وأمسكت الحديد، كان ناعما زلقا من آثار الشمع المتجمد، ومرة واحدة رفعت نفسي ثم في الحال هبطت وقلبي يدق، لم أكن قد رأيت شيئا غير ظلام في ظلام، ومع هذا خفت، فالظلام في النهار وفي داخل السلطان حامد شيء يخيف.
وكنت لا أزال أمسك بالحديد في انتظار أن أجمع أنفاسي وألقي نظرة أخرى، ولم يكن لدي أية فكرة عما يمكن أن أجده في الداخل، ربما المقام خال، ربما لا شيء غير الظلام.
وبقوة رفعت نفسي رفعة عالية ودرت بعيني دورات سريعة مذعورة، ووقف شعري من الرعب، ومن كثرة رعبي لم أستطع الهبوط وتجمدت يداي على حديد النافذة بينما أغلقت عيني عن أن تريا، ورحت أصرخ في فزع، وتركت نفسي أسقط على الأرض وأنا ألهث وأكاد أموت.
لقد رأيت السلطان حامد نفسه في الداخل، كان ضخما جدا أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهي بكتلة خضراء كبيرة تلمع في الظلام، كان السلطان باركا في الداخل يتلمظ ويكاد يمد رقبته الطويلة ويقضم رأسي.
ظللت مخفيا رأسي في حجري وعيناي مغلقتان وأنا لا أستطيع الجري أو التفكير أو حتى قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وحولي آلاف العفاريت التي لم أؤمن بها قط وخدام الفناجين، وإبليس، وشقيقاتي اللائي تحت الأرض، وكل ما ارتكبته من ذنوب وكل ما سخرت به من معتقدات.
واعتقدت أني حالا سأموت، ولكني عجبت حين مر وقت طويل ولم أمت، ثم ضحكت من نفسي لأني ظننت أني سأموت، ثم فتحت عيني ورأيت أشجار الكافور العالية والحقول الممتدة البعيدة، والناس الرائحين الغادين كنجوم النهار، وكل شيء غير خائف، وكل شيء يسخر مني ومن خوفي.
والشيء الذي لم أكن أتصور مطلقا أن يحدث، وجدت نفسي أفكر فيه، لماذا لا ألقي على المقام نظرة أخرى؟!
تطلعت إلى النافذة وترددت، ولم ألبث أن وجدت دافعا أقوى مني يدفعني للإمساك بحديدها من جديد، ربما الهلع، وربما حب الاستطلاع، وربما الاستخفاف بأمر السلطان، كنا جيلا معفرتا، كما يقول عنا آباؤنا وأجدادنا، والمسائل الغامضة مثل العفاريت وخلافها مسائل تدور على ألسنتنا فقط، ونتذكرها ساعة الغرق، ولكنا لا نؤمن بها في أعماق قلوبنا، وكان آباؤنا يقولون عنا هذا؛ لأننا لم نكن نخاف مما يخافونه، وحتى إذا خفنا كان خوفنا يدفعنا إلى السخرية بالشيء الذي نخاف منه، كنا جيلا معفرتا كف عن لعب الكرة «العميو» بيده، وأصبح يلعب الكرة بقدمه، ويمضي فوق قضبان السكة الحديد المحرمة دون خوف أن يظهر له القطار فجأة ويدهمه، وحتى إذا ظهر له القطار، كان فقط ينتحي جانبا وقد جهز له في يده زلطة، يقذفه بها إذا مر، ثم يعود يجري فوق القضبان.
3
وتبينت أني كنت على حق؛ فالذي كان باركا في الداخل لم يكن هو السلطان حامد، بل كان قبره، والرقبة الطويلة كانت رقبة القبر، والشيء الأخضر الذي يبرق كان عمامته.
صفحه نامشخص