ثم جاءوا إلى بعض الأحجار الكبيرة فجلسوا عليها، ولما استقر بهم المقام قالت فريدة: لعلنا لم نبطئ على الشيخ، فقد كنا قادمين قبل الآن لنكفيه مؤنة انتظارنا، ولكن المطر داهمنا فرجعنا من حيث أتينا، فإن هذه العاصفة لم تكن بالحسبان، فمسكين هو الإنسان كم هو ضعيف أمام قوى الطبيعة، فقد كنت طول هذا الوقت عندما كانت الأرياح تعصف والبرق يلمع والرعد يقصف والأمطار تهطل أفكر بهذا، وأنظر إلى حقارتي بالنسبة إلى ذلك، ولكن كنت في الوقت ذاته أشعر أيضا بعظمة نفسي أمام كل هذا، فأقيس ضعفي بهذه القوى فلا أفهم لعظمة نفسي من سبب. فأجاب الشيخ وقال: اسمعي يا ابنتي، إن شعورك بالحقارة هو بالنسبة لجسمك المادي أمام عظمة تلك القوة التي تفوقه؛ لأن المادة التي به هي جزء حقير بالنسبة للوحدات الأخرى، فالمادة ولو أنها في أصلها عظيمة إلا أن ما طرأ عليها من التغييرات والتجزيئات، وما تكون منها من الوحدات بعدها عن الأصل, ووضعها تحت الحس والمقارنة، أما شعورك رغم ذلك بالعظمة النفسية فهو بالنسبة لروحك؛ لأن الروح هي رأسا من الأصل الفرد العظيم المثلث المظاهر المالئ للفضاء، والذي منه كل الكائنات؛ فهي رأسا من مظهره الثالث.
لقد سألني نجيب أمس كما سألني فريد من قبل عن هذا، ولقد تكلمت مرارا عنه في سياق الحديث، والآن أقول لكم بأن الروح هي تلك القوة التي تصدر منبثقة من اجتماع السلبي والإيجابي، وهي في الأحياء كاملة؛ لأنها شاعرة مدركة محركة بذاتها، أما في الكائنات الأخرى فهي كامنة ناقصة لا قدرة لها بذاتها، بل تظهر عند اجتماع العنصرين: فالسلبي فيه روح، ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير الإيجابي، والإيجابي فيه روح ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير السلبي، ولا قدرة لأحد العنصرين على التكوين بدون الآخر، ولا اجتماع لهما بدون انبثاق الروح منهما، ونرى لهذه الحقيقة مظهرا يؤيدها في كل شيء، فمثلا لو لم يتلاق السلبي والإيجابي لما كنتم رأيتم نور البرق ولا سمعتم قصف الرعد الآن؛ لذا كانت الأحياء وسيدها الإنسان بالنسبة لرقي روحه أشبه الأشياء بالله - عز وجل؛ ولهذا دعي الناس أبناء الله وما الله - عز وجل - سوى تلك القوة الفائقة الخالقة العاقلة، وذلك العنصر الأصيل الفرد المثلث المظاهر الأصل الوحيد والمرجع الوحيد؛ لذا أيضا فإن كل قوة هي من الله؛ لأنه هو المصدر الوحيد لجميع القوى.
فهذه هي الحقيقة التي بدت لي أقولها لكم يا أولادي، وهذا هو السر الذي ائتمنت الأجيال أبا الهول عليه يبوح به الآن، وما بقية الأشكال والمظاهر سوى خيالات لا حقيقة بالحقيقة لها سوى ما بها من العنصر الأصيل الفرد فقط.
قال هذا وذهب عنهم تاركا عصاه وجرابه لنجيب.
صفحه نامشخص