وركب الأمراء بأجنادهم ووقفوا، وأثمر لهم ورق الحديد الأخضر فقطفوا. وتناوبوا في الزحف، وتعاقبوا على الحتف. وكلما ترجلت طائفة قاتلت ثم رجعت، وجاءت الطائفة الأخرى فصدقت وصدعت، وقارعت وقرعت، وصارعت وصرعت. فلم ير أشد من ذلك اليوم، في وقم القوم. واجترأ أصحابنا وراض جماحهم أصحابنا. وخاضت خيلنا في البحر خلف منهزميهم، وأقدم من أحجم منا لإحجام مقدميهم. فحينئذ طارت للحين من السهام زنابيرها، وأسعرت الحرب بضرام الضراب مساعيرها. وامتلأت السعير بقتلاهم وقالت: هل من مزيد، وفتحت الجنة لمن باع نفسه بها فقالت: هل من شهيد. وانقضى ذلك اليوم وقد كلت الأسلحة، وملت الأجنحة. وانهاضت قوادم الانهاض، وانفضت الجموع من إقواء القوى والانفاض.
وبات الناس على ضجر وضجاج، ولجب ولجاج. فلو عاودنا البلد بمثل ذلك اليوم أياما، لنلنا من فتحه مراما. لكنهم أصبحوا على سأم، والموا بإبداء ألم. وقالوا قلت كثرتنا، فلو أقيلت عثرتنا لانجبرت كسرتنا وفينا الجريح والطليح، وحتى متى لا نستريح! وقد توالت الأمطار فلا مطار، وعلينا هذا الحصار صار!.
وكانت الجراحات كثيرة، والاحتياجات بها مثيرة. ومنع البرد من العمل، وامتنع سد الخلة وتسديد الخلل. وما زالوا يراسلون السلطان ويشيرون بالرحيل، ويقولون لا تتعب على تحصيل المستحيل ولا تذهب الأيام في إبرام السحيل. ودعنا نستجد دعة، ونسترد قوى عند لطف الله مودعة. ونشتغل بفتح الأيسر وهو أكثر، ونؤخر التشاغل بما لعله يتعسر.
وكان السلطان في تلك المدة، أنفق أموالا كثيرة على تلك الآلة والعدة. وما أمكن نقلها، ولا نكن من نقلها ثقلها. ولو أبقاها لقوى بها الكفر، واشتغل بسببها الفكر. فرأى نقضها، وفك بعضها. واحرق منها ما تعذر حملها، وشتت بعد التجمع شملها. وحمل بعضها إلى صيداء، وبعضها إلى عكاء، وجرت أعاجيب ما تكاد تحكى، وسر ذلك الرحيل قوما وساء قوما فأضحك وأبكى.
وتأخر السلطان وتباعد عن قرب صور إلى المنزلة الأولى، ويد أيده على جميع الأحوال طولى. فشرع العسكر في الانصراف، وتزود للانكفاء والانكفاف. وأخذ الجمع في الافتراق، وانتشر في الآفاق. وذهب من ذهب على مواعدة في المعاودة، ومسارعة في الرجوع إلى المساعدة.
وودع (الملك المظفر تقي الدين) من هناك، وأوعد بوعد عوده الإشراك. وسار على طريق هونين إلى دمشق مغذا، وفارق الغزو وكان له ذلك المغزى مغذى. وسارت معه عساكر الموصل وسنجار وديار بكر، وكل طير منهم اشتاق إلى وكر. وما عرفوا أن هذه الراحة القليلة تعقبهم تعبا كثيرا، وأن هذا الهدو الذي مالوا إليه يصير لحثيث حركتهم مثيرا.
1 / 96