وبقى السلطان يتلهف على ما تركه، ويتأسف على الفتح الذي ما أدركه والذين أشاروا بهذا الرأي يسهلون الصعب، ويهونون الخطب. ويقولون نمضي ونعود، وتستعدنا السعود، وتنجدنا الجنود، وتتجدد الجدود، ويورق العود، وتصدق
الوعود. وإذا أبقل الربيع، اقبل الجميع. وطاب الزمان، ووفى الضمان، وأمكن الإسعاد وساعد الإمكان.
وما زالوا بنا حتى رحلنا، وعلى الرأي الرائب منهم أحلنا، ولو أقمنا لنقمنا، وقمعنا العدو ووقمنا. لكن الله قدر وقدره محتوم، وسر غيبه المكتوب في اللوح المحفوظ مكتوم. وأراد ولا مرد لمراده، وقضى ولا محيد لما قضاه في عباده. أن تبقى صور في تلك الحالة للكفر وكرا، وللمكر مكرا، وللشرك شركا، ولنار جهنم دركا.
وقدمنا عن صور الارتحال آخر شوال غرة كانون الثاني، وعم البرد في القاضي والدانيز وتوحمت السماء من حوامل السحائب، وتوحلت الأرض من سوائل المذانب. والنكب الرياح عواصف عواسف قواصم قواصف، والسحب الدلاح هوامل هوامر رواعد رواعف والبرد قارص قارس، والماء جامد جامس. والشتاء شتات بتات، وما مع مقامه وثباته مقام وثبات.
وسرنا عباديد في لبابيد، وبين جليد وجلاميد. على الناقورة وطريقها، والأثقال قد ازدحمت في مضيقها. والأحمال تتواقع، والأجمال تتقاطع. والسبل تنسد، والسابلة ترتد. وسلكت الخيل الجبل، وقطع العسكر طريقه إلى المخيم ووصل. وتأخر الثقل إلى أن تخلص، وتقدم من سبق وتملص.
ووصلنا إلى عكاء في ثلاث مراحل، وقد غطى بحر عسكرنا الساحل. وخيم السلطان على باب البلد بجانب التل، سامي المحل، نامي الفضل. دائم الفكر في تدبير الأمر، وتدمير الكفر، واثقا من الله بإنجاز عدة النصر.
ذكر الحادثة التي تمت على محمود أخي جاولي حتى استشهد هو وأصحابه
ويوم رحيلنا من صور نعى (محمود أخو جاولي)، وكان من جملة الأمراء أعف
ولى ولي. وعاش مجاهدا زاهدا وعيشه زهيد، وقضى صابرا مصابرا وهو سعيد شهيد. وسبب ذلك، أن السلطان لعلمه بديانته وأمانته؛ وبأسه وبسالته؛ ويقظته ونهضته وحزامته؛ وكله يحصن كوكب الذي على الغور وكانت فيها جمرة الاسبتارية القريبة الجور البعيدة الغور. وقد تمنعوا بشدتهم، واشتدوا بمنعتهم. وهو حصن لا يرام، وركن لا يضام، ومعقل لا يسامى ولا يسام. وذروة لا تفرع، ومروة لا تقرع، وعقيلة لا فترع. وبكر لا تخطب، وقلعة لا تطلب.
ولما ملك الساحل، وهلك الباطل، ونظمت الحصون في سلم الحصول وظفر
1 / 97