الإسلام بالفتح المأمون المأمول، وافتتحت طبرية وأعمالها، وتملكت أغوار تلك البلاد وجبالها، تمنعت قلعتا صفد بالداويه وكوكب بالاسبتارية وتعذر فتحها، وتعثر منحهما، ووقف أمرهما، وأعدى البلاد ضرهما، فرتب على صفد جماعة يعرفون بالناصرية، من أهل الأبية والنخوة والحمية. ومقدمهم (مسعود الصلتي) أصلتت سعادته منه سيفا إصليتا، لا يلفت عن لقاء العدو ليتا.
ورتب على كوكب هذا (محمودا)، وكان بهما أمر الحفظ محمودا. وذلك بعد الكسرة، وصحة النصرة. فأحاطا بالحصنين واحتاطا، وظهرت كفاية كليهما بما تعاطى. وكان الحفظ مستمرا والاحتياط مستقرا. حتى انس محمود بضعف أهل الحصن، وظن انهم في غاية الوهن. وسكن إلى سكونهم، وأغمضت عينه لتوهم إغماض عيونهم. واسترسل فيما حزب، واستسهل ما صعب. وأخل بالحزم، وخلا من العزم. واحتقر عدوه، وحسب من العجز هدوه.
وكان مقامه بحصن قريب من كوكب يقال له عفر بلا، قد أقام به جاما جامعا فيه ما أمر وحلا. وكان ذا دين متين، ومكان من النسك مكين. وهو يسهر أكثر ليله متجهدا، وقد جعل منزله مسجدا. وأصحابه من حوله، يحفظونه بقوة الله وحوله. فلما كان آخر ليلة من شوال، وهي ليلة ذات أهوال، مظلمة مدلهمة كافرة مكفهرة،
ليلاء قتماء، باردة مقشعرة، أنوارها بائدة، أنواؤها جائدة، وهزيع جنحها دجوجى، وهزيم ودقها لحي، وسحبها سحم، وأقطارها دهم. وصبيرها صيب، وصنبرها مشيب، لا يفرق فيها السماء من الأرض (ظلمات بعضها فوق بعض) خرج أهل كوكب فوق السحر، ومضوا إليه وقد رقد بعد طول السهر. والناس رقود، والحراس هجود، والجنود جمود، والأنفاس خمود، والهمم رقود. والسيوف أسرار أضمرتها الغمود، والعدم قد دنا منه الوجود.
فما أحس محمود المحمود، وأصحابه الهمود، إلا بالفرنج وقد سلكوا إليهم، وبركوا عليهم. فقصروا عن الامتناع، ولم يقدروا على الدفاع. فجاءتهم السعادة، وفجأتهم الشهادة. وبقى الأمير حتى استشهد محصورا، (وكان أمر الله مقدورا). ونقلوا إلى القلعة ما وجدوه من سلاح ومتاع، وخيل وكراع.
فلما عرف السلطان ما أصابهم؛ أحتسب عند الله مصابهم؛ وأحمد إلى الجنة مآبهم. فندب إلى كوكب (صارم الدين قايماز النجمي) - الصارم المخدم، والحازم المقدم. والعضب البتار، والندب المغوار. والأسد الأسد. والأحمى الأحمد. في خمسمائة فارس من ذوي النجدة، والبأس والشدة. فسد الطريق بمضايقتها عنها، ومنع من الدخول إليها والخروج منها. ولم يزل عليها ولحصرها مستديما؛ إلى أن يسر الله فتحها؛ وسهل للآمال فيها نجحها. وسنذكر ذلك في موضعه، وكيف أشرق صبح النصر من مطلعه.
1 / 98