وقالوا هذا بلد حصين، ومكانه من الأرض مكين. في البحر ثلاثة أرباعه، وفي السماء ارتفاع يفاعه. وطريقه الذي يسلك من البر إليه، قد أحاط به البحر من جانبيه. وقد قطعوه بخندق في عرضه، وعمقوه ونزلوا في أرضه. وكان من إحكام الحزم؛ وإتمام العزم؛ تكميل الآلات وتتميمها، وتحصيل المنجنيقات وتقديمها. وتركيب الأبراج والدبابات وتأليفها، وتقريب الجفاتي والجنويات وتصفيفها، وتسوية مناصب المجانيق وتسقيفها، وتنجية أثقال العسكر وتخفيفها، وتنخية نخب الرجال وتصريفها.
وتسنية الاسباب، وتهيئة الأخشاب. واستحضار كل ما يراد للحصار. واستنفار كل ما يرام من الأنصار.
فإذا حضرت هذه الأشياء والأشياع، وتيسرت وتوفرت الأصول والاتباع، رحب الذرع في الحصر والمضايقة وطال الباع، وإذا حالت الأحوال وضاعت الأوضاع؛ اختل واعتل النزال والنزاع.
وأمر السلطان بإزاحة العلل، وإزالة الخلل، وشغل الصناع بالعمل، ونقل الأمل إلى طريق الذل. وتقدم بقطع أشجار الغياض، وحمل ما بتلك النواحي من الأنقاض. فاجتمع هناك كل ألة، وذباب وذبالة، وقضيب ومقبض، ومجرب ومحرب. وسهم وشهم، وشهب ودهم. وأحمال وأثقال. ونظمت الستائر من القضيب، وصفت من سور صور بالمكان القريب. وكمت من ورائها الكماة، واستترت بالجفاتي قدامها الرماة. واشتغل كل صانع بصنعه، وكل جامع بجمعه، وكل دافع مانع بمنعه ودفعه. فمن جان بمنجنيق، ودان إلى نيق. وداب بدبابة، وذاب بذبابة. ونازع في حنيه، وناز بمنية. وقاذف بشرارة، وحاذف بحجارة، وهاتك من ستارة، وفاتك بجسارة. وجاذب في حبال، وجالب لوبال. ومرو في قلع ومسو لمقلاع، ومدبر بايجاف ومدمر بايجاع.
ولم تزل المنجنيقات ترمى، والحجارات تدمر وتدمى، والدبابات تطير من أوكارها عقبان الجروخ، وأطباق البروج تبنى وتغطى بالسلوخ حتى امتد الزمان، واشتد الحران. وضاق الحصر، وأعتاق النصر. وكان العسكر قد ألف تيسر الفتح، وتسرع النجح. فصعب عليه حين صعب، وتبع هواه لما تعب. ولم يألف الناس إلا إرواء ظمائهم بنهلة، والحصول على إكساب سهلة، وفتح ما يقصدونه من البلاد بغير مهلة.
فلما توقف هذا الفتح توقفوا، وملوا وضجروا وتأفقوا. والسلطان مع ذلك يزداد في
حده حدة، وفي شده شدة، وفي جده جدة، يثبتهم بحثه ويحثهم على الثبات، ويقويهم بجوده ويوجدهم القوات، ويقول إن الله أمر بالمصابرة، ولا مصابرة الا بالمثابرة. فاصبروا تفلحوا، وصابروا تفتحوا.
1 / 88