goliards »، وقد ظهر نشاطهم وتأثيرهم أوضح ما يكون في ألمانيا، وبدرجة أقل في فرنسا وإنجلترا. وفي الأوقات التي لم يكن فيها هؤلاء مشغولين بالسكر أو الاحتيال على الفلاحين السذج، كانوا يؤلفون عددا لا حصر له من الأغاني الساخرة التي تقلد النصوص المقدسة، أو يستخدمون ألحانا شعائرية مع نصوص بذيئة ترمي إلى السخرية من الدين والأخلاق، وفي خلال تجوالهم في أرجاء كثيرة من أوروبا، متنقلين من جامعة إلى أخرى، كان هؤلاء الطلاب الرحل والمتطلعون إلى سلك الكهنوت يؤلفون الموسيقى ويعزفونها، والأهم من ذلك أنهم كانوا يتبادلون الأفكار. وعندما كان معين الخلق عندهم ينضب، لم يكونوا يجدون غضاضة في اقتباس الألحان الرئيسية من الأناشيد والتراتيل والقداسات الدينية مباشرة. هكذا أصبحت الألحان والكلمات المقدسة معرضة للسخرية، وللتفسيرات المستخفة ، وأصبحت الموسيقى الدينية بأسرها ضحية للمجون، ومحاكاة هؤلاء الطلاب لها بطريقة خارجة عن الدين. وكلما ازداد هؤلاء الطلاب انحلالا من حيث هم فئة، ازدادت كلمات أغانيهم المعدلة وضاعة، وازدادت ألحانهم المؤلفة والمقتبسة سخرية. ولما كانت الكنيسة غاضبة على سخريتهم ومرتابة في إخلاصهم الديني، فقد أبت عليهم الدخول في مناطقها المحرمة.
ولقد قامت الفئة المسماة بالشعراء الجوالين الفرنسيين
23
French jongleurs
بدور أكبر من ذلك الذي قامت به الفئة السابقة ذاتها، في الإبقاء على جذوة الفن الموسيقي مشتعلة في العصور الوسطى. وكان بعض هؤلاء الشعراء الموسيقيين المتجولين صعاليك لم يتلقوا تعليما منظما، يكسبون قوت يومهم بخفة اليد وزلاقة اللسان، فتراهم على استعداد لإحياء عرس ريفي بموسيقاهم، أو أداء حركات بهلوانية في مولد صاخب تماما، كما هم على استعداد لتمثيل الأدوار الرئيسية في المسرحيات الدينية. وكانت رحلاتهم تحملهم من إقليم إلى آخر، حيث كانوا يرفهون عن الناس بالدعابات والأحاديث والأغاني. ولقد كان هذا المغني الجوال بالنسبة إلى عامة الشعب بمثابة الجريدة اليومية والمسرح ومنشد الأغاني،
24
وكان الضحك يسير في ركابه حيثما حل، ولكنه كان أحيانا يأتي معه بأنغام حزينة. وكان الناس يحبونه لبذاءته وخفة روحه وموسيقاه، ولكنهم كانوا مع ذلك يخافون لسحره الطاغي، ولتلك «القوى الخارقة للطبيعة» التي كان يستطيع أن يخلبهم بها.
ولقد كانت توجد من الشعراء الجوالين أيضا فئة مثقفة، كانوا في بعض الأحيان من أسر عريقة، وهؤلاء كانوا يجدون لهم طريقا إلى قصور الإقطاع وبلاط الأمراء بوصفهم مغنين وشعراء ورواة للأقاصيص الكلاسيكية القديمة. وكان مثل هؤلاء الشعراء يظلون في القصور كأفراد دائمين، أو يتنقلون بين باحات القصور منشدين أغانيهم وراوين أشعارهم لجمهور من المستمعين يقدرهم على الدوام، وكان أصحاب المناصب الدينية الكبيرة، والنبلاء، وكبار أعيان المدن، يحتفلون بضيوفهم هؤلاء، ويقيمون الحفلات الباذخة للاستمتاع بموسيقى وأشعار تلك الشخصية الفذة، شخصية الشاعر الجوال.
ولقد كان أصل هؤلاء الشعراء الجوالين (
jongleurs ) غامضا، وإن يكونوا قد أثبتوا وجودهم بوضوح في القارة الأوروبية في القرن التاسع. ومن الجائز أن يكون أصلهم راجعا إلى المهرج اللاتيني (
صفحه نامشخص