وأفاض الناس من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، فقضوا المناسك لأصنامهم، ورجعت كل قبيلة منهم إلى مقامها من شبه الجزيرة.
واستدار العام وجاء موسم عكاظ، فكان لعمر فيه مثل ما كان له في العام الذي سبقه، وظل ذلك شأنه عدة سنوات.
ثم إنه تأخر عاما عن مفتتح السوق، فافتقده الناس وتساءلوا عن سبب تخلفه، وزاد تساؤلهم أنه كان قد بدأ يزاول التجارة ويشتغل بها، وكيف لتاجر له من المكانة ما لعمر أن يغيب عن سوق العرب العامة ومعرضهم السنوي الأكبر! لكنهم عرفوا أنه اضطلع بالمهمة التي كان يضطلع بها آباؤه من قبيلة عدي بن كعب، مهمة السفارة بين قريش وغيرها من القبائل كلما حدث بينهم خلاف، وأن هذه المهمة وكلت إليه في أمر ذي بال جد بين إحدى قبائل قريش وجماعة ثقيف، ولشد ما اغتبط أهل السوق جميعا حين علموا أن عمر جاء إليهم ليقضي معهم ما بقي من أيام السوق، وأنه أتم سفارته على خير حال، جاء ممتطيا جواده الأدهم، فبدأ يباشر تجارته وكانت قد سبقته، ثم لم تثنه مباشرتها عن المصارعة، ولم يزعزع ما له من شهرة بين أصحابه أنه صاحب خمر وصاحب نساء.
وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد هذا العام، ثم أذاع في الناس رسالته، فانبرى له عمر يحاربه بحمية الشباب والفتوة حربا جاهلية عنيفة أشد العنف، فإذا جاء إلى عكاظ، وجلس إلى الناس وصادف حديثهم سيرة الرجل الذي قام في قريش يدعوها إلى نبذ الأصنام وعبادة الواحد الأحد، هاج عمر وماج، وأطلق لسانه في محمد، وعابه بما فرق من كلمة قريش وبما صبأ عن دين آبائه وأجداده، ولقد كان الغضب يبلغ منه لخروج محمد على قومه، فلا يحجم عن التهديد بقتله لولا منع بني هاشم له وما يجره هذا القتل من ثارات لا قبل لمكة بها.
وظل ذلك شأنه حتى أسلم، فصار يدافع عن دين الله وعن رسول الله بمثل الحمية التي كان يحاربهما بها قبل إسلامه.
هذه صورة من شباب عمر بن الخطاب، ترتسم أمامك واضحة تمام الوضوح كلما ازددت إمعانا في قراءة كتب التاريخ الإسلامي قديمها وحديثها، فإذا أردت أن تعود إلى ما قبل شبابه لم تجد في هذه الكتب ما يعينك على رسم صورة من طفولته وصباه في هذا الوضوح، وإن أسعفتك في أمره بخير مما تسعفك في أمر الكثيرين ممن عاصروه.
فهو من قبيلة عدي بن كعب، وهي قبيلة عدنانية من قريش، انتهى إليها الشرف كما انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن في مقدمتها هاشم، وأمية، وتيم، ومخزوم، على أن عديا لم تبلغ من المكانة في مكة قبل الإسلام ما بلغه بنو هاشم وبنو أمية؛ فلم يكن لها من مناصب مكة الدينية أو الزمنية، ولم يكن لها من الثروة ما لهم، مع ذلك كانت تنافس بني عبد شمس الشرف، وتحاول أن تبلغ مكانتهم، وظل هذا التنافس ممتدا على الأجيال، حتى اضطر بنو عدي في حياة الخطاب بن نفيل والد عمر إلى الجلاء عن منازلهم القائمة عند الصفا والانحياز إلى قبيلة بني سهم والمقام في جوارهم، وقد حفز هذا التنافس أجداد عمر، فكانوا، على قلة عددهم وعلى ضعف مكانتهم من القبائل الكبرى، ذوي دراية وعلم وحكمة.
وقدمهم علمهم وقدمتهم حكمتهم إلى مكان السفارة والحكم في المنافرات، فكانوا المتحدثين عن قريش إلى غيرها من القبائل فيما ينجم من خلاف يتسنى حسمه بالمفاوضة، وكانت حكومتهم ترضى في المنافرات، وكانوا ذوي بلاغة وحسن عبارة، وقد أدت بهم الحكمة إلى أن ظهر بينهم زيد بن عمرو أحد من اعتزلوا عبادة الأوثان وامتنعوا من أكل ذبائحها، ثم كان بينهم عمر بن الخطاب، وحسبك به فخرا لقبيلة ينتمي إليها.
صفحه نامشخص