محطة
شيخوخة بدون جنون
طبلية من السماء
اليد الكبيرة
تحويد العروسة
حادثة شرف
سره الباتع
محطة
شيخوخة بدون جنون
طبلية من السماء
اليد الكبيرة
تحويد العروسة
حادثة شرف
سره الباتع
حادثة شرف
حادثة شرف
تأليف
يوسف إدريس
محطة
في المحطة الأولى صعد الشاب، واحد من شبان هذه الأيام، القميص «نص كم» ومفتوح مع أننا لا نزال في الشتاء، وشعرات الصدر القليلة بارزة من فتحته، والبلوفر مخلوع ومربوط من أكمامه حول العنق، والسلسلة إياها تارة ملفوفة حول ساعده، وأخرى دائرة بين أصابعه، ونوت المحاضرات راقدة في إهمال تحت إبطه.
وفي المحطة التالية صعدت الفتاة، واحدة من بنات هذه الأيام، نحيفة، قمحية، حتى ابتسامتها قمحية، شعرها ذيل حصان، وصدرها لم يبلغ بعد حب الرمان، ولكن «السوتيان» تكفل بإنضاج حب الرمان، وكانت تمسك في يدها مندوب العائلة؛ أخاها الصغير، الموفد - لا بد - لحراسة الحمل النحيف من قطعان الذئاب.
وأتوبيساتنا مزدحمة، ودائما مزدحمة، حتى ليخيل لي أننا لا نعتبر ازدحامها مشكلة، ولكننا نعده مفخرة قومية كالأهرام وأبي الهول، سنظل نحتفظ بها إلى أبد الدهر.
وكان الأوتوبيس مزدحما، ومزدحما بالرجال الكبار، كلهم يرتدون السترات الغامقة، وأربطة العنق الوقورة، الجالسون جالسون في أدب واتزان، والواقفون واقفون، رغم تلاصقهم وازدحامهم، في جد وحزم، حتى حين كان الأوتوبيس يهوي بالواحد منهم ويجعله يتأرجح كالدائخ ذات اليمين وذات اليسار، كان يفعل هذا في جد ووقار أيضا، وبوجه صارم الملامح والقسمات.
والسيد الجالس بجواري كان هو الآخر من هذا الصنف الوقور الحازم، بل كان واضحا أنه أكثر الركاب جدا ووقارا؛ إذ كان هو الوحيد الذي يرتدي بالطو فوق بدلته، مع أن الصباح كان جميلا مشرقا يغري الإنسان بالمشي عاريا تحت أشعة الشمس.
وحين صعد الشاب، صعد مبتسما، ولكن أحدا من الرجال الكبار لم يعبأ به أو بابتسامته.
وحين صعدت الفتاة، صعدت مبتسمة، ورمقها الرجال الكبار ذوو السترات بنظرات سيئة النية، ولكنهم اطمأنوا حين وجدوا أنها في أعمار بناتهم أو دون ذلك، وأنها لا تصلح للفراش، بل لا «يليق» أن ترى مع أحدهم في الشارع؛ ولهذا سرعان ما صرفوا النظر عنها وعن ابتسامتها!
ولكن جاري أعلن رأيه بصراحة، فقد شعرت به يتململ داخل البالطو حين صعدت الفتاة، وما لبث أن عقد ملامحه وقال في شبه غمغمة مستنكرة: «ودي إيه اللي يخليها تركب في الزحمة دي كمان؟! قلة أدب!»
وكدت أنا الآخر أصرف النظر عنها، لولا أن حدث شيء؛ نفس الشيء الذي يحدث كلما صعد إلى عربة الأوتوبيس راكب جديد، فقد تقلقلت صدور، واصطدمت بطون، واستعملت الأكتاف للمرور، وتبودلت كلمات الاعتذار بالإنجليزية والفرنسية والعربية والبلدية، وحدثت حركة تنقلات وترقيات بين أصحاب الأمكنة، وحاول كل منهم أن ينتهز الفرصة ويحتل المكان الذي طال حلمه به.
وكان من نتيجة تلك الحركة، أن جاءت وقفة الشاب الصغير بجوار الفتاة الصغيرة، وجاءت وقفتهما بجوار المقعد الذي أحتله أنا والسيد جاري.
ورمق كل منهما الآخر بنظرة سريعة لا هدف لها ولا معنى، لم تغير من الابتسامة التي صعد بها كل منهما، بل لم يلحظها أحد من ركاب العربة.
وكنت قد عانيت الأمرين من السيد جاري، فمنذ أن جلس بجواري وهو لم يكف أبدا عن الحركة، ولا عن التعليق، ولا عن إعطاء الأوامر الخاصة للسائق حين تدخل العربة في مأزق، أوامر يقولها بينه وبين نفسه: «اطلع يا جدع»، «خد يمينك»، «سواق نيلة.»
وأنا لا أحب أن يناديني أحد بكلمة: «السيد»، لست أدري لماذا، تصور اسمك مقرونا بلقب «السيد»، حتما ستحس أن شيئا فيك قد تغير أو تجمد، أو أنك أحلت مثلا إلى الاستيداع، ولكن هناك أناس تحس أن لقب: «السيد فلان» يناسبهم جدا، وكان جاري من هذا الصنف، لا تملك حين ترى طربوشه وتكشيرته ومعطفه والشعر الأبيض في ذقنه التي تحلق يوما بعد يوم إلا أن تقول له: يا سيد، وإن لم تقلها له غضب، ولهذا فهو الذي يبدؤك باللقب حتى لا تنسى أن تعيده إليه إذا حادثته.
كان واضحا أنه يحب الأصول، والأصول أن لا يأخذ الناس على بعضهم بسهولة، ومع هذا فمنذ أن جلس بجواري وهو لا يعاملني بالأصول أبدا؛ فقد احتل وحده أكثر من ثلثي المقعد، ومع هذا ظل كوعه مغروزا في جنبي يكاد يخرج حجابي الحاجز، وكان قد قرأ من جريدتي أضعاف ما قرأته منها، وحين قررت حلا للإشكال أن أعطيها له ألقى عليها نظرة سريعة ثم طواها وردها لي، وما كدت أفتحها حتى وجدت وجهه يتسلل من فوق كتفي ويعاود القراءة، ولعله لمح فيها دواء مقويا «للأعصاب»، ثم إن عينه لم تغفل عني لحظة، حدق في وجهي مرات، ربما ليرى إن كنت أحمل شبه إحدى العائلات التي يعرفها، وحين أخرجت محفظتي لأدفع، جرد كل محتوياتها بنظراته الجانبية، واشمأنط حين وجدها شبه خالية، حتى حذائي لم يسلم من تحديقاته، ربما ليعرف إن كان نعله جديدا أم مجددا أو ليدرك نوع جوربي وحالته الداخلية، ومن كثرة خجلي أدخلت قدمي تحت المقعد لأريحه وأريح نفسي.
ولم ينقذني من نظراته إلا مجيء الشاب الصغير والفتاة الصغيرة؛ فقد تركني وتحول إليهما.
ولأنني كنت بعيدا عن النافذة، لم يعد أمامي لكي أقطع الوقت إلا أن أنظر في وجوه الركاب، ولم تفلح هذه التسلية لقطع أي وقت، فقد كفتني نظرة واحدة إلى الوجوه لكي أدرك أنها نسخ متفاوتة الإتقان من جاري العزيز، وهكذا لم يعد أمامي إلا أن أراقب الشاب الصغير والفتاة الصغيرة.
وبدأت أجد في مراقبتهما تسلية عظمى.
فقد لمحت ابتسامة الشاب الطبيعية يرتجف سطحها قليلا قليلا، ويتغير شكلها، ويصبح لها معنى خاص مضى يمسح به وجه الفتاة وشعرها وجسدها وحتى ملابس أخيها الصغير.
المسألة فيها إعجاب إذن.
وكان إعجابا، مجرد إعجاب، غير موجه إلى الفتاة بعينها، ولكن إعجاب أي شاب صغير بأي فتاة صغيرة.
ولكن الأمور بدأت تتطور.
فقد اتسعت ابتسامته حتى شملت وجهه كله، وبدأت السلسلة تضطرب في يده، وأصابعه تتجاذبها بلا وعي وفي عصبية.
وقلت في نفسي: عظيم! إنه يريد أن يكلمها.
وأن ينظر الشاب إلى فتاة مسألة سهلة، وأن يبتسم لها مسألة أسهل، أما أن يكلمها، فتلك هي المشكلة، المشكلة التي شغلت جيلنا كله أيام أن كنا طلبة في الكليات وشبانا حديثي التخرج، كنت لا تجد شابا منا إلا ولديه مشكلة من هذا النوع، وكل يوم ينتحي بك صديق من أصدقائك ركنا ويسوق مقدمات طويلة، ويدعي أول الأمر أن المشكلة خاصة بشاب آخر، ثم ينفجر في النهاية قائلا: أحبها يا أخي، وأعبدها، وهي جميلة، وأراها كل يوم، وتراني، وأجلس بجوارها في المدرج أو في الأوتوبيس وأبتسم لها كثيرا، وأحيانا يخيل إلي أنها تبتسم لي، فدبرني، ماذا أصنع؟!
وتجد أن الحل في غاية السهولة، فتقول: كلمها يا أخي، كلمها، ولا بد أن يضحك مستشيرك ضحكة هستيرية مغتصبة ويقول: «وجبت إيه من عندك؟! ما انا عارف، إنما ازاي؟ إزاي اكلمها؟!»
ولا تظن أن مستشيرك هذا قد فتح صدره لك وحدك باعتبارك صديقه الحميم، فلست إلا واحدا من عشرات وربما مئات، حدثهم، وكاشفهم، وخبط رأسه في الحائط أمامهم وهو يقول: «المشكلة كيف أكلمها؟!» وتظل المشكلة معلقة شهورا طويلة وربما سنين، أحد زملائنا ظل يحب زميلة له خمس سنوات بأكملها، دون أن يجرؤ على مخاطبتها، وحين جمع شجاعة الدنيا وذهب يحادثها، ألقى على مسامعها الجمل الخمس التي كان قد جهزها، ثم استأذن منها وغادرها في الحال، حتى قبل أن تفتح هي فمها وترد.
ونفس الوضع لدى الفتيات، ولكنهن لا يملأن الدنيا عويلا وصراخا كما يفعل الشبان، هن يصمتن على نار، والمشكلة تحيرهن، وصدورهن العذراء تحترق احتراقا داخليا لا تطفئه دموع، ولا تنهدات، وتؤججه الأغاني والروايات، وكل جنس يريد الآخر، ويراه، ويلمحه، وليس بينه وبين الآخر مسافة، ومع هذا فهناك حائط زجاجي سميك لا يدري أحد من أقامه ولا يجرؤ أحد على كسره.
ولكن جيلنا أفاق، فوجدنا إخوتنا الصغار، وأطفال جيراننا، وأولاد المعارف، قد استطالت أجسامهم فجأة، واخضرت شواربهم، وكشفوا الصدور والسواعد، وبدأت أصواتهم تتغير، وبدأت إذا حاولت أن تمنع الواحد منهم عن مناقشتك قال لك: «إزاي؟! أنا مش عيل، أنا راجل زيي زيك!»
وكان الشاب لا يزال يبتسم في غموض وحيرة، ويحرك رأسه ليأخذ وجهه أوضاعا مختلفة، وينظر إلى قدميه مرة، ثم يسرح فجأة ويتأمل سقف العربة، ويمسك بعامود الأوتوبيس، ويقبض عليه بشدة لكي تبدو عضلات ذراعه المنتفخة ثم يرمق بقية الركاب، ويتململ محرجا، ويعود ينظر إلى الفتاة، تلك النظرات الخاصة.
وابتسمت، كان الشاب الصغير واقعا في نفس المشكلة التي لم نجد لها حلا، ترى هل لم يجدوا لها هم الآخرون حلا؟ ارتباك الشاب واضح، وأتحداه إن كان يستطيع أن ينجح فيما فشلنا فيه!
كان لا يزال يحاصرها بنظراته ورغباته الخرساء، ويحاول أن تلتقي أعينهما ليكلمها بعينيه، وكانت الفتاة واقفة بجواره تماما، ولكنها لم تكن تنظر إليه، كانت عيناها مركزتين على رأس أخيها الصغير، ومع هذا كانت تبتسم بطريقة ما، ابتسامة تحس معها أن الفتاة وإن كانت لا ترى نظرات الشاب الموجهة إليها وتدعي أنها لا تحفل بوجوده، ومع ذلك تحس من الطريقة التي تبتسم بها أنها تدرك وجوده، وتشعر أنه يحاصرها بنظراته، وأنه حائر مرتبك متردد، وكأن لها ألف عين غير مرئية، تنقل لها بطريقة خفية كل ما يحدث عن كثب منها.
وبدأت أنفعل، وكأني أشاهد مباراة للأشبال.
وبدأ قلبي يدق، ويتمنى أن يبقى كل شيء على ما هو عليه، وأن يبقى الشاب مرتبكا مترددا، وأن تبقى الفتاة صامدة كالقلعة الحصينة، حتى ولو لم تكف عن ابتساماتها التي لم يكن لها أي مكان في أوتوبيس مزدحم كهذا.
واكتشفت أنني لست وحدي الذي يشهد الصراع، فقد التقت نظراتي المتلصصة بنظرات السيد جاري وهي تؤدي نفس المهمة، وطبعا كان اللقاء مخجلا لكلينا، وعقد جاري ملامحه حتى أصبحت أكثر جدية وخطورة، وادعى أنه ينظر أمامه، نظرات دوغري لا يمكن أن يلومه عليها أحد، ولم يمنعه هذا طبعا من أن يحرك عينيه في محجريهما خلسة ليشهد ما يدور هناك، وكذلك لم يمنعني خجلي من أن أجعل نظراتي تسترق الخطى هي الأخرى في دوريات استطلاعية متقاربة، كنا فقط نتحاشى أن تلتقي أنظارنا، وإذا التقت - لسوء الحظ - طلى كل منا وجهه بقشرة سطحية مبتسمة، وادعى أنه فقط ينظر ببراءة إلى وجه الرجل الأفطس الواقف قريبا من الشاب والفتاة سابحا في ملكوت من صنعه.
ظللت أنا وجاري نلعب لعبة «الاستغماية» هذه حتى حدث شيء.
فقد وقف الأوتوبيس ثم تحرك.
وكعادة الأوتوبيس إذا وقف ثم تحرك حدثت الاصطدامات التي لا بد منها بين كل جار وجار، والتقت الوجوه مبتسمة ومعتذرة.
وكذلك التقى وجه الشاب بوجه الفتاة، وابتسم الشاب معتذرا.
وقبلت الفتاة اعتذاره باسمة.
وأعتقد أن قلوبنا نحن الأربعة قد دقت بعنف.
وازدادت حركة الشاب، حتى حذاؤه، كان يتحرك بتردد وعصبية، وكأنما يحاول أن يجد له مكانا بين الأحذية الضخمة الكثيرة المتراكمة حوله، ولم تكف عضلات وجهه عن التغير، تنقبض وتنبسط وترتجف، وأحيانا يبتسم فجأة بلا سبب، ثم يلتفت إلى الفتاة وكأنه يهم بعمل شيء، ولكنه سرعان ما يرتد وبه بعض الشحوب.
والفتاة كانت قد أمسكت بيد أخيها الصغير، بعد أن كان هو الذي يمسك بيدها، وراحت تضغط عليها ضغطات منتظمة، بينما وجهها قد اتخذ زاوية معينة لا يحيد عنها.
أما جاري فقد راح يتأفف من الحر، ولكن يبدو أنه أحس بأن الأمور سوف تتطور حالا، فقد ترك خجله مني جانبا، واستدار بوجهه كلية إلى حيث يقفان، ولم يرفع عينيه منذ تلك اللحظة عنهما أبدا.
وعلى حين بغتة، استدار الشاب مرة، وحمل وجهه ظرفا كثيرا، وأعاد اعتذاره إلى الفتاة عن الصدمة السابقة في همس خافت، بدا لي كأنه نجوى.
ولم ترد الفتاة هذه المرة، ولكنها خفضت رأسها واحمر وجهها.
وازداد اضطرابي.
وازداد أكثر حين عن لأحد الركاب الواقفين، وكان سمينا ذا كرش عظيم، أن يغير من وقفته، فتحرك حتى أصبح جسده الضخم يحول بيننا وبينهما، وكان اضطراب جاري أفظع، ورحنا نحن الاثنين نصوب للرجل وكرشه نظرات نارية ملتهبة تكاد تخرقه أو تذيبه لكي نستطيع العودة إلى متابعة المشهد.
ويبدو أن الرجل أحس من نظراتنا أننا نتهمه بتهمة أبشع من مجرد التستر، فقد وقف محرجا مرتبكا لا يدري ماذا يفعل ليرضينا، وسرعان ما خف الجار إلى نجدته فقال له بصوت جاد آمر: «ما تتفضل حضرتك تخش جوه، فيه وسع جوه، اتفضل جوه، مضايق نفسك ومضايق الناس ليه؟! ما دام فيه وسع نضيق على نفسنا ليه؟!»
وتحرك الرجل وهو يشكر للجار نصيحته.
وعدنا إلى مسرح الأحداث، وعاد وجه جاري يحفل بالاستمتاع والنشوة.
وخفت أن أكون قد عدت متأخرا كثيرا، ولكن حمدا لله، كل ما كان قد حدث أن الفتاة قد رفعت رأسها، وأن الشاب كان قد مد ذراعه الأيسر ليمسك عامود الأوتوبيس، فأصبح ذراعه لصق شعرها.
ولمحت فمه يرتجف، لا بد أنه يجرب كلمات ما قبل أن ينطقها، وأحسست بالارتياح، هكذا كنا نفعل، ولكننا كنا حين نوجد في حضرة الفتاة تتسمر الكلمات على أفواهنا ولا ننطق.
ولكن الشاب هز نفسه، وقال في همس ملح: «أنا شفت حضرتك في الجامعة، في الآداب؟ مش كده؟!»
وما كاد ينتهي من آخر كلماته حتى كان وجهها في حالة غضب كامل، وحتى كانت قد استدارت إلى الناحية الأخرى في اشمئزاز ظاهر، بينما راحت يدها تتابع ضغطها على يد الأخ الأصغر، والمسكين يحاول أن يخلص يده من يدها بلا فائدة.
وصحيح أني لم أسترح إلى الطريقة التي غضبت بها؛ فقد غضبت بسرعة غير عادية، وكأنها كانت تتوقع أن تحدث محاولة كهذه، ثم لماذا تلك الضغطات العصبية على يد مندوب العائلة؟
ومع هذا رحت أرمق الشاب الصغير في شماتة، وتوقعت أن وجهه لا بد أن يحفل حالا بالبياض والعرق؛ ففي أمثال هذه المناسبات كانت صدمتنا تمتد إلى أسبوع، وربما أكثر.
ولكني لم أجد في وجهه شحوبا ما، ولم أجد نقطة عرق باردة واحدة، وجدت ابتسامته لا تزال كما هي، وكل شيء فيه كما هو، وكأنه هو الآخر كان يتوقع هذه الغضبة الأولى، وقلت لنفسي: لا بد أنه من الصنف البارد «التلم»، ولكني أدركت أني ظلمته، فلم يكن يبدو عليه برود أو تلامة، كان شابا عاديا جدا، لا تحس به جريئا ولا خائفا، ولا واسع الحيلة أو قليل الدهاء.
وفي أيامنا كنت تقتلنا ولا نستطيع أن نكرر المحاولة، وكنا لا نعمل شيئا طوال أيام كثيرة إلا أن نستعيد دقائق ما حدث في المحاولة الأولى، ونهوي إلى آبار خجل لا قرار لها، ونظل نؤنب أنفسنا، ونلعن من أشار علينا، ونسب الدنيا والحظ وأحيانا نفكر في الانتحار.
أما الشاب الصغير فقد اقترب مرة أخرى منها وهمس في إلحاح جديد: «الله! مش المدموازيل في الآداب؟!»
ولم تتحرك شعرة واحدة فيها، وكأنها لم تسمع.
وبدأت أتفاءل.
ولو كنت مكانه لهبطت من الأوتوبيس في الحال، ولظللت أهيم على وجهي في الشوارع حتى أنسى مرارة الفشل، ولكنه، قبل أن يختفي صدى الجملة الثانية، كان قد اقترب بوجهه من وجهها للمرة الثالثة، اقترب كثيرا، وهمس في عصبية: «حضرتك رايحة هناك؟»
وظل رأسها ثابتا في مكانه، ووجهها ثابتا على وضعه، ونظراتها مركزة على رأس الأخ الأصغر، شفتاها فقط اشتد ضغطها عليهما حتى برزتا إلى أمام في شبه احتقار، وصحيح أني كنت أتوقع من فتاة غضبت في أول محاولة أن تصنع شيئا أكثر من هذا في ثالث محاولة، ولكن من الطريقة التي ضغطت بها شفتيها أحسست أن صبرها قد فرغ، وأن الويل له لو حاول مرة أخرى.
وحاول، اقترب منها كثيرا، وكادت السلسلة تنقطع في أصابعه وهو يهمس بسرعة وفروغ صبر: «لازم رايحة البيت؟»
وكتمت أنفاسي في انتظار النتيجة.
وبدا أنه فشل في هذه المرة الأخيرة أيضا، لولا ... لولا ذيل الحصان اللعين، فقد لمحته يهتز، خيل لي أول الأمر أنه يهتز اهتزازا طبيعيا، ولكن أبدا، كان اهتزازه عن عمد، وعن سبق إصرار، وكانت تقول به: «أيوه.»
وفي الحال، وقبل أن تغير رأيها، قال بسرعة وانتصار: «في الجيزة! مش كده؟!»
وقالت هذه المرة بلسانها، وقد انتقل الخجل من وجهها إلى ابتساماتها: «أيوه.»
وكدت أوجه لكمة إلى رأس مندوب العائلة الذي كان واقفا يتفرج على الشارع من خلال النافذة في بلاهة منقطعة النظير.
ولكني لم ألبث أنا الآخر أن رحت أتطلع مثله، وقد تركت جاري العزيز مستغرقا في المشهد الذي يدور أمامه دون أن ينبس بحرف، ووجهه لا يزال يحفل بالنشوة والمتعة!
وحين عدت من رحلة يأسي، كانت الأمور قد تطورت بسرعة، وكان الشاب يحادثها بصوت الواثق من نفسه، بصوت الرجل الظافر حين يهتك حجب الخجل عن أنثاه في إصرار.
وكانت قد تركت يد الأخ الأصغر وراحت يدها اليسرى تقضم أظافر اليمنى وتعبث بها، بينما الأخ يحاول أن يجذب يدها ليعود يمسكها بلا فائدة، وكان ذيل حصانها يهتز باستمرار، اهتزازات أفقية، ورأسية، وبيضاوية، ودائرية، وأحيانا يرتعش، فقط يرتعش، شعراته المنضمة إلى بعضها في حزمة ترتعش، وتتباعد قليلا، ثم تعود إلى الانضمام.
ولم أعد كثير الحماس لسماع ما يدور بينهما، جاري كان هو المتحمس، وكان من فرط حماسه قد مد رقبته على آخرها حتى كادت تصبح له أذن عند فم الفتى وأخرى عند فم الفتاة.
وحين عدت كان الشاب يتحرك كمن يستعد للنزول، فقال لها وكل عضلة في وجهه وذراعيه تنتفض وتشجعها: «خلاص!»
واهتز ذيل الحصان اهتزازات رأسية كثيرة متلاحقة.
وعاد وهو يقول: «أوعي تنسي النمرة.»
واهتز ذيل الحصان اهتزازات أفقية تنفي بها. - «طب كام؟!»
وواجهته بعيون مرتعشة وقالت: «مش 899؟!»
ثم سكتت وخجلت وأطرقت، وبسرعة عادت تقول: «899592.»
وتهلل وجهه فرحا، وكاد يعانقها قائلا: «برافو! إيه ده؟! دا انتي داهية! ح تكلميني إمتى؟!» - «يمكن بكره.» - «لأ، النهارده.» - «أما اشوف.» - «النهارده!» - «طب، النهارده.»
وخيل إلي أنه يكاد - لولا الناس - يقبلها، بل لم أستبعد أن يفعلها، فقد كان واضحا أنهما لا يحسان كثيرا بكل ما حولهما.
وقال الشاب هامسا: «بس حاسبي، أخويا صوته شبهي تمام، إوعي تغلطي فيه! ابقي اتأكدي إني أنا اللي برد.» - «أتأكد إزاي؟» - «لما أقول أنا أحمد ردي.» - «اسمك أحمد؟» - «أيوه، وانتي؟!»
وأطرقت، وارتفع ذيل الحصان في الهواء كثيرا، وكأنها ترفع راية الخجل، وغمغمت باسم لا يمكن أن يسمعه أحد، ولكن الولد لقطه وسمعه، عرفت هذا حين قال: «اسمك حلو قوي!»
ثم أردف بجرأة: «زيك.»
وسحب جاري رقبته الممتدة بسرعة وكأنما لسعته ولعة سيجارة، أو كأنما أحس أن الشاب يغازله هو، غير أنه لم يلبث أن أعاد رأسه إلى وضعه في الحال؛ حتى لا تفوته كلمة.
وكان الأوتوبيس يستعد للوقوف في محطة الجامعة، وكان الشاب هو الآخر يستعد للنزول، وقبل أن يأخذ طريقه إلى الباب همس: «لولا المحاضرة مهمة، كنت وصلتك! خلاص؟» - «خلاص.» - «النهارده؟» - «النهارده.» - «فاكرة النمرة؟» - «مش ح انساها.» - «طب كام؟»
وخجلت من نفسي وأنا أحاول أن أنافس الفتاة وأجهد ذاكرتي لأتذكر الرقم، ولكني فشلت.
وقالت الفتاة بسرعة وكأنها جهاز تسجيل: «مش 899592؟!»
وقال الشاب في انبهار: «برافو، أنا ح اقعد طول النهار جنب التليفون، أوريفوار»، وتدفقت الدماء إلى وجنتيها ترد.
وهبط الشاب، وبشعاع واحد من عينيها ودعته، واطمأنت على جمال مشيته، ثم عادت يدها تتسرب في وهن وهيام وتسمح ليد الأخ الأصغر أن تقبض عليها وتفعل بها ما تشاء.
ولست أدري كيف أدركت وهي في قمة حالتها هذه أن محطتها هي التالية، فقد وجدتها بعد قليل تجذب يد أخيها، وتأخذ طريقها إلى الباب.
وما كاد جسدها النحيل يختفي في الكتلة البشرية المتزاحمة قرب الباب حتى أفاق جاري من نشوته في الحال، وما لبث أن ارتفع صوته، وراح يضرب كفا بكف، وينظر إلى بقية الركاب، وكأنما يستنجد بهم ويشهدهم ويقول في غضب حقيقي: «أما كلام فارغ صحيح وقلة أدب! البلد خلاص باظت! انفلت عيارهم! إيه ده؟! لازم يوقفوا في كل أوتوبيس عسكري من بوليس الآداب! لازم يقاوموهم زي ما بيقاوموا النشالين، دي مسخرة دي! دانا شايفه بعيني بيمد إيده عليها، مش كده يا أستاذ؟! والله، لولانا كان مد إيده عليها وهي ساكتة، دا إجرام ده! ما فيش بوظان بعد كده! دانا سامعه بودني بيديها نمرة تليفونه، بودني! كده واللا لأ يا محترم؟! كده واللا لأ؟! وكل ده في محطة واحدة، دا لازم القيامة ح تقوم! والله، يمكن قامت فعلا! لازم القيامة قامت!»
شيخوخة بدون جنون
في صباح كهذا مات عم محمد.
والذي ضايقني أن كل الناس كانوا يأخذون خبر موته على أنه مسألة مفروغ منها، مسألة لا تحتمل بكاء ولا تأثرا، أو حتى مصمصة شفاه.
يومها بدأت العمل بالتصديق على شهادات الميلاد، وكل يوم كنت أبدأ عملي بالتوقيع على هذه الشهادات حتى يصبح المولود من هؤلاء مواطنا رسميا معترفا به من الدولة، والواقع أن عملي كمفتش صحة طالما ذكرني بسيدنا رضوان، فإذا كان عمله هو حراسة الآخرة، فلا أحد يدخل فيها إلا بإذنه ولا أحد يغادرها إلا بتصريح منه، فأنا الآخر أحرس الدنيا، لا يدخل فيها أحد ولا يقيد وارد ومولود إلا بإمضائي، ولا يعتبر الواحد قد خرج من الدنيا ومات إلا إذا وافقت أنا على هذا.
كنت أبدأ باعتماد الشهادات، ثم يقف سرب طويل من الأمهات أمامي لأكشف على أذرع أطفالهن وأرى إن كان التطعيم قد نجح أم لا، نفس الأطفال الذين كانوا من فترة لا تتجاوز سنهم الأربعين يوما مجرد شهادات ميلاد، الآن أصبح لهم عمر، وبدأت لهم مشاكل.
والحق أني كنت، رغم مضايقات العمل الكثيرة، أحس بنشوة وأنا أزاول عملية «المناظرة» تلك، الأطفال كلهم صغار وفي عمر واحد كأنهم باقة من أزهار الفل الصغيرة السن أشمها كل صباح، كلهم صغار، وكلهم حلوين، وصراخهم مهما علا فهو رقيق لا يؤذي السمع، وأيديهم بضة صغيرة، وأظافرهم دقيقة تحب أن تقبلها، ورفساتهم فيها كل نزق الحياة وروعتها، والأمهات، أمهاتهم، كلهن أيضا حديثات الزواج وصغيرات، وكلهن فرحات بأطفالهن، مبالغات في الحرص عليهم، ولفهم في سبع لفائف، قادمات - لا بد - من الصباح الباكر إلى مكتب الصحة وقد تجمعن وارتدين أحسن ما لديهن، وخططن حواجبهن وتكحلن، ووجوههن صابحة تلمع بالنظافة، وكلامهن صاف لا ضغائن ولا نقار ولا خناق، ولكنه أنثوي عذب، فيه كل دلع المصريات المؤدب الذي لا يزيد عن الحد، وفيه كل خجلهن.
يقف الطابور أمامي، وعلى ذراع كل أم صغيرة طفل صغير، ولا يستقيم الطابور أبدا، فكل واحدة تنخلع منه لتختلس النظر إلى ملابس الأخرى، أو لتقارن بين ابنها - اسم الله عليه - وحجمه وسمنته، وابن التي أمامها أو خلفها، مقارنة لا تحمل سوى حب الاستطلاع، ووالله، ليس فيها حسد، ومع هذا فكل واحدة تحاول إخفاء ابنها عن الأخرى مخافة العين، فتزيد من عدد اللفائف، وتحيط عنقه الأبيض بالأحجبة وأسنان الذئاب ، ولا بد أنها حين تعود إلى البيت ترقيه وتبخره، وحين تصل الواحدة أمامي ترتبك وهي تحاول أن تستخرج اليد الدقيقة من الكم الدقيق، وكم هو جميل ذلك الكم! ويبدو أن كل شيء صغير جميل، ترتبك وهي تستخرج الذراع، ذراع طولها طول الإصبع، ولكنها مشاكسة، وقبضتها مضمومة في إصرار، وكأنما تتوعد الدنيا وتتحداها، ويرتفع الصراخ، صراخ هذه المرة غاضب أحمق، وحمقه حبيب، وكم كان يؤلمني الجرح الحديث من التطعيم! الجرح البشع السخيف الذي يشوه البشرة الناعمة البضة.
وينتهي الطابور، وتنتهي المناظرة، ويخف ازدحام المكتب، وتختفي أصوات النساء بكل ألوانها ولهجاتها ونبراتها لتبدأ ضجة أخرى تعلو وتعلو، ضجة ليس فيها أنوثة النساء ولا رجولة الرجال، ضجة الفتيان الصغار والفتيات، الذين كانوا من سنين قليلة مجرد أطفال على أذرع أمهاتهم في طابور المناظرة، ولكنهم قادمون على أرجلهم هذه المرة وبأنفسهم؛ إذ هم التلامذة الذين يريدون شهادات من المكتب لتقبلهم المدارس، والعمال الصغار والعاملات الذين جاءوا لإقرار أن سنهم تزيد عن الاثني عشر عاما لينطبق عليهم قانون تشغيل الأحداث، وبهذا يمكنهم أن يبدءوا معركة أكل العيش بعرق الجبين، وطابور هؤلاء لا ضجة فيه ولا صخب، فهم يقفون صامتين، مستغربين، عيونهم تحدق في الناس والأشياء بدهشة وذهول، وفي صدورهم خشوع الداخل إلى عالم ثان مجهول.
وقبل أن ينتهي طابورهم تكون ثمة ضجة أخرى قد بدأت تتجمع في الخارج، ضجة فيها زعيق وعصبية، وأيمانات مغلظة، وكلمات مكتومة تتناثر عن الظلم والعدل والإنسانية والحكومة والوقت الضائع، ضجة الرجال، ضجة لا تهدأ حتى بعد أن يوقفهم التومرجي طابورا، وتنكمش قبضته الواسعة على النفحات الضئيلة التي يجود بها البعض، ويهز رأسه مئات المرات وهو يؤكد لهم أن كله بالدور، وأنهم حتما سيأخذون الإجازات التي يريدونها وسينجحون بإذن الله في الكشف الطبي، وأن الدكتور خالد طيب وابن حلال، ومزاجه اليوم عال العال، وعلى العين والرأس أعمارهم ستقدر وحاجاتهم ستنقضي، بس شوية صبر، والصبر يا إخواننا من الإيمان.
ويدخل طابور الرجال، طابور عمره ما وقف طابورا، طابور لا تلمح فيه سوى وجوه رجال قلقة تملؤها عجلة السباق المجنون للاستحواذ على الرغيف وانتزاعه من أفواه الآخرين، وجوه خربشتها الحياة وخشنتها وجرحتها، والجراح لا تزال يقطر منها الدم.
وحين تبلغ الساعة العاشرة أنتهي من عالم الأطفال والفتيان والكبار لأدخل في عالم آخر، عالم الموتى، وللأموات هم الآخرين عالمهم ومشاكلهم، والميت لا ينتهي أمره أبدا بموته، فقد يثير بوفاته أضعاف أضعاف المشاكل التي أثارها بحياته، فإذا كان عقاب أهل المولود إذا هربوه إلى الدنيا بلا تصريح أو شهادة ميلاد هو الغرامة جنيه، فعقاب أهل المتوفى إذا هربوه من الدنيا ودفنوه بلا تصريح هو الحبس والسجن، وإذا كانت الحكومة لا يهمها كيف يعيش الإنسان طالما هو حي، فهي توليه العناية القصوى إذا مات، والقانون لا يسأل أبدا كيف عاش، ولكنه يصرخ بأعلى صوته: كيف مات؟
وإذا كان المعروف أن بعض الظن إثم، فالمشرع يرى أن كل الظن فضيلة عظمى؛ فأي إنسان يموت لا بد أنه مات مقتولا ما لم يثبت عكس ذلك، وأنا الذي كان يقع على عاتقي إثبات ذلك العكس، فعلي أن أكشف على كل متوفى وأعاينه وأفحصه وأشمشم وأرتاب، حتى إذا ما اطمأن قلبي خمنت السبب التقريبي لوفاته، وقيدت ذلك في الشهادة، وفي لحظتها فقط يصبح من حق الميت أن يدفن ويتوكل على الله إلى العالم الآخر.
في الساعة العاشرة كنت أبدأ عملي مع الموت، وأول من كنت أراهم في هذا العالم هم صبيان الحانوتية حين يدخلون ويتجمهرون أمام المكتب، وكان عم محمد أحد هؤلاء الصبيان، وأول الأمر لم أكن أستطيع تمييزه من بينهم؛ فقد كانوا جميعا متشابهين، وإذا كان الصبيان في العادة لا يمكن أن تتعدى أعمارهم مرحلة الصبا، فأولئك كانوا أغرب صبيان؛ إذ إن أصغرهم لا بد قد تجاوز الخامسة والستين من زمن طويل، كلهم عواجيز، وكبرهم ليس من ذلك النوع الصحيح السليم، مثل الموظفين المحالين إلى المعاش مثلا أو المتقاعدين، الذين تجدهم قد ابيضت شعورهم حقيقة، وتجد وجوههم فيها تجاعيد وظهورهم قد أصابها الاعوجاج، ولكنك تحس إذا نظرت إلى الواحد منهم أنه رجل كبير في السن ليس إلا، هناك نوع من الكبر يمسخ الكائن الحي، ويحيله إلى هيكل هش مرتجف، هذا الوجه الإنساني المتناسق التقاطيع، المرتب القسمات يستحيل إلى زبيبة، مجرد زبيبة جافة مكرمشة لا يمكن أن تقول أبدا إنها كانت حبة عنب حمراء مملوءة بالدم والحياة في يوم من الأيام.
كان صبيان الحانوتية كلهم من هذا الطراز، الطويل فيهم قد زاده الكبر رفعا وطولا، والقصير قد زاده العمر الطويل قصرا.
ودائما وجوههم ضامرة، غلبانة، جلدها خشن مجعد، وذقونها بيضاء نابتة، ونظراتها كليلة، والعين الواحدة لا بد مصابة بأكثر من داء، ولهم ملابس «شغل»؛ جلاليب قديمة ممزقة قد تختلف أنواعها وألوانها ولكنها قصيرة كجلاليب التلامذة لا تتعدى الركبة، ولهم غطاء رأس واحد، فلكل منهم عمامة عبارة عن خرقة، أي خرقة، ملتفة حول طاقية، أي طاقية، أو حتى يتعمم بها على اللحم.
كنت ما أكاد أراهم حتى يخالجني الضحك؛ فقد كانوا يبدون بأعمارهم تلك وعاهاتهم وملابسهم وعمائمهم ككائنات غريبة عن عالمنا هبطت لتوها من كوكب آخر كل ما فيه شائخ وعجوز.
وكان عمل هؤلاء «الصبيان» يبدأ من اللحظة التي تطلع فيها روح الميت، تماما كالملائكة؛ فإذا كان الملائكة يتولون حمل الروح إلى السماء «كعابي» أو على مراكب الشمس، فصبيان الحانوتية يتكفلون بالجثة حتى يغيبوها في باطن الأرض، وقد يبدو للبعض أن عمل الحانوتية أسهل، ولكنه في الواقع أصعب مائة مرة من الصعود بالروح إلى السماء! ويبدو للبعض أنه عمل بغيض، والواقع أنه ليس بغيضا ولا يحزنون، إنه مجرد عمل كغيره من الأعمال، وإذا كنا نعمل فقط من أجل أن نأكل، فكل عمل بغيض، وكل عمل شغل، وكل شغل كار، وكل كار له أصول.
والأصول أن معلم الحانوت الكبير هو الذي يجلس في الدكان يتلقى بلاغات الوفاة، ويقابل الزبائن، ويقبض العربون، وفي أحوال نادرة يتولى بنفسه غسل الكرام.
أما الصبيان فهم الذين - حين يتم الاتفاق - يذهبون جريا في جري، إلى بيت المتوفى، ويتولون معاينته وخلع ملابسه، ثم يجري الواحد منهم إلى مكتب الصحة قبل فوات الميعاد، ثم يعود جريا في جري مستصحبا الطبيب، ثم يجري إلى الحانوت، وإلى الدكان أو العطار، وبأذرعه النحيلة يحمل الميت إلى المغسلة ويلبسه الكفن، ويسخن الماء ويدلقه، ويضع الميت في النعش، وقد يساهم بقسط كبير في حمل المتوفى إلى الجامع والمدافن، والنعش له ذراع خشبية طويلة غير ممسوحة أو مهذبة تستقر فوق عظمة الطوق العجوزة التي لا يغطيها لحم فتكاد تقطعها، والنعش ثقيل، والمسافة دائما طويلة، وما أفظع الصيف، والمصيبة الكبرى لو كان الميت من أصحاب الأوزان الثقيلة.
في الساعة العاشرة يدخل علي صبيان الحانوتية ويتجمهرون أمامي وتمتد أذرعهم الجافة العجوزة ببلاغات الوفاة، وكل منهم ينافس الآخر في إغرائي، وكل منهم يحاول أن أذهب معه أولا لأكشف على متوفاه وأصرح له بالدفن لينجز عمله قبل فوات النهار.
وكنت ما أكاد أراهم حتى تنتابني آلاف المشاعر والرغبات، أقواها جميعا رغبتي في أن أضحك، ولم أكن أدري بالضبط لماذا يراودني الضحك، ولكن شيئا ما في تركيب صبيان الحانوتية هؤلاء كنت لا أكاد أراه حتى أضحك، لا من الصبيان، ولا من تزاحمهم، ولكن من الحياة نفسها، ذلك الشيء الرائع الجميل الذي نتشبث به بكل ما نملك من قوة، تلك الحياة أحيانا تضحك، وكنت لا أكتفي بالضحك بل كان لساني يتحرك، أحيانا يسخر، وأحيانا يتفلسف، وأحيانا يقول شيئا تافها لا معنى له، وفي أغلب الأحوال كنت أقول «للصبي» الذي اكتسح زملاءه في سباق الأيدي وأصبح أمامي مباشرة: «وانت، ان شاء الله، ح نكتب شهادة وفاتك انت إمتى؟!»
وكان الصبي الشيخ حينئذ يضحك، وضحكهم ليس كضحكنا، فالواحد منهم ينظر إلى الأرض، ويمط رأسه، ويعض على نواجذه، وتتسع عيناه قليلا، ثم تخرج: «هه، هه»، تخرج من حنجرة جافة شائخة لم تعد تقوى حتى على الضحك.
كانوا في العادة يضحكون كلما سألتهم ذلك السؤال، غير أني قلت لأحدهم شيئا كهذا مرة فلم يضحك، واستغربت؛ فالعادة قد جرت أن يضحك الجميع لكلامي سواء أرادوا أم لم يريدوا؛ إذ كل منهم كان يحاول إرضائي، استغربت وأمعنت النظر في «الصبي»، ولم أجده يختلف عن بقية زملائه في قليل أو كثير، فقد كانوا جميعا متشابهين، كما يتشابه الأطفال حديثو الولادة في طابور المناظرة، وكأنما يبدأ الناس متشابهين، وينتهون متشابهين، كل ما استطعت أن ألحظه من فرق أن عينيه الاثنتين كانت عليهما غشاوة رمادية داكنة كسحب الشتاء، وقلت له: «مالك؟!»
كان لا بد أن في الأمر شيئا، فقال ووجهه إلى الأرض: «يا ريت الواحد مات بدالها!» - «بدال مين؟» - «مش بنتي تعيش أنت!» - «ماتت؟!» - «أيوه، امبارح، هب فيها الوابور وماتت في المستشفى.»
ولم أصدقه، فقد قال هذا دون أن يتغير الانفعال الذي لا يبرح وجهه، وسألت «معلمه» لأتأكد، ومعلمه لم يكن رئيسه فقط، ولكنه يرأس ثلاثة صبيان شيوخ آخرين من صبيان حانوته، ولم يكن رجلا ضخما له شوارب كعادة «المعلمين»، كان شابا في الثلاثين، حليق اللحية والشارب، لونه برونزي قاتم، وملامحه شديدة الخطورة، ومع هذا كان فهلويا مضاحكا ورث الحانوت حين مات أبوه بعد أن لف ودار، وتجمعت له كل حداقة اللف والدوران، ومن حركاته وطريقة ابتسامته تحس أنه ولد لا تفوت عليه الواحدة، وإذا فاتت فبخطره فقط ورضاه، ورغم صغر سنه فقد كان يرتدي الزي التقليدي للمعلمين الكبار: طربوشا وجيها فاقع الحمرة، وجلبابا من الصوف تحته قفطان من الحرير يبدو قيطانه الأسود من فتحة الجلباب، وحذاء أسود أنيقا، وفي يده سبحة كهرمان.
سألته فأكد لي أن ما قاله الرجل صحيح، وأن بنته ماتت حقيقة في المستشفى، وقد أصبح بموتها وحيدا مقطوعا من شجرة.
وصعب على عم محمد جدا وهو واقف وقفته المنحنية المائلة، وكأنما تجذبه إلى الأرض قوة عاتية تستعجل اللحظة التي تواريه داخلها، واقف لا يبكي، ولا يدمع ولا يهز رأسه ولا ينهار.
وقلت له: «معلهش يا عم محمد! البقية في حياتك.»
وتنبهت وأنا أقول له هذا إلى أني أخمن فقط أن اسمه عم محمد وأنني لا أعرف اسمه الحقيقي، ولا أعرف إن كان محمدا أو عليا أو سمعان، كنت أناديهم جميعا بيا عم محمد، وكانوا من فرط تواضعهم وأدبهم يردون، وكأن لم يعد مهما لدى الواحد منهم أن يمتلك اسما، وضغم عم محمد الكلمات وهو يرد ويقول: «يا ريت الواحد كان مات بدالها!»
ونحن كثيرا ما نسمع تعبيرا كهذا يردده الناس في مناسبات كهذه، ولكننا نأخذه على محمل التأثر الشديد لا غير، ولكن طريقة عم محمد في قوله كانت لا تقبل الشك، وكان واضحا تماما أنه يعني ما يقول.
ومن يومها بدأت أهتم بالرجل، بل بدأت أهتم بكل عم المحمدات من أمثاله، وعرفت السر في كبر السن الذي يبدو شرطا أساسيا من شروط العمل كصبي حانوت، فمعظمهم كانوا فراشين في مدارس، أو سعاة في مصالح، أو عساكر بوليس، أو خدمة سايرة، ثم أحيلوا إلى المعاش والاستيداع بعد أن بلغوا السن، وقضوا السنوات التي أعقبت الإحالة يزاولون أعمالا أخرى، ثم حين تنهد قواهم تماما ويبلغون من العمر أرذله، ولا يعودون يصلحون لأي عمل آخر، لا يصبح أمامهم مجال لكي يأكلوا العيش إلا العمل كصبيان حانوتية، هذا إذا ساعدهم الحظ وكان هناك محل خال؛ إذ هي صنعة لا تتطلب قوة كبيرة، وأجرها ضئيل لا يرضى به أحد، لا يرضى به إلا عجوز على شفا الموت ضعفا وجوعا.
ومع هذا، ومع درجات العمر التي بلغوها، وفي تلك السن التي لا يستطيع العجوز فيها أن يفعل شيئا إلا أن يستلقي فوق فراشه وينتظر الموت، مع هذا فما أكثر ما كانوا يتعبون ويشقون!
وعشرات الرحلات قطعتها مع عم محمد.
وقبل أن تبدأ الرحلة لا بد أن تحدث المسرحية التي تتكرر كل أسبوع، فعم محمد مستعجل ويريد أن ينتهي من أخذ تصريح الدفن بسرعة ليتفرغ لغيره من المشاكل، وليرضي المعلم ويريه، كأي صبي، شطارته، ولهذا فهو لا يريد أن أكشف على المتوفى لأن معنى الكشف أن أذهب إلى بيته، والرحلة تستغرق وقتا طويلا، هو يريدني أن أمضي له التصريح ونحن في المكتب، ولكن الأوامر هي الأوامر، وعلي أن أكشف على المتوفى قبل التصريح، ويتحمس عم محمد جدا وهو يقسم بأغلظ الأيمان أن الوفاة طبيعية، وألا جناية هناك ولا شبهة، وأنه بنفسه قد خلع ملابس المتوفى وفحصه وجذب شعره وحملق في عينيه وتحسس عظامه، وأنه لا يريد سوى راحتي فقط، وأهز له رأسي علامة الرفض، فيهز رأسه علامة اليأس، ويجري أمامي ويقول: «على كيفك يا بيه! اتفضل!» ونمشي قليلا، ثم يتوقف عم محمد ويعود يقول: «والله يا بيه، دا راجل كبير في السن، وما فيه إلا شيخوخة بدون جنون.»
و«شيخوخة بدون جنون» تعبير اصطلح على إطلاقه على سبب الوفاة حين يكون المتوفى كبير السن وليست هناك علامات مرضية أخرى تصلح سببا للوفاة، وتضاف كلمة: «بدون جنون» لأسباب قانونية تتعلق بميراث المتوفى والمشاكل التي تنشب بين الورثة حوله، هذا، إذا كان قد خلف ثروة فعلا وعقارا.
وهذا الاصطلاح قد شاع وانتشر بين أطباء الصحة وموظفي المكاتب والحانوتية لدرجة أنه لم يكن من المستغرب أن يقترحها عم محمد كسبب للوفاة!
يتوقف عم محمد ويحاول محاولته الأخيرة تلك، ولا يجد لها صدى عندي فيعود يجري ويسبقني ليريني الطريق إلى بيت المتوفى، والمنطقة آهلة بالسكان والبيوت والذباب، وكل شيء قد يخطر على البال، الناس أكثر من البيوت، والبيوت أكثر من الفضاء، والذباب بمعدل مليون ذبابة لكل قاطن، والأشياء مكدسة مزدحمة، وكأنما كومها فوق بعضها مستعجل لا وقت لديه.
وعم محمد رجلاه رفيعتان مقوستان، وعرقه يسيل، وحجمه ضئيل أصغر من قرد عجوز، يكافح ليلاحق خطوي، ويكافح ويكافح ليصبح أمامي، ويزيح الناس حتى يدبر لي مكانا محترما أمر فيه، ويصنع من نفسه عسكري مرور ويوقف عربات الكارو، ويأمر باعة الخضار بالكف عن تشويحات الأيدي والزعيق حتى يمر «البيه»، ويلهث، ويحدثني، ويسليني، ويلعن الخلق والزحمة ومن يخالفون أوامره ولا يفسحون الطريق، ويقول: إن الخير زال، وأيام زمان كان الموتى على قفا من يشيل، وكانت الأشيا معدن، ويلهث، وأسأله وقد بدأت أنا الآخر ألهث، عن المتوفى وبيته، وهل لا يزال بعيدا فيقول: «خطوتين بس»، وأخطو عشرات الآلاف من الخطوات، ولا يظهر بيت ولا ميت، وموكبنا الصغير يدلف من شارع إلى زقاق ، ومن زقاق إلى خندق وحارة، أسوأ موكب، ما إن يرانا الناس حتى ترتفع الهمسات: «يا فتاح يا عليم! على الصبح! يا ترى مين مات النهارده؟!»
وعم محمد يجري أمامي ومن خلفي وعلى جانبي، خائف خوف الموت أن أزهد وأزهق فأؤجل الكشف إلى ما بعد الظهر أو الغد، وتكون الكارثة.
وأخيرا جدا نصل إلى بيت المتوفى، وقبل أن نصله يستميت عم محمد وهو يأخذ ثوبه في أسنانه ويضاعف من جريه ليسبقني ويوسع السكة.
وما أكاد أضع قدمي على الباب حتى تدوي عدة أصوات ينخلع لها قلبي، ثم يرتفع تعديد: «جالك الحكيم يا ضنايا!» وكأن القادم هو عزرائيل! ولكن عم محمد لا يأخذ باله من هذا، يرتفع صوته صارخا على ضعفه: «وسعي يا بنت انتي وهيه! اتفضل يا بيه، ياللا بلاش لكاعة! يا خويا النسوان الكتيرة دي بتيجي من أنهي داهية؟! اتفضل يا بيه.»
وتتسلل أكوام السواد والملاءات التي كانت تملأ حجرة البيت، تتسلل إلى اليمين وإلى اليسار تنقب في وجه الحكيم وتتأمله وتعلق.
ولا بد أن تأتي اللحظة التي تخلو فيها حجرة المتوفى، ولا يبقى معه سوى القريب القريب وعم محمد وأنا.
فيندفع عم محمد وهو لا يزال يلهث من المشوار والجري ويكشف عن الميت غطاءه، ويقول وكأنه يريد أن يثبت لي براءته وأنه كان على حق في أن الوفاة طبيعية: «أهه يا بيه، زي الفل أهه، والله، ما فيه جنس حاجة، أدي صدره أهه، وأدي بطنه، وأدي بقه أهه، نضيف زي الصيني بعد غسيله، وأدي شعره أهه.»
ويجذب عم محمد شعر الميت ليريني أنه لم يمت مسموما، وإلا لتساقط الشعر في يده، يجذب الشعر بقوة وعصبية فهو يريد أن يخلص، والظهر اقترب، ويقول له أهل المتوفى: «حاسب!» فيقول: «حاضر، أحاسب غصب عن عين أبويا أحاسب! وأدي الرجلين يا سعادة البيه.»
ويرفع ساقي الميت ويقول: «والله، ما في إلا شيخوخة بدون جنون، وأدي ضهره.»
ويحاول عم محمد أن يقلب الميت لأرى ظهره، ويستعين بالسيدة والحسين وكل الأولياء، ولكنه لا يستطيع، فيكش فيه المعلم ويهب قائلا: «إوع يا شيخ! جك تربة تلمك.»
ولكن عم محمد لا يتنحى، بل يظل في مكانه يساعد معلمه في قلب الميت ولو برفع ساق أو عدل يد.
وحين ينتهي الكشف ونخرج تبقى أنظار عم محمد معلقة بملامحي وكأنه ينتظر نتيجة امتحان، ولا يتنفس الصعداء إلا حين أمضي التصريح فيأخذه وكأنه نعمة هبطت لتوها من السماء، ويعض على نواجذه وتتسع عيناه وكأنه يبتسم ويقول: «مش برضه شيخوخة بدون جنون يا بيه؟! مش قلتلك؟! أنا كنت بس عامل على تعبك.»
ثم تنطلق سيقانه المقوسة الرفيعة تجري وتسبقني إلى المكتب.
ومرة لمحت في عين عم محمد دمعة؛ دمعة صغيرة دقيقة وكأنها آخر دمعة في حصالة عينيه، وكانت على أثر قلم سريع خاطف ناله من المعلم، كان قد ارتكب خطأ ما؛ إذ حين ذهبت لأكشف على متوفى لم يكن قد خلع عنه كل ملابسه، وقبل أن ألوم المعلم على هذا الإهمال أو أؤنبه، كان هو قد هوى بكفه على صدغ عم محمد في صفعة سريعة خاطفة وكأنما ليقرر بها أن الذنب ذنب صبيه، ويريني أن العقاب قد أنزل ولم يعد هناك داع لكلمة لوم واحدة مني، وتولاني غضب جامح، أما عم محمد فالعجيب أنه لم يثر، ولم يحتج، ولم يترك الغرفة، بل وقف ويده مثبتة فوق مكان الصفعة، وعلى وجهه إحساس بالذنب، تماما كما يفعل أي صبي صغير حين يخطئ ويعاقبه المعلم.
وذهبت إلى المكتب مرة فوجدت حشدا كبيرا من العم محمدات، وكانوا يبدون إذا وقفوا معا وسط ما يحفل به المكتب من نساء صغيرات وأطفال ورجال، يبدون كقبضة من قش الأرز في وسط باقة من الزهور، وكانوا إذا وقفوا معا لا يتحدثون كما تفعل جماعات الناس، بل يقفون ساكتين صامتين وكأنهم من طول ما تكلموا في أعمارهم الطويلة قد ملوا الكلام.
واستغربت؛ إذ لم أتعود وجودهم في جماعات كبيرة كتلك، وما إن رآني المعلم الشاب حتى أقبل هاشا باشا متهلل الوجه مصبحا بالفل والياسمين والقشطة ومقبلا الأيادي، ولم يسلم الأمر من ضحكة عريضة جوفاء رددها، ثم بدا عليه تأثر مفاجئ وضم قبضته على بطنه وقال: «اسكت يا شيخ!» - «إيه؟!» - «مش الراجل مات!» - «راجل مين؟»
قلتها وأنا أكاد أضحك، فقد كان من عادة المعلم أن يحدثني عن أشياء لا أعرفها وكأني أعرفها، ولكنه قال: «الصبي بتاعنا.» - «عم محمد؟!» - «تعيش انت.»
وفي الحال اتخذت سيماه طابع العمل وقال: «بس والنبي يا دكتور، عايزين تخلص لنا تصريح الدفن بتاعه بسرعة، إنت عارف، الدنيا صيف، وده راجل عضمة كبيرة.»
وضحكت، فلم أصدق أن عم محمد مات حقيقة، فقد كان معي بالأمس يجري أمامي وخلفي وعلى جانبي، ثم لما تصورته ميتا ضحكت، لا لأني لم أحزن، ولكن لأن هناك نوبات من الحزن تأتي على هيئة ضحكات، ثم إن معلمه كان يستعجل تصريح دفنه بنفس الطريقة التي يستعجل بها تصاريح الزبائن!
وقال المعلم وهو يستحثني: «هيه يا بيه! قلت إيه؟»
فقلت: «بقى الراجل يعملها ويموت؟!»
فقال المعلم: «أيوه، ولولا ربنا بعت لنا صبي غيره كانت بقت وقعة النهارده!» - «صبي غيره؟!» - «أهه، تعال يا جندي.»
وجاء جندي، عجوز آخر طاعن في السن، ولكنه لم يكن قد ارتدى الزي الرسمي بعد، فعلى رأسه كان ثمة طربوش قديم قد انهار وتكوم في كتلة لا شكل لها ولا معنى.
وقال المعلم: «امضي لنا التصريح بقى يا بيه.»
فقلت له: «لا، أنا لازم أروح أشوفه.»
فعاد يقول: «يا بيه، هو غريب؟! ما أنت عارفه! أنا بس عامل على تعبك، هو أنا ح أضحك عليك؟! دا راجل مسن، صرح لنا من هنا وخلاص، شيخوخة بدون جنون، والله، ما في غيرها.»
وتطوع أكثر من صبي من صبيان الحانوتية والواقفين بالرجاء والإلحاف ومساندة المعلم، كانوا زملاء الفقيد قد جاءوا بلا ريب تدفعهم الرغبة لعمل شيء للزميل الراحل.
غير أني أصررت على الذهاب ولو لألقي على عم محمد نظرة الوداع، فللرفقة حق، ولقد كان رفيق الطريق.
وبعد قليل غادرنا المكتب للكشف على عم محمد.
وكان موكبا رهيبا، كنت في المقدمة وبجواري المعلم وقد رفع ذيل جلبابه بيد وراح يحدثني بيده الأخرى وبأصابعه وهزات رأسه عن «خرجة» عم محمد، وكيف سيخرجه هو على نفقته مع أن الوقت غير ملائم والدنيا على كف عفريت.
وخلفنا كانت جمهرة العم محمدات.
وكان الموكب رهيبا إلى الدرجة التي توقف الحركة في الشارع وتدفع الناس إلى التساؤل عن الميت الهائل الذي يتطلب الكشف عليه هذا العدد العديد من الحانوتية وصبيانهم.
وكان البيت الذي يقطن فيه عم محمد بعيدا عند سفح الجبل، وعبارة عن حوش واسع، في وسطه كومة هائلة من الزبالة وحولها حجرات أكثرها منهار، ومع هذا فلكل حجرة سكان وقاطنون.
ولم يثر مقدمنا ضجة ولا صراخا ولا صخبا، كان كل شيء هادئا وكأن لم يمت أحد، كل ما حدث أن بعض الكلاب هبهبت فصرخ فيها المعلم وأبعدها.
وكانت الحجرة مظلمة لا يضيئها غير النور الداخل من الباب، وكان عم محمد راقدا بجوار الحائط ومغطى بأوراق جرائد ألمانية قديمة لا يدري أحد كيف جاءت إلى هذا المكان.
وزعق المعلم في «الصبي» الجديد: «اكشف يا جدع.»
وانحنى الصبي الشيخ بسرعة، وأزاح الجرائد ويده تهتز وترتعش، وبدا عم محمد ممددا وميتا ووجهه إلى الحائط كالتلميذ المذنب، كان ممددا بنفس ملابس الشغل وجسمه الصغير يكاد يتكور على نفسه وقدماه اللتان طالما لفتا الدنيا جريا في جري، كانتا مسكينتين وعليهما حذاء سميك من الطين الجاف والتراب.
وقال المعلم: «أهه، ما فيش حاجة بتاتا، اقلب يا جدع، اقلبه على ضهره وريه للبيه.»
ومد الصبي العجوز يديه وحاول قلب الجثة ففشل وحينئذ رأيت وكأن عم محمد ينبري له من ميتته وينتفض مستديرا بطريقته الخفيفة النشطة: «أوعى يا جدع، جك تربة تلمك! أنا هه، اتفضل يا بيه، أنا اللي أقلب نفسي، بس كان لزومه إيه تعبك يا بيه؟! أنا هه؛ نضيف زي الفل، ما فياش صنف حاجة، آدي يا سيدي، رجليه أهه.»
ومد عم محمد رجليه، فبدتا كجريدتين رفيعتين من جرائد النخل وقد نزع عنهما السعف. - «وآدي جسمي أهه.»
وخلع ملابسه بسرعة، ووقف في وسط الحجرة عاريا كما ولدته أمه، وبدا جسده جافا ناشفا، ليس فيه درهم واحد من اللحم، ويبدو أن الإنسان كالنبات؛ يولد بذرة ويظل ينمو وتخضر أوراقه، ثم يزدهر في شبابه وتنفتح وروده، ثم ينضج وتتكون له الثمار في الرجولة، وبعد ما يخلف ويؤدي رسالته في الحياة ويصبح عجوزا يحدث له ما يحدث للنبات بعد قطف ثماره فيجف، وتبرز عظامه، ويتناقص لحمه حتى ينتهي إلى شيء كعود القطن الجاف بعد جمعه، ومضى عم محمد يقول وهو يستدير ليستعرض جسده: «مش قلتلك يا بيه! عضمة كبيرة، وآدي دراعه أهه.»
وحاول عم محمد جذب ذراعه فلم يستطع؛ إذ يبدو أن الروماتيزم الذي كان يشكو لي منه دائما قد جففها تماما وجمدها، فتركها عم محمد يائسا وانتقل إلى رأسه: «وآدي الراس.»
رأس قد صغر الكبر حجمه حتى استحال إلى جمجمة كروية صغيرة، فكها الأسفل يلتوي إلى أعلى، والأعلى يلتوي إلى أسفل، وملامحها كلها تكاد تنشفط داخل الفم. - «وآدي الشعر أهه.»
وجذب عم محمد بكلتا يديه الشعرات القليلة المتبقية في رأسه. - «وآدي رجليه أهه.»
ومد أقداما شاحبة جدا، وكأنها ماتت من عشرات السنين.
ويبدو أن المجهود الذي بذله في عرض نفسه قد أنهكه، فقد قال وهو يعود إلى رقدته، ويعود إلى مواجهة الحائط: «كنت ريحت نفسك يا بيه، ما قلتلك، والله، ما في إلا شيخوخة بدون جنون.»
وعدت إلى نفسي على قول المعلم: «هه، قلت إيه؟»
فقلت له: «غسل.»
وفي الحال بدأت حركة هائلة في الحجرة، وخلع المعلم جلبابه الصوف، ووقف كالقبطان تصدر منه الأوامر.
وبعد قليل كان عم محمد قد استقر في النعش، وكان النعش محمولا على أكتاف الزملاء «التربية»، وكانوا يتمايلون به وهم يغادرون البيت بلا صوت واحد يدوي ويودع عم محمد، أو صرخة.
وما كاد المعلم يطمئن إلى أن كل شيء قد انتهى، وأنه قد قام بواجبه وأخرج صبيه على خير ما يرام، حتى فوجئت به يتراجع ويجلس على قرافيصه بجوار الحائط، ويخفي رأسه بين ركبتيه، ويخرج صوته خشنا مكتوما يتخلله البكاء: «يا ولداه! يا عم محمد!»
وبعد أن ذهبت نوبة بكائه، رفع رأسه وقال بعينين محمرتين وقد تذكر الرسميات: «مش مضيت له التصريح يا دكتور؟»
وهززت رأسي، فعاد يقول: «مش برضه ...؟»
فقلت: «أيوه، شيخوخة.»
ومسح دموعا تكونت في عينيه وهو يقول: «بدون جنون؟»
فأجبته: «أيوه، بدون جنون.»
طبلية من السماء
أن ترى إنسانا يجري في شارع من شوارع منية النصر، فذلك حادث، فالناس هناك نادرا ما يجرون، ولماذا يجرون وليس في القرية ما يستحق الجري؟! المواعيد لا تحسب بالدقائق والثواني، والقطارات تتحرك في بطء الشمس، قطار إذا طلعت، وآخر حين تتوسط السماء، ومع مغيبها يفوت واحد، ولا ضجيج هناك يثير الأعصاب ويدفع إلى التهور والسرعة، كل شيء بطيء، هادئ عاقل، وكل شيء قانع مستمتع ببطئه وهدوئه ذاك، والسرعة غير مطلوبة أبدا، والعجلة من الشيطان.
أن ترى واحدا يجري في منية النصر، فذلك حادث، وكأنه صوت السيرينة في عربة بوليس النجدة، فلا بد أن وراء جريه أمرا مثيرا، وما أجمل أن يحدث في البلدة الهادئة البطيئة أمر مثير!
وفي يوم الجمعة ذاك، لم يكن واحد فقط هو الذي يجري في منية النصر، الواقع أنه كانت هناك حركة جري واسعة النطاق، ولم يكن أحد يعرف السبب، فالشوارع والأزقة تسبح في هدوئها الأبدي، وينتابها ذلك الركود الذي يستتب في العادة بعد صلاة الجمعة حيث ترش أرضها بماء الغسيل المختلط بالرغوة والزهرة ورائحة الصابون الرخيص، وحيث النسوة في الداخل مشغولات بإعداد الغداء والرجال في الخارج يتسكعون ويتصعلكون إلى أن ينتهي إعداد الغداء، وإذا بهذا الهدوء كله يتعكر بسيقان ضخمة غليظة تجري وتهز البيوت، ويمر الجاري بجماعة جالسة أمام بيت فلا ينسى وهو يجري أن يلقي السلام، ويرد الجالسون سلامه ويحاولون سؤاله عن سبب الجري، ولكنه يكون قد نفذ، حينئذ يقفون ويحاولون معرفة السبب، وطبعا لا يستطيعون، وحينئذ يدفعهم حب الاستطلاع إلى المشي، ثم يقترح أحدهم الإسراع فيسرعون ويجدون أنفسهم آخر الأمر يجرون، ولا ينسون أن يلقوا السلام على جماعات الجالسين، فتقف الجماعات ولا تلبث أن تجد نفسها تجري هي الأخرى.
غير أنه مهما غمض السبب، فلا بد في النهاية أن يعرف، ولا بد أن يتجمع الناس في مكان الحادث بعد قليل؛ فالبلدة صغيرة، وألف من يدلك، وقبل أن تلهث تكون قد قطعتها طولا وعرضا.
وهكذا لم يمض وقت طويل حتى كان قد تجمع عند الجرن عدد كبير من الناس، كل من في استطاعته الجري كان قد وصل، ولم يبق مبعثرا في الطريق غير كبار السن والعواجيز الذين آثروا التمشي حتى يبدوا كبارا في السن، وحتى يبدو ثمة فرق بينهم وبين الشبان الصغار والعيال، ولكنهم كانوا أيضا يسرعون وفي نيتهم أن يصلوا قبل فوات الأوان، وقبل أن يصبح الحادث خبرا.
ومنية النصر كغيرها من بلاد الله الواسعة تتشاءم من يوم الجمعة، وأي حادث يقع فيه لا بد أنه كارثة أكيدة، ليس هذا فقط، بل إنهم، مبالغة في التشاؤم، لا يجرءون على القيام بأي عمل في هذا اليوم بالذات، مخافة أن يصيبه الفشل، وعلى هذا تؤجل الأعمال كلها إلى يوم السبت، وإذا سألت: لماذا هذا التشاؤم؟ قالوا لك: لأن في يوم الجمعة ساعة نحس. ولكن الظاهر أن السبب الحقيقي ليس هذا، والظاهر أن ساعة النحس هذه حجة ليس إلا، ووسيلة يستطيع بها الفلاحون أن يؤجلوا عمل الجمعة إلى السبت، وبهذا يصبح يوم الجمعة راحة، ولكن الراحة كلمة بشعة عند الفلاحين، الراحة إهانة لخشونتهم وقدرتهم الخارقة على العمل التي لا تكل، الراحة لا يحتاجها إلا أبناء المدن فقط ذوو اللحوم الطرية الذين يعملون في الظل، ومع هذا يلهثون، الراحة الأسبوعية بدعة إذن، إلا أن يكون يوم الجمعة شؤما وفيه ساعة نحس، وحينئذ فقط من الجائز أن تؤجل الأعمال لتتم في يوم السبت.
ولهذا كان الناس يتوقعون أن يكون سبب حركة الجري هذه مصيبة كبرى حلت بأحد، ولكنهم حين يصلون إلى الجرن لا يجدون بهيمة فطسى ولا حريقا قائما، ولا رجلا يذبح رجلا.
كانوا يجدون الشيخ عليا واقفا في وسط الجرن، وهو في حالة غضب شديد وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بعصاه وراح يهزها بعنف، وحين يسألون عن الحكاية، يقول لهم السابقون: «الشيخ ح يكفر»، وكان الناس حينئذ يضحكون، فلا ريب أن تلك نادرة أخرى من نوادر الشيخ علي الذي كان هو نفسه نادرة، فرأسه كبير كرأس الحمار، وعيناه واسعتان مستديرتان كعيون أم قويق، وله في ركن كل عين جلطة دم، وصوته إذا تكلم يخرج مبحوحا مكتوما كصوت الوابور إذا انكتم نفسه وشحر، ولم تكن له ابتسامة، فقد كان لا يبتسم أبدا، إذا انبسط - ونادرا ما ينبسط - قهقه، وإذا لم ينبسط كشر، وكلمة واحدة لا تعجبه يتعكر دمه حتى يستحيل إلى مازوت وينقض على قائلها، قد ينقض عليه بيده ذات الأصابع الغليظة كالصوامع، أو قد ينقض عليه بعصاه، وعصاه كان لها عقفة، وكانت من خيزران غليظ، وكان لها كعب من حديد، وكان يحبها ويعزها ويسميها الحكمدار.
أرسله أبوه ليتعلم في الأزهر، وهناك أخطأ شيخه مرة وقال له: «إنت بغل!» فما كان من الشيخ إلا أن رد عليه وقال: «إنت ستين بغل!» ولما رفدوه وعاد إلى منية النصر عمل خطيبا للمسجد وإماما، ونسي ذات يوم وصلى الجمعة ثلاث ركعات، ولما حاول المصلون وراءه تنبيهه لعن آباءهم جميعا وطلق من يومها الإمامة والجامع، ولأجل خاطرهم طلق الصلاة، وتعلم الكوتشينة وظل يلعبها حتى باع كل ما يملكه، وحينئذ حلف بالطلاق أن يبطلها، وكان محمد أفندي المدرس بالمدرسة الابتدائية في البندر فاتحا دكان بقالة في البلدة، عرض على الشيخ علي أن يقف في الدكان ساعات الصباح فقبل، ولكنه لم يعمل إلا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع كان محمد أفندي واقفا أمام الدكان يتصبب حلاوة طحينية، فقد اكتشف الشيخ علي أن محمد أفندي يضع قطعة حديد في الميزان ليطب، وقال له الشيخ علي: «إنت حرامي!» وما كاد محمد أفندي يقول: «لايمها يا شيخ علي، واسكت، وخليك تاكل عيش»، حتى قذفه الشيخ علي بكتلة الحلاوة الطحينية، ومن يومها لم يجرؤ أحد على أن يعهد للشيخ علي بعمل، وحتى لو كان قد جرؤ، فالشيخ علي نفسه لم يكن متحمسا لأي عمل.
وكان هذا الشيخ علي قبيحا، ضيق الصدر، لا عمل له، ومع هذا لم يكن في البلدة من يكرهه، كان الجميع يحبونه ويعشقونه ويتداولون نوادره، وألذ ساعة هي تلك التي يجلسون فيها حوله يستفزونه ليغضب، وغضبه كان يضحكهم، كان إذا غضب، واربدت ملامحه، وانكتم صوته، كان الواحد منهم لا يتمالك نفسه ويموت من الضحك؟ ويظلون يستفزونه ويظل هو يغضب، ويضحكون حتى ينفض المجلس، وعلى كل لسان كلمة: «الله يجازيك، يا شيخ علي!» ويتركونه وحيدا ليصب جام غضبه على «أبو احمد»، فقد كان يسمي الفقر «أبو احمد»، وكان يعتبره عدوه الوحيد اللدود، ويتحدث عنه كما لو كان آدميا موجودا له اسم ولحم ودم، وكانت مجالسه تبدأ حين يسأله أحدهم: «أبو احمد عمل فيك إيه يا شيخ علي النهارده؟»
وكان الشيخ علي يغضب حينئذ غضبا حقيقيا؛ ذلك لأنه لم يكن يحب أن يحدثه أحد عن فقره، إذا تحدث هو كان به، أما أن يتحدث الناس عن فقره فذلك شيء يدفع إلى الغضب! فالشيخ علي كان خجولا جدا رغم قسوة ملامحه وكلامه، وكان يفضل أن يبقى أياما بلا دخان على أن يطلب من أحدهم أن يلف له سيجارة، وكان يحمل معه على الدوام إبرة وفتلة لرتق جلبابه إذا تمزق، وإذا اتسخ ذهب بعيدا عن البلدة وغسل ثيابه وظل عاريا حتى تجف؛ ولذلك كانت عمامته الوحيدة أنظف عمامة في البلدة.
كان حريا إذن بأهل منية النصر أن يضحكوا من هذه النادرة الجديدة، ولكن الضحكات كانت تموت في الحال! والألسن تتراجع خائفة إلى الحلوق، وكأنما لدغتها عقارب! فكلمة الكفر كلمة بشعة، والبلدة مثل غيرها من البلاد تحيا في أمان الله، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، الناس الطيبون الذين لا يعرفون إلا أعمالهم وبيوتهم، واللصوص الصغار الذين يسرقون كيزان الذرة، والكبار الذين ينقبون الزرائب ويسحبون البهائم من أنوفها بالخطاطيف، والتجار الذين يتاجرون بالمئات، وتجار القروش، والنساء الملعبات غير المعروفات، وأولئك المعروفات على نطاق البلدة كلها، والصادقون والكاذبون والخفراء، والمرضى والعوانس والصالحون، فيها كل ما تحفل به سائر البلاد، ولكن الجميع تجدهم في الجامع إذا أذن المؤذن للصلاة، ولا تجد واحدا منهم فاطرا في رمضان، وثمة قوانين مرعية تنظم حياة الكل ويسمونها الأصول، فلا يتعدى اللص على لص، ولا أحد يعير أحدا بصنعته، ولا يجسر واحد على تحدي الشعور العام، وإذا بالشيخ علي يقف ويخاطب الله هكذا بلا إحم ولا دستور!
كانوا يضحكون قليلا، ولكنهم ما يكادون يسمعون ما يقوله حتى يتولاهم وجوم.
كان رأسه عاريا، وشعره القصير يلمع بالعرق وبالشيب، والعصا الحكمدار في يمينه وعيناه تنفثان حمما، وفي وجهه غضب أحمق شديد، وكان يقول موجها كلامه إلى السماء: «إنت عايز مني إيه؟! تقدر تقول لي، إنت عايز مني إيه؟! الأزهر، وسبته عشان خاطر شوية المشايخ اللي عاملين أوصيا ع الدين، ومراتي، وطلقتها، والدار، وبعتها، وأبو احمد، وسلطته علي دونا عن بقية الناس! هو ما فيش في الدنيا دي كلها إلا اني؟! ما تنزل غضبك يا رب على تشرشل ولا زنهاور! مش قادر إلا علي اني؟! عايز مني إيه دلوقت؟! المرات اللي فاتت كنت بتجوعني يوم وباستحمل، واقول: «يا واد، كأننا في رمضان! واهو يوم وينفض»، المرة دي بقالي ماكلتش من أول امبارح العصر، وسجاير ممعييش سجاير بقالي أسبوع، ومزاج حد الله ما دقته بقالي عشرة ايام، وأنت بتقول فيه في الجنة عسل نحل وفواكه وأنهار لبن، ما بتدنيش منهم ليه؟! مستني اما اموت م الجوع علشان أروح الجنة وآكل من خيرك؟! لا، يا سيدي، يفتح الله! احييني النهارده، وأبقى بعد كده وديني مطرح ما توديني! يا أخي، ما تبعد عني أبو احمد ده، ما تبعته أمريكا، هو كان انكتب علي؟! أنت بتعذبني ليه؟! آني ما حلتيش إلا الجلابية دي، والحكمدار، عايز مني إيه؟! يا تغديني دلوقتي حالا، يا تاخدني حداك على طول، ح اتغديني والا لأ؟!»
كان الشيخ علي يقول هذا بانفعال رهيب، حتى لقد تكوم الزبد فوق فمه، وطماه العرق، وامتلأ صوته بحقد فاض عن حده، وأهل منية النصر واقفون وقلوبهم تكاد تسقط من الرعب، كانوا خائفين أن يسوق الشيخ علي فيها ويكفر، ولم يكن هذا فقط مبعث خوفهم، فالكلمات التي يقولها الشيخ علي خطيرة، قد تغضب الله - سبحانه وتعالى - وقد تحل ببلدهم من جراء ذلك نقمة تأتي على الأخضر واليابس، كان كلام الشيخ علي يهدد البلدة الآمنة كلها، وكان لا بد من إسكاته، وعلى هذا بدأ العقلاء يطلقون من بعيد كلمات طيبات يرجون فيها من الشيخ علي أن يعود إليه رشده ويسكت، وترك الشيخ علي السماء قليلا، والتفت إليهم: «أسكت ليه؟! يا بلد دون، أسكت لما اموت م الجوع؟! أسكت ليه؟! خايفين على بيوتكم ونسوانكم وزرعكم، اللي حداه حاجة يخاف عليها، إنما انا مش خايف على حاجة، إن كان زعلان مني ياخدني، إنما وديني وما أعبد، إن جه حد ياخدني إن شالله يكون عزرائين لمدشدش على رأسه الحكمدار، وديني، ماني ساكت إلا اما يبعت لي مائدة من السما حالا! أنا مش أقل من مريم! هي مهما كانت حرمة، إنما انا راجل، وهي ماكنتشي فقيرة، إنما انا أبو احمد طلع ديني! وديني وما أعبد، ماني ساكت إلا أما يبعت لي حالا مائدة!»
والتفت الشيخ علي إلى السماء وقال: «هه! ح تبعتها حالا دلوقتي، والا ما أخلي ولا أبقي حدا إلا ما أقوله؟! مائدة حالا! جوز فراخ، وطبق عسل نحل، ورصة عيش ساخن، على شرط عيش ساخن! واوع تنسى السلطة! وديني، لعادد لغاية عشرة، وان ما نزلت المائدة ماني مخلي ولا مبقي.»
ومضى الشيخ علي يعد، وقلوب منية النصر تعد معه مقدما، والأعصاب قد بدأت تتوتر، وأصبح لا بد من عمل شيء لإيقاف الشيخ علي عند حده، واقترح أحدهم أن يلتف جماعة من شباب البلدة الأقوياء حوله ويوقعوه أرضا، ويكمموا فاه، ويعطوه علقة لا ينساها، غير أن نظرة واحدة ألقاها الشيخ علي من عينيه المشتعلتين بالغضب المجنون أذابت الاقتراح، فمن المستحيل أن ينالوا الشيخ علي قبل أن يخبط هو خبطة أو خبطتين برأس الحكمدار، وكل شاب قد قدر أن الخبطة ستكون من نصيبه، والذي يهدد بدشدشة رأس عزرائين كفيل بدشدشة رأس الواحد منهم؛ وعلى هذا ذاب الاقتراح.
وقال له أحدهم في فروغ بال: «ما انت طول عمرك جعان يا راجل! اشمعنى النهارده؟!»
وأصابته نظرة نارية من الشيخ علي، وأجابه: «المرة دي، يا عبد الجواد يا معصفر، الحكاية طالت!»
وزعق فيه آخر: «طب يا أخي، لما انت جعان مش تقول لنا واحنا نوكلك بدل الكلام الفارغ اللي انت قاعد تقوله ده؟!»
وهب فيه الشيخ علي: «أني أطلب منكم؟! أني أشحت منكم يا بلد جعانة؟! دا انتو جعانين أكتر مني! أقوم أشحت منكم؟! أني جاي اطلب منه هو، واذا ما أدانيش ح اقدر اعرف شغلي.»
وقال له عبد الجواد: «ما كنت تشتغل يا أخي وتاكل، يخفى وجهك!»
وهنا بلغ الغضب بالشيخ علي منتهاه، وتزربن وراح يهتز ويصرخ، ووزع كلامه بين الجمع المحتشد عن بعد وبين السماء: «وانت مالك يا عبد الجواد يابن ست ابوها؟! مانيش مشتغل! مش عايز اشتغل! ما بعرفش اشتغل! مش لاقي شغل! هو شغلكو ده شغل؟! يا عالم بقر! دا شغلكو ده شغل حمير! واني مش حمار، أني ما أقدرش يتقطم وسطي طول النهار، ما اقدرشي اتعلق في الغيط زي البهيمة يا بهايم، يلعن أبوكو كلكو! مانيش مشتغل! والنبي لو حكمت اموت م الجوع ما اشتغل شغلكوا أبدا.»
وكان غضبه شديدا إلى الدرجة التي جعلت الناس تضحك بالرغم منها، وبرغم الموقف الرهيب الذي كانوا فيه.
وانتفض الشيخ علي انتفاضة عظيمة وقال: «هه! ح أعد لغاية عشرة والنبي إن ما بعت لي مائدة لكافر وعامل ما لا يعمل.»
وكان واضحا أن الشيخ علي حقيقة لن يتراجع، وأنه ينوي أن يلبخ، ويحدث حينئذ ما لا تحمد عقباه.
وبدأ الشيخ علي يعد، وبدأت نقاط العرق تنبت على الجباه، وأصبح حر الظهر لا يطاق، حتى إن بعضهم تهامس أن النقمة لا بد قد بدأت تحل، وأن ذلك الحر الفظيع إن هو إلا مقدمة للحريق الهائل الذي سوف ينشب، ويأتي على كل القمح الواقف والمحصود.
وأخطأ أحدهم مرة وقال: «ما تشوفولوا لقمة يا ولاد، يمكن يهبط.»
ويبدو أن الكلمة وصلت إلى أذن الشيخ علي مع أنه كان يعد بصوت عال مرتفع، فقد استدار إلى الجمع قائلا: «لقمة إيه يا بلد غجر؟! لقمة من عيشكو المعفن وجبنتكم القديمة اللي كلها دود؟! وده أكل؟! وديني، مانى ساكت إلا اما تنزل لي المائدة لغاية هنا هه، وعليها جوز فراخ.»
وسرت همهمة كثيرة في الجمع، وقالت ولية من الواقفات: «أني طابخة شوية بامية حلوين، يا خويا، أجيب لك صحن؟»
وصرخ فيها الشيخ علي: «إخرسي يا مرة! بامية إيه يا بلد كلها قرون؟! دا عقولكو بقت كلها بامية! وريحة بلدكو زي ريحة البامية الحامضة!»
وقال أبو سرحان: «حدانا سمك صابح يا شيخ علي، شاريينه لسه من احمد الصياد.»
وزأر فيه الشيخ علي: «سمك إيه بتاعكو ده؟! اللي قد العقلة يا بلد «صير»! هو ده سمك؟! وديني، إن ما بعت جوز فراخ والطلبات اللي قلت لك عليها لشاتم وزي ما يحصل يحصل!»
وأصبح الوضع لا يحتمل، إما السكوت وضياع البلدة ومن فيها، وإما إسكات الشيخ علي بأي طريقة، وانطلقت مائة حنجرة تعزم عليه بالغداء، وانطلق صوته مائة مرة يرفض، ويصر على الرفض ويقول: «ماني قاعد على اللضى يا بلد! بقى لي تلات ايام ما حدش عزم علي بلقمة! حليت العزومة دلوقتي؟! وديني، مانى ساكت إلا اما تيجي المائدة من عند ربنا!»
واستدارت الرءوس تسأل عمن طبخ في هذا اليوم؛ إذ إن كل الناس لا يطبخون كل يوم، وأن يكون لدى أحدهم «زفر» أو فراخ يعد حادثا جللا، وأخيرا وجدوا عند عبد الرحمن رطل لحمة «بتلو» مسلوقا بحاله، فأحضروه على طبلية، وأحضروا معه فجلا، وجوزين عيش مرحرح، ومخ بصل، وقالوا للشيخ علي: «يقضيك ده؟»
وتردد بصر الشيخ علي بين السماء والطبلية، وكلما نظر إلى السماء قدحت عيناه شررا، وكلما نظر إلى الطبلية احتقن وجهه غضبا، والجمع يغمره السكون، وأخيرا نطق الشيخ علي وقال: «بقى أني عايز مائدة يا بلد غجر، تجبولي طبلية؟! وفين علبة السجاير ؟»
وأعطاه أحدهم صندوق دخانه.
ومد يده وتناول قطعة كبيرة من اللحم، وقبل أن يتاويها في فمه قال: «وحتة المرة فين؟!»
فقالوا له: «حقة! إلا دي!»
وهاج الشيخ علي وقال: «طب هه!» وترك الطعام، وخلع جلبابه وعمامته وراح يهز عصاه ويهدد بالكفر من جديد، ولم يسكت إلا بعد أن أحضروا مندور تاجر المر، وبلبع له فصا، وقال له: «خد! خد يا شيخ، مش خسارة فيك! أصلنا ما حدناش نظر! وماكناش عارفين إنك بتنكسف تطلب، الناس تقعد وياك وتنبسط، وبعدين تدلدل ودانها وتمشي وتسيبك! وإحنا لازم نشوف راحتك يا شيخ، هي بلدنا من غيرك أنت وابو احمد تسوى بصلة؟! أنت تضحكنا وإحنا نأكلك! إيه رأيك في كده؟!»
وغضب الشيخ علي غضبا شديدا، وطار وراء مندور وهو في قمة الغيظ ومضى يهز الحكمدار وهو يكاد يهوي بها على رأسه ويقول: «أنا أضحكوا؟! هو أني مضحكة يا مندور يا ابن البلغة؟! امش، داهية تلعنك وتلعن أبوك!»
وكان مندور يجري أمامه وهو يضحك، وكان الناس يتفرجون على المطاردة وهم يضحكون، وحتى حين طار الشيخ علي وراءهم جميعا وهو يسبهم ويلعنهم كانوا لا يزالون يضحكون.
ولا يزال الشيخ علي يحيا في منية النصر، ولا تزال له في كل يوم نادرة، ولا يزال سريع الغضب، ولا يزال الناس يضحكون من غضبه، غير أنهم من يومها عرفوا له، فما يكادون يرونه واقفا وسط الجرن وقد خلع جلبابه وعمامته وأمسك بالحكمدار في يده وراح يهزها في وجه السماء، حتى يدركوا أنهم نسوا أمره وتركوا «أبو احمد» ينفرد به أكثر من اللازم، وحينئذ، وقبل أن تتسرب من فمه كلمة كفر واحدة، تكون الطبلية قد جاءته، وعليها ما يطلبه، وأحيانا يرضى بما قسم الله، وأمره إلى الله.
اليد الكبيرة
هبطت من القطار في العصر، ودائما أصل بلدنا في العصر، والمحطة على ناحية من السكة الحديد، وبلدنا على ناحية، والشمس صفراء، في صفرتها هدوء وسكون ومرض، وبلدنا أيضا تقبع صفراء ببيوتها المصنوعة من الطين، وأشجارها، حتى قمم النخيل كانت تظللها صفرة.
ورمقني نفر من دائمي الجلوس على كنبة المحطة؛ إذ هي مكان صالح للجلوس الفارغ، لا أحد يطرد الجالس ولا يطلب منه الثمن، رمقني ذلك النفر بنظرة، لا بد أن كان فيها رثاء، ومشيت والقطار لا يزال واقفا برأسه الأسود البشع السواد، والأصوات الخشنة القبيحة التي لا تكف عن الصدور منه، والعين الواسعة المدورة الحمراء التي تنفتح في داخله بين الحين والحين وتنفث جحيما؛ جحيما أحمر، الرأس الذي طالما أخافنا ونحن صغار بأفظع مما كان يخيفنا رأس أم الغول، هذه المرة، عبرت القضيب الحديدي من أمامه وأنا لا أحفل بشيء ولا أخاف الموت.
وكنت حين أصبح على المشاية الضيقة التي توصل إلى داخل البلدة وإلى دارنا، أحس إحساسا غريبا بأني أخيرا عدت، ودائما كنت أصادف في طريقي ثلاثة أو أربعة من أهل بلدنا منتشرين في تلك البقعة، وأقول لهم: سلام عليكم، ويجيبونني ويرحبون بي، وهم يرمقونني، ويرون ما أحدثته السنون في من تغيير، وأرى ما أحدثته السنون فيهم من تغيير، رأيتهم وأنا طفل، ورأوني وهم شباب، واليوم لم أعد طفلا ولم يعودوا شبابا، الزمن! الزمن الغادر الذي لا أمان له لا يكف عن المضي، ونحن لا نكف عن الكبر، ولا نكف عن الاقتراب من النهاية، ونحن لا نحس بالزمن إلا إذا رأيناه، ونحن نرى ما أحدثه الزمن في الآخرين فنتوقع أننا لا بد أننا نحن الآخرين كبرنا.
وقريتنا دائما هادئة، لا صوت، لا زعيق، لا شجار، لا شيء، هواء يداعب ما على الأسطح من حطب، وقوافل الإوز ساكنة لا تكاكي، وكل شيء من الطين، والأرض فوقها تراب، وفي السماء دخان المواقد، والناس يتحركون في صمت ووجوم وبلا حماس، كمن يدرك ألا داعي للعجلة مطلقا، ولا فائدة في الحركة، الناس صامتون، كأنما ينتظرون يوم القيامة ليتكلموا، أو ينتظرون الموت.
وأعرف أني إذا وضعت قدمي على المشاية فسأرى بيوتا، على عتباتها نسوة، وتعودت من صغري أن أغض طرفي حين أمر، وتعودن أن يتهامسن بعد مروري، يحدقن في وأنا قادم ثم يتهامسن.
والمشاية قطعتها عشرات الآلاف من المرات، إلى الابتدائية ببنطلون قصير، وتعلمت فيها ركوب العجلة، وجريت فرحا بنجاحي في الامتحان، وتزحلقت أيام المطر، ولعبت فيها مع الأولاد بالليل، وفي آخرها بيتنا له سور، وباب من الصاج، وأمامه مباشرة باب جارتنا بديعة، وهي دائما أمام الباب، أطفالها حولها وهم صغار، والنسوة حولها لما كبر الأطفال، ودائما تصنع شيئا، تدعك النحاس، أو تنسف الغلة، أو تسأل عن فرحة ضائعة، ومن لحظة أن تراني هالا من أول المشاية، تلمحني، وتفرح ثم تنهمك فيما تصنعه، فهي تريدني أن أقول لها: «العواف»، تريدني، فقد كنت من سنين طويلة طفلا، أعطش إذا لعبت وجريت وأذهب لأشرب من عندها خوفا أن تضربني أمي إذا ذهبت لبيتنا ورأت ما أنا فيه من إجهاد، وكانت خالتي بديعة تسقيني وتحميني وتخبيني عندها إذا غضبت، وتحوش عني إذا ضربت، ولكني كبرت، وتعلمت، وأصبحت أفنديا طويلا له بدلة، ترى، ألا زلت أذكرها؟ ذاك بلا ريب ما كان يدور في خاطرها كلما رأتني مقبلا من مصر ومعي الشنطة، والسنون قد جففت عودها، وكرمشت جلدها، ولكنها أبقت لها ابتسامتها الوديعة ذات الطيبة.
وقلت لها: «العواف، يا خالة بديعة.»
ورفعت رأسها، ولمحت الفرحة الدافقة في عينها، واضطراب يدها وهي تجلي الحلة بالتراب، وكادت تبتسم، ولكنها عادت ورددت في صوت حنون راث رقيق، وهزني الصوت، فلم تكن خالتي بديعة كذلك، كانت ما تكاد ترد علي عافيتي حتى تترك ما في يدها، وتقوم هالعة، وتفتح بابنا وتكاد تزغرد وتقول: «أهو جه! أهو جه!»
وتحدث حينئذ ضجة هائلة في بيتنا، فهم لم يروني من ستة أشهر أو سنة، ودائما في شوق إلي، وكنت قد تخرجت صغيرا، ومن يوم أن تخرجت لا أراهم إلا لماما، وكانوا يحبونني.
يفتح بابنا، ويخرج أكثر من واحد من إخوتي حافين، وبجلاليبهم، وأحيانا بالفانلة والسروال، ويتعلق كل منهم في جزء من رقبتي، وفرحتهم بأخيهم الكبير لا توصف، فرحة تنفجر على ألسنتهم صياحا وتهليلا، ولا يقولون سوى: «هيه! هيه! هيه!»
وأعانقهم بكل قلبي وأذرعي، هم أخوتي، وأنا أحبهم، والمدينة التي أعيش فيها مليئة بالصراع، وحياتي هناك مقبضة، أدافع فيها عن الوجود؛ وجودي، ووجود غيري، وأقف أمام قوات هائلة، وقلبي وحيد، والناس لا أكرههم، وأرثي لهم، وأصدقائي كثيرون، ولكن مثل هذا الحب لا أتذوقه إلا هنا، حب لا مقابل له ولا حدود، حب ملموس محسوس، لا يخفيه أحد ولا يضن به أحد.
أعانقهم وأبذل الجهود لأتخلص من أذرعهم الصغيرة الطفلة حتى أرى أبي، فأنا دائما مشتاق له، أنا ابنه الكبير، وحبيبه الكبير أيضا، وكان وضعي يحتم علي أن أبدو كالرجال تماما، وكنت أفعل، ولكني كنت دائما أحن إلى أبي، إلى طفولتي، إلى أن أنفض عني ثياب الرجال وأعود طفلا، أو كالطفل، حتى أبدو ابنا، وحتى أحس أني ابن، وكنت أحب أبي، أدخل من الباب فأجده قد أفاق مما كان يفعله على عجل، واقفا يرتدي جلبابه، ورأسه عار، وصدره مفتوح وهو حائر فرحان، يبحث هنا وهناك عن شيء يضعه في قدميه ليستطيع أن يسرع ويقابلني، فقد كان هو الآخر يحبني، يحبني أكثر من أي شيء آخر في الوجود، ويقف على باب دارنا الكبيرة ويفتح يديه الاثنتين ويقول: «أهلا أهلا، اخص عليك يا شيخ!»
وأندفع إلى حضنه ويندفع إلى حضني، وكم حضنته وكم احتضنني، وطول عمري كنت أريد أن أظل أحتضنه، كنت وأنا صغير لا أطول إلا ساقه فأحتضنها، ثم كبرت حتى أصبح في استطاعتي أن ألف يدي حول وسطه، وكم كان يملؤني هذا بالغبطة! ثم كبرت حتى أصبحت طوله وها أنا ذا أصبح أطول منه، وأحبه أكثر مما أحببته، وأنا لا أكاد أتعدى ساقه، أحتضنه وأقبله بلهفة، وألمح جلد رقبته وقد حفل بالتجعيدات، أحب تجعيداته، وشعر صدره، وقد ابيض وأطل من فتحة الفانلة، ولون بشرته الداخلية الفاتح، ووجهه الأسمر، وأنفه الهادئ الطيب، وعينيه الحافلتين بالخير والحب، وأقبله أكثر، ويقبلني والدموع تكاد تأخذ طريقها إلى عينيه، وهو يقول: «اخص عليك يا شيخ! وحشتنا خالص!»
وفي تلك اللحظات أصمت، وأحس بالروح تعود إلي، أنا مضيع في المدينة الكبيرة، وحيد، وهنا أبي، هنا بيتنا ، هنا أنا إنسان له أب ويعرف أصله وفصله، والأرض التي شب عليها.
أبي لا يريد أن ينهي العناق، وإخوتي من حولي، يتخاطفون مني الحقيبة ويتشبثون بملابسي، ويعانقون بعضهم بعضا، وأمي أعرف أنها لا بد في تلك اللحظة متناومة، تنتظر مني أن أذهب إليها، وأنادي فلا ترد علي، وكأنها في أحلى نعاس، فأذهب إلى الفراش، وأمسك يدها، وأميل بجسمي كله وأقبل اليد البيضاء الخشنة، وحينئذ تفتح أمي عينيها وكأنها تستيقظ، وتقول في حزن: «الله يسلمك»، ولا أملك نفسي فأضمها وأقبلها في جبهتها، فلا تملك نفسها هي الأخرى وتقبلني في وجنتي، وصوتها ممدود شاك حزين، وتلك طريقتها في بث أشواقها إلي؛ إذ هي لا تظهر حبها أبدا.
ونجلس حول فراشها، وكل أخ من إخوتي يزاحم الآخر ليجلس بجواري أو فوق رجلي، وأبي يبتعد عني ليوفر لهم المكان، ولو كان الود وده لزاحم وما تركني، وأمي تشكو من الزكام والروماتيزم ورأسها الذي يكاد يطير، وأبي فرحان فرحا لا يوصف، يخفيه بصمته وتهيئة وسائل الراحة لي، فيضع وراء ظهري مسندا، أو يجعلني أقوم من مكاني لأجلس في مكان آخر أكثر راحة، وهو من فرط فرحته قد نسى أن يرتدي في قدميه مداسا، وأقدامه كبيرة، كنت شغوفا وأنا صغير أن أمسح وجهي في بطنها، وألعب في إصبعها الكبير وأنا فخور بكبره، وكبرها.
نجلس، عائلة تواجه الحياة، ولكنها في ساعة صفو، ساعة تتبخر فيها الأحزان والمتاعب ولا يبقي سوى الحب والشوق، والكلمات الصغيرة المبعثرة والضحكات، ضحكات صافية، والعائلة صغيرة، والحياة كبيرة، والطريق شاق، ولكن لها هي الأخرى ساعتها، ساعة كتلك، اللمبة الغاز مشتعلة والحجرة حجرة أرياف، والسرير له ناموسية، والكنبة تضيق بنا، وفي الصيف لنا جلسة في الفضاء أمام الباب، وأبي سعيد، جالس بيننا كالإله! كلنا نحبه، ونذوب في حديثه، ما أجمله حين يتحدث! في الحال نصمت كلنا ونترقب، ويبدأ حديثه بابتسامة تظل طوال الحديث، وحنجرته رنينها حلو، وصوته ملآن، وطريقته في الكلام تأسرنا وتخلب ألبابنا، يكون قد ذهب إلى المحكمة مثلا وأدى الشهادة، ويقص هذا علينا، ونحب قصته فهو يبدأ من اللحظة التي نريده جميعا أن يبدأ منها، ويقص علينا التفاصيل المثيرة الدقيقة ويسرح بنا، ويدخل في حكاية أخرى، ولا نحس أن حكاية بدأت وأخرى قد انتهت، إنما نحس أننا سعداء، وأننا نحب أبانا ونعبده. •••
لم تقم خالتي بديعة وتترك ما في يدها وتعلن قدومي في هذه المرة، بل ردت تحيتي، وخفضت رأسها، وانهمكت تجلي الحلة، وتركتها واتجهت إلى دارنا، كان باب الحوش مفتوحا، والباب من الصاج والهواء يتلاعب به فتزيق مفاصله، ووراء الباب فرخة منكمشة على نفسها، وطفل يتبول، ودخلت، الهدوء هو الهدوء، ولكن بيتنا ليس هو البيت! فهذا أوسع وأكثر ارتفاعا، وفيه فراغ كبير، خطوت إلى الداخل بضع خطوات، الفناء هو الفناء «الطلمبة» موجودة، وحرفها من الحجر، والماء يتسرب من الحوض ويصنع قنوات، والأشجار متفرقة كعادتها، والنخلة قد نمت وقتلت ما حولها من نخيل صغير، وأصبحت أطول من الحائط، وشجرة العنب ماتت لا ريب من كثرة الماء، وبرج الحمام في آخر الفناء، أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود، والظلام يشع من داخلها، والأرض عليها عفش ومهملة، والفناء كبير.
ووجدت باب البيت مفتوحا هو الآخر، ولا أحد على الباب، ولا أحد في الداخل، ولا أحد ينتظرني، وكل شيء مهمل، والدنيا شتاء، واصفرار الشمس قد ازداد، والنخلة الصغيرة طول ظلها يمتد بطول منزلنا.
ودخلت البيت، الصالة الكبيرة أكبر مما رأيتها آخر مرة، والسقف مرتفع، وعروق السقف أكثر بروزا، والكنبة بياضتها متسخة، ومساندها نائمة والحجرات مقفولة، ولا صوت!
الحمام واقف على قمة الباب المؤدي إلى السلم، يهدل هديلا ممدودا قبيحا، وكلبنا نائم على فروة الصلاة، وعصافير غير مرئية تصفر، وشعاع شمسي قد اخترق بئر السلم، وسقط على أرض الصالة فصنع دائرة صغيرة من الضوء الأصفر، وتعلقت بالشعاع ملايين الذرات.
وأحسست أن بيتنا قد خرب.
وعدت إلى الخارج، ثم إلى الشارع، وما رأتني خالتي بديعة حتى قالت: «عايز حاجة؟»
قلت: «هم فين؟»
قالت: «طلعوا على الجبانة.»
قلت: «وسايبين البيت فاضي؟!»
قالت: «ما أنا هه.»
ورأيت نفسي أمشي.
كان صدري فارغا موحشا كئيبا، والدنيا من حولي لا تجذب انتباهي، ما قيمة أي شيء، ما قيمة أن أقول للناس: «سلام عليكم»، فيردون السلام وتفضل، أنهم أحياء، وأنا حي، ولكن ما حدث قد حدث.
وتهت! بدت لي بلدتنا التي أعرف كل ركن من أركانها بلدة أخرى، كنت أمر في هذه الشوارع والحواري دائما وأنا لا أحس لها وجودا، وأنا آلفها وكأنها بيتنا، واليوم وأنا أمشي فيها، كنت أراها لأول مرة، وكنت أعرف أناس بلدنا وألفتهم من طول معرفتهم، ولكني كنت أمر بهم وأراهم فأحس أنهم رجال، وأنهم أغراب، وأنهم متعبون، شيء لا بد قد حدث، فأنا أحس الآن ببلدنا وأناسها، وكنت قبلا آلفهم، شيء ما لا بد قد حدث.
تهت، فخلال السنين التي كنت بعيدا عنها، كبرت بلدنا واتسعت وأنشئت بيوت جديدة، وكنت قبلا أعرف طريق الجبانة، فبجوارها كانت توجد وسعاية يقام فيها العيد، العيد؟! ترى لماذا لم يعد هناك عيد؟! لماذا لم نعد نحس به؟! يأتي ويمضي كأي يوم من الأيام! أين اليقظة المبكرة؟! والكعكة والعيدية، وثياب الناس الجديدة الزاهية، والمراجيح، والمشبك، والحلاوة الطحينية، و«القرد أبو فلة» الذي كان يفرقع ونخيف به جداتنا؟!
تهت، ولكني وصلت، وأصبحت خارج البلدة، ولم أجد الوسعاية، كانت قد تراكمت فيها بيوت أخرى مصنوعة من الطين، وكانت الجبانة هناك، تطل قبورها من بين البيوت.
وكم كنا مغفلين!
فها هي القبور أمامي وحولي، وقبور فقيرة مهدمة لا شيء يرعب فيها ولا يخيف، ترى ما سبب الفزع الذي كنا نحسه ونحن صغار حين نلمح الجبانة من بعيد؟! ترى أين قبر جدتي وأين قبر عمي وخالي؟ إن القبور مهدمة كلها ومبعثرة لا تكاد تفرق بين أحدها والآخر، وكل ما يميزها جريدة عند أولها وجريدة عند آخرها، جريدة جافة قديمة قد تآكلت أوراقها واستحالت إلى نسل.
جبت المكان بناظري، فلم أجد أحدا، لا ريب أنهم كانوا قد غادروا الجبانة وعادوا إلى البيت، ولم أجد عناء كبيرا في العثور على القبر، فقد كنت لا أزال أذكر أنه قرب شجرة الكافور، وها هي شجرة الكافور، لا بد أن هذا هو القبر، ووقفت أمامه، كان الأسمنت لا يزال أخضر، ولم يكن البناء جيدا، وأثر «المحارة» واضح، ومن الأمام لافتة مركبة كتب عليها: المرحوم ... وقرأت اسم أبي، وعدت أنظر حولي، القبور مهدمة، وأشجار الكافور طويلة وحيدة جرداء، والشمس خنقها العصر الضيق، والغربان تتناحر عن بعد، وسوادها كثير.
أبي هنا إذن، تحت هذا القبر، كل هذه الكمية من الحجارة والتراب والأسمنت فوقه، وهو الذي كان لا يحتمل إغلاق نافذة الحجرة ساعة! أبي هنا نائم! وملفوف بالكفن التيل المخطط وفوقه الكفن الأبيض، وحوله كل تلك الوحشة، وعيونه مغلقة، أبي هنا! لا يمكن أن يكون راقدا، فقد كان لا يحتمل الرقاد الطويل، لا بد أنه جالس، أجل، إنه جالس، جالس القرفصاء وكأنه يقرأ التحيات، وقدمه الكبيرة متنية تحته وإصبعه السبابة تتحرك، وعيناه إلى أسفل، وكأنه يصلي، ها هو قد ختم الصلاة.
وقلت: «سلام عليكم.»
ولم يرد، فقط نظر إلي، بعينيه الواسعتين، ورأيت رقرقة الفرحة في عينيه، ولكنه لم يرد، وكان حزينا، ويتمتم بختام الصلاة.
قلت له: «أنا هنا يا أبي، أنا حبيبك وقد عدت، لماذا لا تقول: «أهلا، أهلا»؟!»
لماذا لا تقول: «اخص عليك»؟!
وقلب كفيه حتى أصبح باطنها إلى أعلى، ورفع وجهه إلى السماء ودعا بشيء، ثم مسح بيديه على وجهه، وتطلع إلي، كان حزينا، ومتعبا، ولم يتكلم.
فقلت: «ألا تعرف أني أحبك؟!»
وأغمض عينيه، وشدد من غلق أجفانه وكأنما يقول: «نعم، نعم.»
قلت: «وحبي لك لا يقدر؟!»
وفتح عينيه وفيهما لمعة حزن.
فقلت: «وأنت أحب إنسان إلينا جميعا؟!»
فعاد يغلق عينيه في ألم.
فقلت صارخا: «إذن، لماذا تفعلها وتموت؟!»
وفتح عينيه في دهشة، وحدجني بنظرته القاسية الثابتة، تلك النظرة التي كان يطالعني بها كلما ارتكبت خطأ عظيما، وكنت أخاف من نظرته تلك وأنا صغير، وأخافتني لحظتها كما لم أخف في حياتي، وخفضت صوتي حتى استحال إلى همس، وقلت: «وحياة النبي الذي كنت تحبه، لماذا مت؟! لماذا تركتنا؟!»
وكان أبي أسمر ، وله تجاعيد، تجاعيد كبيرة طيبة، وكنا نحبها، وطالما لثمناها، ولم يتغير منظره في أعيننا طوال السنين، كنا نكبر، ونتفرق، ونعود لنجده أسمر ذا تجاعيد كبيرة طيبة.
وأردت أن أقبله في تلك اللحظة، فقد أحسست فجأة أنني مشتاق إليه، وحياتي قضيتها مشتاقا إليه، وكلما عدت من غيبتي ورأيته أقسم لنفسي أني لا بد سآخذ إجازة لأقضيها معه فقط، ولأشبع منه، فقد كنت أخاف أن يموت قبل أن أشبع منه، أردت أن أقبله، واندفعت ناحيته لأفعل، ولكنه رفع يده من فوق ركبته كمن لا يود أن يقاطع وهو يصلي، وتوقفت وقلت: «كيف تموت قبل أن أشبع منك؟!»
ولمحت دمعة صغيرة رقيقة كرأس الدبوس تفر من عينه، وتذكرت لحظتها فقط ساعة أن وضعوا النعش بجوار الحفرة، ثم فردوا ملاءة كبيرة فوقها، وأزاحوا غطاء النعش، وبالراحة حملوه، وقد أصبح صغيرا في الكفن الأبيض، ووسطه قد سقط بين أيدي الرجال، ويده اليمنى حين انزلقت وأطلت من الكفن، كانت هي يده بلا ريب، نفس اليد الحبيبة الضخمة ذات الشعر، والكف، التي طالما ملست على رءوسنا وباركتنا، اليد التي كنا نقبلها، ونتأملها ونحن نقبلها، اليد التي طالما لعبنا في أصابعها الكبيرة، وأحببنا لونها وخطوطها وضخامتها.
وعدت أقول له: «لماذا لم تقل لنا إنك ستموت؟!» وانتظرت أن يجيب فلم يفعل، فنظرت إليه فوجدته لا يزال على جلسته ولكن عينيه مغمضتان، ووجهه أصفر شديد الشحوب لا يتحرك، وجدته كشجرتنا المقطوعة حين هوت على طولها في الفناء، ومضى على قطعها أيام، واصفرت أوراقها وذبلت وتعرت الأغصان.
وعدت إلى بيتنا.
لا يزال برج الحمام في آخر الفناء أبيض وفيه خرابيش، وأوضة الفرن بابها مهبب أسود وظلام بشع داخلها، والأرض عليها عفش كثير، والبيت واسع جدا، وخاو، ليس فيه إلا المغرب، والصمت، والهواء الساكن الذي لا يريم.
وفي نفس الحجرة التي كنا نجتمع فيها أصبحنا وحدنا وجلسنا، أخوتي يرتدون ملابسهم الكاملة، وتكشيرة الحزن تبدو غريبة على وجوههم الصغيرة الشابة، وأمي متعصبة بمنديل، وفي أنفها وفمها وعينها ألم واحمرار ودموع.
جلسنا صامتين، واجمين ، ومصباح الغاز نوره أحمر كئيب، وعلى الجدران ظلال رءوسنا، ظلال واجمة داكنة، كقلوبنا، تبهت وتغمق كلما كبرت ذبالة المصباح وصغرت، جلسنا ساكتين وكأننا ننتظر شيئا ما، ننتظر أن يدق الباب، ونذهب جميعا لنفتح لأنه قد عاد، ضاحكا، دافعا طربوشه إلى الوراء كما تعود أن يفعل، فاتحا ذراعيه وصدره ليسعنا جميعا بكل مشاكلنا ومتاعبنا الصغيرة، أو هو في الحمام لا بد، وحالا سيخرج، ويتنحنح، ويكح، كحته التي حفظناها وألفناها، كحته التي لا نتصور بيتنا إلا بها، أو هو في الفناء حتما، يحادث جارنا، ويصلنا صوته من بعيد، وما أجمل صوته حين كان يصلنا من بعيد، ونعرف أن هذا صوت أبينا! نعرفه من ألف صوت، ونحبه دون آلاف الأصوات، ونفرح به؛ فمعناه أن أبانا قريب، وأنه قادم، وأننا سنكون بعد قليل حوله، وفي حضنه، وعلى مقربة من عينيه وحديثه وشعر صدره.
ولكن شيئا مما انتظرناه لم يحدث، لا دق الباب، ولا سمعنا صوتا، وأفظع ما في الأمر أننا كنا متأكدين أن الباب لن يدق وأننا لن نسمع أصواتا.
والمصباح يكاد نوره يختنق، وغازه يفرغ، وظلالنا تبهت على الجدران وتتداعى، وإحساس غريب بدأت أحس به، وأدرك أنني كنت أعانيه ولا أعرفه، إحساس أكاد أتذوقه بطرف لساني وأحس بقبضته حول صدري، إحساس بأنني حزين، حزين!
وتطلعت في وجوه أخوتي، وجوه مطرقة صامتة ذاهلة، وتطلعوا إلي.
وفجأة، وكأنما لسعنا خاطر واحد، انفجرنا كلنا نبكي، فقد أحسسنا لحظتها فقط أن أبانا حقيقة مات، وأنه انتهى من حياتنا إلى الأبد، ولم يعد لنا أب، ما أبشع هذا! لم يعد لنا أب!
تحويد العروسة
كون الشراقوة - بلدياتي - كرماء، مسألة لا نقض فيها ولا إبرام، أما أن يبلغ هذا الكرم حد التهور، وحد «تحويد» العروسة، فتلك مسألة أخرى كما يقولون، بل هي في الواقع عادة غريبة لم يبطل استعمالها في مديرية الشرقية إلا من سنتين تقريبا.
فمن المعروف أن البنت الريفية حين تتزوج في بلد غير بلدها، يخرج أهلها في يوم الدخلة عن بكرة أبيهم لإيصالها إلى بلد العريس ، ونظرا لأن الأمن - أيام زمان طبعا - لم يكن مستتبا في تلك المناطق الواسعة الشاسعة، فقد جرت العادة أن يخرج مع العروسة عدد كبير من أهل بلدها أثناء الطريق، مكونين بموكبهم قافلة طويلة جدا، على رأسها جمل العروسة الذي يقوده العريس في العادة، أو من ينوب عن العريس.
إلى هنا والأمر عادي يحدث مثله في كل مديريات القطر، أما الذي كان لا يحدث إلا في الشرقية وحدها، فهو أن موكب العروسة كان حين يمر ببلد من البلاد أو بعزبة من العزب، يخرج أهل البلدة أو العزبة بأعيانها وشيوخها وشبابها ليعزموا العروسة وبلدياتها، ولكي يثبتوا جدية العزومة كانوا يذبحون الذبيحة فعلا، ويعلقون رأسها فوق نبوت أحدهم، وينتظرون حتى يقترب الموكب وحينئذ يتقدمون منه، ويضعونه أمام الأمر الواقع قائلين، تفضلوا، عشاكم جاهز، والذبيحة ذبحت، ومبيتكم الليلة عندنا!
وطبعا كان أهل العروسة يرفضون بشدة، فالليلة ليلة الدخلة ولا وقت للعزائم أو مزاولة الكرم الشديد، ولكن العازمين لا يرضيهم هذا، معتبرين أن الرفض إهانة خطيرة موجهة إلى قدرتهم على استضافة العروسة وأهلها، ويشدد أهل البلدة في دعوتهم، ويشدد أهل العروسة في رفضهم، ويزداد كل طرف إصرارا، ويصل الأمر في النهاية إلى حد التشاتم والتماسك بالأيدي، ثم لا تلبث النبابيت أن ترتفع وتقوم خناقة كبيرة، قد تسفر عن قتلى وجرحى، ولكنها لا بد أن تنتهي إلى أحد أمرين: إما انتصار أهل العروسة ومواصلة طريقهم إلى بلد العريس، وإما انتصار أهل البلدة واقتياد الموكب المهزوم واستضافته بالقوة!
وفي أغلب الأحيان كان أهل العروسة ينتصرون؛ إذ الحمية كانت تأخذهم والمسألة بالنسبة إليهم مسألة كرامة وشرف ممكن الدفاع عنهما إلى حد الموت، أما بالنسبة إلى أهل البلدة فنادرا ما كانوا ينتصرون؛ إذ المسألة بالنسبة إليهم مجرد إظهار لشدة كرمهم، وتلك قضية قد لا تدفع الإنسان إلى التفريط في نفسه وإزهاق روحه.
ظلت هذه العادة جارية قرونا طويلة وقرونا، حتى قضي عليها من وقت قريب، وسبب زوالها أن إحدى بنات قرية كفر عزب كتب كتابها على واحد من بلدة أخرى بعيدة، وفي يوم الدخلة خرج أهل القرية عن بكرة أبيهم ليوصلوا العروس كالعادة.
وفي الطريق فوجئوا بعملاق أسود يخرج عليهم ومعه ثلة من أتباعه وقد رفع نبوتا أطول من النخلة فوق رأسه ووقف في وسط الطريق دون أن ينبس ببنت شفة، وما كاد أفراد الموكب يلمحون الرجل حتى بدأ اضطراب شديد يجتاح صفهم الطويل؛ ذلك لأن أهالي كفر العزب كان بينهم وبين الشجاعة عدم استلطاف قديم، كانت البلدة مكونة من عائلات كبيرة ثم تفتتت، فتتها الفقر وقلة الأرض، وتحولت إلى كفر مزدحم بآلاف الأنفس المتناحرة التي يأكل بعضها البعض، ولا يبالي، كان أهل الكفر كلهم صغارا في صغار، الملاك لا يمتلك الواحد فيهم أكثر من بضعة قراريط، كل أمله في الحياة أن يجعلها فدانا بأكمله، والتجار - إذا صحت التسمية - مجرد باعة سريحة يلفون البقج والأخراج على أكتافهم يوم السوق، وفي البلد أكثر من خمسين دكان بقالة لا يزيد ثمن البضاعة في أي منها على الخمسة جنيهات.
وهناك عشرات يحترفون صناعة القهوة والشاي، ورأس مال الواحد فيهم ليس أكثر من براد شاي وعشة آيلة للسقوط يسكنها القهوجي، والفقهاء ومقرئ القرآن ومن يصنعون الطعمية ويقفون بها على أبواب الجوامع بعد الصلاة والقفاصون، والقصاصون وصغار اللصوص والحرامية، كل هؤلاء متوفرون بالمئات والعشرات، والحمد لله، إذا خلا منصب خفير تقدم له أكثر من مائة وبذلوا الوساطات والشفاعات، والذي يعمل منهم خولي دودة في موسم نقاوة القطن لا بد أن أمه دعت له، ومع هذا الضيق الشديد في الرزق، بل ممكن أن يكون من أجل هذا الضيق الشديد في الرزق فشكاوى بعضهم من بعض لا تنتهي، والبلاغات التي تدعي الشروع في القتل والسرقة بالإكراه وهتك العرض تنهال على المركز من كفر العزب باستمرار، والجدع هناك طبعا هو من يكسب القرش الأزيد بلا أي اعتبار للطريقة التي جاء بها القرش، الرجل إذا نخنخ ووفر المليم شاطر، وشيخ الحصة إذا أخذ شلنا أو نص فرنك ليمضي على العرضحال شاطر، حتى العمدة أشطر شاطر لأنه من التجارة في القطن «ثاني جمعة» اسما، والمسروق من الحقول فعلا، قد حاز نصاب العمودية.
وعلى هذا لم يكن غريبا إذا ذكرت لأحد من أهل كفر العزب شيئا عن الجدعنة أو الشجاعة أن يلوي رقبته ويقول لك: «ودي تسوى كام دي يوم السوق يا حبيبي؟!»
بل هم في الواقع لم يكلفوا خواطرهم، ولم يخرج المئات منهم لتوصيل العروسة في ذلك اليوم إلا وكل منهم يطمع في عشاء الفرح الفاخر ذي البطاطس وأكوام اللحم المسلوق المغطاة بالأرغفة المخبوزة الطازجة، ولا تحسب الحلويات والفرجة المجانية، ثم من يدري، ألا يحتمل أن تفتح لأحدهم ليلة القدر ويظفر بسيجارة مكنة؟!
ممكن إذن، أن نتصور الاضطراب الشديد الذي اجتاح موكب العزابوة لدى ظهور المارد الأسود، وكيف علت همهمتهم وتقطع طابورهم الطويل وانخلعت الأفئدة وارتفعت الرءوس تستكشف وتحاول أن تجد مخرجا وتتساءل: «مين يتكلم يا ولاد مين؟» ذلك لأنه لم يكن للموكب زعيم أو رئيس، فالعزابوة يكرهون الزعامة؛ لأن كلا منهم يريد أن يكون هو الزعيم، ولكن الزعامة هنا محفوفة بالمخاطر؛ ولهذا لا بد أن يتساءلوا ويتصايحوا: «مين يتكلم يا ولاد مين؟»
ورشح بعضهم الشيخ رجب أبو شمعة؛ لا لأنه كان يمتلك ثلاثة أفدنة بأكملها اشتراها سهما سهما ودبق ثمنها من حرمان نفسه وأولاده من لبن الجاموسة وبيعه، ولكن لأنه كان أكثرهم حكمة واعتدالا؛ أي أكثرهم خوفا، ورجل كهذا تحمد زعامته في موقف تعتبر الجرأة فيه نوعا من الحمق وقلة الأدب.
ولم يقبل الشيخ رجب إلا بعد إلحاح، بل كاد يصنع عين الحكمة ويعود وحده إلى البلد، ولكن تحت وابل من الدعوات والألقاب والتضرعات قبل، وزعق في الموكب مخاطبا إياه من أوله إلى آخره طالبا السكوت التام، وحين تم له ما أراد لكز حمارته القصيرة ذات اللون البني الذي هو أقرب إلى لون فئران الغيط منه إلى لون الحمير، وتقدم ممتطيا صهوتها، غير أنه ما كاد يقترب من المارد الأسود وثلته حتى ترجل عنها احتراما، وتقدم منهم قائلا بلهجة معجونة بملق العزابوة الأصيل: «دستوركم يا سيادنا، سلامو عليكم.»
ورفع إليه العملاق الأسود عينين يطق منهما الشرر وقال: «لا سلام، ولا كلام! حودوا على طول.»
وبلهجة أكثر ملقا قال الشيخ رجب مدعيا البراءة التامة: «على فين يا سيادنا؟» - «أنتم ضيوفنا الليلة.» - «ضيوف مين؟!» - «ضيوف السنديك بك، احنا بتوعه، وأني عنبر راجله.»
وحاول الشيخ رجب أن يتملص ويتخلص سائلا الرجل عن رأس الذبيحة التي جرت العادة أن تكون معلقة فوق نبوته، مدعيا أن عدم وجودها يعطيهم الحق في رفض الدعوة، ولكن الرجل أفهمه بطريقة لا تقبل النقاش أو الجدل أن الذبيحة ذبحت فعلا، وأنهم لا بد أن يعودوا الليلة مهما فعلوا، وسواء بالقوة أو بالتي هي أحسن، ويبدو أن كلامه هذا أثار بعض شبان العزابوة، ولم تعجبهم طريقة الشيخ رجب وأحبوا أن يظهروا شجاعتهم على الأقل أمام نساء بلدهم الموجودات في الموكب، فزمجروا وتصايحوا، ورفعوا عصيهم الخيزران استعدادا للمعركة، ولكن الشيخ رجب رفع لهم يدا حاسمة غاضبة، ولعن أباءهم جميعا علامة الزعامة، وأسكتهم، فقد كان يعرف حصة أهل بلده من الشجاعة، ويعلم نتيجة أية خناقة قد تنشب مع العزابوة؛ إذ ما تكاد الخناقة تبدو حتى يخبط العزباوي من هؤلاء خبطتين، فقد ليثبت وجوده ويقيد اسمه في سجل المتشاجرين، ولكن ما يكاد الضرب الحقيقي يشتعل وتصبح الحكاية جدا حتى يطلق ساقيه للريح، وعلى هذا قال للرجل الأسود: «مختصر الكلام: أنت عايز إيه يا عم؟» - «تحودوا بالتي هي أحسن.»
فقال الشيخ رجب وهو يلكز حمارته: «بس كده؟! حاضر، احنا ضيوفك الليلة يا سيدي، ولا تزعل! حود يا وله أنت وهو.»
ورفع عنبر العملاق الأسود حاجبيه علامة الدهشة، وكأنما فجع بهذا التسليم المطلق بلا قيد ولا شرط، وهو الذي كان يحلم بخناقة يتسلى ويفخر برواية تفاصيلها أياما كثيرة، ولا بد أنه عجب من هؤلاء القوم الذين لا يقيمون للكرامة وزنا، ولكنه على أية حال أمسك بمقود جمل العروسة، ومضى ميمما وجهه شطر العزبة ووراءه ما لا يقل عن خمسمائة من أهالي كفر العزب ما بين راكب وراجل، وواضع ثوبه في أسنانه، وحامل بلغته تحت إبطه، أو مفضل أن يمشي بجوار دابته عملا بالمثل العزباوي المشهور: «هين نفسك ولا تهين بهيمتك.»
وأهل الموكب الضخم على عزبة السنديك، وخرج البيه بشخصه يتفرج على فرح «الفلاحين» هذا، وإذا بالموكب - لدهشته الشديدة - يقف لدى سور حديقته ولا يتزحزح، والأغرب من هذا أن عنبر خادمه كان يقود الموكب.
وقال عنبر للشيخ رجب: «استنوا أنتم هنا، وأوعوا حد يتحرك.»
وتحرك هو، داخلا على سيده دخول طارق بن زياد، بعد فتح الأندلس، قائلا بصوت القائد الظافر: «حودنا العروسة، يا سيدي البيك.»
ونظر إليه البيك نظره إلى مخبول، ولم يفهم، وأخيرا بدا عليه أنه تذكر وأن أباه كان قد حدثه عن شيء كهذا، ولكن تلك المسائل كانت في الزمان الغابر، في أيامه الأولى، وأيام أبيه وجده الأكبر، أيام العز، الأيام التي يسمع أنه كان لديهم فيها ألف وخمسمائة فدان وأربعة آلاف رأس من الغنم، أين هو الآن من تلك الأيام؟! الأرض راحت، والعز راح، ومنزل الضيوف تهدم، والمحصول يرهن لعدة بنوك قبل جمعه وحصاده، ولم يبق من مظاهر المجد القديم إلا عنبر، آخر ما تبقى من عبيد العائلة، أيام أن كان للعائلة عبيد، وإذا بعنبر الأحمق هذا يحضر له ذلك الجيش من أهالي كفر العزب يستضيفهم، جيش جائع متهالك كل واحد فيه لا بد قد أجاع نفسه لعشوة الفرح حتى غارت وجنتاه!
وهكذا نزل البيه شتما وسبا ولعنا في خادمه وعنبر مذهول مدهوش من تصرف سيده، فطالما حود عرائس له ولأبيه، وطالما فرحوا به وبانتصاراته وجازوه عليها خير الجزاء، وإذا بجزائه هذه المرة علقة! الظاهر أن الأسياد فسدوا هم الآخرون كما فسد الزمان، وراحت السيادة مع العصر الذي ولى، وإلا فكيف يخاف البيك من تحويد العروسة؟! وكيف لا يفخر؟!
وظل البيه يضيق الخناق على خادمه حتى خيره بين أحد أمرين: إما صرف هؤلاء الناس كما أحضرهم وإما قتله رميا بالرصاص، ولم يجد عنبر بدا من اختيار الأولى، وعاد وقد تغيرت سحنته، وخبا الشرر في عينيه، وتدلدلت ملامحه وهو الذي سحب هذه المرة ناعما للشيخ رجب ولف كلامه في ملق كثير، محاولا أن يعتذر، ملقيا الذنب على نفسه، ومقسما بالله العظيم ثلاثا أن سيده لم يكن له علم بما حدث.
ولكن سيده مين، اعتدل الشيخ رجب فوق حمارته وانجعص إلى الوراء كما يفعل الأبطال المغاوير، واسترد الخمسمائة من أهل كفر العزب أنفاسهم الهاربة ووقفوا وراءه - ربما لأول مرة في حياتهم - وقفة رجل واحد يؤيدونه ويحبذونه مصرين على أنهم ضيوف السنديك بيك تلك الليلة، ما في ذلك كلام أو سلام، وأن كرامتهم لا يمكن أن تسمح بأن يهانوا على تلك الصورة، هي الحكاية إيه؟ لعب عيال؟!
وانقطع نفس عنبر وهو يجري رائحا عاديا بين الشيخ رجب وبين البيك، حاملا رأي كل منهما إلى الآخر، مخفيا رأي كل منهما في الآخر، آملا أن تنجح المفاوضات، ولكن المفاوضات لم تنجح، ولما تأكد للبيك أنه ما لم يستضفهم فسيفضحونه في طول البلاد وعرضها وسيضحكون عليه طوب الأرض، قبل الضيافة، وأمره إلى الله، وقضى ليلته حائرا واقفا على أقدامه باحثا عن ألحفة وأطباق وطعام يسد به مئات الأفواه المفتوحة الجائعة.
وكان أول شيء فعله في الصباح أن استغنى عن خدمات عنبر إلى الأبد، مفضلا أن يتنازل عن آخر مظاهر العز، ولا الحوجة للدواهي التي تأتي بها تلك المظاهر.
أما العزابوة فبعد أن شربوا قهوة الصباح ورشفوها بمزاج وأشعلوا السجائر أربعة وعشرين قيراطا، توكلوا على الله وامتطوا ركائبهم واستأنفوا طريقهم إلى بلد العريس، ودعواتهم تنهال على الشيخ رجب وحكمته، ومن كان منهم يشك في زعامته آمن وسلم وأصبح له أخلص المخلصين، وزيادة في التكريم أخروا جمل العروسة وأصروا على أن يجعلوا الشيخ رجب وحمارته على رأس موكبهم.
وما كاد الموكب يبتعد عن عزبة السنديك قليلا والضحكات والقرقعات الصاعدة من البطون الممتلئة ببلاش تتصاعد منه، حتى برز لهم عند الكوبري المتحرك جماعة من أهل الروضة، «اقف عندك يا جدع أنت وهو!» وقفوا، وتقدم الشيخ رجب مصطنعا نفس البراءة، يسأل، وما كادت كلمة: «حودوا» تفلت من فم أكبرهم سنا حتى كان الشيخ رجب قد حود حمارته ناحية البلدة فعلا ويده تشير لبقية الركب أن يتبعوه.
ووقعت الروضة في حيص بيص؛ إذ كان عليها لأول مرة أن تستضيف خمسمائة، هي التي لا يتعدى أهلها المائتين، وقد حاولوا الاعتذار بقولهم إنهم لم يكونوا على استعداد، ولكن الشيخ رجب كفاهم مئونة الخجل قائلا: «الموجود يا جماعة يسد.» •••
وهكذا ظل ركب العزابوة وعلى رأسه الشيخ رجب أبو شمعة تودعه بلدة لتستقبله بلدة أو عزبة أخرى، حتى ولو كان الذي يعترض الطريق رجلا واحدا، وحتى لو كان قد قال كلمته على سبيل المجاملة والترحيب لا أكثر ولا أقل.
ولم يصل الركب إلى بلدة العريس إلا بعد سبعة أيام قضاها العزابوة يأكلون ويشربون ويدخنون ويطعمون ركائبهم شعيرا وبرسيما وفولا.
ومن أيامها اضطر الشراقوة إلى تخفيف حدة كرمهم فتابوا عن تحويد العرائس وحرموا اعتراض مواكبها.
حادثة شرف
أعتقد أنهم لا يزالون يسمون الحب هناك: «العيب»، ولا بد أنهم لا يزالون أيضا يتحرجون عن ذكره علانية، ويتغامزون به، وإنما تلمحه في النظرات التائهة الحيرى، وفي وجنات البنات حين تحمر وتخضر وتنسدل عليها الأجفان.
والعزبة، كأي عزبة، لم تكن كبيرة، بضع عشرات من البيوت المبنية بحيث تكون ظهورها إلى الخارج، وأبواب الدور تفتح كلها على حوش داخلي واسع، حيث الساحة الصغيرة التي يقيمون فيها الأفراح، ويعلقون العجول المريضة إذا ذبحت لتباع بالأقة وبالكوم، والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة، النهار يبدأ قبل مشرق الشمس وينتهي بعد مغيبها، والمكان المفضل هو عتبة البوابة الكبيرة؛ حيث الهواء البحري، وحيث يستحب النوم ساعة القيالة ولعب «السيجة»، الأحداث قليلة ومعروفة، بل تكاد تعرفها حتى قبل أن تقع، وتعرف أن هذه البنت المفعوصة التي تلعب الحجلة ستكبر بعد عدد من السنين، وسيصفو لونها الملبد، ثم يخرطها خراط البنات، وتتزوج، بالتأكيد واحدا من هؤلاء الصبية الذين يرتدون الجلاليب الممزقة على اللحم، ويستحمون في الترعة، وينطون كالقرود المسلسلة من فوق الكوبري.
غير أنه، أحيانا، تقع حوادث لا تكون معروفة، ولا يمكن التنبؤ بوقوعها، مثل ذلك اليوم الذي ترددت فيه الصرخات في الغيط، الصرخات الغامضة الغريبة التي ينشق عنها فضاء الريف الواسع أحيانا، فتدوي بطريقة مفاجئة ومرعبة ومستغيثة دون أن تعرف مصدرها، ولكنك لا بد تدرك منها أن شيئا مهولا قد وقع، ولا بد حينئذ أن تفيق فتجد نفسك تجري لتنجد أو على الأقل لتعرف الخبر.
غير أنه في تلك المرة لم يكن هناك ما يستدعي النجدة أو المساعدة، بل أكثر من هذا كان العائدون إلى العزبة يجدون حرجا كثيرا حين تسألهم النساء عما حدث.
ماذا يقولون؟ أيقولون: إنهم وجدوا فاطمة في الدرة مع غريب؟!
ماذا يقولون وفاطمة ليست غريبة وغريب ليس غريبا؟! فاطمة أخت فرج، وغريب ابن عبدون، والحكاية ليست تائهة؛ فالعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة، ولا يعرفون بعضهم البعض معرفة دقيقة فقط، ولكن كل واحد يعرف عن الآخر أدق دقائقه وأخص أموره، حتى النقود القليلة التي قد يكتنزها أحدهم، يعرفون مكانها بالضبط وعددها والطريقة التي يمكن أن تسرق بها، ولكن أحدا لا يسرق من أحد، هم إذا سرقوا يسرقون من محصول العزبة، وحتى هذه مجرد سرقات صغيرة لا تتعدى ملء عب قطن أو حجر كيزان دره، أو يساهي أحدهم خفير الزراعة وينضح مصرف أرز ويأخذ سمكه له وحده دون أن يورد نصفه للناظر كما جرت العادة.
وفاطمة معروفة، وكل شيء عنها معروف، ولم تكن أبدا ذات سيرة خبيثة أو سلوك معوج، كل ما في الأمر أنها حلوة، أو على وجه أصح كانت أحلى بنت في العزبة، وليس هذا هو الوجه الصحيح للمسألة أيضا، فإذا كانت الحلاوة تقاس في الأرياف بالبياض، ففاطمة كانت سمراء، المسألة لها وجه آخر خاص بفاطمة وحدها، فلم يكن في استطاعة أحد في العزبة أن يعرف ماذا في هذه البنت بالذات دونا عن بقية البنات، خدودها صحيح كانت حمراء سمراء شديدة الاحمرار تظن معه أنها لا بد تفطر كل يوم بعسل نحل وتتعشى بفراخ وحمام، ولكنك تدهش إذا عرفت أنه احمرار قد صنع من صحون المش والفلفل المخلل وعروق البصل والفجل والسمك الصغير المحروق في الفرن، وعيونها كانت سوداء، غامقة السواد، ذلك السواد اللامع الذي لا تراه إلا مشعا ومضيئا ودائم الحركة لا يستقر، العيون التي لا تحتمل أن تنظر إليها أو تنظر إليك لحظة، وحتى إذا قلنا إن شعرها كان أسود ناعما، وثوبها الحبر الواسع الذي ترتديه لا يفلح في إخفاء بروز صدرها ورفع وسطها وامتلاء ساقها، حتى إذا قلنا هذا قتلنا فاطمة قتلا، فآخر ما كان مهما فيها هو جسدها، أهم من هذا كله كانت أنوثتها، أنوثة حية نابضة دائمة التفجر والتدفق، أنوثة لا تدري من أين تنبع وأين تكمن، ابتسامتها ابتسامة أنثى، لفتتها إلى الخلف لفتة أنثى، الطريقة التي تخبط بها على كتف زميلتها، إطراقها وهي تدعو أحد المارة ليساعدها في رفع بلاص الماء على رأسها، طريقة قضمها للقمة وإمساكها للرغيف، القلة في يدها، الماء حين ينسكب في فمها نصف المفتوح، الزاوية التي تميل بها البلاص، قرطتها الخضراء الكرومبية الوحيدة حين تتعصب بها معوجة قليلا إلى اليمين، مبينة بعض شعرها المسبسب الأسود، غمازتاها حين تظهران فجأة وتختفيان فجأة وتحددان أجمل ابتسامة يفتر عنها ثغر، ضحكتها وكيف تبدأ ثم بقاياها حين تنتهي، صوتها المصنوع من أنثوية سائلة وكيف تخرجه بمقدار، وكيف تحيله أحيانا إلى قطرات، كل قطرة كلمة أو نبرة، نبرة أنثوية مصفاة، تكفي وحدها لتروي ظمأ عشرات الرجال.
وكانت فاطمة تثير الرجال أو على وجه الدقة تثير الرجولة في الرجال، وكأنما خلقت لتثير الرجولة في الرجال، حتى الأطفال كانت تثير الرجولة الكامنة فيهم، فكانوا إذا رأوها قادمة من بعيد أحسوا برغبة مفاجئة في تعرية أنفسهم أمامها، وكثيرا ما كان بعضهم يقدم على تنفيذ الرغبة، فيرفع ذيل جلبابه ويتعمد المبالغة في رفعه، ولا يفلح ضرب أو زجر في نهيهم عن إتيان هذا الأمر، فهم أنفسهم لا يدرون لماذا يعرون أنفسهم إذا رأوها.
لذلك ما كان أشد محنة فرج! كان فرج أخاها، وكان مزارعا وحدانيا فقيرا لا يملك سوى بقرته، ولا يعطيه الناظر إلا ثلاث فدادين ليزرعها، ومحاولاته كل عام ليزيد حصته نصف فدان كانت تبوء بالفشل الذريع، ومع هذا فقد كان فرج رجلا في عز نعنعة رجولته، يأكل في الطقة ثلاثة أرغفة إن وجدت، ويأتي على قلة الماء في نفس واحد، وسمانة رجله في حجم الفخذ، وكان حائرا منغص العيش، والسبب أخته، فقد كانت تحيا معه ومع امرأته، وامرأته ذات الأنف الفاطس والوجه الأصفر كانت طيبة، وإن لم تكن طيبتها تمنعها أحيانا من لفت نظر فرج إلى صدر أخته الذي تدعي أنها تتعمد هزه حين تمشي، أو إلى الكحل الذي لا يفارق عينيها، واللبان الذي توصي عليه كل ذاهب إلى السوق، ولم يكن فرج في حاجة إلى لفت النظر؛ إذ هو يرى ويسمع ويفور دمه كلما رأى أو سمع، ولم يكن يستطيع تأنيب فاطمة على شيء، كانت ترتدي نفس ما ترتديه البنات، وتتكحل كما يفعلن وتمضغ اللبان كما يمضغن، ولم يلمحها أحد في موقف مريب، ولا ضبطت مرة متلبسة بخطأ، وحتى حين ادعت زوجته أن السبب في احمرار وجنتيها أنها تحكمها بالورق الأحمر الذي تصنع منه صناديق الدخان الفرط بلل عمامته يومها بلعابه وظل يدعك وجنتي فاطمة حتى كاد يدميهما، ولم تحمر العمامة ولا حدث لها شيء، ولم يفعل شيئا يومها أكثر من أن صوب إليها نظراته المحمومة المملوءة بالشك وراح يعنفها ويزجرها، وفاطمة لا تعرف سببا لنظراته تلك، فهي تعرف العيب تماما، وطالما حدثها فرج عنه وعنفها، وهي لا تفعل العيب، وليس في نيتها أن تفعله، بل هي تفضل الموت على فعله، كل ما في الأمر أنها كانت تحس بالناس يدللونها ويحبونها، فكانت تفعل كما يفعل أي محبوب، تتصرف بحرية وبساطة وبلا تعقيد، إذا أرادت أن تبتسم ابتسمت وإذا ابتسمت كان هذا عن رغبة حقيقية في الابتسام، وإذا أرادت أن تضحك ضحكت، وخرج ضحكها بريئا نابعا من القلب، وكانت تعرف أن الناس يحبون جمالها فكانت تحرص على هذا الجمال، فلا تخرج من عتبة دارهم بوجه غير مغسول أو بشعر مشعث منكوش، وإذا اشتغلت في الغيط لبست الجوارب التي تقترضها من أم جورج زوجة الناظر، والتي تصنعها على هيئة قفازات تقي بها يديها من الأفرع وحز الشوك والأغصان، وإذا تكلمت حرصت على أن يخرج كلامها جميلا ليس فيه كلمة نابية أو تعبير قبيح، والناس جميعا أحبابها وأصحابها، كلهم يحبونها، وهي تحبهم كلهم، ويدللونها وتتدلل عليهم، ويريدونها غير عابسة فلا تعبس، ويريدونها ضاحكة فتضحك، وكل أملها أن يضحكوا لضحكها ويسعدوا بابتسامتها ودلالها، فلماذا يعنفها أخوها ويزجرها، ولماذا هذه النظرات المشبعة بالسم منه؟!
والحقيقة أن فرج لم يكن يدري لماذا، كل ما في الأمر أنه مسئول عن أخته وأنوثتها الصارخة، وكل عين تمتد إلى أخته إنما تغور في لحمه هو وتدميه، وكل أمله أن تتزوج فاطمة، وتنزاح بمسئوليتها بعيدا عنه، بل بعيدا عن العزبة كلها، ولكن فاطمة لم تكن تتزوج، فخطابها قليلون، بل تكاد تكون بلا خطاب، فمن هو المجنون الذي يجرؤ على امتلاك كل تلك الأنوثة وحده؟! وإذا تزوج ماذا يفعل بها؟! والناس في العزبة وما جاورها لا يتزوجون ليستمتعوا بالجمال ويقيموا حوله الأسوار؛ إذ هم أولا لا يحيون لكي يستمتعوا بالحياة، هم يحيون فقط لكي يبقوا أحياء، ويتزوجون لكي تعمل الزوجة وتنجب أولادا يعملون؛ ولهذا ففاطمة باقية بلا خطاب.
والعزبة مليئة بالرجال والشباب، وفاطمة كأي بنت فيها تعمل كالرجال تماما، وتسرح إلى الغيط، وتروح مع الأذان، وهي - دونا عن كل النساء والبنات - تثير الزوابع أينما حلت، ولهذا فإن قلب فرج مملوء بالخوف، وخوفه يجعله يضحك؛ إذ هو الذي يملأ العزبة برجولته الفارعة وطيبته ضحكا، وهو الذي يملؤها حياة، يبرطع وراء الرجال ويهزر معهم رغما عنهم ويعلمهم التنازل عن وقارهم الكاذب والنزول له في «الباط»، ويسابق الشبان في العوم، ويخطف القفف من فوق رءوس النساء، حتى أكثرهن تحفظا، ويجري ويضحك، ولا تشكو النساء، وفي الأفراح يلبس جلبابه الأبيض، ويلف على رأسه الحزام السكروتة ويحلق شعره وذقنه بالمكنة الزيرو ويرقص للعريس، وينقط للعروسة وللناظر، وللخولي وأهل العزبة، ينقط بالفلوس التي باع بها قطنا سرقه من المخزن أو جوالا اختلسه وهو في طريقه إلى الشحن، ويصرف، ويفنجر، ويملأ العزبة صخبا وضجيجا، والكل رجالا ونساء وشبابا يحبونه ويعزونه، وتعتمل أشياء داخل صدورهم وأشياء، فأخته تكاد تثير طوب الأرض فتنة وأنوثة، والرغبات في صدورهم تكاد تتفجر، وفرج يأسرهم بطيبته وصداقته وضحكه، فإذا مرت فاطمة خفضوا البصر، وإذا لم يحتمل أحدهم وتأوه لكزه جاره.
ولذلك ظلت فاطمة كالفاكهة الناضجة المحرمة، لا يقربها أحد، ولا أحد يدع الآخر يقترب منها، والقلوب تذوب حسرة، وأعصاب الرجال وحتى العواجيز ترتجف رغبة كلما مرت، ولكن فرج دائما هناك، لا بد يتردد في أذنك صدى ضحكة عريضة تأتيك من بعيد وتذكرك أنه هناك، وأنه عيب، وتعود حينئذ إلى صوابك، فتذهب لتخطف العصر، أو تتمشى لتشرب شايا عند الدكان.
واليوم ضبطوها في الدرة مع غريب.
والحقيقة أنها لم تضبط يومها فقط، ما أكثر ما ضبطت فاطمة! في الدرة، ووراء إسطبل الوسية، وتحت ماكينة الدراس مع رجال، ولكنه ضبط مع إيقاف التنفيذ، فالأيام كانت تثبت أنها شائعات، مجرد شائعات كان لا بد أن تنطلق وراء فاطمة إذا مرت كما تنطلق الحسرات، وسكان العزبة لم يكونوا أشرارا، ولا حاقدين، كانوا في الواقع أناسا طيبين، يحرص كل منهم على الآخر مثل حرصه على نفسه، حتى إوزهم كان طيبا لا خبث فيه، تخرج جماعاته من كل بيت في الصباح مكاكية مزغردة، وتتجمع قريبا من الجرن، وتأخذ طريقها إلى الترعة في قافلة ضخمة، ويظل الإوز يلعب ويستحم ويعلم أولاده العوم حتى تئوب الشمس إلى المغيب فتأخذ مئات الإوزات طريقها إلى العزبة، تدخل من البوابة، ويتوجه كل إوز إلى بيته من تلقاء نفسه، وحتى لو أخطأت إوزة غريرة طريقها، وذهبت مع إوز الجارة فما أسرع ما تجد بابك تطرقه الجارة ومعها الإوزة الضالة، حتى قبل أن تكتشف أنت أنها ضلت وضاعت.
وأمام فاطمة، أهل العزبة رعايا جمالها، مدلهون بحبها، إذا كان الفرح حظيت باهتمام يفوق ما تحظى به العروسة، ولعل هذا كان السبب في خوفهم الشديد على فاطمة، كانوا خائفين عليها من العيب وكأنهم لا يصدقون أن أنثى جميلة مثلها ممكن أن توجد ولا ترتكب العيب، بل إنهم من كثرة خوفهم عليها، حددوا الشخص الذي يمكنه أن يرتكب العيب مع فاطمة، حددوا غريب بالذات، وغريب كان ابن عبدون، وعبدون مع أنه كبير في السن إلا أن أحدا لا يقول له: يا عم، فقد كان رجلا عصبي المزاج يدمن «المضغة» والقهوة السادة، وكلمة والثانية وتجده طابقا في خناقك، حتى الناظر كان يخاف منه ومن خلقه الضيق ويتجنب إثارته، وعمره ما قال لأحد كلمة حلوة، ولكن شطارته كلها تظهر إذا حلت بالعزبة كارثة ما، حينئذ يقف كغراب البين على الترعة وقد أمسك بذيل جلبابه من الخلف ويمضي يشتم ويسب ويبصق مضغته ويشبع أهل العزبة لوما وتأنيبا وكأنهم هم المسئولون عن وقوع الكارثة، غير أنهم كانوا لا يقيمون لعصبيته وسبابه وزنا، فقد كانوا يعرفون أنه من الداخل أبيض، فقط طبعه هو الذي يغلب.
أما ابنه غريب فرجال العزبة كانوا لا يرتاحون إليه، وكذلك نساؤها، فقد كان ولدا قليل الأدب، فارغ العين، يربي قصة من شعره ويظهرها مسبسبة من طاقيته الصوف البيضاء، وسبب ضيق الناس به أنه كان يغوي النساء، والأدهى من هذا أنه كان ينجح في الإيقاع بهن، وفي هذا لم يكن يحترم جارا ولا زوجة خال، كان أسمر فاتح السمرة، وبالرغم من قبح خلقة أبيه كان وسيما، لا تمل العين رؤية ملامحه، وله طريقة لذيذة في نطق الكلام، مع أنه كان قليل الكلام، كان صوته يخرج غليظا بريئا فرحان، وكأنما هو مراهق حديث البلوغ، ولم يكن يبدو أهبل كمعظم شباب الأرياف، كان ولدا حدقا معتدا بنفسه، سريع الفهم، فهلويا نظيف الجلباب، يعمل كالمكنة طول النهار، ويغني المواويل، وعنده عدة شاي، ويعزم ويشدد في العزومة، فإذا جاء الليل لا يحتمل المبيت في دارهم ويؤثر النوم فوق كومة تبن الوسية العالية حيث يدفن نفسه، ويظل يتلمس أفخاذه وصدره ويحكي لأصدقائه الذين يبيتون معه، يحكي لهم عن أمور النساء التي هم أجهل الجهال بها، والذي هو فيها صاحب الباع الطويل، وكان جريئا لا يخجل وعينه فارغة، أول ما ينظر إلى المرأة يبدأ بالنظر إلى سيقانها، ونظراته كانت تربك، ففيها لمعة سخرية دائمة، أو لعلها ضحكة لم تنطلق، كانت نظراته هكذا رغما عنه، وليس له يد فيها، ولكن المرأة كانت تحس إذا نظر إليها هكذا أنه يفهم ما يدور بخلدها، فإذا كان ما يدور بخلدها عيبا، وهذا هو الحال في معظم الأحيان، ارتبكت وخيل إليها أنه عراها، وتحاول حينئذ أن تغطي نفسها فترتبك أكثر، ومن كثرة ارتباكها تقع، ويكسبه وقوعها اعتدادا أكثر، فتزداد لمعة الجرأة الساخرة في عينيه ويزداد عدد من يقعن له.
ولا بد أن غريب كان فيه شيء غريب، شيء لم يكن يوجد في بقية الرجال، لعله ذكورة زائدة، أو لعله شيء آخر، فقد كان يكفي أن ترى المرأة من نساء العزبة قفاه أو «دكة» سرواله وهو يعمل حتى تشهق وكأنها رأت رجلا عاريا، ولم يكن يبالي في وسائله، كل الطرق إلى المرأة كانت عنده حلالا، في الفرح يحشر نفسه بينهن فيجمدهن أمامه، وفي ماكينة الطحين كل شطارته أن يحمل القفف للنساء ويدق لهن القادوس، حتى المريضة لم يكن يعتقها، ولولا خوفه من بندقية أبو جورج الناظر لحاول في الليل زيارة الست أم جورج، وكان الناس إذا اشتكوا لعبدون أبيه ثار في وجوههم ولخبط خلقته وقال لهم بفظاظة: «حداكم إياه، أني متبري منه! اعملوا فيه اللي تقدروا تعملوه.»
وكانوا في العادة لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، فغريب وإن كان قصير القامة إلا أنه كان قويا كفحل الوسية يستطيع أن يرفع ترس الساقية الحديد بيد واحدة ويقطم رقبة الرجل باليد الأخرى، كل هذا وعيناه تلمعان نفس لمعتهما الساخرة.
كان هو أكثر الذكور ذكورة، وكانت فاطمة أكثر الإناث أنوثة، ولهذا كان من الطبيعي جدا أن تقرن الشائعات بينهما، ومع هذا، ما كان أبعد ما بينهما! ففاطمة كانت تتجنبه لشهرته بقلة الأدب وفراغ العين، وكان هو يخافها عن بعد، فهو وإن كان ندا لخادمة الناظر أو شفيعة الأرملة أم العيال، ففاطمة ليست واحدة منهن، أنها فاطمة ، كل النساء كوم وهي كوم!
كان أحيانا يزعم للشبان الغارقين حوله في التبن أنها تحبه وترسل له المراسيل، ولكنه كان أول الساخطين على نفسه من أجل مزاعمه تلك، كان يعمل في الغيط كالرهوان ويكتسح النساء بنظراته وذكورته فتخر له النساء، وزينة بنات العزبة في الأفراح والأسواق، ولكن أمام فاطمة كان عاجزا كل العجز، وفاطمة من ناحية خائفة كل الخوف، حتى إذا قال لها: «العواف» ودق قلبه آلاف الدقات وهو يقولها، كان ردها يأتي مضغوما لا عافية فيه، هي خائفة منه خوفها من العيب، وهو خائف منها خوفه من العجز، والعزبة سادرة في إقرانه بها وإقرانها به، وفرج سادر في ضحكه وذر صداقته في العيون، وسادر في اكتساب محبة غريب حيث يكمن خوفه الأكبر، وكل هذا يجري من تحت إلى تحت، أما في الظاهر فالناس لبعضها والعزبة صغيرة، والناس فيها عائلة واحدة كبيرة، وبيت عبدون ثالث بيت إلى يمين بيت فرج، وحتى حوادث ضياع الإوز قليلة.
ولكنهم كانوا جميعا يتوقعون دائما أن يحدث شيء ما، شيء لا بد أن يحدث، مثل أن يستيقظوا في منتصف ليلة على طلقة، أو تأتيهم من الغيطان صرخة تقول: ظبطوها في الدرة مع غريب. •••
وقد حدث!
والغريب أن أحدا لم يفاجأ بما حدث ولم يستنكره، كلهم أخذوا الأمر على أنه شيء مسلم به، إن كان بالأمس لم يحدث فها هو اليوم قد حدث، حتى أطفال العزبة - وللأطفال مجتمعهم هم الآخرين وإشاعاتهم وآراؤهم الصغيرة في الناس الكبار - حتى هؤلاء أحسوا أن فاطمة قد ارتكبت أخيرا ذلك الشيء المحرم الذي طالما حذرهم منه الآباء والأمهات، ارتكبت العيب.
وعلى هذا حين وجدوا فرج قادما من الغيط من بعيد، ورأوا عمامته مخلوعة ورأسه عاريا، لأول مرة، وصديريه مفتوحا وسرواله ملطخا ببقع الطين، بينما وجهه مصفر وشاربه يرتجف وعيناه في لون الدم، حين رأوه قادما من بعيد هكذا، انزووا في ظل حائط الإسطبل وهم يكادون يحسون بفطرتهم هول الكارثة التي حاقت به، وحين دلف من بوابة العزبة ساروا وراءه عن بعد يتابعونه صامتين، حتى وجدوه يدخل داره وينهر ابنه الذي كان يخبط على صفيحة قديمة صدئة، ثم وهو يطلب من امرأته في صوت خطير لا يكاد يسمع أن تأتيه بالجوزة، ثم وهو يتناولها ويعب من دخانها عبا، وينفث من صدره سحبا كثيفة لا تصدر إلا عن الفرن المبلل الأحطاب.
وحين بدأ بعض الرجال يتسللون إلى الدار تشجع الأطفال وتسللوا هم الآخرين، ولكنهم وقفوا قريبا من العتبة يرمقون ما يدور في الداخل خائفين، ولم يكن يدور في الداخل شيء يخيف، كان فرج جالسا أصفر لا يتكلم، يرص كراسي الدخان ويشرب، وكان الرجال حوله ساكتين لا يعرفون ماذا يقولون، وحتى إذا تململ أحدهم وأهاب به ضميره أن يقول شيئا يخفف به من حدة الهول، فإن فرج كان يمد له غابة الجوزة ليشرب ويسكت، فالموقف ليس في حاجة إلى كلام، فأخيرا جاء اليوم الذي توقعه فرج وظل طول عمره يتوقعه، أخيرا حدث الشيء الذي كثيرا ما فكر فيه وغلى الدم في عروقه وهو يفكر فيه، كان كلما رأى جسد أخته يتلوى في الثوب الأسود الواسع المهلهل، أو كلما رأى قطعة من جسدها ظاهرة من ثقب الثوب، كلما رآها تضحك أو تتكلم أو حتى تأكل، كان يحس بصدره يضيق فجأة ويختنق فيصوب إليها نظرات كالمسامير المحمية، أو يضحك ضحكه الواسع العريض الذي لا بد تلمح فيه خوفه الرهيب من شيء لا بد أن يحدث، بل كثيرا ما حسبها بينه وبين نفسه، ترى ماذا يفعل لو حدث لا قدر الله أن ...؟!
وكان شعره يقف كلما حسبها، ويعود وينظر إلى فاطمة نظرات تغور بها في سابع الأرض، وها هو الحادث قد حدث، وأصبح عليه الآن أن يأخذ موقف الرجل الأخ، عليه الآن أن يقتلها ويقتل غريب، يقتل فاطمة أخته التي حملها وهو يعدي بها المصارف حين كانت صغيرة والتي قالت له أمه وهي تموت: «وصيتك فاطمة يا فرج!» ويقتل غريب، الكلب الذي طالما آواه وسقاه على حسابه واحتضنه، والذي طالما توقع أن يخونه، وقد خانه.
أجل، الموقف ليس في حاجة إلى كلام، إنه في حاجة إلى دم، كل ما في الأمر أنه لا بد من التثبت حتى لا تلتف خطيتهما حول رقبته، إنه قادم على إضاعتهما وإضاعة نفسه وامرأته وأولاده، فلا بد أولا أن يتأكد، فليعب الدخان وليسكت ولينتظر قبل أن يمسك السكين، والقرار بارد لا رحمة فيه ولا أمل، ففرج من أهل العزب، وأهل العزب متهمون أنهم متساهلون في أخلاقهم عن أهل القرى، ولكنه سيريهم أن أهل العزب لهم هم الآخرين أصول، وأنهم أعدى أعداء العيب!
أما فاطمة فسرعان ما أهلت من بعيد على العزبة وحولها سرب من نسائها وبناتها في أثوابهن القديمة السوداء، ورقعهن الملتفة حول رءوسهن، مكونات كتلة غامقة من السواد لها عشرات الأذرع والرءوس، تتحرك صوب العزبة في تصميم خطير، وتثير سحابة واطئة من الغبار.
وجرى الأطفال يستقبلون الموكب، كانت فاطمة في الوسط وكان وجهها أبيض، لأول مرة انقلبت سمرتها الجميلة إلى بياض شاحب، ولم تكن تبدو فاتنة كعادتها، وكانت تعقد رأسها بشالها الأسود كالحزانى، وملامحها لا تتحرك وكأنما هي ميتة أو حالا ستموت.
وحدثت ضجة لدى اقتراب الموكب من العزبة، وراحت النسوة يتناقشن في أصوات رفيعة حادة كما يتناقش الرجال، والبعض يشير بتحويدها على بيت الخولي، بينما الأخريات يتحدثن عن الأصول، وعن أن مكانها الطبيعي هو بيت أخيها، وحدث الشد والجذب والصراع وأخيرا أدخلنها في بيت الخولي القائم في ركن العزبة، وبقي الأطفال في الخارج ينتظرون.
أما غريب فقد قالوا إنه طفش واختفى في المزارع، وأنه قد لا يعود.
ولم يكن أحد في العزبة يدري ما يحدث بالضبط، كان جو العزبة قد تعكر فجأة، ولم يعد أحد يرى في جوها العكر شيئا، الرجال جميعا كانوا صامتين، والنساء دعواتهن كانت تنهال على غريب ابتداء من: «يجيله ويحط عليه» إلى طلبهن الملح من الله أن يختصه بداء لا يبرأ منه، ولكن، حتى دعوات النساء الرفيعة هذه لم تستطع أن تحرك قليلا أو كثيرا من الوجوم الثقيل الذي حط على العزبة وكل من فيها، الوجوم الذي جعل حتى كلابها تكف عن النباح.
وفي بيت الخولي كانت الحلقة مستحكمة حول فاطمة، والنساء ينهلن عليها بالأسئلة، وطبعا قبل أن يسألنها كن واثقات أنهن لن يصدقن شيئا مما تقول.
قالت إنها كانت ذاهبة تحمل الفطار إلى أخيها فرج في الغيط، وحين مرت على القناية الكائنة في حقول الذرة خرج لها غريب على حين بغتة وحاول أن يمسك يدها ويجذبها فقاومت وصرخت، وتسكت فاطمة عن حديثها التائه، وتستحثها النسوة على المضي، فتقول إن الناس جاءوا على صراخها وهرب غريب، ولكنهن لا يقتنعن ويطلبن المزيد فتقول: لا مزيد، فيهززن رءوسهن محاولات أن يترجمن حكاية اليد الممسوكة هذه بكل ما يتسع له خيالهن، بينما حمى لا ترحم قد ركبت كل واحدة فيهن لتعرف ما قد جرى وتتأكد، وكلما سكتت فاطمة، وكلما شحب وجهها وبهت، ازدادت حدة الحمى واشتدت، حتى الرجال الجالسون حول فرج بعيدا عن فاطمة وحلقتها كأنما أصيبوا هم الآخرين بنوع خفي من تلك الحمى، تلمحه في كلمة طيبة خارجة من فم طيب تقول: «صبركم بالله يا جماعة! ما يمكن ما فيش حاجة حصلت.»
وشيئا فشيئا بدأ الشيء الذي حاول الجميع كتمانه قدر طاقتهم يظهر، وكان سهم الله قد نفذ، الأذهان كلها كانت معبأة ومهيأة ومتوقعة كلها أن يحدث ما حدث، إذا انفرد رجل أي رجل بفاطمة فعليه العوض فيها! فما بالك والذي انفرد بها غريب؟! من يعمل هنا حسابا لفاطمة أو لرأيها والمقاومة التي قد تبديها؟ إذا انفردت بغريب انتهى كل شيء، والمهم الآن هو التأكد من أن كل شيء حقيقة قد انتهى، حتى فرج، كان وهو يقرأ ما يعتمل في ضمائر الناس الخفية كان هو الآخر يريد أن يعرف النتيجة، لا ليعرفها، ولكن ليتأكد أن فاطمة حقيقة لم تعد أخته، وأنه أصبح حرا يستطيع أن يفعل بها ما يشاء.
والنساء - ويا لغرابة هذا! - أكثر جرأة في هذه الأمور من الرجال؛ ولذلك ما أسرع ما قالوها لأنفسهن ولزوجة فرج التي كانت قد تركت الدار وذهبت تعدد على فاطمة وتبكي ، ولعمتها! وحين قالوا لفاطمة نفسها غضب وجهها وبهت بشدة وارتجفت فتحات أنفها وصدرت عن عينيها دمعات قليلة، أقل من محتويات الليمونة إذا عصرتها وهي خضراء، وصرخت فيهن أن شيئا مثل هذا لا يمكن أن يحدث، وأنه والمصحف الشريف، لم يلمسها، فقلن لها: ما دام خايفة من الكشف يبقى لازم حصل حاجة، ومرة واحدة امتلأت خدود فاطمة بدفقة دم ولم تستطع النطق، هي التي كانت تظن نفسها، ويؤكد لها الناس أنها لا تعرف معنى الخجل.
ولو أن هذا حدث في قرية لحاول الأهل أن يتستروا على ابنتهم، ولكن الأمر يحدث في عزبة، الكل يعرف كل شيء عن الكل، ولا داعي للإخفاء، وهكذا أصبح هم العزبة من صغيرها لكبيرها أن تعرف إن كانت فاطمة قد جرى لها ما لا بد أن كان سيجري لها، وداخت فاطمة حتى إنهم رشوا على وجهها ماء وشمموها بصلة، داخت من هول المسألة، ومن إحساسها بأنها متهمة بأعيب عيب، وأن جميع أهل العزبة يناقشون أعز خصوصياتها، هي الأنثى الملكة الحلوة، يناقشونه عيانا بيانا وعلى مرأى ومسمع من أخيها وأهلها، وكل هؤلاء الذين كانوا يحبونها وتحبهم، ويدللونها وتتدلل عليهم.
وطلبت من حلقة النساء أن يرحمنها.
وسكتن جميعا ورحن يرقبنها بعيون ذابلة كان قد غادرها الشك وامتلأت بيقين، كالعيون، ذابل وحزين.
وحينئذ قالت فاطمة بوجه جامد متحجر بينما دفقة الدم التي تصاعدت إلى وجهها تنسحب وتسقط إلى أقدامها، قالت: أنا مستعدة.
وفي تلك اللحظة كان فرج قد داخ من كثرة شرب المعسل على الريق، وكان رأسه منكسا ويده تسند جبهته، ولولا أنه رجل لحسب الناس أنه أرملة تبكي وتنتحب.
ولم يكن في العزبة من يفهم في هذه الأمور إلا صابحة الماشطة، وهي لم تكن ماشطة محترفة، كانت تمتلك ماكينة خياطة قديمة تدار باليد، وكانت تخيط أثواب النساء والرجال على حد سواء، وكانت متقدمة في السن، ولكنها تبدو صغيرة ووجهها أبيض، وشكلها طيب حنون كشكل أي أم، ولكنها حين تتكلم يفضح صوتها ما تخفيه ملامحها، فتحس أنها امرأة مجربة عركت الحياة بنسائها ورجالها على حد سواء، وحينئذ لا تطمئن إليها.
وحين أبدت فاطمة استعدادها كان مفروضا أن يبعثن في طلب صابحة الماشطة، ولكنهن ترددن، فهن يردن معرفة الحقيقة، وصحيح أن صابحة تفهم في هذه الأمور وستعرف حتما كل شيء، ولكنها قد لا تقول الحقيقة؛ إذ هي متهمة في نظر الرجال والنساء وحتى الأطفال، فهي صحيح الخياطة الوحيدة في العزبة، وهي التي تفصل للجميع أثوابهم، إلا أن مسألة وجودك في منزلها، حتى ولو رآك الناس وأنت تقيس الجلباب، مسألة لا يستريح لها كل من يراك؛ إذ من المعروف أن صابحة ليس لديها مانع من أن تصنع من نفسها وبيتها ستارا قد يلتقي وراءه الرجل بالمرأة؛ حيث هناك سبب وجيه لوجود كليهما معا، ولكن أحدا لم ير بعينه شيئا، وقد يكون هذا صحيحا، وقد يكون مجرد إشاعات باطلة، ولكن الثابت أن صابحة فيها شك، وممكن أن تعرف ولا تقول، وممكن أن تقول خلاف ما تعرف.
وقالت امرأة فرج: «ما فيش إلا الست أم جورج.»
ووافقت النساء في الحال، فأم جورج هي الست الوحيدة في العزبة، وهي أيضا الوحيدة المتعلمة التي تجيد القراءة والكتابة، ثم إنها من البندر، ولا بد أن أهل البنادر يعرفون كل ما لا يعرف فيه أهل العزب والقرى والفلاحين.
وتدافع الأطفال حول الموكب ووراءه حين خرج من بيت الخولي في طريقه إلى بيت الناظر، ومضى الموكب يتعثر في حزنه وحماسه في طرقات العزبة المليئة بأكوام الأتربة وقش الأرز، والدنيا نهار، والشمس قريبة من الأرض منكسة، وفاطمة في الوسط لا يزال وجهها متحجرا، وعيونها مفتوحة كعيون العميان وقلبها غائص تحت أقدامها، كلما خطت خطوة أحست أنها تطؤه، وتطأ معه كل خجلها العذرى، وكل أحاسيسها الحلوة أيام كانت طفلة، وأيام كبرت، وأيام كانت تغني في الأفراح، وتحلم بأن يكون لها فرح وزفة وجلوة وليلة حنة حيث يترقب الجميع خروجها ترقبهم للملكة، واليوم هم يترقبون خروجها، مئات العيون تنظر لها، وتحملق فيها، مئات، لا، بل آلاف، الدنيا كلها عيون مفتوحة كالفناجيل لا تنظر إليها وإنما تنظر إلى أخص خصائصها، بلا حياء وبوحشية وتخترقه، وتهتك شرفها، ويسيل دمها، ويقطر لدى كل خطوة تخطوها ولدى كل حجر تتعثر فيه، وهي حافية عارية ذليلة لا يرحمها أحد.
وحاولت صاحبتها حكمت أن تجذب الشاش فوق وجهها وتغطيه، ولكن فاطمة أزاحت الشاش كاشفة وجهها، ما فائدة إخفاء الوجه وجسدها كله عريان؟!
والموكب الحزين المتحمس ذو عشرات الأذرع والرءوس يمضي ووراءه ذيل من الأطفال والكلاب الجائعة، يمضي ويثير سحب غبار، ويشتت قوافل الإوز البيضاء، ويطير العصافير والحمام آخذا طريقه إلى بيت الناظر. •••
في ذلك الوقت كان عم ضرغام خفير الجرن يجعجع ولا أحد يستمع إليه، فالناس قد تعودوا على جعجعته، كان هو الصعيدي الوحيد في العزبة، ومن يوم أن جاء وهو يخفر الجرن، وتعدى السبعين وهو لا يزال يخفره، رأسه ضخم أسود، وملامحه غليظة دائمة التكشير، وشاربه الأبيض طويل غزير كشوارب الكلاب، وشعر رأسه أكرت أبيض، وعرقه يسيل على الدوام بطريقة تجعل وجهه الأسود دائم اللمعان وكأنما يعرق زيتا، وكان لا يتكلم إلا جعجعة لا يفهمها أحد وكأنه هبهبة كلب، ولا يجعجع إلا إذا اقترب أحد من الجرن، حتى ولو بحسن نية، وقد عاش في العزبة ثلاثين عاما لا يعرف أحدا ولا يأخذ على أحد، الكل يعرف اسمه وهو لا يعرف أي اسم، كل ما هنالك إذا كان الواحد منهم بعيدا عن الجرن فليس له دعوة به، أما إذا اقترب أحد جعجع له حتى يبتعد.
ولم تنقطع جعجعة عم ضرغام، فقد كان يجعجع لغريب، كان غريب قد عاد من هروبه واختبأ في «حلة» الذرة في الجرن ليرقب عن كثب ما يدور في العزبة ويتنسم أخبار فعلته الشنعاء، ووجهه الأسمر قد أسود، وطاقيته قد كبسها فوق رأسه بطريقة لا تظهر معها «قصته»، وهو خائف جاد نادم متوجس وكأنما قد أفاق لنفسه بعد غفوة سنين، وأدرك أن قلة أدبه وفراغ عينه وغوايته للنساء كانت عيبا ما بعده عيب، ولمح فاطمة وموكبها وهو في طريقه إلى بيت الناظر، وازداد وجهه سوادا ، وبالغ في إخفاء نفسه داخل كومة الذرة الحطب وكف عن النظر.
كان من فرط خوفه من فاطمة وبعدها في نظره قد ازدادت رغبته فيها، وكلما ازدادت رغبته ازداد بعدها عنه واستحالة وصوله إليها، ولم يكن يريد بها شرا، ولم يكن يريد منها قليلا أو كثيرا، كل مناه كان أن يقول لها العواف مرة، فترد عليه بلهجة يحس معها أنها ترد عليه، عليه هو غريب، ولكنها لم تكن تفعل، وكان يعزي نفسه بإيقاع نساء أكثر، ومع هذا يزداد رغبة في أن ينال من فاطمة كلمة أو نظرة أو حتى لفتة تلقيها إليه عبر الكتف أو من تحت ثقل المقطف، ولم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها غريب وهي في طريقها إلى غيط أخيها حاملة المشنة وفيها الإفطار، تخب في ثوبها الأسود، والمشنة عايقة على رأسها وكأنها برنيطة، وريحها الحلو يهب على الغيط والشجر والخضرة والترع، فيكاد يملأ الجو بعطر كعطر النسيم يوم شم النسيم، لم تكن تلك أول مرة ينتظرها فيها ويراها وهي لا تراه وهو خائف أن تراه، ولكنها كانت المرة الأولى التي يتمنى أن تراه فيها، المرة الأولى التي يتمنى أن يلتقي بها وكأن الأمر صدفة، ويفعل معها ذلك العيب الذي أرقه وأقض مضجعه فوق تبن الوسية، عيب أن تقول لبنت ليست أختك أو أمك: «ازيك يا فاطمة»، فترد عليك بخجل لا ترد به أمك أو أختك.
ولكنها ما كادت تراه خارجا من الذرة حتى تجمدت في مكانها وكأنها رأته عاريا، كما ولدته أمه، وكأنها رأت العيب يخرج لها من الذرة، العيب الذي كواها فرج بنظراته محذرا إياها منه، وإذا بالمشنة تسقط منها، وإذا بها تصرخ بأعلى صوتها، وإذا بالدنيا تنقلب، وإذا به يطلق لساقيه الريح ويهيم على وجهه في الغيطان. •••
وعلى عكس ما توقعت العزبة، رسمت الست أم جورج علامة الصليب على صدرها، وأبدت أسفها البالغ، ورحبت بأن تفعل ما في وسعها لكشف الحقيقة مقسمة بالمسيح الحي، أن تجعل زوجها يحبس غريب في النقطة، ويسلط عليه الظابط ليربطه في ذيل الحصان ويعلقه على عامود التليفون، كانت الست أم جورج معروفة بصلاحها وتقواها وأدبها حتى إن أحدا لم يكن يعرف اسمها الحقيقي، وكانت ترغم زوجها أبو جورج الناظر على أن يصحبها للكنيسة في البندر القريب صباح كل أحد رغم تذمره من هذا العمل وهو الذي يقضي مساء كل سبت يعب كاسات العرقي عند بنايوتي البقال في القرية المجاورة الذي أحال بقالته إلى خمارة، وأم جورج قصيرة بيضاء شاحبة البياض شعرها مفلفل بالشيب وفي منتصف ذقنها ثلاث نقط موشومة، وكانت تعرف فاطمة، وتسمع عنها، وكانت معجبة بجمالها، بل كثيرا ما كانت ترسل في طلبها لتأتي كي تساعدها في عمل صواني البسكويت الذي يفطر به أبو جورج ولا يرضي بسواه، بل أحيانا كانت ترسل لها فقط كي تجاذبها أطراف الحديث، وتأخذ من فمها الحلو كل أخبار العزبة النسوية، وهي المحرم عليها أن تختلط بنساء العزبة، ولولا فارق السن لأصبحت صديقتها الصدوقة.
وأفظع خجل هو ذلك الذي أحسته فاطمة وهي تدلف إلى بيت الناظر لا مطلوبة ولا مرغوبة، وإنما شرفها معروض على الست أم جورج، الست التي كانت بالأمس فقط تقبلها في شفتيها بطريقة غريبة وتقول لها إنه لولا الدين لخطبتها لأخيها الذي يعمل صرافا في البحيرة.
تسمرت فاطمة في مكانها على العتبة، ولكنهن دفعنها دفعا لا مجاملة فيه حتى سقط الشاش من فوق رأسها، وتولت أم جورج طرد جورج من البيت وإغلاق الباب الخارجي وباب الحجرة الداخلي وشيش النوافذ وزجاجها، وكانت مقاومة فاطمة مقاومة الخجل الفطري، ولكنهن تكاثرن عليها وأرقدنها على السرير بالضغط والجذب وتولت إحداهن تقييد يديها، وأمسكت امرأتان كل بساق من ساقيها، وامتدت أيد كثيرة، أيد معروقة جافة، حتى بقايا الملوخية التي عليها جافة، وامتدت عشرات العيون الصادقة في بحثها عن الشرف والمحافظة عليه، امتدت كلها، انغرزت وقلبت وتفحصت حتى وهي لا تدري علام تبحث وأم جورج قد تولاها ارتباك عظيم، وكأنها المكشوف عليها لا الكاشفة، تنهر النسوة بلا فائدة، وتطمئن فاطمة بلا فائدة أيضا، والشد والجذب والصرخات المكتومة تدور في صمت وفي همس مروع، وسكون الترقب قد خيم على الحجرة، وامتد منها إلى البيت وإلى الخارج وإلى العزبة وإلى الكون كله فصمت، صمت حتى وصل الصمت إلى رءوس الرجال حول فرج، وإلى المتناثرين قريبا من الدوار، وعند المكنة وفي الغيط، الذين كانوا يتابعون كل شيء يدور داخل منزل الناظر حتى دون أن يروه.
كل شيء هدأ وسكت ما عدا جعجعة عم ضرغام التي لم يكن يحفل بها إلا واحد فقط، عبدون أبو غريب، الذي كان قد أخذ طريقه إلى الجرن وقد رفع ذيل جلبابه من الخلف آملا أن يتحدث إلى عم ضرغام لينفس عن نفسه ويلعن فاطمة وابنه وأهل العزبة لكائن من حتى لو كان عم ضرغام.
وفجأة انطلقت زغرودة من الحجرة الداخلية، ترددت على أثرها الزغاريد في المنزل، ثم في الخارج والألسنة تردد: «سليمة، إن شاء الله، سليمة والشرف منصان.»
ولحظتها فقط، رفع فرج رأسه المنكس، ولأول مرة كان يجري فيها الدم، ولأول مرة نطق وقال: «هاتوها.»
وبعد لحظات، ومع أن عم ضرغام كان قد كف عن جعجعته إلا أنه ما كاد يكف حتى كانت العزبة تشهد أعظم جعجعة قامت فيها، عند بئر الساقية القديمة العميق الذي يزيد عمقه عن أطوال ثلاثة رجال يقفون فوق رءوس بعضهم، عند البئر كان عبدون يمسك ابنه غريب من زمارة رقبته ويحاول بكل قوته العجوزة أن يجذبه ليدفعه ويغرقه في البئر، بينما عشرات الرجال يمنعونه ويحاولون تهدئة خواطره، وكان عبدون كلما جذب ابنه ووجد نفسه عاجزا عن تحريكه من مكانه ازداد هياجه وغضبه وانصبت اللعنات من فمه كالحمم، وكل من كان يرى عبدون في موقفه ذاك كان لا بد أن يؤمن أنه حقيقة يريد إغراق غريب في البئر، وأنه جاد في تنفيذ ما يريد، ولكن كان هناك شيء ما، لعله في طريقة زعيقه، لعله في نوع الكلمات التي كان ينتقيها ليشتم بها ابنه، كان هناك شيء ما لا بد تلمحه وتحس معه أنه في أعماق نفسه غير خجل من ابنه، بل أكثر من هذا، ممكن أن يكون فخورا أن ابنه هو الذكر وأنه هو المتهم بالفتك.
أما في بيت فرج فقد كانت هناك مذبحة، كان فرج يضرب فاطمة بالتقصيرة التي يصحن بها البن، وكانت فاطمة تصرخ، وزوجته تصرخ خوفا عليه أن يقتلها، ونساء الجيران يصرخن، والرجال كثيرون داخل البيت وخارجه يحاولون منعه بلا فائدة، وفرج كالوحش الهائج يريد حقيقة أن يخلص على أخته.
ولكن، ربما في ضبط قوة الضربات التي ينهال بها على فاطمة وربما في البريق الذي يملأ عينيه والذي لم يكن بريق غضب خاص أو فرحة خاصة، كنت تلمح شيئا، فصحيح أن فاطمة لم تخطئ وشرفه منصان، ولكنه لا بد أن يقوم بعمل ضخم كبير قاس يرد به على آلاف الخواطر التي لا بد قد دارت في الرءوس وعلى كلام الناس، وكلام الناس كثير.
وطبعا لم يغرق عبدون ابنه، ولم يقتل فرج أخته، مالت الشمس للمغيب كما تعودت أن تميل، وعاد السارحون في الغيطان يسحبون البهائم ويحملون عشاءها فوق الحمير، وبدأت الأدخنة ترتفع من أسطح البيوت الطين وشقوقها، وهبت روائح التقلية والزيت المقدوح تفتح الأنفس للعشاء، وصلى الرجال المغرب، وانتهى صعود النساء وهبوطهن إلى السطوح، وفرغن من تبييت الدجاج وعلف البهائم، وما كاد العشاء يؤذن حتى كان الهدوء الهائل الخالد قد خيم على العزبة من جديد، وحتى كان كل ما يتعلق بما حدث قد نوقش وأعيد نقاشه حتى فرغت الجعاب، وثقلت الرءوس، وبدأت ذبالات المصابيح تخفت وتتوارى، وبدأ النوم يزحف مع الظلام، وبدأت الأجساد تتمدد تعبة لا حراك بها.
وحين أصبحت فاطمة وحدها، حين نام الجميع وبقيت هي محطمة مستيقظة بدأت تبكي، لم تكن تريد، ولكن الدموع بدأت تسيل رغما عنها صانعة قناتين لامعتين يصلان ما بين عينيها وأرض «البحراية» التي كان فرج قد حكم عليها أن تنام فيها بلا حصيرة أو غطاء، ثم بدأت تنشج، وبدأ جسمها يهتز، بل بدأ قفص الفراخ الموضوع بجوارها يهتز ويهز الفرن والبيت والعزبة كلها ويكاد يوقظ النائمين، كانت تبكي بكاء من يتألم ألما لا قبل له به، بكاء الذي جرح جرحا عميقا وجاء الليل عليه فبدأ يحس بالألم، الألم الكاوي الذي لا يرحم. •••
وحاول أولاد الحلال فيما تلا هذا من أيام أن يقنعوا فرج بقبول غريب عريسا لأخته، ولكن فرج رفض رفضا مانعا باتا ملأهم باليأس، أما غريب، فقد كف حديثه عن فاطمة تماما، بل كف من يومها حديثه عن كل النساء، وحلق قصته، وأصبح يصلي، ولكنه كان يضبط أحيانا وهو يحوم حول العزبة، ويتوقف عند النافذة المفتوحة على بيت فرج.
أما فاطمة فقد حبسها فرج في البيت ومنع خروجها وشغلها رغم حاجته الشديدة إلى يوميتها، ولم يقلق فاطمة هذا في شيء، كانت عازفة عن الدنيا لا تريد الخروج، والحيوية المتدفقة التي كانت تبرق في عينيها وخدودها ولفتاتها كأنها نضبت فجأة، ولم يبق لها أثر، وتحولت إلى حيوان بليد كخروف الضحية، لا تبتسم وتكاد لا تتحرك، وكانت إذا تحدثت خرج حديثها ذليلا قد فقد كبرياءه وحلاوته والأنوثة التي تقطر منه.
ولكن هذا لم يدم طويلا، فلم تبق فاطمة حبيسة البيت إلى الأبد، ولم تطل صلاة غريب، ولا استغنى فرج عن برطعته وضحكه؛ إذ بعد أسواق كثيرة وأسواق، كان كل ما حدث قد وضعه أهل العزبة في خزينة النسيان وأغلقوا عليه بالضبة والمفتاح، وكان أولاد الحلال قد تكفلوا بمصالحة عبدون وابنه على فرج، فأصبحوا يتحادثون ويتبادلون العمل ويتزاملون كالعادة، وربى غريب قصته وعاد يحدث أصحابه عن النساء فوق تبن الوسية، ولم يكن حديثه يخلو من مرارة، إذ كانت فاطمة قد عادت إلى الخروج، جميلة كما كانت، معووجة المنديل رافعة ذيل الثوب، تخطر إذا مشت، وتدوخ إذا تلفتت، وتعافي كل من يلقاها، إلا هو، لا عن عمد، ولكن كأنها لا تراه، وكأنما قد محي من الوجود.
عادت فاطمة تنظر وتتحدث وتبتسم وتطير العقول وكل شيء فيها لم يتغير، ولكن الناس كانوا يعجبون، فلا بد أن فاطمة قد اكتسبت شيئا جديدا لم يكن لها، أو أنها لا بد فقدت شيئا أصيلا كان لها، الشيء الذي كان يلون وقفتها ومشيتها وضحكتها، الشيء الذي يجعلها تبدو ملكا للجميع تحب الجميع ويحبها الجميع، الشيء الذي يكسبها شفافية ونقاء والذي كان يجعلك تحس إذا ابتسمت أنها حقيقة تبتسم وإذا غضبت أنها حقيقة غاضبة، كانت قد فقدت براءتها، وأصبحت تستطيع أن تنظر دون أن تنظر، وتضحك دون أن تريد، وتريد الشيء وتخفي رغبتها فيه.
بل أصبحت تستطيع إذا ما لمحها فرج خارجة ذات يوم من دار صابحة الماشطة وأخذها إلى بيته وأغلق عليها باب القاعة، وأمسكها من ضفائرها، وشدد عليها، وسألها عم كانت تفعله عند صابحة؟
أصبحت تستطيع إذا ما حدث أن تقول: «كنت بقيس التوب، أوع كده!»
وتجذب نفسها وضفائرها من قبضته بعنف غريب، وتقف في الركن تعيد النظام إلى شعرها وتواجهه، بعيون مشرعة، حلوة، لا تنخفض، ولا تخجل.
سره الباتع
1
لم تكن علاقتي بالسلطان تتعدى مجرد نظرة غير محبة للاستطلاع ألقيها عليه كلما مررت به في ذهابي وإيابي، نظرة سريعة كأنما لأطمئن بها فقط على وجوده هناك، فقد كان علامة رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسراية آل ناصف، والبقعة المسكونة التي قتل فيها سيد إبراهيم.
ولكني ذات يوم اضطررت أن أشغل نفسي بالسلطان، فقد فزت يومها بأول نجاح في حياتي ونقلت من السنة الأولى الابتدائية، وفرحتي بالنجاح يومها كانت أكبر من كل فرحة أحسست بها لأي نجاح حدث لي بعد هذا، فرحة تمنيت معها أن أعود من المدرسة إلى بيتنا على جناح طائر، لأزف الخبر إلى جدي الأكبر، والد جدي، وكان عجوزا جدا، له ظهر شديد الانحناء، وتجاعيد كثيرة لطيفة تغطي وجهه ورقبته وصدره وكل جسمه، تجاعيد تبدو من كثرتها وتناسقها وكأنه ولد بها.
وما كاد جدي يسمع الخبر حتى قال لي في صوته الجاد: «أوف النذر حالا.»
وكنت قد نسيت حكاية هذا النذر تماما، فقد حدث خلال العام أن انتابتني حالة يأس وأنا أذاكر، واعتراني شبه يقين أنني مهما فعلت فلن أنجح أبدا، وكدت أبكي ساعتها، ولكني ذهبت إلى جدي، وصنعت له قهوة زائدة السكر كما يحبها وحملتها له خلسة (إذ كان يحب القهوة، وكان جدي الأصغر، ابنه، يمنعه عن شربها، فكان بيننا شبه اتفاق، أن أسرق له البن والسكر، وننتحي مكانا قصيا نصنع القهوة فيه، في مقابل أن يحدثني هو بعد أن يزن رأسه عن زمان وأيام زمان الحلوة)، يومها حملت له الفنجال، وانتظرت إلى أن شربه كله شفطة شفطة، ولحس كل البن المترسب في القاع، ثم سألته إن كان يعتقد أني سأنجح، والشيء الغريب أني كنت متأكدا أن جدي الأكبر هذا لا يعرف ما هي المدارس، ولا ما هو النجاح، ومع هذا فحين قال لي لحظتها إنني سأنجح بإذن الله، أحسست أنني لا بد سأنجح، وكدت أطير فرحا، غير أنه اشترط لنجاحي يومها أن أنذر للسلطان حامد نصف دستة شمع أوقدها في ضريحه.
ولم يتركني إلا بعد أن نذرت النذر أمامه، وأعدته مرارا حتى أطمأن إلى أنني لم أخطئ في قوله.
ولم تكن مشكلة أن أحصل على ثمن الشمع؛ فقد كنت ناجحا، وطلبات الناجح، خاصة في يوم نجاحه، لا تلقى معارضة تذكر.
ولم أغفر لنفسي أن الشيطان يومها راودني حين ذهبت إلى الدكان، وفي الحقيقة لم يكن هو الشيطان، كان «البرطمان» الذي يحتوي كمية هائلة من «الكراملة» ويرقد على جانب البنك هو الذي راودني.
وقسمت العرب عربين كما يقولون، واشتريت بنصف ما معي ثلاث شمعات وبالنصف الآخر «كراملة».
وبينما كنت آخذا طريقي إلى حافة «الجبانة» حيث مقام السلطان كنت لا أزال أؤنب نفسي، بل أحيانا كنت أتصور أن السلطان حامد سينتقم للثلاث شمعات التي اغتصبتها من نذره بأن يزورني في المنام مثلا، أو يصيبني بداء الصفرة.
ولست أدري أكان هذا هو السبب في اضطرابي أم شيء آخر كان السبب، فقد بدأت أحس باضطراب شديد حين أشرفت على الجبانة ورأيت مقام السلطان حامد من بعيد، وشيء غريب هذا، فآلاف المرات رأيت مقام السلطان حامد من بعيد، دون أن أحفل به، حتى لون الضريح لم أكن أعرفه، ولا كان يهمني من السلطان في قليل أو كثير، ولكني مع هذا كنت مضطربا، حتى فكرت أكثر من مرة في أن أولي الأدبار وأطلق ساقي للريح عائدا إلى بيتنا، خاصة وأن مسألة النذر هذه لم تكن قد دخلت إلى عقلي، وأنا متأكد أن السلطان هذا ليس له أي علاقة بنجاحي، وأنه لم يساعدني في الإنجليزي ولا غششني في مسألة القسمة المطولة، والنذور والعفاريت وشم البصل يوم شم النسيم، أشياء لم أكن أؤمن بها، لا لأننا كنا قد أخذنا في المدرسة أنها بدع ورجس من عمل الشيطان، ولكن لأن الناس كلهم يأخذونها كالقضايا المسلم بها، فكيف أفعل أنا هذا؟! وما فائدة تعليمي حينئذ وبدلتي؟!
ورغم شدة اضطرابي فلم أرجع، لا خوفا من جدي، ولكن خجلا من نفسي وخوفا من أن أبدو أمامها كالجبان، والظاهر أننا ونحن أطفال نخجل من الفرار أيضا مثلما يفعل الكبار.
وهكذا ظللت أخاف وأتحدى الخوف وأتقدم تدفعني الرغبة في القيام بتجربة جديدة حتى وصلت إلى مقام السلطان حامد، كان قائما في ركن من الجبانة، وبجواره طريق مقطوع لا يمر به أحد، وكانت أول مرة أرى فيها الضريح عن قرب، ولم يكن ضريحا بالمعنى المفهوم، كان أهل بلدنا يسمونه المقام، ولهم حق، فلم يكن يشبه من قريب أو بعيد أضرحة أولياء الله في القاهرة، وكنت قد زرتها مع أبي، ورأيت روعتها، وسجاجيدها السميكة الفاخرة، وشبابيكها المذهبة، ونجفها الفخم الكبير والرائحة الغريبة الغامضة التي تملأ جوها وتوحي بالرهبة والخشوع والإجلال، أما مقام السلطان فقد كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيت الحجارة الحمراء بارزة متآكلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يميز المقام عن بقية المقابر إلا أنه مبني من الحجر؛ إذ إن معظمها مبني من الطين، والأغنياء وحدهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطه العاجز الركيك.
ثمت فرق آخر بين المقام وبين القبور، فدونا عنها كانت هناك أشجار كافور طويلة قد زرعت حول المقام، ويبدو أنها زرعت أيضا منذ الأزل، فقد كانت طويلة طولا لا حد له، وجذوعها سميكة لا يستطيع عملاق أن يحتضنها، وكانت مزروعة بنظام حتى بدت كالسور العالي المهيب.
وكان كل شيء يدعوني إلى أن أنتهي من مهمتي بسرعة وأعود، فالعصر يضيق، والظلال تمتد بشكل مخيف، وحقول القمح واسعة كبحر أبيض لا شاطئ له، والناس فيها مجرد نقط غامقة صغيرة لا تكاد ترى.
ودرت حول المقام، لم يكن له سوى باب كالح قديم، ونافذة واحدة يتيمة، كانت لا بد هي النافذة التي حدثني عنها جدي، وتقدمت منها، ولكن، قبل أن أصلها، فوجئت ببحيرات وأنهار من الشمع المتجمد قد ملأت الأرض، كان الشمع الذي سال من النذور على مر الزمن قد ملأ حافة النافذة، وسال على الجدار حتى غطى أحجاره العارية، ووصل إلى الأرض.
وأدركت أن آلافا قبلي لا بد قد نذروا للسلطان حامد، ومن يدري، ربما ملايين (والملايين في لغة الأطفال لا تعني دائما ملايين).
وكدت أضحك على سذاجة أهل بلدنا الذين ذابت نقودهم واختلطت بالرمال، لأجل ماذا؟! لأجل هذا السلطان الذي لا خادم له ولا مسجد ولا مستجيرين، ولا حتى ضريح يوحي بالاحترام؟!
كدت أعود وأحتفظ بالشمع لنلعب به أنا وأصحابي في الليل ونوقده ونسهر حوله، وكم يكون هذا مسليا وجميلا! بل أنبت نفسي لأنني أضعت القرش في الشمع ولم أشتر به «كراملة» هو الآخر وسمحت لنفسي أن تصنع مثلما يصنع أهل بلدنا الجهلة، الذين لا يقرءون ولا يكتبون.
ولكني يومها، احتفظت بشمعة واحدة فقط، وأوقدت الاثنتين، لست أدري لم! ربما تنفيذا لتعليمات جدي ليس إلا، وربما رغبة في تقليد أهل بلدنا، فقط في تقليدهم، بل لماذا لا أعترض وأقول إنني، بعد أن قرأت الفاتحة، ودعوت لجدي ولوالدي، نذرت للسلطان إن أنا نجحت في العام التالي أن أوقد له دستة شمع بأكملها؟
ورغم أنني قلت لنفسي وأنا عائد إنني نذرت الدستة فقط لتفاؤلي بمسألة النذر إلا أنني من يومها بدأ السلطان حامد هذا يشغل علي تفكيري بشكل ما.
كان أحيانا يصعب علي، ذلك الولي الفقير المدفون في تلك البقعة النائية الموحشة، وأحيانا كنت أفكر في المؤمنين به، الفقراء مثله، الذين يتمنون أمنياتهم الصغيرة الطيبة، ويرفعون بصرهم إلى السماء، وينذرون للسلطان حامد، ويحقق السلطان أمانيهم فيسرعون إلى نافذته، ويشعلون شمعاتهم، وليلة وراء ليلة تضيء نافذة السلطان حامد بشمعة، أمنية صغيرة تحققت، وقلب فقير رأى لحظة سعادة، ولو لليلة، وأحيانا كنت أفكر في الكمية الهائلة من الشمع المتجمد بجوار المقام، كيف لم يسرقها أحد؟! كيف لا، والسلطان ليس له خادم يحرسه، والطريق إليه خال من المارة، والناس في بلدنا لا يتركون طوبة تنفع ولا حجرا إلا قلقلوها وحملوها إلى بيوتهم؟!
أحيانا كنت أفكر في تجريد عصابة من أصحابي للسطو على الشمع، وأحيانا كنت أخاف، وأحيانا كنت أسمع اسم السلطان، لم أكن أسمعه كثيرا ولا مسبوقا بتكبير أو محفوفا بتقديس خطير، وإذا جاءت سيرته لا يتوقف الواحد من أهل بلدنا عن الكلام مثلا ويقرأ له الفاتحة بخشوع، ينفض الواحد منهم بلغته وهو يستعد للقيام ويقول: «معلش، أهه كله من عضم النهار، شالله يا سلطان حامد! شالله!»
أو تتربع الولية من الولايا أمام مقطف السمك وتقول لعم علي الصياد: «بكام؟» فيقول: «بعشرة»، فتعود تقول: «وللسلطان حامد بكام؟» فيخفض عم علي حينئذ وجهه ويغلق عينيه وكأنما غلب على أمره ويقول: «عشان السلطان بتمنية، وعشانك انتي بتسعة»، أو يرفع الرجل جوال الطحين على رأس زوجته، ويقول وهو ينتعه: «إيدك يا سلطان!»
وكنت أعرف أهل بلدنا جيدا، كانت لا تخيفني منهم وجوههم المكشرة على الدوام، ولا ذقونهم التي تشوك أو نظراتهم التي تظن أنها خالية من الرحمة والشفقة، كنت أعرفهم تماما، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلا بينهم وبين أنفسهم، أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلاما عاليا كثيرا، ويحلفون الإيمان المرتفعة المغلظة، وإذا سألهم الغريب عن شيء قالوا عكس ما يضمرونه، هم لا يخرجون ما في أعماقهم إلا رغما عنهم، في كلماتهم المتناثرة، في همساتهم الخافتة وراء ظهور موظفي الحكومة، في حديث الرجل إلى زوجته بعد العشاء حين يركبن بظهره إلى الحائط ويمدد ساقيه على طولهما، ويقول: «ليلة امبارح يا بت، حلمت خير، اللهم اجعله خير، أن السلطان حامد جاني وقال لي: «أنت نايم للضهر ليه؟! قوم، الشمس طلعت، قوم!»»
2
وتعودت أن أرثي لأهل بلدنا هؤلاء، كنت قد زرت السلطان، ورأيت مقامه عن قرب، ولم أحس برهبة ما، ولا اقشعر جسدي أو وقف شعري، أو ظهرت لي كرامة من كراماته، أربعة جدران قديمة تكاد تنهار، ماذا فيها حتى يستقر صاحبها في أعماق صدورهم؟! وحتى يتحدثوا عنه كما لو كان كائنا حيا ضخما يحيا في مكان م؟! ماذا فيه حتى يتحدثوا عنه بلا تكليف هكذا كما يتحدث الجار إلى الجار؟! وكنت أعرف خطورة هذا الحديث، فالفلاحون لا يرفعون الكلفة إلا بصعوبة شديدة، وإذا خاطبوك بلا ألقاب، وتحدثوا إليك كما يتحدث الجار إلى الجار كان معنى هذا أن احترامهم لك يرتفع إلى مرتبة التقديس.
والحقيقة بدأت تنتابني الغيرة من السلطان حامد، بدأت أحسده على تلك المكانة التي يحتلها في قلوب الناس، مع أنه لم يكن يملك لهم حولا ولا قوة، هذه الكمية من الحجارة القائمة عند حافة الجبانة، كيف يكون لها كل هذا الاحترام والتقديس؟!
وقلت لنفسي ذات يوم: ربما أكون مخطئا، وربما هناك شيء داخل المقام هو السبب في تلك المكانة، ولم أكن - من شدة استخفافي بأمر السلطان - قد اهتممت بإلقاء نظرة على الداخل من خلال النافذة حين كنت أوقد الشمع، وأنبت نفسي كثيرا لأني لم أفعل، وقررت أن أذهب وأرى المقام من الداخل، وحين خطرت لي تلك الفكرة لم أتحمس لتنفيذها في الحال، فلم تكن حكاية السلطان حامد كلها تهمني إلى تلك الدرجة، كانت مجرد أفكار تعن لي إذا جاءت سيرته، وتشغلني قليلا ثم تمضي، وأعود إلى ما كنت فيه.
غير أنني في صباح يوم الجمعة سمعت امرأة ماشية في الشارع تندب حظها، وتكاد تولول وهي تقص لكل من تستوقفها من النساء قصة ابنها المريض، وتختم قصتها كل مرة بدستة شمع للسلطان إن هو طاب، وكدت أخرج لها وألعنها ، وأفهمها أن سلطانها حامد هذا لا علاقة له بمرض ابنها، ولا بركة فيه، ولا يملك حتى أن يمنع البلى عن مقامه، ولكنني لم أفعل، بل سألت نفسي بصراحة لماذا يضايقني شيء كهذا؟! وما الضرر في أن تنذر له نذرا؟! هل سيمنع نذرها الشفاء عن ابنها إن كان سيشفى؟! وأدركت أن حماسي كان فقط لأنها ذكرت اسم السلطان حامد، ولم تذكر اسمي مثلا، حماسي كان مبعثه هو تلك المكانة الهائلة التي كنت يوما فيوما أحس بالسلطان حامد يحتلها في قلوب أهل بلدنا، كنت أخاف على نفسي منها، وأخاف أن يأتي اليوم الذي أؤمن أنا الآخر به وأقدسه دون أن أعرف سبب الإيمان به وتقديسه.
وتأكيدا لاستخفافي به قررت أن أذهب في الحال، وأرى مقامه من الداخل، وأرى السر المزعوم، وأشبع بعد هذه سخرية من السلطان وأهل بلدنا على حد سواء.
ولكن، لا أدري ماذا حدث، فحين أصبحت قريبا من المقام، ورأيت أنهار الشمع المتجمد وبحيراته، أحسست أني مقدم على شيء حرام، وكأنني سأعبث بشيء يخص أهل بلدنا أجمعين وهم غائبون، إحساس اقشعر له جسدي ولم أستطع أن أتغلب عليه، وكأنك في اجتماع عام حافل وتهم أن تمزق علم المجتمعين، وعلى هذا وقفت في مكاني مترددا وقد أحسست لأول مرة أني في سبيلي إلى القيام بعمل غير مشروع، وتلفت حولي مرارا مع أني كنت متأكدا من خلو المكان وأن أحدا لا يفكر في المجيء إليه خاصة في الصباح.
وخفت!
فقد أدركت لحظتها فقط أن السلطان حامد هذا مارد كبير، والبركة في أهل بلدنا الذين جعلوه هذا المارد الكبير، فمع أني كنت واقفا في مكاني لا أستطيع الاقتراب من النافذة إلا أنني لم أكن أتصور أن المسألة ممكن أن تبلغ هذا الحد، وأنني فعلا لا أجرؤ على الدنو، وربما الخوف هو الذي دفعني إلى النظر إلى مكان السلطان حامد من جديد، كان كل شيء كما هو في المرة السابقة، الحجرة البالية القدم، والجدران البارزة الأحجار بغير طلاء، ولا شيء بالمرة يخيف، وكل ما أراه يدفع إلى الاستخفاف، وتقدمت من النافذة متلصصا، كانت أعلى من قامتي، وكان علي لأرى ما في الداخل أن أتشبث بحديدها وأرفع نفسي.
وأمسكت الحديد، كان ناعما زلقا من آثار الشمع المتجمد، ومرة واحدة رفعت نفسي ثم في الحال هبطت وقلبي يدق، لم أكن قد رأيت شيئا غير ظلام في ظلام، ومع هذا خفت، فالظلام في النهار وفي داخل السلطان حامد شيء يخيف.
وكنت لا أزال أمسك بالحديد في انتظار أن أجمع أنفاسي وألقي نظرة أخرى، ولم يكن لدي أية فكرة عما يمكن أن أجده في الداخل، ربما المقام خال، ربما لا شيء غير الظلام.
وبقوة رفعت نفسي رفعة عالية ودرت بعيني دورات سريعة مذعورة، ووقف شعري من الرعب، ومن كثرة رعبي لم أستطع الهبوط وتجمدت يداي على حديد النافذة بينما أغلقت عيني عن أن تريا، ورحت أصرخ في فزع، وتركت نفسي أسقط على الأرض وأنا ألهث وأكاد أموت.
لقد رأيت السلطان حامد نفسه في الداخل، كان ضخما جدا أضخم من الجمل، وله رقبة طويلة جدا وبارزة من جسده الضخم بطريقة مخيفة، وتنتهي بكتلة خضراء كبيرة تلمع في الظلام، كان السلطان باركا في الداخل يتلمظ ويكاد يمد رقبته الطويلة ويقضم رأسي.
ظللت مخفيا رأسي في حجري وعيناي مغلقتان وأنا لا أستطيع الجري أو التفكير أو حتى قراءة: بسم الله الرحمن الرحيم، وحولي آلاف العفاريت التي لم أؤمن بها قط وخدام الفناجين، وإبليس، وشقيقاتي اللائي تحت الأرض، وكل ما ارتكبته من ذنوب وكل ما سخرت به من معتقدات.
واعتقدت أني حالا سأموت، ولكني عجبت حين مر وقت طويل ولم أمت، ثم ضحكت من نفسي لأني ظننت أني سأموت، ثم فتحت عيني ورأيت أشجار الكافور العالية والحقول الممتدة البعيدة، والناس الرائحين الغادين كنجوم النهار، وكل شيء غير خائف، وكل شيء يسخر مني ومن خوفي.
والشيء الذي لم أكن أتصور مطلقا أن يحدث، وجدت نفسي أفكر فيه، لماذا لا ألقي على المقام نظرة أخرى؟!
تطلعت إلى النافذة وترددت، ولم ألبث أن وجدت دافعا أقوى مني يدفعني للإمساك بحديدها من جديد، ربما الهلع، وربما حب الاستطلاع، وربما الاستخفاف بأمر السلطان، كنا جيلا معفرتا، كما يقول عنا آباؤنا وأجدادنا، والمسائل الغامضة مثل العفاريت وخلافها مسائل تدور على ألسنتنا فقط، ونتذكرها ساعة الغرق، ولكنا لا نؤمن بها في أعماق قلوبنا، وكان آباؤنا يقولون عنا هذا؛ لأننا لم نكن نخاف مما يخافونه، وحتى إذا خفنا كان خوفنا يدفعنا إلى السخرية بالشيء الذي نخاف منه، كنا جيلا معفرتا كف عن لعب الكرة «العميو» بيده، وأصبح يلعب الكرة بقدمه، ويمضي فوق قضبان السكة الحديد المحرمة دون خوف أن يظهر له القطار فجأة ويدهمه، وحتى إذا ظهر له القطار، كان فقط ينتحي جانبا وقد جهز له في يده زلطة، يقذفه بها إذا مر، ثم يعود يجري فوق القضبان.
3
وتبينت أني كنت على حق؛ فالذي كان باركا في الداخل لم يكن هو السلطان حامد، بل كان قبره، والرقبة الطويلة كانت رقبة القبر، والشيء الأخضر الذي يبرق كان عمامته.
بل أكثر من هذا، كانت الكسوة الموضوعة على القبر كسوة قديمة باهتة لا تكاد تستطيع أن تتبينها من كثرة ما علاها من غبار، وكانت «القراضة» قد تولت نهش حروف الآيات القرآنية المكتوبة بالقماش فوقها، وكانت رائحة العطن تشيع من المكان، والظلام الرابض تحس أنه ليس ظلاما ولكنه نور قديم، من طول ما مكث مدفونا تحول إلى ظلام.
وعدت أدراجي ومعي قطعة كبيرة من الشمع، اقتلعتها من الأرض، ونفضت عنها الرمال، على أمل أن تصلح لشيء ما.
ولكني حين عدت إلى بيتنا احترت ماذا أصنع بها، صنعت منها كرة ثم قلة، ثم أفقت لنفسي فوجدتني أصنعها على هيئة قبر له رقبة طويلة وعمامة خضراء.
وأعجبني التمثال الذي صنعته للقبر إلى درجة استخسرت معها أن أغيره أو ألقيه، وأصبح كل همي أن أحتفظ به في مكان أمين، وظللت أفكر حتى وجدت أن أحسن مكان له هو طاقة من الطاقات التي تستعمل في برج الحمام.
وكنت أعجب لنفسي طوال اليوم، وأستغرب لماذا لم أعد أفكر في السلطان حامد؟! ولماذا يرفض عقلي أن يخوض في مشكلته؟! كنت أحس به غريبا عن نفسي تماما، وكأنه لم يخطر لي أبدا، وكأنني لا أعرفه ولا يهمني أن أفكر فيه، وأحيانا كان يدفعني العجب وأحاول أن أرغم نفسي على التفكير فيه، فلا أستطيع.
وقلت لنفسي: ربما أفكر غدا.
ولكن الغد جاء ولم أفكر فيه.
بل مضت مدة طويلة جدا، ربما عام، ربما أعوام، والسلطان حامد لا يخطر لي على بال.
أتأخذ عقولنا أحيانا كل هذا الوقت الطويل لكي تفكر في أمر ما؟!
لقد استيقظت ذات صباح وأنا أفكر في السلطان حامد، وكنت أفكر فيه بطريقة أخرى؛ فهل كان هذا السلطان واحدا من أهل بلدنا؟ ومن أي عائلة هو إن كان؟ ومن هم أحفاده وذريته من بعده؟
ووجدتني أسأل كبار المعمرين في بلدنا هذا السؤال، وأجمعوا كلهم أن السلطان حامد بالتأكيد لا يمت بصلة إلى أحد من بلدنا، وربما يكون غريبا، ولكن أحدا على وجه الدقة لا يعلم، كل ما يعرفونه أن بلدنا، والحمد لله، لم ينشأ فيها ولي من أوليائه، ولا بني لأحد من موتاهم مقام.
ولم يتصور أحد ممن سألتهم أية دهشة كانت إجابته تحدثها.
فإذا كان السلطان حامد غريبا، فلماذا اختار بلدنا دون سواها ليدفن فيها، ثم من بنى له هذا المقام الحجري وكل قبور بلدنا من الطين؟ ومن اشترى الكسوة؟ ومن صنع له تلك الرقبة الطويلة ووضع فوقها القمامة؟ ومن زرع هذا الكافور الطويل؟
أغرب شيء أن المعمرين في بلدنا كانوا يرون أسئلتي هذه ويسمعونها، وأحس أنهم يحسبونني مخبولا؛ لأنني أعجب من هذه الأشياء، وكأنني أسأل عمن حفر البحر أو اختار اسم بلدنا أو حدد ميزان النقطة، لماذا أسألهم عن شيء كان موجودا قبل أن يولدوا، شبوا فوجدوه قائما، ومن المحتمل أنه سيظل قائما إلى يوم الدين؟
وأنا بدوري كنت أعجب وأظنهم هم المخرفون المخبولون؛ إذ كيف لم يتبادر إلى أذهانهم أبدا أن يعرفوا لماذا دفن السلطان حامد في بلدنا دون سواها، ولماذا يبنى له مقام؟
وكان النقاش بيننا يطول، أنا بجلبابي الإفرنجي ورأسي العاري ولساني الذي لا يكف عن الخوض في أي موضوع، وهم بلحاهم الطويلة ونظرهم القليل وعرفهم الذي يعرف حدوده، ويعرف أين يقف ومتى يسير، حتى جدي، كم صنعت له فناجيل القهوة، وكم انتظرت حتى يزن رأسه وتعود الابتسامة إلى وجهه، وما أكاد أفتح فمي أسأل حتى يقول: «قلت لك ميت مرة فكر في اللي ينفعك انت، فكر في كتبك، مالك انت ومال الحاجات دي؟!»
وإذا أحسست أني أوشك أن أثير غضبه أدعي أمامه أني اقتنعت، ولكني لم أكن أقتنع، فالأسئلة التي كانت تراودني عن السلطان حامد لم يكن يستطيع عاقل أن يسكت عنها، كائن ضخم عملاق مثله له في كل بيت جدار، وذكره على ألسنة الناس باستمرار، ومكانته لا يرقى إليها أكبر واحد من الأحياء أو الأموات، ومع هذا لا يعرف عنه أحد شيئا، ولا يريد أن يعرف عنه؟! أليس هذا أمرا محيرا يدفع إلى الجنون؟! أو بالقليل يدفع إلى الغضب؟!
وماذا يدفع إلى الغضب أكثر من أن أسأل واحدا من شباب القرية أو رجالها مثلا، وأضع أمامه تلك المشكلة المحيرة فيقول: «أهه، شالله يا أهل الله!»
وبدأت أضيق بالسلطان حامد، وأضيق أكثر بأهل بلدنا، وكأنه جمع ثروة من حرام لا حق له فيها، وكأنهم تنازلوا له عن قروشهم ليجعلوه غنيا، هكذا، بكل سذاجة وعبط.
وذات مرة سألت الشيخ شلتوت صاحب الكتاب، فلم أظفر منه بطائل، وكنت أعرف أني لن أظفر من وراء سؤاله بطائل، فما سألته مرة عن شيء إلا وصاغ إجابته بطريقة لا تسمن ولا تغني من جوع، سألته لم يحتل السلطان حامد تلك المكانة الضخمة عند الناس، فقال لي: «لأنه كان رجلا تقيا ورعا.»
قلت: «إذن، أنت تعرفه؟ لا بد أنك سمعت عنه، قل لي؟»
فقال: «كل ما أعرفه أنه كان لا بد صالحا، وإلا لما كان له مقام.»
قلت: «ولكن مقامه فقير قديم ليس كمقام السيدة زينب أو الحسين.»
قال: «المسألة مش بضخامة المقام المبني يا بني، المسألة بضخامة المقام عند الله.»
فقلت: «ماذا أفعل إذن لأعرف سر السلطان حامد؟»
قال: «بالوصول، بذكر الله.»
ووجدتني أفكر فيما قاله طويلا مع أن ما قاله لم يشف غليلي، بل وجدت نفسي أتردد كثيرا على كتابه، ومناقشاتي معه لا تقربني قليلا أو كثيرا من أمر السلطان.
وقلت لنفسي: ربما كان صحيحا ما يقوله، ربما كان سر السلطان حامد لا يفتح إلا لبعض الناس، للصالحين، وربما لو ذكرت الله، ووصلت، أصل إلى مكان أرى منه السلطان، وأرى أمره بوضوح، وبدأت أتردد على حلقة الذكر التي يقيمها الشيخ شلتوت في بيته كل ليلة إثنين، ولم أهضم ذهابي إلى هناك أبدا، وكنت أذهب سرا؛ حتى لا يراني أحد زملائي ويسخر مني، كنا نجتمع عشرة رجال أو أكثر، أندس بينهم وهم يرمقونني بترحيب كبير؛ إذ إن حلقتهم قد ضمت أخيرا أحد المتعلمين، والمتعلمون كان بينهم وبين الدين - على حد قول الشيخ شلتوت - بحر من سم ودم، كنا نجلس على الحصيرة ونستغرق في التفكير في الله، ثم نذكره في سرنا، ثم نجهر بذكره، ثم نتمايل لاسمه، ثم يدفعنا الحماس إلى الوقوف، ويمسك لنا الشيخ شلتوت المجلس وقد حمي، وأصوات الرجال الخشنة تتصاعد من صدورهم في تهدج باك يجأر في طلب العفو والشفاعة والتوبة، وقد اندمجت أنفاسهم المتلاحقة في صرخة مبحوحة واحدة منغمة تقول: «الله، الله، الله!»
ولكنني انقطعت عن الذهاب فجأة، فقد أدركت أن استغراقي في الذكر لا يمكن أن يوصلني أبدا إلى حل للمشكلة، وعلي أنا أن أحلها بنفسي إذا أردت لها حلا.
ثم إنني كنت قد فطنت إلى شيء، فقد أدركت أن السلطان حامد ليس وليا من أولياء الله، فالأولياء يسمونهم مشايخ، فلماذا يسمونه هو السلطان؟!
ورحت أعجب كيف لم أفطن إلى تلك الحقيقة البسيطة الواضحة وضوح الشمس من قبل؟! صحيح كيف لم أفطن إليها؟! ووقفت طويلا أتأمل هذه النقطة وأعذر أهل بلدنا الذين كنت أتهمهم بالعبط؛ لأنهم لم يحاولوا أبدا أن يتساءلوا عن سر السلطان حامد، أحيانا يكون من الصعب بل المستحيل أن نفكر في أشياء تعودنا أن لا نفكر فيها، وتعودنا أن نأخذها كما هي، فتعذيب الحيوانات حرام أما ذبحها فحلال، والمرأة تطلق شعرها والرجل يحلق شعره، ولا تعامل الحافي بمثل ما تعامل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان، وأن يبدأ الواحد في مراجعة إيمانه بالقضايا المسلم بها مسألة صعبة، بل تكاد تكون مستحيلة.
4
واعتقدت أنه لن يدلني على حل هذا اللغز إلا الأحمدي أفندي، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء، ولا بد أن يكون لديه تفسير لحكاية السلطان الذي له مقام، مع أنه ليس من أولياء الله، كان الأحمدي أفندي أول من لبس البدلة والطربوش في بلدنا، وأول من ركب القطار وسافر إلى القاهرة، وأول أفندي لم يعمل في الحكومة وأشتغل رأسا في البنوك والشركات، وكان قد تعدى الثمانين وترك العمل نهائيا، وأقام في البلد على حس أفدنته القليلة، وكنا كثيرا ما نصادفه سائرا في البلدة بقامة معتدلة لا اعوجاج فيها ولا انحناء وقد استبدل بالبدلة جلبابا أبيض نظيفا له جيب على الصدر، ولكنه لم يتنازل عن الطربوش ولا عن ساعته ذات الكتينة التي تمتد من عروة الجلباب وتنتهي في جيب الصدر.
وكنا نحن الصبية والأولاد إذا ما صادفناه مارا ننتحي جانبا تأدبا ولا نجرؤ على النظر في وجهه إلا من بعيد، وجه قد اكتسى من طول ارتداء البدلة والطربوش ملامح جادة متزنة، وشارب دقيق معتنى بكل شعرة فيه، وفم مطبق لا ينفك، وأصداغ غائرة لا تسندها أسنان، وكل شيء فيه جاد، كلامه جد، وزعيقه جد، وهزله جد أيضا، ولم يكن يضحك إلا إذا تحدث مع العمدة.
وكانت جرأة كبيرة مني أن أذهب وأسأله، فلا يليق بمثلي أن يخاطب الأفندية كبار السن من أمثاله، تلك قضية أخرى مسلم بها في بلدنا.
وانحنى الأحمدي أفندي ليضع أذنه ذات السمع الذي بدأ يثقل بجوار فمي الذي كان يتكلم في تردد ولعثمة وخفوت.
وكلما ألقيت عليه السؤال قال: «إيه؟ بتقول إيه؟»
فأعيد السؤال.
وأخيرا أدركت أنه سمعني، فقد اعتدل في وقفته، وأمسك بعصاه ذات العقفة بعناية، وحدق في بعينيه الضيقتين الغامقتين اللتين لو كانتا عيني لما استطعت أن أرى بهما أبدا، واشتد ارتباكي.
ولم أنظر إلى غير كتينة ساعته التي أدركت أنها بفرعين وأن بينهما حلية ذات بلورة خضراء.
حدق في طويلا حتى فكرت أن أتركه واقفا في مكانه وأجري، ولكنه قال: «براوة عليك يا ولد! جدع اللي فكرت في دي! أنت ابن مين يا شاطر؟»
وازداد ارتباكي واضطرابي، وأنا أشرح له ابن من أنا، ومن أين جئت، وحينئذ قال: «بتسأل السؤال ده ليه؟»
قلت في تردد، وهو يستعيد كلماتي كلمة، كلمة: «علشان أعرف، هو سلطان والا ولي.»
قلب عصاه فوضع العقفة على الأرض وأمسكها من أسفلها وهو يقول: «لا ولي ولا سلطان ولا دياولو! أوع تصدق الكلام الفارغ ده! سلطان حامد إيه؟! أنا أعرف السلطان حسين سلطان مصر، الله يرحمه ويحسن إليه، أعرف السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، أعرف السلطان الغوري أعظم سلطان في زمانه، إنما سلطان حامد دا إيه؟! دا حتى اسمه ما ينفعش لواحد سلطان! ده تلقاه صعلوك، ولا كان ولي ولا خلافه، دا أنا أسمع أنه كان بيدي عهود للنسوان في أوضة ضلمة، وكان مايديش العهد إلا وهو شارب قزازة كان بيملا نصها سبرتو ونصها خل علشان يبقى طينة مطينة! إنما أنا مبسوط منك، أنت في الابتدائية؟ أخدتم إنجليزي لغاية فين؟ وبتاخدوا أجرومية والا لأ؟ أنا مبسوط منك، أنت باين عليك ولد نبيه، سلم لي على أبوك، قول له: جدي الأحمدي أفندي بيسلم عليك، ح تقول له: جدي مين؟»
ولم يتركني الأحمدي أفندي يومها إلا بعد أن سألني في العربي والإنجليزي والأحياء والصحة وأثبت لي أن علمنا لا يساوي قلامة ظفر بالقياس إلى العلوم أيام زمان، وفي النهاية أوصاني أن أطرد من عقلي حكاية السلطان، وإلا فإنه سوف يشكوني إلى أبي حين يقابله.
ولم أطردها من عقلي، بل كبرت وأصبحت مشكلة عويصة.
هذا الإنسان الغريب، الذي ليس وليا من أولياء الله، لماذا خصه أهل بلدنا بهذا التكريم؟! ولماذا بني له مقام؟! وكيف احتل تلك المكانة الهائلة في صدور الناس دون أن يعرفوه؟!
هل هو سلطان؟
وإذا كان سلطانا، فعلى أي شيء كان سلطانا، ثم إن كلمة سلطان كلمة كبيرة تكاد تساوي كلمة الملك، فكيف يدفن سلطان كهذا في بلدنا، بلدنا الصغيرة التي لا يعرفها أحد؟! لماذا بلدنا بالذات؟! وكيف يكون مدفن السلطان متواضعا إلى هذا الحد؟!
5
وعلى الرغم من غرابة المشكلة وضخامتها فإني لأعجب لنفسي كيف كنت أحيانا أنساها؟! كنت إذا فكرت فيها فكرت فيها، وإذا نسيتها نسيتها، وإذا فكرت فيها آليت على نفسي ألا أفكر في غيرها ما حييت، وإذا نسيتها ذهبت عن بالي تماما وكأني لم أعرفها قط.
وأول الأمر كانت حين تخطر لي ولا أجد لها جوابا شافيا كنت أختنق بالضيق وأحس أني أريد أن أقتل نفسي، ففي تلك السن لا نحتمل أبدا أن يبقى السؤال إذا عن لنا بلا جواب، ولكن الضيق إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده، وكان ضيقي قد زاد عن حده، حتى بدأت أنا الآخر أفضل طريقة أهل بلدنا، وأكاد آخذ السلطان حامد كالقضية المسلم بها، ولا أهتم بها أو بقضيته إلا كما يهتم أهل بلدنا بها، ولا يكاد يخطر لي إلا إذا مررت على الجبانة مثلا، ولمحت مقامه رماديا وحيدا بعيدا، أو إذا وقع في يدي قرش مكتوب عليه: «ضرب في عهد السلطان حسين»، أو كان أحيانا يخطر لي فجأة وبلا سبب، وكأن عقولنا تجتر أحيانا ما تختزنه فتعيده إلى وعينا في ساعات لنكمل فحصه وطحنه.
ولكن ذات يوم عثرت على شيء مذهل غريب زاد المشكلة تعقيدا، فقد كان لنا نحن تلامذة بلدنا فريق محترم لكرة القدم، فريق أول وفريق ثان، ولم أكن في كليهما، كنت شغوفا باللعبة، ولكني كنت أفضل التفرج ومراقبة اللاعبين، ولهذا كنت أرافق فريقنا إذا ذهب ليباري فريق بلدة أخرى، وكانت مباريات رسمية حقيقية، نرسل «باصه» مكتوبة وموقعا عليها من رئيس الفريق ومدربه، ويأتي الرد مكتوبا أيضا وفيه تحديد اليوم والساعة والمكان، وفي اليوم المحدد (غالبا صباح الجمعة) يخطط الملعب ويشترى اليوسفاندي والبرتقال للهافتيم، وترسل الأحذية القديمة منذ الصباح الباكر إلى الجزمجي ليصلحها، وتنفخ الكرة عند العجلاتي بقرش وتطلى بحبة طماطم لكي تبدو جديدة، ونستعد للمباراة.
وفي يوم الجمعة ذاك كنا قد ذهبنا لنلاعب بلدة بينها وبين بلدنا مشوار، وكالعادة كان المكان الذي اختاره فريقها للعب قريبا من الجبانة، فنادرا ما تجد في قرانا مكانا فسيحا مستويا يصلح للعب إلا ذلك المكان الذي يقع على حافة الجبانة والذي يستعمل كجرن في أيام الدراس.
وشات أحد لعيبتهم الكرة شوتة «بوز» أرسلتها عالية بعيدة تخطت نطاق الملعب والجبانة، واستقرت فوق بناية حجرية صغيرة كانت قريبة من المزارع، وفوجئت بأحد أفراد فريقهم يشتم اللعيب الذي شات وهو يقول: «دلوقتي مين ح يجيبها من فوق السلطان حامد؟!»
وتركت تتبعي للمباراة نهائيا، وما كاد يأتي الهافتيم حتى ذهبت أسأل أفراد الفريق الذي كنا نلاعبه، ومن كلماتهم المقتضبة اللاهثة عرفت أن بلدهم فيها سلطان حامد آخر، له مقام يشبه إلى حد كبير مقام السلطان حامد في بلدنا، وله أيضا نافذة يسيل منها شمع أبيض متجمد ويصنع أنهارا وبحورا في الأرض، وهو الآخر تنذر له النذور، ويستعان بيده وتخفض من أجله الأسعار، وسرعان ما اكتشفت خلال مباريات أخرى وأسئلة واستقصاءات بلا مباريات أن هناك سلاطين آخرين، يكاد يكون لكل قرية في إقليمنا سلطانها الخاص.
وكان هذا أكثر من أن أستطيع أن أفكر فيه أنا وكل بلدنا مجتمعة.
وما قابلت إنسانا سواء كان من بلدنا أو من غيرها إلا وسألته، والشيء الذي كان يفقدني عقلي أنهم جميعا كانوا يأخذون الأمر بهدوء وبساطة ويستطيعون النوم بعد أسئلتي، بل ويتناولون الطعام ويضحكون، وكأن من الطبيعي أن يوجد لكل قرية سلطان، له اسم واحد هو حامد، سلطان خاص بمقام خاص، سلطان لا يعرف أحد كيف دفن، ولا من بنى له المقام، سلطان شيطاني استيقظوا ذات صباح فوجدوا مقامه منتصبا عند حافة جبانتهم، ووجدوا مكانته سامقة في أذهانهم.
كل ما ظفرت به كان إجابات غامضة تزيد من ثورتي وعجزي وهياجي، فمن قائل: إن هذا حدث من قديم الزمان ولا أحد يعرف سره، ومن قائل: إنه سلطان يمت بصلة القربى إلى أبي زيد الهلالي سلامة، ومن قائل: إنه سلطان واحد حقيقي، ولكنه كتب في وصيته أن تصنع له مدافن في بلاد عدة يدفن في واحد منها فلا يستطيع أعداؤه أن يعثروا أبدا على جثته.
ومن قائل: إن السبب في هذه اللخبطة كلها هي الحكومة وهي وحدها المسئولة.
من أي ملة هو ومن أي دين؟
الله وحده يعلم.
لماذا تحبونه وتقدسونه وتنذرون له النذور إذن؟
من يدري ربما كان ذلك لحكمة تخفى على البشر.
ونحل جسدي، وبدأت ألوان كثيرة تتابع أمام عيني إذا وقفت، وأحيانا كنت أكلم نفسي، ونظرت في المرآة يوما فكدت لا أعرف ملامحي.
وخفت ولعنت السلطان ولغزه واليوم الذي قدمت له فيه النذر، خفت أن أموت، وأقسمت أن لا أعود أفكر فيه، جعلني أبي أقسم أمامه عل صحتي تعود، ولم تعد إلي الصحة؛ إذ لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير، حتى ولا بعد أن أخذني أبي إلى الحكيم، وقال لي الرجل السمين الطيب وهو يمسك يدي الناحلة بكفه الطرية التخينة الدافئة: «مالك يا بني؟»
وخفت أن يعتبرني مجنونا إن أنا قلت له، ويرسلني إلى السراية الصفراء، فقلت: «ما فيش»، وفحصني فلم يجد شيئا، ولكني انتهزت فرصة خروج أبي، وخفت أن أجن إن أنا لم أقل له، فترددت وأنا أسأله إن كان يعرف حلا لهذا اللغز، وسألني ما هو ذلك اللغز؟ وقلت له كل شيء، وختمت كلامي بأن ما أمرضني هو أني لم أجد حلا ولا تفسيرا.
وأطرق الرجل بوجهه السمين حتى تفرطح لغد الدهن المتهدل من عنقه ثم رفع رأسه، ولم ألمح في وجهه استخفافا ولا تكذيبا، كل ما حدث أنه رفع لي يده وقال بوجه طيب جاد: «دول إيه يا بني؟»
وحرك أصابعه، فقلت: «صوابعك.» - «كم صباع؟» - «خمسة.» - «أنت متأكد؟! عد تاني.»
ومع أني كنت متأكدا تماما إلا أني عددتها فعلا ووجدتها حقيقة خمسة، فابتسم الرجل وقال: «طب أوجد لي حل اللغز ده؛ اشمعنى الواحد له في كل يد خمس صوابع بس؟! ليه ما يكونوش ثلاثة؟! وليه ما يكونوش ستة؟! اشمعنى خمسة بس؟! جاوبني!»
ولم أستطع إجابته، وكان أبي قد حضر فشيعنا إلى الباب وهو يضع يده ذات الأصابع الخمسة على كتفي ويقول لي: «يا بني، فيه حاجات كتير في الدنيا دي مالهاش تفسير، فاشمعنى نقيت حكاية السلطان حامد عشان تموت نفسك عشانها؟! علشان تلقى لها حل لازم تفكر وعشان تفكر لازم تكون عايش، وعشان تعيش لازم تاكل، كل!»
وظللت آكل حتى أبطلت التفكير، وحتى نما جسدي وكبرت، وتركت مدارس ودخلت مدارس، ونسيت كل شيء عن حكاية السلطان كعادتنا حين ننسى إذا كبرنا كل ما أرق تفكيرنا ونحن صغار.
6
وبعد سنين كثيرة وسنين، كنت في إجازة في البلدة ذات صيف، وعدت إلى البيت بعد المغرب فوجدت رجلا غريبا جالسا في وسط الدار يلتهم لقم العشاء بسرعة وتوحش.
ولم أستغرب لوجود الرجل، فقد قلت إنه لا بد واحد من ضيوف جدي الغريبين، وكان جدي رغم مضي كل تلك المدة لا يزال عجوزا كما هو، ولا يزال يزاول هوايتيه المحببتين، شرب القهوة الحلوة خلسة، واستضافة الغرباء، وكانت هوايته الأخيرة هذه مبعثها حبه الشديد للحديث، كانت لذته الكبرى أن يجد مستمعا ليحكي له، أو يجد حاكيا ليسمع له، وكان ساخطا على بلدتنا التي لم يعد فيها أحد يحسن الكلام، وفي النهاية أن من يحسنون فن الحديث قد ماتوا خسارة وتاواهم التراب، وتركوا جيلا كالبهائم المكممة لا يجيدون الكلام وكأنه بفلوس، ولهذا كان جدي شغوفا بكل غريب يهبط إلى بلدنا، وكان نادرا ما يهبط إليها غريب.
وما كان أسعده حين يتلفت للسلام بعد صلاة العشاء في الجامع فيلمح بين صفوف المصلين غريبا، فعادة الغرباء إذا هبطوا القرى أن يذهبوا إلى الجامع حيث فرص الاستضافة أكثر، وحيث يمكن المبيت إذا لم يجدوا المضياف الكريم، وكان جدي ما يكاد يلمح أحدهم حتى يسحبه من يده إلى بيتنا، وكم من المشاكل كانت تنشب ، ولكن كان لا بد أن توقد النار في النهاية ويتعشى الضيف، وتوشوش كنكة القهوة على مهلها في النار ويتكئ جدي على مسندين ويخرج صندوق «المضغة»، ويروح يلوك أوراق الدخان التي قضى ساعات كثيرة من اليوم يدقها في الهون ويضيف إليها التوابل، ولا بد أن يحضر جدي للضيف كيفه، سجائر إذا كان يدخن، وجوزة إذا كان من كيفه المعسل ويبدأ بهذا الكلام.
وغريب أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يفدون على بلدنا؛ إذ هم في العادة لم يكونوا يزورونها لقضاء عمل معين، هم فئة عجيبة من الناس تلف القرى وتقضي في كل قرية ليلة، ومعظمهم لا يجيدون حرفة ما، أناس هائمون على وجوههم هكذا، أو كما يقولون سائرون بلاد الله لخلق الله، بعضهم لصوص تابوا، وبعضهم عمال من المدينة عاطلون، وبعضهم عندهم لوثة، وكثيرون فلاحون أفلسوا من كار الفلاحة الشاق ولم يوفقوا إلى عمل آخر، ولكنهم يتفقون جميعا أن لكل منهم قصة، وقصة في أغلب الأحيان رهيبة دامية؛ أزواج عشقت زوجاتهم عليهم وطردتهم بعدما جردتهم من كل ما يمتلكون، أناس يقولون إنهم محكوم عليهم بأن يظلوا تائهين في بلاد الله هكذا إلى أن يحين أجلهم، وتسأل عمن حكم فيقولون: هو، فتقول: من هو؟ فيقولون: هو والسلام! أناس تلمح في عيونهم نظرة حائرة تائهة غير مستقرة، نظرة كلب ضال، نظرة من لا يعرف له بيتا ولا أهلا ولا أحد وراءه يهمه أمره، نظرة من لا يعرف إلى أين المصير ولا يهمه أبدا إن كانت الشمس ستشرق مرة أخرى.
ولعلني ورثت تلك الهواية عن جدي، ولكن متعتي الكبرى أنا الآخر كانت أن أربض بجواره إذا جاء الغريب، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعني من مكاني أو تمنعني من سماع حديث الغريب أو تأمل هيئته أو قراءة ما يدور في وجهه.
تلك الليلة أيضا جلست أحدق في الغريب الجديد، كان يرتدي جلبابا قديما من العبك، وعمامة حمراء فيها قطعة سوداء من الخلف، ولم يكن مظهره يدل على حيرة أو جنون، عيناه فقط كانتا مطبقتين على الدوام، لا يفتحهما إلا حين يتكلم حتى إذا ما سكت أطبق أجفانه في الحال.
وكانت لجدي طريقة ساحرة في بدء الكلام وفك عقد اللسان.
فهو يظل ساكتا حتى يتعشى الغريب ويشرب شايه أو قهوته ويأخذ أنفاسا من الدخان، وغالبا ما كان الرجل يتكلم بعد هذا من تلقاء نفسه، ودون حاجة إلى سؤال، ومعظم هؤلاء الغرباء إذا تحدثوا كانوا لا يبالغون، ولا يكذبون، وكأنهم يدركون أنها ليلة، مجرد ليلة، وأن المستمع رفيق طريق، مجرد رفيق طريق، ومهما كان في المبالغة والكذب من روعة، فلا شك أن أروع شيء عند الإنسان أن يتاح له ذات مرة أن يقول الحقيقة دون أن يجر عليه قولها مسئولية أو متاعب.
قال الرجل إنه من الفيوم، وإنه ذاهب إلى الشام في حب الله، وإنه سار على قدميه خمسين يوما وأمامه مسيرة مائة يوم بإذن الله، ولم يكن حديثه مسليا، كان يتكلم ثم يصمت ويغلق عينيه دون أن ينتهي الكلام.
وبدأ جدي يتثاءب، وكنت لا أستطيع الكلام، فجدي كان قد نبه علي ألف مرة ألا أفتح فمي إذا كان أحدهم يتكلم وأن علي أن أجلس فقط وأستمع.
وكثيرا ما كان يؤدي الحديث إلى سكوت، ويطول السكوت والنار قد تحولت إلى جمرات، والجمرات غطيت بطبقة رقيقة من الرماد، والليل ساكن ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم.
وفي نوبة سكوت طويلة أطلقت السؤال الذي أرقني طويلا فسألته: لماذا العمامة الحمراء ذات القطعة السوداء من الخلف؟
فقال: «لبسنا كده.»
ورأيت جدي يعتدل وينفض عن نفسه النعاس ويسأله باهتمام: «أنت من أنهي طريقة؟ وده لبس مين؟»
وفتح الرجل عينيه وقال: «احنا مش طريقة، احنا ولاد السلطان حامد، مالناش طريقة.»
وبدت لي إجابته عادية جدا لا تستدعي حتى مجرد التعليق.
ولكني في اللحظة التالية كنت أنتفض.
وجلست على قرافيصي وأمسكت الرجل من يديه وأنا أستحلفه أن يروي لي كل شيء عن السلطان.
واستمع لي الرجل وهو يحدق ناحيتي بعينيه المغلقتين حتى خيل إلي من طول ما جلس أنه بلا حراك، ولكن بعد أن انتهيت رفع رأسه وواجهني، كانت عيناه محمرتين، ولكنه لم يكن يبكي وصرخ في فجأة: «وتتهجم على السلطان بالشكل ده ليه؟!»
وأفهمته بخفوت أني لا أتهجم، أنا فقط أسأل.
وعاد يقول بغلظة وغضب: «وأنت مالك وماله؟! ما تخليك في حالك وتسيب الناس في حالها!»
وأجفلت.
وقال جدي: «مافيهاش حاجة يا سيدنا، دا بيسأل، هو السؤال حرام؟! قول له.»
وفجأة أيضا سكت الرجل، وسقط رأسه على صدره وهو يقول بصوت باك وكأنه يؤنب نفسه: «أيوه، أقول له، أقول له، أقول له على حبيبي السلطان، دا كان يا بني راجل مبروك.»
فقلت بانفعال: «مبروك ازاي؟ له معجزات؟»
فقال: «مبروك! ما تعرفشي يعني إيه مبروك؟! أمال أفندي إيه؟! بقى اللي شتت العدوين ما يبقاش مبروك؟! بقى اللي هزم الكفار ما يبقاش مبروك؟! أمال أنت اللي مبروك؟!»
فقلت وأنا ألهث: «مين العدوين دول؟»
فصرخ في: «ما نتش عارف مين العدوين؟! حد ما يعرفش العدوين؟! دا أبو باع طويل ومدد واسع هو اللي هزمهم، يا بو مدد واسع، شالله يا اهل الله، شالله يا سلطان حامد، يا هازم الكفرة، مدد يا حبيبي يا سلطان، مدد على طول الماداد ماداد!»
وكان صوته قد ارتفع حتى قارب الأذان، ومضى يقول وحنجرته الكبيرة تتلاعب هابطة صاعدة بارزة كالورم من رقبته الطويلة: «ماداد يا سلطان يا بو مدد واسع، ماداد على طول المدد، ماداد يا بو مقامات عالية في مصر وسوهاج وأشمون وكل البر، الناس لها مقام واحد وأنت ليك ألف، يا حبيبي مداد.»
ولم نجرؤ على قطع الروحانية التي انتابته وكان واضحا أنه لا يهلوس كما يفعل المجاذيب في الموائد، كان يبدو صادقا ويبكي بكاء حقيقيا.
وحين هدأ واطمأننت إلى أن هدوءه دائم عدت أسأله، وأدهشني أنه راح يجيبني كالمغلوب على أمره وبصوت يحفل بالندم والتوبة، ولكن إجاباته لم تشف غليلي، وقال شيئا كهذا: «لما الغزاة العدوين هجموا على مصر، قام لهم السلطان حامد، وأصحابه، وقال لهم والله ما تدخلوا إلا على جثتي.
بصوا العدوين لقوه بجلابية استهتروا بيه، طلع له واحد منهم ورفع عليه سيفه شد منه السيف وتناه، جه العدو يزقه فحس أن الجبل يتحرك وهو لم يتحرك عن مطرحه قيراط، طلع له عشرة يزقوا فيه ما ينزق، بص قائدهم لقي رجليه غارزة في تراب البر ورأسه محصله عند عنان السماء وبيقول: «والله لو جبتوا قد جيشكم ده آلافات ما تقدر جيوش الدنيا كليتها تلحلحني عن تراب البر»، فضلم يفكروا يعملوا إيه في غريمهم ده، نط عجوز منهم وقال لهم: أنا لفيت الطريق يا رفاقه، وعرفت أجيب داغه، قالوا: ازاي؟ قال دا جسمه طاهر ما يأثر فيه السيف طول ما هو طاهر ما ياخد السلاح فيه إلا لما يتنجس، قالوا: ازاي؟ قال أنا الكفيل، أنا ح بول لكم على رجله أنجسها، والشاطر اللي ورا بولي يضرب بالسيف، وقف العجوز النجس يبول على رجله ومن وراءه سيف غدار ضرب ضربة طير الرجل، قال لهم سلطاننا حامد: «وإيه يعني؟! دي رجل راحت ولسه ليه رجل.» ورجع خطوة، وبالطريقة هياها قطعوا له إيد، ضحك وقال لهم: «ما لسه لي إيد! والله يا كفار يا عدوين، لأوريكم، ولم أخلي فيكم إيد ماسكة إيد!» وفضل العجوز النجس يتبول والسيوف وراه تندب، وجسمه الطاهر في كل بلد ان دارت فيها الحرب يتقطع واللي غفل عنه العدوين ان كل حتة انقطعت كانت بتكبر وتبقى راجل يحارب الكفرة ويهجم على العدوين ويقول أنا ابن أبونا حامد، أنا السلطان، أنا اللي ح وريكم نجوم حمرا في عز الضهر! وقطعوه قطع ملايين، وكل قطعة بقت راجل، ولما حصلوا رأسه كانوا حصلوا الشام، وكانوا ولاده بقم آلافات، قاموا على العدوين وكل واحد يتلم على واحد ويشيله من فوق راسه ويرميه في قاع البحر.
ولما خلص العدوين واتنضف البر قال: «نحمدك يا رب!» وطلع منه سر الإله على طول.»
ونام الرجل فجأة.
وجدت رأسه يسقط على صدره وشخيره يتصاعد بلا سابق إنذار.
ولم أكد أستعيد حكايته لأفكر فيها وأستعيد التاريخ لأخمن من يكون «العدوين» حتى وجدت رأس الرجل ذا العمامة الحمراء يرتفع مرة واحدة وصاحبه يقول وكأنه يتكلم وهو نائم: «وحد الله، سيبك! قول: يا باسط، اللي يزرع الجميل عمره ما يحصد غدر، والناس ما بتنساش، قدم لهم السبت تلاقي ألف حد قدامك، وكله فدا السلطان، ماداد يا سلطان يا حبيبي على طول المدد ماداد!»
7
هناك طريقة مشهورة لجعل السلحفاة تتحرك باستمرار؛ وذلك بأن نربط على ظهرها عصا طويلة نضع في نهايتها طعاما تراه السلحفاة فتتحرك للوصول إليه، وبالطبع لا تصله أبدا؛ ولهذا تستمر تتحرك.
نحن مثل هذه السلحفاة، لا بد لكي نتحرك أن يكون ثمة أمل في متناول أبصارنا نحاول الوصول إليه، ولكننا أحيانا لا نرى الأمل، تخفيه عنا أحداث الحياة فنتوقف، لا يائسين، ولكن لكي نبحث عن الأمل، ولا بد للبحث عن الأمل أن يكون لدينا «أمل» قوي في العثور عليه، فترات البحث عن الأمل هذه يسميها الناس اليأس، بل ويغالون ويضعون اليأس كشيء رأسه برأس الأمل سواء بسواء، مع أن الحياة كما نرى أمل متصل، وحركتنا مستمرة، إما لتحقيق الأمل أو العثور عليه، بل فترات البحث عن الأمل هذه التي يسمونها اليأس فترات يكون فيها الإنسان أشد تفاؤلا وأكثر حركة من المؤمل.
والباحث عن الأمل أو اليأس كما يقولون أشد حرصا على الأمل ممن عنده أمل، والذي لا يملك القرش أكثر حرصا عليه ممن يملكه، بل إن المؤمل قد يضيع منه الأمل، أما الباحث عن الأمل فإنه لا يفقد الأمل أبدا في العثور على الأمل، اليأس أشد تفاؤلا من المؤمل، ولو كان أقل تفاؤلا لمات في الحال أو لانتحر.
وطوال هذه السنين التي كنت آكل فيها وأتخن - وقد تركت قضية السلطان - كنت في الحقية لم أيأس من العثور لها على حل، كل ما حدث أنني كنت أتحرك يحدوني أمل ما، ولكن الحكيم الطيب حين أراني أصابعه وسألني ذلك السؤال ضاع من أمام عيني الأمل، وضياع الأمل ليس بالأمر السهل، لا بد له دائما عن أسباب في غاية المنطق والمعقولية.
وحاول أن تناقش «يائسا» ما، فسوف تجد ليأسه أسبابا في غاية القوة، ولكنك سوف تجده أيضا يبحث عن الأمل، وأن يعثر الإنسان على الأمل مرة أخرى مسألة أحيانا لا تحتاج إلى منطق ومعقولية، ولنأخذ حالتي مثلا.
لم يكن كلام الرجل المجذوب معقولا ولا منطقيا، وليس له وجاهة كلام الطبيب، ولكن كم هي غريبة أمور الدنيا! فبلا مقدمات أو علامات وجدت أشياء مكتومة في صدري ومختزنة قد تراخت فجأة وانعكست، وحفلت نفسي باتساع وتفتح لا حد لهما، وأحسست أن الأمر لا يحتمل أكثر من أن أمد يدي وآتي بحل لمشكلة السلطان.
كان شيء ما قد حدث بعدما استمعت طويلا إلى تخريفات المجذوب، شيء وكأنني كنت أشك في وجود الله مثلا، ويحيرني أمره ولا أستطيع أن أجزم بوجوده أو عدمه، وفجأة عثرت على تلسكوب غريب ممكن أن أنظر منه فأرى السماء، وأتحقق من وجود الله!
ولم آخذ تخريفات المجذوب على أنها تخريفات، أخدتها من زاوية أخرى، فلا بد أن السلطان حامد هذا كان من نوع ما عاش ومات، كما يعيش الناس ويموتون، ولكن أية حياة هذه؟! وأي رجل هذا؟! وترى ماذا فعله حتى يحتل من نفوس الناس تلك المكانة الرهيبة؟! وحتى يجن أناس ويجذبوا حبا فيه؟! وتنسج حوله الخرافات والأساطير، وتقام له مئات الأضرحة في مئات البلاد وتضيء كل ليلة بعشرات الشموع، مئات الليالي، وربما لمئات السنين؟!
وأمر آخر، فأن تعمل طيبا مسألة قد تخصك أنت وحدك، ولكن أن يقدر الناس أعمالك؛ وبالتالي يقدروك مسألة أخرى، فالدنيا حافلة بالطيبين الذين عاشوا للناس وماتوا من أجلهم فلماذا كلهم لا يقدرون؟! لماذا يقدر البعض دون البعض، وعلى أي أساس إذن يختار ملايين الناس من أعمالك ما يستحق التقدير وما لا يستحق؟ ولماذا يصبح بعض الناس من معبودي الجماهير - كما يقولون - بينما لا يكونون هم أشرف الناس، ولا أطيب الناس، ولا أكثر حبا للناس وتضحية من أجلهم؟!
ولم أكن أدري وأنا أقلب هذه الأسئلة كلها في رأسي أنني ممكن أن أجد الإجابة عليها عند روجيه كلمان!
كنت قد عدت إلى القاهرة من الإجازة القصيرة، وكلي تفتح لا لمسألة السلطان حامد وحدها، ولكن للحياة نفسها.
وكم أدركت خطئي لأني ظللت فترة طويلة من حياتي لا أفكر إلا فيها وحدها! فكما يقولون قد تجد ما تفكر فيه فيما لا تفكر فيه، وقد تجد ما لا تفكر فيه فيما تفكر فيه.
لا بد أن هذه الحكمة صحيحة إلى حد ما، ولو إلى الحد الذي يجعلني أومن أن لقائي بمدام إنترناسيونال كان مجديا، وبالمناسبة لم يكن اسمها إنترناسيونال، كان اسمها «جين»، ولم أعرف إلى الآن جنسيتها، فأحيانا كانت تقول إنها هولندية، والباسبور الذي معها كان من دوقية لوكسومبرج، وتقول: إن باريس هي محل إقامتها، وحين عرفتها كانت قادمة من جنوب أفريقيا في طريقها إلى زوجها التشيكوسلوفاكي الذي يعمل مهندس مناجم في بولندا، وبالشرف، أني لا أبالغ؛ فهي نفسها لم تكن تجد غرابة في هذا، كانت تهز كتفيها ببساطة وتقول: أنا إنترناسيونال، أما كيف عرفتها، فالمسألة في بساطة جنسيتها، الصدف المحضة دفعتني لأن أزور الإسماعيلية عقب الاعتداء الثلاثي على مصر، والصدف المحضة هي التي دفعتني لأن أقابل أحد أصدقائي الأطباء في مطعم اللوكاندة التي كنت أنزل فيها، والصدف المحضة هي التي دفعت صديقي هذا لأن تتولاه «نوبة شهامة» ويدعوني لأن أقيم معه في حجرته بمستشفى الإسماعيلية وكان يعمل فيه طبيبا مقيما، وأنا أحب جو المستشفيات والملابس البيض الحسان، ورائحة اليزول إذا جاءت إلى أنفي من بعيد وكانت لطيفة خفيفة.
وهناك عرفت مدام انترناسيونال، كانت إحدى مرضى المستشفى، وكانت موضوعة تحت الحراسة، فقد كانت أحد ركاب الباخرة «كارولينا» السويدية التي حجزها الاعتداء الغاشم في مياه القنال.
وكانت جين هذه ملحوسة لحسة منقطعة النظير، فهي لم تكن مريضة، ولكنها حاولت الانتحار في الباخرة، وأنقذوها في أول لحظة، ولكنها ادعت أنهم جاءوا متأخرين بعدما سرى الأسبرين في جسمها، وأن قلبها ما لم يعمل له «رسم» سيتوقف في الحال، وإذا عرفنا أن الباخرة لم يكن فيها جهاز رسم قلب كهربائي أدركنا أهداف مدام انترناسيونال، كان هدفها أن تهبط إلى البر وتعيش في مصر؛ إذ كانت قد زارت تسعا وثلاثين بلدة من بلاد العالم وكانت تريد أن تكملها الأربعين لتستطيع إذا عادت إلى باريس أن تحكي لصديقاتها عما رأته في الأربعين.
وسألتها: «ألست ذاهبة إلى زوجك في بولندا؟»
فقالت: «لا، نحن نلتقي على الدوام في باريس، فأنا لا أستطيع أن أحيا في غير باريس.»
وقلت لها مرة: «لم لا تفكرين في هدف لحياتك؟»
فقالت: «كيف أفعل هذا وهدفي في الحياة أن أحيا بلا تفكير؟!»
ولو لم تقل ذلك بطريقتها البادية الصنعة لحسبتها فيلسوفة، أو من المفكرين، وكان صديقي الطبيب لا يكاد يستقر في الحجرة أثناء الليل أو النهار خلال الأيام الثلاثة التي مكثتها في المستشفى، ما تكاد تمضي دقيقة حتى نسمع دقا: «الخواجاية عندها مغص يا دكتور»، ويذهب صديقي فلا يجد مغصا ولا إسهالا، ولا يكاد يعود حتى يعود الدق من جديد: «الخواجاية عندها احتباس في البول.»
وكنت كثيرا ما أذهب معه، ولم يكن صديقي ضيقا بها، كانت شيئا جديدا في حياة المستشفى الروتينية وحياته، وكثيرا ما جلسنا نتحدث، وكثيرا ما حملنا الحديث بعيدا، إلى أبعد من جدران المستشفى ومأساة الحرب، وأخطأت مرة وذكرت لها حكاية السلطان، وكأنها كانت تنتظر طول عمرها أن يقول لها أحد شيئا كهذا، فإلى أن انتزعت من سرير المستشفى انتزاعا إلى الباخرة كانت لا تزال تسألني وتلحف، وتدقق، وتروع للتفاصيل وتقول: «أوه! يا سلام!» و«يا سلام» هذه هي الكلمة الوحيدة التي تعلمتها أثناء إقامتها بالمستشفى.
ولم تكتف بعنواني المكتوب الذي أعطيته لها، ولكنها ظلت تردده حتى حفظته عن ظهر قلب.
وودعتني وهي تقول: «حتما سأكتب لك.»
ولكن لم أتوقع أبدا أن تفعل.
وعدت إلى عملي، وإلى القاهرة، وإلى الساعات اليومية الثابتة التي كنت أقضيها في دار الكتب.
كنت قد أمسكت بخيط ما، وكان ترددي على الدار هدفه التأكد منه، فبحثت عن أسماء جميع السلاطين الذين حكموا مصر أو حتى من قدموا إليها غازين أو زائرين ، بل حتى أسماء سلاطين آل عثمان راجعتها كلها، ولم أجد ظلا ولا إشارة واحدة لسلطان باسم السلطان حامد.
وحتى هذا الخيط الواهن انقطع، وبهذا فقدت كل أثر للسلطان.
غير أن حماسي لم يفتر أو يقل.
يومان في الأسبوع كنت أذهب إلى مكتبة الجامعة، ومن هناك إلى قسم التاريخ في كلية الآداب، وأخطئ إذا قلت إن جهودي كانت تذهب عبثا؛ إذ خلال شهور طويلة كنت قد تعلمت أشياء عن تاريخنا لم أكن أحلم بمعرفتها، وكنت قد خرجت بعدة صداقات، ليس أقلها صداقة متينة كانت بيني وبين «علي بك» القزم الذي لا يكاد طوله يزيد على المتر والذي يبيع الكتب القديمة رائحا غاديا بين العتبة والأزهر، وكانت الحكاية قد تسربت مني إلى أصدقائي وإلى معارفهم، حتى كنت أحيانا أجد أناسا لا أعرفهم يبتسمون لي إذا قابلوني في مكان عام ويقولون: «هيه! عملت إيه في حكاية السلطان؟»
ونفس السؤال كنت أسمعه من شبان أهل بلدنا وطلبتها، وحتى الكهول، ومع أن الوضع كان قد انقلب، وانتقلت من الطفل السائل إلى الرجل المسئول، إلا أن إجابتي كانت لا تكاد تختلف عن الإجابات التي كنت أجن لها وأنا صغير.
وما أكثر ما كان يصلني من أفكار واقتراحات! يضرب أحدهم كتفي بشدة ويقول: «وجدت لك كتابا يصلح»، ويأخذني آخر بالحضن ويقول: «خلاص، عرفت حكاية السلطان»، ويحكي، وإذا به سلطان غير السلطان، وكنت أتوقع أي شيء إلا أن أفتح صندوق الخطابات مرة فأجد خطابا راقدا في قاعه وعليه طابع بريد أجنبي.
كان الخطاب من مدام انترناسيونال.
وما كدت أفتحه حتى تساقط منه شيء، ولكني شغلت عنه بقراءة الخطاب، ولم أكن أتوقع أن يكون لها مثل ذلك الخط الجميل، ولم لا أقول: إني ما كدت أعرف أن الخطاب منها حتى وجدتها تلوح في خاطري، وأحس أني حقيقة افتقدتها، أحيانا يبدو الشخص المتعب جذابا من بعيد.
وعلى عكس طريقتها في الكلام كتلك الطريقة التي تظن معها أنها لا تتحدث، ولكنها تمثل، كان أسلوبها في الكتابة رزينا، حتى كدت أظن أنها أصبحت أرملة، والأغرب من هذا كانت تتحدث عن السلطان!
قالت إنها منذ أن تحركت بها الباخرة وغادرت قنال السويس، وهي لا تفكر إلا في مشكلة السلطان، وقد أحست - وبنص كلامها - لأول مرة أنها وجدت شيئا يستحق أن تفكر فيه، ولأسخر منها ما شئت، ولكنها فعلت، والنتيجة مرفقة بالخطاب.
وتأملت ما سقط من يدي حين فتحت المظروف، فإذا به صفحات من كتاب مطبوع.
وعدت أكمل قراءة الخطاب الغريب:
لا تسل كيف عثرت على هذه النتيجة، فمنذ عودتي إلى باريس وأنا وصديقاتي لم نسترح لحظة واحدة، ولم يكن لنا هم طول الوقت إلا البحث في مشكلة السلطان، وكنت أريد أن أحدثك بالتفصيل عن الجهود الكبيرة التي بذلناها لولا أني أوثر أن أخبرك بأهم شيء، ففي الشهر الماضي صدر عن إحدى دور النشر هنا كتاب يعتبر وثيقة تاريخية مهمة، وهو عبارة عن مجموعة الخطابات التي تلقاها المسيو جي دي روان من صديقه روجيه كليمان، وروجيه كليمان كان أحد علماء الآثار الذين رافقوا حملة نابليون على مصر، ويقال إنه لم يعد وإنه استمصر وارتدى الملابس الوطنية وأقام هناك، وها أنا ذا أرسل لك مع خطابي هذا بعض صفحات منتزعة من الكتاب وهي تحتوي على الخطاب الأخير، ولعلمك أن الذي قام على تحقيق هذا الكتاب ومراجعته وتدوين الملاحظات عليه هو الدكتور س. مارتان عضو الأكاديمي فرانسيز، وبهذا تستطيع أن تطمئن تماما إلى سلامة كل ما ورد فيه، وأنا لا أعرف إذا كان ما جاء في الخطاب الذي أرسله العالم الفرنسي ما يكفي لحل لغز السلطان أم لا، ولكن لا أريد أن أمنعك من قراءة الشيء الذي انتظرته طويلا، وأظنك في شغف شديد للاطلاع عليه.
أرجوك، اكتب لي حالا وأخبرني بكل شيء.
عزيزتك
جين إنترناشيونال
ملحوظة: هل عندكم حقيقة قرية اسمها «شطانوف»؟
وهل لا تزال موجودة إلى اليوم؟ صفها لي في خطابك أرجوك.
8
والواقع أني لم أكن في شغف شديد لقراءة الصفحات، كانت حالتي أقرب ما تكون إلى الذهول، لم يكن ذهول الدهشة، ولكنه ذهول الاطمئنان ، فأنا لم أصارح أحدا برأيي هذا، ولكني كنت كثيرا ما أفكر فيه، كنت أحيانا ينتابني خوف من نوع ما، خوف أن أكون قد ضخمت الموضوع أكثر مما هو في الواقع، خوف أن يثبت لي في النهاية أن السلطان حامد هذا ليس له لغز ولا مشكلة، وأنني أنا الذي صنعت اللغز وخلقت الإشكال، وممكن أن لا يثبت أن هناك سرا وراءه ولا يحزنون.
ولو حدث هذا كنت أصبت حقيقة بالذهول.
لحظتها كنت أحس براحة غريبة، راحة تمنعني عن الحركة وحتى عن محاولة معرفة الحل، وكأنه كان يكفيني أن أعرف وأتأكد أن هناك حقيقة سرا، راحة مضت تدفعني إلى أن أفكر في أي شيء إلا التفكير في تصفح الأوراق.
وخطرت لي شطانوف، لماذا لم أتذكر أن جدي الأكبر طالما حدثني عنها، وطالما ذكرني أن لنا هناك أقرباء، وأن جدي الأعلى غادرها في أيام القحط، واستقر في بلدنا، ولماذا لا يكون السلطان حامد قد أقام فترة في شطانوف في الزمن القديم، ولماذا لا أكون من أحفاده؟!
وقلت أرحم نفسي وأقرأ الخطاب.
ولكني وجدت الصفحات مكتوبة بالفرنسية وأن محصولي فيها ضعيف؛ ولذا أسرعت إلى أحد الأصدقاء الضليعين فيها، واشتركنا في ترجمته، وهكذا كانت بدايته:
الخطاب رقم 10
هذا هو الخطاب الأخير في المجموعة، وإن كان بعض الناس يعتقدون أنه لم يكن الأخير، وأن الأستاذ كليمان أرسل بعده خطابا إلى صديقه المسيو دي روان ولكن الصديق مزقه عقب قراءته لسبب لا يزال مجهولا.
أما مصير روجيه كليمان بعد كتابته هذا الخطاب فليس معروفا على وجه الدقة، ومع أن بعض الثقات يؤكدون أنه عاد إلى فرنسا في أخريات أيامه حيث وافاه الأجل، فإنني شخصيا ضد هذا الرأي.
س. مارتان
وها هو الخطاب:
القاهرة في 20 يونيو سنة 1801
عزيزي جي
لا زلت لا أعرف إن كان خطابي الأخير قد وصلك أم ضل الطريق إليك، ولا أعلم إن كنت قد كتبت ردا عليه وفقد هو الآخر، أم أنني لا أزال سيئ الظن بمصلحة بريدنا الموقرة.
على العموم، وسواء ألقي خطابي هذا مصير سابقه أم وصلك سالما، فإنني أحس أني لا بد أن أكتب لك، حتى ولو كنت متأكدا أنه لن يصلك، فهناك أشياء كثيرة تحدث داخل نفسي، وأريد أن أفضي بها لصديق، فكما تعلم أنا لا أجرؤ على أن أهمس لأحد هنا بما يدور في خلدي، أعلم أنك ستسخر مني كعادتك، ولكن، أرجوك حاول أن تفهمني، فالناس هنا لا يريدون.
طلبت مني في خطابك الذي أرسلته منذ أكثر من ستة شهور أن أحدثك عن مصر والمصريين، وذلك الشعب الذي يحيا على ضفاف النيل، ومشكلتي يا صديقي العزيز، هي هذا الشعب!
إنني أعترف لك أنني لم أكن هكذا يوم جئت، أنا - كما تعلم - حياتي هي فرنسا، وقد اشتركت في حمل جمهوريتنا على أكتافي، كنت وأنا أضع قدمي على أرض مصر أحس أني مقبل على بلاد أفريقية مظلمة، أحمل لها شعلة الحضارة وأذيقها طعم الجمهورية التي تنهل منها بلادي، فإذا بي اليوم، ماذا أقول؟! لقد شاهدت القوى الخارقة بعيني يا روان، لقد مسني سحرها ولكنك لن تفهم، لن أجد أحدا في العالم، عالمكم، يفهم ما أعني، فلماذا أتعب يدي وقلمي؟!
حسنا، سأصنع كما يصنع مرشدو الآثار، وسأحدثك عن مصر، فأظن أن الحديث في هذا هو الذي يستهويك، المصريون يا صديقي ليسوا كما تقول، فهم لا يرقصون حول النيران في الليل، وحريمهم أبعد عن حريم ألف ليلة وليلة، وهم غير المماليك، وأظنك لا تعلم هذا، والمماليك انتهينا منهم أو من أمرهم في أولى جولاتنا معهم، جاءوا في صف طويل يرتدون الملابس الحريرية الهفهافة ويركبون الخيل المطهمة وخلف كل منهم عبد أسمر يجري، جاءونا كدون كيشوت، شاهرين سيوفهم ويصرخون فينا أن نخرج لهم لتدور بيننا وبينهم الحرب ويبدأ النزال.
وكانت إجابة الجنرال (يقصد نابليون) عليهم حاسمة، فقد أطلق عليهم مدفعيته في الحال.
وطبعا سقطوا يتخبطون ويصرخون ويلعنون نذالة «الفرنسيس» ويترحمون على زمن الشجاعة والإقدام.
وبعد معركة أو معركتين كنا قد انتهينا منهم كما قلت لك.
أما المصريون، فبعضهم يسكن القاهرة والمدن، ومعظمهم يزرعون الأرض ويسكنون قرى سوداء مبنية بالتراب في الأرياف واسمهم الفلاحون.
وآه من هؤلاء الفلاحين يا جي!
إذا رأيتهم عن قرب، ورأيت وجوههم التي تبتسم لك في طيبة وسذاجة، وأدركت خجلهم الفطري من الغريب، ربما يدفعك هذا إلى الاستخفاف بهم وتعتقد أنك لو ضربت أحدهم على قفاه لما جرؤ على أن يرفع لك وجهه، ولتقبل الإهانة بكل سعادة وخشوع.
حذار أن تفعل شيئا كهذا يا جي!
فقد حاول الجنرال وكليبر وبيلو ذلك وندموا.
لا أحد يستطيع أن يسبر غور هؤلاء الناس، تلك القبيلة ذات الملامح المتشابهة التي هبطت ذات زمان بعيد إلى وادي النيل، وآلت على نفسها ألا تتحرك من مكانها أو تتفتت، القبيلة التي تعلمت أن تحني رأسها لعاصفة الغزاة ثم تمضغهم على مهل، القبيلة التي تسكن واديا مفتحا من كل الجهات تستطيع بأي جيش صغير أن تغزوه، والمشكلة ليست في الغزو أبدا، المشكلة ما يحدث بعد الغزو.
وأتحدى التاريخ أن يثبت أن غازيا دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادرها سالما، لديهم آلة عجيبة، هؤلاء الفلاحون، يستعملونها لطحن الحبوب، حجر كبير يدور فوق حجر كبير ويوضع الحب من فوق سليما ليخرج من بين الحجرين أنعم من الدقيق.
لقد وجدنا الأتراك هنا قد أصبحوا دقيقا من أزمنة طويلة مضت، وكان المماليك في طريقهم إلى نفس المصير، لست أدري أين تكمن قوتهم، ولا كيف تتم تلك العملية؟! ولكن المؤكد أنها تتم.
وقصة حامد، لا أقول: إنها توضح ما أريد، ولكن فسرها إن كنت تستطيع، لقد جئت هذه البلاد عدوا، ولن أخدع نفسي وأقول - مثلما يقولون كلهم هنا - إنني جئت لأحرر المصريين من المماليك، جئت عدوا يا صديقي، جئنا كلنا عدوا قويا مسلحا بأحدث ما وصلت إليه أوروبا من مخترعات وآلات دمار، جئنا غزاة قادرين، فإذا بنا اليوم في ورطة، وإذا بمشكلتنا هي كيف ننتزع أرجلنا لننجو بأنفسنا من طمي هذا البلد وأناسه الذي نحس بأنفسنا نغوص فيهم ونختفي.
ولا أزعم أني سأحسن الحديث عنهم، فليس في استطاعتي أن أفعل شيئا كهذا، سأحدثك فقط عن حامد؛ فمنذ شهور كثيرة وهو الموضوع المفضل للحديث بيننا حين نملك الحديث، ويكفي أن تعلم أن القيادة قد أصدرت أمرا غير مكتوب بمنع الحديث عنه.
وحامد هذا ليس زعيما من زعماء المصريين، بل إنه إلى شهور قليلة لم يكن أحد يهتم بحامد هذا أو يقيم له وزنا، فقد كان أحد فلاحي قرية شطانوف الواقعة بين فرعي النيل، وأظنك لا يمكن أن تعتقد أن اسم شطانوف هذا اسم فرنسي، ولكنه كذلك، فالقرية كان اسمها في الأصل كفر شندي وكان بجوارها قلعة قديمة من قلاع المماليك، وحين غزونا الدلتا، وطردنا المماليك، هدمنا القلعة القديمة وبنينا أخرى جديدة بخامات محلية وأسميناها شاتو نيف (أي القلعة الجديدة)، وكذلك غيرنا اسم البلد وسميناه باسم القلعة، ولا تحسبني أسخر حين أقول إن هذا كل ما صارت إليه رسالتنا تجاه بلاد أفريقيا المظلمة، أن نغير اسما باسم، ولكن الفلاحين غيروا فيما غيرنا، بطريقتهم الخاصة، فأطلقوا على القرية اسم شطانوف بدلا من شاتو نيف!
حامد كان من فلاحي هذه القرية الذين يزرعون الأرض، ويصلون لله في الجامع، وظل هكذا إلى أن جاءت قواتنا وعسكرت في القلعة الجديدة، وكانت القوات بقيادة الكولونيل بيلو الذي عانقته وأنت تودعني في مارسيليا، أتذكر؟ والقلعة كانت بالغة الأهمية إذ كانت نقطة ارتكازنا الرئيسية في الدلتا كلها، وكانت في الوقت نفسه قاعدة تخرج منها الدوريات لتفتيش المنطقة بانتظام.
وكانت سياسية بيلو منذ أن حل في القلعة أن نتجنب مضايقة الفلاحين أو التحرش بهم حفظا لسلامة القاعدة، وليس لأننا أصدقاء المصريين، كما كان يحاول الرجل الطيب أن يفهم الفلاحين، ليس هذا فقط، بل كانت سياسة الجيش عامة أن يحاول التقرب من الوطنيين ويوطد علاقته بهم.
ولم نستفد شيئا من إقامة أمثال هذه العلاقات؛ إذ كلما حاولنا أن نتقرب منهم ازدادوا نفورا، وكلما حاولنا إفهامهم أننا أنقذناهم من ظلم المماليك نظروا إلينا طويلا وكادت نظراتهم تقول: جئتم لتنقذونا من المماليك، وجاء المماليك لإنقاذنا من الأتراك، وجاء الأتراك لإنقاذنا من التتر، وجاء التتر لإنقاذنا من الخليفة ، وجاء الخليفة لإنقاذنا من البطالسة، وجاء البطالسة لإنقاذنا من الإغريق ... لماذا تخصونا بشهامتكم أيها السادة؟!
وما أقسى نظرات هؤلاء المصريين حين يوجهونها إلى عدو غريب، إنهم، بينهم وبين أنفسهم، يعاملون بعضهم كالديوك، طول النهار لا يتحدثون إلا شتائم، هناك أكثر من مائة لقب للأب تبدأ من المركوب وتمر بكل ما يلبس في الأقدام، وتغطي المملكة الحيوانية حتى الخنزير، وأي مكان في جسد الأم ممكن أن يصبح مادة للشتائم شعب ثروة شتائمه لا تجدها عند أي شعب آخر، ولا يتكلمون إلا زعيقا ومع هذا فليجسر غريب، أي غريب، ويحاول أن يلمس أحدهم، ما إن يحدث هذا حتى تحدث المعجزة، وإذا بهم يواجهونه وقد نسوا كل ما كان بينهم من شتائم وخلافات.
وكنا دائما نحس بنظراتهم تكاد تلتهمنا، وما أقسى أن تعيش بين شعب لا يحاول أن يخفي عداوته! وهكذا ظلت الهوة تتسع حتى حدث عصيان القاهرة الذي حدثتك عنه، ومنذ ذلك الانفجار وأعصاب قواتنا في انهيار مستديم.
ورغم تعليمات بيلو وتنبيهاته اليومية، فقد فقد أحد جنودنا المعسكرين في شطانوف أعصابه ذات يوم وأطلق النار على فلاح كان يتتبعه بنظراته، فقتله.
وأحدث هذا العمل أسوأ الأثر في القرية.
وذهب الفلاحون الغاضبون بزعامة شيخ البلد لمقابلة الكولونيل بيلو، ولم ينتظر الرجل، وذهب لمقابلتهم عند الباب، وطلبوا منه أن يقتل القاتل أمامهم، فحاول بيلو أن يقنعهم أن القاتل سيحاكم وأنه سيلقى جزاءه، ولكنهم أصروا على أن يختار بين أمرين، إما أن يقتل القاتل أو يسلمه لهم لكي يقتصوا منه، ورفض بيلو كلا الأمرين، وأمر الأهالي بالانصراف.
وصدعوا للأمر وانصرفوا.
ولكن في اليوم التالي قتل أحد جنود القلعة وهو في طريق عودته إليها.
وذهب بيلو على رأس قوة كبيرة وقبض على شيخ البلد وأحضره إلى القلعة، وطاف مناد في القرية يقول: ما لم يسلم القاتل نفسه قبل مغيب الشمس فإن شيخ البلد سيعدم رميا بالرصاص.
وقبل مغيب الشمس توجه للقلعة أحد الفلاحين وقال: إنه القاتل وطلب الإفراج عن الشيخ، وأخذ بيلو الموضوع كله ببساطة، وقرر أن يشنق الفلاح بعد محاكمته على مرأى ومسمع من الفلاحين ليعتبر غيره بمصيره.
وكان هذا أسوأ قرار اتخذه بيلو في حياته.
ففي اليوم التالي، سيق المتهم إلى ساحة القرية الرئيسية، وجمع كل من وجد في القرية من أهلها وأوقفوا في الساحة ليشهدوا المحاكمة، وتكونت المحكمة من بيلو رئيسا، والماجور لاسال والسير جنت جان بروميرجر عضوين، وكان هناك ممثل اتهام، أما الدفاع فلا تدهش إذ قمت أنا به، ذلك أنني كنت قد وصلت في ذلك اليوم بالذات لأقضي بضعة أيام في ضيافة بيلو، ولأدرس حياة الفلاحين عن كثب.
وكل ما كنت قد عرفته عن المتهم أن اسمه حامد، وأنه لا يختلف عن بقية الفلاحين في المظهر أو الشكل، كل ما يميزه أنه كان طويل القامة، طويل الأنف، واسع العينين، إصبع يده اليسرى البنصر مبتور، وعلى وجنتيه عصفورتان موشومتان لتقوية بصره كما قال لي الترجمان، وطبعا لم أكن أريد أن أشترك في هذه المهزلة، ولكن صديقي بيلو ألح علي لأؤدي هذا «الواجب» باعتباري الوحيد الموجود الذي يحمل دكتوراه في القانون.
وطبعا كانت مهزلة، الفلاحون جالسون وواقفون في الساحة ينظرون لنا نظرات، كلغتهم، لا نفهمها، والمحكمة تتبادل التعليقات الساخرة بصوت مرتفع، وثمة مترجم ركيك لا يجيد العربية ولا حتى الفرنسية.
وجاء دوري لأدافع عن المتهم، ولست أدري ماذا كان رأي بيلو في دفاعي الذي بدأته بالحديث عن الثورة الفرنسية وشعاراتها المقدسة التي قامت من أجلها؛ الحرية والإخاء والمساواة، كم كان مضحكا أن أتفوه بها في ساحة شطانوف، والحكم صادر ولا ينقصه سوى التنفيذ!
ولحسن الحظ ولسوئه أيضا، لم يتح لي أن أكمل مرافعتي، فقد هجموا علينا، لم نكن ندري من أين جاءوا، ولكن امتلأت الساحة بتلك العصي اللعينة التي يسمونها النبابيت وبالحناجر المتوحشة الرهيبة التي تصرخ: لهكبر لهكبر، ولن أحدثك عن الرعب المجنون الذي انتابنا محكمة واتهاما ودفاعا وحراسا، فقد كنا لا نزال نعاني من فوبيا الفلاحين التي تكونت لدينا، فقد حدث بعد الاستيلاء على القاهرة أن أرسل نابليون جيشا بقيادة مارتن ليحتل المنطقة الشرقية من الدلتا، وخرج الجيش في الفجر، وما انتصف النهار حتى كانت قواته عائدة في حالة يرثى لها، الجنود يرتجفون وعيونهم تنطق بالرعب المجنون، وملابسهم في حالة تمزق كامل، وكل منهم يروي قصة مختلفة غريبة عن قوم متوحشين خرجوا عليهم مسلحين بالنبابيت والعصي والفئوس والمناجل وكانوا يصرخون كأكلة لحوم البشر وتخرج صرخاتهم كالرعد وهي تردد: لهكبر لهكبر (ومعناها أن الإله أكبر من كل الأعداء) وجنودنا كما تعلم هم صفوة الجيش الفرنسي المختارة، الصفوة التي فتح بها قائدنا العظيم نابليون النمسا وإسبانيا وبولندا وانتصر بها في سالزبورج وإيطاليا، الصفوة التي شتتت المماليك الشجعان الأقوياء في معركتين، تصور هذه الصفوة المسلحة بالبنادق والمدافع تواجه قوة مسلحة بالعصي والمناجل فتفر مفزوعة هالعة لا تملك حتى أن تطلق بنادقها أو تتجمع صفوفها «ولماذا أخفي عليك أن بعض جنودنا تبولوا على أنفسهم من شدة الرعب؟!» ولم يستطيع أحد أن يفسر هذه الظاهرة أبدا، وهل هي راجعة لوحشية هجوم الفلاحين أو لأسباب أخرى غير معلومة.
وكانت لهذه الحادثة نتائج رهيبة، فقد كان لرجوع جنود مارتن بهذا الشكل الدرامي أسوأ الأثر على الروح المعنوية لجيشنا كله.
ومنذ ذلك التاريخ أصيب جنودنا بمرض الخوف من الفلاحين إلى درجة جعلت أحد أطباء الجيش يطلق على هذه الحالة: «فلاحين فوبيا».
غير أن هذا المرض بدأ يزول تدريجيا حين تم لنا الاستيلاء على مصر، ورأينا الفلاحين عن قرب ولم نجدهم متوحشين ولا من أكلة لحوم البشر، وجدناهم حين عرفناهم طيبين جدا، ومسالمين، ويخجلون من الغرباء، ولكنهم مطيعون، وأحيانا كنا نجدهم ساذجين، حتى ليخيل للواحد منا أنه لو صفع أحدهم لما احتج ولما غضب، ولم نكن نستطيع أن نصدق أنهم هم الذين افزعوا قوات مارتن حتى أحالوها إلى قطيع من الحيوانات المذعورة التي تبحث عن النجاة بأية طريقة.
ما كدنا نرى هذه العصي الرهيبة التي يسمونها النبابيت ونسمع: «لهكبر» هذه حتى جرينا كلنا إلى القلعة لنحتمي بها، ولم تحدث في هذا اليوم خسائر، كنا فقط قد خسرنا المتهم؛ إذ كانوا قد استطاعوا في غمرة الارتباك الشديد الذي حدث أن يهربوه، وتولى بيلو غضب جامح، وجمع قواته في فناء القلعة، وألقى عليهم خطابا يفيض بالتأنيب والتوبيخ، وقال لهم إننا سنخرج كلنا من القلعة ولن نعود حتى نكون قد قبضنا على حامد هذا وعلى عشرة غيره!
وتركته هو يواصل جهوده المظفرة، أما أنا فقد أخذت طريقي عائدا إلى حفرياتي في منطقة الهرم، ولكن أخبار ما حدث بعد هذا كانت تصلنا من القاهرة باستمرار، ولم أعرفها وحدي، كان الجميع يعرفونها.
فقد خرج بيلو على رأس قوة القلعة كلها وحاصر شطانوف، وفتش كل المزارع التي حولها، وفتش كل البيوت ولم يعثر على حامد، فقبض على شيخ البلد وعلى عشرة من الأهالي، ونادى المنادي أيضا بأنه ما لم يظهر حامد فسيعدمهم، ولكن الشمس غابت ولم يظهر حامد، وخاف بيلو إن هو أطلق النار على الفلاحين الأسرى أن يزداد الشغب، فأعطى أهالي شطانوف مهلة أخرى، ولما لم يظهر حامد غضب بيلو وأطلق النار على شيخ البلد، واحتفظ بالباقين أحياء.
وكان لإعدام شيخ البلد دوي شديد في شطانوف والبلاد التي حولها، وسرت إشاعة تقول إن حامد الفلاح أقسم أنه سوف يقتل بيلو انتقاما للشيخ.
ولكن بيلو لم يكن بالرجل الذي يخيفه التهديد، فقد استمر يخرج على رأس الدوريات التي تبحث عن حامد، ولكنه خرج مرة وعاد محمولا على حصانه وجسده ممزق بالثقوب.
ولم ينم الجنرال ليلتها وأمر بتسيير القوات التي كانت تعسكر في شبراخيت إلى شطانوف، وعهد بالقيادة إلى الجنرال كليبر نفسه، وكانت مهمة القائد الجديد هي التنقيب في منطقة شطانوف وما حولها بحثا عن حامد هذا، الفلاح ذي الإصبع البنصر المبتور، والعصفورتين الموشومتين على وجنتيه.
ولم يكن الهدف من القبض على حامد هو إعدامه لرد اعتبار جيشنا فقط، ولكن كان الهدف هو القضاء عليه نفسه؛ إذ إن قتله لبيلو أكسبه شعبية هائلة في القرى المجاورة، وشعور الفلاحين لنا باعتبارنا كفارا وأجانب وأعداء قد بدأ يتبلور حول شخص حامد هذا، خاصة وقواتنا كانت لا تراعي المجاملة في الاستيلاء على الأطعمة وعلى الخيول بلا مقابل.
وضع كليبر خطة دقيقة حاصر بها منطقة وسط الدلتا كلها حتى أصبح وقوع حامد متوقعا بين يوم وآخر، ولكنا يا صديقي كنا نواجه قوما غريبين لا نعرفهم، فقد وجد كليبر نفسه هو المحاصر وسط السحنات المتشابهة المتفاهمة التي لا تستطيع أن تعرف ما يدور خلف جبهاتها أبدا.
وكانت العلامات المميزة لحامد معروفة بالوشم على وجنتيه وإصبعه البنصر المبتور، فانظر ماذا حدث!
جميع حقول الذرة تركت بلا حصاد، وانتزعت منها ثمراتها وهي واقفة، ففي أرض مصر المستوية لا يمكن الاختفاء والاحتماء إلا في حقول الذرة، تلك الحقول التي يمكن أن يكون بينك وبين الشخص أمتار قليلة ولا تراه، وعرف كليبر عن طريق العيون الكثيرة التي يستخدمها أن كل قرية في الدلتا قد أعدت لحامد بيتا وزوجة! وكانت الأنباء تجيء أن حامد سيكون في قرية كذا في يوم كذا وتهاجم القوة الفرنسية القرية وتحاصرها حصارا لا تفر منه إبرة، ومع هذا تجد حامد ينزلق من بيت إلى بيت حتى يصل إلى حافة القرية ويبتلعه حقل ذرة قريب، وكان كل من يعثر عليه وعلى وجنتيه وشم العصفورتين أو بنصره مقطوع يقبض عليه فورا، ولكن لوحظ أن عدد المقبوض عليهم يزداد بكثرة شديدة، وبعد البحث اتضح أن الفلاحين - لكي يخفوا حامد بعلاماته المميزة، رأوا أن يرسم أكبر عدد منهم وشم العصافير على وجناته ويقوم ببتر بنصره الأيسر، حتى لا يصبح ممكنا أن تميز حامد من بينهم، وبعد أن كان وشم العصافير على الوجنات علاجا لتقوية البصر، أصبح عادة شعبية، وبتر الإصبع البنصر أصبح مجال تنافس بين رجال القرى وشبانها ومرتبة من مراتب الشجاعة والبطولة، وكان لا بد أن يحدث ما حدث يا صديقي، فشيئا شيئا بدأت عصابات صغيرة تتكون من مبتوري البناصر وواشمي العصافير، وتهاجم وتقطع الطريق على قواتنا، وتغتال أفرادها، وكان أفراد هذه العصابات يسمون أنفسهم أولاد حامد، وأطلقوا على حامد اسم حامد الأكبر، ثم سموه حامد السلطان (والسلطان هنا علامة للتبجيل الشديد)، وبدأ اسم حامد يزعج كليبر بشكل رهيب كلما مرت قواتنا في قرية صرخ وراءها الأطفال: «حامد حامد!» وكان المؤذنون الذين يستدعون الناس للصلاة في المساجد (أناس يقابلون أجراس الكنائس عندنا، ولكن بدلا من أن تدق يؤذن الشيخ) كانوا يقولون في آخر الأذان: «انصرني يا رب على أعدائي فإني لك حامد»، وكانت قواتنا حين تمسكهم يقولون: إننا فقط نردد كلام الله وكلام القرآن، وأصبحت عملية القبض على حامد مستحيلة، وعملية حصار وسط الدلتا لا فائدة منها، كان الرجل قد ذاب في الأجساد الخشنة التي تبدو ساذجة، وأصبح المهم هو ألا يقضى على شخص حامد، ولكن المهم هو القضاء على اسمه الذي أصبح كالتميمة والسحر، بل أصبح أخطر من كل بنادق جيشنا، فقد كان الفلاحون يطلقونه على قواتنا أنى رأواها، واسم كهذا إذا اتفق قوم كهؤلاء على ترديده وإطلاقه على آذان قواتنا كل يوم وكل لحظة وبشكل مستمر، يصبح أثره أقوى من الرصاص على معنوية قواتنا؛ ولهذا فكثيرا ما كانوا يفقدون أعصابهم ويبكون أو يقتلون من يكون أمامهم من المصريين، وكلما قتل واحد منهم قتلوا واحدا منا.
وغزا اسم السلطان حامد كل أنحاء الدلتا، ثم دخل القاهرة وانتشر بين أهلها انتشارا جنونيا حتى أصبحوا في حلقات الذكر يقولون بدل «يا سلطان حامد»: «مدد يا سلطان!» ثم غزا الاسم مصر العليا، وتكونت فرق أولاد السلطان حامد في كل مكان، وتلفت أعصابنا يا صديقي من هذا الاسم، كان العمال الذين أستخدمهم للحفر كلما تحدثوا لا يقولون إلا حامد، وأحيانا كانوا يتكلمون بغيرها ولكني لا أشك لحظة في أنهم يقولون شيئا آخر غير: حامد حامد حامد.
ووصلنا إلى مرحلة لم نعد نحتمل فيها سماع هذا الاسم بالمرة، وكم استسخفت إيمانهم بحامد هذا! كانوا في نظري كالأطفال حين يمسكون شيئا، وكلما حاولت أخذه ازدادوا استمساكا به.
ولكن مهما كان استخفافي بهم وبإيمانهم، فقد كنت أعجب بهم بيني وبين نفسي، فتصور، كلمة واحدة مثل حامد حين تبنوها، كلمة، مجرد كلمة، تحولت إلى قوة كبيرة مخيفة، يا صديقي لمجرد أنهم آمنوا بها ، إنهم عجيبون هؤلاء الناس، فإيمانهم ليس عن اعتقاد وتفكير، ولكنه عن حب، يحبون الشيء إلى درجة الإيمان، وإن لديهم طاقة حب هائلة يا صديقي، إنهم من كثرة حبهم لبعضهم (رغم الشتائم التي حدثتك عنها) لديهم أنواع غريبة من القرابات فمحمد ابن بنت خالة عمر، وإذا جاءت سيرة واحد أمام أحدهم وقال لك: إنه من نسائبنا، فلا تظن أنه أخو زوجته بل يمكن أن تكون كل القرابة بينهما أن أحد بلدياته متزوج من بلدة الرجل الآخر، إنهم ليسوا شعبا، إنهم كتلة، وكتلتهم كانت قد التفت تماما حول حامد حتى غدا الجنرال - مهما يكن الجنرال - قزما بجواره، وانظر ما حدث!
من شهور قلائل تلقت قواتنا خبرا رقصت له فرحا، أسعد خبر جاءها منذ أن غزت مصر، فقد قتل حامد، تصادف أن كان أحد ضباطنا الذين حضروا محاكمته يمر بداوريته في السوق، ولما رآه أطلق عليه النار في الحال، ولولا أنه فر هو وداوريته في إبان الارتباك الشديد الذي عم السوق، لكانت الجماهير قد أكلتهم بأظافرها وأسنانها.
ولن أحدثك عن الغضب الجامح الذي رج مصر من أقصاها لأقصاها، ولا نتيجة هذا الغضب، ويكفي أن كانت إحدى نتائج مصرعه أن حرقت قلعة شطانوف بكل ما فيها، وثارت القاهرة للمرة الثانية، وأعلن المماليك استقلال الصعيد وأصبح الوضع من الخطورة بمكان، وكثيرا ما رأيت في أحلامي أيامها أننا نذبح كلنا على قارعة الطريق، كنا نحيا فوق قمة بركان نخاف أن يفتح فاه الضخم ويبتلعنا.
وما كادت قواتنا تتنفس الصعداء - رغم كل الاعتداءات التي حدثت - بعد مصرع حامد السلطان حتى جاءتنا أنباء لم نكن ننتظرها، فالفلاحون لم ينقلوا حامد من المكان الذي لقي فيه مصرعه أبدا، ظل في مكانه لا يمسه أحد، وفي ظرف ثلاثة أيام كانوا قد بنوا فوقه ضريحا ذا قبة عالية.
والذي جن له كليبر أن الناس بدءوا يفدون لزيارة الضريح في جموع لا يحصى لها عدد، تتوافد كل يوم وتلتقي حول الضريح كما تتجمع جيوش النمل حول كسرة الخبز، جن كليبر لأنه أدرك أن قتل السلطان حامد لم يغير شيئا، كل ما حدث بعد أن كان حامد اسما تتناقله الأفواه أنه أصبح حقيقة لها مكان وفوقها قبة عالية، تصور حين يصبح الشخص بموته أكثر خطورة من كل ما كانه أثناء حياته، وتصور الجماهير الغفيرة حين تأتي من أماكن بعيدة ساحقة البعد، فقط لتزور ضريح ميت، حتى ولو كان قاتله أحد الفرنسيين!
ماذا كان حامد هذا قد فعل ليتجمعوا حوله بتلك الطريقة المذهلة؟! وهل لأنه قتل فرنسيا انتقاما لمصرع زميله الفلاح يرفعونه إلى درجة كبيرة من التقديس؟!
أم لأنه تحرك في وقت كانت الناس في حاجة لأن ترى فيه واحدا يتحرك كي تنطلق من عقالها وتندفع في كل اتجاه؟!
قلت لأحد العمال الذين يعملون معي: «هل تحب السلطان حامد؟» - «أحسن من أولادي!» - «هل أنت مستعد أن تموت من أجله؟» - «لا أموت مرة واحدة، أموت مرات من أجله!» - «لماذا؟!» - «لماذا؟! هذه مسألة لا يصح فيها السؤال.» - «هل تعرف عنه شيئا؟» - «كل ما أعلمه أنني مستعد أن أفديه بروحي.» - «من هو السلطان حامد يا محمد؟» - «يكفي أنه مات شهيدا!» - «ولا شيء غير هذا؟!» - «لا شيء غير هذا!»
لقد جئنا نغزو هؤلاء القوم بتفوقنا، بمدافعنا، وموسيقانا النحاسية، ومطبعتنا، وتفاعلات كيميانا، ولكن، أنى لنا بقدرتهم الخارقة على التكتل والحب والبقاء؟! أنى لنا بإيمان كهذا؟! أنى لنا بالقدرة على أن نكون أفرادا إذا أردنا، وكتلة واحدة حين نريد؟!
ممكن أن نكون قد أدهشناهم بحضارتنا، ولكن، صدقني لقد روعوني بحامدهم.
ومسكين جنرال كليبر!
فقد كانت أنباء زيارات الآلاف للضريح تقلقه وتجعله يكثر من ابتلاع سلفات المانيزيا، وكل ما فعله بقتل السلطان أن أوجد أمام المصريين شيئا ملموسا يجتمعون حوله، ويرددون اسمه في صيحات صاخبة تجلجل تحت قبة السماء.
وكان أولاد السلطان حامد قائمين بنشاطهم الحاد على قدم وساق، فكان الناس يقبلون لزيارة الضريح وهم لا يعرفون لماذا هم مقبلون! ويعودون وهم يعرفون كل شيء عن الحرب التي دارت بينه وبين الكفرة، وعن قتله غدرا ومصرعه، وعن الانتقام.
ولم ينتظر كليبر حتى ينفجر البركان، فقد هاجم الضريح بكل قواته وهدمه، وانتزع الجثة من مكانها، ولم تكد تمضي على وفاتها أيام، وألقاها في النيل.
وما كاد يستقر في ثكناته حتى كانت الجثة قد استخرجت من الماء بطريقة غير معروفة، وحتى كان قد اختير لدفنها مكان قرب الشاطئ، وحتى كان قد بدئ في بناء ضريح آخر فوقها، وفي أيام كانوا قد انتهوا من إقامة ضريح بدا أكثر ضخامة من الضريح الأول، وقبل أن يتم البناء، كانت جماهير الفلاحين وسكان المدن قد عرفت مكانه، وبدأت تفد بالآلاف المؤلفة إليه.
وقال كليبر لأركان حربه: إن عليهم أن يقضوا على هذه الخرافة قبل أن تقضي هي عليهم، وتشاوروا طويلا فيما يفعلونه، ولو لم يكن كليبر كاثوليكيا لوافق على حرق الجثة، ولكنهم وجدوا حلا وسطا في تقطيعها قطعا صغيرة وذرها في أنحاء البلاد، وليبحث المصريون حينئذ عن إله آخر يؤمنون به، أو خرافة أخرى يتمسكون بها ويتشبثون.
وفي الليل، وكان لا يمكنهم تنفيذ شيء كهذا إلا تحت جنح الظلام، تسلل الجيش الجمهوري إلى ضريح السلطان حامد، وسرق الجثة، وقطعها، ووزعت على فرق مضت تبذرها في طول البلاد وعرضها، ونام كليبر ليلتها أعمق نوم.
ولكي أكمل لك القصة لا بد أن أضيف، أن كليبر نام نومه العميق ذاك لليلة واحدة فقط، فقد بدأت الأنباء تترى بعد هذا بأن المصريين قد بدءوا يقيمون ضريحا فوق كل مكان سقطت فيه قطعة من جسد السلطان.
وبعد أن كانت مشكلة كليبر سلطان حامد واحد، أصبح لديه الآن مئات السلاطين، كل سلطان منهم تفد إليه الآلاف المؤلفة من الجموع، وتلتف حوله، وترتج السماء بذكر اسمه، ويتخذه أولاد السلطان مركزا للنشاط.
وهل تلومني بعد هذا حين بدأ أمر السلطان حامد يشغلني إلى درجة دفعتني أن أستبدل ثيابي الأوروبية بثياب وطنية، وأذهب لزيارة واحد من مئات الأضرحة المقامة له لأعرف سر هذا التعلق به وأعرف لم وقع اختيارهم عليه ليرفعوه إلى مصاف الآلهة!
لقد فعلت وكان ذلك بالأمس؛ إذ كان يوم الخميس، يوم زيارة الضريح ، يوم يقبل الآلاف من أركان الأرض البعيدة وعليهم غبار الحقول ولفحة الشمس ليلتقوا عند صاحب المقام، وما أغرب ما رأيت! ازدحام هائل وكأنه يوم الحشر! ورجال كثيرون في ثيابهم البيضاء المتسخة، ونساء كثيرات في أرديتهن السوداء، وأنوار كثيرة، أنوار المشاعل وأنوار الشوارع وأنوار لا تدري مصدرها، وكأنها تتولد من زحمة الناس، ودفوف كثيرة تضرب فينخلع لها القلب، وجباه يلمع فيها العرق، وعيون غامضة متطلعة، وأيد تلوح، وعشرات الآلاف من الحناجر تخرج عشرات الآلاف من النداءات المبحوحة المستغيثة الآمرة: يا سيدي حامد، كلمة واحدة مكونة من ملايين الكلمات الخارجة من الصدور المتضاغطة، كلمة كبيرة ضخمة تتجمع فوق الضريح كسحابة مقدسة من موسيقى ضوئية راجفة تهتز وتنبسط على قرع الدفوف.
وأدركت أن ما تحت قبة الضريح ليس هو المهم، المهم هو الأجساد الخشنة الغليظة الملتفة حول الضريح، المهم هو النداء الواحد الصادر عن عشرات الآلاف من الأفواه الواسعة الجائعة، المهم هو الوجه الآخر للوحش الخرافي الذي خلع قلوب جنودنا بضربة واحدة من يده، المهم هو ما تفرزه هذه الجموع ويتصاعد منها ويتجمع ويتداخل ويتبلور ويختلط بأضواء المشاعل وأنوار الشوارع وقرعات الدفوف واهتزازات الأجسام!
لقد وقفت مشدوها، يا صديقي، وكأني أرى هذا المزيج الهلامي المعلق بين الأرض والسماء، كأني أرى الإرادة المتجمعة، كأني أرى كل ما لدى الناس من حب وقد ضمته صرخة واحدة، كأن تلك الأجساد الخشنة الملوثة بالطين والتراب تفرز مادة أكثر سموا من الأجساد الحية، أكثر سموا من الحياة، خلاصة الحياة، جماع كل ما هو قادر فيها وقاهر، وجماع كل ما لا يمكن مقاومته، القوة العليا الخارقة، سر الحياة!
وضريح حامد كان هو البؤرة التي تتجمع حولها الإرادات وتلتقي، بؤرة تركز الإرادة في الخلود وتسويها لتصبح إكسيرا سحريا قادرا على تحقيق الخلود، ماذا أقول؟! لقد وقفت خاشعا واجفا أراقب الجموع وهي تفرز الإيمان وتشترك في خلقه لتعود تؤمن به، ويتصاعد النداء الواحد من القلب الواحد فيصبح حين يلتقي بغيره مادة سامية حية تعود تنسكب في كل قلب، تطهره وتقويه وتغذي فيه روح البقاء!
لقد أحسست يا صديقي، أني أواجه القوى الخارقة، حقيقة أحسست بهذا، أحسست به إلى درجة كادت تدفعني لأن أسجد لها وأطلب المغفرة، أحسست بالإكسير ينسكب في قلبي والنور الموسيقي الراجف يملأ صدري ويمتزج بحناياي فأحس لأول مرة في حياتي بعظمة الحياة وروعة أن نكون بشرا وآدميين نمتلك هذه القدرة المعجزة، قدرتنا على أن نتجمع ليصدر عن تجمعنا ما هو أسمى من حياة كل منا!
لن تدرك ما أعني يا روان! محال أن تدركه من غير أن تراه وتحسه، ومشكلتي أني رأيته وأحسسته!
أنا أكتب لك خطابي هذا من حجرة في القلعة، ومن خلال النافذة ألمح جنودنا يقومون بطوابير الصباح وينظفون البنادق ويستمعون إلى الأوامر ويتسلمون الذخيرة الجديدة ويزيتون المدافع، وها هو البروجي يعزف نوبة الجنرال، وإني أرثي لجنودنا وجنرالهم، ما فائدة البنادق والرصاص؟! ألكي تخضع هؤلاء الناس بقتل بعضهم؟! وما فائدة القتل في قوم يحيون قتلاهم وموتاهم؟! في قوم يخلقون من الميت الواحد مئات الأحياء، ويخلقون لكل حي بعد هذا آلاف الأولاد؟!
إني خائف يا روان، منذ الأمس وأنا أحس بقوى لا قبل لي بها تجذبني إلى هذا الشعب وتهيب بي أن أعرف سره، وسوف أقول لنفسي إنها محاولة للدراسة، ولكن لا تصدقني، فأنا لا أصدق نفسي، إني أقاوم بعنف، إن ثقافتي وتراثي وعقلي تمنعني أن أنجذب إلى كتلهم حين تتجمع، ولكني لم أعد نفسي، لقد غيرت ليلة الأمس أشياء كثيرة داخلي، إني خائف أن تنتهي مقاومتي، خائف أن أنسل اليوم أو غدا وأذهب إلى ضريح من مئات أضرحة السلطان حامد الفلاح المبتور البنصر الذي اشتركت في مهزلة محاكمته، خائف خوف الموت أن أفعل له مثلما كنت أفعل للعذراء في الكنيسة عندنا فأضيء له شمعة وأضعها بجوار شمعات الفلاحين الفقراء لتنير قبره.
وصحيح أن شمعتي لن تكون شيئا بجوار ما يحظى به السلطان من تكريم وتقديس؛ فما هي سوى شمعة واحدة، شمعة من مئات الشموع التي أضاءت وستظل تضيء مئات أضرحته، مئات الليالي، ومن يدري، ربما مئات السنين!
ولكن لا تعجب إذا أقدمت على هذا اليوم أو غدا أو في مساء قريب، فإني أحس بنفسي سائرا بلا إرادة إلى هذا المصير، أحس بمقاومتي تتلاشى وتنتهي.
روجيه
النجدة يا روان.
صفحه نامشخص