لقد عجبت فريدة من سرعة وصول النيزك إلى أرضنا عند انفصاله عن النجم مما أثار مناقشتكم، ولها أن تعجب من ذلك، ولكني لإيضاح ذلك أقول لكم إن ذلك النيزك إذا كان حقيقة انقطع عن نجمه وسار نحونا، فإنه لا بد وأن يكون قد سار قبل ظهور نوره أمدا يتناسب مع سرعة سيره، ولم يظهر لأعيننا إلا عندما اقترب منا قربا يتناسب مع قوة نوره، وسرعة سير النور وتلك المسافة التي كانت بقيت له للوصول إلينا، أو أن يكون قد تكون لساعته في تلك الأجواء العلوية، وسار نحونا لقربه منا مدفوعا بقوة جاذبية أرضنا؛ أعني بقوة التجانس، إذ إنه من المحتمل جدا، لا بل من المعقول قياسا ومنطقا أن الخلق أو التكوين دائم أبدا بما تأخذه الأجرام بعضها من بعض، وبما ينتج عن العنصر الأصيل الفرد المالئ للكون أجرامه وفضائه، وليس من الضروري إذن على ما أرى أن تكون جميع الكواكب قد خلقت معا في عموم الأفلاك بل إن التكوين دائم مستمر.
ألا فاعلموا يا أولادي أن عموم أجزاء هذا الكون الفسيح الذي لا ابتداء ولا نهاية له؛ هي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا محكما نظرا لوحدة أصلها، ولا يغرنكم تغير الأشكال، فإن هذه الأشكال تتغير وتختلف باختلاف التأثيرات زمانا ومكانا، ولكم على هذا بعض الأدلة، والأدلة على هذا هي في كل شيء مما كان من هذا النيزك الذي رأته بالأمس فريدة، فإنه قد كان له في سيره إلينا شكل، وعندما وصلنا شكل، ولما استقر أصبح له أيضا شكل آخر؛ لأن أصل المادة واحد والمادة في درجتها الثانية واحدة أيضا، ولا يبتدئ الاختلاف بالمظاهر إلا في الدرجة الثالثة؛ أي عند اكتمال تكوينها بالنسبة لنا ولحواسنا، إذ يزداد شعورنا بها على قدر تجانسها مع العناصر المكونة لنا؛ لأنه كلما زادت صلة التجانس زاد الشعور بالتأثير.
إن جميع ما نراه وما نشعر به فينا وفيما حوالينا وجميع ما في الأكوان نرتبط به ويرتبط بنا، ونؤثر عليه ويؤثر علينا نسبيا؛ لأن الأصل واحد يتجلى بمظاهره لا فرق في ذلك إن كان ماديا أو روحيا، فالفكر له تأثيره، والأجسام لها تأثيرها، والأصوات لها تأثيرها، فهذه تؤثر على تلك، وتلك على هذه. كما أن للأصوات أيضا تأثيرها على الجماد والنبات والحيوان تأثيرا يفوق الوصف؛ فهي تلين الحديد وتدك الأبراج والمباني، وتسترق العواطف وتثير الأشجان؛ ولكم على أفعالها شاهد بين فيما حصل بأسوار أريحا إذ سقطت رغم متانتها من أصوات الألحان والتهليل. فقال فريد: صحيح هذا، فإني قد قرأت أخيرا أن بعض القواد أمر فرق جنده بعدم العزف على آلات موسيقاها عند مرورها على الجسور؛ لما ثبت لآل الخبرة من التأثير الذي تسببه أصوات الموسيقى لمباني الجسور؛ حتى إنها لربما تهدمت بمن يسيرون فوقها. فتابع الشيخ حديثه وقال: لقد سبق وقلت لنجيب في بدء الحديث: إن الكائنات جميعها تتصارع بعضها مع بعض سيان في ذلك الجماد والنبات والحيوان، تحت تأثيرات شتى وعوامل مختلفة، فتتبدل أشكالها وتتغير من حال إلى حال مع مرور الزمن وتوالي الأيام لا فرق فيما بين أرضنا وما فيها وما عليها، وبين بقية الأجرام والعوالم الأخرى؛ حيث إن الكل من أصل واحد ويتبع نظاما واحدا. فإن الكائن مهما كان كبيرا أو صغيرا من الذرة إلى الميكروب إلى أرضنا كلها إلى بقية الأجرام الأخرى التي يفوق بعضها أرضنا كبرا بملايين من المرات؛ يبقى حافظا لشكله الذاتي على قدر مناعته أمام غيره حتى إذا قلت هذه المناعة أو زادت تغير الشكل إلى آخر. وعليه، فلا أنتم باقون كما كنتم ولستم باقين كما ستكونون، ولا النبات كذلك ولا الجماد أيضا، ولا الأرض، ولا أي عالم آخر. فإن أرضنا هذه لا بد يوما ما أنها إما أن تلتحق بنجم آخر أو بنجوم عندما تقل مناعتها بالنسبة إلى ما حواليها من العوالم، أو تتجزأ أو تنضم بدافع التجانس أو أن ينضم إليها ما هو أقل مناعة منها، فيتغير شكلها عند ذلك الضم أو الانضمام، وما يتبع ذلك في العوالم الأخرى مما يجري متأثرا بهذا الضم أو الانضمام. ولهذا فقد قال الكتاب عند الكلام على انتهاء العالم: إن النجوم تتساقط والأرض تزلزل، إلى آخر ما جاء في هذا الصدد؛ لأن الجميع مرتبط كلية وأجزاء بعضه ببعض؛ لأن أصل الكل واحد؛ ولهذا وجب أن ما كان وما هو كائن وما سيكون بعالمنا يكون أيضا في العوالم الأخرى. إذن فإن الحياة يجب أن تكون في العوالم الأخرى كل بحسب حالته، فكما أن العنصر الأصيل الفرد تجلى كاملا هنا كذلك يتجلى هناك بجميع مظاهره.
عندئذ قال له نجيب: لقد تبسط الشيخ في حديثه معنا عن مظهر العنصر الأصيل الفرد، ولم يذكر لبقية المظاهر أو بالأحرى للمظهر الثالث إلا مرة أو مرتين عفوا، فهل له الآن أن يمن علينا بالشرح عنه بما يشفي غليلنا ويثير أذهاننا كما سبق، فوعدنا إجابة لطلب الصديق فريد فيما مضى عن ذكر الأحياء وما فيها من المظاهر الثلاثة، فأجابه الشيخ وقال: نعم، لقد وعدت وسأفي بوعدي، ولكن ليس في هذا المكان، بل فليكن اجتماعنا غدا أمام أبي الهول، والآن فقد حان الوقت؛ لذا فإني أستودعكم الله إلى الغد فالموعد غدا أمام أبي الهول. قال هذا وحياهم وسار مسرعا ودلائل الاهتمام على وجهه. فنظر فريد وفريدة إلى نجيب مستفهمين متسائلين عن سبب تغيير المكان، وعن ذلك الاهتمام الذي بدت علاماته على وجه الشيخ عند هذا السؤال؟ فأجابهما نجيب وقال: إذا لم يخطئ ظني فإني عرفت لماذا، ولكن لا تسألاني، فلا يجب أن نسبق الحوادث.
الفصل التاسع
هل توجد حقيقة؟ وما هي بالحقيقة الحقيقة؟ ***
في اليوم الثاني دعا نجيب فريدا وفريدة لتناول الغذاء في الفندق قرب الأهرام معه، فلبيا الدعوة وركبوا إحدى السيارات، فقلتهم إلى هناك.
وبعد تناول الطعام قام أصحابنا الثلاثة يتمشون في حديقة الفندق، ينتظرون بفروغ صبر حلول الميعاد؛ ليذهبوا أمام أبي الهول لمقابلة الشيخ، وكانوا يتحدثون بأمور شتى في مواضيع مختلفة، وإنما الحديث شجون. فقال نجيب: قل لي يا فريد أين أمضيت السهرة أمس؟ فأجابه فريد: لما تفارقنا مررت على القهوة فوجدت هناك سليما ومعه بعض الأصحاب يلعبون الشطرنج فدعوني للجلوس معهم، ولما كانت هذه اللعبة تسرني لما تستدعيه من التفكير والحساب؛ قبلت الدعوة وجلست معهم. وكانت اللعبة على رهان كسبه سليم، فسر سرورا عظيما، ومن شدة سروره بالمكسب دعانا جميعا لشرب كأس خمرة معه، فلم نشأ أن نعكر عليه صفوه فقبلنا ذلك ثم انصرفنا كل إلى منزله، فقالت فريدة: إنه مما لا يعجبني في أخي سروره من أقل شيء وتكدره من أقل شيء، فبينما نراه يغضب لكلمة نراه أيضا يرضى لكلمة، ويتحول كدره إلى سرور مثل الأطفال. فما سر الفرح والكدر في الإنسان يا ترى؟ وما هو سر الشعور بالألم واللذة؟ فإن هذه الأبحاث كثيرا ما شغلت فكري، فلماذا سر سليم بمكسبه هذا يا ترى؟ ويا ليتني كنت فطنت إلى هذا قبلا فسألت الشيخ عنه؛ لأني اليوم لا أرى وجها لمثل هذا السؤال لاختلافه عن موضوع الحديث. فقال نجيب: إن هذه المسألة لهي بسيطة حسب رأيي، وأعللها بزيادة أو نقصان أحد العنصرين عن الآخر، فإن الإنسان إذا خسر شيئا مثلا قل سلبيه الذي اعتاده فينقبض ويغتم، أما إذا كسب شيئا زاد إيجابيه فينشرح؛ لأن الكدر والفرح والألم واللذة ما هو إلا الشعور بزيادة أو نقصان أحد هذين العنصرين بدخول قوة على أحدهما أو خروج قوة عن أحدهما، ويبقى هذا الشعور إلى أن يتعادلا بما يأخذه الناقص من مختلف القوى أو إلى أن يتساوى الزائد به بما يذهب عنه من الزيادة، أما إذا تعذرت المعادلة جرى الانفصال؛ لأن الفرح يميت والحزن يميت، وهذه مسألة أصبحت لدينا طبيعية بما سبق لنا سماعه من الشروح.
وفيما هم كذلك إذ هبت عاصفة شديدة مما يندر حدوثه، فأبرقت السماء ودوى صوت الرعد بشدة وابتدأ المطر يهطل، فهرولوا مسرعين إلى الفندق ومكثوا فيه يراقبون هذا المنظر حتى هدأت الزوبعة، وعاد أديم السماء فصفا ثانية.
حل ميعاد المقابلة فخرج الثلاثة وساروا مشيا ناحية أبي الهول، ولما وصلوا وجدوا الشيخ قد سبقهم إلى هناك، ولما رآهم قادمين تقدم للقائهم بضع خطوات؛ ففرحوا به وحيوه بكل احترام.
صفحه نامشخص