تقديم الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
تقديم الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
في ظلال الحقيقة
في ظلال الحقيقة
تأليف
نجيب أشعيا
تقديم الكتاب
واجب علي مقدس نحو مصر، حيث شببت وعشت العشرة والعشرين زهرة العمر، حيث نزلت على الرحب والسعة، حيث صادقت وأحببت وكافحت وجاهدت روحا وجسما، فذقت طعم الحياة من حلاوة ومرارة، فنلت غايتي الأولى، وتجلت لي الحقيقة فنلت بها غايتي الثانية.
فلمصر وطني الثاني بشخص سيدها الجالس على عرشها فؤاد الأول، أؤدي هذا الواجب فأقدم عروسة فكري وربيبة روحي، شكرا لما كان ولما سيكون.
نجيب أشعيا
الفصل الأول
الفاتحة
على ضفاف النيل، تحت ظل النخيل، على مقعد من خشب في مقدمة الجزيرة، هناك كان يجلس شاب في مقتبل العمر حاسر الرأس يلاعب شعره النسيم، يحول عينيه تارة إلى الماء وطورا إلى السماء مبتسما مرة وعابسا مرة أخرى. كان هذا الشاب يرتاد هذا المكان لجمال موقعه وطلبا للراحة بعد عناء الأعمال، ولما كان يوحي إليه هذا الموقع من الأفكار التي كان يلذ له التفكير فيها، لم يكن يرتاح إلى الأخذ بالظواهر فقط رغم حسنها أو قبحها، بل كان يحب التعمق في كل شيء؛ ليصل إلى معرفة أصول ما يشاهد أو يسمع، فإنه كان يطلب الحكمة في أرجاء هذا الكون.
إنما الحكمة بنت الاختبار
تقتنيها النفس بعد الاعتبار
أو بالأحرى كان يبحث عن الحقيقة بنفسه؛ لأنه في أوائل سني تلمذته كان قد سمع هذا البيت؛ فتنبهت له حواسه وأخذ من ذلك الحين في التفكير رغم ما كان يبدو عليه مرارا من دلائل الخفة وعدم الاكتراث؛ لذا تربت في نفسه ملكة البحث رويدا رويدا، إلى أن تملكت منه فأصبحت فيه طبعا لا يهنأ له عيش إلا بالتفكير للوصول إلى الحقيقة أو البحث عنها. لم يكن يقرأ كثيرا؛ لأنه كان كثير الخيلاء، لا يريد أن يتأثر بأفكار الغير، بل كان يريد أن يربي نفسه بنفسه؛ ليكون له رأي خاص عن اقتناع شخصي، إلا أنه كان إذا أثبت له بعد ذلك فساد رأيه ينقاد إلى الصحيح بسرور عظيم وشكر. كان يحب المباحثة والإكثار منها مع كل الناس من مختلف الطبقات والأجناس، الكبير والصغير، العظيم والحقير، نساء ورجالا فتية وفتيات؛ لاعتقاده بأن الروح العظيمة ليست لها طبقة أو أمة مخصوصة بل توجد في عموم الطبقات والأجناس، وكم كان اغتباطه عظيما عندما كان يتغلب رأيه على رأي محدثه، فينقاد هذا مقتنعا إليه خصوصا إذا كان المقتنع من ممتازي الناس ومعروفيهم إن علما أو مركزا أو جاها.
كانت عيشة صاحبنا هذا مزدوجة: حياة الحاضر، وحياة الماضي التي كانت دائما ماثلة بتذكاراتها أمام عينيه؛ لأنه كان يقول: إن الإنسان الحقيقي الذي يمكن أن يدعى بحق إنسانا هو ذاك الذي يعيش بنفسه وبقلبه وبتذكاراته أكثر مما يعيش بجسمه.
ففي عشية ذات اليوم بينما كان شابنا جالسا على مقعده كالمعتاد، إذ شعر بانزعاج خفي أخذ عليه أفكاره، فأخذ يبحث عن السبب في نفسه وحواليه، وفيما هو حائر لا يعرف لهذا من داع، إذ أبصر على بعد خطوات منه شبحا يتحرك من وراء الأشجار قادما إليه، ولما دنا وتبينه إذا به أحد الدراويش رث الثياب، عاري الرأس، ضئيل الجسم، يناهز السبعين من العمر، ذو لحية بيضاء، براق العينين، متأبطا جرابه، متوكئا على عصا طويلة يمشي بتثاقل شديد كمن أعياه السير، ولم يكد يقترب من صاحبنا حتى خفض نظره، وحيا بكل احترام وطلب صدقة؛ فناوله صاحبنا قطعة بقرشين، فأخذها فرحا وأراد أن يقبل يده شكرا وامتنانا. أما صاحبنا فقد سحب يده وتباعد قليلا، فقال له الدرويش: بارك الله فيك يا سيدي، لقد أغنيت عوزي الليلة، وقد أردت أن أقبل يدك علامة الشكر العظيم فلم تشأ؛ لذا فليكافئك الله عني ويجزيك خيرا، وينيلك مرامك. وهم بالسير إلا أن صاحبنا لم يكد هذا الدعاء يصل إلى سمعه حتى شعر بارتياح شديد، وبميل إلى الإكثار من محادثة هذا الشيخ الغريب، فاستوقفه قائلا: يا هذا، أراك تعبا، والمسافة بيننا وبين المدينة قريبة لا تتطلب جد السير، فاجلس هنا قليلا لنتحادث؛ فالمكان جميل والهواء عليل، وخذ هذه قطعة بقرشين أخرى، وهذه سيجارة فدخنها. فأخذ الشيخ القرشين والسيجارة وشكر وجلس.
الفصل الثاني
بدء الحديث
بعد أن استراح شيخنا قليلا؛ بادره الشاب بالسؤال قائلا: من أين أنت يا هذا؟ وما اسمك؟ وإلى أين قاصد؟ فأجاب الشيخ وقال: أما من أين أنا، فإني لا أعرف لي وطنا مخصوصا، أعيش هنا وهنا أطوي الفيافي والقفار وأزور المدن والقرى متنقلا من مكان إلى مكان في أرض الله الواسعة، ليس لي مقصد سوى البحث والتنقيب، أراقب الطبيعة وأستجليها المكنون، لعلي أهتدي إلى سر وجودي وسر الوجود، فادعني إن شئت باحثا. فأكبر الشاب هذا الجواب وتبين له أن هذا الشيخ الذي ظنه أولا أحد الدراويش المتسولين ليس هو بالرجل العادي، بل إن هذا الجسم الحقير المظهر يحوي نفسا كبيرة، وهذا الرأس العاري المعفر بالغبار فيه عقل راجح عظيم، ربما قل وجوده في أعظم الجامعات.
وسر كثيرا بسنوح هذه الفرصة التي أقامها له القدر عفوا لعله يستفيد منه بما يشفي غليله؛ حيث إن غاية هذا الشيخ الباحث هي كما بدا من جوابه نفس الغاية التي يصبو إليها ويسعى وراءها. فقال له: وإلى أية نتيجة وصلت يا صاح؟ لعلك توفقت في أبحاثك ومراقباتك إلى أمر حاسم تهديني إليه؛ لأني وإن اختلفت معك مظهرا وعيشة فغايتي هي نفس الغاية التي سعيت وتسعى أنت إليها، فبالله عليك أفدني وزدني إفادة وإيضاحا. فحدق الشيخ فيه نظره كمن يريد أن يخترق أعماق أفكاره؛ ليرى حقيقة أمره، هل صحيح ما يريد هذا الشاب؟ أو هل سؤاله هذا هو من باب الازدراء؛ حيث إن هذا الأمر قليل من يبحث فيه من الناس، وأقل منه أيضا من يعيره من الأهمية التي يجب أن تكون له؟! وبعد أن صعد بصره فيه مرارا وصوبه، وتحقق منه الجد، أبرقت عيناه سرورا، وبانت على وجهه علامات الارتياح، فأجابه وقال: يا بني، إن البحث عن الحقيقة يجب أن يكون غاية كل عاقل ومفكر، حتى إذا ما وصل إليها أو إلى ما يدانيها، سار معها أو مع ما يكون قد ظهر له منها موفقا أعماله مع سننها؛ حيث إن السعادة الحقيقية والراحة التامة هي فيها ومعها.
لقد مررت بك الآن مرة وثانية دون أن تنتبه إلي، فرأيتك غارقا في تأملاتك فاستلفتت حالتك نظري وشعرت بميل إليك لم أعرف له أولا سببا، ولكن لم ألبث أن ذكرت ما قيل: «إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر اختلف»؛ لذا وقفت أخيرا حيث رأيتني قادما محدقا بك النظر مفكرا، وأتيت بحركة تنبهت أنت إليها.
فبهت الشاب لهذا، وعرف حينئذ سر الانزعاج الخفي الذي شعر به قبل أن يرى الشيخ.
لقد ولدت يا بني على ما قيل لي من أبوين صالحين لم أعرفهما؛ لأنهما ماتا قبل أن أبلغ الرابعة من العمر، فربيت يتيما تتلاعب بي أيدي الأغراب إلى أن بلغت العاشرة. ففي ذات يوم بينما كنت ألعب مع أحد أولاد الجيران ونلاعب كلبا صغيرا نركض ذهابا وإيابا، والكلب يتبعنا متعبا، إذا دست على غير انتباه وقصد على رجل صاحبي؛ فآلمه ذلك؛ فأخذ يبكي ويصرخ، وقام ولطمني وجاء أخوه وأبوه وأشبعاني ضربا ولكما. ولما كنت يتيما وحيدا فقيرا لم أر أحدا يشفع لي بل إن الذين حضروا أخذوا جميعهم يلومونني ويعنفونني، فآلمني ظلمهم أكثر من ضربهم وتأنيبهم. ولم أزل لليوم أذكر هذه الحادثة التي كانت السبب فيما أنا فيه وعليه؛ لأني عندما تخلصت منهم جئت إلى الكلب الصغير، فحملته وسرت هائما على وجهي باكيا شاكيا ساخطا، فبت تلك الليلة جائعا في إحدى المغائر، وفي صباح اليوم التالي قمت مبكرا أحمل كلبي أبحث عن شيء نقتات به، فأبصرت من بعيد راعيا آتيا مع قطيع كبير من الغنم، فركضت إليه وقبلت يديه وطلبت منه قطعة خبز لآكلها مع كلبي، فهش في وجهي وبش، وسألني إلى أين أقصد، ومن أين أنا، ومن أنا؟ فأخبرته بجميع قصتي، فرق قلبه لي وفتح جرابه وأعطاني رغيفا، وأمسك أحد النعاج، وحلب منها قليلا من اللبن؛ وسقى كلبي. فأكلت الرغيف وأطعمت أيضا منه الكلب وفرحت جدا، وأنست بهذا الراعي وقمت إلى يده مرة أخرى أقبلها، وأردت متابعة السير فاستوقفني، وقال لي أن أبقى معه طول النهار، وفي المساء يأخذني معه إلى الدير، حيث إن هذا القطيع هو لأحد الأديار، وهكذا كان. ففي المساء جئنا إلى الدير وبعد أن أدخل الغنم الحظيرة ذهب وكلم أحد الرهبان فجاء إلي وأخذني بيده إلى الرئيس، فسألني عن قصتي فأخبرته بها من أولها إلى آخرها، فسكت قليلا وفكر ثم ضمني إلى صدره وقبلني، وقال لي: يا بني، اعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد سمح لك بهذا الشر كي ينتج لك منه خيرا، كما أن هذا الألم الذي نالك من ضرب هؤلاء الناس لك، لربما كان قصاصا عما آلمت به كلبك، ولكن لا بأس من هذا، فالنتيجة هي على كل حال خير لك، فإني أقبلك هنا وستكون في النهار مع الراعي تساعده على رعاية ومراقبة القطيع، وفي المساء سآمر أحد الإخوة بأن يعلمك أصول القراءة وقواعد الدين. ففرحت جدا جدا وشعرت بسرور داخلي وارتياح عظيم، فقبلت يدي الرئيس، وشكرت له هذا الصنيع. وهكذا بقيت في خدمة الدير اثنتي عشرة سنة أذهب في صباح كل يوم مع صديقي ومخلصي الراعي بطرس، يصحبنا كلبي الأمين بلبل؛ نرعى الغنم. وفي المساء نعود بها. وبعد العشاء كنت أذهب أولا في السني الأولى إلى معلمي الراهب يوحنا أتلقى عليه أصول القراءة والكتابة وأمور الدين، وبعد أن أتقنت هذه كلها كنت أختلي إلى مكتبة الدير أطالع الكتب فيها إلى قرب نصف الليل، محاولا فهم ما فيها وتطبيقه على ما كنت أشاهده أو أسمعه أو يجول بخاطري. وكنت أكثر الحديث مع الرهبان ومع بطرس؛ مستفهما عن كل شيء خصوصا مع صديقي هذا الأخير؛ حيث كان الوقت متسعا لنا، وأمامنا من الطبيعة كتاب لا نهاية له نأخذ عنه دروسنا ونروض الفكر على ما كان يبدو لنا من الأسرار. فحقا يا بني إن الطبيعة لهي أعظم أستاذ يعطي دروسه بسخاء وعن ينبوع لا ينضب لكل من يسترشد به، ويأتي إليه يستنير بنبراسه، فالدارس على الطبيعة الآخذ عنها حكمته وعلمه يكون حقيقة حكيما عالما؛ فينفتح أمامه كتاب الكون يقرأ فيه كما تقرأ أنت في صحيفة الأخبار، بشرط أن يواجهها بأكملها ومن كل الوجوه، وليس من جهة أو من بعض الجهات.
ففي أحد الأيام بينما كنت مع بطرس نرعى القطيع على حسب المعتاد، وبلبل الكلب الأمين يركض إلى هنا وإلى هناك مراقبا حارسا، لاحظت على بطرس آثار ألم يكافحه ويريد أن يتغلب عليه ويخفيه عني، فسألته ما لك يا صاح؟ فإني أرى على وجهك وفي حالتك ما يدلني على أنك تتألم، فبماذا تشعر؟ قل لي لعلي أستطيع أن أفيدك بشيء. فشكرني وقال: صحيح ما لاحظت فإني طول الليلة الماضية وأنا على غير ما يرام ولكني عند الصباح آنست في بعض التحسن فقمت كالعادة، ولكن الآن عاودني الألم بشدة، لا يمكني من متابعة السير، فهات يدك ولنجلس تحت هذه الشجرة القريبة. ففعلت، وبعد أن أجلسته ذهبت إلى بعض الآبار واستقيت دلو ماء أتيته به، فغسلت وجهه ويديه ورجليه فنام قليلا، ولما استيقظ كان قد استراح بعض الراحة وهدأ الألم نوعا ما، ولكنه لم يلبث أن عاوده. حينئذ أشرت عليه بالرجوع بالغنم إلى الدير، فقبل، ورجعنا. وعند عودتنا أخبرت الرئيس والرهبان بالأمر، فحضروا إلى غرفته وسقيناه بعض العقاقير وعالجناه على قدر الإمكان، ولكن لم يصبح الصباح إلا وكان صاحبي ومنقذي بطرس قد فارق الحياة، فبكيناه جميعا بدموع حارة.
وبعد الصلاة عليه واريناه التراب في مقبرة الدير.
أما بلبل فإن حزنه قد فاق حزننا جميعا، فإنه عندما رافقنا إلى المقبرة ورأى ما حل بفقيدنا، انقطع عن الأكل وذهب عنا واختفى، وبعد بضعة أيام وجدناه ميتا على قبر بطرس، وهكذا فقدت رفيقي وأصبحت وحيدا مرة أخرى. عندئذ اشتد بي الحزن وصغرت في عيني الحياة، ولم أعد أطيق القيام في الدير؛ فاستأذنت الرئيس وودعت الرهبان والأسى ملء القلب، وأخذت هذه العصا وهذا الجراب وهما من مخلفات بطرس، وسرت هائما على وجهي من تلك الساعة إلى الآن حيث تراني معك. فتأثر الشاب من هذا الحديث ونظر إلى الشيخ نظرة إشفاق كأنه يشاركه في كل ما حل به من المصائب، وود لو ساعدته الظروف ليكون معه دائما ملازما؛ كما كان هو فيما مضى مع بطرس، ولما كان الوقت قد مضى وقد تأخر عن ميعاد رجوعه إلى منزله دعا الشيخ إلى المبيت عنده؛ كي يتابع الحديث، فاعتذر الشيخ عن قبول الدعوة بكل لطف ووعده باللقاء في الغد في المحل ذاته، فتفارقا على أمل المقابلة في الغد يفكر كل في صاحبه كأنهما يعرفان بعضهما من سنين؛ حيث إن هذه البرهة الوجيزة التي قضياها سويا كانت كافية لتمكين عرى التعارف لا بل الصداقة بينهما. ولا غرو، فإن هذا الأمر يكثر حدوثه جدا بين الناس وحتى بين الحيوانات عند تجانس الدم والروح.
الفصل الثالث
هل يوجد خير أو شر في الحقيقة؟ أم أن ما نظنه خيرا لنا هو شر للغير والعكس بالعكس. ***
في اليوم التالي في الوقت المعين أقبل صاحبنا الشاب نجيب، وجلس على المقعد حسب المعتاد، ولم تمض برهة قصيرة حتى حضر شيخنا، وبعد تبادل التحية والسلام قال له نجيب: والله يا شيخي إني لم أذق مرارة الانتظار مثل الليلة، فقد كانت كل دقيقة منها بيوم، وكل ساعة بشهر. فتبسم الشيخ وقال: وهذا ما كان عندي أيضا، ولنعد الآن إلى الحديث.
من سياق كلامي لك أمس يتضح أنني تركت الدير وعمري اثنتان وعشرون سنة، وقد بلغت الآن السبعين، فثمان وأربعون سنة قضيتها كما تراني الآن متجولا من بلد إلى بلد، فزرت معظم الأقطار، واختلطت بجميع الشعوب؛ من هنود وصينيين وعجم وعرب وزنوج. ورحلت أيضا إلى أوروبا وشهدت ما يسمونه عظمة التمدن الحديث، ومن هناك قيض الله لي من استصحبني إلى أمريكا؛ حيث مكثت ثماني سنوات، فبحثت ونقبت وراقبت؛ فدهشت، ولكن دهشتي لم تكن لأمر جديد وقفت عليه ، ولو أن أشياء كثيرة يمكن عدها جديدة لاختلاف مظاهرها عند الناظر إليها سطحيا، بل إن دهشتي هي لأني رأيت وتحققت بأن لا شيء جديد تحت الشمس، أو بالأعم لا شيء جديد في العالم أجمع. فالطبيعة واحدة، وسننها واحدة، تتمشى على أنظمة وخطط ثابتة واحدة، والويل لمن عارضها، فسبحان تلك القوة الخالقة المدبرة الفائقة، فلا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إنه يخرج من الينبوع العظيم ويعود إليه. ولو اختلفت طرق العودة بالتحول من شيء إلى آخر حتى ظن بعضهم أن الفناء حاصل، مع أن الحقيقة لا فناء بل تحول، بل رجوع إلى الأصل كما سترى فيما بعد.
تتصارع الكائنات جميعها بعضها مع بعض سيان في ذلك الجماد والنبات والحيوان تحت تأثيرات شتى وعوامل مختلفة، فتتبدل أشكالها وتتغير من حال إلى حال مع توالي الزمن، ومرور الأيام ينظر المرء إلى هذا، فما كان منه موافقا له ولمصلحته وصحته ولراحته عده خيرا، وما كان مخالفا عده شرا، مع أنه في الحقيقة لا يوجد خير أو شر؛ إذا نظرنا للمجموع الكلي وللنتيجة القصوى وللسنن الطبيعية.
سنة تنازع البقاء سنة طبيعية، ولكنها في الإنسان تدرجت معه حتى تولدت منها الأنانية، وعلى مصلحة الأنانية الفردية أو الشعبية أو العمومية الإنسانية تكيف الخير والشر، ومصائب قوم عند قوم فوائد. وإذا أردت يا بني أمثلة على هذا المبدأ أقول لك: إني أنا مثل وأنت مثل، وما حصل وما يحصل لك مثل، وكل إنسان وكل حيوان مثل، وكل ما في الطبيعة أمثال؛ لذلك إذا حصرتها انحصرت وإذا عممتها تعممت. تضيع أنت محفظة نقودك فهذا شر لك؛ لأنك فقدت شيئا يمكنك به أن تزيد نعيمك ولذتك وراحتك، إن رأسا أو بواسطة أو أدبيا أو ماديا روحيا أو جسميا فيجدها غيرك فيكون شرك خيرا للغير. في حقلك بقرة تدر عليك لبنا وتفيد أرضك وزرعك، وفي الجبل بالقرب منك أسد جائع؛ يأتي فيفترس البقرة فيأكلها ويشبع أشباله، فموت البقرة يعد في العرف الحالي شر عليها وعليك، ولكن خير للأسد ولأشباله ، ولكن هل خسرت الطبيعة شيء؟ كلا، فبمجموعها توازنها باق. يحترق حي في مدينة فينقلب العمار الذي فيه إلى حي آخر. تخرب بقعة فيتحول ما كان يلزمها من الخيرات إلى بقعة أخرى فيزداد خير هذه ببلاء تلك. تقوم حرب بين أمة وأخرى فتخسر هذه وتفوز تلك؛ فشر الأولى خير للثانية. ولكن يطغى البحر على أرض غير مأهولة فيغمرها وتزلزل الأرض زلزالها، فتغور جزائر وتظهر أخرى، ولا تعد هذه الحوادث لا خيرا ولا شرا. تنقض صاعقة فتميت شاة لامرأة عجوز فقيرة، فيعد هذا الأمر حادثا جللا وشرا مستطيرا، ولكن تولد حيوانات شتى مفترسة وغير مفترسة، وتعيش في الغابات البعيدة وتموت وتنقرض ولا يفطن لها أحد، فلا يعد وجودها أو فناؤها لا خيرا ولا شرا.
بالقرب من إحدى القرى يوجد ذئب كاسر يسطو على ماشية الناس فيتعاونون على قتله، ويعدون الفتك به خيرا عظيما، ثم يجدون حيوانا نافعا مفيدا فيحسب وجوده نعمة. تنفجر عيون ماء غزيرة تجري منها أنهار وتجف أو تتحول من مجاريها إلى مجاري أخرى، ولا أهمية لهذا إذا كانت في بقاع لأناس فيها، ولكن يرمي بعضهم حجرا في بئر ماء يرتادها الناس فيعد عمله شرا يستوجب العقاب. تنبت الأشجار والمزروعات في أراض غير مأهولة من الإنسان وتزهر وتثمر فيأكل الطير والحيوان ثمرها - إن كان هناك حيوان أو طير - أو تتساقط على الأرض بعد نضجها، وتتحول إلى تراب وأسمدة، ولا يعد هذا لا خيرا ولا شرا، ولكن يكون في بستان يوسف شجرة تفاح يقطف منها زيد تفاحة فيعد عمله شرا وسرقة تستوجب القصاص. يربي الإنسان الماشية ليأكلها وينتفع بلحمها وجلدها وعظمها وبكل ما ينتج عنها. ويذهب الصياد إلى الصيد فيقتنص الحيوانات والطير ويستعملها لما يتراءى له فيعد عمله خيرا عظيما، ولكن إذا لسعت عقرب ولدا أو لدغت نحلة إنسانا أو نقد طائر حبة حنطة من بعض حقول الناس عد هذا العمل شرا، أفليس هذا من الغرابة بمكان. وهكذا مما لا نهاية له. فمن هنا ترى يا بني أن الخير والشر ما هو إلا زرع، ونبت الأنانية الإنسانية حسب وجهة نظر الإنسان فيما يتراءى له من الفائدة، إذ ما معنى تحول الماء من جهة إلى جهة للماء نفسه، أو ظهور أرض وغور أرض للأرض نفسها، أو سقوط ثمرة من الشجرة أو قطفها أو أكلها من إنسان أو حيوان للشجرة ذاتها، أو وجود حيوان مفترس أو داجن أو عدم وجودهما هنا أو هناك.
فأجابه نجيب، وقال: يستنتج من أقوالك وبيانك أنه لا خير ولا شر البتة، ولكن كيف توفق هذا مع تعاليم جميع الأديان، وقد اتفقت جميعها على وجود الخير والحث على عمله، ووجود الشر والنهي عن فعله؟ فقال الشيخ: اسمع يا بني: لما ترقى الإنسان وأسس جمعيته الإنسانية، فعاش قبائل فشعوبا فأمما، ورأى أن عوامل كثيرة طبيعية تقاومه منها خارجية؛ مثل الحيوانات المفترسة والسامة، والقحل في الأرض، والصواعق والأمطار، والحر والبرد والثلوج، والعواصف وخلافها، ومنها داخلية مثل؛ البغض، والحسد، وحب الانتقام، والكسل، وحب الحصول على جنبي الغير، وهلم جرا مما نشاهده في أنفسنا ونعلمه من ذواتنا، أراد أن يحتاط للأمر ويعد العدة لمقاومة ذلك حفظا لتلك الجمعية وتقوية وإنماء لها، فاقتبس من غريزته الطبيعية ومما شاهده في أجناس الحيوانات سننا وطرقا سار عليها، ولما ترقى في عقله وزاد في توهمه وضعف جسمه لترهفه في المعيشة، وكادت الغريزة الطبيعية فيه أن تضمحل، ولم تعد وحدها كافية لوقايته كما في بقية الحيوانات، استعاض عنها بروادع وزواجر خيالية تصورها للاستعانة بها على حفظه وحفظ روابطه؛ لذا تراه في كل نواهيه ومسموحاته لم يقصد سوى مصلحته الخاصة أو مصلحة الإنسانية العامة، إن رأسا، أو بواسطة؛ غير ناظر إلى خلافها البتة، بل إنه إذا نظر لغيره من الكائنات الأخرى، فإن ذلك يكون لتصور فائدة تعود إليه منها، فعد نفسه السيد المطلق وكل الكائنات ملكا له، لا بل عد نفسه الكل في الكل. حرم القتل نفسه وفي جنسه وأباحه في بقية الحيوانات. حرم السرقة في نفسه وفي جنسه وأباحها في بقية الحيوانات والأشياء. فلماذا إذن يقتل الحيوانات ليأكلها وينتفع بما ينتج عنها؟ ولماذا يحلب اللبن من الماشية فيسرقه من صغارها؟ ويأخذ العسل من النحل فيسلبها قوتها؟ حرم الظلم والاستعباد، ولكنه يظلم الحيوانات ويستعبدها؛ فيحملها نفسه وأمتعته ويستخدمها في قضاء حاجاته. حرم الزنا؛ لأنه بعد أن ضعفت أو تلاشت فيه تقريبا الغريزة الرادعة التي تحتم على الحيوانات، لحفظ كيانها، عدم مجامعة أنثاها إلا في أوقات معينة وهو يطلب الجماع دائما، أضر به هذا الإفراط أم لا، لما أثاره فيه ترفهه وتفننه وتأنقه في مأكله ومشربه؛ وجب عليه ذلك التحريم لردعه عما يضر به وببني جنسه.
وحفظا لما اختطه لجمعيته من العوائد والنظامات وما تولد عنها من الغيرة وحب الاستئثار وإرضاء لما يدعيه من العدل؛ لئلا يتحمل زيد مثلا تربية ولد هو من صلب عمرو. ومما يدلنا أيضا على أن هذه السنن ليست طبيعية، وأن هذه التحريمات هي من وضع الإنسان؛ أننا نرى ذلك الإنسان ذاته في كثير من الأحيان يثور عليها رغم ما حصنها به من الوعد والوعيد، فيقتل بعضه بعضا، ويسلب بعضه بعضا ويسبي حريم بعضه البعض، ويخرب ويدمر بلاد بعضه البعض، كما يشاهد في كل حرب وفي كل حادثة من هذا القبيل. فمن هنا تستدل على أن الأنانية الفردية والأنانية القومية، والأنانية العنصرية، والأنانية الإنسانية هي التي تحرم وتحلل حسب ما يتراءى لها من المصلحة والمنفعة. يقولون: إن الخير والشر معرفتهما محصورة في الإنسان فقط مع أن ما يفعله الإنسان يفعله الحيوان، ويساويهما فيه النبات والجماد. فانظر إلى الأسماك في الماء، وإلى الحيوانات على الأرض، وإلى الطير في السماء، تراها تقاتل بعضها البعض، وتفتك بعضها ببعض، وتأكل بعضها البعض، وتتسابق على طعامها، وتتسارقه كما يفعل الإنسان، وتقاتل الإنسان وتفتك به كما يقاتلها، وتقاتل بعضها وتفتك به، وتفتك ببعضها وتسارقه متاعه، كما يسرقها، وتسرق بعضها. ألا ترى يا بني أن الأسد إذا رأى إنسانا أو كبشا في البرية انقض على ذلك الإنسان أو الكبش وقتله وأكله، كما يفعل ذلك الإنسان بالسبع إذا قوي عليه فيصطاده؟! وهذا هو الثعلب يسطو على الدجاج فيأخذ منها ما يطيب له، وهذه هي الدجاج أيضا تنقض على الحشرات في الأرض والديدان فتأكلها، وتفعل بها كما يفعل الثعلب. ما الفرق يا بني بين سارق يهاجمك فيسرق مقتناك، وبينك أنت تجد خلية نحل فتشتار عسلها؟ وبين ذئب يهجم على طفلك أو شاتك فيأخذهما، وبينك أنت تجد عش طير فتلتقط صغارها؟ ما الفرق يا بني بين جار يسرق منك الفاكهة، وبين الطير والحيوان تفعل فعل ذلك الجار؟! ألا ترى أيضا أن ما فعله هذا الجار تفعله أيضا تلك الشجرة الغير المثمرة، أو الحشائش البرية التي تنبت بين تلك الفاكهة، فتظلل عليها وتأخذ من نمو أرضها؛ فتقلل من حملها ولربما أيبستها؟ ما الفرق يا بني بين شعوب تثير على بعضها حروبا طاحنة؛ تميت الولد وتخرب الديار وتذهب بالزرع والضرع، وبين عاصفة تثور فتقتلع الأشجار، وتجرف الأمطار جميع ما فوق اليابسة؛ فتصبح البلاد قاعا صفصفا؟ أو زلزال يحدث فتغور الأرض بمن عليها من حي أو نبات أو جماد، ويصبح عاليها أسفلها، وتندثر جميع معالم ما كان كأنه لم يكن؟ وما الفرق أيضا يا بني بين عصابة تدخل إحدى القرى فتقتل وتسبي وتسرح وتمرح، وبين وافدة من ميكروب قتال تدخل في الأجساد وتفعل فعل تلك العصابة؟ أفلا ترى أن جميع هذه الأفعال ولو اختلفت شكلا وفاعلا؛ هي في الحقيقة واحدة تساوت في عملها الممالك الثلاث: الحيوان والنبات والجماد. فهذه هي أيضا الحيوانات وفيها الحقد والبغض والغيرة والغضب كما في الإنسان، وتؤثر فيها المادة كما تؤثر فيه، ففيها البري وفيها الداجن. يخاف الذئب من الأسد كما يخاف الإنسان، ويحقد الجمل على من آذاه كما يحقد الإنسان. فمن هذا يتضح أن الخير والشر عامان يتساوى فيهما وأمام فعلهما جميع ما في الكون، فما هما إلا مظهر من مظاهر التصارع السلبي والإيجابي، ولم يكيفا بالخير والشر إلا حسب تعريف المصلحة الإنسانية.
في البدء ابتدأ التنازع بين الأحياء على القوت والسكنى؛ فانخذل الضعيف وفاز الأقوى، وبدأ الكفاح والعراك بينهما. ومن هذا الكفاح تولد الحقد والغيرة والحسد وحب الثأر والاغتصاب وما شاكل؛ لأن الفائز أحب أن يحتفظ بما فاز به ويستزيد منه، والمغلوب أراد للمدافعة وإرجاع ما أخذ منه، والتمثل بما فعل الغالب، فتأصلت العداوة وأصبح القوي يحاذر من الضعيف والضعيف من القوي. فإن الدببة مثلا وهي تطلب السكنى في أحسن المغائر كان الإنسان يطاردها ويزاحمها عليها، فيقاتلها وتقاتله إلى أن يجلو أحدهما الآخر عنها، فأصبحت تنفر منه وهو ينفر منها. وما يقال عن الدببة يقال عن بقية الحيوانات التي بينها وبين الإنسان عداوة، فإنه زاحمها في الأصل إما على قوتها أو سكناها، أو أنه ناصبها العداء طلبا لراحته لمضايقتها له في أمر ما، أو أنه أراد الفتك بها ليقتات بها؛ حتى تأصلت العداوة في الفريقين، يتوارثها الأحفاد عن الأجداد، فهي والحال هذه، قد نبتت عن الأنانية؛ لأن الإنسان إذا كان قد عادى الذئب مثلا، فإنه إنما عاداه ليس لأنه ذئب؛ بل لأن الذئب سابقه على قوته، أو أقلقه في راحته، أو سارقه متاعه، وهذه العداوة دائمة طالما الإنسان يشعر بمقدرة الذئب على أذيته، حتى إذا حل العجز وجاء دور المنفعة تحولت العداوة إلى الرأفة والمطاردة إلى التأمين، كما يرى ذلك في حدائق الحيوانات، حيث يحميها ويعولها ويسهر على راحتها. وهكذا تتجلى الأنانية الإنسانية في كل شيء، كما أنها تتجلى أيضا بأوضح أشكالها ومقاصدها في جميع ديانات الإنسان ومعبوداته. فإنه لم يدن لشيء ولم يعبد شيئا إلا ما تصور منه القدرة على أذيته فعبده تملقا ودفعا لضرره، أو ما تصور منه النفع فدان له استدرارا لنعمه.
فسأل نجيب الشيخ فقال: لقد أقنعتني يا شيخ بهذا البيان، ولكني أستوضحك عن هذا الأمر، أليس للإنسان وقد ترقى كثيرا، وتدرجت معارف بعضهم إلى حد بعيد في كل العلوم والاختراعات والابتكار، والتصور أن يجد طريقة بها يمكنه أن يكيف حاله على قاعدة أخرى أعدل من هذه تفيده ولا تضر بغيره؛ أن من جنسه أو من الحيوانات الأخرى، وتوافق ما يدعيه من الرقي في العقل والعدل والمعرفة، فلا يناقض نفسه بنفسه وقوله بعمله، ويوجد له حياة أهدأ وأهنأ؛ حيث إنه بالحق ليست لهذه الحياة مهما طالت قيمة ما تستلزمه من المشاق والآلام إن نفسية أو جسدية؟ فأجابه الشيخ، وقال: إن وقت الذهاب قد حان، ويكفيك الآن ما قد سمعته، فتأمل به، فموعد الجواب على ما سألت غدا، فالسلام عليك وإلى الملتقى.
الفصل الرابع
كل شيء في العالم مبني على قاعدة الأخذ والعطاء أو التبادل، وهذا هو التوازن السلبي والإيجابي. ***
تفارق صاحبانا وسار كل طريقه، فسار الشيخ إلى إحدى القرى المجاورة للأهرام يستضيف الأجاويد، وسار نجيب إلى بيته مفكرا متأملا بما سمع، واجتاز جسر قصر النيل، ولم تكن تلك الضوضاء وحركة السيارات والعربات وجلبة الناس لتلهيه عما كان يتأمل فيه، وتنبهه من سباته العميق؛ لولا أنه أحس بيد أمسكته بكتفه وهزته، وسمع صوتا يناديه باسمه، فالتفت إلى ورائه فرأى أحد أصحابه يبتسم له محييا؛ فرد التحية بأحسن منها، فقال له صاحبه: ما لي أراك يا نجيب دائما مفكرا؟ لقد أضنيت جسمك، ألعلك تريد أن تغير نظام الكون؟ دع عنك هذه الأفكار وكن كبقية الإخوان فرحا جزلا طروبا. إني مدعو الليلة إلى حفلة عند أحد المعارف فتعال معي، فسيغنينا أحد كبار المغنين المشهورين على تخت مشهور أيضا، فهي ليلة أنس وطرب وسمع، فهيا بنا وسوف تدعو لي بالخير.
وما زال به حتى قبل وسار معه، وكان هذا الصديق كاتبا أدبيا حلو الحديث لطيف المعشر واسمه فريد. فأخذ الاثنان يتحادثان في أمور شتى، وقد نسي نجيب ما كان يفكر فيه؛ فأخذ يضحك مع فريد مما كان هذا يلقيه على مسامعه من مستملح النكت. وكان فريد في حالة سرور عظيم يطفح البشر على وجهه ويقهقه طويلا لكل نكتة يلقيها، وقال لنجيب: والله إنني يا صاح لم أذكر أني يوما من الأيام قد ضحكت مثل اليوم، فربنا يعطينا خير هذا الضحك.
ولما كان في الوقت متسع، أخذ الاثنان يتمشيان على هذه الحالة على ضفاف النيل، وكانت المراكب من شراعية وبخارية متلألئة الأنوار تخترق الماء ذهابا وإيابا، وحواليها عدد كبير من الزوارق مكتظة بالناس؛ طالبي النزهة، تروح وتجيء بمن عليها، وكانت سطوح الذهبيات الرأسية على شاطئ النهر غاصة أيضا بسكانها وبزوارهم. وكانت أنوار جميع هذه المراكب وأنوار الجسر والمنازل والفنادق القريبة مع أنوار تلك السماء الصافية تنعكس على مياه النهر العظيم الهادئة؛ فتزيد المنظر بهجة تأخذ بمجامع القلوب.
فأثر هذا المنظر في صاحبينا جدا، فقال فريد لنجيب: هلم يا أخي نجاري القوم في عملهم وننتقل من الأرض إلى الماء، فنأخذ نحن أيضا ساعة زمن زورقا، فلذة العيش في التنقل، فحقا إن هذه الليلة لهي من الليالي النادرة. فوافق نجيب على هذه الفكرة بكل ارتياح وناديا بأحد الزوارق، فجاءهما وركبا وجعلا يقذفان، والرئيس محمد ماسك الدفة بيديه الاثنتين، وكانا يتسابقان مع بقية الزوارق ضاحكين فرحين.
وفيما هما كذلك إذ سمع فريد ضحكا خيل له أنه يعرف الضاحك، فامتقع لونه قليلا كأنه شعر بحلول العاصفة. فقال لنجيب: رويدك يا أخي، اسمع! أليست هذه ضحكة فريدة؟ «وكانت فريدة هذه فتاة في مقتبل العمر بارعة الجمال أديبة متعلمة، هام فريد في حبها من بضع سنوات حبا عذريا كاد يذهب بلبه لولا طبيعته الميالة إلى اللهو والطرب، وما كان يختلقه لنفسه من الأسباب ليموه عن فكره التفكير بمن كان يهوى.» هيا بنا نقترب من الزورق حيث الصوت لنتحقق من الأمر، فأنصت نجيب قليلا؛ فعلم أن الضحك هو ضحك فريدة، ولعلمه بما سيكون لهذا المشهد من التأثير على فريد، خصوصا إذا كانت فريدة مع شخص آخر - كما يدل الواقع - بدا له أن يغالطه ويحوله عن عزمه على اللحاق بها والاقتراب منها. فقال له: أظن أنك أخطأت التقدير؛ لأني لا أرى أقل مشابهة بين الصوتين، ثم ما الذي يأتي بفريدة الآن إلى هنا في هذه الساعة؟! وإذا فرضنا المستحيل وكانت هي، فإنها إنما تكون مع عائلتها أو أحد أخوتها، واقترابنا منها ليس من اللياقة والأدب بشيء، فدع عنك الآن فريدة واترك التفكير بها، ولنعد إلى ما نحن فيه فما قلته من قبل لي بخصوص التفكير بالكون والطبيعة أقوله لك الآن بخصوص فريدة، كما قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فلم يستمع فريد لهذا القول، بل أخذ يقذف بسرعة طلبا للحاق بهذا الزورق، وسايره نجيب في عمله؛ لأنه رأى أن الحالة مع صاحبه لا تجدي فيها المعاكسة نفعا. وبعد بضع دقائق كانا قد اقتربا جدا من الزورق فسارا بمحاذاته قليلا، ولم يكد فريد يلقي نظره على من فيه حتى اصفر لونه، وتثلج جسمه، وارتخت مفاصله؛ فسقط المقذاف من يده، وارتمى على نجيب كأنه صعق من هول ما رأى، وأخذ يتنهد وينتحب كالأطفال. فحول نجيب سير زورقهما بأقل من لمح البصر؛ لئلا ينتبه أحد إليهما، وأعطى المقاذيف إلى الرئيس محمد، وأمره بالرجوع إلى الشاطئ، وأخذ هو يعالج حالة صاحبه محاولا تعزيته على قدر الإمكان، وهكذا تحولت الحال من فرح عظيم إلى كدر وحزن أليم، فقد انقلب المعزى معزيا والمعزي معزا. ولما بلغا الشاطئ، نقد نجيب صاحب الزورق أجرته، وأخذ بفريد إلى منزله ولم يتركه طول تلك الليلة. وفي الصباح لم يشأ نجيب أيضا أن يدع فريدا وحده، فدعاه لمرافقته وأخذ يقص عليه ما حضره من الأخبار والعبر محاولا تخفيف آلامه وتحويل أفكاره عن صدمة الأمس، وكان من جملة الأخبار الحديث عن الشيخ، فسري عن فريد بعض الشيء وطلب إلى نجيب أن يذهبا سويا لمقابلته حسب المتفق.
وعندما أزف الوقت جاء الاثنان إلى الجزيرة فوجدا الشيخ قد سبقهما، فسلما عليه، واستأذنه نجيب بتقديم صديقه إليه فقبل، ولكن على ما بدا عليه كان قبوله عن غير ارتياح كلي، ثم نظر إليهما مليا مستفحصا مستقرئا، وقال موجها الكلام إلى نجيب: مالي أراك يا صاح وصاحبك وقد بدت على محياكما آثار السهر والانهماك والحزن، فهل حدث أمر مكروه لا سمح الله حتى أثر عليكما هكذا؟ فإن حالتكما على ما تبين لي ليست بالعادية المألوفة، فأخبره نجيب بكل ما حصل من حين ما فارقه بالأمس إلى ساعة ملاقاته الآن، قاصا عليه جميع ذلك حرفا حرفا، فتعجب الشيخ! ولكن عجبه لم يكن لوقوع الأمر بل لمصادفته للموضوع الذي سيكون حديث اليوم. فقال: لقد سألتني بالأمس عن رأيي فيما لو كان يمكن للإنسان، بعد رقيه الحالي، أن يجد لنفسه طريقة بها يتوصل إلى أن يكيف حاله على شكل أعدل من حالته الراهنة تفيده ولا تضر بغيره من موجودات الطبيعة؛ لتكون حياته أهدأ وأهنأ منها الآن، وقد شاءت الأقدار والصدف أن تساعدني على إفهامك ذلك؛ لتكون على اقتناع تام من نظريتي، ففي حادثتكما بالأمس الدليل القاطع والبرهان الساطع، فاعلما أن كل شيء في العالم؛ حيث إنه جزء من الينبوع العظيم، وقد تحول كل إلى مظاهر وقوى مختلفة تحت ناموس التوازن انبنى على قاعدة التبادل، أو الأخذ والعطاء؛ لهذا فإنه ليستحيل على الإنسان إذا كان يريد المحافظة على درجته في الرقي وتدرجه فيها، وعلى كيانه الحالي أن يتملص من هذه القاعدة، ولكنه يمكنه أن يلطف منها بعض الشيء؛ لذا فكل شيء يفعله المرء أو يشعر به له مقابل أو ثمن أو ضد، فلا فرح بلا حزن، ولا سعادة بلا شقاء، ولا تعب بلا راحة، ولا لذة بلا مرارة؛ ليبقى ناموس التوازن السلبي والإيجابي دائما متسلطا. إذ لو اختل ولو ذرة واحدة لانعدم كل شيء.
لقد تركتني وأنت منقبض الصدر، فلم تلبث حتى لقيت فريدا فشرح صدرك فسررتما هنيهة، ولما كان فرح فريد شديدا؛ كذلك كان حزنه شديدا. وكما كان لك معزيا هكذا كنت له أنت أيضا، فقد قيل:إن الجزاء من صنف العمل، واعلم أن سرور تلك المرأة سيعقبه مرارة وكدر يوازيان شقاء فريد. وما يقال عن فريدة يقال عن صاحبها، فيوم لك ويوم عليك، يأكل الإنسان الحيوان والنبات وهما في دورهما يتغذيان به، ثم إن التراب الذي منه تغذوا يتغذى هو أيضا منهم ويسمد بهم.
يتلذذ الإنسان بالمأكولات الشهية من لحوم وخلافها، ولكن تلك اللذة تكلفه ثمنا غاليا يدفعه من تعبه ومن صحته ومن حياته. يتلذذ بالملاهي والشهوات، ولكنه يضني جسمه ويقصر عمره. تلبس الملابس لتقيك البرد والحر فتتنعم بها، ولكنك في الحقيقة تدفع ثمن هذا النعيم من جني تعبك ومن إضناء جسمك؛ لأنك بسترك له تقلل نمو قوته ومناعته. تأكل الحلو فتتلذذ به، وتأكل المر فتتمرر، فلولا مرارة المر لما عرفت طعم الحلو، ولولا التعب لما عرفت لذة الراحة، ولقد قال الشاعر:
ضدان ما استجمعا حسنا
والضد يظهر حسنه الضد
لقد قلت لي إن الإنسان ترقى كثيرا، وأنا أجاريك وأقول: رقي، ولكن في الحقيقة ليس هذا سوى تحول أو تغيير مظاهر دون أقل إفادة حقيقية، أعني دون أن يزيد له شيء عن شيء، تأنق في مأكله وملبسه وسكنه، فعلى قدر ملذته هذه دفع لها ثمنا من قصر حياته ومضايقته لحريته ومن أمراضه وتعبه وشقائه. ترقى في نفسه وفي تصوره، فعلى قدر الزيادة زاد في ضعف جسمه وفي آلامه الروحانية.
يضربك زيد فيوجعك فتتألم في جسمك وفي نفسك؛ لأن ما يتألم منه الجسم تشعر به النفس، وما تتألم منه النفس يؤثر على الجسم وبعد ذلك يسكن الألم فتشعر بلذة، ثم يجازى زيد فترتاح نفسك، وقد تكون مجازاة زيد - إن رأسا أو بواسطة - لأنه على كل يجب أن يدفع ثمن عمله، إما بعذابه الجسمي مضاعفا أو بعذابه الروحي مضاعفا، إذا لم يشترك الجسم والروح في الثمن لسبب ما لأنه إذا تألم الجسم فقط يجب أن يكون على قدر التألم الجسمي والروحي، وإذا تألمت الروح فقط يجب أيضا أن تكون آلامها كآلام المعتدى عليه جسما وروحا.
يتفنن الإنسان بتحضير المأكولات اللذيذة فيتلذذ بها، فتقوى به حاسة اللذة ويصير على قدر اللذة من اللذيذ يشعر بالكره من الكريه،. لقد أصبح الإنسان الآن يطير في الهواء وينتقل بسرعة من مكان إلى مكان؛ فعلى قدر فرحه بالسرعة صار يتأفف من البطء، ولربما ما يعده الآن بطئا كان يعده من قبل سرعة يفرح بها. والأمثلة على هذا هي في كل شيء؛ لذا ترى أن النسبة مهما تغيرت المظاهر هي دائما بين التبادل محفوظة وتراها أيضا واضحة فيما سن له من اللوائح والشرائع وما استنبطه من القواعد، قصد ذلك أو لم يقصد، عرف هذه الحقيقة أو لم يعرف؛ لأنه لا يمكنه أن يخرج عن الطبيعة، فهو منها، لا، بل هو مجتمع الممالك الثلاث وهيأة للعالمين المادي والروحي.
لقد قال الكتاب: أحبب قريبك كنفسك، وافعل بغيرك ما تريد أن يفعله غيرك بك؛ لأن الأنانية الإنسانية تلزم الإنسان أن لا يرضى لنفسه إلا كل خير وراحة، فمن أحب قريبه كنفسه أراد له طبعا ما يريده لنفسه، وعامله كما يعامل نفسه. ولما كان التبادل بين الناس عظيما بالنسبة لجمعيتهم الإنسانية ولحالتهم المعيشية ولاشتباك مصالحهم بعضهم مع بعض، كتبت هذه الحكمة استنادا على هذه القاعدة تخفيفا لآلامهم بعضهم من بعض وتقوية لجمعيتهم ضد الكائنات الأخرى؛ لأنهم بما يدخرون من القوى الإيجابية في ذواتهم بعدم إضاعتها في تكافحهم مع بعض؛ يقاومون سلبية تلك الكائنات الأخرى. هذا ما قيل فيما مضى وكان دينا، وهو لا يختلف كثيرا معنى عما يقال اليوم قانونا: إن حرية المرء يجب أن تنتهي حيث يبتدئ واجبه نحو الغير، فمن هنا يتضح أيضا أنه لم يخرج عن هذه القاعدة لا في دينه ولا معاملته الاجتماعية إلا تراه في صلاته لخالقه يعطي ليأخذ، يقرب القرابين لينال الجزاء، ينذر النذور ليحصل على ما يرجو، يسبح ويمجد لينال المغفرة، وهلم جرا مما هو ظاهر جلي في كل أعماله وأحواله وأفكاره إن روحيا أو جسديا، فعلى هذا التوازن السلبي والإيجابي انبنت سنة التبادل والأخذ والعطاء، وهي أيضا الأس الذي منه ظهر العدل، وما العدل سوى التوازن، فعلى قدر الأخذ يجب العطاء، وعلى قدر الأذية يجب التعويض، وعلى قدر التعب تجب الراحة. واعلم أن ما قيل بهذا المبحث عن الإنسان يقال أيضا عن الحيوان، وينطبق على كل شيء آخر بمظاهر وأشكال وطرق شتى؛ لأن قانون التوازن يسري على كل ما في الأكوان والعوالم.
فقال نجيب: ولكن إذا صح هذا - ولا أراه إلا صحيحا - فبماذا تعلل أسباب الانحلال والانقلاب والتغير؛ إذا كانت دائما نواميس التوازن محفوظة، والتبادل بالقسط العادل حقيقيا ؟ فتبسم الشيخ، وقال: بورك فيك يا نجيب! إن سؤالك هذا لم يفاجئني على غرة، بل كنت متوقعا إياه منك وسأجيبك عليه في الغد إن كان في العمر بقية.
وكان الاثنان - نجيب وفريد - ينصتان بكل انتباه إلى كل كلمة كان الشيخ يلقيها، غير أن فريد - وكان لم يعتد على ترويض فكره على مثل هذه المباحث - قد استفزه الفرح وأخذ يقبل نجيبا شاكرا له استصحابه معه وتقديمه إلى الشيخ، ثم قام إلى الشيخ يصافحه مظهرا له اغتباطه بما سمع منه راجيا أن يسمح له بالعودة إليه ثانيا، فأجابه الشيخ إذا كانت هذه المسائل مما ترتاح إليها وتعرف من نفسك القدرة على فهمها فعلى الرحب والسعة. والآن فإلى الملتقى بالغد.
الفصل الخامس
العوامل المساعدة على التكوين هي نفسها المساعدة على التحويل في ظروف أخرى. ***
ذهب الشيخ في حال سبيله كالمعتاد وقفل صاحبانا نجيب وفريد راجعين إلى المدينة يتحادثان بما سمعاه ويضربان الأمثال ويقيمان الشواهد ويطبقانها على الواقع، وقد انفتح أمامهما باب واسع من هذا المبحث، ولا غرو، فحياة كل واحد منهما في جميع مظاهرها ودقائقها وما عايناه وعانياه لهي مصداق لقول الشيخ.
وفي اليوم التالي حضر الجميع في الميعاد وبعد التحية والسلام ومبادلة بعض الحديث، قال نجيب للشيخ: عسى شيخنا أن يمن علي بما طلبت إيضاحه البارحة، فإني قضيت ثلاثة أرباع الليلة قلقا أفكر في هذا؛ لعلي أجد له حلا ترتاح إليه نفسي، ولكن فهمي عجز عن إرشادي إلى ما يقنعني لما بدا لي من بعض المتناقضات. فأجابه الشيخ: لبيك يا صاح، فها أنا مبد لك على سؤالك من البيان ما أرجو أن يبرهن لك على حقيقة الواقع ويقنعك كل الإقناع، وهم باستطراد الكلام، فقاطعه فريد قائلا: عفوا يا شيخ إذا قطعت عليك الحديث بسرد واقعة لها علاقة بمسألة الأمس، كما أني أرجو من صديقي نجيب أن لا يؤاخذني على هذا، فالحادثة لها علاقة بفريدة وأنتما تعلمان الآن ما كان لهذا الاسم علي.
لما تركت نجيبا بالأمس راجعا إلى منزلي فطنت لحاجة كنت نسيتها عند بعض المعارف فقصدته لأخذها، وبينما أنا سائر إذا بصرت بفريدة مع الشاب الذي رأيتها معه بالزورق سائرين الهوينا يتهاديان في مشيتهما كما كنت أنا أسير معها من قبل، فشعرت أولا بانفعال شديد لم يلبث أن تحول إلى غضب وحقد، ثم إلى ازدراء واحتقار، ثم إلى عدم مبالاة كأن تلك العاطفة التي ثارت في أول أمس قد ماتت أو كأنها لم تكن البتة. فاقتربت منها وحييتها بكل هدوء وسكون وعاودت المسير، ولكنها لم تكد تسمع صوتي ويتقابل النظران حتى رأيتها وقد امتقع لونها وترنحت كالسكران ونفرت من صاحبها، ونادت بسائق إحدى العربات فصعدت إليها، ولم تسمح لصاحبها بالاقتراب منها، ووضعت وجهها بين كفيها وأخذت تبكي، وسارت العربة بها. فبهت صاحبها من هذا المنظر كمن لم يعلم له سببا، أما أنا فقد وقفت بعيدا أراقب ما جرى دون أن أشعر بتأثير يذكر؛ كأن فريدة لم تكن لدي سوى أية امرأة أو أي إنسان آخر.
وتابعت المسير كأن لم يكن شيء مما كان، وها أنا الآن أسرد عليكما هذه الحادثة وكأنها ليست لي مع فريدة بل كأنها قصة قرأتها في بعض الكتب أو سمعتها من بعض الرواة، وقلت: لقد صدق شيخنا فيما قال لقد دفعت فريدة ثمن سرورها مرارة وبكاء، وكما كانت حالتي عندما رأيتها في الزورق هكذا حالتها كانت في العربة. ففكر الشيخ هنيهة محدقا بفريد ثم تبسم كعادته، وقال: لقد صدقت في استنتاجك هذا، ولكن لهذه الحادثة عندي الآن استنتاجان، لا بل لهي برهانان ساطعان على ما قلته لكما بالأمس وعلى ما سأقوله الآن، فكأن الصدف قد أرادت ثانية أن تساعدني على إقناعكما بما تطلبان من الإيضاحات. لقد سألتني بالأمس يا نجيب بما تعلل أسباب الانقلاب والانحلال والتغيير إذا كانت دائما نواميس التوازن محفوظة، والتبادل بالقسط العادل حقيقيا، فأجيب بأن القوى والعوامل المكنونة أو المساعدة على التكوين هي نفسها المحلة أو المساعدة على التحويل، وذلك باختلاف الظروف. ولك في حادثة صديقك فريد بالأمس برهان جلي على ذلك: أحب فريد فريدة حبا تزايد لأسباب شتى، وفي ظروف مختلفة لم تصادمه حين نموه موانع التغلب الكافي، ولم يكن حب فريدة له شديدا كحبه لها، فكانت قوتها السلبية والحالة هذه متغلبة على قوته الإيجابية، ولم يزل حتى تكامل أول أمس حينما شاهد فريدة في الزورق، ولكن عندما رأيت يا فريد بالأمس ما رأيت طفح الكيل وانقلبت الآية، وأصبح ما كان يزكي قبلا فيك نار الحب يطفئها الآن، وقد قيل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
إن العناصر الأربعة الثانوية المكونة المتولدة عن العنصر الأصيل الفرد، هي نفسها المحولة إذا تحولت كفة الميزان في إحداها، فالهواء والماء والنار والتراب التي تنبت النبات وتحيي موات الشجر فيورق ويعطي ثمرة، وتقوي الأجسام وتنعش القلوب وتفرح الصدور في الربيع، هي نفسها التي تيبس النبات وتسقط الورق، وتضعف الأجسام وتقبض الصدور.
وكما أن الغذاء يغذي الإنسان والحيوان وينميه، كذلك هو الغذاء الذي يفنيه ويميته، والهواء والحرارة اللذان يبخران الماء ويصعدانه في الجو ضبابا، هما ذاتهما اللذان يرميان به على الأرض، والتراب الذي بواسطته تتكون الأجسام وتتغذى هو الذي بواسطته تنحل وتتحول. انظرا إلى هذه المدينة وما فيها من المباني الحديثة الجميلة المزخرفة، وقارناها بتلك المباني القديمة الآيلة إلى السقوط تريا أن القوى والعناصر التي ساعدت على تشييد وتكوين الجديد هي نفسها التي ساعدت على سقوط وتخريب واضمحلال هذا القديم، وقد كانت القديمة في حينها جديدة جميلة، وسوف تتحول جديدتنا الآن في حينها أيضا إلى قديمة مخربة، وهكذا إلى أن تندثر تماما معالم الجميع.
انظرا إلى السماء فوقكما وما فيها من الغيوم المختلفة الأشكال وعايناها بعد ذلك وقد صفا أديمها، ولم يبق لتلك من أثر ظاهر، وانظرا إلى ما حواليكما من البقاع والسهول والجبال تريا أن القوى التي أعطتها شكلها الحاضر هي نفسها الكفيلة بتغييرها إلى شكل آخر. انظرا إلى هذه الرياض والجنائن المخضرة المثمرة وكيف كان حالها بالأمس، وكيف يكون حالها غدا، أنبتها التراب وسقاها الغيث وأنمتها حرارة الشمس وأزهاها النسيم ولونها النور بألوان تبهر الأبصار بجمالها، وسوف تحرقها الشمس فتيبس ويذريها الريح ويفسدها الماء ويسلبها النور ما أعطاها من زاهي الألوان، ويحولها التراب إليه ويمحي منها الأثر والعين. بل انظرا إلى نفسكما وما طرأ عليكما حتى الآن من الانقلابات والتحولات من الطفولية إلى سن الشباب، من صحة ومرض وسمن ونحول، وما سيطرأ أيضا في السنين المقبلة إن نفسيا أو جسديا، تريا أن العوامل هي نفسها واحدة في كل الحالات، فقط تغلب عامل على عامل فحصل التغيير والانقلاب. فقال نجيب: ليسمح لي شيخنا أن ألقي سؤالا أستوضحه به بعض ما أبهم علي وعلى صديقي فهمه؛ فقد قلت لنا يا شيخ بمناسبة حادثة فريدة وفريد: إن الانقلاب حدث بقوة التحويل السلبي والإيجابي وهي حادثة نفسية روحية، واستطردت الكلام إلى العناصر الأربعة، وتكلمت عن التحويل فيها مستندا كما ظهر لنا على المبدأ الأول؛ مع أن الكلام عنها هو عن الماديات المحضة. فما دخل الروح في المادة؟ ثم عدت فقلت: إن ما طرأ وما سيطرأ علينا من التحولات إن نفسيا أو جسديا هو ناتج عن نفس العوامل دون أن تميز بين العوامل المؤثرة على النفس والمؤثرة على المادة أو الجسد، مع أن لا شبه بين المادة والروح.
فتنبه الشيخ كمن فطن إلى شيء، وتبسم وأجاب: نعم، لقد صدقت في ملاحظتك يا صاح؛ لأنه كان يجب علي زيادة الإيضاح في حديثي، ولكنك لو ذكرت كلمتي عند استطراد الكلام حيث قلت: إن العناصر الأربعة الثانوية المكونة المتولدة عن العنصر الأصيل الفرد، لعلمت أن هناك صلة أصلية بين المادة والروح، وعليه، أقول لكما: إن المادة نفسها التي يدعونها مادة لوقوعها تحت الحواس بسبب التقلبات والتحولات، هي من العنصر الأصيل الفرد المتولد منه الروح أيضا، ففي الجماد والنبات مظهران من العنصر الأصيل الفرد، أما في الأحياء فثلاثة المظاهر كما سأبين ذلك لكما فيما بعد؛ لذا فإن ما تتأثر منه الروح يشعر به الجسم، وما يتأثر منه الجسم يعم تأثيره الروح.
فقال فريد: والله يا شيخ إن هذا البحث لهو مما يعجز عنه فهمي الآن، ولعل ما وعدت به من البيان في المستقبل يزيل عن عيني بعض الغشاوة، ولقد قال شيخنا فيما قال بمناسبة حادثتي مع فريدة، وكيف أن حبي لها تحول إلى بغض وحقد واحتقار تلاه عدم مبالاة واهتمام؛ مما فهمت منه حسب قولك أن قوتها السلبية كانت في الأول متغلبة على قوتي الإيجابية، ثم بفعل الحوادث والظروف وما شاكل انقلبت الآية وأصبحت أنا المتغلب، ثم إن صديقي سأل عن حقيقة التوازن السلبي والإيجابي فأجبته بما يؤكد حقيقة التوازن، ثم قلت: حفظك الله، إن التحول يجري إذا تحولت كفة الميزان من جهة لأخرى، فبناء على ما تقدم فلا بد للتحول من تغلب السلبي على الإيجابي، أو الإيجابي على السلبي، فإذا تغلب عامل على عامل كان ثم طبعا زيادة في هذا ونقص في ذاك، فأين التوازن مع هذا؟
فنظر الشيخ إلى فريد مليا متأملا، ثم بدت على وجهه علامات البشر، وقال: يسرني جدا منك يا فريد أن أسمع منك مثل هذه الأسئلة مما يدلني على تتبعك للحديث بكل اهتمام وتبصر واستيعاب؛ لذا أقول لكما ولو خالف ظاهر قولي المعقول إنه رغم تغلب عامل على عامل، ورغم النقص في هذا والزيادة في ذاك ورجحان كفة هذا على ذاك، يبقى التوازن بين السلبي والإيجابي محفوظا متساويا كما سأشرح لكما هذا غدا، وتريان مما تقدم أن التحول والانقلاب هو سنة طبيعية تشمل جميع أجزاء الكون سيان في ذلك الأرض والنجوم والممالك الثلاث، وهي ظاهرة أيضا في الإنسان بأجلى مظاهرها إن كان بجسمه أو بروحه، بأعماله أو أفكاره؛ لذا فهو لا يطيب له العيش إلا بالتحول والانتقال والتغير على قدر ما به من الحياة. ولله در من قال:
يطلب الإنسان في الصيف الشتا
فإذا جاء الشتا أنكره
ليس يرضي المرء شيء واحد
قاتل الإنسان ما أكفره
والآن، فإني أستودعكما المولى وهو نعم الوكيل، فإلى الملتقى يا صاحبي. قال هذا وهم بالابتعاد، فقام إليه نجيب ووضع في يده بعض الشيء ثم حياهما وشكر وسار.
الفصل السادس
تأثير الكائنات بعضها على بعض، وتأثير الممالك الثلاث بأجزائها بعضها على بعض. ***
بقي نجيب وفريد جالسين على مقعدهما بعد ذهاب الشيخ؛ لأن الوقت كان متسعا أمامهما، فالغد كان أحدا وهو يوم عطلة وليس عندهما من الأعمال ما يدعوهما إلى الإسراع. فقال فريد لنجيب: إن شيخك يا صاح لهو نابغة حقيقة، فقد استصغرت نفسي أمامه إلى حد العدم مع أني ولا أخفي عليك لما شاهدته لأول مرة لم أسعره بقرش، فصحيح أن من يحكم على الظواهر يخطئ، ولكن مما يصعب علي فهمه أن هذا الرجل رغم معارفه الواسعة ورأسه المفكرة المملوءة بالحكمة يبقى هكذا هائما على وجهه ينام في العراء متوسدا الغبراء وملتحفا السماء، ليس له مكان يأوي إليه، يتنقل بأطماره البالية من بلد إلى بلد يستجدي أكف المحسنين، مع أنه - وأني واثق من هذا - باستطاعته بعمل واحد أن يشهر ذاته فيلفت إليه الأنظار، فينال مكانا رفيعا ويعيش سعيدا متنعما فيفيد نفسه وينفع الغير.
فأجابه نجيب وقال: لربما كنت محقا في ملاحظتك، ولكن لا تتسرع يا أخي فلعل له عذرا أو غاية مخصوصة يقصدها بحياته هذه ونحن نجهلها، بل لربما كانت السعادة لديه - حسب وجهة نظره - هي في معيشته على هذا النمط؛ لأن السعادة - إن كانت هناك سعادة - تختلف باختلاف وجهة نظر كل واحد، فمنهم من يراها في جمع المال، ومنهم من يراها في المناصب، ومنهم من يراها في الحب، ومنهم من يطلبها من وراء الشهرة، ومنهم من يراها في خدمة الناس، ومنهم من يراها في السكون والانفراد، ومنهم من يراها في طلب العلم والتوسع فيه، ومنهم من يراها في التمتع بالملذات، ومنهم كثير كل واحد على حسب ما يتراءى لها، ولكني أنا يا فريد أرى أن لا سعادة البتة في الحياة؛ لأن الحياة كفاح دائم مستمر، طالما أن سنة التبادل والتوازن طبيعية، وسنة التحول والانقلاب طبيعية أيضا كما بين لنا الشيخ، وكما يثبت ذلك لنا الواقع. وعلى كل، فما لنا ولخصوصياته؟ فإن له من عقله ما يرشده إلى ما يراه أوفق له، ولنعد الآن إلى التفكير فيما قاله لنا، فهذا أولى وأنفع ولنغتنم هذه الفرصة لندرس عليه ونأخذ عنه ما أمكن. فقال فريد: لقد صدقت يا أخي، وسأمضي يوم غد في التفكير لعلي أصل إلى تفهم ما قال أو على الأقل إلى ترويض عقلي على تفهمه. فأجابه نجيب وقال: اسمع يا فريد أريد أن أشير عليك بأمر لعلك توافقني عليه، لقد صرحت لنا علنا ولست أشك بصدقك لما أعلمه عنك وأعرفه فيك من الصراحة والصدق، بأن عاطفة حبك لفريدة قد تلاشت، وأعلم أيضا أن عرى الصداقة متوطدة بينك وبين أفراد عائلتها، فاذهب غدا وزرهم في منزلهم وحادث فريدة كالمعتاد كأن لم يكن شيء مما كان، وسهل السبل لمقابلتنا بها، ولا تسلني الآن عن السبب، فإن لي بحثا أريد أن أجريه. فبهت فريد لهذا الطلب، وعرته الدهشة، وبقي هنيهة حائرا صامتا، ولكنه لعلمه ببعد نظر نجيب، وأن لا بد أن يكون له ثمة غاية معينة يقصدها، وحقيقة يريد أن يستجليها لصالح الفريقين، قبل ذلك رغم ما كان يخشاه من سوء تأثير هذه المقابلة بعد كل ما حصل.
رجع الاثنان إلى منزلهما صامتين لا ينبسان ببنت شفة، ولما اقترب نجيب من منزله صافح فريدا على أمل المقابلة في الغد وتركه. ولما بقي فريد وحده خطر بباله خاطر، فنظر إلى ساعته فوجد أن لم يزل في الوقت متسع؛ فسار يسرع الخطى إلى منزل فريدة؛ لأن اليوم كان يوم استقبال أهلها، وحضوره في مثل هذا اليوم يكون عاديا مألوفا، فلهذا، ولدافع خفي أيضا يجهله سار من ساعته لزيارتهم.
دخل فريد وحي، فقوبل بكل حفاوة وإكرام من آل البيت وممن حضر عندهم من الزائرين، وبعد تبادل عبارات المجاملة مما تطلبه المقام سأل أخو فريدة فريدا عن سبب تغيبه في هذه الأيام عن القهوة حيث كان مجمع الخلان عادة. وقبل أن يجيبه على هذا السؤال دخلت فريدة وكانت شاحبة اللون يدل منظرها على ألم خفي وتأثير نفسي كانت تعلله أمام الحضور بألم في معدتها، ولما رأت فريدا ازداد اصفرارها، ولكنها تجلدت وتقدمت إليه وحيته كالمعتاد دون أن ينتبه أحد لما بدا عليها غيره فدعاها إلى الجلوس بالقرب منه ومن أخيها، ولما جلست أجاب فريد وقال: تسألني عن سبب تغيبي عن القهوة هذه الأيام فما قولك إذا قلت بأني كنت مشغولا بدرس الفلسفة؟ فتبسم أخو فريدة وقال: ولا شك على صديقك نجيب؟ فأجاب فريد وقال: ليس عليه، ولكن معه على شيخ غريب عجيب. فقال أحد الموجودين، وكان يبغض نجيبا ولا يترك فرصة تمر دون الحط من كرامته والسب فيه حسدا وخساسة، وقد تجرأ بتبسم أخي فريدة عند ذكر الفلسفة، فقال: شيخ غريب عجيب أستاذ صديقك نجيب، فطبعا يجب أن يكون مثله، فالطيور على أشكالها تقع، ولكن ما لا أفهمه هو كيف أنك وأنت الكاتب الذكي القدير ترضى بمعاشرة نجيب الغريب الأطوار النصف مجنون؟ وأراد أن يتابع القول؛ ولكن فريدا غضب لهذا وشاركته في غضبه فريدة، لا بل زادت عليه؛ لأنها كانت أدرى بحقيقة نجيب من غيرها، كما اشمأز من هذا التطاول أكثر الحاضرين منهم لمعرفتهم لنجيب ومنهم للتطاول نفسه وللقدح في الناس. فنال الرجل نصيبه من المقت واللوم مما اضطره إلى الخروج، وعاد فريد إلى الكلام فأخبرهم عن معرفته بالشيخ وعن بعض ما قاله وشرحه، فتعجب بعضهم ممن فهم القول كما أن البعض الآخر لم يعر ذلك اهتماما، وكانت فريدة أكثر الحاضرين تعجبا فقالت: يا حبذا لو تمكنت من التعرف بهذا الرجل، قالت هذا مدفوعة بجملة عوامل منها؛ لكونها أديبة متعلمة ذكية، وكانت تتوق لمثل هذه المباحث؛ ومنها لكونها امرأة تحب الاستطلاع بطبيعة الحال، ومنها أنها كانت تريد أن توجد مع فريد للتكلم عن الحادثة. فأجابها فريد: إني غدا قرب المغرب على ميعاد في الجزيرة مع نجيب ومعه، فإذا شئت وشاء الأخ حضرت أنا ونجيب إلى هنا قبل الموعد، فنذهب سويا أو أن نتقابل عند آخر الجسر عند مدخل الجنينة. فقال الأخ: إذا أحببت يا فريد فاحضر غدا مع نجيب إلى هنا فنشرب القهوة ثم نرى رأينا. وعلى هذا تم الاتفاق فاستأذن فريد في الذهاب وودع الحاضرين وخرج.
في اليوم الثاني تقابل فريد مع نجيب فأخبره بكل ما حصل واتفق معه على الذهاب سوية إلى منزل فريدة بعد الظهر، وأخبره أيضا بتطاول ذلك الرجل وما ناله من الحاضرين، فتبسم نجيب وقال: عجيب، فهذه مرة أخرى يصدق معي الحديث «اتق شر من أحسنت إليه»، اعلم يا فريد أن هذا المتطاول مدين لي بحالة اليسر التي هو فيها، فلولاي كان على الحضيض، ولكن لا بأس فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال فريد: لقد صدقت، ومثل هذا قد صادفني أيضا مرارا، ولكني لا أدري كيف أعلله وسأسأل الشيخ هذا المساء عله يفيدنا بشيء عنه، فقال نجيب: سأكفيك مؤنة الانتظار حتى المساء وسأكفي الشيخ مؤنة الرد، فإني أفيدك عما طلبت ولعلي مقنعك وأنت حر بأن تقبل أم لا، وعلى كل فإن هذا الحديث يساعدنا على تمضية الوقت لحين موعد الغداء: إن من طبع الإنسان العنفوان وحب السيادة والعظمة سيان في هذا الغني والفقير، الكبير والصغير، العظيم والحقير، وهو لا يأتيك لطلب حاجة إلا مرغما لاحتياجه إليك أو مدفوعا بعامل آخر، فإذا أنلته إياها شعر بأنه مدين لك وهذا يؤلم عنفوانه ويحط من سيادته وعظمته في عينيه، ولربما شعر بإهانة عزة نفسه أمام الآخرين؛ فيزين له الوهم أن يثلم من قدرك أو يسعى ليؤذيك بمالك وبمركزك حتى يظهر بمظهر أهم منك، فينتقم لعنفوانه ولعزة نفسه منك لجهله - وما أكثر الجهال - أما إذا كان ممن تثقف عقلهم حقيقة - وما أقل هؤلاء - عرف لك الجميل وشكر لهذا، واعتمادا على الأكثرية يجب الحذر من انتقام المحسن إليه، ويوجد أيضا أناس بينما يعرفون لك جميلك ويحفظونه تراهم يغمطون إحسان شخص آخر، والعكس بالعكس. وهذا أعلله بتجانس بين الأرواح أو بتنافرها، فالمتعارفة تزداد بمثل هذا تقربا، والمتباعدة تباعدا. ففكر فريد هنيهة ثم قال: لربما كنت مصيبا يا نجيب. وأخذ الاثنان يسردان على بعضهما ما حصل لهما وما سمعا به من مثل هذه الحوادث ويطبقانه على إحدى النظريتين، إلى أن حان وقت الغداء فافترقا على موعد اللقاء أمام منزل آل فريدة.
التقى صاحبانا في الموعد المحدد أمام منزل فريدة فصعدا سوية إليه، وبعد شرب القهوة خرجا وخرجت فريدة وأخوها، وسار الجميع نحو قصر النيل قاصدين الجزيرة فدخلوا إحدى القهوات، وبعد أن شربوا بعض المرطبات وهم يتجاذبون أطراف الحديث طلب سليم أخو فريدة - وكان لا يهمه من الحياة سوى اللهو والطرب ولعب الميسر - أن يعفى من مرافقتهم إلى مقابلة الشيخ؛ لأنه يرغب في الذهاب إلى رهان صيد الحمام. فأجابه فريد: خيرا تفعل يا سليم؛ لأني على يقين من أن منظر الشيخ في نظرك لا يوازي منظر الحمام، ولا حديثه يسليك كحديث من ستكون معهم هناك من الأصحاب، ولكن حيث إنه لم يزل عندنا وقت، فسنرافقك إلى هناك ثم نعود مشيا إلى مقعدنا إذا سمحت بذلك فريدة. فوافق الجميع على هذا ونادوا بإحدى العربات فركبوا، ولما وصلوا إلى محل صيد الحمام تفارقوا على أمل المقابلة مساء. ودخل سليم محل الصيد ونجيب وفريد وفريدة ساروا إلى مقابلة الشيخ؛ يفكر كل منهم بماذا يفتتح الحديث، ولكنهم لم يبتعدوا بضعة أمتار حتى شعر نجيب بقشعريرة هزت جسمه، فنظر حواليه يبحث عن السبب فتنبهت فريدة لهذا وسألته عما به، فقال: لا أعلم لقد شعرت بقشعريرة هزت جميع جسمي من أخمص قدمي إلى قمة رأسي كما لو كنت بالقرب من وحش كاسر أو حية أو قاطع طريق في مكان منفرد؛ لهذا فإني أنظر يمينا وشمالا لعلي أرى الموجب لهذا التأثير الخفي الذي به شعرت، إذ إن شعوري كما لاحظت دائما لم يخن البتة. فأجابه فريد وقال: دع عنا يا أخي مثل هذه الأوهام ولا تزعج فريدة. ففطن نجيب لملاحظته، ولكنه عاود الكلام وقال: نعم إنك مصيب في قولك، ولكن ألا ترى فريدة أننا نحن الاثنان هنا فمما نخاف. لذا أقول لك وأكرر القول بأنه لا بد أن يكون بالقرب من هنا ثعبان أو ذئب أو أي شيء مثل هذا فقفا أنتما هنا فإني مقترب من هذا الهشيم لأتحقق الأمر، قال هذا وتقدم من شاطئ النيل بكل احتراس، ولما دنا منه رأى بضعة عصافير ترفرف بأجنحتها تريد الهرب والطيران ولكنها لا تستطيع الارتفاع، كان هناك قوة تجذبها إليها، ورأى على الأرض ثعبانا رافعا رأسه محدقا بها النظر يتقدم منها رويدا رويدا لافتراسها. فتراجع نجيب قليلا وأومأ إلى فريد بالتقدم وحده بكل ترو وهدوء فجاء وجاءت وراءه فريدة، ولم يكد يقع نظرهما على هذا المشهد حتى ذعرا وهما بالتقهقر، فهدأ روعهما وقال مهلا، فإن لنا بهذا المنظر درسا مفيدا جدا فأنصتا ولا تأتيا بأقل حركة؛ لأني أريد المراقبة إلى النهاية، فقالت فريدة: مسكينة هذه العصافير، فإن هذه الحية ستلتهمها. فأجاب نجيب: لا تخافي عليها، فإني قد احتطت للأمر وسأضربها بهذه الحجارة فتنفر وتخلص العصافير. ولم تزل الحية تدنو والعصافير تقلل من صياحها وحركتها كأن الخوف قد هد منها كل حيل حتى كادت تقع فريسة، عندئذ تناول نجيب الأحجار وأخذ يرشق الحية، وفعل فريد وفريدة فعله فنفرت وهربت وتطايرت العصافير، وتراجع أصحابنا بكل سرعة إلى الطريق.
سار أصحابنا بضع خطوات دون كلام منذهلين مما رأوه، ولكنهم لم يطل صمتهم كثيرا حتى قطعه نجيب بقوله لهما: كيف رأيتما؟ ألم أكن محقا في زعمي؟ لقد قلت لكما ذلك ولكن الصديق فريد لم يرد أن يصدق، فها قد حقق الواقع ما به شعرت. فأجابت فريدة: لقد كنت الآن أفكر بهذا وأقيسه ببعض حوادث جرت أيضا لي، وقد ذكرتني هذه الحادثة بجملة حوادث حصلت لي مع أناس كنت عندما أراهم أشعر بانزعاج أو بعدم ارتياح لمحضرهم، وكان يتحقق دائما انزعاجي بما كان يجري منهم لي، أو بما كان يصدر عنهم مما كنت أراه أو أسمعه عنهم؛ لذا أصبحت تراني يا نجيب أعير أهمية كبرى لأول تأثير عند مقابلتي لأي كان، فما هو السر يا ترى في هذا؟ لعل الشيخ الذي أطنبتما في مدحه يفيدنا عن هذا. فأجاب فريد وقال: إني لا أشك في ذلك، ولكن أرى أن المسائل تراكمت اليوم لدرجة ربما أنستنا ما طلبناه من إيضاح مسائل الأمس، فقال نجيب: لا تخف، فإنا وإن نحن نسينا فهو سيذكرنا به ويفيدنا عنه، ولا سيما أني أعتقد بأن جميع ما حصل اليوم لهو مترابط متماسك مع ما قاله الأمس، وما سيقوله اليوم. قالت فريدة: إني كلما سمعتكما تذكران هذا الرجل يزداد اهتمامي بمعرفته وشوقي لرؤياه واستماع كلامه، فلعله لا يتأخر كثيرا عن الحضور، فها قد قاربنا الوصول، لا بل علنا نراه وقد سبقنا فيكفينا مؤنة الانتظار؛ لأنه مما يشغل الآن فكري كثيرا هو كيف أن هذه العصافير وهي بنات الجو لم تقدر على الهرب من هذه الحية رغم ما كانت تبديه من العزم عليه، بل بقيت محاولتها عبثا كأنها ربطت في مكانها مكهربة من نظر الحية، فما سر هذه القوة التي أوقفتها في مكانها رغم خطر الموت؟ فحالتها والحالة هذه كانت تشبه بعض الشبه حالتي مع هذا الرجل الذي رآني فريد معه في الشارع، فكان سلام فريد كالحجر الذي نفر الحية وأطار العصافير.
فدهش فريد عند سماعه هذا، ولبث صامتا حائرا لا يدري أهل يصدق فريدة وما قالت، أم هل يعد هذا القول ادعاء منها ذرا للرماد في العيون؟! أما نجيب فلم يكن أقل دهشة من فريد، إلا أنه لم يخامره أقل شك فيما قالت، ففكر قليلا ثم تبسم تبسم الفوز لإدراكه ما كان يبغيه، وقال لفريدة: لقد أخبرني فريد بهذا الأمر فاستغربته جدا، وفكرت به طويلا؛ لذا أشرت عليه أمس بالذهاب إليكم سعيا وراء هذه المقابلة لأستوضحك السبب، وكنت من ساعة وجودنا عندكم إلى الآن أفكر بطريقة أفتتح بها هذا الحديث دون أن آلم شعورك، أما الآن وقد قلت ما قلت، فلا حاجة لزيادة الإيضاح، وما مثلك مع الرجل وفريد ومثل العصافير مع الحية ومعنا إلا كمثل ما نشاهده في الجيوش في الحروب، تساق إليها مرغمة بقوة معنوية أكثر منها مادية تضطرها لملاقاة حتفها وهي تنظر إليه ولا يمكنها الهرب منه. قال هذا ونظر إلى الأمام فرأى الشيخ قادما من الجهة المقابلة، فقال: وها هو الشيخ قد حضر، وهو سيوضح لنا هذه المعميات فلنسرع الآن لعلنا نصل قبله، فسار الثلاثة مسرعين، وبعد قليل كان الجميع معا قرب المقعد المعلوم.
بعد مبادلة السلام قال نجيب: لا تستغرب يا شيخنا وجود هذه الآنسة معنا، فهي فريدة فريد وهي على ما أعرفها من البنات ذوات القلب والنفس والفكر؛ لذا عسر علي فهم بعض ما حصل لها معه، فأوفدته إليها توطئة لمقابلتها لعلي أقف منها على بعض السبب، والحمد لله فقد تسهل الأمر وسمعت بذكر الشيخ فطلبت التعرف به وسماع حديثه والدرس عليه. ثم قص عليه جميع ما جرى وما قيل. ففكر الشيخ مليا ثم نظر إلى فريدة وقال: يسرني جدا أن أراك هنا وقد تركت ما يروق عادة لبنات جنسك، وجئت إلينا مدفوعة بحب العلم طلبا للمعرفة والحكمة؛ لهذا فإني أرحب بك ترحيبا مزدوجا، ثم مد إليها يده وصافحها.
جلس الجميع ولزموا الصمت هنيهة كأن على رءوسهم الطير؛ حتى افتتح الشيخ الحديث، وقال: إن من ينعم النظر في هذا الكون يرى أن جميع الكائنات تتأثر بعضها من بعض، بلا استثناء من ذلك أي جنس من الأجناس، أو أي صنف من الأصناف، أو أي مملكة من الممالك الثلاث، أو أي عنصر من العناصر، إلا أن التأثير يختلف باختلاف القوى.
لقد سألني فريد بالأمس كيف يتغلب السلبي على الإيجابي أو الإيجابي على السلبي مع بقاء التوازن محفوظا؟ سؤال وجيه، ولكن لو كان هذان العاملان موجودين في القوتين المتنازعتين فقط، ومحصورين فيهما دون غيرهما، وتغلب عامل على آخر صح القول بأن الزيادة في أحدهما والنقصان في الآخر يخل في حفظ التوازن، ولكن حيث إن هذا التغلب لا يتعدى وحدة أو وحدات من مجموع الكائنات بينما العكس يجري على غيرها أيضا إن سلبا أو إيجابا، أو إيجابا أو سلبا، يبقى التوازن دائما محفوظا، لقد قلت لكما والآن أقول لكم: حيث إن أصل جميع الكائنات واحد كما سيأتي بيانه فيما بعد، وكانت كل وحدة من الكائنات، وكل جزء منها مهما كان صغيرا، وكل مظهر من مظاهرها هو قوة قائمة بذاتها تسير على نظام واحد ثابت تضم إليها أو تنضم إلى غيرها حسب ما بها من قوة نسبية أمام المنضمة إليه أو المضموم إليها، فعلى قدر القوى المتنازعة يكون التأثير والتحول، كما أنه على قدر التجانس يكون الانضمام أو الانفصال.
رأى فريد فريدة فجذب أحدهما الآخر إليه، وبما أنه وجد بينهما تجانس، والتجانس يختلف كثرة وقلة، وهو إما أن يكون تجانس المادة كالدم، أو تجانس الروح، وقد وجد بينهما تجانس دم وروح، فقد ائتلفا وما زالا يقويان ببعضهما ويتصارعان مع بعضهما دون أن يشعرا كما يتصارعان مع بقية العوامل والقوى حسب نظام الكون، فيقوى شيء ويضعف آخر، وينضم شيء وينفصل آخر، والتحول جار مجراه؛ إلى أن صدمتهما بأحدهما قوة أقوى فجذبت فريدة إليها، إلا أن الجاذب كان فقط دمويا لا تجانس للروحين فيه البتة سوى تأثير قوة أحدهما، وهو الرجل الذي كان معها؛ لذا لما تقابل الثلاثة وكان الاثنان متجانسين دما وروحا، أخذت فريدة قوة من فريد؛ بها تغلبت على الرجل الآخر وبقيت مع فريد لأن تجانس الدم يتقلب مع المادة، وتجانس الروح دائم؛ لأن العوامل التي تخضع المادة لها لا شأن لها مع الروح، فالروح هي المظهر الثالث من العنصر الفرد الأصيل. نعم، يمكن الضغط على الروح بواسطة المادة طالما هي متصلة بها، إلا أن هذا التأثير تأثير مفتعل يذهب مع زوال السبب، وليس هو بأصيل، فالروح لا تتأثر فعليا إلا بالروح، وعلى هذا، فإن الحب - وما هو إلا تأثير التجانس بين الرجل والمرأة إذا كان تجانس دم فقط - ذهب عندما يتلاقى ويتحد الدمان؛ لأن القوة التي تصدر من هذا الاتحاد المادي إما أن يأخذها أحد الاثنين فيزداد ميل الأول ويقل ميل الثاني، أو أنها تذهب عنهما فتزول بزوالها تلك العاطفة، أما إذا كان تجانس دم وروح تقوى تجانس الروح باتحاد وتلاقي المادة بما تستنفده روح الاثنين من تلك القوة الصادرة من تلاقي واتحاد المادة، فتتمتن تلك العاطفة وتلك الصلة، وتصير فيما بعد صداقة؛ لأن الروح تأخذ من المادة وتتقوى بها، ولكن المادة لا تأخذ من الروح بل تحفظ بها.
إن كل وحدة من الكائنات مهما صغرت لهي شبه آلة، فالجماد والنبات آلات صامتة، والأحياء آلات عاقلة، ففي الأولى لا يتعدى التأثير المادة، أما في الثانية فالتأثير بينها على المادة والروح تأثير يجريه الحي على الحي بإرادته مدفوعا بغريزته الفطرية أو بآرائه أو بعوائده المكتسبة أو يتقبله مرغما بالنسبة لصلته بالروح والمادة، فعلى هذا فإن التأثير عام بين الكائنات بأجمعها، غير أن الأحياء تعانيه وتشعر به، والبقية تعانيه بلا شعور؛ لأن الأولى كاملة والأخرى ناقصة، فالأرض بحيوانها ونباتها وجمادها تتأثر بعضها ببعض كما أنها تتأثر بالعناصر الأخرى وبالكائنات العلوية، وتؤثر عليها كما تؤثر الشمس والقمر على الأرض كما نرى في المد والجزر في البحار، رأت الحية العصافير فجاءت إليها مدفوعة إما بطبيعتها الفطرية طلبا للغذاء أو بعوائدها المكتسبة ترفها بالمأكل، وحيث إن القوة التي بالحية إن جسمية أو روحية هي أقوى من العصافير، فقد تسلطت عليها وأوقفتها بقوة تأثيرها رغم ما كانت العصافير تراه من الخطر المهلك، فكانت والحالة هذه، قوتها الإيجابية ضعيفة جدا بالنسبة لقوة الحية السلبية، ولكن لما حضرتم وكنتم مع العصافير على الحية انقلبت الآية وتحولت دفة الميزان فنجت العصافير، وهكذا فإن الغلبة دائما للقوة. قال هذا وصمت قليلا، ثم نظر إلى أصحابنا الثلاثة يستطلعهم فكرهم، وحدق بفريدة بنوع خاص ليعلم مبلغ فهمها وما استوعبته من هذا الشرح، ولكنها لم تطل وقت انتظاره بل قالت له: لقد أفهمني الشيخ الآن بما أدلى به ما كان لغاية الآن مبهما علي فهمه؛ أولا من أمور وحوادث شتى، وثانيا مما لقيت أخيرا في حادثي مع فريد. لقد كنت أسمع كثيرا عن مثل هذا، وكنت أقول: إن هذه المسائل خارقة للطبيعة، وبهذا كنت أقنع نفسي، أما الآن فقد أصبحت يمكنني بناء على هذه القاعدة أن أعلل مسائل جمة، ولما كان الشيء بالشيء يذكر أقول: كنت ذات يوم مع إخوتي في نزهة، وإذا بطائر كان كأنه جامد في الهواء انقض بسرعة على الأرض، ثم ارتفع وبمنقاره حية فخفنا وارتعبنا قليلا خوفا من أن يفلتها فتقع علينا، فتعجبت جدا من أن هذا الطائر لم يخف الحية بل انقض عليها واصطادها. فتبسم نجيب وقال: لو كنت معنا يا فريدة قبل اليوم حين شرح لنا شيخنا سنة التبادل والتوازن، لعلمت أكثر من هذا، فحقيقة أن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ؛ فكما أن حيتنا اليوم تقتات بالعصافير، كذلك كان طائرك يقتات بالحية، وحيث إن شيخنا قد أذن بدخولك في مدرستنا، فسنتولى فريد وأنا إفادتك عما سبق وشرح لنا. قال هذا ثم نظر إلى الشيخ وقال: لقد استلفت نظري في كلام فريدة قولها: إنهم خافوا لما رأوا الطائر مرتفعا وبمنقاره الحية، فالخوف كان من الحية طبعا، والخوف يكون عند تغلب القوة المهاجمة على المدافعة، أو على حسب لغتنا الآن السلبي على الإيجابي، فبماذا نعلل تأثيرهم وهم جماعة من الحية، وهي واحدة، وفي حالتها هذه لا قوة فعلية لها مع أنه إذا كان هناك تأثير خوف وجب أن يكون من الطائر صاحب القوة على الحية؟ فأجاب الشيخ وقال: لقد أصبت فيما قلت، ولكم اعلم أن الخوف من الحية في هذه الحالة هو نتيجة، وهم تسلط عليهم عند رؤيتهم للحية، فذكرهم بما كانوا سمعوا وقرءوا عن الحيات فأضعف فيهم القوة، وما أشد تأثير الوهم على الأحياء! ويكون الخوف أيضا من الشيء على قدر توهم الأذية منه، فأذية الطائر للإنسان جزئية، لكن الحية إذا لدغته لربما مات.
الغريزة الفطرية في الأصل هي واحدة في الإنسان كما في بقية الأحياء، وضعت فيها لأجل حفظ كيانها في المرحلة التي تقطعها في حياتها، فهي الميزان في كل حي لدرجة معلومة بين السلبي والإيجابي، غير أنها في بعض أجناس من الأحياء قد ترقت أكثر منها في الأخرى حسب ما طرأ عليها من التأثيرات والتطورات، كما أنها في الإنسان قد ترقت لدرجة صار يمكن القول عنها: إنها تغيرت معالمها بما حل محلها من ترقي التصور والابتكار، وبما تأثرت به من العادات والأوساط حتى لم تعد البقية الباقية منها تكفي لوحدها لأداء الغرض فوضعوا القوانين والشرائع، وما أحاطوها به من الأوهام لتقوم مقام هذه الغريزة الفطرية لحفظ ميزة الجنس على غيره، وبما أن الغريزة التي بالحيوان هي نفس العقل الذي بالإنسان، وهو من خصائص الروح، وحيث إن هذه هي مشتركة بين الإنسان والحيوان مع حفظ نسبة التفاوت؛ فلهذا كان تأثير الحيوانات ومنها الإنسان بعضها على بعض عظيما كما سبق فذكرت ذلك. لقد قلت لكم الآن: إن كل وحدة من أجزاء هذا الكون هي قوة قائمة بذاتها مهما صغرت أو كبرت، وهي إنما تختلف كبرا أو صغرا بما تقارن به من بقية الوحدات؛ فلهذا فإن تأثيرها يختلف فيما تنضم إليه أو تنفصل عنه أو تصطدم به حسب نسبتها إليه، وفي كل الأحوال لا بد لحصول التأثير فيها ومنها، وهذا التأثير هو سبب اختلاف المظاهر والأشكال وتنوع الأجناس وتعدد الوحدات إلى ما لا نهاية. واعلموا أن الجاذبية ليست سوى مظهر من مظاهر التأثير في المتجانسات إيجابيا أو سلبيا للضم أو للانفصال. فقالت فريدة: إن لي استفهاما آخرا أظن أن له علاقة بالموضوع أرجو من الشيخ إيضاحه، وهو أمر شائع جدا خصوصا بين بنات جنسنا، فالبسيطات الجاهلات تؤمن به والمتعلمات تعده من الخرافات والخزعبلات، ولقد شاهدت جملة حوادث بنفسي أوقعتني في حيرة، ولا بد أن شيخنا يكون قد سمع بمسألة العين وما ينسبون لها من التأثير، وهاكم ما شاهدته بنفسي وما سمعته ممن أثق بهم تمام الثقة:
كنت ذات يوم مع والدتي وأخي الصغير في زيارة عند بعض الأقارب، وكانت هناك امرأة قيل لنا أنها عاقر لم ترزق أولادا، فلما شاهدت أخي قالت لأمي: يا لحسن حظك بهذا الولد، وأحدقت النظر بأخي هنيهة، ولكنها لما خرجت اعترى أخي ألم شديد اضطرنا إلى العودة إلى البيت، ولما كشف عليه وجد في جنبه ألم يشبه العين في الجهة المواجهة لجلوس تلك المرأة، فداويناه عدة أيام كاد فيها أن يقضى عليه حتى شفي وزال الألم. وأذكر أيضا أني كنت مرة مع بعض صديقاتي فجاءتنا إحدى البنات من أقارب صديقتي ونظرت إلي وكنت أرسم بيدي بعض الرسوم على قطعة من قماش، فقالت: ما أجمل هذا الرسم! وما أخف يدك! فيا حبذا لو كنت أستطيع مثل هذا العمل، فشعرت في الحال بألم في يدي أوقفني عن متابعة الرسم ولم يزل ذاك الألم إلا بعد علاج بضع ساعات. وأمثلة هذه الحوادث كثيرة جدا لا بد أن يكون نجيب وفريد يعرفان أيضا منها الشيء الكثير. فقال نجيب: نعم، إني سمعت كثير عن مثل هذا، ولكن أغرب ما سمعته من هذا القبيل حادثتان: الأولى جرت في بيتنا أرويها عن أهلي، والثانية بالقرب من بستان لعمي، فالأولى هي أنه كان أمام بيتنا دالية عنب كبيرة كانت مرفوعة من مدة مديدة على سقالة من خشب متينة الوضع؛ كي تقاوم عواصف الشتاء، ففي ذات يوم وكان الزمن صيفا والدالية عليها من العنب الشيء الكثير، جاءنا بعض الزائرين ومعهم رجل مشهور عنه على حسب اصطلاحهم؛ أنه يصيب بالعين، وكان أهلي لا يعلمون ذلك فرحبوا بهم حسب المعتاد، وبعد تقديم القهوة قطفوا لهم بعض العناقيد من عنب الدالية وكانت كبيرة الحجم جميلة المنظر حلوة الطعم للغاية، فأكلوا هنيئا، ثم نظر ذلك الرجل إلى الدالية وقال حقا: إن هذا العنب لهو في غاية الجودة، وهذه الدالية هي حقيقة فريدة في نوعها هنا، وفي الحال مالت السقالة وتفككت أخشابها بعضها من بعض وسقطت إلى الأرض.
والحادثة الثانية هي أن عمي كان مدعوا مع أهل بيته عند بعض الجيران في بستان لهم، وكان بين الحاضرين رجل مثل الأول، فجرى الحديث عن العين وتأثيرها فتبسم الرجل وقال: إذا أردتم أن أبرهن لكم على ذلك فليتفضل أي منكم ويعين لي أي غصن من أغصان هذه النخلة؛ وأنا بنظرة من هنا أقطعه لكم، وفعلا تم ذلك مرة ومرتين وثلاثا، فكان هذا الرجل ينظر إلى الغصن المعين محدقا به فيسقط الغصن كأنه قطع بسكين حادة؛ حتى دهش الجميع وتولاهم بعض الخوف من عينه وأفعالها، فقال الشيخ: نعم، إن هذه الحوادث لهي مما يستلفت الأنظار، ولكنها الآن يجب أن تكون عندكم بسيطة لا تستوجب الاستغراب بعد الذي شرحته لكم، فإن تينك المرأتين في حادثتي فريدة وهذين الرجلين في حادثتي نجيب، يملكون قوة عظيمة تخرج من عيونهم كالسهم فتؤثر على الهدف المسلطة عليه على نسبة قوتها وقابليتها، وكما أن هذا التأثير جرى في هذه الحوادث على المادة مثل يد فريدة وجسم أخيها وسقالة الدالية وأغصان النخلة، كذلك يجري كثيرا على الأرواح وخصائصها كما كان الحال في حادثتي الحية مع العصافير والطائر مع الحية، وكما في التنويم المغناطيسي وانتقال الأفكار وخلاف ذلك، فقالت فريدة لفورها: نعم هذا صحيح، وأزيد عليه بأن الحيوان يمكن أن يؤثر روحا على الإنسان، كما أن الإنسان يمكنه أن يؤثر روحا على الحيوان.
وهاكم حادثة من جملة حوادث سمعتها عن الضباع: كان أحد أصدقائنا مسافرا في ليلة ظلماء شاتية من بلد إلى بلد، وفي الطريق تصدت له ضبع في مكان منفرد، ولما رآها اعتراه خوف شديد أضاع رشده وعقد لسانه وفقد كل قوة للمقاومة أو الهرب، فجمد في مكانه كالتمثال لا يبدي حراكا كأنه أنيم مغناطيسيا، فتقدمت منه وابتدأت تنهشه حيا، وتصادف أن مر من هناك في تلك اللحظة أناس سمعوا أنينه فوجدوه على تلك الحالة فعرفوه وكانت الضبع لما شعرت بقدومهم تركته ولاذت بالفرار فلحقوا بها ورموها بالرصاص فقتلوها، وجاءوا بصاحبنا إلى بيته. فأجاب فريد وقال: لقد كنت سمعت كثيرا عن مثل هذه الأمور، فكنت أنسبها فقط إلى الجبن والذعر أو لا أصدقها، ولكن الآن نرى أنها نتيجة عوامل طبيعية كما بين لنا شيخنا ذلك، حيث شبه جميع وحدات الكون بالآلات الميكانيكية تنبعث منها القوة السلبية والإيجابية، وعلى هذا نرى أنه ظهر لنا سبب كثير من الأسرار.
صمت الجميع هنيهة بعد ذلك محدقين بالأرض لا ينبسون ببنت شفة، ولا يأتون بأقل حركة حتى قطع نجيب ذلك السكوت بقوله مخاطبا الشيخ: لقد قال الكتاب: «هذا هو الناموس أحبب قريبك كنفسك، وأكرم أباك وأمك.» وقد بين الشيخ لنا في كلامه عن التوازن السلبي والإيجابي أصل حكمة الآية الأولى. والآن بناء على قاعدة التأثير هذه التي لها أيضا مساس بتلك الآية بما يتأثر به الجاني من الانفعالات المسببة عن المجني عليه، يتضح لنا أصل حكمة الآية الثانية؛ لأنه ما من أحد يمكنه أن يشعر بتأثير الوالدين من فرح أو حزن، بغض أو حب، غضب أو سلام، مرض أو صحة أكثر من الأولاد؛ لأنهم أكثر صلة وأكثر تجانسا دما وجسما وروحا، وعادة من أي شخص آخر؛ لأن الأولاد هم جزء من الوالدين كما أن الغصن يتأثر من الأصل أكثر من تأثره من الخارج؛ ولذا فقد قال الكتاب أيضا: «إنه يثأر من الآباء بالبنين إلى الجيل الرابع والخامس»؛ أي: إن التأثير يدوم ما دام التجانس؛ لأنه بعد هذا يضعف أو يضمحل بما يطرأ عليه من التغييرات. وهأنذا أروي لكم حادثة من هذا القبيل سمعتها من أحد أصدقائي قال: كان غلام سيئ السيرة مبذرا، يبعثر كل ما يصل إلى يديه من الدراهم في اللهو والملذات، ضاقت في إصلاحه جميع حيل وإرشادات والديه حتى قبض عنه أبوه يده أخيرا، فلم يعد يعطيه غير النذر اليسير جدا، فتضايق الغلام، وعزم على الفتك بأبيه. وسمعت الأم بالأمر فخافت على زوجها من شر ابنها وعلى الابن من سوء المغبة، فأخبرت الأب بذلك، ورجت منه أن يحتاط للأمر ولا يعرض نفسه للخطر؛ لأنها عرفت أن الابن كان عازما على الإقدام على فعلته في تلك الليلة، أما الأب فلم يعر الأمر ما كانت تنتظره من الاهتمام، بل اكتفى بأن سألها إذا كان هذا الولد حقيقة من صلبه أم لا؟ قائلا لها: إن على صدقك يتوقف أمر حياتي، أما الأم - وكانت امرأة طاهرة الذيل - فقد أكدت للأب أنها لم تخنه قط، وأن الولد هو لا شك ولا ريب من صلبه، فاطمأن الأب لهذا التصريح وقبل امرأته وخرج رغم توسلها إليه بالبقاء، ولما رجع بالليل كان الولد كامنا له في إحدى منعطفات الدار المظلمة، فلما شعر بقدوم أبيه هجم عليه والسكين بيده، وهم أن يغمدها في صدره إلا أن الأب، وكان حذرا ومتوقعا مثل هذا الهجوم وهذه المفاجأة، صاح بالغلام وقال له: اضرب يا ولد هذا صدري أمامك، فحين سمع الولد صوت أبيه ارتجفت يداه وخارت قواه وسقطت السكين من يده وانطرح على قدمي أبيه باكيا يقبلهما متوسلا نادما واعدا بإصلاح سيره، وفعلا كان ذلك. وأصبح ذاك الغلام السيئ السيرة المسرف من خيرة الناس سلوكا واقتصادا.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، أروي لكم أيضا حادثة حصلت لي شخصيا تبين لنا تأثير التجانس بأجلى بيان: كنت يوما مسافرا إلى حلب الشهباء لأول مرة، وكان معنا أحد المسافرين اخترت محادثته دون غيره لما ظهر لي من الائتلاف بيني وبينه مشربا وفكرا، فقضينا الطريق نتحادث في مختلف الأمور حتى وصلنا إلى محطة قرب المدينة، كان وقوف القطار فيها مقررا له بضع دقائق فقط، ولكن بسبب عطل طرأ على الآلة طال الوقوف كثيرا، فقمنا إلى النافذة لنعرف السبب، فوقع نظري على ناظر المحطة يجيء ويذهب ملاحظا عمل إصلاح العطل، فاستلفت نظري جدا وشعرت حال رؤيته بميل شديد إليه لم أتمالك من إخبار رفيقي به، وكدت لولا أن عاود القطار السير حالا أن أنزل لأخاطب هذا الرجل فأعلم علمه ومن أين هو. مضت على هذه الحادثة مدة، رجعت في خلالها من سياحتي والتقيت بعدها بصديق سألني عما إذا كنت لم أجتمع هناك برفيق صبانا فلان؟ فقلت: وأين هو؟ فقال: إنه ناظر محطة كذا، فعلمت إذ ذاك أن ذلك الذي شعرت بالميل إليه لم يكن سوى ذلك الصديق؛ فلهذا لما رأيته في تلك البلاد، وكان أكثر تجانسا معي من جميع الباقين، شعرت بهذا التأثير. وعليه، أفلا نرى أيضا مثلا أن الإسكندري يأتنس بابن الإسكندرية في القاهرة، والمصري بالمصري في الشام، والشرقي بالشرقي في أوروبا، ولو اختلف عنه بلدا وأصلا ولغة؛ لأنهما فيما بينهما أكثر تجانسا منهما مع الغربي، وعلى هذا قال المثل: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.
فقال فريد: وإني أنا أيضا أروي لكم بعض الحوادث مما كنت أستهجنه أولا لعدم معرفتي لأسبابه، أما الآن فقد أصبحت أنظر إليه بغير تلك العين. كان لي قريب فقير يسكن في بيت حقير منزو في إحدى نواحي القرية، فأثرى بعد ذلك هذا القريب وأراد أن يحسن حالة مسكنه، فبدلا من أن يبني بيته الجديد في موقع أطلق هواء وأجمل موقعا؛ هدم بيته القديم وأقام في محله بيته الفخيم الجديد، فضحكت وقتئذ من فعلته هذه، فقال لي: إنه يشعر بحنان إلى موضع بيته القديم وبميل شديد إلى ذلك المكان؛ حيث ولد وعاش صبيا وشابا. وكان في حديقتنا شجرة كانت تأتيها ليلا جميع عصافير الجوار لتبيت فيها دون غيرها، حتى كادت أن تتلف، فعمدت جملة مرار على تحويلها إلى مبيت آخر، ولكن عبثا كنت أفعل، أخيرا اضطرني الأمر لاتخاذ طرق شتى تمكنت فيها نهائيا من إبعاد العصافير عنها إلى غيرها حتى سلمت. وهذا شاهد آخر على أن قريبي ذلك وهذه العصافير كانوا مدفوعين بتأثير العادة والذكرى، ذاك للبقاء في موضعه، وتلك للمبيت على الشجرة. فقال الشيخ: وبدافع التجانس أيضا لما تأثر قريبك به من بيته، والعصافير من شجرتك سلبا وإيجابا، أخذا وعطاء، حتى أصبح البيت والشجرة فيهم ومنهم أكثر من المواقع والأشجار الأخرى. قال هذا وهم بالقيام وإلقاء كلمة الختام، إلا أن فريدة نظرت إليه نظرة رجاء وقالت: بقي أمر آخر عن التأثير والشعور أريد قبل أن ننتقل إلى بحث جديد أن أستوضح الشيخ عنه؛ لأنه كثيرا ما شغل ذهني وبحثت فيه مليا دون أن أتوصل لمعرفة السبب الحقيقي له، ولكن مما فهمت الآن فإنه لا بد أن يكون هناك سبب طبيعي واضح لهذا: لقد كنت عندما آتي بأي عمل يؤذي أو يضايق أحدا؛ أشعر بانزعاج داخلي على قدر تصوري للأذية وللمضايقة، وكنت أيضا أشعر بعض الأحيان بمثل هذا الانزعاج دون أن أفعل شيئا، وقد كنت أيضا عندما أسر أحدا أو أنفعه أشعر بارتياح وسرور، كما أني أيضا كنت أشعر بمثل هذا بدون سبب، ولكني في كلا الحالين كنت عندما أخبر بعض رفيقاتي بالأمر كان هذا الشعور إن بالارتياح أو بالانزعاج يخف وأحيانا كان يزول. فما هو سر هذا يا ترى؟ فأجابها الشيخ وقال: اعلمي يا ابنتي أن التأثير الذي يرسله المصدر إلى المرسل إليه يخف أو يزول إذا تعداه إلى شخص آخر حسب قابلية هذا للقبول والتصدير بأسرع مما لو حصر في المرسل إليه؛ لأنه في إذاعته تقاومه عوامل خارجية رأسا بخلاف ما لو كان بقي محصورا؛ لأن المقاومة في هذه الحالة تبقى محصورة بين القوتين المرسلة والمرسل إليها فقط، والتأثير يكون عليهما حسب ما بينهما من التكافؤ أو التفاوت، وعلى هذا الأساس بنيت حكمة الاعتراف والإقرار، ثم اعلموا يا أولادي أنه كثيرا ما يلتقط الإنسان رسالات فرح أو حزن غير موجهة إليه رأسا؛ فيتأثر بها على قدر قابليته الوقتية، فهو والحالة هذه، مثل آلة اللاسلكي التي تلتقط ما يوجه إليها أو ما يمر في طريقها موجها إلى غيرها، فإذا دخل الواحد منكم مأتما مثلا وكان فرحا مسرورا، تولى عليه الحزن والأسي، كذلك إذا دخلتم عرسا وكنتم حزانى، تبدل حزنكم بسرور وطرب، فاكتفوا الآن بهذه، وسأزيدكم غدا بيانا، فقد أزف وقت الفراق فانعموا مساء، وموعدنا هنا غدا كما كان بالأمس واليوم، فشكروا له إيضاحاته، وتقدم منه فريد ووضع في يده بعض الشيء فشكر وحيا وقام.
الفصل السابع
إن سنن الطبيعة هي واحدة في الممالك الثلاث. ***
تناول الشيخ عصاه وقام متوكئا عليها وولى وجهه هذه الليلة شطر المدينة، ولما ابتعد قليلا قال نجيب لفريدة: عسى أن لا تكوني حاقدة علي وعلى فريد لدخولك مدرستنا، فإذا كان ثمة حقد فيجب أن يكون علي فقط؛ لأن فريدا لم يفعل إلا ما أوحيت به. فنظرت إليه فريدة فرأته باسما، فعلمت أنه إنما أراد المداعبة والمزاح، ولا غرو؛ فإنه كان يعرف عن فريدة رغبتها بالبحث وشغفها بمثل هذه المواضيع وتفضيلها لها على أي شيء آخر. فأجابته قائلة: قبل أن أجيبك قل لي كم الساعة الآن؟ فنظر الاثنان إلى ساعتيهما وكانت الساعة التاسعة، فقالت: هيا بنا؛ ولنسرع لأن وقت العشاء قد حان والجميع في البيت ينتظرون قدومنا، فلنذهب إذا شئتما ولا داع للإلحاح، فنأكل عندنا سويا وهكذا يمكننا تمضية بقية السهرة في متابعة دروسنا، أليس كذلك؟
قالت هذا ونظرت إلى نجيب، ثم قالت: ومن هنا تعلم إذا كنت حاقدة أو مسرورة، أما إذا كنت لا تريد إلا أن تسمع كلمة الشكر مني، فإني أهديكها، لا بل أهديكهما إياها بكل اغتباط وسرور. ضحك الثلاثة لهذا وقبلا صاحبانا الدعوة، فركبوا إحدى العربات تقلهم إلى منزل فريدة، فجلست فريدة في الوسط على يمين فريد، وجلس نجيب بجانبها يرقبها بكل اهتمام ليرى ما يبدو على وجهها ووجه فريد، وهما بقرب بعضهما، من التأثيرات بدون أن ينتبها إليه؛ لأنهما كانا غارقين كل منهما في ما كان يفكر فيه.
سارت العربة مسرعة وهم على هذه الحال حتى وصلت إلى أول الجسر، فتنبه فريد حينئذ ونظر إلى الماء، وكانت الحالة كما كانت يوم النزهة من بضعة أيام، فتذكرها ونظر إلى فريدة ونظر إلى نجيب وتبسم وقال: سبحان من يغير ولا يتغير، فأجابته فريدة لفورها - وكانت كأنها أفاقت من سباتها: صدقت، سبحانه على كل حال، ثم صمتت قليلا واحمرت وجنتاها؛ لأنها ذكرت وجودها مع ذلك الرجل يوم رآها فريد ولم تره، ولكنها لم تلبث حتى عبست وبانت عليها ملامح الجد والعزم، وقالت: قل لي يا فريد أين كنت يوم الخميس في مثل هذه الساعة؟ قالت هذا بلهجة الآمر المستعلم، فحار فريد في أمره لهذا السؤال ونظر إلى نجيب مستفهما مستنجدا وسكت، فلحظت فريدة عليه حيرته وارتباكه، فقالت: لماذا لا تجيب على سؤالي؟ فإن الأمر له علاقة بما سمعنا الآن من الإيضاح، فقل لي ولا تتردد حتى ولو كان هناك ما يدعو إلى الكتمان والمجاملة أو الخجل، فنظر فريد إلى نجيب ثانية وقال: ما رأيك يا نجيب في سؤال فريدة؟ فأجابه نجيب وقال: تكلم يا أخي، فالحقيقة يجب أن تقال ولو جرحت، وفريدة أعقل من أن تجرحها الحقيقة، ونحن الآن هنا نتكلم بالروح، والروح ليس لها جنس، فهي لا ذكر ولا أنثى، فقال فريد: إذن فلنترك المجاملة والخجل: لقد كنا هنا يا فريدة، لا بل كنا في أحد القوارب نتنزه في النيل نروح ونجيء أمام هذا المكان. فاحمر وجه فريدة أولا ولكنها تملكت نفسها وتبسمت وقالت: أنت ومن؟ قال: نحن الاثنان: نجيب وأنا. فقالت: إذن لقد رأيتماني؟ فقال: نعم، لقد رأيناك، لا بل رأيناكما. فقالت: كفى، لقد فهمت الآن سر انزعاجي تلك الليلة وهذا ما كنت أريد معرفته لقد صدق الشيخ فيما قال؛ فإن تلك الليلة قد التقطت جميع ما وجهت إلي من التأثير؛ لأن انزعاجي كان لدرجة قصوى حتى غيرني من حال إلى حال، فثق بأن جميع حبي الماضي لك قد تحول إلى صداقة خالصة لقد خنقت الصداقة الحب فنمت به وتقوت بما تغذت من أشلائه كما يتقوى الإنسان الضعيف بما يأكل من لحم حمامة أو حمل. فقال نجيب: وهذا دليل على تجانسكما مادة وروحا، ولولا ذلك لانقلب الحب إلى بغض شديد قتال؛ لأن الضعيف إذا أكل لحم الأفعى بدل الحمامة والحمل مات بدلا من أن يتقوى.
وصلت العربة إلى منزل فريدة فنزل الثلاثة ودخلوا البيت فوجدوا الجميع على وشك تناول الطعام فسار الكل إلى قاعة الأكل، فتعشوا وتسامروا قليلا، ثم خرجوا إلى الجنينة طلبا للنزهة يتمشون بين زهورها وأشجارها كل مع من طابت له مسامرته من الحاضرين، أما فريدة ونجيب وفريد فقد انفردوا لوحدهم يتابعون حديثهم. وفيما هم كذلك ابتعدت فريدة قليلا وأسرعت إلى مكان مخصوص في الحديقة حيث كانت منذ مدة زرعت زهرة نادرة كان أحد أصدقائها أهداها إليها ثم عادت كئيبة؛ لأن تلك الزهرة كانت قد ذبلت وتلاشت بما نبت حولها من الأعشاب الأخرى، شعرت فريدة بعد ذلك بألم في رأسها فاستأذنت من صاحبيها ودخلت حجرة نومها بعد أن اتفقت معهما على المقابلة لميعاد الغد، كان دخول فريدة حجرتها كمنبه للقوم للذهاب فانفرط عقد الحاضرين وذهب نجيب وفريد مع من ذهب كل منهما إلى منزله، حيث إن الليل كان قد انتصف.
في اليوم التالي اجتمع أصحابنا الثلاثة وساروا للقاء الشيخ فمروا في طريقهم وسط الحديقة الكبيرة، وكان الناس ذرافات يروحون ويجيئون في مماشيها، وقد جلس بعضهم على الخضرة تحت ظل الأشجار وبعضهم نام في الشمس، وكانت الطيور تحوم هنا وهناك فوق الناس، تحط تارة على الأرض وطورا على الأشجار، فتلتقط شيئا ثم ترتفع، وكان بعضها يتنقل من جهة إلى أخرى ومنقاره بالأرض يبحث عن الديدان ليقتات بها، وكان البستانيون منهمكين كل في عمله في خدمة الحديقة؛ فمنهم من كان يقتلع الأعشاب من بين الزهور، ومنهم من كان يروي الأرض، ومنهم من كان يحرثها، وكان البعض يسمد بعض القطع لإعدادها للزرع، وبعضهم يلقي البذور أو ينقل النبت من مكان إلى آخر.
مشى أصحابنا وسط هذا كله وهم صامتون يفكرون فيما يرون، ولكنهم لم يلبثوا حتى استوقف أنظارهم بعض المشاهد، إذ كان أحد البستانيين قد تسلق نخلة شامخة وكان بيده شيء أخذ ينفضه على ما كان عليها من الحمل. فقال فريد لنجيب: انظر يا أخي إلى جشع الإنسان فإنه يريد أن يحصر كل شيء فيه ويحرم غيره حتى من قوته، فها إننا نراه وقد ركب الأخطار وتسلق هذه النخلة العالية يرمي على حملها من المواد ما تعافه بقية الطيور والحيوانات؛ ليحفظه بجملته لنفسه ويجنيه كاملا حين نضجه. فأجابه نجيب وقال: إني وإن كنت أوافقك تمام الموافقة على ما يختص بالجشع الإنساني، إلا أن ما يفعله هذا الرجل الآن فوق النخلة ليس هو ما توهمت، بل إنه إنما يقوم بعملية التلقيح، فإن ما تراه في يده ينفضه عليها ما هو إلا جنبي نخلة ذكر، جاء به هذه النخلة الأنثى؛ ليثبت وينمي وينضج به ما عليها من الحمل. فتعجب فريد من هذا، وقالت فريدة: هل يوجد أيضا بين النبات ذكر وأنثى! سبحان الله، إن هذا لعجيب غريب! فأجابها صوت من ورائها وقال: نعم، ولكن ليس في الطبيعة شيء غريب، بل إن الغرابة تظهر لمن لا ينظر إلا للظواهر فقط، فالتفت الجميع إلى الوراء فرأوا الشيخ واقفا خلفهم وقد كان في الحديقة حينما دخلوها، فرآهم ذاهبين إلى المقعد المعلوم فتبعهم دون أن يروه، ولم يشأ بادئ بدء أن ينبههم إلى وجوده؛ لئلا يعكر عليهم صفوهم ويضايقهم بوجوده معهم فسار وراءهم كظلهم حتى وقفوا تجاه النخلة، وكان من حديثهم ما كان ففرحوا بهذه المباغتة، وحيوه بكل احترام فرد عليهم التحية بأحسن منها، واعتذر لهم عن مقاطعتهم الحديث. ثم تابعوا السير جميعا وتابع هو الكلام قائلا: اعلموا يا أولادي أن سنن الطبيعة هي واحدة في جميع أجزاء الكون، كما هي واحدة في الممالك الثلاث، وهي تسير على نظام أثبت من الثبات، وتنفذ بدقة تامة، ولو اختلف شكل التنفيذ؛ لأن الأصل واحد. فالسلبي والإيجابي هما في كل شيء يتجاذبان بما تفرع عنهما من الوحدات التي لا تعد ولا تحصى فيتأثران بفروعهما دون أن يختلا بالمجموع، وعلى قدر التأثير تتغير الظواهر فيأخذ هذا من ذاك وذاك من هذا، فيتغير الآخذ والمأخوذ منه ويتحول هذا من شكل إلى أشكال أو من وحدة إلى وحدات وذاك من أشكال إلى شكل أو من وحدات إلى وحدة للناظر، ولكن الأصل باق لا يتغير مثل الماء سائلا ومتجمدا وسحابا.
يجامع الحيوان أنثاه فيتولد منهما حيوان فيعطيان ويأخذان، ويتغير الكل مظهرا رويدا رويدا حسب التأثيرات الكلية والجزئية الأرضية والجوية التي تؤثرها أرضنا على موجوداتها وأجزائها، أو حسب التأثيرات والعوامل التي تتأثر بها أرضنا من العوالم والأفلاك والكائنات الأخرى، كما نراه ونشعر به من تأثير الشمس والقمر مثلا علينا وعلى أرضنا وعلى ما فيها وما عليها. وما الجاذبية سوى تأثير تجانس العناصر بعضها على بعض ليلتحق كل عنصر بعنصره والغلبة للأقوى. ترمي قطعة خشب من علو وهي بشكلها هذا عنصرها الترابي الغالب، فتقع مجذوبة على الأرض، ولكن إذا حللت بالحرق فالهواء الذي فيها يذهب مع الهواء وماؤها يتبخر والنار التي فيها تلتحق بعنصرها، حتى إن ترابها الذي هو الرماد يضيع من مناعته النسبية أمام بقية العناصر، فيتغلب الريح عليه فيجذبه إليه ويطير معه، وعلى هذا أقول لكم: إن لا شيء يخلق نفسه ولا شيء يفنى، بل إن الكون موجود والكل باق غير أن المظاهر تتحول وتختلف وتتغير.
لقد قال الكتاب: لا شيء جديد تحت الشمس؛ لأن التحول عام شامل، قصرت مدته أو طالت. قالوا: إن التاريخ يعيد نفسه بما يختص بالحوادث، وأنا أقول لكم أيضا: إن الطبيعة أصل الحوادث، تعيد أيضا نفسها؛ لأن سننها واحدة في الممالك الثلاث، كما أن أصلها واحد، فما هو حاصل الآن على كرتنا الأرضية حصل قبل ذلك ما يشابهه في القمر، أو في الأجرام التي سبقت الأرض في تكوينها وصلاحيتها للحياة النباتية والحيوانية، كما أن حالتها الآن سوف تتبدل وبما فيها وبما عليها إلى شكل أو أشكال أخرى، بما سيطرأ عليها من عوامل التأثير. نعم، هذا لا بد له من زمن، ولكن الزمن ليس موجودا في الطبيعة؛ أي في الأصل؛ لأن الأصل أبدي أزلي سرمدي، والزمن هو فقط للزائل المحدود يختلف قلة أو كثرة حسب قلة أو كثرة الشيء ومناعته الوحدانية، وسوف يأتي زمن تكون فيه أرضنا في حالتها، كما هي الحال الآن فيما سبقها من الأجرام نسبيا.
وصل الجميع إلى حيث المقعد الخشبي موضع الاجتماع، فصمت الشيخ وجلس الجميع بجانبه وبقي هنيهة صامتا ناظرا أمامه كأنه يستوحي الوجود، ثم عاود الكلام قائلا: إنكم لو نظرتم بإنعام وتفكر إلى ما شاهدتموه الآن يجري في الجنينة حيث مررتم والتقينا؛ تجلت لكم أسرار وسنن الطبيعة بأجمعها، فيمكنكم تطبيقه على ما سبق فشرحته لكم، وعلى ما سوف تسمعون:
لقد رأيتم الطيور تنقد الديدان من الأرض لتقتات بها، والناس تنظر إليها، فكأنها عرفت أن الإنسان يحميها ويعاونها على عملها هذا، وإذا تساءلنا عن سبب سكوت الإنسان؟ أجابنا: الواقع بأن الديدان التي تلتقطها هذه الطيور هي مما يزاحمه على زرعه، فرأى في هذه الطيور عونا له على التخلص من مزاحم حال كونه في ظروف أخرى نراه ينقض على تلك الطيور فيقتنصها ويقتات بلحمها، ويدثر بريشها ويتزين به فهذا المظهر يمثل الحياة الحيوانية، وهو يعم جميع أجناسها من الميكروب الصغير الذي لا يرى إلا بالمنظار إلى الفيل العظيم، ومن الدودة التي ليس فيها من الروح سوى الروح المحركة إلى الإنسان ذي الروح الراقية المخترعة. فما هو الفرق يا ترى بين هذه الطيور تحط فتلتقط تلك الديدان فتقتات بها، وبين الإنسان يصطاد الأسماك ويقتنص الغزال ويرمي الطير بنباله ورصاصه، ويذبح الغنم والبقر والماعز ليأكل لحمها، ويستعمل بقيتها في منافعه؟ ما الفرق يا ترى بين هذه الديدان وهذه الطيور وبين الطيور بعضها مع بعض؛ فينقض الباشق فيأكل العصفور، وبين الحيوانات أيضا بعضها مع بعض فيهجم الذئب على الغنم والأسد على البقر، والثعلب على الفرخة فيقتات هذا من ذاك وذاك من هذا؟ ما الفرق يا ترى بين الإنسان يطارد الوحش فيقتله ويظفر الوحش به فيأكله؟ لا بل ما الفرق بين الحيوانات تأكل بعضها بعضا وبين الإنسان في قبائله المتوحشة يأكل أيضا بعضه بعضا؟ ما الفرق أيضا بين الإنسان يأكل لحم بعضه كما كان قديما، وكما هو الآن باقيا ليومنا هذا في بعض القبائل المدعاة غير المتمدينة وبين الإنسان الحالي الراقي المتمدين يفتك بعضه ببعض بما يسعره بينه من الحروب الطاحنة، ويستعبد قويه ضعيفه منمقا لذلك ما يحلو له من الألفاظ من استعمار أو حماية أو رقابة وانتداب؟ أليس أصل هذه الأعمال واحد؟ إن الطبيعة واحدة في الإنسان والحيوان في جميع أجناسهما، وما التمدن سوى طلاء يغطي مظاهرها، ويختلف كثافة باختلاف درجة الفرد أو المجموع في التعليم أو التقليد أو الأخلاق المكتسبة، والرقي يدوم هذا الطلاء طالما لا يمس الأصل حتى إذا ما مس هذا ثار ثائر ونفض عنه ذلك الغبار المغشى وتجلى بحقيقة طبيعته. فلا تغتروا يا أولادي بالمظاهر فإن الطبع غالب والتطبع مغلوب. فتبسم فريد وقال: لقد صدق شيخنا، وقد ذكرني هذا البيان بقصة قرأتها أخيرا: قيل إن ملكين من الملوك كان له وزير حازم مجرب، فكان يصدر عن رأيه، ويتعرف اليمن في مشورته، ثم إنه هلك ذلك الملك وقام بعده ابنه، فعجب بنفسه واستبد برأيه، فقيل له: إن أباك كان لا يقطع أمرا دونه، فقال: كان أبي يغلط في ذلك، ولكن سأمتحنه بنفسي. فأرسل إليه وقال: أيهما أغلب على الرجل الطبع أو التطبع؟ فقال له الوزير: الطبيعة أغلب، لأنها أصل، والتطبع فرع. فدعا بسفرته، فلما وضعت أقبلت سنانير بأيديها الشمع فوقفت حول السفرة، فقال الملك للوزير: اعتبر خطأك وضعف مذهبك متى كان أبو هذه السنانير شماعا، فسكت عنه الوزير وقال: أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة فقال: ذلك لك. فخرج الوزير فدعا بغلام له فقال: التمس لي فأرة واربطها بخيط وجئني بها، فأتاه بها الغلام، فعقد الخيط في زر ثوبه وطرح الفأرة في كمه، ثم راح من الغد إلى الملك فلما حضرت سفرته أقبلت السنانير بالشمع كالعادة، فأخرج الوزير الفأرة من كمه ثم ألقاها إليها، فتسابقت السنانير إليها ورمت بالشمع حتى كاد البيت يضطرم نارا، فقال الوزير: كيف رأيت غلبة الطبع على التطبع، ورجوع الفرع إلى أصله؟ فقال الملك: صدقت. فقال له الشيخ: بارك الله فيك يا فريد.
هذه أيضا حكاية تفهمكم أن لا فرق بين هذه السنانير حملة الشموع على مائدة الطعام، وبين الشعوب الإنسانية في مقرراتها على مائدة السياسة، فكم أبرمت من مواثيق وقفت حينا بموجبها وقفة زينت بها المظهر الإنساني الراقي، ولكنها تحولت عنها حالما ظهرت لها فأرة المنافع؛ فأحرقت وخربت وقتلت وشنعت، ولم تبال بما سنته من الشرائع، وبما وضعته من القوانين وبما حللته وبما حرمته وبما ادعت نزوله وحيا، بل سارت في طريقها لا تبقي ولا تذر ولم تقف إلا عندما صدمها حائل تقوى عليها فلم تستطع اقتحامه، فسكن ثائرها مغلوبة من القوة المصادمة الطبيعية ولم تكن من قبل لتوقفها العوائق التطبعية. فإني قد قلت لكم وأعيد القول بأن الغلبة فقط للقوة ولو اختلفت مظاهر القوة؛ لأن القوة هي الطبيعة وهي أصل التأثير؛ ولهذا فقد جاء بالكتاب الكريم؛ من له يعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه ماله؛ لأن الضعيف من الكائنات يجذبه الأقوى إليه، فيضمه بطرق شتى ويحوله إلى مظهره تبعا لسنة التأثير، ويبقي المظهر الجديد شاملا إلى أن يتحول إلى مظهر آخر؛ لأن العوامل المكونة بقوة حركتها الدائمة هي نفسها المحولة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
انظروا يا أولادي إلى هذه العناكيب وإلى شباكها التي تخيطها على هذه الشجرة فوقنا من نسيجها لتصيد بها الذباب قوتها، أليست هي مثل هذه الشباك التي بيد هذا الصياد أمامنا يلقيها في الماء يصيد بها الأسماك؟ أوليست هي أيضا مثل تلك الشباك الشائكة التي يصنعها الإنسان في حروبه الآن؛ ليمنع بها أعداءه من الدنو إليه؟
ترك الناس تلك الطيور تنقد تلك الديدان؛ لأن الديدان تضر بزرعهم، ولكن لو كانت سقطت تفاحة أو ثمرة مما يطيب لهم أكلها، فهل كانوا يتركونها لتلك الطيور أو يتركون الطيور تقربها؟ كلا، ثم كلا، ولكن تلك الديدان نفسها سوف تقتات بدورها من تلك الطيور ومن الإنسان أيضا الذي لم يدافع عنها طبقا لسنة التبادل، فالسلبي يثأر لنفسه من الإيجابي، والإيجابي يثأر لنفسه من السلبي.
يتوالد الحيوان بمجامعة ذكره لأنثاه، لا فرق في ذلك بين طير السماء وسمك البحار ووحش البر وكل ذي نسمة حية، كما يجري بين الرجل والمرأة لا فرق في الأصل البتة بين هذا وذاك، فالذكر الزارع والأنثى الأرض المنبتة، وهو بالنسبة إليها يمثل العنصر السلبي، وهي بالنسبة إليه تمثل العنصر الإيجابي، وباجتماعهما يظهر في الوجود آخر بشكله المعلوم، وهو في الوجود من قبل ومن بعد، فيسير سيره تتجاذبه العوامل الأخرى من بقية الكائنات تحت نظام التأثير والأخذ والعطاء، فيأخذ منها ويعطيها ويتأثر بها وتتأثر به إلى أن يتبدل ذلك الشكل ليأتي شكل آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
هذا فيما يختص بالمملكة الحيوانية وهو عين النظام الذي يتمشى عليه النبات والجماد. لقد شاهدتم البستانيين يقتلع بعضهم الأعشاب من بين الزهور؛ ليبعد عنها مزاحما يمتص من خواص الأرض ؛ ما لو بقي لها وحدها لامتصته هي؛ فنمت وتقوت وأتت بمحصول كثير، أخليت الأرض لتلك الزهور؛ فنمت وأزهرت كثيرا، ولكنها في سيرها هذا لم تخرج عن سنة التأثير والتبادل. خلصها الإنسان من مزاحم فامتصت قوته فازدادت نموا، وأخذ الإنسان من زهورها مقابل تعبه لها، تأثرت قوتها بما امتصته من المواد المنمية، فنمت بزيادة ستدفعها من ضعفها في السنين المقبلة إذا لم يتداركها عامل غير اعتيادي يمنع ذلك الضعف ليثبت توازن ذلك النمو؛ لأن من قاوم الطبيعة صرعته الطبيعة؛ لأنها هي الأصل وهي المتبوع وكل شيء لها ولأحكامها تابع، فمن خالف سننها ولم يماشها لا يطول أمده، وهذا سر ما رأيتموه من فعل البعض الآخر من البستانيين، إذ كان بعضهم منهمكا في تسميد الأرض وبعضهم في نقل النبات من مكان إلى آخر، وفي حرث بعض قطع من الأرض وري بعضها، فعملهم هذا هو ذلك العامل الغير الاعتيادي الذي لولاه لوقف ذلك النمو وتحولت قوته إلى ضعف، وهو عمل تساوى فيه النبات والجماد فلو لم ينقل النبات من مكانه إلى مكان أصلح به من الخواص المنمية ما ليس يوجد في مكانه حيث كان لما نما وترعرع، ولو لم تسمد الأرض وتحرث وتروى لإعطائها من الخواص عوض التي فقدتها بإجهادها بالزرع لما كانت أخصبت، وهكذا فهي أعطت وأخذت، وأخذ النبات فأعطى، وأعطى الإنسان فأخذ. وبهذا عمت هذه السنة الممالك الثلاث.
أجابت فريدة وقالت: ولكن لو لم تسمد الأرض وتروى وتحرث لكانت أيضا أنمت تلك النباتات فأزهرت زهورها فجناها الإنسان دون تعب؟ أجابها الشيخ وقال: اعلمي يا بنيتي أن ذلك الإنماء كان يكون في هذه الحالة نسبيا على قدر ما كان بقي في الأرض من المواد المخصبة، وما تكون أخذته في تلك الفترة طبيعيا عاديا؛ لأن ذلك العامل الغير العادي الذي به استغلت الأرض فأنمت النباتات يجب حتى يبقى ذلك الخصب وذلك النمو محفوظا؛ أن يقابل بعامل غير عادي أيضا، وفي هذا يتساوى أيضا الحيوان بجميع أجناسه، فالإنسان أو الطير أو الوحش أو السمك الذي ينمو نموا مفتعلا لا بد أن يعقب نموه هذا رد فعل يظهر بتوقف ذلك النمو أو بانحطاطه إذا لم يدعم بعامل مفتعل آخر. خذي يا بنيتي نفسك مثلا ولنقل أن قواك تمكنك من الذهاب مشيا من البيت إلى الأهرام مرة في اليوم، ولكنك إذا أجهدت نفسك وذهبت مرتين، فهل يمكنك في اليوم الثاني أن تذهبي كما كنت تذهبين من قبل دون أن تعوضي ذلك الإجهاد إما براحة أزيد من قبل أو بأكل أكثر تغذية من قبل، أو بتناول أي مقو يعيد لك قواك التي فقدتها بذلك الإجهاد؟ أقول لك: كلا، فإنك إن لم تستعيضي عن المرة الزائدة بأي عامل آخر فإنك لا يمكنك الذهاب في ذلك اليوم كما كنت تذهبين من قبل، كما هي الحال مع تلك الأرض وتلك الزهور؛ لأن السنة واحدة، فكما أن الجمل إذا حملته فوق طاقته رزح تحت الحمل، كذلك قطعة الحديد أو الخشب تنكسر أو تلتوي إذا لم تدعم وتتقو.
تشاهدون بين الحيوان أن هذا الصنف الذي يعيش في تلك البقعة أو في تلك القارة هو أقوى أو أضعف من ذاك الذي يعيش في غيرها، كما أنكم ترون هذا أيضا بعينه بين النبات وبين الجماد، فكم نسمع البائع يقول: بسوسي يا شمام، بلدي يا برتقال؛ حتى يظهر أفضيلة ما معه على غيره، وكم نلاحظ أن سكان الجبال هم أقوى بنية من سكان السهول مثلا، وسكان الأرياف هم أقوى وأصح جسما من سكان المدن، وأن هذا الصنف من الحديد أو الفولاذ أو الفضة أو الذهب أو أي معدن آخر يختلف باختلاف البقعة التي استخرج منها، أفليس هذا كله منشأه سنة التأثير التي تعم الممالك الثلاث؟
فقال نجيب: لقد حل لي الشيخ بما أبانه الآن عقدة طالما حاولت حلها، فلم أتوفق لما كان يعترضني من المتناقضات، إذ كنت عندما أتعب من البحث فيها بلا جدوى مقنعة أنسبها إلى عمل سماوي لغاية مجهولة.
لقد قال الكتاب الكريم: إن الإسرائيليين عند خروجهم من مصر وعلى رأسهم موسى الكليم ، ذاك الرجل العظيم الذي أخذ العلم والحكمة على كهنة مصر، ففاقهم جميعا، وأتى بمعجرات أذرت بجميع ما عملوا قد تاهوا في برية سيناء أربعين سنة، وفي موضع آخر يقول الكتاب: «إن موسى هرب بعد قتله المصري إلى تلك البقعة نفسها، فعاش فيها العشرين سنة، ومنها تزوج فعرفها طبعا وعرف كل مجاهلها.» فهل يعقل يا ترى، أن رجلا مثل هذا، وقد تصدى لخلاص قومه من رق العبودية، وقاد ذلك الشعب بأكمله رجالا ونساء شيوخا وأطفالا؛ يأتي إلى ذلك المكان فيتيه فيه ولا يعود يعرف منه له مخرجا طول هذه السنين؟ أمام هذا كنت أقف حائرا لا أجد لهذه العقدة حلا موفقا معقولا، فكان فكري أمامها يصبح تيها يتيه فيه عقلي، أما الآن فأرى أن موسى وقد كان توفق لتنفيذ الشطر الأول من خطته وعرف كيف يجتاز بقومه في ساعة جزر في بحر القلزم في مكان يعرفه حق المعرفة، ثم يغري عدوه باللحاق به فيدركه المد فيسد عليه السبل فيغرق بخيله ورجله، عرف أيضا أن ذلك الشعب الذي خرج به من مصر، حيث كان مستعبدا قرونا طويلة؛ سيم فيها الذل والمسكنة فأفقده الاضطهاد والاحتقار مناعته وذاته المعنوية، وكل مزية طيبة؛ فتأثرت قواه بذلك تأثيرا توارثه أبا عن جد فتأصل في جسمه ونفسه، وضاعت معه كل همة وعزة نفس، وإقدام لا يصلح في حالته الراهنة لمصادمة وقتال شعوب قوية، شديدة المراس، منيعة الجانب، ربيت في الحرية؛ فاضطر إلى تأخير تنفيذ الشطر الثاني من تلك الخطة المدبرة بأحكام عظيم يليق بذلك العقل الذي أبرز أمتن وأحق شريعة عرفت؛ حتى قال عن ناموسه السيد المسيح: «إن السماء والأرض تزولان، وحرف من الناموس لا يزول»، فعمد إلى حيلته هذه؛ فأضاعهم حيث قادهم وأبقاهم تلك السنين؛ ليعوض عليهم في حياة البرية الحرة ما أضاعوه في عيشة الذل والهوان والاستعباد؛ ليقوم مقام هذا الجيل الخامل الضعيف جيل جديد همام قوي يصلح للقتال والمقاومة والغزو، يستولى به على ما كان يطلب من البلاد، فيخضع به شعوبها ويطردها منها؛ فيحل محلها فيها كما حدث وتحقق، فنظر إليه الشيخ وقال: صدقت يا بني باستنتاجك هذا؛ لأن ذلك الشعب كان في حالته مثل تلك الأرض المجهرة التي لا تصلح للزرع قبل أن تستعيض ما فقدته من الخواص، ومثل ذلك الضعيف الذي أناخه التعب فلم يعد قادرا على متابعة السير قبل استرجاع قواه. ولا غرو، إذا كان موسى عرف ذلك؛ لأن بعض الحقيقة كان معروفا لديه ولدى أساطين ذلك العصر.
فمما تقدم يظهر لكم أن السنتين الأصليتين الجامعتين الخاضع لهما جميع ما في الكون؛ هما سنة التبادل أو التوازن، وسنة التأثير، ومنهما تفرعت جميع بقية السنن وعليهما بنيت جميع الشرائع والتحليلات والتحريمات، ولا غرو فهما في الأصل مظهر الينبوع العظيم الأصيل الفرد، فهما السلبي والإيجابي يبدوان بفروعهما التي لا عد لها ولا حصر بأشكال ومظاهر مختلفة، حتى يتعذر على الناظر إليها معرفة حقيقتها، فيظنها أنها متعددة الأصول كما هي متعددة المظاهر والفروع، ولكن المتعمق في البحث تقل لديه الأصول على قدر ما يقترب من الحقيقة، ويزداد التجانس على قدر التقارب حتى ينحصر في اثنين فقط فيما يختص بالمادة.
أفليس مظهر الذكر والأنثى، الكبير والصغير، الحلو والمر، الرخص والصلب، السائل والجامد، البرد والحر، الظلام والنور، الأسود والأبيض؛ يمثل السلبي والإيجابي؟
انظروا إلى تنوع النبات واختلاف أجناس الحيوان، وتنوع أصناف الجماد وكثرة معادنه، وكيف أن كل نوع أو جنس يقاوم الآخر أو يتحد معه أو ينفصل عنه على قدر كثرة أو قلة التجانس بين الاثنين، فإن الفضة تتحد مع الذهب حتى كأن الاثنين جسم واحد، ولكنها لا يمكنها الاتحاد بهذه الصورة مع الخشب مثلا، وإذا صب الرصاص مع النحاس لا يتحد معه كما لو صب الرصاص مع الفضة، وهكذا، أيضا في النبات، فإذا تطعم النخيل بالبرتقال مثلا لا يعيش ويثمر، أما إذا تطعم البرتقال بشجر آخر أكثر تجانسا معه اتحد وعاش وأثمر. وما نراه في الجماد والنبات نراه أيضا في الحيوان، فإن الحمار إذا جامع البقرة فهذه لا تحمل ولا تلد، أما إذا جامع الحصان الأتان حملت وولدت، وإذا جامع الإنسان ناقة أو شاة لا تحبل، ولكن القرد إذا جامع امرأة لربما حملت وولدت، وإذا جامع الحيوان الطير فإن هذه لا تبيض فتفرخ أما إذا جامع ذكر الحمام أنثى طير من فصيلته باضت وفرخت.
لقد قلت لكم فيما سبق إن العوامل المكونة أو المساعدة على التكوين هي نفسها المحولة أو المساعدة على التحويل، يتساوى أمام ذلك الحيوان والنبات والجماد فيسير الكل سيره حسب سنتي التأثير والتبادل. يولد الحيوان من بطن أمه صغيرا ضعيفا فيقوى بالغذاء والهواء والنور والحرارة والماء حتى يصل إلى درجة معلومة من القوى، ثم يرجع القهقري حتى يضعف ويشيخ ويحل به العجز، فيموت، هذا إذا لم يصادمه طارئ لم يقو على مكافحته والتغلب عليه، فيموت ويتحلل قبل أوانه، وينبت النبات فيسير على الطريقة نفسها فيزهو وينمو ويثمر ثم يضعف فيذبل وييبس ويضمحل، ويتكون الجماد بجميع معادنه ويسير خاضعا لذلك الناموس، فيتغير ويتبدل ويتحول حسب ما ينضم إليه أو ينفصل عنه من المواد والعناصر الأخرى، وهكذا دواليك في جميع الكائنات؛ لأن العناصر الأربعة المتولدة من العنصر الأصيل الفرد المكونة هي نفسها المحولة حسب تأثيراتها بعضها على بعض؛ إن رأسا أو بما تفرع عنها. ألا ترون أنه إذا زادت الحرارة في جسم حيوان عن المعتاد أو قلت عنه مات ذلك الحيوان أو مرض، وإذا عرض جسم آخر لأي من العناصر أكثر مما يلزم أضر به هذا التعريض، وأثر به إن قليلا أو كثيرا على نسبة مناعته؛ لأن الأشكال جميعها في مظاهر الممالك الثلاث تكونت على نسبة معلومة من كميات معلومة فيما بينها، فإذا زادت كمية عن نسبتها أو نقصت ابتدأ التحول والتغير بالشكل.
فأي فرق في الحقيقة بين الصدأ الذي يغشى الحديد إذا لحقت هذا الرطوبة، وبين الزكام الذي تسببه الرطوبة لكم؟ فإن الأول لا يزول إلا إذا جلي الحديد والثاني لا يزول إلا إذا قاومتموه بالمسخنات. أفلا ترون أيضا أن النبات إذا روي بكثرة عما يلزمه، أو إذا عطش أضر به ذلك الري وذلك الظمأ؟ وأن الحيوان إذا شرب أكثر مما يلزمه، أو إذا ظمئ ظمأ شديدا أضر به ذلك الشرب وذلك الظمأ، كل على قدر نسبته؟
قال هذا وهم بالقيام، غير أن فريدا استوقفه بقوله له: ليسمح لنا شيخنا بسؤال عن أمر يشغل بال بعض علماء هذا العصر ويثير اهتمام الناس؛ وهو إمكان وجود الحياة في بعض العوالم الأخرى مثل المريخ مثلا؟ وهل في الإمكان إذا وجدت التوصل للتخابر معها، أو التوصل إلى الوصول منا إليها أو منها إلينا؟ فأجابه الشيخ قائلا: إني الآن تعب، تلزمني بعض الراحة، وأرى أن الوقت قد حان؛ فموعد الإجابة على سؤالك هذا غدا إن كان في العمر بقية، فأنعموا إذن مساء يا أولادي.
قال هذا وقام وصافحهم، فتقدمت منه فريدة وبيدها صندوق صغير به بعض المآكل، وشيء من الحلوى وصرة بها قليل من الدراهم وقدمته له راجية قبوله، فتناول تقدمتها شاكرا ممتنا، وصافحها ثانية وابتعد.
الفصل الثامن
ارتباط عموم أجزاء الكون بعضها ببعض ووحدة أصلها. ***
مكث أصحابنا بعد ذهاب الشيخ قليلا مفكرين بما سمعوه، يساعدهم على ذلك جمال الطقس وجلال الموقع وهدوء الليل، ولبثوا كذلك برهة ليست بقصيرة حتى قطعت فريدة ذلك السكون بقولها لهما: ما قولكما في شروح أستاذنا؟ إني أراه أصاب كبد الحقيقة، فإني كلما فكرت فيما سمعنا وقارنته بالواقع؛ أراه ينطبق عليه تمام الانطباق، ولكن هذا فيما يختص بنا وبعالمنا وما يدرينا، ما هي الحقيقة في العوالم الأخرى؟ لذلك فإني منتظرة بفروغ صبر يوم غد لنرى ماذا يقول في هذا الصدد، خصوصا، وقد فتح لنا هذا الباب الصديق فريد بسؤاليه المذكورين: أليس كذلك؟ فأجابها نجيب وقال: إني أوافقك تمام الموافقة على ذلك، ولكن فلنفرض أن شيخنا لم يعد بسبب طارئ لم يكن في الحسبان، أفلا يمكننا نحن الآن بقوة الاستنتاج، استنادا على ما سمعنا، أن نجيب أنفسنا على هذا؟ فما قولك يا فريد؟
فنظر فريد إليه مستفهما، وقد بهت لهذا الكلام، وقال: وكيف يا أخي يمكننا ذلك؟! أجابه نجيب وقال: فلنجرب، وما عليك إلا أن تراجع ما قاله لنا الآن فقط في حديثنا اليوم، ولا أقول أحاديثنا الماضية، مع أنك كنت معي في جميع الأحاديث، وما فاتك من الأحاديث الأولى شرحته لك، ترى فيه ما يساعدك على الإجابة، ولكن مع ذلك سأكفيك مؤنة المراجعة والبحث، فهيا بنا الآن نسير الهوينا؛ لأني تعبت من الجلوس، فقاموا وساروا معا. وبعد هنيهة لزم فيها نجيب الصمت عاود الكلام وقال: لقد قال شيخنا الآن في سياق الحديث ما كان سبق أيضا، وقال: من أن السلبي والإيجابي هما في الأصل مظهرا الينبوع العظيم الأصيل يبدوان بفروعهما بأشكال ومظاهر لا عد ولا حصر لها، وأن الكل من ذلك الينبوع خرج وإلى ذلك الينبوع يعود؛ فإن الطبيعة أصل الحوادث واحدة تعيد نفسها وتسير على سنة واحدة، فما جرى ويجري في عالمنا جرى ويجري فيما يماثله من العوالم الأخرى، وسوف يجري أيضا هنا كما جرى فيما سبق كرتنا الأرضية في التكوين، إذن فلا بد أن تكون هناك حياة أو كانت هناك حياة حسب صلاحية تلك العوالم الماضية أو الحالية؛ إذ لا وجه لتخصيص الأرض لوحدها بالحياة دون غيرها طالما أن الأصل واحد، فأجابه فريد وقال: وما هو الدليل على وحدة الأصل يا ترى؟ أهل هو قولك أو زعم شيخنا فقط؟ وهل قوله أو زعمه هذا يكفي للدلالة على ذلك؟
أجابه نجيب باسما وقال: كلا، ليس زعم شيخنا وقوله بكاف لنا لنأخذ الأمر قضية مسلمة، ولكن لنا أيضا مما قاله في سياق الحديث وما أورده من الحوادث بعض الأدلة المثبتة، أفلم يقل عن تأثير الشمس والقمر على الأرض، وعن المد والجزر، وعن التأثيرات التي تتأثر بها أرضنا في دورتها من العوالم الأخرى مما هو مثبوت علميا ومما نشعر نحن به ونتأثر؟ أفلو لم يكن هناك يا صاح وحدة بالأصل، أهل كان أمكن التأثير؟ ثم قل لنا - عافاك الله يا فريد - ألم تر أبدا أحد النيازك ولم تشاهد سقوطها؟ وما هي تلك النيازك؟ أليست هي قطعا من معادن صلبة تنقطع من النجوم فتسوح في الفضاء، وتأتينا مجذوبة بقوة التجانس؛ إذ إن الجاذبية كما قال شيخنا ما هي إلا التجانس؟ وإذا حللت تلك القطع نرى أنها هي مثل بقية معادن أرضنا، وإذا اختلفت فإنما تختلف عنها اختلافا بسيطا؟ أفليس هذا أيضا دليلا قاطعا على أن أصل المادة هناك هو مثل أصل المادة التي عندنا؟ فاكتف بهذا واكفني مؤنة إيراد كثير من أدلة العلم على هذا، فقالت فريدة: إذن لا شك في أن هناك حياة وأحياء سوف نستطيع يوما ما مواصلتهم والوصول إليهم.
أجابها نجيب، وقال: رويدا رويدا يا أخية، أما من جهة وجود الحياة فأنا أشاطرك الرأي في هذا، وأما من جهة المواصلة والوصول فلا؛ لأن هذا مستحيل في نظري؛ لأني أرى أن الحياة في العوالم الأخرى - إذا كانت ثمة حياة - فهي حياة خاصة بها كما أن الحياة هنا هي خاصة أيضا بنا، تختلف تمام الاختلاف هذه عن تلك وتلك عن هذه؛ لأنه باختلاف التأثيرات تختلف الأجسام، والحياة كما بين وأوضح لنا شيخنا ذلك وكما يثبته لنا الواقع أيضا. أفلا نرى أن السمك الذي يعيش في النيل وماء النيل حلو إذا دخل البحر يموت؛ لأن ماء البحر مالح؟ أو لا نرى أن الحيوانات في مختلف القارات الأرضية تختلف بعضها عن بعض مزاجا ولونا وعيشة وقدا باختلاف جو الإقليم؛ إن لم نقل فهما وتصورا أيضا؟ أفلا نرى أن مناعة الغربي لاحتمال حر مصر والسودان هي أقل كثيرا من قدرة ومناعة المصري والسوداني على احتمال ذلك الحر؟ وهكذا يقال عن المصري والسوداني إذا وجد في بلاد باردة، فإنه لا يطيق برد تلك البلاد مثل أهلها. وهذا هو النبات أيضا في جميع أجناسه، يختلف في مختلف البلدان بعضه عن بعض، كذا الجماد لم يسلم من هذا. بل إن سنة التأثير كما توضح وثبت؛ هي عامة للجميع، فكيف إذن يمكننا والحياة تختلف هكذا مثل هذا الاختلاف الكلي أن نواصل أحياء العوالم الأخرى أو نصل إليهم؟ هذا فضلا عن اختلاف تناسب المقادير في تركيب المادة؛ ولهذا فقد قال الكتاب الكريم: «لقد كلمتكم بالأرضيات فلم تفهموا، فكيف لو كلمتكم بالسموايات تفهمون؟» لهذا أراني أجزم باستحالة تحقيق غاية هؤلاء العلماء، وعلى كل فإن شيخنا لكفيل بأن يزيدنا غدا إيضاحا، أما الآن فقد كفانا بحثا. فهيا بنا نركب إحدى العربات لتقلنا إلى بيت الصديقة فريدة لتوصيلها، فصدعت فريدة وفريد بإشارة نجيب فركب الجميع، وسارت العربة مسرعة جهة المدينة، وكان قد عاودهم الصمت والتفكير فلم يشعروا إلا والعربة بقرب المنزل، فنزلوا وودع نجيب وفريد فريدة بعد أن حددوا موعد الغد، فدخلت فريدة منزلها وسار صاحبانا كل في طريقه.
شغلت هذه المباحث بال فريدة ردحا طويلا من الليل وحرمتها النوم أولا، فخرجت إلى الحديقة تتمشى فيها ذهابا وإيابا، ثم جلست على كرسي وقد أعياها المشي ونظرت إلى السماء، وجعلت تحدق بالنجوم، وفيما هي كذلك إذا بشهب نار قد لمع في السماء وانحدر كالسهم كأنه خرج من إحدى تلك النجوم، وسار سابحا في الفضاء حتى وقع كجمرة نار بالقرب منها فتقدمت منه، وإذا به قد حفر حفرة في الأرض من عزم السقوط، فنادت البستاني حتى أفاق من نومه، وأمرته بالنبش عليه ففعل وأخرجه، فإذا به حجر أسود ثقيل الوزن، فتأملته جيدا، فإذا به يشبه في خارجه بعض الأحجار الكروية الصوانية ولكنه أشد سوادا منها، فقالت: لقد صدق نجيب في استنتاجه، فليس هذا الحجر سوى إحدى النيازك، ولكن مما لا أستطيع فهمه هو تلك السرعة التي انحدر بها من النجم إلى هنا، فإنها لم تتعد بضع ثوان، مع أن بعد هذه النجمة عنا حسب العلم يزيد عن مئات الملايين من الكيلومترات، فلو قسناها بسرعة سير النور لما وجدنا أقل مناسبة بين سرعة الانحدار وبعد المسافة، فلعل هناك أيضا سر سأستوضحه الشيخ غدا. قالت هذا ودخلت غرفتها مسرورة من هذه المصادفة، فنامت حتى الصباح.
في أصيل اليوم الثاني تقابل أصحابنا الثلاثة في الميعاد المقرر عند الجسر، وساروا جميعا نحو ناديهم على المقعد المذكور، وكانت فريدة تقص عليهما قصة نيزكها بالأمس وما لاحظته من السرعة العظيمة التي وصل بها إلى الأرض، فأثارت هذه المسألة مناقشة فيما بينهم دامت إلى أن وصلوا أمام المقعد، فوجدوا الشيخ جالسا ينظر إليهم بابتسام، فقام إليهم وصافحهم وسألهم عما كانوا يتحدثون به بتلك الحدة التي لاحظها، فأجابه نجيب وقال: إذا سمح الشيخ بإبقاء هذه المسألة ريثما أخبره بما كان بيننا بعد ذهابنا بالأمس من هنا، فإن مناقشتنا اليوم هي نتيجة لمقدمة حديث البارحة حتى نأخذ الأشياء من أولها فنسير بها متسلسلة دفعا للغموض، ولعل الصديقين فريد وفريدة لا يمانعان أيضا بها، فأجاب الجميع بالقبول. فأخذ إذ ذاك يسرد ما جرى من المباحثة وما أبداه من التعليل والتفسير حتى وصل إلى مسألة النيزك، وما أثارته من الأخذ والرد.
ولما انتهى من ذلك نظر الشيخ إلى تلاميذه مليا محدقا بهم النظر كأنه يستقرئ ضمائرهم، ثم قال: اسمعوا يا أولادي لقد صدق نجيب في استنتاجه عن إمكان وجود الحياة في العوالم الأخرى، ولكنها لا بد وأنها تختلف كلية عنها عما في عالمنا، تختلف عنها في الشكل والتركيب والشعور والتصور والفهم حسب ما تتأثر به في عالمها وما يتأثر به ذلك العالم من العوالم الأخرى، أفلا ترون اختلاف الأحياء في عالمنا بعضها عن بعض في مختلف القارات، اختلافا سبقت وبينت لكم بعض أسبابه في ما سبق من الكلام، وكيف أن الأحياء اليوم هي غيرها في القرون الغابرة المتقدمة كما يثبت لنا ما عثر عليه من بقاياها، وأن أحياءنا اليوم تبعا لهذه القاعدة ستختلف أيضا في الأجيال المقبلة عما هي عليه الآن؟
فإذا كان هذا الاختلاف الجزئي والكلي قد حصل وحاصل وسوف يحصل فينا ونحن جميعا في عالم واحد، فماذا يكون إذن بون ذلك الاختلاف بيننا وبين تلك الأحياء في العوالم الأخرى، حيث العناصر المتفرعة عن العنصر الأصيل الفرد تختلف قوة وقلة وكثرة عن عناصرنا هنا، فكم من عنصر كان عندنا هنا من قبل وزال اليوم، وكم من عنصر هو الآن كائن وسوف يزول غدا، وكم من عنصر لم يكن من قبل ولكنه تكون أو سوف يكون وكم من عنصر هناك وليس له وجود هنا، وكل هذه العناصر لها تأثيرها النسبي على الحياة، فإذا كان هذا كله وهو كائن ومثبوت بلا شك، فكيف يمكن لأحيائنا أو بالحري لإنساننا أن يواصل تلك الأحياء أو يصل إليها، فلربما كانت أحياؤهم أشف مادة وأغلظ أو أثقل أو أخف مادة منا فتشبه الأرواح أو تشبه الديدان، أو ليس لها شبه يمكننا أن نتصوره هنا؛ لذا أرى أن المواصلة بيننا وبينهم هي أكثر من مستحيلة، وأستغرب جدا كيف أن بعض العلماء يشغل وقته وفكره بمثل هذا وأني أيضا على قدر استحالة المواصلة أقول باستحالة الوصول؛ لأن العناصر المكونة للحياة عندنا لا يتعدى وجودها مكونة وحافظة بضع العشرات من الأميال بعيدا عن الأرض في محيطها من الأجواء، مع أن أقرب عالم منا يقاس بعده بما لا يقل عن الملايين العديدة من الأميال، فإذا افترضنا وحصنا تلك الأحياء أو تلك الآلات الذاهبة منا إليهم بما يقيها مغبة التأثيرات في محيطنا، فبماذا نتقي تأثيرات العناصر الأخرى وهي مجهولة لدينا في المحيط القادمة إليه: مجهولة اسما ومجهولة تأثيرا، بل لربما الحي الذاهب منا بآلته إلى ذلك العالم، أو لربما تلك العلامة المرسلة منا إليهم مدفوعة بما تبين لنا من القوى مثل الراديوم مثلا يتحولان عند أول مصادمة لما تحويه الأجواء من مختلف العناصر، فيتأثران بها ويتحللان وينضمان إليها، فلا يبقى منهما لا أثر ولا عين.
لقد عجبت فريدة من سرعة وصول النيزك إلى أرضنا عند انفصاله عن النجم مما أثار مناقشتكم، ولها أن تعجب من ذلك، ولكني لإيضاح ذلك أقول لكم إن ذلك النيزك إذا كان حقيقة انقطع عن نجمه وسار نحونا، فإنه لا بد وأن يكون قد سار قبل ظهور نوره أمدا يتناسب مع سرعة سيره، ولم يظهر لأعيننا إلا عندما اقترب منا قربا يتناسب مع قوة نوره، وسرعة سير النور وتلك المسافة التي كانت بقيت له للوصول إلينا، أو أن يكون قد تكون لساعته في تلك الأجواء العلوية، وسار نحونا لقربه منا مدفوعا بقوة جاذبية أرضنا؛ أعني بقوة التجانس، إذ إنه من المحتمل جدا، لا بل من المعقول قياسا ومنطقا أن الخلق أو التكوين دائم أبدا بما تأخذه الأجرام بعضها من بعض، وبما ينتج عن العنصر الأصيل الفرد المالئ للكون أجرامه وفضائه، وليس من الضروري إذن على ما أرى أن تكون جميع الكواكب قد خلقت معا في عموم الأفلاك بل إن التكوين دائم مستمر.
ألا فاعلموا يا أولادي أن عموم أجزاء هذا الكون الفسيح الذي لا ابتداء ولا نهاية له؛ هي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا محكما نظرا لوحدة أصلها، ولا يغرنكم تغير الأشكال، فإن هذه الأشكال تتغير وتختلف باختلاف التأثيرات زمانا ومكانا، ولكم على هذا بعض الأدلة، والأدلة على هذا هي في كل شيء مما كان من هذا النيزك الذي رأته بالأمس فريدة، فإنه قد كان له في سيره إلينا شكل، وعندما وصلنا شكل، ولما استقر أصبح له أيضا شكل آخر؛ لأن أصل المادة واحد والمادة في درجتها الثانية واحدة أيضا، ولا يبتدئ الاختلاف بالمظاهر إلا في الدرجة الثالثة؛ أي عند اكتمال تكوينها بالنسبة لنا ولحواسنا، إذ يزداد شعورنا بها على قدر تجانسها مع العناصر المكونة لنا؛ لأنه كلما زادت صلة التجانس زاد الشعور بالتأثير.
إن جميع ما نراه وما نشعر به فينا وفيما حوالينا وجميع ما في الأكوان نرتبط به ويرتبط بنا، ونؤثر عليه ويؤثر علينا نسبيا؛ لأن الأصل واحد يتجلى بمظاهره لا فرق في ذلك إن كان ماديا أو روحيا، فالفكر له تأثيره، والأجسام لها تأثيرها، والأصوات لها تأثيرها، فهذه تؤثر على تلك، وتلك على هذه. كما أن للأصوات أيضا تأثيرها على الجماد والنبات والحيوان تأثيرا يفوق الوصف؛ فهي تلين الحديد وتدك الأبراج والمباني، وتسترق العواطف وتثير الأشجان؛ ولكم على أفعالها شاهد بين فيما حصل بأسوار أريحا إذ سقطت رغم متانتها من أصوات الألحان والتهليل. فقال فريد: صحيح هذا، فإني قد قرأت أخيرا أن بعض القواد أمر فرق جنده بعدم العزف على آلات موسيقاها عند مرورها على الجسور؛ لما ثبت لآل الخبرة من التأثير الذي تسببه أصوات الموسيقى لمباني الجسور؛ حتى إنها لربما تهدمت بمن يسيرون فوقها. فتابع الشيخ حديثه وقال: لقد سبق وقلت لنجيب في بدء الحديث: إن الكائنات جميعها تتصارع بعضها مع بعض سيان في ذلك الجماد والنبات والحيوان، تحت تأثيرات شتى وعوامل مختلفة، فتتبدل أشكالها وتتغير من حال إلى حال مع مرور الزمن وتوالي الأيام لا فرق فيما بين أرضنا وما فيها وما عليها، وبين بقية الأجرام والعوالم الأخرى؛ حيث إن الكل من أصل واحد ويتبع نظاما واحدا. فإن الكائن مهما كان كبيرا أو صغيرا من الذرة إلى الميكروب إلى أرضنا كلها إلى بقية الأجرام الأخرى التي يفوق بعضها أرضنا كبرا بملايين من المرات؛ يبقى حافظا لشكله الذاتي على قدر مناعته أمام غيره حتى إذا قلت هذه المناعة أو زادت تغير الشكل إلى آخر. وعليه، فلا أنتم باقون كما كنتم ولستم باقين كما ستكونون، ولا النبات كذلك ولا الجماد أيضا، ولا الأرض، ولا أي عالم آخر. فإن أرضنا هذه لا بد يوما ما أنها إما أن تلتحق بنجم آخر أو بنجوم عندما تقل مناعتها بالنسبة إلى ما حواليها من العوالم، أو تتجزأ أو تنضم بدافع التجانس أو أن ينضم إليها ما هو أقل مناعة منها، فيتغير شكلها عند ذلك الضم أو الانضمام، وما يتبع ذلك في العوالم الأخرى مما يجري متأثرا بهذا الضم أو الانضمام. ولهذا فقد قال الكتاب عند الكلام على انتهاء العالم: إن النجوم تتساقط والأرض تزلزل، إلى آخر ما جاء في هذا الصدد؛ لأن الجميع مرتبط كلية وأجزاء بعضه ببعض؛ لأن أصل الكل واحد؛ ولهذا وجب أن ما كان وما هو كائن وما سيكون بعالمنا يكون أيضا في العوالم الأخرى. إذن فإن الحياة يجب أن تكون في العوالم الأخرى كل بحسب حالته، فكما أن العنصر الأصيل الفرد تجلى كاملا هنا كذلك يتجلى هناك بجميع مظاهره.
عندئذ قال له نجيب: لقد تبسط الشيخ في حديثه معنا عن مظهر العنصر الأصيل الفرد، ولم يذكر لبقية المظاهر أو بالأحرى للمظهر الثالث إلا مرة أو مرتين عفوا، فهل له الآن أن يمن علينا بالشرح عنه بما يشفي غليلنا ويثير أذهاننا كما سبق، فوعدنا إجابة لطلب الصديق فريد فيما مضى عن ذكر الأحياء وما فيها من المظاهر الثلاثة، فأجابه الشيخ وقال: نعم، لقد وعدت وسأفي بوعدي، ولكن ليس في هذا المكان، بل فليكن اجتماعنا غدا أمام أبي الهول، والآن فقد حان الوقت؛ لذا فإني أستودعكم الله إلى الغد فالموعد غدا أمام أبي الهول. قال هذا وحياهم وسار مسرعا ودلائل الاهتمام على وجهه. فنظر فريد وفريدة إلى نجيب مستفهمين متسائلين عن سبب تغيير المكان، وعن ذلك الاهتمام الذي بدت علاماته على وجه الشيخ عند هذا السؤال؟ فأجابهما نجيب وقال: إذا لم يخطئ ظني فإني عرفت لماذا، ولكن لا تسألاني، فلا يجب أن نسبق الحوادث.
الفصل التاسع
هل توجد حقيقة؟ وما هي بالحقيقة الحقيقة؟ ***
في اليوم الثاني دعا نجيب فريدا وفريدة لتناول الغذاء في الفندق قرب الأهرام معه، فلبيا الدعوة وركبوا إحدى السيارات، فقلتهم إلى هناك.
وبعد تناول الطعام قام أصحابنا الثلاثة يتمشون في حديقة الفندق، ينتظرون بفروغ صبر حلول الميعاد؛ ليذهبوا أمام أبي الهول لمقابلة الشيخ، وكانوا يتحدثون بأمور شتى في مواضيع مختلفة، وإنما الحديث شجون. فقال نجيب: قل لي يا فريد أين أمضيت السهرة أمس؟ فأجابه فريد: لما تفارقنا مررت على القهوة فوجدت هناك سليما ومعه بعض الأصحاب يلعبون الشطرنج فدعوني للجلوس معهم، ولما كانت هذه اللعبة تسرني لما تستدعيه من التفكير والحساب؛ قبلت الدعوة وجلست معهم. وكانت اللعبة على رهان كسبه سليم، فسر سرورا عظيما، ومن شدة سروره بالمكسب دعانا جميعا لشرب كأس خمرة معه، فلم نشأ أن نعكر عليه صفوه فقبلنا ذلك ثم انصرفنا كل إلى منزله، فقالت فريدة: إنه مما لا يعجبني في أخي سروره من أقل شيء وتكدره من أقل شيء، فبينما نراه يغضب لكلمة نراه أيضا يرضى لكلمة، ويتحول كدره إلى سرور مثل الأطفال. فما سر الفرح والكدر في الإنسان يا ترى؟ وما هو سر الشعور بالألم واللذة؟ فإن هذه الأبحاث كثيرا ما شغلت فكري، فلماذا سر سليم بمكسبه هذا يا ترى؟ ويا ليتني كنت فطنت إلى هذا قبلا فسألت الشيخ عنه؛ لأني اليوم لا أرى وجها لمثل هذا السؤال لاختلافه عن موضوع الحديث. فقال نجيب: إن هذه المسألة لهي بسيطة حسب رأيي، وأعللها بزيادة أو نقصان أحد العنصرين عن الآخر، فإن الإنسان إذا خسر شيئا مثلا قل سلبيه الذي اعتاده فينقبض ويغتم، أما إذا كسب شيئا زاد إيجابيه فينشرح؛ لأن الكدر والفرح والألم واللذة ما هو إلا الشعور بزيادة أو نقصان أحد هذين العنصرين بدخول قوة على أحدهما أو خروج قوة عن أحدهما، ويبقى هذا الشعور إلى أن يتعادلا بما يأخذه الناقص من مختلف القوى أو إلى أن يتساوى الزائد به بما يذهب عنه من الزيادة، أما إذا تعذرت المعادلة جرى الانفصال؛ لأن الفرح يميت والحزن يميت، وهذه مسألة أصبحت لدينا طبيعية بما سبق لنا سماعه من الشروح.
وفيما هم كذلك إذ هبت عاصفة شديدة مما يندر حدوثه، فأبرقت السماء ودوى صوت الرعد بشدة وابتدأ المطر يهطل، فهرولوا مسرعين إلى الفندق ومكثوا فيه يراقبون هذا المنظر حتى هدأت الزوبعة، وعاد أديم السماء فصفا ثانية.
حل ميعاد المقابلة فخرج الثلاثة وساروا مشيا ناحية أبي الهول، ولما وصلوا وجدوا الشيخ قد سبقهم إلى هناك، ولما رآهم قادمين تقدم للقائهم بضع خطوات؛ ففرحوا به وحيوه بكل احترام.
ثم جاءوا إلى بعض الأحجار الكبيرة فجلسوا عليها، ولما استقر بهم المقام قالت فريدة: لعلنا لم نبطئ على الشيخ، فقد كنا قادمين قبل الآن لنكفيه مؤنة انتظارنا، ولكن المطر داهمنا فرجعنا من حيث أتينا، فإن هذه العاصفة لم تكن بالحسبان، فمسكين هو الإنسان كم هو ضعيف أمام قوى الطبيعة، فقد كنت طول هذا الوقت عندما كانت الأرياح تعصف والبرق يلمع والرعد يقصف والأمطار تهطل أفكر بهذا، وأنظر إلى حقارتي بالنسبة إلى ذلك، ولكن كنت في الوقت ذاته أشعر أيضا بعظمة نفسي أمام كل هذا، فأقيس ضعفي بهذه القوى فلا أفهم لعظمة نفسي من سبب. فأجاب الشيخ وقال: اسمعي يا ابنتي، إن شعورك بالحقارة هو بالنسبة لجسمك المادي أمام عظمة تلك القوة التي تفوقه؛ لأن المادة التي به هي جزء حقير بالنسبة للوحدات الأخرى، فالمادة ولو أنها في أصلها عظيمة إلا أن ما طرأ عليها من التغييرات والتجزيئات، وما تكون منها من الوحدات بعدها عن الأصل, ووضعها تحت الحس والمقارنة، أما شعورك رغم ذلك بالعظمة النفسية فهو بالنسبة لروحك؛ لأن الروح هي رأسا من الأصل الفرد العظيم المثلث المظاهر المالئ للفضاء، والذي منه كل الكائنات؛ فهي رأسا من مظهره الثالث.
لقد سألني نجيب أمس كما سألني فريد من قبل عن هذا، ولقد تكلمت مرارا عنه في سياق الحديث، والآن أقول لكم بأن الروح هي تلك القوة التي تصدر منبثقة من اجتماع السلبي والإيجابي، وهي في الأحياء كاملة؛ لأنها شاعرة مدركة محركة بذاتها، أما في الكائنات الأخرى فهي كامنة ناقصة لا قدرة لها بذاتها، بل تظهر عند اجتماع العنصرين: فالسلبي فيه روح، ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير الإيجابي، والإيجابي فيه روح ولكن لا قدرة له على إظهارها بغير السلبي، ولا قدرة لأحد العنصرين على التكوين بدون الآخر، ولا اجتماع لهما بدون انبثاق الروح منهما، ونرى لهذه الحقيقة مظهرا يؤيدها في كل شيء، فمثلا لو لم يتلاق السلبي والإيجابي لما كنتم رأيتم نور البرق ولا سمعتم قصف الرعد الآن؛ لذا كانت الأحياء وسيدها الإنسان بالنسبة لرقي روحه أشبه الأشياء بالله - عز وجل؛ ولهذا دعي الناس أبناء الله وما الله - عز وجل - سوى تلك القوة الفائقة الخالقة العاقلة، وذلك العنصر الأصيل الفرد المثلث المظاهر الأصل الوحيد والمرجع الوحيد؛ لذا أيضا فإن كل قوة هي من الله؛ لأنه هو المصدر الوحيد لجميع القوى.
فهذه هي الحقيقة التي بدت لي أقولها لكم يا أولادي، وهذا هو السر الذي ائتمنت الأجيال أبا الهول عليه يبوح به الآن، وما بقية الأشكال والمظاهر سوى خيالات لا حقيقة بالحقيقة لها سوى ما بها من العنصر الأصيل الفرد فقط.
قال هذا وذهب عنهم تاركا عصاه وجرابه لنجيب.
صفحه نامشخص