فیلسوف و هنر موسیقی

فؤاد زكريا d. 1431 AH
177

فیلسوف و هنر موسیقی

الفيلسوف وفن الموسيقى

ژانرها

فقد كان تولستوي يعجب ببعض مقطوعات باخ الغنائية، وبعض موسيقى هايدن وموتسارت وشوبرت. وكان ينظر بعين الرضا إلى موسيقى شوبان «... (وذلك عندما لا تكون ألحانه مثقلة بقدر مفرط من التعقيدات والزخارف) ...» كما كان يحب بعض المؤلفات المبكرة لبيتهوفن، ولكنه رفض موسيقى الحقبة المتأخرة من حياة بيتهوفن، بحجة أنها «ارتجالات لا قوام لها»، أما السيمفونية التاسعة والرباعيات الأخيرة التي نشرت بعد وفاة بيتهوفن، والتي ربما كانت أروع موسيقى كتبها الإنسان، وصوناتات البيانو في الفترة المتأخرة، ولا سيما الصوناتا مصنف رقم 101؛ كل هذه يسخر منها تولستوي على أساس أنها غير مفهومة إلا للقلة، وأعقد من أن تفي بحاجات المسيحية. أما موسيقى فاجنر وليست وبرليوز وريشارد شتراوس فإنه يرفضها كلها.

ومن المؤكد أن اليقين القاطع الذي كان تولستوي يرفض به مؤلفات هؤلاء الموسيقيين خليق بأن يقدم إلينا سببا قويا للتفكير في الأخطاء الثقافية التي يمكن أن تنشأ عن تطبيق الفلاسفة ورجال السياسة والدين لمعايير مطلقة في النقد الموسيقي؛ فمنذ اللحظة التي يعتقد الفيلسوف أنه قد اهتدى إلى الحل النهائي الشامل لمشكلة طبيعة العالم، ومعنى الحياة، وصحة القيم الإنسانية، لا يعود باحثا سقراطيا عن الحقيقة، وإنما ينغمس في الدفاع المتعصب عن موقف أو الدعاية المتحمسة له. وفي نفس اللحظة التي يضع فيها الناقد الموسيقي صيغة شاملة يتعين عليها أن تنطبق على مبادئ لاهوتية أو سياسية معينة، فإنه يصبح بدوره مدافعا عن إيمان أو داعية إلى قضية.

على أن الرأي الصحيح هو أنه لا توجد حقائق مطلقة، أو أحكام نهائية؛ فالقمم ليست أزلية، وإنما هي تولد من جديد على الدوام، وليس ثمة ناقد عالم بكل شيء، نستطيع أن نتطلع إليه لنجد عنده جوابا نهائيا حاسما في مسائل القيم الموسيقية. وإنه لمما يؤسف له أن الكثير منا ينتظرون كلمة الناقد ليعرفوا كيف يكونون رأيهم عن هذه القطعة الموسيقية أو تلك الطريقة في العزف. والمؤسف في الأمر هو أن هؤلاء الناس يختارون الانقياد بدلا من أن يختاروا الاستنارة والاسترشاد، مع أن بعضا من هؤلاء الناس أنفسهم قد يختلفون مع أعظم نقاد صحيفة كبرى، أو يثورون عليه بشدة حين يكون الأمر متعلقا بكتاب تختلف عليه الآراء، على حين أن هؤلاء القراء المثقفين إلى أبعد حد يقبلون الرأي الذي ينشره المحرر الموسيقي في الجريدة ذاتها دون أي شك أو تحد.

وهناك من بيننا أيضا أناس يقفون في خشوع أمام جماعة المثقفين في الموسيقى، الذين يتخذون من غير المألوف صنما معبودا، ويتحدثون عن «إريك ساتي» بتبجيل وجودي. ومن واجبنا أيضا ألا نقيم وزنا لادعاء أولئك المثقفين الذين يحكمون على الأمور الخاصة، ويؤكدون على نحو قاطع أن «موسيقى الغرفة» هي ما يختاره صاحب النظرة الجمالية الخالصة، على حين أن الأوبرا تسلية شعبية للجماهير؛ ذلك لأن الشخص الذي يؤثر فيه بعمق أداء جيد لخماسية لشوبرت يمكن أيضا أن يؤثر فيه أداء جيد لقطعة غنائية لبوتشيني. ولا يمكن أن يحتقر القوالب الموسيقية الشعبية إلا شخص لا يحس بقيم الآخرين.

كذلك ينبغي أن نسخر من أولئك المتطرفين الذين لا يستمعون إلا إلى «مادريجالات» عصر النهضة أو «كونشرتات» عصر الباروك، ويزدرون أية موسيقى كتبت بعد وفاة باخ؛ ذلك لأنه لا ضرر في أن يبدي المرء إعجابا خاصا بفترة معينة في تاريخ الموسيقى؛ لأن قوالب هذه الفترة والرنين النغمي للآلات فيها يجتذبه اجتذابا شخصيا فريدا. ومع ذلك فمن الممكن أن يؤدي هذا الاهتمام بالماضي الغابر إلى تضليل المرء إذا تحول إلى متخصص في فترة معينة من فترات الموسيقى، وصم أذنيه عن موسيقى الفترات الأخرى. وبالمثل فإن ذلك الذي يعتقد خطأ أن موسيقى الماضي أحط مرتبة من موسيقى الحاضر يحتاج إلى بعض التوجيه؛ إذ إن مقطوعة للفيولينة المفردة من تأليف كوريلي

Corelli

يمكنها أن تبعث فينا من المتعة الجمالية قدر ما يبعثه منظر الموت الختامي في دراما «تربستان وإيزولده»؛ فالجمال البسيط في موسيقى كوريلي يثير فينا تجربة جمالية هادئة وقورا، على حين أن تلك الموسيقى المشبوبة بالعاطفة، التي كتبها فاجنر للمنظر الأخير من هذه الدراما الموسيقية المؤثرة، تبعث فينا شعورا بالوجد الانفعالي. وكلا النوعين من الموسيقى يخدم الغرض المقصود منه؛ فأحدهما يبعث ما يسميه نيتشه بالحالة الأبولونية، والآخر ما يسميه بالنشوة الديونيزية، وكلاهما ضروري لحياة الإنسان.

ولقد كان بعض النقاد الذين ظهروا في الأمس القريب، مثل هانسليك وبوزوني، وكذلك فيلسوف ندر أن نجد من الفلاسفة من قال بمثل آرائه في الموسيقى، هو «هربارت

Herbart »؛ كان هؤلاء يؤمنون بأن الموسيقى ليس لها معنى يتجاوز نطاقها الخاص؛ فهم قد أرادوا أن يقفوا في وجه الرومانسية بالقول إن الموسيقى فن مستقل. ويوجد في صفوفنا اليوم أيضا أمثال هؤلاء من أصحاب النظرة الخالصة، الذين يحرصون على الاحتفاظ بنقاء الموسيقى وترفعها عن المضمونات النفسية والاتجاهات الاجتماعية والمسائل الأخلاقية. وهم يعتقدون أن البحث الجمالي في الموسيقى ينبغي أن يقتصر على تحليل القيم الشكلية للقطعة الموسيقية ولا شيء غير ذلك. والأساس الذي يرتكزون عليه هو أن الموسيقى، كما قال هانسليك، هي تعبير عن الأفكار الموسيقية؛ فالموسيقى التي تثير الانفعالات وحدها وتتجاهل العقل، لا تؤدي إلا جزءا من وظيفتها، وهي اجتذاب الإنسان ككل؛ أي أن هذا الاتجاه الفكري الأفلاطوني الجديد

10

صفحه نامشخص