هذا يوم تجاب فيه الدعوات، وتصب البركات، وتسال العبرات، وتقال العثرات. ويتيقظ الغافلون، ويتعظ العاملون. وطوبى لمن عاش، حتى حضر هذا اليوم الذي فيه انتعش الإسلام وارتاش. وما أفضل هذه الطائفة الحاضرة، والعصبة الطاهرة، والأمة الظاهرة. وما أكرم هذه النصرة الناصرية، والأسرة الامامية، والدعوة العباسية، والمملكة الايوبية، والدولة الصلاحية. وهل في بلاد الإسلام أشرف من هذه الجماعة، التي شرفها الله بالتوفيق لهذه الطاعة.
وتكلموا فيمن يخطب، ولمن يكون المنصب. وتفاوضوا في التفويض، وتحدثوا بالتصريح والاعريض. والأعلام تعلى، والمنبر يكسى ويجلى. والأصوات ترتفع، والجماعات تجتمع. والأفواج تزدحم، والأمواج تلتطم. وللعارفين من الضجيج، ما في عرفات للحجيج. حتى حان الزوال، وزوال الاعتدال. وخيعل الداعي، وأعجل الساعي. فنصب السلطان الخطيب بنصه، وأبان عن اختياره بعد فحصه، وأوعز إلى القاضي (محي الدين أبي المعالي بن زكي الدين علي القرشي) بأن يرقى ذلك المرقى، وترك جباه الباقين بتقديمه عرقي، فأعرته من عندي أهبة سوداء من تشريف الخلافة، حتى تكمل له شرف الإفاضة والإضافة. فرقى العود، ولقي السعود. واهتزت أعطاف المنبر، واعتزت أطراف المعشر.
وخطب وأنصتوا، ونطق وسكتوا. وأفصح وأعرب، وأبدع وأغرب، وأعجز وأعجب، وأوجز وأسهب. ووعظ في خطبتيه، وخطب بموعظتيه. وأبان عن فضل البيت المقدس وتقديسه، والمسجد الأقصى من أول تأسيسه، وتطهيره بعد تنجيسه، وإخراس ناقوسه وإخراج قسيسه. ودعا للخليفة والسلطان وختم بقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) ونزل وصلى في المحراب، وافتتح بسم الله
من أم الكتاب. فائتم بتلك الأمة، وتم نزول الرحمة، وكمل وصول النعمة.
ولما قضيت الصلاة انتشر الناس، واشتهر الإيناس، وانعقد الإجماع واطرد القياس. وكان قد نصب للوعظ القبلة سرير، ليفرعه كبير. فجلس عليه (زين الدين أبو الحسن علي بن نجا)، فذكر من خاف ومن رجا، ومن سعد ومن شقي ومن هلك ومن نجا، وخوف بالحجة ذوي الحجا وجلا بنور وجلا عظاته من ظلمات الشبهات ما دجا. وأتى بكل عظة، للراقدين موقظة، وللظالمين محفظة، ولأولياء الله مرققة ولأعداء الله مغلظة.
وضج المتباركون، وعج المتشاكون. ورقت القلوب، وخفت الكروب وتصاعدت النعرات، وتحدرت العبرات. وتاب المذنبون، وأناب المتحوبون، وصاح التوابون، وناح الاوابون. وجرت حالات جلت، وجلوات حلت، ودعوات علت،
1 / 78