حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
Arrian
حفظت لنا بعض أحاديث إبكتيتوس، وفيها نجد الأخلاق الرواقية معروضة بطريقة تتمشى إلى حد بعيد مع ما أوضحناه من قبل.
وإذا كان إبكتيتوس قد ولد عبدا، فإن آخر الكتاب الرواقيين العظام كان، على العكس من ذلك، إمبراطورا. فقد عاش ماركوس أوريليوس ما بين عام 121 وعام 180 ميلادية، وتبناه عمه، أنطونينوس بيوس
Antoninus Pius
الذي كان من أكثر أباطرة الرومان تحضرا، كما يوحي بذلك لقبه الأخير (الذي يعني: التقي). وقد خلفه ماركوس أوريليوس على العرش في عام 161 ميلادية، وقضى بقية حياته في خدمة الإمبراطورية، وكان الزمن الذي عاش فيه زمن اضطرابات طبيعية وعسكرية، وانشغل الإمبراطور دوما بكبح جماح القبائل البربرية الذين أخذت غاراتهم على حدود الإمبراطورية تهدد سيادة روما. وعلى الرغم من أن حمل المنصب كان ثقيلا عليه، فقد رأى من واجبه أن يضطلع به، ونظرا إلى أن الدولة كانت مهددة بأخطار خارجية وداخلية، فقد اتخذ من الإجراءات ما يساعد على حفظ النظام، فاضطهد المسيحيين، لا بدافع الشر، بل لأن رفضهم لعقيدة الدولة كان مصدرا للشقاق. ولعله كان في ذلك على حق، وإن كان الاضطهاد في الوقت ذاته هو دائما علامة على ضعف من يمارسه؛ فالمجتمع الواثق من نفسه، المستقر بثبات، لا يحتاج إلى اضطهاد الخارجين عنه.
ولقد وصل إلينا النص الكامل لكتاب «التأملات
Meditations » لماركوس أوريليوس، وهذه التأملات هي يوميات من الخواطر الفلسفية سجلت بقدر ما كان يسمح الوقت، خلال لحظات الراحة التي كان الإمبراطور يختطفها اختطافا من وسط مهامه الحربية، ومشاغله في إدارة الشئون العامة. ومن الجدير بالذكر أن ماركوس أوريليوس على الرغم من اعتناقه للنظرية الرواقية العامة في الخير، كان يحمل آراء عن الواجب الاجتماعي أقرب إلى روح أفلاطون. فلما كان الإنسان كائنا اجتماعيا، فإن من واجبنا أن نقوم بدورنا في الشئون السياسية العامة، ويؤدي ذلك على الصعيد الأخلاقي إلى تأكيد الصعوبة المتعلقة بحرية الإرادة والحتمية، التي أشرنا إليها من قبل؛ فقد رأينا أن الفضيلة أو الرذيلة لدى الإنسان هي، حسب الموقف الرواقي العام، مسألة شخصية لا تأثير لها على الغير، أما في ضوء الموقف الاجتماعي فإن الصفات الأخلاقية لكل شخص يمكن أن يكون لها تأثير واضح جدا على كل شيء آخر.
ولو كان الإمبراطور قد نظر إلى واجباته بطريقة أقل تشددا لازداد الشقاق بلا جدال بالنسبة إلى ما كان موجودا من قبل. على أن الرواقية لم تستطع قط أن تهتدي إلى حل مقنع لهذه الصعوبة.
أما فيما يتعلق بمسألة المبادئ الأولى، التي كانت مشكلة تخلفت من عصر أفلاطون وأرسطو، فقد وضع الرواقيون نظرية في الأفكار الفطرية، التي هي نقاط بداية بديهية وواضحة بذاتها، يمكن أن تبدأ بها العملية الاستنباطية. وقد أصبح هذا الرأي سائدا في فلسفة العصور الوسطى، كما قال به بعض أصحاب المذهب العقلي من المحدثين؛ إذ إنه يعد حجر الزاوية من الوجهة الميتافيزيقية في المنهج الديكارتي. وقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرم من نظريات العصر الكلاسيكي؛ فأرسطو - كما ذكرنا من قبل - قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدا لأي واحد من مواطنيه، أما الرواقية فإنها ذهبت إلى أن الناس جميعا، بمعنى معين، متساوون، وكانت في ذلك تسير على هدي الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهد مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري، أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم، والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناء على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعض التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حرموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أعيد إحياء هذه النظرية لأسباب مماثلة، في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.
وعلى الرغم من أن اليونان كانت هي ذاتها المركز الثقافي للعالم، فإنها لم تتمكن من الاستمرار بوصفها أمة حرة مستقلة. ومن جهة أخرى فإن التقاليد الثقافية اليونانية قد انتشرت طولا وعرضا، وخلفت آثارا دائمة، وذلك في الحضارة الغربية على الأقل؛ فقد اصطبغ الشرق الأوسط بالصبغة اليونانية بفضل تأثير الإسكندر، أما في الغرب فقد أصبحت روما حاملة لواء التراث اليوناني.
صفحه نامشخص