ولكنه قاطعه متسائلا: ما الحاضر بين يديك؟
فقال الرجل: دواوينه الأربعة؛ النور والظلام، والجحيم، والرحلة الروحية ، والسماء السابعة؛ وكتاب فلسفة الجمال، والرحلة الشرقية، والجزء الثاني من كتاب الغد.
وهاله الأمر وأسقط في يده، ولم ير بدا من ابتياعها جميعا، وكانت المرة الأولى في حياته التي يشتري فيها ديوان شعر؛ لأنه بطبعه لا يحب الشعر ولا يهضمه، ولا يجد مسوغا مطلقا للقوافي التي يضمنها معانيه؛ فلماذا لا يرسل الكلام على سجيته؟ وإنه لينفث في آذان النساء غزلا يعتقد أنه أرق الكلام وأمتعه، ومع هذا لم يشعر بالحاجة إلى تنسيقه في بيت من الشعر، ولم يقرأ من الشعر طوال حياته سوى المحفوظات المدرسية وهو كاره؛ فما كان يخطر له على بال أن يشتري ديوانا من الشعر فضلا عن أربعة دواوين كاملة، ولكن قدر فكان!
وقال لنفسه متبرما وهو يحملها إلى بيته: «أعقل أن يكلفني الحب مالا أو مطاردة خطرة أو صبرا طويلا أو شجارا عنيفا، أما الذي لا أعقله أن يتقاضاني قراءة هذه الكتب؛ فهل أنا عاشق أم تلميذ؟»
وأخذ يقلب صفحات الكتب، فغص بالشعر كما توقع ولم يفقه له معنى، ولو كان يسيرا مثل «إذا نام غر في دجى الليل فاسهر» لهان الأمر، ولكنه كان من نوع عجيب؛ سهل الألفاظ مغلق المعاني! وهذا غزل نور الدين، فما بالك لو تطاول إلى الأغراض الأخرى التي يجفل قلبه من مجرد تلاوة عنواناتها؟! والأدهى من ذلك وذاك أن نثره ليس بخير من شعره؛ فقد قرأ صفحات من كتاب فلسفة الجمال ما كان يظن أن إنسانا عاقلا ينشرها على الملأ، وضاق صدره بنور الدين وشعره ونثره فرمي بالكتب جميعا، ولكنه قال بإصرار وعناد: «سأذهب يوم الأربعاء.»
وفي الموعد المسمى ذهب إلى قصر السيدة الجليلة بشارع خمارويه، وكان بادي الوجاهة والأناقة، وأرسل بطاقة إلى ربة القصر، فقاده الخادم إلى صالون رائع لم ير أجمل منه على كثرة ما غشي من الصالونات الفخمة، ولكنه لم يدهش لأن منظر الحديقة والقصر الخارجي سلبه كل دهشة. وكان يكره الانتظار؛ لأن أمثاله من المغامرين تؤاتيهم النجدة بداهة وارتجالا، وتشحذ أسلحتهم في أثناء المعمعة، مثله في ذلك مثل الخطيب المطبوع الذي يلهمه الجمهور المعاني فيتدفق؛ ولذلك أحس بارتياح عجيب حين رآها تشرق عليه من باب الصالون في فستان أبيض غير كتوم، يعلن عن جمال كل ثنية من ثنيات جسمها اللدن، ويبين خاصة عن الخصر الدقيق الذي يتعلق به كفلاها الثقيلان، فطرد بقوة إرادته بقية قلق كانت عالقة بنفسه، وانحني باحترام، فأعطته يدها فضغط عليها بحنو، ثم قال وهما يجلسان: لقد حسبت الأيام ساعة فساعة!
فابتسمت السيدة وقالت بلهجة لم تخل من عتاب: هذا معني مبتذل لا قرابة بينه وبين معانيك الشعرية الخالدة.
فاحتدم الغيظ في قلبه، ولعن الشعر والشاعر، وتذكر قراءته لبعض المعاني «الخالدة» التي لم يفقه لها معني، وعجب كيف تؤثرها هذه السيدة العجيبة على عبارته البسيطة التي طالما نصبت الشراك وغزت الحصون! وأراد أن يلتمس لعجزه عن خلق المعاني «الخالدة» عذرا فلسفيا، فقال: معذرة يا سيدتي، إني إذا غشيني لألاء الحسن السامي تركت نفسي على فطرتها، وهجرت إلى حين المعاني التي يبدعها التفكير والتكلف.
فاتسعت عينا السيدة الجميلتان، وقالت بإنكار: يا عجبا! ألست القائل يا أستاذ في مقدمة ديوانك إن شعرك شعر الفطرة والطبع؟ أولست الآخذ على شعراء المدرسة القديمة تكلفهم؟!
فأسقط في يده، ووجد أن الحذر لم ينفعه، وخشي أن يفقد ثقته بنفسه، فقال بلهجة العالم الذي يعني ما يقول: إن الشعر يا سيدتي مزيج من الفطرة والتفكير، والتفكير غير التكلف، وما أردت قوله هو أن الشاعر في حضرة الحسن يستبد به الشعور الخالص.
صفحه نامشخص