عاد الحديث إلى ما جرى بعد فتح القدس
وأقام السلطان على القدس حتى تسلم ما بقربها من حصون، واستباح كل ما للكفر بها من مصون. ورحل ولده الملك الأفضل قبله إلى عكاء عائدا، وعن حوزتها ببأسه وجوده ذائدا. ثم تبعه الملك المظفر فرحل، وسار إلى عكاء وبها نزل. ثم عمد السلطان إلى ما جمعه ففرقه، وأخرجه في ذوي الاستحقاق وأنفقه. وفرضه بعوارفه، وفضه في مصارفه. فسد خلة المعيل، وأسهم منه ابن السبيل. وحمل به
عن الغارم. وأحيا به سنن المكارم ووضعه في أهله، وأحله في محله. وصرفه في حله. وقدم التوسعة على ذوي الإضافة، والإنفاق من أهل الفاقة. وأجنى الأجناد منه مقاطف، وجعل للمجاهدين منه وظائف. وأبقاه بأفنانه ذخرا للآخرة، وكسبا للمحامد الفاخرة.
فأكثروا عذله على بذله، واستكثروا ما فضه بفضله. فقال كيف امنع الحق مستحقيه، وهذا الذي أنفقه هو الذي أبقيه، وإذا قبله مني المستحق فالمنة له على فيه. فإنه يخلصني من الأمانة ويطلقني من وثاقها، فإن الذي في يدي وديعة احفظها لذوي استحقاقها.
فما عاد الوفد إلا بوفر ودثر، والإفاضة في نظم من حمده ونثر. وحاز كل ذي فضيلة منه فضلا، وتفيأ كل فئة من فيئة ظلا. وكثر السائلون بالفضائل، والقائلون بالوسائل. والقاصدون بالقصائد، والوافدون بالفوائد، والواردون بالفوارد. والسابقون بالشوافع، والشافعون بالسوابق. والسالكون للطرائق، والمالكون للحقائق.
فما ترى إلا فارئا باللسان الفصيح، وراويا للكتاب الصحيح. ومتكلما في مسألة، ومتفحصا عن مشكلة. وموردا لحديث نبوي، وذاكرا لحكم مذهبي، سائلا عن لفظ لغوي. ومعنى نحوي. أو مقرضا بقريض، أو معرضا بتصريح أو مصرخا بتعريض. أو جالبا لمدحه، أو طالبا لمنحة. أو مستضعفا بفاقة، أو مستسعفا بإفاقة. أو ناشدا بنشيد، أو مسمعا بتغريب وتغريد.
وما فيهم إلا من أحظى بسهم، أو أرضى بقسم. وأصيب بنصيب وأجيب، وأجيز بتقرير وتقريب. فقيل له لو ذخرت هذا المال للمال لشفيت به ما يقع من الاعتلال. وكفيت بالحقيقة ما يسنح من الاختلال، فقال أملي قوي من الله الكافل بنجح الآمال وجمع الإسراء المطلقين، وكانوا ألوفا من المسلمين. فكساهم وأساهم،
ووواساهم وأذهب أساهم. فانطلق كل منهم إلى وطنه ووطره، ناجيا من ضرره ووضره.
ومكث السلطان عليه مقيما، للنظر في مصالحة مستديما. فقيل ما قعودك عن صور؟ فانهض إليها عسكرك المنصور. وأنت تدخلها يوم وصولك، وتحظى منها بمرادك وسولك.
1 / 84