Latin mime ) الذي كان بدوره جوالا، وكثيرا ما كان يسير في أعقاب الجحافل الرومانية ليرفه عن جنود قيصر وعن الشعوب المهزومة التي كانت ترغم على الدخول في حومة الإمبراطورية. وقد سار الشاعر الجوال في العصور الوسطى في أعقاب الصليبيين، لا لأنه كان متحمسا دينيا لطرد المسلمين من الأراضي المقدسة، بل لأنه كان ينتفع، كالمهرج اللاتيني، من أية حملة مغامرة تتيح له إيجاد متنفس لروحه غير المستقرة، وفرصة لبيع بضاعته الموسيقية. ولقد كان الشاعر الجوال كالمهرج شخصية هزلية متجولة تجنبها مؤرخو الأدب الكاثوليكي وتجاهلوها. وكانت الكنيسة تعدهم أشخاصا مغضوبا عليهم بوجه خاص؛ لأنهم أقرب الناس تمثيلا للحضارة الوثنية، ولأنه كان في وسعهم أن ينفثوا «سحرهم المسموم» في الأخلاق المسيحية عن طريق الغناء.
ولم يكن دور الشعراء الجوالين في العصور المظلمة متسقا تماما أو واضحا؛ فقد كانوا شعراء وموسيقيين أصليين إلى حد بعيد. وعلى الرغم من أن الكنيسة كانت تنبذهم رسميا، فإنه لم يكن من المستغرب أن تجد مغنيا بارزا منهم ضمن أفراد بيت واحد من أقطاب رجال الدين، بل إن الأديرة ذاتها كانت تستضيف الشاعر الجوال أحيانا؛ ليحيي لها حفلات خاصة. ومن الواضح أن رجال الكنيسة لم يكونوا في حياتهم الخاصة يلتزمون دائما مختلف الأوامر والمراسم التي أصدرتها مجامع دينية متعددة ضد الشعراء الجوالين. أما رجل الشارع، فكان من جانبه يستمتع بدعابات هؤلاء الشعراء في الحفلات الدينية، ويعجب لبراعتهم في إضفاء الحيوية على الاحتفالات التي تقام تكريما لقديس ما. ومع ذلك يعتقد بسذاجة أن هذا الشاعر ذاته يحمل خميرة الشيطان وإباحيته.
ولما كانت الكنيسة تدرج هؤلاء الشعراء المغنين ضمن فئة السحرة والآثمين، فقد عدتهم خطرا على سلطة الدين، وكانت أحيانا تأبى عليهم طقوس التناول والأسرار القدسية. ولقد كانت الكنيسة تنظر إلى هؤلاء الشعراء، فيما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر، على نفس النحو الذي كان آباء الكنيسة الأوائل ينظرون به إلى المهرجين اللاتينيين؛ أي بوصفهم خطرا داهما على الأخلاق المسيحية. والمهم في الأمر أنه مثلما كان المهرجون هم حفظة الموسيقى والشعر الدنيويين في أيامهم، فكذلك عمل الشاعر الموسيقار المتجول على إبقاء جذوة الموسيقى والشعر، وربما الأدب - في أنواعها شبه الدينية أو اللاتينية - مشتعلة خلال الجزء المتأخر من العصور الوسطى.
ولكن كيف كان هؤلاء الموسيقيون يتعلمون فنهم؟ المفروض أنه كانت هناك مدارس يتعلم فيها الناشئون منهم فنون العزف والغناء. وكان هؤلاء الموسيقيون الشعراء يجتمعون بانتظام في موسم الصوم، وهو الوقت الذي يمنعون فيه من ممارسة فنونهم أمام الجمهور. وكانت هذه الاجتماعات تتيح لهم فرصة مناقشة المشاكل المشتركة، وتبادل أشعارهم وأغانيهم بعضهم مع بعض.
ولقد كان معظم الفرسان النبلاء من فئة «التروبادور
troubadours » يضمون واحدا من الشعراء الجوالين إلى بطانتهم،
25
وكانت مهمة الشاعر الجوال هي تنظيم موسيقى الفارس الذي يعمل في خدمته، وزيادة حصيلته من الأغاني بألحان أو أشعار جديدة، بل تزويده بالموسيقى المعزوفة أيضا. ولم يكن الشاعر الجوال في واقع الأمر يصاحب الفارس عند غنائه، وإنما كان على الأرجح يعزف بقوسه على آلة وترية، ربما كانت الفييلا (
vielle
وهي من أسلاف الفيولينة الحالية) فيعزف مقدمات ولازمات
صفحه نامشخص