فخفق قلبه خفقة شديدة أيقظته من غيبوبة الغرام، وذعر ذعرا شديدا؛ إذ كيف له بشرح معاني شعر نور الدين المغلقة وهو الذي لا يفهم أيسر الشعر وأسلسه؟ وخشي إن تردد أن يخسر كل شيء بعد أن أوفى على الفوز، فقال بقوة: اعفيني يا سيدتي.
فسألته دهشة: ولم؟ هل يبرم الشاعر بشعره أحيانا؟ - ليس الأمر كذلك، ولكن قد يسمو الشاعر حينا على شعره فيخاله بعض مظاهر العالم المادي! وإني الآن في نشوة روحية من تلك النشوات التي تخلق الشعر، فكيف أنزل إلى الشرح والتفسير؟
فغمرتها موجة فرح وسعادة، وسألت نفسها: «ترى هل أكون غدا بطلة قصيدة رائعة خالدة؟» سألته في لهفة : أحقا ما تقول يا سيدي؟ - كيف يداخلك شك في هذا؟ تالله إذا لم تخلق هذه الساعة شعرا فلا خلق الشعر أبدا!
فامتلأ قلب المرأة فرحا ومنت نفسها بأسعد الأماني.
وفي تلك اللحظة دخلت خادم تعلن قدوم زائرات، ولم تفاجأ السيدة - كما فوجئ الأستاذ - بقدومهن، كأنها كانت على موعد معهن، وأمرت الخادمة بإدخالهن، وبعد لحظة قصيرة دخل ثلاث آنسات حسان يحتار ماء الشباب في وجوههن، وتلقتهن بترحاب، وقدمت إليهن الشاعر بلهجة فخار قائلة: الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.
وقدمتهن إليه واحدة واحدة قائلة إنهن من عضوات جمعية تعليم الأميات التي تتشرف برئاستها، ثم قالت: إنهن أديبات مثقفات، ولكن وا أسفاه فإن ثقافتهن قاصرة على الأدب الفرنسي الذي يتعشقنه إلى درجة أن جعلن الفرنسية لغة حوارهن، وإني أرجو أن يكون تعرفك بهن يا سيدي سببا لتوجيههن إلى الثقافة العصرية.
فعجب علي أفندي وتساءل دهشا: ترى هل يعلمن الفلاحات الأميات مبادئ اللغة الفرنسية؟!
استطردت السيدة تقول للآنسات: ستجدن في صديقي الشاعر محدثا جليلا، ولكني ما لهذا دعوتكن الليلة، فقد حجزت البنوار الأول في تياترو رمسيس لنشاهد معا رواية البخيل، ولا بأس أن يشاهدها الأستاذ للمرة الرابعة إكراما لي.
والحقيقة أن السيدة ما قصدت بدعوتهن إلا أن تذيع بينهن نبأ صداقتها للشاعر لكي يذعنها بدورهن في الصالونات الراقية فيتصل خبرها حتما بعلم منافستها الخطيرة، وما ذهابها بهن إلى تياترو رمسيس إلا لهذا الغرض نفسه.
وقد تضايق علي أفندي من حضور الزائرات، وتضايق أكثر من دعوته إلى التياترو، وكان يرجو أن تطول خلوته بها، ولكنه كان يبالغ في التشاؤم ولا يدري بالسعادة التي تخبئها له الأقدار؛ ففي الاستراحة انتهزت السيدة فرصة خروج الآنسات من البنوار وقالت له في خفر: ستعود معي إلى القصر.
صفحه نامشخص