،
2
وأن الأرواح عند الرجل الفطري كانت تسيطر على النجوم كما كانت تسيطر على الرياح والسحب ومجاري المياه ونمو النباتات، وإنما امتازت أرواح النجوم - في نظر راصدي كلدة باكرا - من القوى الروحية في الطبيعة الأرضية، وارتقت فوقها بالجلال والصفاء والتناسق في مظاهرها، وقد حقق أكثر العلوم ابتدائية تباين ما بين طبيعة الموجودات الدنيا، الخاضعة للتولد والفساد، والذاهبة في تقصي مركب الظاهرات الجامحة المتقلبة، وطبيعة الموجودات الفلكية التي تبدو ناجية من الولادة والممات، فتقوم بحركاتها الموزونة في الفضاء الثابت قياما بهيا، ولو كان الهدوء والخلود يناسبان الآلهة الأعلين لكان النجوم هؤلاء الآلهة، وبما أن الآلهة خالدون - كما يلوح - فإن أجسامهم الإلهية صنعت من مادة غير مادة أجسامنا القابلة للانحلال.
إذن ليس هذا مريبا، فنظرية روح الأفلاك في الفلسفة اليونانية وفلسفة القرون الوسطى مواصلة لعبادة النجوم الابتدائية وعبادة النجوم لدى الكلديين تماما؛ ويرفع شأن هذا الاعتقاد باعتبارات عن انسجام الأعداد، فتسيطر على فلسفة فيثاغورس، ويكون لها موقع في فلسفة أفلاطون، ويزعم شارحو العرب أنها موجودة في كتب أرسطو، وإن كنا نرى أنها ظاهرة فيها قليلا، ثم عادت إلى الظهور في الأفلاطونية الجديدة، وغدت غير مادية في سنوحات الأدريين، ثم لما بدت في السكلاسية الشرقية وجد أنها أعيدت إلى مكانها الأصلي؛ أي إلى كلدة ذات الفلك الصافي، حيث كان الناس قد علقوا أبصارهم في النجوم مع التأمل. وقد قلنا: إن عبادة النجوم كانت لا تزال موجودة في ذاك الحين؛ فقد كان علماء حران عبدة نجوم؛ ولذا فإن النظرية عندما رجعت إلى هذه البقاع بشكلها الفلسفي وجدت أذهانا لم تزل خاضعة لنفوذ شكلها الديني، فلم تلق صعوبة في دخول دماغ المفكرين بفضل هذه الحال.
ولما حدث - في أوائل القرون الحديثة - ذلك الانقلاب الذي حول علم الفلك قضي بالعجب من جرأة العالم الذي قلب نظام الأفلاك بإزاحة الأرض من مكانها القديم، مقيما الشمس مقامها، ولكن من الحق أن يقال: إن الفكرة الجديدة لم تكن فكرة إزاحة الأرض من مركز العالم؛ وذلك لأن هذه الفكرة كانت قد تمثلت لذهن الباحثين، منذ زمن طويل، على شكل فرضية، وذلك أن مجرد كون كثير من الفلاسفة - ومنهم ابن سينا - قد كتبوا ليثبتوا أن الأرض واقعة في وسط العالم،
3
يدل على إمكان قبول النظرية المعاكسة، ولو بالعقل على الأقل، وإنما اكتشاف القرون الحديثة الحقيقي هو الاكتشاف الذي قطع به ذهن الإنسان صلته نهائيا بعادات ما قبل التاريخ في الطبيعية، فعاد لا يعتقد بسمو الأجرام السماوية، واعترف بأن النجوم مركبة من عناصر كيماوية، كالتي تتركب منها عناصر عالمنا، وبأنها خاضعة لمثل قوانينه الطبيعية والميكانية، وبما أن ابن سينا متقدم على عصر هذا الاكتشاف، فإنه لا يلام على جعل منهاجه ملائما لعلم زمانه، وهنا نكرر قولنا: إن عيب فلسفته ليس في غير استنساخ عيب العلم في عصره.
ولنرجع الآن إلى مجرى عرضنا: إن المعضلة الكبرى التي كانت أول ما توضع في النظرية العامة لانبثاق الموجودات هي معضلة انبثاق التكثر، والأمر يدور حول معرفة الكيفية التي يصدر بها عالم كثير عن الموجود الواحد، والمبدأ القائم هو في أنه «لا يمكن أن يخرج من الواحد غير الواحد»، ولو بوجه غير مباشر على الأقل. فلا بد - إذن - من اكتشاف طريقة تسمح باستخراج المتكثر من الواحد على وجه مباشر، ففي سبيل هذا الغرض تصور المسبب الأول.
كان لاختراع المسبب الأول فائدة رياضية يسهل تبينها، وذلك بما أنه لا يوجد أي تكثر في الواحد إذا ما نظر إليه على انفراد، فإن من المتعذر استخراج تكثر الأشياء من الواحد فقط، ولكن بما أن المسبب الأول - الذي هو واحد - قد خرج من الواحد الأول، ذات مرة، فقد ظهر اثنان، ووقع تكثر علاقات، وما هنالك من مفاهيم نفسية عن الشعور والمعرفة ممزوجة بمفاهيم ما بعد الطبيعة عن الممكن والواجب كان يعين طبيعة هذه العلاقات، وكان المسبب الأول يعرف نفسه ويعرف الموجود الأول، فكان هذا يكون اثنينية، ثم إن المسبب الأول كان ممكنا بذاته، واجبا بالموجود الأول، وبما أنه كان يعرف نفسه فإنه كان يعرف نفسه بهذين الوجهين، وهكذا كانت تحدث ثلاثية.
وكان هذا يكفي ليؤدي إلى التكثر المطلوب؛ ولذا كانت النظرية تتخذ شكلا جدليا، وإليكه:
4 «ليس في الموجود الأول تكثر، ويكون في المسبب الأول ثلاثية لا تأتيه من الموجود الأول، وإنما يأتي وجوب المسبب الأول من الموجود الأول، فيكون إمكانه في ذاته وما ينطوي عليه من ثلاثية يقوم - كما قلنا - على كونه يعرف الموجود الأول، وأنه يعرف ذاته مثل ممكن بذاته وواجب بالموجود الأول، ويصدر عن معرفة المسبب الأول للموجود الأول عقل يعد أول واقع تحته، وهو فلك زحل، وتصدر عن معرفة المسبب الأول لذاته، مثل واجب بالموجود الأول، وجود نفس هي نفس الفلك المحدود، ويصدر عن معرفته نفسه، مثل ممكن، وجود جرم هذا الفلك المحدود، ثم يتكرر وجه الانبثاق هذا نازلا من المرقاة الفلكية، ويصدر عن عقل زحل، من حيث يعرف الله، عقل فلك المشتري، ويصدر عن عين العقل، من حيث يعرف ذاته نفس فلك زحل، وهكذا، فإن الصدور يستمر حتى يوصل إلى العقل الفعال فيقف عنده، ويلاحظ ابن سينا أنه لا يوجد أية ضرورة لاستمرار الصدور إلى غير نهاية.
وفي هذا المنهاج يرى كيف أن تدخل المسبب الأول لإحداث بدء التكثر أمر بارع، ولكنه لا يرى في أول الأمر كيف أن وجوه معرفة المسبب الأول والعقول التالية تؤدي إلى حدوث أجرام الموجودات الفلكية ونفوسها، فهنا أعترف بصعوبة تقديم إيضاح عقلي حول هذه النقطة، ولنا أن نعتقد أن هذا الارتباك لا يأتينا عن عدم اختصاصنا أو عن نقص استيعابنا لمنهاج ابن سينا؛ فقد أراد الغزالي - الذي هو فيلسوف عربي آخر - أن ينتقد هذه النظرية، فلم ير من الضروري أن يستعين بأي دليل أو برهان لدحضها، وإنما اكتفى بتصريحه أنها لا تفهم، ومع ذلك فإنه لا بد من وجود دواع حملت ذهنا قويا مثل ذهن ابن سينا والفارابي على التزام هذا المنهاج.
وقد ذهب ابن سينا في موضع
5
إلى أن كل عقل يحدث جواهر روحانية بقسم معرفته التي تشابه الصورة كثيرا وجوهرا جسمانيا بقسم هذه المعرفة التي تشابه الهيولي، بيد أن هذا القياس الدقيق ليس برهانا أيضا.
وأرى أن العوامل الحقيقية التي حملت فيلسوفنا على قبول هذا المذهب ترد إلى أمرين، وهما: أولا: إمكان عد هذا المذهب ردا لنظريات الانبثاق إلى حدود العقيدة الإسلامية؛ وذلك أن الانبثاق وجد أمرا نافعا بدلالته عظماء فلاسفة الشرق - حتى أكثرهم حكمة - إلى ما يحلون به الوجود الإلهي جمعا له بالعالم، وذلك عن رد فعل حيال بساطة المفهوم القرآني نحو الله، وعن ميل باد إلى المذاهب المعارضة لهذه البساطة. ثانيا: إنه كان يساور هؤلاء الفلاسفة في كل وقت مفهوم عميق، قائل: إن الجواهر الحقيقية كانت فعالة، وإن فعالية الموجود كانت تحدث ظاهرات وموجودات، وإنه لم يكن - من حيث النتيجة - شيء غير طبيعي في كون أعلى العقول تحدث موجودات علوية أيضا. وسنعود إلى هذه الفكرة القوية.»
وتواصل نظرية انبثاق الأفلاك بنظرية تحريك الأفلاك التي يرى بها تبدد جفاء الأولى بضرب من الفيض الشعري.
كنا قد ذكرنا في الطبيعيات وجود ثلاثة أنواع للحركة، وهي: الحركة الطبيعية، التي ترد الجسم إلى مكانه الطبيعي عندما تبتعد عنه، والحركة القسرية، التي تحدث ابتعاد الجسم هذا عن مكانه الطبيعي، أو التي تمنع من رجوعه إليه، والحركة الإرادية الخاصة بالموجودات الحية، والتي يقوم مبدؤها في القوى المحركة للنفس، فحركة الأفلاك من هذا النوع الثالث.
والحركة الطبيعية مستقيمة، وذلك كما أوضحنا، وذلك ما دامت ترد الأجسام إلى أماكنها بطريق مباشرة؛ ولذا لا تكون الحركة المستديرة - كحركة الأفلاك - غير قسرية أو اختيارية، وبما أنه لا يوجد ما يدل على كونها قسرية، فإننا نستنتج من هذا أن الأفلاك تتحرك بحركة اختيارية،
6
قال ابن سينا:
7 «ليس محرك الأفلاك القريب قوة طبيعية ولا عقلا، بل نفس، وأما محركها البعيد فعقل.» ونفس الفلك هي السبب القريب لكل قسم من الحركة، والعقل هو السبب البعيد العام، «والفلك متحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته القريبة، وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهي متوهمة؛ أي لها إدراك المتغيرات الجزئية وإرادة لأمور جزئية بأعيانها، وهي كمال جسم الفلك وصورته ...
وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشابه الأوهام صادقة، وتخيلاتها أو ما يشابه التخيلات حقيقية.» ومع ذلك فإن مشابهة النفس الفلكية بنفسنا الحيوانية غير كاملة، فابن سينا يدنيها في مواضع أخرى بعقلنا العملي؛ أي بالقسم الخلقي من نفسنا الناطقة، وهذه النفس تحرك الفلك لداع خلقي، كما أن عقلنا العملي يحرك بدننا نظرا إلى الخير؛ قال مؤلفنا:
8 «وجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختيارا وإرادة لخير حقيقي.»
وماذا يمكن أن يكون هذا الخير الذي تبحث النفس الفلكية عنه؟ إنه يستخرج من كون الحركة الفلكية أزلية ظاهرا: «فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيرا قائما بذاته، ليس من شأنه أن ينال، وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الإمكان»، ووجب أن يكون الفلك في حال ثبات ما بلغ قسم من هذا الخير، ووجب أن يتحرك الفلك دائما؛ كيما يبلغ القسم البعيد المنال.
وهكذا يوضح انتظام حركة الكواكب ودوام هذه الحركة، وقد أضاف المؤلف إلى ذلك قوله: «وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه محرك عن قوة غير متناهية، والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية، لكنها بما تعقل الأول، فيسيح عليها من قوته ونوره دائما، تصير كأن لها قوة غير متناهية ... إذن مبدأ حركة الفلك هو الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن، ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه ، وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن تكون بالفعل أينا لم يتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقا إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له، وإلى أن يكون على أكمل ما له من كونه متحركا.»
9
وتدل المشاهدة على أن حركات الأفلاك تختلف فيما بينها سرعة وميلا، فيستنبط من هذا أن الغرض الذي يميل شوق الأفلاك إليه ليس واحدا لها كلها، وإلا لكانت حركاتها متساوية، وغرض كل واحد منها في شوقه هو عقل خالص خاص. وتختلف الحركات باختلاف هذه العقول،
10
غير أن السبب الأول لحركة جميع الأفلاك وميلها البعيد واحد، وهو الله، وينشأ عن الاشتراك في هذا الميل الأخير صفتان شاملتان لحركاتها، وهما الدوران والنظام؛ قال ابن سينا:
11 «إن جوهر هذا المحرك الأول واحد، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد، وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه، ومتشوق معشوق يخصه، على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي الحكمة.»
وإذا ما صعدنا في سلسلة الحركات التي تنتقل في الموجودات وجدنا تعذر ذهابها إلى غير نهاية، فلا بد من انتهائها إلى محرك لا يتحرك، ولو كان الأمر غير هذا لوجدت سلسلة بلا نهاية من الأجسام المتحركة التي يكون لها - معا - حجم لا نهاية له، والتي تستلزم قدرة لا نهاية لها لتتحرك؛ أي تكون حائزة لجميع الأمور التي أثبت استحالتها؛ ولذا فإن المحرك الأول الذي لا نهاية لقدرته يكون خارج الأجسام، وهو ذات روحاني غير متحرك ما دام فاعلا للحركة بنفسه، وغير ساكن ما دام غير قابل للحركة، وما دام السكون لا يفهم أمره إلا من أجسام قادرة على تقبل الحركة، فالمحرك الأول هو فوق الأجسام والحركة والزمان،
12
فمما تقدم يرى أن المحرك الأول الفعال هو نفس الفلك المحدود، وأن المحرك الأول البعيد هو عقل هذا الفلك عينه ؛ أي المسبب الأول الذي يحرك هذا الفلك عن شوق.
ويعزو ابن سينا مجموع هذه النظرية إلى أرسطو في عبارتين،
13
فيلوم تلاميذه على تحريفهم إياها، ولا يمكن قبول هذا الزعم مطلقا، ولكنه يمكن أن يذكر - على ما أعتقد - وذلك ضمن معنى زعم ابن سينا - وخلافا لتفسير منتشر - أن المحرك الأول عند أرسطو ليس الله، بل العقل الذي يتلو الله.
ويسيطر العقل الفعال - الذي يأتي آخر العقول - على عالمنا،
14
فعن هذا العقل تصدر الصور التي يجب أن تتقبلها المادة الأرضية، فمما يحدث - بفعل الطبيعة وتقلبات الكواكب - صلاح كل قسم من هذه المادة لصور معينة، فيتقبل القسم المادي - المستعد على هذا الوجه - صورته من العقل الفعال، ومن الواضح - بالحقيقة - أنه يوجد في المادة استعدادات نوعية تعدها لصور معينة.
ويقول ابن سينا على سبيل المثال إن مادة الماء إذا ما سخنت تصير بالتناقص مستعدة لتقبل صورة الماء، كما تصير بالتزايد مستعدة لتقبل صورة النار، بيد أن الوجه الذي تحدث به هذه النوعية يبقى غامضا في نظرنا، كما نعتقد أن الأمر كان هكذا في نظر ابن سينا. ومع ذلك فإن هذه المسألة تسوقنا إلى دراسة العالم الطبيعي، التي لا تدخل ضمن موضوع هذا الفصل، وتجرنا إلى مدخل علم الفلك، الذي لا نرى الخوض فيه في هذا الكتاب؛ ولذا فلنقف نظرية انبثاق الموجودات عند هذا الحد، ولنعن الآن بمذهب العلل العظيم. •••
وإليك كيف يعرف ابن سينا مبدأ العلة ويحلله:
15 «المبدأ (العلة) يقال لكل ما يكون قد استتم له وجود في نفسه - إما عن ذاته وإما عن غيره - ثم يحصل عنه وجود شيء آخر ويتقوم به.» والمبدأ لا يخلو أن يكون كالجزء لما هو معلول له أو لا يكون كالجزء؛ فإن كان كالجزء فإما أن يكون جزءا ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجودا بالفعل، فإنك تتوهم العنصر موجودا ولا يلزم من وجوده بالفعل وحده أن يحصل الشيء بالفعل كالخشب للسرير، وإما أن يجب عن وجوده بالفعل وجود المعلول له بالفعل، وهذا هو الصورة، كالشكل والتأليف للسرير.
وإن لم يكن المبدأ كالجزء، فإما أن يكون مباينا أو ملاقيا لذات المعلول، فإن كان ملاقيا لذات المعلول، فإما أن ينعت المعلول به، وهذا كالصورة للهيولي، وإما أن ينعت بالمعلول، وهذا هو كالموضوع للعرض، وإن كان مباينا لذات المعلول، فإما أن يكون الذي منه الوجود، وهذا هو الفاعل، وإما أن يكون الذي لأجله الوجود، وهذا هو الغاية.
وحاصل القول أنه يوجد للعلل ستة أنواع، وهي: الهيولي للمركب، وصورة للمركب، وموضوع للعرض، وصورة للهيولي، وفاعل، وغاية، وتشترك الهيولي للمركب والموضوع للعرض بأنها للشيء الذي فيه قوة وجود الشيء، وتشترك الصورة للمركب والصورة للهيولي بأنه ما به يكون المعلول موجودا بالفعل.
وهكذا؛ فإنه يوصل إلى مذهب العلل الأربع المشهور، الذي كان قد ألم به في المنطق، وهذه العلل الأربعة هي: الهيولانية، والصورية، والفاعلية، والغائية.
وأكثر أجزاء هذا المذهب اصطباغا بما بعد الطبيعة هو الجزء الذي يبحث المؤلف فيه عن المكان النسبي في وجود العلة الفاعلة والعلة الغائية، فالغاية تتأخر في حصول الوجود عن المعلول، وتتقدم سائر العلل في الشيئية، ومن البين أن الشيئية غير الوجود في الأعيان، فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس وأمر مشترك، وذلك المشترك هو الشيئية، والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر، والعلل لا تصير عللا بالفعل إلا بالغاية؛ ولذا فإن الفاعل الأول والمحرك الأول في جميع الأشياء غايته؛ ولهذا المذهب - البسيط الجميل معا - تطبيقه المباشر في النظرية التي عرضناها آنفا حول تحريك الأفلاك، حيث رأينا أن المسبب الأول هو المحرك الأول وغاية حركة الأفلاك معا.
وبجانب العلل يوجد شيء آخر؛ أي توجد العوامل الثلاثة التي كنا قد ألمعنا إليها آنفا، وهي: الطبيعة، والإرادة، والقسر، ويلاحظ ابن سينا - في معرض الكلام عن الحركة الطبيعية - أن الطبيعة ليست سبب هذه الحركة القريب ما دام الجسم يبتعد عن طبيعته عند تحركه، فهو يتحرك ليعود إليها؛ ولذا فإن الأحرى أن يقال: إن هذا هو عدم التوافق بين كل من أحواله المتعاقبة وحاله الطبيعية التي هي علة حركة الجسم القريبة الفاعلة، على حين لا تبدو الطبيعة في ذلك غير علة بعيدة نهائية.
وعدم التوافق هذا يسير متناقصا بالتدريج في أثناء الحركة، وهذا يعين معناه، وكذلك، في الحركة الإرادية، ليست الإرادة الكلية التي تسيطر عليها غير عامل عام، ثابت، قائم على اعتبار العلة الغائية، بيد أن كل جزء من الحركة يحدث بشيئية تتغير وتتجدد بتقدم المتحرك، ويقوم هذا الشيء على ما يلازم النفس في كل ثانية من الحركة من تخيلات غائية خاصة ومن إرادات مختلفة. والحق أن النفس هي المبدأ الذي يتم فيه هذا التجدد في الإرادات القريبة مع كون العقل المحض ليس سوى محرك بعيد؛ ولذا فإن ابن سينا يقول: «قال أرسطو: إن لذلك - أي العقل النظري - الحكم الكلي، وأما لهذا فالأفعال الجزئية والتعقلات الجزئية، أي العقل العملي.» ولا يمكن سوى الابتهاج بمثل هذه النظريات الدقيقة.
وقد حرص ابن سينا أن يجعل من مذهب السببية تطبيقات معينة على مذهب انبثاق الأفلاك فيقيم هذا المذهب على أساس متين، وذلك من المحاولات، التي لا نرى من المفيد أن يصر عليها، وهي تلخص في قضايا كالآتية:
16
إن كلا من مادة الجسم وصورته ليس علة للأخرى، لا يمكن أن تكون الأجرام السماوية عللا للنفوس السماوية، ولا النفوس السماوية عللا للأجرام السماوية؛ لا يمكن أن تكون هذه الأجرام وهذه النفوس غير معلولات روحانية، كل عقل محض علة، والخلاصة أن ابن سينا كان - كما يظهر من هذه القضايا - يعد الموجود العاقل علة بطبيعته ذاتها، وهذا ما يوافق المناحي الحركية التي صادفناها في كثير من أقسام منهاجه.
وكل عقل محض علة، والموجود الأول هو علة الكل، وبما أن العقول والموجود الأول ذوو شعور بأنفسهم، فإنهم يتعارفون مثل علة حالا، وهنا تتشعب نظرية السببية في نظرية العرفان بالموجود الأعلى المهمة، وإليك كيف يتكلم عنها ابن سينا:
17 «لا يجوز أن يكون كون الكل صادرا عن واجب الوجود على سبيل قصد منه كقصدنا، وذلك لما يكون في واجب الوجود من شيئية يرى بها وجود الكل عنه، فيؤدي هذا إلى تكثر ذاته، وهذا محال ، وذلك فضلا عن أنه يكون فيه شيء بسببه يقصد، وهو علمه بوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، وهذا محال، وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة ولا رضا منه، وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته، فيجب أن يعقل أنه يلزمه وجود الكل عنه؛ لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلا محضا ومبدأ أولا.
وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه مبدؤه، وكل ذات تعلم ما يصدر عنه ولا تخالطه معاوقة ما، والأول راض بفيضان الكل عنه، ثم إن الأول يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلا متنقلا من معقول إلى معقول، فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه، بل عقلا، واحدا، معا، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود إذ يعقل كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله؛ فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها - على ما علمت - علم وقدرة وإرادة، وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وإلى حركة وإرادة حتى توجد، وهو لا يحسن فيه ذلك، ولا يصح لبراءته عن الاثنينية، وهو فاعل الكل، بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضا تاما مباينا لذاته.»
وأخص ما صنع ابن سينا في هذا البيان هو أنه وحد بين العقل والعلة، كما أنه وحد في مكان آخر بين الوجود والعقل.
قال ابن سينا:
18 «إن واجب الوجود بذاته عقل، وعاقل، ومعقول.» فأنت تعرف أن طبيعة الوجود غير ممتنع عليها أن تعقل، وإنما يعرض لها ألا تعقل إذا كانت في المادة أو مكنوفة بعوارض المادة، فإنها من حيث هي كذلك محسوسة أو متخيلة، وإنما الموجود معقول عادة، «والأول الواجب الوجود مجرد عن المادة وعوارض المادة، فهو - بما هو هوية مجردة - عقل، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته لها هوية مجردة هو عاقل ذاته»، فالموجود الأول ماهية وهوية.
ويعقل واجب الوجود من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة
19
بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا، وبتوسط ذلك بأشخاصها، ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها، وذلك من حيث يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات، ثم إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة لم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة لم تكن معقولة، بل محسوسة ومتخيلة، ونحن قد بينا أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها من حيث هي محسوسة، ونتخيلها بآلة متجزئة.
ولذا فإن هذا النوع من الإدراك لا يمكن أن يوافق الموجود الأول، «وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهذا من العجائب التي يحوج تصورها إلى لطف قريحة.»
ويظهر من الكلمات الأخيرة هذه أن ابن سينا كان شاعرا بالبراعة التي أظهرها في هذا المذهب الممتع، فقد انتهى - من حيث النتيجة - إلى التوفيق، على شكل ما، وذلك باستعمال دقيق لمفهوم السببية، بين الإله الفلسفي، الذي يجهل العالم تقريبا، والإله العقدي الذي يعلم آخر ذرة في العالم، ولا ريب في أن ذلك لم يكن أقل مجاز وعر في المسألة السكلاسية، ويمكن أن نقول - ونحن نختم هذا الفصل - إن حل ابن سينا لهذه النقطة ليس مرضيا تماما، ومهما يكن من أمر فإن هذا الحل ماهر يلائم عبقريته الفلسفية، ويمكن تلخيص هذا الحل - من حيث الأساس - بأن يقال: إن معرفة الله بالعالم ليست سوى إطالة لشعوره بذاته ، ومن هذا البيان يبدو ما تنم عليه هذه النظرية من صبغة خفيفة في وحدة الوجود، والله يعرف العالم مثل معلول له من حيث العموم، وذلك وفق نظام سلسلة العلل والمعلولات، التي هو أول حلقة فيها، وهو يعرف كل شيء؛ لأنه يوجب كل شيء، «ويعلم الأول
20
مبدأ الأشياء، وما ينتج عنها على الترتيب الذي يلزم ذلك، فتكون هذه الأشياء مفاتح الغيب.» •••
وتوجد نظرية الكليات التي تفرعت عن نظرية العلل، وسنرى كيف يعرض ابن سينا قضاياها الجوهرية في إلهياته، ثم نوضح صلتها بمذهب العلل.
قال مؤلفنا:
21 «المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء، وبما هو عام أو خاص أو واحد أو كثير، وذلك له بالقوة أو بالفعل، شيء آخر؛ فإنه بما هو إنسان فقط بلا شرط آخر البتة شيء، ثم العموم شرط زائد على أنه إنسان، والخصوص كذلك، وإنه واحد كذلك، وإنه كثير كذلك، وليس إذا فرضت هذه الأحوال بالفعل فقط، بل وإذا فرضت هذه الأحوال أيضا بالقوة.»
والكلي بلا شرط يوجد بالفعل في الأشياء، وهو محمول على كل منها، لا لأنه واحد بالذات، ولا لأنه كثير؛ وذلك لأن هذا غير خاص به ما دام كليا، والكلي ليس في الوجود شيئا واحدا بعينه محمولا على كل واحد وقتا ما، والإنسان الذي اكتنفته الأعراض المخصصة بشخص لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وشخص عمرو، «فلا كلي عامي في الوجود، بل وجود الكلي عام بالفعل إنما هو في العقل، وهي الصورة التي في العقل التي نسبتها بالفعل أو بالقوة إلى كل واحد واحدة.»
والخلاصة، هي - كما هو معلوم - أن مفهوم الكلي يحملنا على التمييز بين نوعي وجود، وهما: الوجود في الذهن، والوجود في الحقيقة الخارجية، وكذلك كان مفهوم القوة قد حملنا على تمييز نوعي وجود، وهما: الوجود بالقوة والوجود بالفعل، ولو نظر إلى هذه المذاهب الخاصة بالقرون القديمة والقرون الوسطى - من حيث الأساس - لرئي أن مفهوم الوجود ليس مطلقا، فالوجود ليس أمرا معينا تعيينا دقيقا، كما نشعر به وفق عاداتنا الوضعية والدكارتية، فيوجد وجوه كثيرة للوجود ووجوه كثيرة لعدم الوجود، وعاد الوجود والعدم لا يكونان حدين متناوبين حتما، فكأنه يمتد ظل خفيف بين الوجود وعدم الوجود.
22
ولذا فإنه منذ أخذ في البحث عن علل الأشياء وصل إلى التفريق بين درجات الوجود المختلفة هذه، وإذا ما توخينا زيادة دقة في التعبير وجدنا أن مذهب ابن سينا انتهى إلى التفريق بين ماهية الشيء ووجوده؛ فالماهية؛ أي الشيء بعينه هو - في مفهومه وتعريفه - غير التحقيق العيني الخارجي لهذا الشيء في الوجود؛ ومن ثم يكون للشيء علة لماهيته وعلة أخرى لوجوده.
قال المؤلف:
23 «الشيء قد يكون معلولا بحسب اعتبار ماهيته وحقيقته، وقد يكون معلولا في وجوده، وإليك أن تعتبر ذلك بالمثلث مثلا، فإن حقيقته متعلقة بالسطح والخط الذي هو ضلعه، ويقومانه من حيث هو مثلث، وله حقيقة المثلثية كأنهما علتاه المادية والصورية. وأما من حيث وجوده فقد يتعلق بعلة أخرى أيضا غير هذه ليست هي علة تقوم مثلثيه، وتكون جزءا من حدها، وتلك هي العلة الفاعلية أو الغائية، التي هي علة فاعلية لعلية العلة الفاعلية.»
وأثبت المؤلف في مكان آخر أن الماهية نفسها لا يمكن أن تكون علة الوجود، فقد قال:
24 «قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته، وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى، مثل الفصل للخاصة، ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء إنما هي بسبب ماهيته التي ليست من الوجود، أو بسبب صفة أخرى؛ لأن السبب متقدم في الوجود، ولا متقدم بالوجود قبل الوجود.»
وكما أنه لا بد من علتين مختلفتين للماهية وللوجود لا بد من علتين للكلي والجزئي، ولكل نوع علته، ولكل واحد من النوع علته، ولا بد من أن تكون تحت العلل العامة التي تعين النوع علل خاصة تعين الفرد، قال ابن سينا: «اعلم أن الأشياء التي لها حد نوعي واحد فإنما تختلف بعلل أخرى، وأنه إذا لم تكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل - وهي المادة - لم يتعين إلا أن يكون من حق نوعها أن يوجد شخصا واحدا. وأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين، فتعين كل واحد بعلة.»
وواجب الوجود واحد بحسب تعين ذاته، وواجب الوجود لا يشترك في ماهية أي شيء آخر، وليس لذاته حد، وليس لها جنس ولا فصل، قال ابن سينا:
25 «ربما ظن أن معنى الوجود لا في موضوع يعم الأول وغيره عموم الجنس، فيقال تحت جنس الجوهر، وهذا خطأ»؛ وذلك أن مفهوم الجنس لا يناسب واجب الوجود، فليس لواجب الوجود ماهية يلزمها هذا المفهوم، «بل الوجود الواجب له كالماهية لغيره».
والآن - وقد بينا كيف تلتحم نظريات الوجود والعلة والكليات - لا نقف عندها أكثر مما صنعنا، وإنما نتم تركيب جميع هذه المذاهب الكبيرة وما بعد الطبيعة بعرضنا نظرية العلة الأولى المشهورة وفق ابن سينا. •••
قال المؤلف،
26
الذي أخذ يتعمق في موضوع الوجوب نفسه: «إن الواجب الوجود هو الموجود، الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال، وإن الممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجودا لم يعرض منه محال.»
وقد يكون واجب الوجود واجبا بذاته، وقد لا يكون واجبا بذاته؛ فأما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته لا لشيء آخر؛ أي شيء كان لزم محال من فرض عدمه، وأما واجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود؛ مثلا إن الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها، ولكن عند فرض اثنين واثنين، والاحتراق واجب الوجود لا بذاته، ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع؛ أعني المحرقة والمحترقة.
ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معا، وكل واجب الوجود بغيره ممكن الوجود بذاته، وهذا ينعكس، فيكون كل ما هو ممكن الوجود بذاته - إن حصل وجوده - واجب الوجود بغيره.
ولا يجوز أن يحدث من اثنين واجب وجود واحد ، حتى يكون «أ» واجب الوجود ب «ب»، و«ب» واجب الوجود ب «أ» معا. والواقع أن كلا من الاثنين إذ كان واجبا بالآخر يكون ممكنا بذاته، وأن لكل ممكن الوجود بذاته علة في وجوده أقدم منه، ولكن ليس ذات أحدهما أقدم من ذات الآخر؛ فلهما - إذن - علل خارجة عنهما وأقدم منهما، فلا وجوب - إذن - لوجود كل واحد منهما من الآخر.
ولا يجوز أن يكون لذات واجب الوجود مبادئ تجتمع، فيقوم منها واجب الوجود حتى تمكن قسمته مادة وصورة أو على وجه آخر، وذلك من حيث الكمية أو الحد؛ وذلك لأن كل ما كانت هذه صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع؛ فإما أن يصح لكل واحد من جزأيه مثلا وجود منفرد، لكنه لا يصح للمجتمع وجود دونها، فلا يكون المجتمع واجب الوجود، أو يصح ذلك لبعضها، ولكنه لا يصح للمجتمع وجود دونه، فما لم يصح له من المجتمع والأجزاء الأخرى وجود منفرد فليس واجب الوجود. وأعم من هذا أن يقال: «إن الأجزاء بالذات أقدم من الكل»، فتكون العلة الموجبة للوجد أول ما توجب الأجزاء ثم الكل، ومن ثم ترى أن كل موجود قابل للقسمة لا يمكن أن يكون واجبا. «فقد اتضح من هذا أن واجب الوجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول؛ فهو واحد من هذه الجهات.»
وواجب الوجود بذاته واجب الوجود بجميع جهاته، فلو وجدت جهة لا يكون بها واجبا لاحتاج إلى علة من هذه الجهة، ولكان غير واجب على الإطلاق، بل مع هذه العلة، فبين من هذا أن الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر، بل كل ما هو ممكن له واجب له، فليس له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة.
وبعد هذا يسمو فكر ابن سينا نحو النواحي الخلقية، وذلك أنه إذ أثبت أن واجب الوجود واحد على الإطلاق، بين - وفق المذهب الأفلاطوني - أنه خير محض وحق محض؛ فنرجو من القارئ أن يلاحظ صيغ التفاؤل التي يلقاها في هذا المعرض، قال ابن سينا: «وكل واجب الوجود بذاته فإنه خير محض وكمال محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده، والشر لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر، فالوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود، والوجود الذي لا يقارنه عدم ولا عدم جوهر ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائم بالفعل، فهو خير محض، والممكن الوجود بذاته ليس خيرا محضا؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود، فذاته بذاته تحتمل العدم، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص؛ فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته، وقد يقال أيضا خير لما كان نافعا ومفيدا لكمالات الأشياء، وسنبين أن الواجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا لكل وجود، ولكل كمال وجود، فهو من هذه الجهة خير أيضا، لا يدخله نقص ولا شر.»
وقال ابن سينا أيضا: «وكل واجب الوجود بذاته فهو حق محض؛ لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له، فلا حق - إذن - أحق من الواجب الوجود، وقد يقال - أيضا - حق لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا، فلا حق أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا ومع صدقه دائما، ومع ذلك دوامه لذاته، لا لغيره.»
ثم عين تحليل مفهوم واجب الوجود، وأكمل بالقضايا القائلة: إن نوع واجب الوجود لا يقال على كثيرين، وإن واجب الوجود وحيد في نوعه، وإنه كامل في وجوده لهذا السبب، ثم ينتهي المؤلف إلى إثبات وجود واجب الوجود إثباتا مباشرا، وهنا تبدو نظرية العلية جلية.
قال ابن سينا: «لا شك أن هنا وجودا، وكل وجود فإما واجب وإما ممكن، فإن كان واجبا فقد صح وجود الواجب، وهو المطلوب، وإن كان ممكنا فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود.»
ويتم الإثبات بثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى:
لا يمكن أن يكون لكل ممكن في زمان واحد علل ممكنة بلا نهاية. والواقع أنه إذا كان لا يوجد واجب وجود في جملة الممكنات فإن هذه الجملة تكون - ما دامت جملة - إما واجبة أو ممكنة، فإن كانت واجبة فيما أن كل واحد من حدودها ممكن، فإن الواجب يكون بالممكنات، وهذا محال، وإن كانت ممكنة فجملتها تكون محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود، وهذا الشيء إما أن يكون خارجا من الجملة أو داخلا فيها، فإن كان داخلا واجبا فإن أحد حدود الجملة يكون واجبا، وقد فرض أنها ممكنة، وإن كان داخلا ممكنا فإن هذا الشيء يكون علة الجملة؛ ولذا فإنه يكون علة أقسامها وعلة وجوده؛ ولذا فهو واجب، وقد فرض أنها ممكنة، وإن كان الشيء خارجا فإنه لا يكون علة ممكنة؛ وذلك لأن جميع الممكنات في الجملة؛ ولذا فهو واجب الوجود، وحينئذ تؤدي جميع الممكنات إلى هذه العلة الواجبة.
المقدمة الثانية:
إنه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه، وأن يكون كل واحد من هذا العدد ممكن الوجود في نفسه، لكنه واجب بالآخر إلى أن ينتهي إليه دورا، وكنا فيما تقدم قد بينا أمر العلتين، ويمكن تعميم هذا البيان بنمط مماثل في أمر المقدمة الأولى، وذلك مع القول بأن هذا يؤدي إلى النتيجة القائلة: إن كل حد يكون علة ومعلولا بوجوده الخاص، وهذا محال.
المقدمة الثالثة:
لكل حادث علة في حدوثه، فلا يخلو أن يكون حادثا باطلا مع الحدوث لا يبقى زمانا، أو أن يبطل بعد الحدوث بلا فصل زمان، أو أن يكون بعد الحدوث باقيا. والقسم الأول محال ظاهر، والقسم الثاني أيضا محال؛ وذلك لأن الآنات تتعاقب بلا انقطاع، وقد بطل هذا؛ ولذا فإن لكل موجود علة من وجوده وعلة من جوهره، ويمكن اتحاد هاتين العلتين مثل القالب في تشكيل الماء، ويمكن أن تكونا منفصلتين مثل الصورة الصنمية التي يحدثها الصانع، والتي تثبتها يبوسة العنصر المتخذة منه، ولا يثبت الحادث لأنه أحدث ، وإنما يثبت بتحقيقه شرط علته الذي يجعله يثبت، فإذا ما حقق هذا الشرط ثبت الحادث ما بقي الشرط، ويصير الممكن واجبا بشرط، فهو يكون حينئذ واجبا بشيء آخر غير ذاته، والممكن الحقيقي معدوم، وكل ما يكون موجودا عند وجود هذا الممكن يكون واجبا. وبالعكس يكون معدوما وجوبا كل ما يكون معدوما عند كون ذلك معدوما.
وتعد هذه المقدمة الأخيرة تكملة لنظرية العلية وتطبيقا لها، ونحن نصوغها هكذا: «لكل حادث علة، وكلة علة مسببة.»
ويتم اتحاد هذه المقدمات الثلاث نظرية الموجود الأول في ثانية، وذلك أن الممكنات الموجودة تحتاج إلى علل (المقدمة الثالثة)، وأن هذه العلل لا تتسلسل إلى غير نهاية (المقدمة الأولى)، وأنها لا ترتد على نفسها (المقدمة الثانية)؛ ولذا فهي تؤدي إلى واجب الوجود.
ونود لو نصمت هنا بعد هذا البرهان، فندع القارئ يتذوق بنفسه إبداعه وانسجامه وقوته، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نمحي تماما أمام مؤلفنا، وأن نتخلى عن قيادة هذا الكتاب في وقت يفرض علينا تعيين نتائجه. والواقع أن ما بقي علينا أن نقوله من شيء قليل عن التصوف ليس له غير قيمة تكميلية، فما ينطوي عليه سفرنا من أمر جوهري قد تم منذ الآن.
ويلوح لي - كما هو الواقع - أن النتائج التي نرى الوقوف عندها هي ما رأينا إشراقه وتعززه صفحة صفحة في أثناء هذا التحليل. وأول ما نقول: هو أن المبدأ السائد لمدرسة الفلسفة العربية قام على كون الفلسفة واحدة، وأصح من هذا أن يقال: إنها قامت على اعتبار كونها علما، فكان لها عين الخصائص التي نعترف بها للعلم؛ أي الشمول والتعيين، وما كان ليمكن أن يوجد فيها غير فلسفة واحدة لجميع الناس، كما لا يوجد غير علم واحد، فلما وجدت هذه الفلسفة وأوضحت عاد لا يجوز لها أن تكون عرضة لأي تغيير أو تطور بتعاقب الأزمان؛ ولذا فإننا نرى الفلسفة - تحت قلم ابن سينا الذي لم يكن نبوغه الرياضي بالغ القوة - قد نالت مظهرا علميا، كلا، بل مظهرا علميا محكما.
27
ثم يلوح لي أن الخط العام للحركة الفلسفية - كما أشرنا إليه - صائب؛ وذلك أن المعضلة التي تبدت للمدرسة العربية قامت على التأليف بين الحقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، وكانت المدرسة العربية قد سبقت بعض الشيء في بحث مماثل من قبل المدرسة السريانية. ولا بد لمعرفة نصيب فلاسفة العرب من الابتكار في حل هذه المعضلة ضبطا، من أن يعرف تاريخ التعليم الفلسفي حتى القرن التاسع من الميلاد معرفة تامة، ويمكن أن يوكد - عند عدم هذه المعرفة الدقيقة - كون عمل التنسيق والبرهنة حول القضايا في المدرسة العربية، ولا سيما عند ابن سينا، كان أمرا مهما جدا.
وإذا ما نظر إلى حال الروح العام الذي كان عليه هؤلاء المفكرون وجب أن يذكر - كما قلنا غير مرة - أن أمر التوفيق ظل عادة ذهنية منتشرة في الشرق عدة قرون، وتوضح هذه العادة كون مؤلفي الإسلام استطاعوا أن يضعوا المعضلة السكلاسية من غير أن يساورهم أي شك في إمكان حلها، هذه المعضلة التي أخافت الباحثين في بلاد أخرى أو أخمدت إقدامهم. ولم يكن المنهاج السكلاسي الذي تألف منه أحد حدود هذه المعضلة - ويمكن التسليم بهذا مثل نتيجة أيضا - منهاجا فرديا، أو أفلاطونية، أو مشائية، أو غير ذلك، وإنما كان مجموع توفيق قام بطريق العنعنات واقعا تحت تأثير الأفلاطونية الجديدة مع بعض رواسب أدرية بصريح القول. وفضلا عن ذلك فإن هناك تذكرات عقدية دينية قديمة مرتبطة في الاثنينة والأدرية، وعودات عاطفية بادية نحو المذاهب القائلة بوحدة الوجود، كانت تظهر في الحين بعد الحين لدى سكلاسيي العرب، حتى عند أكثرهم حكمة. ومع ذلك فإنه لا يشار إلى هذه الملاحظة الأخيرة إلا بإيجاز؛ وذلك لأنها أكثر تعلقا بدراسة الفلسفة الصوفية.
وكذلك يمكننا أن نتساءل عما إذا كان جهد فلاسفة العرب الذهني - وقد يقال العبقري - قد وصل نهائيا إلى حل مقبول - تقريبا - للمعضلة السكلاسية، فنخشى أن يكون الجواب بالنفي، وهذا لعوامل ذاتية وغير ذاتية، وقد أحسسنا العوامل الذاتية، وإذا كنا نذكر ماذا كان الإله التورائي والقرآني من جهة، وماذا كان إله الفلاسفة الآخر ، ساورنا انطباع قائل: إن مسافة كبيرة لا تزال تفصل بين هذين المفهومين، اللذين لا يعد توفيق ما بينهما حول هذه النقطة قد تم حتما.
ولا مراء في أن التصوف هناك هو لإصلاح ما يكون من زهو، وإيصاد، وجفاف، وتجريد في المفهوم الفلسفي الإلهي، ولكن التصوف نفسه يعرض أخطارا هائلة على الأرتدكسية، فإذا كان ما بعد الطبيعة ينطوي على آثار من وحدة الوجود، فليس التصوف هو الذي يطهره منها. والواقع أنه إذا رجع البصر إلى ما هو عالق بالخيال من ناحية العقيدة الإسلامية وجد أن إله الفلاسفة مذهل غير مقبول؛ وذلك أنه يشتمل على إنجاز وعدم إحساس في الوجود، فلا يعرف فيه ما يعرف في إله التوراة من فعالية حية متقلبة، وفضيلة مبدعة، ودعة ربانية، ومقاصد واسعة، ورأفة رحيمة، وانتقامات هائلة، ولإله الفلسفة، ذي القوة الوجودية بالفعل، ما يلوح أنه عادم الحركة، فعدنا لا نستطيع أن نعرفه، وعدنا غير محمولين على محبته، مهما وقع من إثبات لنا أنه الحق الأعلى، ونحن لا نشعر بأنه صالح، وإن كان يثبت لنا أنه هكذا عقليا.
وأخص ما نخافه هو أن نرى صفاته الذاتية - من إرادة وعلم وقدرة - تتحد وتسبك في نوع من القوة لا قبل لنا بتصورها، فيصدر عنها العالم، وذلك من غير أن ندرك النقطة التي يبقى هذا الإله عندها فاعلا حرا للعالم، أو حرا شاعرا كما أقول، ولم نشدد في تحليلنا حول مسألة اختيار الله في إحداث العالم هذه؛ لما لا نرى غنما في محاولة الغوص فيها، ويكون الله خفيا خفاء مطلقا في هذا الموضع، فيمكن أن يقال: إن رأي ابن سينا يتوارى هنا على غرار رأيه في الموجود الأول.
وقد أثار مذهب ابن سينا - كما هو الواقع، وهنا العامل غير الذاتي، الذي أشرنا إليه آنفا - مقت ذوي النفوس الدينية، ومن ذلك أن الغزالي - الذي يمثل في الإسلام ذورة السكلاسية اللاهوتية، كما يمثل ابن سينا السكلاسية الفلسفية - حمل حملة عنيفة على منهاج ابن سينا، وقضى على نصيبه في المشرق، ويمضي قرن بعد الغزالي، فتبعث هذه المذاهب في المغرب، وتجاوز حدود الإسلام فتلقي ذعرا في العالم النصراني تحت اسم الرشدية ، وذلك على نمط ضلالة هائلة.
الفصل العاشر
تصوف ابن سينا
العناية الربانية - الله خير محض، فكيف يتصور مصدر صدور الشر؟ - ليس الشر شرا إلا بالعرض - رسالة ابن سينا عن القدر - التفاؤل عند الشيخ الرئيس - كيف تتم السعادة؟ - بلوغ الأنفس كمالها بذاتها - قصة سلامان وأبسال - تفسير الطوسي لهذه القصة. ***
ذكرنا في أوائل هذا الكتاب أننا لا نتناول التصوف، عادين إياه منهاجا مستقلا بنفسه، وما نقوله في هذا الفصل الأخير لا يعدو كونه متما لما بعد الطبيعة. ومن المفيد أن يرى كيف أن مفهوم ما بعد الطبيعة عن الله يتم في التصوف من بعض الوجوه، وكيف أن ابن سينا يتمثل صلة الله بالإنسان في كبريات المسائل عن العناية الربانية والقدر. وسوف نسمع في هذا الموضوع أن فيلسوفنا يعرض نظرية عامة عن التفاؤل عالية جدا، وسنرى أيضا ما مكان الأخلاق في منهاجه، ما هذا المكان الذي تناولناه قليلا في الفصول السابقة فيكاد يفلت من قرائنا، والذي تركت جميع التفصيلات السابقة فراغا فيه يجب ملؤه.
وإليك كيف يعرف ابن سينا العناية الربانية في الإشارات:
1 «العناية هي إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عنه وعن إحاطته به، فيكون الموجود وفق المعلوم، على أحسن النظام، من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق، فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل.»
ولن نلاحظ في هذا التعريف العميق ملاحظة خاصة نوع ما أقيم من توحيد بين علم الله وإرادته وقدرته ولطفه، ما دمنا قد وقفنا عند حد وجهة النظر هذه في فصل الإلهيات، وإنما الآن - ونحن نعد هذه الأسطر معبرة عن نظرية التفاؤل، نتخذ هذا ذريعة لسؤال ابن سينا قائلين: بما أن نظام الأمور يظهر له أحسن ما يكون فكيف يدرك دور الشر، وما الرأي الذي يجعل لنفسه عن القدر؟
فبما أن الله خير محض، والكل يصدر عن الله، فإن من المصاعب الكبيرة أن يتصور مصدر صدور الشر الذي يظهر في الجميع. وتدور نظرية مؤلفنا العامة على كون الشر ليس في القضاء الإلهي بالذات، وأنه لا يدخل فيه إلا عرضا، ويوجد للشر ثلاثة أنواع: النقص أو العدم والألم والإثم، والشر بالذات هو الشر بالعدم؛ ولذا فهو سلبي، وإليك ما يقوله عنه ابن سينا:
2 «الشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته، والشر بالعرض هو العدم أو الحابس للكمال عن مستحقه، والشر يفترض القوة، ومن ثم كانت النظرية الآتية، التي هي أرسطوطاليسية جوهرا، وهي: «كل شيء وجوده على كماله الأقصى، وليس فيه ما بالقوة فلا يلحقه شر، وإنما يلحق الشر ما في طباعه ما بالقوة، وذلك لأجل المادة.» أو إن الشر يحدث في المادة استعدادا مضادا لأحد الكمالات التي يجب وجودها في الشيء كوقوع سحب كثيرة وتراكمها، وأظلال جبال شاهقة تمنع الثمار من النضج، أو إن الشر يبعد الكمال من الشيء أو يقضي عليه، كحبس البرد للنبات حتى يفسد.» «وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر»، ولا سلطان للشر على المعقولات، «والشر إنما يصيب أشخاصا، وفي أوقات، والأنواع محفوظة.»
وقال ابن سينا: «فإن قال قائل: وقد كان جائزا أن يوجد المدبر الأول خيرا محضا، مبرءا عن الشر، فيقال: «هذا لم يكن جائزا في مثل هذا النمط من الوجود، وإن كان جائزا في الوجود المطلق.» وعند فيلسوفنا أن الخير المطلق غير ممكن في عالم يطبق عليه ما بعد الطبيعة المشائية؛ أي عالم القوة والفعل، وحيث توجد قوة يوجد إمكان عدم - أي شر - غير أن الخالق ما كان ليترك الخير الكلي الذي هو خير بالذات، ولو لم يوجد إلا بالقوة، وذلك بسبب الشرور العرضية الممكنة التي توجد مختلطة هناك، ويعود العالم الذي لا ينطوي على إمكان الشر غير شبيه بعالمنا، وإنما يكون شيئا آخر، ولا يعرف ما يعزب عن خيالنا.
ويضحي تفاؤل ابن سينا - مع كل سهولة - بضحايا الشرور الخاصة في سبيل الخير الكلي؛ أي ضحايا العوارض المؤقتة، حتى بضحايا الجحيم، ولا يكون الشر الذي لا يقوم على العدم إلا نسبيا، وذلك على حسبه، وهو يكون خيرا دائما في بعض المواضع، ولو توخيت الدقة لوجد الشر في كل وقت خيرا بمبدئه، فهو ليس شرا إلا بالعرض، «ولا نجد شيئا مما يقال له شر بالأفعال إلا وهو كمال بنسبة الفاعل إليه، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة، التي أولى بها من هذا الفعل»، وهكذا فإن الظلم شر للمظلوم لا ريب، أو هو شر للنفس النطقية التي يقوم كمالها على كسر هذه القوة والاستيلاء عليها، وإنما يكون في البداءة خيرا من الناحية الفعالة؛ أي من حيث القوة الغضبية، التي تطلب الغلبة بطبيعتها، وكذلك النار خير بذاتها، فلها منافع كثيرة وفوائد وافرة في العالم الطبيعي، ومن العرض أن تحدث الإحراق الذي هو شر لمن يعانيه.
ومن الواضح أنه ليس من الحسن أن يزيل صانع الكل قوة الغضب أو يبيد النار بسبب العرض الجزئي الذي ينشأ عن هذه أو تلك، قال ابن سينا: «ليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة.»
وليست أفضلية الخير على الشر في العالم، وفق هذا المذهب، مقصورة على أفضلية من أفضليات ما بعد الطبيعة كما أوضحنا، بل هي أفضلية عددية وكمية، قال مؤلفنا موكدا: «إن من غير الموجود الأمور التي تكون شرا على الإطلاق، والأمور التي يكون معظمها شرا، والأمور التي يتساوى فيها الخير والشر.» وكل أمر يكون الخير غالبا فيه، ومن الخطأ أن يقال: إن الشر أكثر وقوعا من الخير. أجل، إن الشر كثير، ولكنه ليس أكثرية، وذلك كالأمراض فإنها كثيرة، ومع ذلك فإنها أقل من الصحة، وإذا تأملت الشر الذي حددناه وجدته أقل من الخير الذي يقابله. نعم، إن الشرور التي هي نقصانات الكمالات الثانية أكثرية، وهي مثل جهل الإنسان بالهندسة مما لا يضر في الكمالات الأولى، وهي ليست شرورا بالحقيقة، ولكنها إعدام خيرات من باب الفضل والزيادة في المادة.
وكذلك توجد أفكار تفاؤلية أوضحها ابن سينا في رسالته عن «القدر»،
3
مضيفا بها رأيا قائلا: إن الخيرات والشرور ليست عند الله كما هي في نظرنا، فنحن لا يحق لنا أن نطالب الله - الذي يفيض عمله من خلال القرون - بثواب على كل شر ينشأ عن رسم العالم، وذلك قياسا على الأضرار التي تصيبنا من أناس آخرين في أثناء حياتنا المحدودة، قال ابن سينا: «تأمل واعلم أنه لو كان أمر الله تعالى كأمرك، وصوابه كصوابك، وجميله كجميلك، وقبيحه كقبيحك، لما خلق أبا الأشبال أعصل
4
الأنياب، أحجن البرائن، لا يغذوه العشب، ولا يعيشه الحب، إنما يقيمه الأبيض،
5
والنحض
6
الغريض،
7
الذي لم تطفأ غريزته، ولم تبرد حرارته، ثم لا يطعم إياه إلا بالفرس،
8
والوقص،
9
والبقر، والنقع،
10
والنهز،
11
والنهس،
12
وقد أداه
13
من الشدق الهريت
14
والناب الصليب، والكف اللطوم، والأرص
15
الأبوز،
16
والعصب المدمج، والعظام الصم، والرقبة الغلباء،
17
والكاهل المشرف،
18
واللبان
19
الرحب، والخبب
20
المجفر،
21
والإطل
22
اللاحق، والمتن الأزل، والزند الألف، أدوات أشدد بها معاون على لحاق الشارد وجدل المجاهد وفرس القنص.
ولما خلق العقاب العنقاء ذات مخالب عقف، ومنسر
23
أشغى،
24
وجناح أفتخ
25
ومنكب شبح،
26
وقوادم جثلة،
27
وخوافي مطارقة
28
ومناكب لبدة وكلي، وأباهر كثة وشكير
29
أثيث
30
إلى هامة فطحاء، ومقلة غائرة وحدقة سحراء، وحوصلة مسجورة
31
وعنق أتلع
32
وفخذ أعصل
33
محطوط،
34
وساق مجتدل مفتول ما خلقها لاقطة لحب ولا قاصلة لعشب، ولا لاسة
35
ولا حاسة،
36
إنما خلقها خارقة مازقة فاتكة هاتكة قادة،
37
فارية
38
قاطة بارية، ما كان بالعزيز القدير جلت قدرته عن ذلك رقة كرقتك أو رقبة
39
كرقبتك، لا يراعي ما تراعيه في مثله ما سميته عقلا إذا صدقت عنه رواية، ولم تأثر منه على وفاق، هواك الآن شهادة من كف الأذى وإطفاء نار الهرج، بل جوز وأمضى بحكم أدق سراطا وأشد تواريا من أن تلحظه عين ما سميت عقلا وجعلته إماما.
وإليك عن الاعتذار بالأعواض المذكورة عن آلام البطون الممزوقة والفرائص المفصولة، والأعناق المفروسة بعد زمان ينسي المضيض
40
ويزهق الترة،
41
ويفثأ
42
الغيظ ويسيل السخيمة
43
وينزع الضب ،
44
ويكون فيه ما كان كأن لم يكن، وما فجع كأن لم يفجع، وما أوجع كأن لم يوجع، لا يفرق فيه بين التعويض والحباء
45
وبين الابتداء والجزاء، فإن المهل إذا طالت، والأدوار إذا دارت، والخطوب إذا تحللت أنست البدو وبدأة الشيء.»
وتحمل هذه التفصيلات البليغة على القول - كما هو حاصل الكلام - بأن مبادئ المقاصد الإلهية تحتجب في سر لا يقدر عقل الإنسان أن ينفذ فيه، ويكشف التصوف لنا شيئا من ذلك أحيانا، وهكذا يتخذ التصوف له مكانا ملحقا بما بعد الطبيعة.
وتتسع نظرية التفاؤل بمذهب أكثر تصوفا أيضا؛ أي بالمذهب القائل بمعاد النفس، وإن شئت فقل برجوعها إلى مصايرها بعد الموت من آلام، ومسرات قسمت لها في الحياة الأخرى، وينطوي هذا الموضوع على نظرية في اللذة والألم تناولها ابن سينا في «النجاة» بجمال وبفتون بلغ من الشدة ما لا نرى معه أحسن من نقل ما جاء فيها عن ذلك مع شيء من الاختصار:
46 «إن لكل قوة نفسانية لذة وخيرا يخصها، وأذى وشرا يخصها، مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة، وأن لذة الغضب الظفر،
47
وأن لذة الوهم الرجاء، وأن لذة الحفظ تذكر الأمور، وأن أذى كل واحد من هذه القوى ما يضاده، وتقوم لذة هذه القوى - عموما - على ما يجعلها كاملة بالفعل.»
وجميع هذه القوى - وإن اشتركت في هذه المعاني - تختلف في مراتبها، فمنها ما كماله أتم وأفضل، ومنها ما كماله أكثر، ومنها ما كماله أدوم، ومن هذا يستنتج اختلاف في درجات اللذات التي تنال، قال ابن سينا: «يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه، وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة، وأن رب العالمين - عز وجل - ليس له في سلطانه، وخاصية البهاء الذي له، وقوته الغير المتناهية، أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن يسمى لذة، ثم للحمار وللبهائم حالة طيبة ولذيذة. كلا، بل أي نسبة تكون لما للمبادئ العالية إلى هذه الخسيسة.» ولكنا نتخيل هذا ونشاهده، ولم نعرف ذلك بالاستشعار، بل بالقياس، فحالنا عنده كحال الأصم، الذي لم يسمع قط في عمره، ولا تخيل اللذة اللحنية، وهو متيقن لطيبها.
ومما يحدث أحيانا أن يكون الكمال الخاص بقوة، والأمر الملائم الذي يمكن أن ييسره لها، في متناول هذه القوة نفسها، فتمنع هذه القوة من تلقيهما بعائق أو شاغل، وذلك ككراهية بعض المرضى للطعم الحلو، وشهوتهم للطعوم التي تكرهها نفوس الأصحاء، وربما لا يكره المريض حلو الطعوم، وإنما يكون غير قادر على الاستلذاذ بها، ولا يطيق الرديء منها على الأقل، وربما لم يحس المريض بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه وتشفى أعضاؤه، فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له.
وقال مؤلفنا: «إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقليا، مرتسما فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل مبتدئا من مبدأ الكل، سالكا إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقة، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما من التعلق بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتنقلب عالما معقولا، موازيا للعالم الموجود كله، مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق، ومتحدا به، ومنتقشا بمثاله وهيئته، ومنخرطا في سلكه، وصائرا من جوهره.»
وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى، وجد في المرتبة التي يقبح معها أن يقال إنه أتم وأفضل منها، وكيف يقاس الدوام الأبدي بالدوام المتغير الفاسد؟ وكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله، حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال، ما دام العقل والمعقول والعاقل شيئا واحدا أو قريبا من الواحد؟ ولا يخفى أن إدراكات النفس النطقية أوثق من إدراك الحواس وأشد تقصيا وقوة؛ ولذا، فكيف تقاس لذات هذه النفس - عند إدراكها المعقولات - باللذات الحسية والبهيمية؟
والغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء، فكيف في الأمور النبيهة العالية؟ ومع ذلك فإن النفوس الخسيسة تعود عاجزة عن الإحساس بالخير والشر في الأمور العالية، كما يعود المرضى عاجزين عن الإحساس بطعم الطعوم كما قلنا.
ومتى انفصلت النفس عن البدن ذهبت نحو غايتها وبلغتها واستلذت بها، ما لم يكن ذوقها قد فسد كفساد ذوق المرضى، غير باحثة عن غايتها مطلقا، فهنالك لا تبلغ هذه الغاية وتألم.
ومتى انتهت القوة العقلية، التي هي النفس الخالدة إلى درجة من الكمال في أثناء الحياة حازت هذا الكمال بالفعل حين مفارقتها للبدن، ونالت اللذة مع الكمال؛ أي اللذة التي هي من نوع ما تنطوي عليه الجواهر المحضة؛ فيعد أكرم من لذة الحواس وأعلى، وهذا يسمى السعادة.
ومن الصعب أن يقال بالضبط ما تعرف النفس عندما تقترب من الحد الذي تتحقق به هذه السعادة، ولكن مما يظن أن نفس الإنسان في ذلك الوقت تكون حائزة لصورة دقيقة عن المبادئ العقلية أو العقول المحضة، وأنها تعرف أسرار الحركات الكلية، لا جميع الجزئية التي لا نهاية لها، وأن صورة الكل تتجلى فيها، وذلك مع الصلة المتبادلة بين أقسامها وبين النظام الذي تلتحم به في سلسلة الموجودات.
والسعادة لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وعلى هذا تقوم الأخلاق، قال ابن سينا: «إن الخلق هو ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية.» وأغلب ما يكون أن خلق الإنسان في أثناء حياته لا يكون إلا متوسط الصلاح، ولا يكون إذعان العقل العملي للعقل النظري كاملا، ولا يكون للنفس شوق محض إلى الأمور الروحانية، وهي تحتفظ بميل إلى الأشياء البدنية يمنعها من الوصول إلى كمال تام بعد الممات، وتشعر النفس المفارقة للبدن بتناقض هذه الميول الفاسدة، التي كانت عادة لها، وخيرها الحق، فيكون هذا التناقض سبب ألم شديد لها، ومع ذلك فبما أنها كانت صالحة مبدأ فإن هذا الألم لا يكون أمرا ضروريا جوهريا لها، وهو لا يكون سوى حال غريبة عنها.
وبما أن ما يكون عرضيا أجنبيا لا يدوم عندما يأتي الموت لقطع الأعمال التي يغذي تكرارها في النفس هذه العادات السيئة، فإن هذه العادات تمحي وتزول ، وينقص ألم النفس الناشئ عنها كلما زكت، فبعد ذهاب هذا الألم العابر تبلغ النفس سعادتها، وتصير النفوس الروحانية الخالصة عند الموت إلى سعة من رحمة الله. وأما النفوس الرديئة تماما، والتي لا تميل إلى غير البدن، فإنها تتعذب عذابا شديدا بفقد البدن؛ «لأن آلة ذلك قد بطلت، وخلق التعلق بالبدن قد بقي.»
وكذلك يمكن قبول ما يقوله بعض العلماء من أن النفس المفارقة للبدن يمكن أن تؤثر في المواد السماوية، وتواصل تخيل صور بهذه المواد مثل موضوعات، ويتخيل صالح النفوس حالات السعادة التي تاقوا إليها في أثناء الحياة، ويتخيل سيئ النفوس أنواع العقوبات والآلام، وليست الصور الخيالية أضعف من الحسية، بل تزداد عليها، كما يشاهد ذلك في المنام حيث يرى - أحيانا - ما هو أشد مما يرى في اليقظة، فالارتسامات التي تتكون في باطن النفس تصدر عن علة ذاتية، والارتسامات التي تتكون من الخارج تصدر عن علة عرضية.
وتبلغ الأنفس المقدسة كمالها بذاتها وتنغمس في اللذة الحقيقية، وتتبرأ عن النظر إلى ما خلفها، وتطهر من آثار العوالق الحسية التي كانت لاصقة بها، متخلفة لأجل عن درجة عليين. •••
وبقصة سنختم هذا الكتاب على الطريقة الأفلاطونية.
توجد قصص كثيرة بين آثار ابن سينا كقصة الطير وقصة حي، اللتين تصلحان لموضوع رسالتين في التصوف، وليست قصة سلامان وأبسال، التي سنوردها معروفة عن ابن سينا مباشرة، وإنما ذكرت في موضعين من كتب هذا المؤلف، ولنا نقلات بشرح نصير الدين الطوسي على «الإشارات»، ولهذه القصة أشكال مختلفة جدا، وكثيرا ما وقع تناولها وإصلاحها، ثم وسعت على شكل ملحمة بقلم الشاعر الفارسي جامي. وأما الشكل الذي ننقلها به الآن فقد قدم إلينا على أنه مترجم من اليونانية من قبل حنين بن إسحاق، والواقع أنه يوجد لدينا ما يحمل على الاعتقاد بأنها من أصل إسكندراني.
48
كان في الزمن القديم - وقبل طوفان النار - ملك اسمه هرمانوس بن هرقل، وكان لهذا الملك مملكة الروم إلى ساحل البحر مع بلاد يونان وأرض مصر، وكان ذا علم غزير، وكان شديد الاطلاع على تأثيرات الصور الفلكية.
وكان يوجد بين معاصري هذا الأمير حكيم اسمه إقليقولاس الحائز على جميع العلوم الخفية، وكان هذا الحكيم يعيش معتزلا منذ دور في مغارة يقال لها ساريقون، وكان يفطر في كل أربعين يوما بشيء من نبات الأرض، وقد بلغ من العمر ثلاثة أدوار، وكان الملك هرمانوس يستشيره كثيرا.
ومما حدث ذات يوم أن شكا الملك إلى الحكيم عدم الولد، وكان هذا الأمير لا يلتفت إلى النساء، وكان يكره معاشرتهن ويأنف الاجتماع بهن، فنصحه الحكيم بأن يتخذ امرأة ذات حسن وجمال على طالع فلكي، فيكون له ولد ذكر، ما دام «الملك» قد عاش ثلاثة قرون، فأبى الملك ذلك، هنالك قال له الحكيم: إنه لم يبق سبيل إلى إنالته وارثا غير رصد طالع موافق وغير اختيار يبروح
49
صنمي في الوقت الذي تقرره النجوم، فيراق قليل من سائله اللقاحي (أي الملك) في هذا اليبروح، ويلازم الحكيم أمر العناية بهذا اليبروح وتحويله إلى ولد حي.
وهذا ما صنع، ويولد الولد، ويسمى سلامان، وتطلب له امرأة لتغذوه بلبنها، وتوجد له امرأة جميلة بنت للثامنة عشرة من سنيها، يقال لها أبسال، وتتولى هذه المرأة أمر تربيته، ويفرح الملك.
ويروى أن هرمانوس وعد الحكيم بأن يقيم - كدليل على شكره - بناءين عظيمين قادرين على مقاومة طوفانات الماء والنار، حيث تحفظ أسرار العلوم، وهذان البناءان هما الهرمان.
ولما تم للصبي مدة الرضاع أراد الملك أن يفرق بينه وبين المرأة؛ فجزع الصبي من ذلك لشدة شغفه بها، فلما رأى الملك ذلك تركهما إلى حين بلوغ الصبي، فلما بلغ اشتدت محبته للمرأة وقوي عشقه لها، حتى كان في أكثر أوقاته يفارق خدمة الملك لإصلاح أمرها.
ويأمر الملك بإحضار ابنه، ويوجه إليه نصائح قائلا: «أنت ولدي، وليس لي في الدنيا غيرك، ولكن اعلم - يا بني - أن النسوان هن مكايد الشر ومصايده، وما أفلح من خالطهن إلا لاعتبار بهن، أو ليحصل لنفسه خيرا منهن ، ولا خير فيهن، فلا تجعل لامرأة في قلبك مقاما حتى يصير سلطان عقلك مقهورا ونور بصرك وحياتك مغمورا، فلا أحسب هذا إلا من شأن البله المغفلين.
واعلم - يا بني - أن الطريق طريقان: طريق هو العروج من الأسفل إلى الأعلى، والثاني الانحدار من الأعلى إلى الأسفل، ولنمثل لك ذلك في عالم الحس حتى يتبين لك الصواب. اعلم أن كل واحد من جملة من هو على بابنا إذا لم يأخذ بطريق العدل والعقل هل يصير قريب المنزلة منا؟ كلا، بل إذا أخذ بطريق العدل والعقل يصير كل يوم قريب المنزلة منا، فكذا الإنسان إذا سلك طريق العقل وتصرف في قواه البدنية التي هي أعوانه على أن يقرب من عالم النور العالي، الذي يبهر كل نور فبعد مدة يصير قريبا منه منزلة، ومن علامة ذلك أن يصير نافذ الأمر في السفليات، وهذه أخس هذه المنازل، بل الوسطى منها هو أن يصير مشاهدا للأنوار القاهرة، التي تتصل على سبيل الدوام بالعالم السفلي، والعليا منها أن يصير عالما بحقائق الموجودات، منصرفا فيها على وفق العدل والحق.
أقول لك: إنك إن أردت أن تكون لك امرأة تقبل منك ما تريد، وتفعل لك ما تشتهيه فهلم سعيا، فقد نفد الزاد وبعد المزار، وإن كنت مالكا سبيل الإيمان، طارقا طريقة الإيقان فخذ نفسك عن هذه الفاجرة أبسال؛ إذ لا حاجة لك فيها، ولا مصلحة لك في مخالطتها؛ فاجعل نفسك رجلا متحليا بحلية التجرد، حتى أخطب لك جارية من العالم العلوي تزف إليك أبد الأبدين، ويرضى عنك رب العالمين.»
وكان سلامان - لشدة شغفه بأبسال - لا يصغي لكلام الملك، فرجع إلى بيته، وحكى كل ما جرى له مع الملك لأبسال على طريق المشورة، فقالت المرأة: «لا يقرعن سمعك قول الرجل؛ فإنه يريد أن يفوت عليك اللذة بمواعيد أكثرها أباطيل وأجلها مخاييل. والتقدم بالأمر عزمة، وإني امرأة مأمورة لك بكل ما تطيب به نفسك وتشتهي، فإن كنت ذا عقل وحزم فاكشف للملك عن سرك بأن لست تاركي ولست بتاركة لك.»
وذهب الصبي لينقل كلام أبسال، لا للملك، بل لوزيره الذي رواه للملك بدوره، فلما بلغ الملك هذا الأمر تأسف على ولده، ودعاه إليه ليوجه إليه نصائح جديدة، ولكن الملك أبصر أنه لم يسطع أن ينفذ روحه، فعن له أن يقوم بتسوية، فقال له: «فإن كان ولا بد، فاجعل حظك قسمين، أحد القسمين تشتغل بالاستفادة من الحكماء، والثاني تأخذ لنفسك منها ما تظنه لذة.»
فقبل سلامان ذلك، ولكنه - وهو يشتغل في نصف من الوقت - كان ذهنه مشغولا بالنصف الآخر، ويعلم الملك ذلك، ويعزم على استشارة الحكماء حتى يهلك أبسال، وكانت هذه هي الوسيلة الوحيدة التي بقيت له كيما يتخلص منها، فوجه الحكماء لومهم إلى هذه الخطة، وقام جواب الوزير إلى الملك على كون هذا القتل يضعضع عرشه من غير أن يفتح له بابا في زمرة الكروبيين.
ويصل صدى هذا الكلام إلى سلامان، الذي أهرع إلى أبسال ليبلغها إياه، ويبحثان معا عن السبيل لإحباط خطط الملك، وليكونا في مأمن من غضبه، فتقرر عزمهما على الفرار إلى وراء بحر المغرب، ويسكنان هناك.
والواقع أنه كان عند الملك - بفضل علمه السحر - قصبتان من ذهب، وعليهما سبعة مواضع من الصفارات، يصفر فيها لكل إقليم فيطلع على ما يريده من ذلك الإقليم، وهكذا اطلع على المكان الذي انزوى فيه سلامان وأبسال، فوجدهما على أسوأ حال من الغربة وضيق الحال، فرق لهما في بدء الأمر، وأمر بإرسال ما يكفي كل واحد منهما، ثم غضب بعد مدة على روحانيات شهوتهما، فأمر بتعذيبهما، في سواء هيامهما، بأرواح أخذت تجري عليهما رغبات يتعذر عليهما قضاؤها.
وأدرك سلامان أن هذه المكاره تأتيه من أبيه، فقام وجاء إلى باب الملك معتذرا مستغفرا ومعه أبسال، فطلب الملك منه أن يصرف أبسال، مكررا له أنه لا يستطيع أن يجلس على العرش ما دام محتفظا بها؛ وذلك لأن هذه المرأة والملك يطالبان به كاملا، وأن أبسال تكون متعلقة برجله هو، على حين يكون هو متعلقا به بيده، فيحول هذا دون بلوغه عرش الأفلاك أيضا، قال الملك هذا، وأمر أن يتعلقا يوما تاما على الوضع المذكور في هذا المثال، فلما كان الليل فكا فأخذ كل منهما بيد صاحبه، وألقيا بأنفسهما في البحر.
وكان هرمانوس يرقبهما في تلك الأثناء، فأمر روحانية الماء بأن تحفظ سلامان حتى يرسل جماعة للبحث عنه، وأما أبسال فقد تركها تغرق.
فلما تحقق سلامان أن أبسال قد غرقت كاد يشرف على الموت ألما وصار كالمجنون، فاستشار الملك إقليقولاس الحكيم، معربا عن رجائه أن يرى الصبي ثانية، ويحضر الصبي، ويسأله الحكيم عن رغبته في وصال أبسال، فقال الصبي: «وكيف لا أريد ذلك؟» فقال الحكيم: «تعال معي إلى مغارة ساريقون حتى أدعو وتدعو أربعين يوما، فإن أبسال تعود إليك بهذا العمل»، ومضيا إلى المغارة معا، ووضع الحكيم، لقيامه بوعده، ثلاثة شروط، وهي: ألا يكتم الصبي عنه شيئا، أن يقتدي الصبي به في أفعاله خلا تخفيف في أمر الصوم، وألا يحب الصبي امرأة غير أبسال ما دام حيا.
هنالك أخذا يدعوان الزهرة، وكان سلامان يرى كل يوم صورة أبسال تتردد إليه، وتجالسه وتكلمه، فيحكي للحكيم كل ما رأى وسمع.
فلما كان يوم الأربعين ظهرت صورة عجيبة وشكل غريب، فائق لكل حسن وجمال، وهذه صورة الزهرة، فشغف سلامان بهذه الصورة شغفا شديدا أنساه حب أبسال، فقال للحكيم: «لست أريد أبسال، ولا أريد إلا هذه الصورة»، فقال له الحكيم: «ألست قد شرطت عليك أن لا تعشق أحدا غير أبسال، وقد تعبنا هذه المدة حتى قارب أن يستجاب لنا في عود أبسال إليك؟» فقال سلامان: «أغثني، فإني لا أريد إلا هذه الصورة».
فسخر له الحكيم روحانية هذه الصورة حتى كانت تأتيه في كل وقت، ولم يزل كذلك حتى تعب منها أيضا، وصفت نفسه من كدورة المحبة.
وشكر الملك للحكيم ما صنع، ولما جلس سلامان على العرش لم يفكر في غير الحكمة، فنال مجدا عظيما، وظهرت في مدة ملكه عجائب.
وتكتب هذه القصة على سبعة ألواح من ذهب، وتكتب أدعية الكواكب السبعة في سبعة ألواح أخرى أيضا، ويوضع الجميع في الهرمين بالقرب من قبور أجداد سلامان، ويقع الطوفانان، الناري والمائي، ويظهر الحكيم الإلهي، أفلاطون، ويريد البحث عن ذخائر العلوم في الهرمين، ويسافر إليهما، ولكن ملوك زمانه لم يساعدوه على فتحهما، فأوصى، عند وفاته، تلميذه، أرسطو، أن يواصل سعيه في هذا السبيل، وقد اغتنم أرسطو فرصة فتوح الإسكندر، ففتح باب الهرمين بطريقة كان أفلاطون قد أوصاه بها، وقد دخلهما الإسكندر، فأخرج منهما ألواح الذهب، التي كتبت عليها هذه القصة.
ومن الصعب أن يقال - حصرا - هل كانت هذه القصة تنطوي في ذهن واضعها على منهاج فلسفي معين، أو كانت رمزا واسعا يمكن كل واحد أن يدخل إليه شيئا من فكره، ومع ذلك، فإن ما نستطيع ملاحظته هو أن هذه القصة طبقت على الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، وأنها طبقت بأصرح من ذلك على منهاج ابن سينا، وإليك تفسير نصير الدين الطوسي لها: «إن الملك هرمانوس هو العقل الفعال، وإن الحكيم هو الفيض، الذي يفيض عليه مما فوقه، وإن سلامان هو النفس الناطقة الصادرة عن العقل الفعال من غير تعلق بالجسمانيات، وإن أبسال هي القوة البدنية الحيوانية، وإن عشق سلامان لأبسال هو ميل النفس إلى اللذات البدنية، وإن هربهما إلى ما وراء بحر المغرب هو انغماسهما في الأمور الفانية، وإن تعذيبهما بالشوق مع الحرمان وهما متلاقيان، هو بقاء ميل النفس مع فتور القوى عن أفعالها بعد سن الانحطاط، وإن رجوع سلامان إلى أبيه هو التفطن للكمال والندامة، وإن إلقاء نفسيهما في البحر هو تورطهما في الهلاك، وإن خلاص سلامان هو بقاء النفس بعد البدن، وإن اطلاعه على صورة الزهرة هو التذاذ النفس بالكمالات العقلية، وإن جلوس سلامان على سرير الملك هو وصول النفس إلى كمالها الحقيقي، وإن الهرمين الباقيين على مرور الدهر هما الصورة والمادة الجسمانيتان.»
وإذا ما أقدمنا على إزلاق فكر شخصي تحت القصة بعد أن سمعنا هذا التفسير الدقيق، رأينا رمز الفلسفة في الهرمين اللذين أقيما في مصر منذ زمن قديم جدا، ففتحا من قبل أفلاطون وأرسطو، وبقيا على مرور الدهر. •••
لقد عرضنا نتائج هذا الكتاب في آخر الفصل السابق، وإنا إذ نختم به هذا الفصل وهذا الكتاب، وذلك على حين نودع قراءنا، ونودع أولئك الموتى الكرام السابقين، الذين كان فكرهم موضوع هذه الدراسة، لم أرد غير إضافة كلمة للجهر بلذة، تمتعت بها في الشهور الكثيرة، التي قضيتها في صحبة رجال آمنوا بالعقل، وبحثوا وفق قوانين المنطق، وعدوا جميع الفرضيات في كل صفحة، وميزوا جميع المعاني، واعتقدوا الحقيقة العامة، وأيقنوا بخلودها، وعدوا الفلسفة علما، وذهبوا إلى أن السياسة قسم من العلم، وقضوا بوجوب الحكم في الدول من قبل الحكماء، لا من قبل الغوغاء، واتصفوا بقلب كبير لم يروا معه نقص قيمة العقل باعترافهم أنه محدود، وبقولهم: إنه يوجد فوقه إمكان للمعرفة بالمعاينة، فحبا نفوسهم بوسيلة الانطلاق في بقاع حافلة بالأسرار، وقد بلغ هؤلاء الرجال من اتساع الذهن ما يستحق معه تنوع آرائهم أن يثير حسد هواة عصرنا، وذلك ما داموا قد جدوا بعقلهم أن يدركوا جميع المناهج، فيوفقوا بينها جميعا، ولم يعرفوا أي حاجز في حقل البحث العقلي، الذي ساروا به أحرارا من خلال جميع العلوم، وما داموا قد أرادوا أن تكون جميع ميادين النشاط مفتحة لهم، فارتقوا جميع درجات مرقاة الموجودات، ونزلوا منها بسهولة متساوية، هذه الدرجات، التي تبيح لها طبيعة ذهن الإنسان أن تتحرك من أعماق الأرض حتى الأفلاك العليا، ومن ظلمات الهيولى التي لا تدرك حتى أنوار العقل المحض.
جدول المطابقات بين السنين الهجرية والميلادية
بدءا من العام الهجري الأول حتى سنة 480 هجرية، أي بعد وفاة الشيخ الرئيس بنصف قرن
هجرية
ميلادية
1
622
2
623
3
624
4
625
5
626
6
627
7
628
8
629
9
630
10
631
11
632
12
633
13
634
14
635
15
636
16
637
17
638
18
639
19
640
20
640
21
641
22
642
23
643
24
644
25
645
26
646
27
647
28
648
29
649
30
650
31
651
32
652
33
653
34
654
35
655
36
656
37
657
38
658
39
659
40
660
41
661
42
662
43
663
44
664
45
665
46
666
47
667
48
668
49
669
50
670
51
671
52
672
53
672
54
673
55
674
56
675
57
676
58
677
59
678
60
679
61
680
62
681
63
682
64
683
65
684
66
685
67
686
68
687
69
688
70
689
71
690
72
691
73
692
74
693
75
694
76
695
77
696
78
697
79
698
80
699
81
700
82
701
83
702
84
703
85
704
86
705
87
705
88
706
89
707
90
708
91
709
92
710
93
711
94
712
95
713
96
714
97
715
98
716
99
717
100
718
101
719
102
720
103
721
104
722
105
723
106
724
107
725
108
726
109
727
110
728
111
729
112
730
113
731
114
732
115
733
116
734
117
735
118
736
119
737
120
737
121
738
122
739
123
740
124
741
125
742
126
743
127
744
128
745
129
746
130
747
131
748
132
749
133
750
134
751
135
752
136
753
137
754
138
755
139
756
140
757
141
758
142
759
143
760
144
761
145
762
146
763
147
764
148
765
149
766
150
767
151
768
152
769
153
770
154
770
155
771
156
772
157
773
158
774
159
775
160
776
161
777
162
778
163
779
164
780
165
781
166
782
167
783
168
784
169
785
170
786
171
787
172
788
173
789
174
790
175
791
176
792
177
793
178
794
179
795
180
796
181
797
182
798
183
799
184
800
185
801
186
802
187
802
188
803
189
804
190
805
191
806
192
807
193
808
194
809
195
810
196
811
197
812
198
813
199
814
200
815
201
816
202
817
203
818
204
819
205
820
206
821
207
822
208
823
209
824
210
825
211
826
212
827
213
828
214
829
215
830
216
831
217
832
218
833
219
834
220
835
221
835
222
836
223
837
224
838
225
839
226
840
227
841
228
842
229
843
230
844
231
845
232
846
233
847
234
848
235
849
236
850
237
851
238
852
239
853
240
854
241
855
242
856
243
857
244
858
245
859
246
860
247
861
248
862
249
863
250
864
251
865
252
866
253
867
254
868
255
868
256
869
257
870
258
871
259
872
260
873
261
874
262
875
263
876
264
877
265
878
266
879
267
880
268
881
269
882
270
883
271
884
272
885
273
886
274
887
275
888
276
889
277
890
278
891
279
892
280
893
281
894
282
895
283
896
284
897
285
898
286
899
287
900
288
900
289
901
290
902
291
903
292
904
293
905
294
906
295
907
296
908
297
909
298
910
299
911
300
912
301
913
302
914
303
915
304
916
305
917
306
918
307
919
308
920
309
921
310
922
311
923
312
924
313
925
314
926
315
927
316
928
317
929
318
930
319
931
320
932
321
933
322
933
323
934
324
935
325
936
326
937
327
938
328
939
329
940
330
941
331
942
332
943
333
944
334
945
335
946
336
947
337
948
338
949
339
950
340
951
341
952
342
953
343
954
344
955
345
956
346
957
347
958
348
959
349
960
350
961
351
962
352
963
353
964
354
965
355
965
356
966
357
967
358
968
359
969
360
970
361
971
362
972
363
973
364
974
365
975
366
976
367
977
368
978
369
979
370
980
371
981
372
982
373
983
374
984
375
985
376
986
377
987
378
988
379
989
380
990
381
991
382
992
383
993
384
994
385
995
386
996
387
997
388
998
389
998
390
999
391
1000
392
1001
393
1002
394
1003
395
1004
396
1005
397
1006
398
1007
399
1008
400
1009
401
1010
402
1011
403
1012
404
1013
405
1014
406
1015
407
1016
408
1017
409
1018
410
1019
411
1020
412
1021
413
1022
414
1023
415
1024
416
1025
417
1026
418
1027
419
1028
420
1029
421
1030
422
1030
423
1031
424
1032
425
1033
426
1034
427
1035
428
1036
429
1037
430
1038
431
1039
432
1040
433
1041
434
1042
435
1043
436
1044
437
1045
438
1046
439
1047
440
1048
441
1049
442
1050
443
1051
444
1052
445
1053
446
1054
447
1055
448
1056
449
1057
450
1058
451
1059
452
1060
453
1061
454
1062
455
1063
456
1063
457
1064
458
1065
459
1066
460
1067
461
1068
462
1069
463
1070
464
1071
465
1072
466
1073
467
1074
468
1075
469
1076
470
1077
471
1078
472
1079
473
1080
474
1081
475
1082
476
1083
477
1084
478
1085
479
1086
480
1087
صفحه نامشخص