وأشفق من أن تسأله مثلا عن الفرق بين التفكير والتكلف أو معنى الشعور الخالص، ولكن السيدة قالت بإعجاب: صدقت يا أستاذ، ولعل هذا يفسر قولك إن الشعر لا يعبر عن عاطفة إلا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها.
فهز رأسه مبتسما وهو يتنهد ارتياحا: وهو الحق المبين يا سيدتي. أرى أن رأسك متوج بتاجي الحسن والأدب!
فتورد خداها وقالت بحماس: إني واحدة من قرائك المعجبين .. وقد قرأت مؤلفاتك بإمعان وشغف.
فقال: أين لي قراء مثلك يا سيدتي العزيزة؟ .. إن البلد لا يقدر الكاتبين. - هذا حق وا أسفاه على وجه العموم! ولكن يقال إن لك جمهورا تحسد عليه يا سيدي الأستاذ.
فأشار بيده إشارة تدل على الأسف وقال: لو أتيح لي أن أكتب باللغة الإنجليزية مثلا!
فسألته السيدة بقلق: أوليس لك الجمهور الذي تحسد عليه؟
فقال باطمئنان: جمهور قرائي يربو على ضعفي جمهور أي كاتب آخر في الشرق الإسلامي. - يا لها من مكانة سامية!
فهز رأسه أسفا وقال: لقد دفعت شبابي وقوتي ثمنا لها. - أآسف أنت على هذا؟ - لا أدري. - لقد خلدت شبابك في آثارك الباقية. - أيهما أفضل؟ أن يخلد شبابي كي يتمتع به غيري أم يفنى وأتمتع به وحدي؟ - لا تناقض بين الاثنين؛ فإنك تستطيع أن تستهلكه في متعتك ثم تخلده في شعرك، أتسألني وأنت أستاذي؟! - هذه سعادة لا تتاح لغير المجدودين. - وإنك لمن المجدودين.
فنظر إليها نظرة لو تحولت إلى كلمة لوقع قائلها تحت طائلة قانون العقوبات، وكان يجيد هذه اللغة، ثم قال بخبث: إنك يا سيدتي تتحدثين عن حظي كما لو كان مصيره بين يديك.
فتخضب خداها باحمرار طبيعي غلب أحمرها الصناعي الخفيف، وما كانت تكره أن يكون مصير سعادته بين يديها، ولكنها ادخرت هذا الحديث إلى وقت آخر، فغيرت مجراه وقالت فجأة: ينبغي أن أنتهز فرصة وجودك معي لأسألك عن معنى بعض الأبيات الشعرية التي استغلقت علي.
صفحه نامشخص