وكنت أعرف أهل بلدنا جيدا، كانت لا تخيفني منهم وجوههم المكشرة على الدوام، ولا ذقونهم التي تشوك أو نظراتهم التي تظن أنها خالية من الرحمة والشفقة، كنت أعرفهم تماما، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلا بينهم وبين أنفسهم، أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلاما عاليا كثيرا، ويحلفون الإيمان المرتفعة المغلظة، وإذا سألهم الغريب عن شيء قالوا عكس ما يضمرونه، هم لا يخرجون ما في أعماقهم إلا رغما عنهم، في كلماتهم المتناثرة، في همساتهم الخافتة وراء ظهور موظفي الحكومة، في حديث الرجل إلى زوجته بعد العشاء حين يركبن بظهره إلى الحائط ويمدد ساقيه على طولهما، ويقول: «ليلة امبارح يا بت، حلمت خير، اللهم اجعله خير، أن السلطان حامد جاني وقال لي: «أنت نايم للضهر ليه؟! قوم، الشمس طلعت، قوم!»»
2
وتعودت أن أرثي لأهل بلدنا هؤلاء، كنت قد زرت السلطان، ورأيت مقامه عن قرب، ولم أحس برهبة ما، ولا اقشعر جسدي أو وقف شعري، أو ظهرت لي كرامة من كراماته، أربعة جدران قديمة تكاد تنهار، ماذا فيها حتى يستقر صاحبها في أعماق صدورهم؟! وحتى يتحدثوا عنه كما لو كان كائنا حيا ضخما يحيا في مكان م؟! ماذا فيه حتى يتحدثوا عنه بلا تكليف هكذا كما يتحدث الجار إلى الجار؟! وكنت أعرف خطورة هذا الحديث، فالفلاحون لا يرفعون الكلفة إلا بصعوبة شديدة، وإذا خاطبوك بلا ألقاب، وتحدثوا إليك كما يتحدث الجار إلى الجار كان معنى هذا أن احترامهم لك يرتفع إلى مرتبة التقديس.
والحقيقة بدأت تنتابني الغيرة من السلطان حامد، بدأت أحسده على تلك المكانة التي يحتلها في قلوب الناس، مع أنه لم يكن يملك لهم حولا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!
وقلت لنفسي ذات يوم: ربما أكون مخطئا، وربما هناك شيء داخل المقام هو السبب في تلك المكانة، ولم أكن - من شدة استخفافي بأمر السلطان - قد اهتممت بإلقاء نظرة على الداخل من خلال النافذة حين كنت أوقد الشمع، وأنبت نفسي كثيرا لأني لم أفعل، وقررت أن أذهب وأرى المقام من الداخل، وحين خطرت لي تلك الفكرة لم أتحمس لتنفيذها في الحال، فلم تكن حكاية السلطان حامد كلها تهمني إلى تلك الدرجة، كانت مجرد أفكار تعن لي إذا جاءت سيرته، وتشغلني قليلا ثم تمضي، وأعود إلى ما كنت فيه.
غير أنني في صباح يوم الجمعة سمعت امرأة ماشية في الشارع تندب حظها، وتكاد تولول وهي تقص لكل من تستوقفها من النساء قصة ابنها المريض، وتختم قصتها كل مرة بدستة شمع للسلطان إن هو طاب، وكدت أخرج لها وألعنها ، وأفهمها أن سلطانها حامد هذا لا علاقة له بمرض ابنها، ولا بركة فيه، ولا يملك حتى أن يمنع البلى عن مقامه، ولكنني لم أفعل، بل سألت نفسي بصراحة لماذا يضايقني شيء كهذا؟! وما الضرر في أن تنذر له نذرا؟! هل سيمنع نذرها الشفاء عن ابنها إن كان سيشفى؟! وأدركت أن حماسي كان فقط لأنها ذكرت اسم السلطان حامد، ولم تذكر اسمي مثلا، حماسي كان مبعثه هو تلك المكانة الهائلة التي كنت يوما فيوما أحس بالسلطان حامد يحتلها في قلوب أهل بلدنا، كنت أخاف على نفسي منها، وأخاف أن يأتي اليوم الذي أؤمن أنا الآخر به وأقدسه دون أن أعرف سبب الإيمان به وتقديسه.
وتأكيدا لاستخفافي به قررت أن أذهب في الحال، وأرى مقامه من الداخل، وأرى السر المزعوم، وأشبع بعد هذه سخرية من السلطان وأهل بلدنا على حد سواء.
ولكن، لا أدري ماذا حدث، فحين أصبحت قريبا من المقام، ورأيت أنهار الشمع المتجمد وبحيراته، أحسست أني مقدم على شيء حرام، وكأنني سأعبث بشيء يخص أهل بلدنا أجمعين وهم غائبون، إحساس اقشعر له جسدي ولم أستطع أن أتغلب عليه، وكأنك في اجتماع عام حافل وتهم أن تمزق علم المجتمعين، وعلى هذا وقفت في مكاني مترددا وقد أحسست لأول مرة أني في سبيلي إلى القيام بعمل غير مشروع، وتلفت حولي مرارا مع أني كنت متأكدا من خلو المكان وأن أحدا لا يفكر في المجيء إليه خاصة في الصباح.
وخفت!
فقد أدركت لحظتها فقط أن السلطان حامد هذا مارد كبير، والبركة في أهل بلدنا الذين جعلوه هذا المارد الكبير، فمع أني كنت واقفا في مكاني لا أستطيع الاقتراب من النافذة إلا أنني لم أكن أتصور أن المسألة ممكن أن تبلغ هذا الحد، وأنني فعلا لا أجرؤ على الدنو، وربما الخوف هو الذي دفعني إلى النظر إلى مكان السلطان حامد من جديد، كان كل شيء كما هو في المرة السابقة، الحجرة البالية القدم، والجدران البارزة الأحجار بغير طلاء، ولا شيء بالمرة يخيف، وكل ما أراه يدفع إلى الاستخفاف، وتقدمت من النافذة متلصصا، كانت أعلى من قامتي، وكان علي لأرى ما في الداخل أن أتشبث بحديدها وأرفع نفسي.
صفحه نامشخص