وهناك نوع آخر من الناس يؤكد من ينتمي إليه أنه شخص لا فلسفة له في الحياة ولا في الموسيقى. على أن الشخص الذي يكون رد فعله على أداء كامل رائع لقطعة موسيقية ما، هو قوله: «إنني أحب ما أحب، ولا أعبأ بمعرفة السبب.» إنما يعبر عن فلسفة للموسيقى، حتى لو كان يظن أنه يرفض كل فلسفة. مثل هذه الفلسفة قد لا يقبلها معظمنا؛ إذ إن هذا النوع من الاستجابة الشخصية للموسيقى، دون أي تقدير عقلي، هو نوع بدائي إلى أقصى حد، ينطوي على الحط من قدرات الإنسان العقلية على التأمل الباطن والتفكير؛ فالشخص الذي لا يكترث بأي عامل فيما عدا اللذة التي تتيحها الموسيقى له، إنما يكبت قدراته الكاملة من حيث هو كائن بشري.
أما المستمع الأكثر ثقافة وعمقا إلى حد ما، والذي يقول بطريقة رومانسية «إن الإحساس الغامض بالمتعة الذي تتيحه لي الموسيقى، هو إحساس لا تعبر عنه الكلمات.» فهو شخص يخدع ذاته من الوجهة النفسية؛ ذلك لأن الإنسان كائن عاقل إلى جانب كونه حيوانا انفعاليا. وإذا كان مثل هذا السامع يعني أن الانفعال العميق الذي تبعثه التجربة الجمالية لا يمكن أن تنقله الكلمات إلى شخص آخر نقلا أمينا، فإنه يكون عندئذ على حق؛ ذلك لأن التجربة الجمالية تجربة شخصية لا يمكن أن تنقل إلى شخص آخر مع ضمان أنها ستؤدي فيه إلى نفس التأثير الانفعالي. أما إذا كان يعني أن التجربة الجمالية تتعلق بالانفعالات وحدها، وإذا حللت فإنها تفقد تأثيرها، فإنه بذلك إنما يقصر تذوقه الموسيقي على المستوى الحسي وحده.
إن للمستمع إلى الموسيقى الحق في أن يترك الجمال النغمي والنماذج الإيقاعية لحركة اللحن تسحره وتخلب لبه. ومن الواجب خلال وقت الاستماع ألا يكون هناك شيء له قيمة سوى المتعة والنشوة التي تثيرها فيه الموسيقى؛ إذ إن هذه هي طبيعة التجربة الجمالية، ولكن من واجب المستمع أن يحاول بتفكيره أن يفهم السبب في إحساسه هذا، ويعرف كنه تلك العوامل الكامنة في تركيب الموسيقى وأدائها، والتي أمكنها أن تنقله إلى حالة النشوة هذه. وإنه لمن خطل الرأي أن يقال إن تحليل التجربة الجمالية يقضي عليها، ومن الخطأ أن نعتقد أننا كلما حاولنا معرفة سبب استجابتنا للإيقاع واللحن قل تأثيرها فينا؛ ذلك لأن المعرفة لا تحد من الانفعال، وإنما تهذبه.
والواقع أن دور الناقد الموسيقي لا يحتل في بلادنا هذه الأهمية، إلا لأننا شعب أمي من وجهة النظر الموسيقية؛ فالناقد يتبوأ مكانته الرفيعة بين ظهرانينا؛ لأننا نفتقر مع الأسف إلى أوليات المعرفة النظرية الموسيقية؛ فمعظمنا لا يمكنهم فهم ما يقوله المؤلف الموسيقي؛ لأن القليلين جدا منا هم الذين يمكنهم أن يقرءوا أو يكتبوا الموسيقى البسيطة. وعلى الرغم من أن الكثيرين منا عازفون أو مغنون هاوون بمعنى ما، فإنا نفتقر إلى الثقة بالنفس في تكوين رأي شخصي عن طريقة قائد الأوركسترا في أداء مصنف كلاسيكي ما؛ لذلك نحتمي بسلطة الناقد الذي ينبئنا بما يقال، وكيف يقال.
والواقع أن ممارسة الناقد المحترف لمهنته أصبحت في أيامنا هذه واجبا ثقافيا؛ فانتقاداته الحرة التي تكون لاذعة في كثير من الأحيان، ليست رمزا لمجتمع حر وفن غير مقيد فحسب، بل إن موقفه السلبي المعتاد ضروري لتقدم الموسيقى، حتى لو كان أقرب إلى الخطأ منه إلى الصواب في توقع الاتجاهات الفنية وتقويم الموسيقى. وإنه لمن الحمق أن نظن، كما يفعل البعض، أن من الممكن الاستغناء عنه كلية، ولكن من الصحيح أننا كلما نمينا قدرتنا على كشف أسرار الموسيقى التي يقدمها إلينا المؤلف، غدونا أكثر استقلالا في حكمنا، وأقل اعتمادا على آراء الناقد وقراراته؛ أي إن دوره بوصفه حجة وسلطة نحتكم إليها يقل كلما ازددنا استنارة.
ولا شك أن الناقد الموسيقي الذي يحيا في ظل الفاشية الشمولية لا يملك إلا الازدراء لأية فلسفة موسيقية مبنية على القيم المتحررة؛ فهو خليق بأن يعدها مذهبا جماليا ذا صبغة رومانتيكية، لا بد أن يقضي على ذاته من جراء تأكيده للحرية الفردية، وتجاهله للحاجات الجمالية للمواطنين. مثل هذا الناقد لا بد أن يؤكد أن علاقة الفرد بالدولة في الحكومة المتسلطة لا تحتمل الأحكام الشخصية أو نزوات الأقليات المقفلة على ذاتها، التي تضع السياسة الاجتماعية موضع الشك أو تزدري اللجنة المركزية للحزب في المسائل المتعلقة بالنقد.
ولقد كان النظام الشمولي للفاشية يبني قيمه الموسيقية، في ألمانيا النازية على الأقل، على التمييز العنصري؛ فقد قرر هتلر، بكل بساطة، أن موسيقى مندلسون لا بد أن تمنع، وأكد هتلر على نحو قاطع أن مندلسون كان يهوديا،
9
ولا يمكن لليهود أن يكتبوا موسيقى مساوية لما يكتبه الآريون. ولما كان يجزم بأن الآريين جنس أرقي، فلا بد أن تكون موسيقى مندلسون السامية من نوع أحط. ولا شك أن هذا لا يمكن إلا أن يكون منطق دكتاتور مجنون يستخلص من مقدماته الباطلة حكما على القيمة الموسيقية لإنتاج مؤلف موسيقي على أساس تمييز عنصري زائف.
على أن الفلسفة الاجتماعية الأقل عنفا عند ليو تولستوي تهدد أي مذهب إنساني في علم الجمال بخطر لا يقل عن خطر الدولة المتسلطة أو الدكتاتور الطاغية؛ ذلك لأن الرسالة التي أخذها تولستوي على عاتقه بأن يقيم مجتمعا مبنيا على التعاليم المسيحية أدت به إلى أن يقوم كل موسيقى بروح لا تقل في تعصبها عن روح آباء الكنيسة، فكانت النتيجة أنه استبعد كل المؤلفات الكلاسيكية تقريبا من نظامه المثالي، على أساس أنها أعقد من أن يفهمها الجميع؛ وبالتالي تفتقر إلى تلك البساطة الشاملة التي تربط كل الناس سويا. ولا جدال في أن الدهشة والعجب يتملكان المرء عندما يمعن التفكير في ذلك القدر الضئيل من الموسيقى، الذي استبقاه تولستوي ليساعده في نشر دعوته إلى الإخاء، وذلك القدر الكبير الذي رفضه لأنه لا يساعده في أداء رسالته المتعصبة. ومن المؤكد أن الصرامة التي كان يقرر بها أي موسيقى تصلح لإقامة مملكة الله في الأرض قد أحالته من عملاق في الأدب إلى قزم في الموسيقى.
صفحه نامشخص