ولقد كان روسو يزدري المؤلفين الموسيقيين الذين يكتبون موسيقى بلا كلمات، أو يستخدمون بوليفونية معقدة، فحاول أن يقوم هذين المظهرين من مظاهر النقص بالدعوة على إلغاء الدراما الموسيقية الفرنسية، والاستعاضة عنها بمسرحية شعرية غنائية على طريقة الإيطاليين، وهي دعوة يأسف لها كل من تسنى لهم أن يفكروا في التطور التاريخي الذي أعقبه.
وكان تولستوي يتصور أن فن المستقبل سيكون منصبا على المشاعر الكفيلة بتقريب البشرية نحو وحدة مشتركة مبنية على التفاهم والعمل الإيجابي. وكان يأمل ألا يكون معيار الامتياز في موسيقى المستقبل هو «اقتصارها على مشاعر محدودة لا يصل إليها إلا البعض، بل على العكس من ذلك عمومية هذه المشاعر وشمولها». وحسبنا أن نقارن بين هذه الآراء وبين النقد الموسيقي السوفييتي الحديث لندرك مدى التأثير الذي كان لتولستوي دون قصد على الفلسفة الموسيقية للاتحاد السوفييتي.
ولقد كان أرسطوكسينوس، تلميذ أرسطو، هو أول فيلسوف يضع مذهبا جماليا في الموسيقى مبنيا على قيم إنسانية؛ فقد حاول أن يتجنب المسائل الأخلاقية والتفسيرات الرياضية الخالصة للموسيقى، التي تمسك بها أفلاطون وأرسطو معا. وكان يعتقد أن الحس والعقل، والقدرة على الاستماع وعلى التمييز، كفيلة بأن تتيح للمرء أن يحكم بنفسه إن كانت القطعة الموسيقية جميلة أم لا، وقد رفض أن يقبل الرأي القائل إن أية ميتافيزيقا مذهبية رسمت خطوطها مقدما، أو أي مذهب أخلاقي تقليدي، أو أي إرجاع للمقامات الموسيقية إلى الرياضيات، على طريقة الفيثاغوريين، نقول إنه رفض الرأي القائل إن أيا من هذه الأسس يصلح معيارا لتقدير الموسيقى.
وعلى الرغم من ذلك فقد ظل معظم الفلاسفة التالين لأرسطوكسينوس يعرفون الموسيقى في مذاهبهم المختلفة من خلال قيمة ميتافيزيقية أو أخلاقية أو كلتيهما معا، أو بوصفها مبحثا رياضيا خالصا، ولكن الفلاسفة انتهوا بمضي الوقت إلى التخلي عن التشبيه الخيالي لعنصر الإيقاع في الموسيقى بانسجام الأفلاك. كذلك أخذوا ينصرفون عن الرأي القائل إن الموسيقى مجرد تركيب عددي منظم بطريقة رياضية من شأنها أن تحدث سلسلة فريدة من الأنغام؛ فلم يعد الفلاسفة يحاولون تفسير المجموعات النغمية السارة أو المتوافقة على أنها علاقات عددية سليمة، وتنافر الأنغام على أنه علاقات غير سليمة، وإنما أصبحوا يدركون بوضوح أن التوافق والتنافر هما طرفان متقابلان في الأصوات الموسيقية يتسمان بأن لهما قيمة جمالية نسبية تماما. ومع ذلك فإن الأخلاق، وهي العنصر الثالث في ذلك الثالوث القديم المؤلف من الميتافيزيقا والرياضة والأخلاق، ما زالت باقية معنا بكل وضوح.
ففي المجال الديني، ما زالت الكنيسة تفرق بين الموسيقى الجيدة والرديئة بمعنى أخلاقي. وفي المجال الاجتماعي يحدد السوفييت القيمة الموسيقية للمصنف على أساس تمشيها أو عدم تمشيها مع الأيديولوجية السياسية السليمة. والمفروض نظريا على الأقل أن طبيعة النظام الديمقراطي الذي تحكم به دولة كالولايات المتحدة يؤدي إلى استبعاد الطرف الثالث ذاته في هذا الثالوث؛ أعني الأخلاق، بوصفها معيارا سليما للحكم الجماعي؛ ففي وسع المؤلف الموسيقي في أمريكا أن يكون فردي النزعة تماما، كما أشار السوفييت، وأن يعيش في عزلة اجتماعية، ويخلق موسيقى شخصية تماما، لا يكون لها معنى إلا للصفوة القليلة؛ أي إن في وسعه أن يكون غير ديمقراطي على الإطلاق في دولة ديمقراطية، وهي مفارقة غريبة. أما إذا كان يعمل في خدمة كنيسة متسلطة، أو كان منتميا إلى دولة شمولية، فإنه مضطر فلسفيا إلى أن يخلق من أجل تحقيق أعظم قدر من الخير لأكبر عدد من الناس، على النحو الذي يتصور به ذلك الخير في أذهان قادة الكنيسة أو الدولة.
القسم الثاني: معنى الموسيقى وطبيعتها
أصبح مفهوم المعنى الموسيقي مزدوج الدلالة في التفكير الجمالي الحديث؛ فمن جهة نجد أن الموسيقى التي تؤلف في العالم الغربي تقوم ويحكم عليها من خلال قيم شكلية. ومن جهة أخرى فإن الموسيقى التي تؤلف في مناطق العالم التابعة للسيطرة السوفييتية تقوم ويحكم عليها من خلال سلامة اتجاهها الأيديولوجي. ففي الحالة الأولى لا يهدف العمل الموسيقي ضرورة إلى وضوح المعنى، وإنما يقتصر على نقل حالة نفسية معينة. وفي الحالة الثانية يستهدف العمل الموسيقي الوضوح والبساطة، ولا تكون للشكل فعاليته، إلا إذا كان يزيد من تأثير العرض «الواقعي» للمضمون. وعلى ذلك فإن الموسيقى في العالم الغربي محدودة في معناها، ذاتية في تقويمها، نظرا إلى أهمية المعالجة الشكلية التي يقوم بها المؤلف الموسيقي لأفكاره الموسيقية أو للمضمون. أما في بلاد المعسكر الشرقي، فلا بد للموسيقى حتى يكون اتجاهها الأيديولوجي سليما، من أن تكون واضحة المعنى، حتى تكون مفهومة للجميع.
ولقد أطلق الشاعر «لونجفيلو
Longfellow » على الموسيقى اسم اللغة العالمية للبشر، ولكن ما الذي هو عالمي في الموسيقى؟ إن القطعة الموسيقية التي تعتادها جماعة معينة من الوجهة الثقافية تحدث، بمعنى عام، تأثيرات معينة في تلك الجماعة لا يمكن أن تحدثها في جماعة أخرى؛ فالنبض الإيقاعي، والنظام النغمي، هما نماذج وأصوات موسيقية تتكيف معها جماعة من الناس، ولا تتكيف معها جماعة أخرى. ولا يمكن أن تعني القطعة الموسيقية الواحدة شيئا واحدا لجماعتين مختلفتين، ناهيك بشعبين مختلفين. صحيح أننا نستطيع أن نستمتع بموسيقى الشرقين الأدنى والأقصى بالإضافة إلى موسيقانا، ونستمد منها لذة جمالية، ولكن هذا لا يحدث إلا إذا كانت هناك بعض أوجه الشبه بينها وبين موسيقانا؛ إذ يكاد يكون من المستحيل على الموسيقى التي هي غريبة عنا عقليا وثقافيا أن تثير فينا أية استجابة انفعالية؛ فلا بد أن تكون للموسيقى بضعة أنغام أو أساليب مشتركة قريبة الشبه بما لدينا منها، وإلا لما استطاعت أن تجتذب شيئا من تجاربنا الباطنة، أو تطالب بشيء من فهمنا المباشر. وكما قال فولتير، فإن الأسلوب أو النظام النغمي الجديد، حتى في داخل الحضارة الغربية ذاتها، يحتاج إلى انقضاء قرابة جيل كامل قبل أن يصبح مقبولا، ومع ذلك فهذا أمر لا تنفرد به الموسيقى وحدها بين سائر الفنون.
ولقد كتب وولت ويتمان
صفحه نامشخص