والأناشيد الدينية تزيد الإنسان قربا من الله. أما المسرح الوثني فيهبط بالإنسان إلى الشيطان.
غير أن الكنيسة كانت تتميز بالقدرة الفائقة على قهر العقبات التي تحول دون تقدمها الديني وطموحها السياسي. وكانت بارعة إلى أبعد حد في رفع التناقضات الفلسفية حتى تبعث الانسجام في لاهوتها، وأظهرت مقدرة مماثلة في الطرق التي اتبعتها من أجل ضم الوثنيين إلى صفوفها؛ فهي قد اقتبست الموسيقى الوثنية في البداية، كلما كان ذلك ضروريا ومفيدا، واستخدمت ألحانها لأغراضها الخاصة. وبعد انقضاء عدة قرون بدأت الكنيسة تنظر بعين الرضا على القيمة التعليمية للتصوير الرمزي. ولم يتبق من بين الفنون الأصلية سوى المسرح الذي لم يكن قد انضم بعد إلى الثالوث الفني، وقد تحقق ذلك بفضل الدراما الشعائرية.
ولقد كانت للدراما الشعائرية ثلاثة عناصر، هي الدين والموسيقى والنص الكلامي؛ ففي البداية كانت هذه الدراما مجرد محاورة درامية تطورت عن «التروبس» (الفواصل) التي أقحمت في الشعائر لشرح الأجزاء التي تغنى في القداس لجمهور المصلين. وقد ظلت الشعائر الدينية تؤدى باللغة التقليدية، وهي اللاتينية، على الرغم من سيادة الجهل في ذلك العصر الذي كان يحول بين المسيحي العادي وبين معرفة اللغة اللاتينية الكلاسيكية. وترتب على ذلك أن عددا قليلا جدا من رواد الكنائس هم الذين كانوا يفهمون الشعائر. وبظهور «التروبس» (الفواصل) استطاع هؤلاء على الأقل أن يتتبعوا المعاني الأدبية الرئيسية للقداس. وقد حدث هذا التحول الثوري بإدخال شروح تروي باللغة الشعبية مغزى الصلاة. وكان معنى ذلك أن فهم القداس لم يعد مقتصرا على الأقلية المتعلمة، بل إن المسيحي العادي يستطيع أن يستمتع بفهم «التروبس» (الفواصل) المشروحة من الصلاة، وبلغ من شعبية هذه «التروبس» (الفواصل) أن مؤلفيها لم يكتفوا بأن تكون مجرد محاورة، وإنما أضافوا العنصر الثالث، وهو الإيقاع والنظم المقفى.
ولقد كانت «التروبس» (الفواصل) تؤدى في الأصل بصورة تجاوبية؛ فكان أحد أعضاء الإكليروس يرتل، أو يقرأ فقرة من الإنجيل، أو من إحدى الرسائل الدينية باللاتينية، فيرد عليه قسيسان أو ثلاثة بغناء شرح أو تلخيص باللغة المحلية للفقرة التي قرئت. وبعد أن أضيف الإيقاع والنظم إلى هذا الحوار، ظهر شكل جديد من أشكال الدراما، كانت له إمكانات درامية أوسع كرواية القصص الديني المبني على المعجزات وأسرار العقيدة المسيحية وحياة القديسين ومناقبهم. وكانت الخطوة التالية في تطور الدراما الشعائرية هي إدخال المناظر؛ لكي تبدو الأحداث أكثر واقعية.
وقد اتسع بالتدريج نطاق الأحداث في الدراما الشعائرية حتى استنفد الإمكانات المحدودة لهيئة القساوسة، ولم يعد هناك مفر من الاستعانة بجمهرة المتدينين والطلاب الجامعيين لكي يؤدوا أدوارا محددة في هذه الدراما، وعندئذ بدأ استخدام اللاتينية في هذه المسرحيات الدينية يتضاءل؛ لأن كثيرا من الممثلين الذين ينتمون إلى الطبقة العلمانية (أي الخارجين عن نطاق رجال الدين الرسميين) لم يكونوا يتكلمون هذه اللغة أو يفهمونها، وبالإضافة إلى هذه الصعوبة، فإن الممثلين العلمانيين، وكذلك القساوسة ذاتهم وصبية المجموعات الغنائية المشتركين في الدراما، بدءوا يرتجلون الأجزاء الخاصة بهم، ويقحمون كلمات ونغمات «دارجة»، بحيث إن سلطات كنسية متعددة أفتت بأن الممثلين العلمانيين مسئولون عن انحلال هذه المسرحيات المقدسة، وينبغي منعهم من الاشتراك في الدراما الشعائرية، التي بدأت في الأصل بوصفها تروبس (فواصل) في الأديرة، ثم أصبحت عاملا يساعد على شرح الصلاة في كنيسة الأبروشية، قد أصبحت الآن عاملا من عوامل تشجيع صبية الممثلين في هذه المسرحيات على إدخال الموسيقى الدنيوية في بيت العبادة، وعزف هذه الموسيقى البعيدة عن القداسة أمام المذبح ذاته. وهكذا فإن أقطاب الكنيسة لو كانوا في حاجة إلى ما يذكرهم بألا يخففوا من وطأة رقابتهم على الموسيقى والأخلاق، فإنهم كانوا يجدون المبرر الكافي لسياستهم كلما شاهدوا الممثلين العلمانيين يقتحمون ميدان الدراما الشعائرية.
ولقد ظهرت الدراما الشعائرية في حوالي القرن العاشر، عندما بدأ القساوسة يمثلون لأهل أبروشياتهم في الكنائس مسرحيات مسيحية جعلوها جزءا هاما من الطقوس الدينية، وكان التمثيل في البداية باللغة اللاتينية، ثم أصبحت اللغات المحلية تستخدم بدورها في القرن الحادي عشر، وبمضي الزمن تحولت هذه المسرحيات الدينية إلى أعمال ضخمة معقدة، وتزايد عدد مشاهديها، واتسع نطاق هذه المسرحيات، وازدادت شعبيتها، إلى حد أنها أصبحت تمثل خارج الكنيسة فضلا عن داخلها، وأصبحت تؤدى ب «اللغة الدارجة».
وبمضي الوقت أخذ النظارة يحضرون لمشاهدة هذه المسرحيات الشعائرية بقصد التسلية، أكثر مما يحضرون بقصد التزود من التعاليم المسيحية، وأصبحوا يتوقعون من الممثلين أن يقدموا إليهم عرضا ترويجيا. وازداد العنصر الهزلي في الدراما الشعائرية، كما ازدادت المسرحيات «دنيوية»، وبتدهور نص الدراما الشعائرية تدهورت الموسيقى بدورها. وهكذا فإن ما كان يتخذ في البداية مظهر أسلوب لتعليم العقيدة المسيحية باستخدام «تروبس» (فواصل) موسيقية، قد انحط حتى أصبح مسرحية مصحوبة بالموسيقى، تهتم بمبدأ أكثر مما تهتم بالإرشاد الديني.
القسم السادس: الموسيقي الجوال
تبددت في مطلع القرن الحادي عشر مخاوف كان مبعثها خرافة سائدة في الأزمنة الوسيطة، هي أن نهاية العالم وشيكة الوقوع تمهيدا لعودة المسيح في سنة ألف، فعندما لم تتحقق هذه الظاهرة، بدأ الناس مرة أخرى يبنون ويبدعون ويضعون الخطط للمستقبل؛ إذ إن العالم باق على أية حال، والله قد استجاب لصلوات المسيحيين وتراتيلهم الدينية ، وشاءت رحمته أن يؤجل يوم الحساب. وعندئذ أشارت الكنيسة إلى أن على الشباب أن يتمسكوا بإيمانهم، وبالموسيقى المقدسة عند أسلافهم، حتى يرضى الرب الواسع الرحمات الذي يرعى المسيحية عن أغانيهم، ويستجيب لصلواتهم، مثلما رضي عن الموسيقى الدينية لآبائهم، واستجاب لدعواتهم.
ولم تكن فترة تقديم الشكر هذه على دوام حياة البشر قد انتهت بعد، في مطلع القرن الحادي عشر، عندما بدأ الطلاب وصغار رجال الدين يهاجرون من مدينة جامعية إلى أخرى. وظلوا يجوبون أرجاء أوروبا حتى أوائل القرن الثالث عشر، وذلك على الأرجح بوصفهم لاهوتيين ناشئين باحثين عن المعرفة والحقيقة، ولكنهم قبل انصرافهم التام إلى الزهد، أو ارتدائهم ثياب الكهنوت، كانوا يشعرون بالرغبة في الشرب من كأس المتع الدنيوية حتى الثمالة، مما كان يؤدي بالبعض إلى التعجيل بالاعتراف الكامل بذنوبهم، وبالعض الآخر إلى التحول عن الكنيسة تحولا نهائيا. وسرعان ما تدهور هؤلاء الطلاب الرحل إلى طائفة من الجوالين أو الصعاليك، ويعرف هؤلاء عادة باسم «المطربين
صفحه نامشخص