فیلسوف و هنر موسیقی

فؤاد زكريا d. 1431 AH
173

فیلسوف و هنر موسیقی

الفيلسوف وفن الموسيقى

ژانرها

Walt Whitman

يقول: «إن كل موسيقى هي ما يستيقظ فيك عندما تذكرك الآلات الموسيقية.» وهنا لا تكون الموسيقى لغة عالمية، ولا تكون ميتافيزيقا، ولا فنا ينشأ من قوالب أولية، وإنما نحن الذين نضفي على الموسيقى وجودها؛ فالموسيقى تظل مجرد إيقاع وصوت، ما لم نكسب نحن هاتين الظاهرتين ثراء نفسيا. ولا يمكن أن يكون للقالب وللإيقاع وللنماذج المقامية أي معنى بالنسبة إلي سوى ما أفهمه فيها؛ فليس في وسعي أن أستخلص من أداء لقطعة معينة سوى ما أضيفه عليها عن طريق فهمي لها وانفعالي بها. وقد أتأثر انفعاليا حتى لو لم أكن أستطيع فهم الرموز الموسيقية، غير أن المتعة الجمالية لا تتجاوز في هذه الحالة نطاق المستوى الانفعالي. وقد لا يكون لدي من الثقافة الموسيقية ما يتيح لي، حتى أن أعرف إن كانت الموسيقى تؤدى بطريقة سليمة أم لا. فضلا عن ذلك، فليس هناك معيار تجريبي أستطيع أن أعرف به إن كنت قد توصلت إلى الحالة النفسية الأصلية التي كان المؤلف الموسيقي يهدف إلى بعثها في عندما أستمع إلى موسيقاه. غير أن الأمر المؤكد هو أنني كلما ازددت معرفة بالموسيقى، ازددت تقديرا لمزاياها، وفهما ناقدا لطريقة أدائها، وازداد عمق تأثري بالأداء المثير؛ فالمعرفة الموسيقية لا تقلل من التقدير الجمالي، وفهم القطعة الموسيقية لا ينقص من عمق التجربة الانفعالية التي يمكن أن تتيحها لنا تلك الموسيقى؛ فحين يعرف المرء أن القطعة الموسيقية تؤدى بروح المؤلف، وأن الأجزاء الصعبة تعزف ببراعة كاملة، وأن شيئا من التفاصيل الدقيقة لا يضيع في العزف، حين يعزف ذلك، فلن تؤدي معرفته إلا إلى زيادة استمتاعه وتعميق انفعاله. ومع ذلك فمن الممكن أن تؤدي المعرفة الموسيقية إلى نتائج عكسية؛ ذلك لأن الثقافة الواسعة الأفق ليست ضمانا لاستمرار حالة السعادة، سواء في أمور الموسيقى أم في شئون الحياة بوجه عام.

على أن صاحب النظرة الخالصة إلى الموسيقى خليق بأن يسخر من الفكرة القائلة إن الموسيقى لغة عالمية، أو إن الموسيقى هي ما توقظه الآلات فينا. وإنما هو أميل إلى الرأي القائل إن الموسيقى فن يتميز بخصائص كامنة توجد مستقلة عن وعي بها. هذه الخصائص الكامنة في الموسيقى هي التي تجعل منها، في رأيه، عملا فنيا بالنسبة إلى كل الأزمنة والأمكنة. وهو يذهب أيضا إلى أن التعود الثقافي على الموسيقى ليس شرطا ضروريا لفهم موسيقى الحضارات الأخرى، وإنما الشروط الوحيدة الضرورية لتذوق الموسيقى في حضارتنا أو أية حضارة أخرى هي التجاوب مع الإيقاع والحساسية للنغم. وهو يرى أيضا أن تذوق الموسيقى والاستمتاع بها ليس نشاطا ديمقراطيا عاما، وإنما يتفق مع شونبرج وسترافنسكي على أن الموسيقى الجادة ليست للجماهير، بل للقلة السعيدة الحظ التي توافر لها من الثقافة والحساسية ما يسمح لها باستخلاص تجربة جمالية من هذه الموسيقى.

ولكن ما هي الموسيقى؟ ربما أمكننا أن نزداد اقترابا من تعريف ما تكونه الموسيقى إذا أمكننا أن نحدد ما لا تكونه الموسيقى؛ فهي أولا ليست محاكاة لانسجام الأفلاك؛ ذلك لأن الفيثاغوريين كانوا يعتقدون أن كل الأجسام المتحركة تحدث أصواتا، وأن هذا لا يصدق على الأجرام السماوية أيضا. وقال المعلمون القدامى إن هذه أصوات لا تدركها الأذن البشرية لأسباب متعددة، ولكن الفيثاغوريين واليهود زعموا أن قادتهم الروحيين كانوا وحدهم قادرين على سماع هذه الموسيقى السماوية. على أن التقدم العلمي في القرن العشرين قد أتاح لنا أن نكون فكرة تقريبية عن أصوات هذا الانسجام المزعوم بين الأفلاك، الذي تحدثه النجوم في حركتها، ولكنه بدلا من أن يكون انسجاما سماويا، يبدو للأذن الحديثة أقرب كثيرا إلى الأصوات المنكرة.

كذلك تقدم الفيثاغوريون برأي آخر أقره أفلاطون، ويقول إن المسافات بين الكواكب وأفلاك النجوم الثوابت تناظر رياضيا المسافات بين أصوات الأوكتاف، ولكن لا يوجد أي دليل تجريبي يؤيد الفكرة القائلة إن المقامات اليونانية أو نظامنا الخاص من السلالم الموسيقية مبني على أساس أن تكون العلاقة بين صوت وآخر مناظرة للعلاقة بين كوكب وآخر. وإذن فستظل نظرية انسجام الأفلاك ونظرية التناسب أسطورة قديمة تعجز عن أن تنبئنا بما تكونه الموسيقى، وإن كانت تحاول أن ترشدنا إلى الصدر الذي تنبعث منه وإلى سبب تركيبها الراهن.

وثانيا: ليست الموسيقى تعبيرا عن الأخلاقية أو اللاأخلاقية؛ فلا يمكن أن تكون الموسيقى خيرا أو شرا بالمعنى الأخلاقي، أكثر مما يمكنها أن تكون مرحة أو حزينة في ذاتها. قد يكون من شأن الموسيقى أن تبعث حالة من المرح أو الحزن عاناها المؤلف الموسيقي. وقد تكون الطريقة التي صيغت بها هذه الحالة، وأنتجت موسيقيا طريقة جيدة أو رديئة، ولكن الجيد والرديء يقالان هنا بمعنى الحكم الجمالي، لا بمعنى الخير والشر الأخلاقيين. ولقد زعم أرسطو أن الشبيه يولد شبيهه، وكان - مثل أفلاطون من قبله - مقتنعا بأن هناك موسيقى خيرة وشريرة بالمعنى الأخلاقي؛ فالموسيقى الخيرة تهذب النفس البشرية مثلما تفسدها الموسيقى الشريرة، ونحن لا ننكر أن هناك أنواعا معينة من الموسيقى لها تأثيرات مختلفة في سامعيها، وفي هذا الصدد يستحيل تفنيد أرسطو، ولكن لا يمكن التماس أي عذر لأرسطو، أو أفلاطون، عندما نسبا خصائص أخلاقية إلى المقامات اليونانية ذاتها بناء على طبيعة تركيبها وتطبيقها. وكذلك لا يوجد مبرر من وجهة نظرنا، لرأي أرسطو القائل إن الشخص الشرير، بالمعنى الأخلاقي، لا يخلق إلا موسيقي شريرة. ولقد كان من الطبيعي ألا يرى أرسطو وأفلاطون أي تناقص في موقفهما؛ إذ إنهما لم يميزا على أي نحو ما هو أخلاقي وما هو جمالي.

إن في وسع المتعة الحسية التي نستمدها من الأنغام الموسيقية والتأثير الفسيولوجي الذي تحدثه فينا الإيقاعات أن تبعث حالات نفسية متنوعة في نفوسنا، غير أن من المشكوك فيه أن يكون بويتيوس بدوره على حق في قوله إن الذي يطرب لسماع «ألحان غير لائقة، وينصت لها كثيرا، سوف تضعف روحه ويفقد النخوة والشهامة في نفسه.» كما أن من المشكوك فيه أن تكون للموسيقى القدرة على أن تجعل الناس أخيارا أو أشرارا كما زعم الشاعر «ملتن» في القرن السابع عشر.

فليس لنا أن ننكر أن كثيرا من المؤلفين الموسيقيين اللاأخلاقيين قد أبدعوا موسيقى رائعة سمت بنفوس أولئك الذين استمعوا إليها. وليس لنا أن ننكر أن فاجنر كان مخلوقا بغيضا، لا يسير إلا على شريعته الخاصة. ولكن من ذا الذي ينكر عبقريته الخلاقة وروائع موسيقاه؟ إن من واجبنا أن نفصل بين الخالق وبين خلقه، سواء شئنا أو أبينا، ومهما كان من صعوبة هذا الفصل في عالمنا الحالي؛ فالموسيقى جيدة ورديئة بمعنى جمالي فقط، لا بمعنى أخلاقي. إنها تعبير عن المشاعر. والشعور ذاته قد يقوم أخلاقيا، ولكنه ما إن يعبر عنه موسيقيا، حتى لا يعود شخصيا، وإنما يصبح لا شخصيا، ولا يعود خيالا ذاتيا، بل يصبح فنا موضوعيا. وعلى حين أن السلوك يحكم عليه أخلاقيا، فإن الفن يحكم عليه جماليا فحسب، وللأسس الجمالية للموسيقى علاقة مباشرة بالحياة؛ فهي لا تتعلق بالمحظورات والنواهي التي يفرضها المجتمع على الإنسان، وإنما تتعلق بالتعبير الحر للإنسان عن نفسه. وهي لا تهتم برضاء المجتمع، أو عدم رضائه عن المشاعر الإنسانية، بل تهتم بالتعبير عن هذه المشاعر فحسب.

وثالثا: لا يمكن أن تكون الموسيقى في ذاتها سياسية أو دينية؛ فما تسمى بالموسيقى الدينية هي موسيقى كتبت للتشجيع على العبادة؛ وبالتالي ينبغي أن تكون ملائمة للغرض الذي خلقت من أجله. وتنطوي هذه الموسيقى على خصائص تصر عليها السلطات الكنسية، كالبساطة والوضوح والقدرة على تجميل النص الديني. وقد ترضى السلطات الدينية أو لا ترضى عما يشعر الموسيقار بأنه ذو طابع ديني؛ فالموسيقى المخصصة للعبادة هي تلك التي تعتقد السلطات الدينية أنها ينبغي أن تكون كذلك. وكما أن رجال الدين يرشدوننا في الشئون المتعلقة بالإيمان، فإنهم يسمحون أيضا بالموسيقى المخصصة للعبادة، أو لا يسمحون بها. وهم يعتقدون أن هناك موسيقى معينة تساعد على تعميق التجربة الدينية وموسيقى أخرى تصرف الذهن عن خدمة الأغراض الدينية.

ونحن عندما نتحدث عن موسيقى دينية وأخرى دنيوية، إنما نفضل نوعا من الموسيقى نراه ملائما للحاجات الدينية، عن كل الأنواع الأخرى من الموسيقى. وهناك مصادر متنوعة يمكن أن ترجع إليها الموسيقى الدينية ، فربما كانت قد كتبت لغرض العبادة خصوصا، أو قد تكون في الأصل ذات طابع دنيوي، ثم استخدمت فيما بعد لأغراض العبادة. والواقع أن هناك بعضا من أقوى القطع الموسيقية تأثيرا من الوجهة الدينية، بنيت على أساس ألحان شعبية لم تكن مرضيا عنها لدى رجال الدين؛ اليهود، أو الكاثوليك، أو البروتستانت. وكم حدث أن أزيلت وصمة اللاأخلاقية والفساد عن موسيقى قديمة عندما عدلت، واستخدمت لأغراض العبادة الدينية. ولم تعد الأجيال اللاحقة تعرف هذه الموسيقى إلا في سياقها الديني؛ بحيث اكتسبت هذه الموسيقى، على مر القرون، معنى تقليديا يرتبط في أذهاننا بالعبادة والأعياد الدينية. على هذا النحو ذاته استمرت معظم الأغاني التي كانت تعد في القرون الغابرة «لا أخلاقية» و«فاسدة»، وإن كان قد قدر لها البقاء.

صفحه نامشخص