ونصب المنبر واظهر المحراب المطهر. ونقض ما أحدثوه بين السواري، وفرشوا تلك البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الحصر والبواري. وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وحق الحق وبطلت الأباطيل، وتولى الفرقان وعزل الإنجيل. وصفت السجادات، وصفت العبادات، وأقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات، وانجابت الغيايات، وانتابت الهدايات، وتليت الآيات، وأعليت الرايات.
ونطق الأذان وخرس الناقوس، وحضر المؤذنون وغاب القسوس، وزال العبوس والبوس، وطابت الأنفاس والنفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس. وعاد الإيمان الغريب منه إلى موطنه، وطلب الفضل من معدنه. وورد القراء وقرئ الاوراد، واجتمع الزهاد والعباد، والابدال والأوتاد. وعبد الواحد ووحد العابد،
وتوافد الراكع والساجد، والخاشع والواجد، والزاهي والزاهد، والحاكم والشاهد، والجاهد والمجاهد، والقائم والقاعد، والمتهجد الساهد، والزائر والوافد.
وصدح المنبر وصدع المذكر، وانبعث المعشر وذكر البعث والمحشر. وأملى الحفاظ، وأسلى الوعاظ. وتذاكر العلماء، وتناظر الفقهاء، وتحدث الرواة وروى المحدثون، وتحنف الهداة وهدى المتحنفون. واخلص الداعون ودعا المخلصون، وأخذ بالعزيمة المترخصون، ولخص المفسرون وفسر الملخصون. وانتدى الفضلاء، وانتدب الخطباء. وكثر المترشحون للخطابة، المتوشحون بالإصابة، المعروفون بالفصاحة، الموصوفون بالحصافة.
فما فيهم إلا من خطب الرتبة، ورتب الخطبة، وأنشأ معنى شائقا، ووشى لفظا رائقا، وسوى كلاما بالموضع لائقا، وروى مبتكرا من البلاغة فائقا. ومفيهم من عرض على خطبته، وطلب منى نصبته. وتمنى أن ترجح فضيلته، وتنجح وسيلته، وتسبق منيته فيها أمنيته. وكلهم طال إلى الالتهاء بها عنقه، وسال من الالتهاب عليها عرقه. وما منهم إلا من يتأهب ويترقب، ويتوسل ويتقرب. وفيهم من يتعرض ويتضرع، ويتشوف ويتشفع. وكل قد لبس وقاره ووقر لباسه، وضرب في أخماسه أسداسه، ورفع لهذه الرياسة رأسه. والسلطان لا يعين ولا يبين، ولا يخص ولا ينص.
ومنهم من يقول ليتني خطبت في الجمعة الأولى، وفزت باليد الطولى. وإذا ظفرت بطالع سعدى؛ فما أبالي بمن يخطب بعدي.
فلما دخل يوم الجمعة رابه شعبان؛ أصبح الناس يسألون في تعيين الخطيب السلطان. وامتلأ الجامع، واحتفلت المجامع، وتوجست الأبصار والمسامع، وفاضت لرقة القلوب المدامع، وراعت لحلية تلك الحالة وبهاء تلك البهجة الروائع، وشاعت من سر السرور بلبس حبر الحبور الشوائع، وغصت بالسابقين اليها
المواضع. وتوسمت العيون، وتقسمت الظنون.
وقال الناس هذا يوم كريم، وفضل عميم، وموسم عظيم.
1 / 77