تقديم
1 - عمر في جاهليته
2 - إسلام عمر
3 - في صحبة النبي
4 - في عهد أبي بكر
5 - عمر يستفتح عهده
6 - أبو عبيد والمثنى في العراق
7 - فتح دمشق وتطهير الأردن
8 - القادسية
9 - فتح المدائن
10 - المسلمون في العراق
11 - جلاء هرقل عن سورية
12 - عمر في بيت المقدس
13 - مصير خالد بعد إخضاع الشام
14 - المجاعة والوباء
15 - التوسع في فتح فارس
16 - غزوة نهاوند
17 - القضاء على سلطان الأكاسرة
18 - التفكير في فتح مصر
19 - فتح مدينة مصر وحصونها
20 - فتح الإسكندرية
21 - مصر في يد المسلمين
22 - حكومة عمر
23 - الحياة الاجتماعية في عهد عمر
24 - اجتهاد عمر
25 - مقتل عمر
خاتمة
المراجع العربية
المراجع الأجنبية
تقديم
1 - عمر في جاهليته
2 - إسلام عمر
3 - في صحبة النبي
4 - في عهد أبي بكر
5 - عمر يستفتح عهده
6 - أبو عبيد والمثنى في العراق
7 - فتح دمشق وتطهير الأردن
8 - القادسية
9 - فتح المدائن
10 - المسلمون في العراق
11 - جلاء هرقل عن سورية
12 - عمر في بيت المقدس
13 - مصير خالد بعد إخضاع الشام
14 - المجاعة والوباء
15 - التوسع في فتح فارس
16 - غزوة نهاوند
17 - القضاء على سلطان الأكاسرة
18 - التفكير في فتح مصر
19 - فتح مدينة مصر وحصونها
20 - فتح الإسكندرية
21 - مصر في يد المسلمين
22 - حكومة عمر
23 - الحياة الاجتماعية في عهد عمر
24 - اجتهاد عمر
25 - مقتل عمر
خاتمة
المراجع العربية
المراجع الأجنبية
الفاروق عمر
الفاروق عمر
تأليف
محمد حسين هيكل
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
تقديم
ليس في التاريخ الإسلامي، بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، رجل تردد الألسن اسمه ما تردد اسم عمر بن الخطاب، وهي تردده وتقرن به، في إعجاب وإكبار، ما عرف عن عمر من جليل الصفات وعظيم المواهب، فإذا ذكر الناس الزهد في الدنيا مع القدرة على النهل من أنعمها ذكروا زهد عمر، وإذا ذكروا العدل المطلق غير مشوب بشائبة ذكروا عدل عمر، وإذا ذكروا النزاهة لا يفرق صاحبها بين أقرب الناس إليه وأبعدهم عنه ذكروا نزاهة عمر، وإذا ذكروا العلم والفقه في الدين ذكروا فقه عمر ودينه، وأنت تتلو من أنباء ذلك في الكتب ما تحسب الكثير منه مبالغة لا يكاد العقل يصدقها؛ فهي أدنى إلى المعجزات التي تنسب إلى الأنبياء منها إلى ما عرف عن أكبر العظماء سموا وجلال قدر.
ويرجع ذلك إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية في عهده، فقد خلف عمر أبا بكر على إمارة المؤمنين حين فرغ أبو بكر من حروب الردة، وحين كانت جنود المسلمين تواجه الفرس والروم على تخوم العراق والشام، فلما قبض عمر كانت الإمبراطورية الإسلامية قد اشتملت العراق والشام جميعا، وقد تخطتهما فاشتملت فارس ومصر، بذلك بلغت حدودها الصين من الشرق، وإفريقية من الغرب، وبحر قزوين من الشمال، والسودان من الجنوب، وقيام هذه الإمبراطورية العظيمة في عشر سنوات معجزة لا ريب، والمعجزة أعظم قدرا بعد أن تحطمت فارس والروم الإمبراطوريتان صاحبتا السلطان على عالم يومئذ، وتحطمتا بأيدي العرب الذين كانوا إلى سنوات قبلها قبائل متنافرة لا تهدأ منازعاتها ولا تطمئن فيما بينها إلى قرار.
أما وقد تمت هذه المعجزة في عهد عمر وبتوجيهه فهو، لا جرم، رجل عظيم، وقد بدت بوادر هذه العظمة في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي عهد أبي بكر، ثم ضاعف نصر المسلمين من بعدهما قدرها، كما زادها مر العصور وأضاف إليها، فقد تبين الناس على تعاقب الأجيال أن هذه الإمبراطورية لم تكن وليدة عبقرية حربية تبقى الإمبراطورية ما بقيت وتزول بزوالها، بل كانت قائمة على أساس قوي من خلق متين وحضارة سليمة الأساس، فإذا صح أن يشيد الناس بعظمة يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر وجنكيزخان ونابليون؛ لأنهم أقاموا من الإمبراطوريات ما أقاموا، فأحر بهم أن يكونوا أكثر إشادة بعظمة عمر بن الخطاب وأكبر قدرا لآثارها.
تمت المعجزة بقيام الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فقد كان المسلمون، إلى يوم استخلف، يخشون الفرس والروم، ولذلك اثاقلوا حين ندبهم عمر للذهاب إلى العراق يواجهون الفرس فيه، وكان لهم من العذر عن تثاقلهم أن كان اسم فارس لا يزال يزلزل القلوب والأسماع، وكان جند المسلمين قد جلوا عن العراق بعد ذهاب خالد بن الوليد إلى الشام بأمر أبي بكر، وأقام الناس على تثاقلهم أياما، ثم لبى أبو عبيد الثقفي دعوة عمر وذهب في بضعة آلاف يلقى جنود كسرى، فنكب في غزوة الجسر إذ مات وانهزم جيشه.
ولم تزعزع هزيمته من عزمة عمر، بل زادته إقداما ودفعته لينهض بنفسه على رأس المسلمين يريد مواجهة الفرس ليمحو عار تلك الهزيمة، وقد كان فاعلا لولا أن صرفه أولو الرأي عما أراد، عند ذلك أرسل سعد بن أبي وقاص مكانه، وظفر سعد بالفرس في غزوة القادسية ظفرا حاسما؛ فتح له أبواب عاصمة الفرس، وفتح للمسلمين أبواب فارس جميعا، وفي هذه الأثناء كان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد يسيران مظفرين في الشام، يردان هرقل عاهل الروم على أعقابه، ويدفعانه دفعا ليفر إلى عاصمة ملكه.
تم ذلك ولما تنقض من خلافة عمر سنتان، ومن يومئذ حالف النصر أعلام المسلمين حيثما ساروا، ففتحوا المدائن وفتحوا بيت المقدس، ثم تخطوا العراق إلى فارس، وتخطوا الشام إلى مصر فاستقر لهم الأمر فيهما، وكذلك شاد عمر الإمبراطورية الإسلامية في عشر سنوات لتستقر في العالم، وتوجه حضارته الأجيال والقرون.
أليس من حق عمر، وذلك شأنه، أن تردد الألسن اسمه، وأن تذكر من جليل صفاته وعظم مواهبه ما يثير في النفس غاية الإعجاب والإكبار!
وهذا الإكبار يدعونا لتمحيص التاريخ وتحقيق وقائعه، حتى نستكشف العوامل التي أتاحت لعمر تشييد الإمبراطورية، فلولا أن تضافرت عوامل عدة لما كفت عبقريته وحدها لتشييدها.
وقيام الإسلام أول هذه العوامل وأقواها، فالإسلام هو الذي وحد العرب بعد شتات، وجعل من قبائلهم المتنافرة أمة متضافرة، ودفعهم لإذاعة تعاليمه وإعلاء كلمته ودفع من يريدون فتنة الناس عنه.
فقد كان العرب قبل إسلامهم ضعافا أمام الفرس والروم، وكانت مناطق كثيرة من بلادهم خاضعة لنفوذ كسرى ونفوذ قيصر، فلما أسلموا أسرع هذا النفوذ إلى الزوال عن شبه الجزيرة كلها، مع ذلك ظلت هيبة الفرس والروم آخذة بنفوسهم، حتى لقد حسبوا، حينما دعوا لغزو العراق ولغزو الشام، أن حصونهما لا تؤخذ، وأن جنودهما لا تقهر، لكنهم لم يلبثوا، حين تخطوا التخوم وواجهوا هذه الجيوش وحاصروا هذه الحصون، أن تبينوا أن السوس نخرها، فهي كالجدار المتداعي، تنقض أعاليه لأول صدمة، وتندك أسسه ما وجدت المعول القوي الذي يأتي عليها من القواعد.
وإنما قدر العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم؛ لأن الإسلام أنشأهم نشأة جديدة، وبث فيهم روحا أحالتهم خلقا جديدا، ذلك بأنه اقتحم على نفوسهم مناطق عقائدها وعباداتها، واتصل بوجدانهم في صميمه، فألقى فيه بذرة التوحيد صافية الجوهر، نقية من كل شائبة، بسيطة لذلك كل البساطة، ثم إنه فرض عليهم من العبادات ما زادهم بالتوحيد إيمانا وما ربط بين قلوبهم بأوثق رباط، فرض عليهم الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فأما ما وراء ذلك من سالف شعائرهم فقضى عليه إلى غير رجعة، بذلك تحررت نفوسهم من قيود الوهم، وتطهرت قلوبهم من رجس الوثنية، وشعر كل واحد منهم بأنه لا حجاب بينه وبين الله ما عمل صالحا وأجاب داعي الله.
ولم يفرض الإسلام هذه العبادات على أنها شعائر رسمية من شأن الدولة، بل هي فروض الله على المؤمنين به يثيبهم عنها، ويؤاخذهم بتركها، فمن آمن بالله ثم لم يؤد لله فرضه فعلى الله حسابه، ومن أدى فرض ربه وعمل صالحا فله عند الله مثوبة الصالحين، وأعظم بها من مثوبة!
أخذ هذا الإيمان بمجامع القلوب فجمع بينها، فانتقل أثره من الفرد إلى الجماعة، وما كان أعظم هذا الأثر! كان المسلمون يجتمعون للصلاة، فيربط اجتماعهم بينهم، ويمحو توجههم إلى الله ما في نفوسهم من غل، فإذا هم إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤدون فريضة الصوم فإذا غنيهم وفقيرهم سواسية أمام الله والناس، وإذا غنيهم طهر الصوم نفسه يعطف على فقيرهم فينال رضا الله عنه ومثوبته له، ويؤتون الزكاة فتزيل ما بين طوائفهم من نضال؛ لأنها تجعل للفقير حقا معلوما في مال الغني، ويجمعهم الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، ليتواصوا بالصبر والصلاة، وليتعاونوا على البر والتقوى.
وكان النظام الاجتماعي الذي سنه الإسلام بسيطا كالنظام الروحي، فكان له مثل أثره في توحيد الجماعة العربية، كانت المساواة أمام الله أساس التوحيد الإسلامي، والمساواة أمام القانون أساس النظام الاجتماعي، فقد كانت المرأة العربية تعامل قبل الإسلام معاملة غير كريمة، فرفعها الإسلام إلى مقام الكرامة، وجعلها مساوية للرجل أمام الله؛ وإنما فضل الرجل عليها بما أنفق من ماله وما عاملها بالمعروف وجعل صلته بها صلة مودة ورحمة، وكان الفقراء يسامون المهانة، فرفع مكانهم إذ جعل تفاضل الناس عند الله بالتقوى لا بالمال، هذه القواعد وما إليها مما نظم الوحي به شئون الجماعة العربية لعهد رسول الله، وما جعله نظاما للجماعة الإنسانية كلها، قد كان له من الأثر في توحيد العرب وتقوية روحهم المعنوية ما قامت الإمبراطورية الإسلامية على أساسه.
وقد بدت آثار ذلك في حياة الرسول، وبدت تباشير الإمبراطورية المقبلة من خلاله، ففي السنة السابعة من هجرته
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة بعث رسله إلى قيصر وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يدعونهم إلى الإسلام، وقد أغلظ كسرى لرسوله في الجواب، وبعث إلى بازان عامله على اليمن ليجيئه برأس «هذا الرجل الذي بالحجاز»، لكن كسرى قتل قبل أن تصل رسالته إلى بازان، وشعر هذا الأمير الفارسي بقوة محمد وأصحابه، فخلع عن اليمن نير الأكاسرة، وانضم إلى رسول الله، فكان انضمامه الخطوة الأولى في تحرير البلاد العربية من ربقة النير الأجنبي.
وكان رسول الله لا يفتأ بعد ذلك يفكر في الروم ومناجزتهم، فلما كانت السنة التاسعة من الهجرة سار على رأس جيش العسرة إلى تبوك؛ وسمع الروم بمقدمه فخافوه وانسحبوا داخل حدود الشام ولم يلقوه، مع ذلك صالح يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة كما صالح أهل الجرباء وأذرح على الجزية، وأيلة والجرباء وأذرح من أعمال الشام الخاضعة لسلطان الروم، بذلك كانت تبوك قاضية على كل نفوذ للروم في شبه الجزيرة، وكانت أول إرهاص باتجاه الإمبراطورية الإسلامية إلى ناحية الشام.
اختار الله رسوله إليه، فبايع المسلمون أبا بكر بخلافته، وخيل إلى جماعة من العرب أنهم قادرون على الثورة بخليفة الرسول وبدينه، فكان انتصار أبي بكر في حروب الردة دليلا قاطعا على أن العرب أشربت نفوسهم مبادئ التوحيد؛ ولذلك لم يقل أحد من الذين ادعوا النبوة إنهم يدعون الناس إلى وثنيتهم وإلى جاهليتهم الأولى، كما دل على أن الذين امتثلوا هذه المبادئ من أصحاب رسول الله المهاجرين والأنصار قد وهبوا لها نفوسهم فلا غالب لهم، من ثم أسرعت وحدة العرب إلى التماسك والثبات، فلم يمض عام على خلافة أبي بكر حتى كان المسلمون يواجهون الفرس في دلتا الفرات فيقهرونهم، ولم ينقض العام الثاني حتى كانوا يواجهون الروم في الشام ويثبتون لهم، وكذلك مهد أبو بكر للفتح وللإمبراطورية بعد أن هيأ الدين الجديد لها القلوب والأفئدة، ثم تابعه عمر فدفع بالإمبراطورية إلى الحدود التي ذكرناها.
هذه اللمحة السريعة عن نشأة الإمبراطورية تشهد بأن الإسلام دفع إلى نفوس العرب قوة معنوية عظيمة حفزتهم لطرح نير الأجنبي عن كواهلهم، وللاندفاع إلى ما وراء تخومهم، ومواجهة الفرس والروم في أعقار دورهم، والقوة المعنوية أس الظفر في كل نضال، ذلك بأن صاحبها لا يعرف الهزيمة ولا يرضاها؛ فإذا ارتد يوما لم يوهن ذلك من عزمه، بل حفزه لمضاعفة الجهد، وجعله يستهين بكل صعب، ويستهين بالحياة نفسها في سبيل الظفر بالغاية التي يريد بلوغها، وتاريخ العالم من أقدم العصور إلى وقتنا الحاضر شهيد بأن الفوز في النضال قد كان دائما لصاحب العقيدة الثابتة والإيمان الراسخ؛ لأن هذا الإيمان وهذه العقيدة يورثان صاحبهما من القوة ما يجعل الجبل إذ يقول له انتقل من مكانك ينتقل.
أقامت العقيدة إذن بناء الإمبراطورية الإسلامية، ومن هنا كان الرسول بهذه العقيدة، محمد
صلى الله عليه وسلم ، هو الذي وضع الأساس الثابت لهذا البناء، ثم كان صفيه وخليله أبو بكر هو الذي مهد لقيامه بما قضى على الذين حاولوا مناوأة هذه العقيدة، وحين دفع العرب فتخطوا تخوم العراق وتخوم الشام، وجاء عمر من بعده فأتم هذا البناء وتركه متين الدعائم، فازدادت رقعته فسحة بقوته الذاتية المنبعثة من روح الإسلام، وظلت هذه الرقعة تنفسح ، حتى أصاب الفكرة الدافعة لإقامة الإمبراطورية ما أصابها؛ إذ غشت عليها أوهام، ما أشبهها بأوهام الجاهلية، أثارت التنازع والبغضاء بين المسلمين.
وقد روينا حديث التاريخ عن عهد رسول الله وعهد أبي بكر، فرأينا ما كان لهذه القوة المعنوية من أثر في نفوس المؤمنين بالعقيدة الباعثة لها، وفي هذا الكتاب من أعمال البطولة التي قام بها المؤمنون في عهد عمر ما يثبت إيمانك بأثر هذه القوة، وما يدحض قول الذين قالوا: إنما اندفع المسلمون لقتال الفرس والروم حبا للغزو وتهافتا على مغانمه، فكيف لأمة قليلة العدد والعدة أن تخاطر بغزو جيران يزيدون عليها في العدد والعدة أضعافا مضاعفة، لغير شيء إلا إرضاء هوى الغزو الكمين في طبعها! ومتى وهب الناس حياتهم راضين طمعا في مغنم قد تذهب حياتهم قبل أن يبلغوا منه قليلا أو كثيرا! ألا إنه الإيمان الصادق بالعقيدة السليمة هو الذي سما بنفوس هؤلاء المسلمين الأولين فخلدوا على التاريخ من صحف المجد ما قل في التاريخ نظيره، وليس هذا التقديم موضعا لسرد ما فعلوا، فسيجده القارئ مفصلا في خلال الكتاب، مقنعا كل منصف يريد الاقتناع بالحق بأن القوة التي بثها الإسلام في نفوس الذين أخذوا في ذلك العهد بمبادئه هي التي دفعتهم إلى ميادين المجد والشرف، وهي التي حببت إليهم الاستشهاد في سبيل الدعوة إلى الحق الذي أوحاه الله إلى رسوله، ومن أحب الاستشهاد في سبيل الله انتصر لا محالة.
ولو أن القوة المعنوية التي اندفع المسلمون بتأثيرها واجهت قوة معنوية تقف في سبيلها لتغير، ولو إلى حد، وجه الحوادث، لكن دولتي الفرس والروم كانتا تسيران مسرعتين إلى الانحلال؛ فلم يكن لأيتهما من الجلد ما يمكنها من الثبات أمام الغزاة المؤمنين، فقد كان النزاع على العرش في بلاط كسرى بالغا أشده، وكانت الثورات والحروب الداخلية تنشب الحين بعد الحين بسببه، ولم يكن الروم أحسن حالا؛ فقد ثار هرقل بالقيصر فوكاس وقتله وجلس على عرش بزنطية مكانه، ثم إنه رأى النزاع الديني بين الفرق المسيحية يفت في عضد الإمبراطورية، فأراد فرض مذهب رسمي تتوحد فيه هذه المذاهب ويؤمن به المسيحيون جميعا، فانقلب سعيه وبالا عليه؛ لأنه لم يدع إلى مذهبه بالحسنى، ولم يتخذ إليه سبيل الحكمة والموعظة الحسنة، هذا إلى أن فارس والروم كانتا في حروب متصلة؛ تغزو فارس أرجاء الروم فتنتزع منها الشام ومصر، ثم يسترد هرقل للروم ما انتزعه الفرس منهم، فتذيب هذه الحروب الدولتين وتذهب بريحهما، وكان من أثر هذه الأحداث أن كان الشعب الفارسي ينظر إلى أعمال الأكاسرة وبلاطهم، فيرى عبثا يصرفه عن التشبث بنصرتهم، وكانت الشعوب الخاضعة للروم تجد من ظلم القياصرة وعمالهم ما يخذلها عن القيام بمعاونتهم، لهذا كله تداعت القوة المعنوية في فارس وفي الروم، فلم تستطع أي الدولتين أن تصد التيار الجارف الذي اندفع إليهما من شبه الجزيرة.
وثم عامل آخر لا يصح إغفاله، ذلك هو انتشار العرب في العراق والشام، وقيام الملوك اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام، هؤلاء وأولئك لم يلبثوا - حين رأوا بني عمومتهم يقاتلون الفرس والروم ويحالف النصر أعلامهم - أن انضم كثيرون منهم إلى صفوف المسلمين في القتال عونا لهم، وإن لم يدخلوا من بادئ الأمر في دينهم، وقد كان لهذه المعاونة من الأثر في غزوات عدة ما خذل الفرس وخذل الروم، وأسرع بالمسلمين إلى قهرهم واكتساح بلادهم.
هذه أهم العوامل التي أدت إلى قيام الإمبراطورية الإسلامية بالسرعة التي قامت بها، وإلى استقرارها بعد ذلك القرون الطوال، على أن الفضل في هذا الاستقرار يشترك فيه عامل آخر كان له أعظم الأثر، هذا العامل هو السياسة التي أديرت على مقتضاها شئون البلاد المفتوحة وشئون البلاد العربية نفسها، ولعمر بن الخطاب في إقرار هذه السياسة حظ عظيم.
صحيح أن المبادئ الأساسية لهذه السياسة ترتكز على قواعد الإسلام وتعاليمه، وقد فصل رسول الله وفصل أبو بكر من بعده بعض هذه المبادئ تفصيلا اقتدى به عمر، فكان قوي الأثر في توجيهه، وعلى أساس من هذه المبادئ وهذا التوجيه أنشأ عمر للبلاد العربية وللإمبراطورية كلها نظاما اتبع في عهده، واتبع زمنا من بعده ، وهذا النظام هو الذي صان الإمبراطورية وأبقاها، ثم كان له أعمق الأثر في إسلام أهل فارس والعراق والشام ومصر وغيرها من البلاد التي انضمت من بعد إلى العالم الإسلامي، وقد اجتهد عمر برأيه في وضع هذا النظام اجتهادا يسجل له في صحف التاريخ مجدا لا يقل عن مجده في بناء الإمبراطورية إن لم يزد عليه.
وسيرى القارئ من تفصيل هذا النظام في فصول الكتاب ما يغني عن القول فيه هنا، على أنني أضرب منه مثلا، ذلك أن الغزاة المسلمين أرادوا أن يقسم الخليفة بينهم سواد العراق وأرض الشام على أنها فيء غنموه، فأبى عمر ذلك عليهم، وترك الأرض لأهل البلاد يستغلونها كما كانوا يفعلون من قبل، لقاء خراج يدفعونه عنها، ولم يكفه هذا، بل بعث رجالا قاموا بمساحة هذه الأراضي وبجلب المياه إليها لتسهيل ريها وتيسير كل السبل لاستغلالها، ومن قبيل ذلك أنه أقر سياسة عمرو بن العاص حين حبس من خراج مصر وجزيتها ما يقتضيه إصلاح الترع والجسور، ولم يبعث إلى المدينة إلا بما فاض عن ذلك.
ثم إنه رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريا لكثير منهم بالدخول في الإسلام، وإسلامهم هو الذي جعل منهم في أجيال قليلة هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف، وقد أعفاهم عمر من الجزية وساواهم بالفاتحين وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن رد الحكم في هذه البلاد إلى أهلها، ومع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه؛ لأن المسلمين لم يفتحوا هذه البلاد لإخضاع أهلها، وإنما فتحوها لتكون الدعوة للإسلام حرة فيها، فإذا أسلم بنوها أصبحوا بنعمة الله إخوانا للمسلمين الفاتحين، لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الواجبات ما عليهم.
أما وقد كانت هذه سياسة عمر، وكان هذا هو النظام الذي وضعه للإمبراطورية الناشئة، فطبيعي أن يذكره المسلمون على كر الدهور في أرجاء العالم الإسلامي كله، وأن يقرنوا ذكره بكل إجلال وإكبار، وقد فعلوا، ولن يزالوا يفعلون، ولذلك أرخ العلماء والكتاب لعمر أكثر مما أرخوا لغيره من أمراء المؤمنين، لم يثنهم عن ذلك أن لم تكن لعمر بطانة تدعو إليه وتدفع الناس بمختلف الوسائل للإشادة بذكره.
بل لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا إليه أمورا أدنى إلى المعجزات التي خص بها الأنبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تم في عهده مما يقره النقد التاريخي؛ يقيم له في صحف التاريخ صرحا عاليا باقيا إلى الأبد.
ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثم رأيتني بعد ذلك مضطرا إلى أن أثبت حوادث يتصور العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها، وما كان لي ألا أفعل، ومن هذه الحوادث ما يزيد صورة عمر وضوحا، ومنها ما يتصل بسياسته في الحرب وبسياسته في إدارة شئون الدولة أوثق اتصال، على أنني حاولت أن أفسر ما استطعت تفسيره من هذه الحوادث على هدي البحث العلمي، وأكبر رجائي أن يكون التوفيق قد صادفني فيما حاولته من ذلك.
على أن هذه الصعوبة في التمحيص والتفسير ليست كل ما يلقاه المنقب في كتب الأقدمين عن سيرة عمر، بل إنك لترى هؤلاء الأقدمين يختلفون في بعض الأحيان على الوقائع اختلافا يقف الإنسان منه موقف الحيرة، ثم إن من هؤلاء المؤرخين من يسهبون في طائفة من الوقائع ويتناولون أدق تفاصيلها، على حين يجملون طائفة أخرى إجمالا لا تكاد تبين معه دلالتها، وأسوق مثالا لذلك: إن الطبري وابن الأثير والبلاذري يتحدثون عن وقائع الغزو في العراق بإسهاب تكاد ترى معه أعمال كل بطل من أبطال هذه الوقائع، فإذا انتقلوا إلى سياسة المسلمين وإدارتهم للبلاد بعد فتحها أجملوا الحديث فيها إجمالا لا يتفق بحال مع إسهابهم الأول، وهؤلاء المؤرخون أنفسهم أقل إسهابا حين الحديث عن فتح الشام، وإن كانوا مع ذلك قد وفوه حقه، أما حديثهم عن مصر فموجز إيجازا لا يبالغ من يسميه مخلا، وحسبك لتشاركني في هذا الرأي أن تعلم أن الطبري قد أفرد لغزوة القادسية وحدها أكثر من ستين صفحة، وقد تحدث عن فتح المدائن في اثنتي عشرة صفحة، ثم لم يجعل لفتح مصر كلها غير خمس صفحات.
ولا شك في أن غزوة القادسية جديرة بأعظم العناية في التأريخ لها؛ فهي التي مهدت للمسلمين العود إلى العراق بعد أن أجلاهم الفرس عنه، وفتحت لهم أبواب المدائن ثم أبواب فارس كلها، لكن فتح مصر لم يكن دون فتح العراق وفتح فارس خطرا، وكان لذلك جديرا، بأن يلفت هؤلاء المؤرخين ليتوفروا على استيفائه أكثر مما فعلوا.
وقد نلتمس لهؤلاء المؤرخين من العذر أنهم دونوا ما استطاعوا الوقوف عليه من الروايات، أو أنهم كانوا أكثر عناية بالبلاد التي نشئوا فيها منهم بالبلاد البعيدة عنهم، ولا أراني في حاجة إلى الاعتذار عنهم ولا إلى نقد طريقتهم وقد فصلت بيننا وبينهم قرون عدة، وأنا بعد بصدد الحديث عما يلقاه من يؤرخ اليوم لذلك العصر القديم من جهد، ولذا أسارع إلى القول بأن في متناول هذا المؤرخ مادة لا ينضب معينها يستطيع أن يسد بها كل نقص، فما أجمله الطبري وابن الأثير وابن خلدون والبلاذري وابن كثير قد فصله غيرهم تفصيلا يقف منه الإنسان على ما يشاء، أشرت إلى إجمال هؤلاء تاريخ الفتح العربي لمصر؛ لكن هذا الفتح مفصل في كتب أخرى أدق تفصيل، فقد كتب ابن عبد الحكم والسيوطي وابن تغري بردي عنه وفصلوه ما فصل الطبري فتح العراق، والكتب التي وضعت في لغات غير العربية تلقي من الضياء على تاريخ الفتح الإسلامي والإمبراطورية الإسلامية ما لا غنى لمؤرخ عن الاستنارة به ، وتمحيص الوقائع بموازنة ما جاء عنها في كتب المؤرخين على اختلاف لغاتهم ومناهجهم وميولهم خير عون على الاهتداء إلى الحق، هذا إلى ما لمؤرخي العصر الحديث في الشرق والغرب من فضل في بحث ما أوردته كتب الذين سبقوهم وفي تمحيصه وإبرازه في صورة تتفق ومألوف هذا العصر في التفكير والتقدير، أما ومادة التاريخ متوافرة هذا التوافر فلن يصد الجهد باحثا عن الاستفادة منها في الناحية التي يريد أن يعرض لها ويطالع الناس بما يعتقده الحق فيها.
فلكل مؤرخ ناحية تستأثر بعنايته يتوفر على دراستها ويجعل ما سواها سندا له في هذه الدراسة، والمؤرخ الذي ينقطع لدرس عهد بذاته من كل نواحيه يقسم هذا العهد، وإن قصر، ويفرد لكل ناحية منه دراسة خاصة قد تستغرق المجلد أو المجلدات، فإذا أراد أن يلخص هذه النواحي جميعا كان تلخيصه أدنى إلى البحث في فلسفة التاريخ منه إلى التاريخ نفسه.
ولنأخذ موضوع عمر مثلا يوضح ما تقدم، فقد يعنى المؤرخ بشخص عمر ويقف عنده، ويجعل من كل ما يقع في بيئته وعصره وسيلة للمزيد من إيضاح صورته، وقد يعنى بعهد عمر في ناحيته الاقتصادية أو في ناحيته الاجتماعية أو في غير هاتين الناحيتين من نواحي الحياة العربية، وبما كان لعمر من أثر في الناحية التي جعلها المؤرخ غرض دراسته، وكل واحدة من هذه النواحي جديرة بعناية خاصة في الدرس، كفيلة بأن تبرز للناس سفرا قيما يجمع بين المتاع به والفائدة منه، ودراسة الحياة الأدبية للجماعة العربية في عهد عمر دراسة مستفيضة كفيلة بأن تبين للناس كيف تأثرت هذه الحياة بالتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية التي سبقت هذا العهد وعاصرته، وأن تضيف إلى المكتبة العلمية ثروة علمية وأدبية أعظم بما فيها للناس من متاع وفائدة.
وقد تناولت في هذا الكتاب، كما تناولت في «حياة محمد» وفي «الصديق أبو بكر» نواحي من الحياة العربية لذلك العهد، رأيت تناولها مما يكمل به ما عرضت له من بحث، لكني لم أتناولها بدراسة مستفيضة؛ لأنها لم تكن غرضي الذي قصدت إليه، بل تناولتها بالقدر الذي يتم به هذا الغرض، فأما ما قصدت إليه من وضع هذه الكتب فقد بينته في تقديم كل واحد منها، فقلت في تقديم «حياة محمد» إنه: بينما يقوم بين الشرق والغرب تعاون علمي جدير بأن يؤتي خير الثمرات، إذا طائفة من رجال الكنيسة المسيحية ومن كتاب الغرب لا يفترون عن الطعن على الإسلام وعلى محمد، وإذا الاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، ويؤيد في الوقت نفسه دعاة الجمود من المسلمين، ويخاصم من يحاربون هؤلاء أو أولئك، وقد رأيت ما يحدث من ذلك في بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، ورأيت ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة، فشعرت بأن علي واجبا لا مفر لي من القيام به، فعمدت إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين المسلمين من ناحية أخرى، على أن تكون دراسة علمية خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده، وهذه الدراسة جديرة لذاتها بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تتلمسها.
أما كتاب «الصديق أبو بكر» فقد بدأت فيه بدراسة الإمبراطورية الإسلامية وأسباب عظمتها وانحلالها؛ لأن هذه الإمبراطورية قامت على أساس من تعاليم النبي العربي وسننه، ولأن الشعوب التي تمخضت عنها هذه الإمبراطورية بعد انحلالها ترتبط كلها بالإسلام، ويرتبط أكثرها بالعربية، وقد عقد بينها الماضي صلات لا انفصام لها ما بقي الإسلام وما بقيت اللغة العربية، وفي تنظيم هذه الصلات خير للإنسانية عظيم ولا سبيل إلى هذا التنظيم إلا معرفة ما كان بين هذه الأمم في الماضي من صلات، فمعرفة الماضي هي سبيلنا لتشخيص الحاضر ولتنظيم المستقبل.
وهذا الكتاب عن عمر حلقة ثالثة من هذه السلسلة، لكنها تختلف عن الحلقتين الأوليين، كما تختلف كل واحدة من هاتين الحلقتين عن الأخرى اختلافا ظاهرا، هذا مع توالد الحلقات الثلاث كل واحدة عن سابقتها، كما تخرج الجذور من البذر، ثم ينبثق الجذع باسقا من الجذور، ثم تتفرع الأغصان من الجذع، قد تذبل الأغصان ويبقى الجذع مع ذلك قوي الحيوية، بل قد يجف الجذع ثم تبقى الجذور سليمة قادرة على أن تنشئ جذعا أقوى وفروعا أكثر نضارة، فإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية قد انحلت فلا يزال الإسلام الذي أنشأها قديرا على أن ينشئ وحدة إنسانية عظيمة تلائم روح العصر ونظامه.
وقد اقتضاني تصوير النشأة الأولى للإمبراطورية الإسلامية أن أتناول بالبحث نواحي الحياة المختلفة لشبه الجزيرة والبلاد التي فتحها المسلمون الأولون؛ على أنني لم أقف عند هذه النواحي إلا بالقدر الذي اقتضاه قيام هذه الإمبراطورية، وليس هذا القدر مع ذلك باليسير؛ فهو يجلو صورة، وإن موجزة، للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد العرب، وصورة مثلها قد تكون أكثر إيجازا لنواحي الحياة في البلاد المفتوحة، وقد حاولت هذا التصوير في الكتابين السابقين من هذه السلسلة، ثم حاولته على وجه أوفى في هذا الكتاب، وبخاصة ما اتصل بشئون الفرس والروم، وأكبر رجائي ألا يبلغ هذا الإيجاز مبلغا يقصر عن أن ينقل إلى ذهن القارئ ما أردت تصويره.
وهذه الحلقات الثلاث التي تؤرخ لنشأة الإمبراطورية الإسلامية والعالم الإسلامي، تصور فترة من تاريخ العالم هي لا شك أمتع الفترات في الحياة الإنسانية، وأكثرها وقفا للنظر، وإيحاء للتفكير والتأمل، فهي تدل على أن الحياة الإنسانية فكرة أولا وقبل كل شيء، وهي في إقامتها هذا الدليل ترسم لنا سلسلة من الصور تعاقبت في زمن قصير تعاقبا محتوما، ولكنه مع ذلك فذ في تاريخ الإنسانية مذ كانت الإنسانية، ذلك بأنها تصور الفكرة المستجمة في نفس من أعده القدر ليبلغ العالم رسالته؛ وظهور هذه الفكرة بوحي من الله إلى رسوله ليدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقيام الناس في وجه الفكرة ومحاربتهم لها ابتغاء وأدها والقضاء عليها، وانتصار الفكرة بانتصار رسولها، وإقبال الناس لذلك عليها مأخوذين بعظمته وقوة شخصيته؛ وانصراف الناس بعد وفاة صاحب الفكرة إلى مألوف حياتهم فرارا من فروضها؛ وقومة من صدق إيمانهم بالفكرة وإعادتهم المرتدين إلى حماها وإلزامهم أداء فروضها؛ وتأصل الفكرة بعد ذلك في الوجود تأصلا جعل منها قوة لا قبل لشيء في الحياة بها ولا قدرة لسلطان أن يتغلب عليها؛ وبلوغها من هذا التأصل مبلغا جمع إليها عالما يغرس في أقطار الأرض المختلفة أصولها، أية صورة أروع من هذه الصورة وأكثر إمتاعا للعقل والقلب والمدارك! وهل قام في تاريخ العالم دليل على قوة الفكرة لذاتها ومقدرتها على اكتساح الإمبراطوريات مثل هذا الدليل؟!
لا ريب في أن تاريخ الإنسانية يتلخص كله في بضعة أفكار رئيسية قام نظام العالم على أسسها، وقد سلكت كل واحدة من هذه الأفكار طريقها إلى النفوس وتركت على الحياة أثرها، لكن كل واحدة منها لم تكن تكاد تظهر حتى تلقى من المقاومة ما يردها إلى حدود ضيقة تنكمش فيها ليرددها الناس من بعد يريدون تمحيص ما تنطوي عليه من حق ونفي ما يخالطها من زيف، ثم ينتهون إلى صورة معدلة من الفكرة الرئيسية يرتضون العيش في كنفها، وهم لا ينتهون إلى الصورة المعدلة قبل أن تنقضي أجيال ويستحر نضال وتسيل دماء وتزهق أرواح، ثم تكون في أثناء ذلك كله محل أخذ ورد ونفي وإثبات وتعديل يجعل ما تنتهي إليه شيئا مختلفا عن صورتها الأولى جد الاختلاف.
بل إن من الأفكار ما يظهر ثم لا يحتمل النضال، فيختفي إلى غير عودة، ولدينا من ذلك مثل يقابل قيام الإسلام حين نشأته، ذلك ما حاوله هرقل من توحيد المذاهب المسيحية وإدماجها في مذهب رسمي يفرض في أرجاء الإمبراطورية كلها، فقد بذل هرقل غاية جهده لتنجح محاولته: جمع المجامع من كبار رجال الدين وفرض عليهم أن يتفقوا، واتفق من هؤلاء الرجال من اتفق، وأقام على رأيه من أقام، ثم إن الإمبراطور أرسل عماله إلى الشام وإلى مصر وإلى غيرهما من البلاد الخاضعة لسلطانه يدعون الناس إلى المذهب الرسمي طوعا وكرها، ولجأ هؤلاء العمال إلى كل الوسائل لتنفيذ ما أمرهم هرقل بتنفيذه، مع ذلك التوى القصد عليهم، وثار الناس في كل البلاد بهم، فأخذوا الثائرين بألوان النكال، فكانت مآس ومذابح انتهت كلها إلى إخفاق الإمبراطور فيما حاول، وقد رأى هذا الإخفاق بعينه قبل أن يموت، ولعله سأل نفسه مرات وظل يسأل إلى ساعته الأخيرة: كيف نجح النبي العربي ولا سلطان له في إقامة دين جديد، وأخفق هو، وله من الأيد والسلطان ما له، في جمع الناس حول مذهب موحد لدين استقر في العالم أكثر من ستة قرون؟!
وهو قد عجز، ولا ريب، عن أن يظفر بجواب على سؤاله، فلو أنه ظفر بهذا الجواب لما ترك عماله يمعنون في إرهاق الناس وفي تعذيبهم وقتلهم، حتى يفتح المسلمون سورية ويفتحوا مصر ويجلوه وجنوده عنهما ويضطروهم إلى الفرار منهما، ولو أن بطش الملك لم يطغ على تفكيره ولم يحجب الجواب عنه لاهتدى إليه، فهذا الجواب بسيط كل البساطة؛ وهو أن النبي العربي نجح؛ لأنه لم يكن له سلطان غير سلطان العقيدة السلمية التي دعا الناس طوعا بأمر ربه إليها، وأن هرقل أخفق؛ لأنه أراد إكراه الناس على مذهب لم تهتد بصائرهم إلى أنه خير مما يؤمنون به، وقد نجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يتعصب لغير الحق، فكان يقول بوحي ربه:
آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، وأخفق هرقل؛ لأنه تعصب لمذهب على غيره من مذاهب تنسب كلها لعيسى عليه السلام ولحوارييه، ونجح النبي العربي؛ لأنه لم يكن يبتغي للناس غير الهدى إلى سبيل ربهم، فكان يقول لوفد النصارى الذين جاءوا من نجران يجادلونه:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وأخفق هرقل لأنه أراد أن يتخذ بعض الناس بعضا أربابا من دون الله، فثار الناس به حين رأوا دعوته وليس فيها من الحق ما يصرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. لهذه الأسباب نجح النبي العربي بإذن ربه، وقامت على أساس دعوته إمبراطورية استقر فيها ما دعا إليه. وكانت هذه الإمبراطورية قمينة أن تضم العالم كله في كنفها لولا أن غير أصحابها ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.
وإنما غير المسلمون ما بأنفسهم يوم افترقوا مذاهب وشيعا، فنقلوا تفكير الناس وعنايتهم من جلال العقيدة في صفاء جوهرها، إلى الخوض في التفاصيل والجدل فيها جدلا زاد بينهم شقة الخلاف وجعل بعضهم لبعض عدوا. وطالما عاب رسول الله ثم عاب أبو بكر وعمر من بعده من دار مثل هذا الجدل بخواطرهم. بل لقد نبههم رسول الله إلى أن من هلك قبلهم من الأمم إنما هلك بسبب المجادلة في أمور لا يؤدي الجدل فيها إلى حق ولا ينشأ عنه غير الخلاف والتنازع والبغضاء. فقد رأى المسلمون الأولون ما في ذلك من حق فامتثلوا أمر النبي، وأيقنوا أن الذين يجادلون في الدين إنما مثلهم كمثل اليهود والمنافقين الذين كانوا يندسون بين المسلمين يسألونهم: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟ أو يسألونهم عن الروح، يحاولون بهذه المسائل وبمثلها أن يدسوا إلى عقولهم الشك في عقيدتهم. وقد كان الوحي ينزل بالجواب على بعض هذه المسائل في إيجاز حاسم، فيقول الله تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ، ويقول:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، ويقول:
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، ويقول:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء .
وكان عمر أشد الناس كراهية للاختلاف، فكان يهدد الذين يختلفون ولو كانوا من أصحاب رسول الله ومن أرفعهم مكانة عند المسلمين. ولا عجب في أن يكون ذلك شأنه، وسترى من بعد أنه يتفق مع تفكيره في جاهليته وفي إسلامه. وليس يرجع ذلك إلى ما زعمه بعضهم من ضيق أفقه؛ فقد كان عمر من أكثر أهل زمانه علما وأوسعهم أفقا، بل لأنه كان يقدم نظام الجماعة على كل اعتبار، ويرى في ثبات هذا النظام واستقراره أقوى كفيل بخير الأفراد وبخير المجموع كله.
كيف يتفق هذا النفور الشديد من الاختلاف في الرأي مع دعوة الإسلام إلى النظر والتدبر والحكم؟ وكيف يمكن لحرية الرأي أن تستقر في بيئة يهدد صاحب السلطان فيها بمعاقبة المختلفين؟
هذا اعتراض أورده بعض المستشرقين بالفعل. ونحن ندفعه هنا، لغير شيء إلا أن تاريخ الفكر الإنساني ينفيه. فكثرة العلماء تذهب الآن إلى أن التجريد المنطقي في الفروض النظرية إنما تسلط على تفكير الإنسانية في العصر الميتافيزيقي حين لم يجد الذهن من المقررات العلمية سندا له في الحياة، فكان هذا التجريد ملجأ نشاطه. وهو قد اتجه بهذا التجريد إلى نظريات لا تثبت عن طريق العلم، وتناول به أمورا يدخل معظمها في دائرة ما سماه هربرت سبنسر «ما لا سبيل إلى معرفته
The unknowable » فلما استقر العلم وقامت الفلسفة الواقعية على أساسه، أصبح هذا التجريد المنطقي ترفا عقليا ضعيف الأثر في حياة العالم الفكرية. فإذا كان رسول الله وكان خلفاؤه الأولون قد نهوا عن الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته، لأن هذا الخوض يثير الخلاف والتنازع، فهم بذلك لم يحرموا حرية الفكر، بل قاوموا طريقة بذاتها من طرق التفكير يصفها العلم اليوم بأنها طريقة الجدل العقيم.
فأما صور التفكير المستندة إلى وقائع الحياة والوجود، والتي يعتبرها العلم اليوم موضع نظره ومجال بحثه، فكانت محل التشاور والعناية في ذلك العهد، وكان ما يتصل منها بشئون الحكم والقضاء مدار الاجتهاد بالرأي، فإن أصاب المجتهد فمن الله، وإن أخطأ فمن نفسه ومن الشيطان.
وسيرى القارئ في صلب الكتاب تفصيلا لبعض ما حرم الاختلاف فيه وحكمة هذا التحريم. وحسبي أن أشير إلى نهي رسول الله عن الخوض في مسألة القدر لنستبين هذه الحكمة. فقد أثارت مسألة القدر في عصور التجريد «الميتافيزيقي» أشد الخلاف وأعظم الجدل، وهي مع ذلك لم تنته ولا يمكن أن تنتهي يوما إلى نتيجة. وهذا دليل على أن النهي عن الخوض فيها كان الحكمة عين الحكمة. وتبلغ هذه الحكمة حد البداهة إذا ذكرنا أن الدين كان يومئذ في إبان نشأته، وأن اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يحاربون مبادئه الرئيسية بإثارة ما قد يتصل بها من المسائل الجدلية، لينشروا حول هذه المبادئ جوا من الريبة يصرف الناس عنها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصدر الأول للإسلام كان عهد جهاد متصل، وأن ما يؤدي إليه الجدل من الاختلاف يجني على هذا الجهاد ويضر بالجهد الذي يبذل لنجاحه، لم يبق للاعتراض الذي أورده بعض المستشرقين أساس، وكان لشدة عمر في النهي عن كل ما يثير الخلاف مسوغ بل موجب.
لا أستطيع، وقد أجملت في هذا التقديم ما تضافر من العوامل لقيام الإمبراطورية الإسلامية، ألا أتحدث عن عمر نفسه. فسيرى القارئ صورته واضحة قوية الأثر في كل فصل من فصول هذا الكتاب. وقد يرى من بروز شخصيته ما يدعو للموازنة بينه وبين أبي بكر. لهذا أسارع قبل الحديث عن عمر فأثبت هنا نص ما ذكرته في تقديم «الصديق أبو بكر» إذا قلت: «قد يبلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما. وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العامل كله. ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب؛ فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتمم له، كدين خلافة الصديق لعهد رسول الله وإتمامها له.»
على أنه إذا لم يكن للموازنة بين العهدين موضع وعهد عمر متمم لعهد أبي بكر، فإن الموازنة بين الرجلين يسيرة، ومن شأنها أن تجلو لنا من صورتيهما ما يزيدنا إدراكا لقيمة ما أحرزه كل منهما من الفوز في عهده. ولسنا نجد في هذه الموازنة تصويرا خيرا من تصوير رسول الله حين شاور المسلمين في أسرى بدر، فأشار أبو بكر بقبول الفداء منهم، وأشار عمر بضرب أعناقهم. فقد ضرب رسول الله للمسلمين في كل من الرجلين مثلا؛ فأما أبو بكر فمثله في الملائكة كمثل ميكال ينزل برحمة الله وعفوه على عباده، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم، كان ألين على قومه من العسل. قدمه قومه إلى النار وطرحوه فيها فما زاد على أن قال:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون . وأن قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم
ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وكمثل موسى إذ يقول:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
هذه الصورة تصف كلا الرجلين في حياة الرسول أدق الوصف. فلما استخلف أبو بكر بقي على رفقه ولينه في كل أمر لا يتصل بعقيدته وإيمانه. فأما ما اتصل بالعقيدة والإيمان، فلم يكن موضع رفق أو لين عنده؛ ذلك أن نفسه كانت تنطوي على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى مقدرة ممتازة في بناء الرجال وإبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة؛ لذلك كان إذا عهد إلى أحدهم في أمر ترك له من الحرية في تنفيذه ما يتفق وثقته به، وثقته بحسن تقديره هو في اختيار هذا الرجل، ومن ثم رأيناه يضع الخطط العامة لقواده في حروب الردة وفي غزو العراق والشام، ويترك تفصيلها لهم ولا يسألهم حسابا ما نجحوا في مهمتهم. فإذا لم يصادفهم التوفيق فكر في سبب إخفاقهم والتمس الوسيلة لعلاجه. كذلك فعل حين أبى على القواد الذين لم ينتصروا في حروب الردة وفي غزو الشام أن يعودوا إلى المدينة، حتى لا يوهن عودهم إليها من يقيمون بها، وحين وقف قواد الشام موقف الجمود أمام الروم، فأمدهم بخالد بن الوليد ونقله إليهم من العراق، حتى ينسي الروم وساوس الشيطان.
ولم يكن ذلك شأنه مع القواد في وقائع الحرب وكفى، بل كان كذلك شأنه في الأمور الدينية؛ لا يتدخل فيما عهد منها إلى عماله إلا لتقويم معوج أو إصلاح فاسد. أما ما سارت الأمور سيرتها السليمة فهو يدعها لينصرف إلى غيرها من شئون الدولة؛ ولهذا ترك زيد بن ثابت بعد أن عهد إليه في جمع القرآن يقوم بمهمته، فلم يكن يتدخل في عمله إلا حين يطلب زيد إليه رأيه.
والأمير الذي يقف من سياسته عند الأمور العامة مطمئنا إلى عماله واثقا بهم، يبرز اسم عماله إلى جانب اسمه، فيحسب من لا يتعمق في الأمور أن لبعض العمال فضلا أعظم من فضله. وهذا خطأ في التقدير؛ فالفكرة الأساسية هي كل شيء في كل عمل. وحرية العامل الموثوق به في تولي التفاصيل تزيد هذا العامل نشاطا وإقداما على الاضطلاع بالتبعات، وحرصا على الفوز بمزيد من ثقة الأمير به، ليزداد ركونه إليه وتقديمه له.
كانت هذه السياسة متفقة مع طبيعة أبي بكر وما عرف من لينه ورفقه وحسن إيمانه وقوة عقيدته، متفقة كذلك مع سنه؛ فقد تولى الخلافة حين جاوز الستين من عمره، ضعيف البدن رقيقه. أما عمر فتولى الخلافة وسنه حول الخمسين، وفيه من قوة الشباب ونشاطه ما لم يكن لأبي بكر. ثم إن عمر كان عنيفا بطبعه، قوي البدن، جم النشاط في كل شيء، لا تكمن ذاتيته حتى تبرزها الحوادث في جلال قوتها، بل كانت ذاتيته دائمة البروز، وكان لذلك حريصا على أن يتولى الجليل والدقيق من شئون المسلمين أفرادا وجماعات ما استطاع. وهذا البروز في الذاتية كان يدفعه - مع ثقته بمن يعهد إليهم في أمور الدولة - إلى أن يجعل عينه دائما عليهم وأن يكون دائم الاتصال بهم، حتى تخاله وهو بالمدينة حاضرا مع من كان منهم بالعراق أو بالشام أو بفارس أو بمصر. وهذا الاتصال وهذه المراقبة جعلاه دقيق المحاسبة لهم دقة ثارت لها غير مرة نفوس بعضهم. ولو أن من ثارت به نفوسهم كان رجلا غير عمر في قوته وصلابته وبأسه لكان لهذه الثورة من الأثر ما يخشى ألا تحمد عاقبته.
وكان لذاتية عمر وبروزها أثر في الحياة العقلية كأثرها في إدارة الشئون العامة؛ فقد كان من أكثر المسلمين اجتهادا بالرأي، كان ذلك شأنه في حياة الرسول وفي حياة أبي بكر، ثم كان المجتهد الأول في خلافته، فلم تعرض مسألة تعني الجماعة الإسلامية إلا كان له فيها رأي، ولم تكن مسألة فقهية إلا كان ما يستقر عليه حكمه فيها حجة يأخذ بها الناس في عهده، ويأخذ بها الناس من بعده، وسترى أنه خالف رسول الله وخليفته أبا بكر غير مرة، وأن الوحي أيد رأيه أحيانا وخالفه أحيانا أخرى، وأن الناس في خلافته كانوا يطمئنون إلى اجتهاده أيما اطمئنان. ولقد زاد في قدر رأيه أنه اطرح وراء ظهره كل مصلحة خاصة وكل اعتبار ذاتي، وأنه تجرد لله ولدين الله ولخير المسلمين تجردا لم يوصف به أحد من أمراء المؤمنين بعده.
ولو أن ما روي عن إنكار نفسه كان كله صحيحا لكن عمر مثلا فذا في التاريخ، ولكان أدنى إلى مراتب الأنبياء والرسل منه إلى مراتب العظماء.
1
فهذا الرجل الذي بلغ أسمى مكانة في عصره، فكان العاهل المطلق اليد في الإمبراطورية الكبرى لعالم يومئذ، قد كان يأبى على نفسه كل ما يرفه عنها، ويحرص على أن يعيش عيش الفقير ليمسه ما يمسه. على أن زهده في الدنيا لم يكن زهد عائف عنها، بل كان زهد قادر عليها متحكم فيها؛ ولذلك كان - مع شدة ورعه وعظيم تقواه - ينكر صنيع أولئك المتنسكين الذين يرون في الحرمان متاعا ولذة، والذين يخفضون من أصواتهم إذا تكلموا ويتباطئون في مشيهم إذا ساروا، يريدون أن يقول الناس عنهم إنهم نساك؛ ذلك لأنه كان يمقت الضعف في كل مظاهره، وكان أشد مقتا للتظاهر به.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي طوع له أن يكون مضرب المثل في العدل؛ فقد كان لهذا الزهد لا يخشى إلا الله، ولا يرجو أحدا غيره. وكانت خشيته الله ورجاؤه إياه شديدين. وكان يعلم أن الله محاسبه عما ولي من أمر المسلمين فيزداد خشية، فتزيده الخشية حرصا على تحري العدل إرضاء لله جل شأنه؛ لذلك كان في عدله لا يفرق بين قريب له وبعيد عنه؛ فالمؤمنون عنده جميعا سواء، ومن دخل في ذمة المسلمين أصبح وله من الحق في عدل أمير المؤمنين ما لهم. وحبه العدل مجردا من الهوى جعله يطلب إلى عماله أن يكونوا مثله عدلا وإنصافا، ويطلب إلى الناس في أرجاء الإمبراطورية أن يرفعوا إليه ما قد ينزل بهم على يد عماله من حيف حتى ينصفهم إذا رأى إنصافهم حقا؛ فإن شكوا إليه عاملا كيدا بغير حق أنصف هذا العامل منهم، لتبقى للحكم هيبته، وليبقى للعامل العادل مكانه وسلطانه.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي دفع إلى قلبه من الرفق بالفقراء والعطف عليهم ما خشي الناس يوم استخلف ألا يكون له منه نصيب. فقد رأوه في عهد رسول الله عادلا صارم العدل، ورأوه في عهد أبي بكر شديد البطش بالظالمين؛ فلم يدر بخلد أحدهم أنه سيعرف الرحمة حياته. لهذا لم يلبث حين آل الأمر إليه أن احتفظ بكل شدته على الظالمين، ثم كان بالضعفاء والفقراء برا رحيما، بل كان أحن عليهم من آبائهم وأمهاتهم: يكفكف دموعهم ويحمل إليهم بنفسه حقوقهم، ويرعاهم صغارا وكبارا. والضعفاء والفقراء هم السواد في كل أمة؛ لذلك لم يلبث هذا السواد أن وجد في عمر ملجأه وملاذه، وأن أصبح هذا الرجل الباطش أحب إليهم من أنفسهم ومن أبنائهم.
لا أريد بما قدمت أن عمر بن الخطاب لم يكن يخطئ، أو أنه لم تكن له ميول تجعل الناس يختلفون في بعض أحكامه، وسنرى كيف اختلفوا فيما كان بينه وبين خالد بن الوليد؛ يرى بعضهم أنه ظلم القائد القاهر الذي وضع للإمبراطورية أساسها، ويرى آخرون أنه قصد إلى خير الإمبراطورية أكثر مما قصد إلى العدل في أمر خالد. وسنرى كذلك كيف عزل سعد بن أبي وقاص سياسة في غير عجز ولا خيانة. لكن اختلاف الناس فيما اختلفوا فيه من آراء عمر ومن تصرفاته وأحكامه، لا يغير من أنه لم يمل يوما مع الهوى ولم يخالف يوما ضميره، وأنه كان يحاسب نفسه أدق الحساب كلما اجتهد برأي أو قضى بحكم أو أصدر أمرا.
هذه صورة مجملة من حياة عمر ومن تصرفاته، وهي مفصلة في هذا الكتاب تفصيلا أرجو أن يجلوها بينة واضحة، وهذه الصورة تدلك على ما كان لشخصه من أثر في بناء الإمبراطورية العظيمة في الزمن الوجيز الذي قامت فيه، وتكشف لك عن السبب الذي أبقى على التاريخ اسم هذا الرجل العظيم يتحدث الناس عنه على مر الأجيال في مشارق الأرض ومغاربها حديث إكبار وإعجاب.
على أن ما فصل في هذا الكتاب لم يتخط التاريخ السياسي لهذه الفترة القصيرة من حياة المسلمين الأولين. أما ما جاء في فصوله عن حياة العرب الاجتماعية وعن الفرس والروم فإنما جاء مجملا أريد به إيضاح هذا التاريخ السياسي، ولم يقصد به إلى تفصيل ما حدث من تطور الحياة الاجتماعية في بلاد العرب بقيام الإسلام، ولا إلى تفصيل الحياة السياسية نفسها في البلاد التي فتحها المسلمون. كذلك لم يتناول الفصل الذي أفرد لاجتهاد عمر تفصيل هذا الاجتهاد. وقد تناول بعض العلماء الباحثين في عصرنا طائفة من هذه النواحي ببحوث ممتعة أيما إمتاع. وللمستشرقين في مثل هذه البحوث فضل تقترن به أسماؤهم مع أسماء علماء العربية وكتابها. مع ذلك لا يزال هذا الميدان مفتقرا إلى التنقيب. وما أشك في أنه سيلقى من العناية ما هو جدير به.
وأختتم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفقنا جميعا للحق في كل ما نعرض له من بحث. فالحق خير ما يرجو الباحث المنصف. والله خير حافظا من الزلل، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
محمد حسين هيكل
هوامش
الفصل الأول
عمر في جاهليته
استهل ذو القعدة لسنوات قبل مبعث النبي، فأقبل العرب أفواجا يحدون إبلهم من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ليقيموا سوق عكاظ كعادتهم قبل الحج من كل عام، وكانت السوق تضطرب بمن جاءوا إليها من مختلف القبائل، وفيهم من أهل مكة عدد غير قليل، وقد أقام هؤلاء العرب مضاربهم في فسحة البطحاء المترامية التي تقوم السوق عليها، ثم جعلوا ناحية منها للتجارة، وفي هذه الناحية أقام جماعة أمام مضاربهم متاجر يعرضون فيها سلعا قل منها ما كان من صناعة الحجازيين أنفسهم، في حين قد جاء أهل مكة ومن إليهم بأكثرها من اليمن ومن الشام في رحلتي الشتاء والصيف، والناس يؤمون هذه المتاجر رجالا ونساء، يبتاعون منها ما يشاءون، وأكثر ما تقف النسوة عند البزازين بائعي الأقمشة والثياب، يقلبن بين أيديهن شتى ألوانها، ثم يخترن من نسج اليمن أو صناعة الشام ما تهوي إليه قلوبهن، فإذا كانت بينهن مليحة جذبت إلى المضرب من الشبان والرجال من يتظاهرون بالشراء، وإن كانوا أشد حرصا على اجتلاء جمال المليحة منهم على مس الحرائر والمتاع بألوانها واقتناء ما يعجب منها، وعلى مقربة من هذه المتاجر قامت حلقات اللهو يؤمها الشبان طرفا من النهار وأطرافا من الليل؛ ولا تأبى الحسان أن يكن على مقربة منها، فإذا أقبل الليل ذهب الشبان يحتسون الشراب حتى تميل أعناق بعضهم، ثم تركوا لنوازع اللهو والهوى العنان، وكم أدت هذه النوازع إلى مهاترات ومصاولات بدأت طفيفة ثم تجسمت، حتى انتهت إلى قتال بين القبائل امتد على السنين.
قام شاعر يوما في جانب السوق ينشد قصيدة له؛ يتغزل في مطلعها، ثم ينتقل من الغزل إلى المفاخرة بنفسه وبقبيلته، ثم إلى التعريض بقبيلة نازعت قبيلته العام الفائت وإلى النيل منها، والتف حول هذا الشاعر المجيد حلقة من أهل السوق تسمع له وتستجيد غزله، فلما انتقل من الغزل إلى الفخر صفق له قوم طربا، وصاح به آخرون إنكارا واستهجانا، أما إذا انتقل إلى التعريض بالقبيلة التي خاصمت قبيلته وإلى النيل منها، فها هي ذي صيحات الطرب وصيحات الإنكار تنقلب نزاعا عنيفا يحرك السيوف في غمودها، فلما أتم الشاعر قصيدته قام شيخ ذو حكمة ودعا القوم إلى السلم، وما زال بهم حتى جنحوا لها.
كان بين الذين يستمعون لهذا الشاعر شاب تجاوز سنه العشرين، ضخم جسيم مديد القامة، تعلو هامته هامات الجمع كله، أبيض اللون تعلوه حمرة تضرب بلونه إلى السمرة، وقد كان ينصت إلى الشاعر إنصات إعجاب يدفعه ليهز رأسه الحين بعد الحين، آية اغتباطه بما سمع وطربه له ودقة تذوقه إياه، لم يشارك الصائحين في صياحهم؛ لأن مفاخرة الشاعر بقبيلته لم تعنه، وتعريضه بالقبيلة الأخرى لم يعنه كذلك؛ فهو ليس من هذه القبيلة ولا من تلك، بل لعل القبيلتين كانتا بعيدتين عن موطنه بعدا زاده انصرافا عن أمرهما إلى المتاع بجمال الشعر الذي يسمعه، وأتم الشاعر قصيدته فأقام الفتى ينصت لما يقول الحكيم، فلما جنح القوم للسلم انصرف يتقدم جماعة من أصحابه مسرعا في مشيته حتى لقد شق على تابعيه أن يلحقوا به، ذلك لأنه كان أروح في رجليه سعة فلا يعرف في المشي بطئا، وكان أصحابه يحادثونه علهم يستوقفونه فلا يفوتهم بسعة خطوه، واتصل هذا الحديث متنقلا من الحوار الهادئ إلى جدل فيه عنف وشدة، عند ذلك وقف الشاب، وقد احمرت عيناه وبدت عليه أمارات الغضب، فنفخ وفتل شاربه الطرير وقال: بهذا الفتى تخوفوني! لست للخطاب إن لم أصرعه لأول ما ألقاه!
واندفع في طريقه أكثر إسراعا، حتى كانت خطوات أصحابه من خلفه أدنى إلى الهرولة منها إلى السير، فلما بلغوا حلقة المصارعة المنصوبة في جانب من عكاظ ألفوا فتيانا أشداء مفتولي العضل يشهدون أحدهم جاثما على صدر صاحبه وقد ألقاه إلى الأرض صريعا، وما لبث القوم حين رأوا عمر بن الخطاب يسير إليهم أن فسحوا له طريقا، وقام المتصارعان فوقفا مع النظارة وأيقنا أن عمر لم يجئ شاهدا، وإنما جاء مصارعا، وأدار عمر بصره في الحاضرين ولا يزال الغضب آخذا منه، فلما صادف الفتى الذي دار عنه الحديث بينه وبين أصحابه دعاه لينازله، وابتسم الفتى وتقدم حتى توسط الحلقة، وهو أشد ما يكون اطمئنانا إلى نفسه وثقته بقوته ومقدرته، إنه لم يصارع عمر من قبل، فهذه أول مرة جاء فيها مع قبيلته إلى عكاظ؛ لكنه لم يغلب مرة منذ جاء، حتى لقد هابه الأقران وحسبوا حسابه، وكان يقرب عمر طولا وجسامة، وتقدم إليه عمر يصاوله، وحاول الفتى البدوي أن يصرع عمر، وأبدى من ضروب المهارة في النزال ما جعل النظارة يتكاثرون ويزداد عددهم إلى ما لم يألفه أحد من قبل، وأقبلت فتيات كن على مقربة من المكان سمعن اسمي المتصارعين، فحرصن أن يرين ما سيكون منهما، فقد عرفن، كما عرف الناس في الأعوام التي خلت، أن ابن الخطاب لا غالب في المصارعة له، فلما أقبل هذا البدوي وصرع كل الذين صارعوه، رجا أهل عكاظ جميعا أن يصارع ابن الخطاب، وراهن بعضهم بعضا لأي الفتيين يكون الغلب، فلما دعا عمر صاحبه للمصارعة سرى النبأ في السوق كلها مسرى البرق، وأقبل كل من لم يمسكه عمله، يريد أن يأخذ من هذا المشهد نصيب، وترك عمر صاحبه زمنا يحاوره ويحتال ليصرعه، وهو منه في موقف المدافع، لا يبذل من الجهد ما يبذل البدوي البارع، فلما أحس به هاضه الجهد انقض عليه فركب أكتافه وألقاه على الأرض صريعا، وضجت الحلقة بذكر عمر ومقدرته، وتذاكر شهودها سابق فعاله في مثل هذه المواقف، ولم تكن الفتيات والنساء أقل من الرجال والفتيان إشادة بالفتى القرشي النبيل ذي الأيد.
بدأت الشمس بعد قليل تنحدر إلى المغيب، وبدأ النظارة ينصرفون كل إلى مقصده، وصار عمر يجوس خلال السوق وأصحابه من حوله يبدون من الإعجاب به ما يكافئهم عنه بابتسامة قلما كانوا يرونها مرتسمة على محياه، وهو لم يكن يخص أصحابه بهذه الابتسامة؛ فقد كان يرى أبصار من يمر بهم شدت إليه وهم أشد من أصحابه إعجابا به، ويرى فتيات يشرن إليه ويتهافتن يردن أن يحظين منه بنظرة رضا عنهن أو هوى لحسن المليحة منهن، فيبعث ذلك إلى نفسه من أسباب الرضا ما تعبر هذه الابتسامة عنه.
وجن الليل فمال في أصحابه إلى ملهى قام على حافة السوق، تنفسح البادية من ورائه إلى مدى الأفق، وتخير عمر أدنى مكان من البادية فجلس فيه بعد أن أهدى تحية المساء لمن مر بهم من معارفه الكثيرين الذين ردوا تحيته بأحسن منها، وأضافوا من عبارات الإعجاب به والثناء عليه ما أعجبه، وأقبلت خمارة هيفاء تتهادى وكل نظرها إلى الفتى الظافر، وقد طوقت ثغرها ابتسامة بدت من خلالها ثناياها الغر العذاب، وأبدى عمر في حديثه إليها سماحة لم يبدها منذ أقيمت السوق، فلم تأب أن تتيه دلا عليه، وبعد هنيهة عادت أدراجها ثم كرت راجعة تحمل الخمر المعتقة لهؤلاء الشاربين الأوفياء الذين لم يقضوا من ليالي السوق ليلة في غير حانتها، وكان عمر بين أصحابه يشرب بالكبير، ويشرب سائرهم بالصغير، وتقدم الليل والفتيان يشربون ويسمرون، ينتقل بهم الحديث من الجد إلى المجانة، ومن الغزل بالنساء إلى ركوب الخيل، ومن أيام العرب إلى أنسابها، وعمر يفيض في ذلك كله إفاضة عليم حلت الخمر عقدة لسانه، وزاده الظفر بصاحبه البدوي إقبالا على الحديث واسترسالا فيه، وفيما يتذاكرون فارسا رأوه ضحى يركب جوادا ينهب به الأرض، صاح عمر: واللات والعزى لقد خلتني إياه إعجابا بقدرته على رياضة جواده!
وابتسم صاحبه الذي حاوره من قبل في أمر البدوي المصارع وقال: تغفر العزى لابن عمك زيد بن عمرو قوله:
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
ولا صنمى بنى طسم أدير
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور!
وتجهم عمر لما سمع من ذلك قال: تبا له! ولا غفرت العزى كفرانه! خيرا فعل الخطاب إذ أخرج ابن أخيه من مكة ومنعه من أن يدخلها منذ فارق ديننا، وعادى أوثاننا، وصبا يلتمس إلها عند اليهود والنصارى، فلم يظفر من هؤلاء ولا من أولئك بخير فزعم أنه على دين أبيه إبراهيم، ولو أن الخطاب ترك لي أمره لصرعته فأوردته حتفه.
وينتقل الحديث من بعد إلى شئون أدعى إلى طمأنينة النفس، وإن القوم لفي سمرهم إذا طرقت سمعهم أصوات ناعمة لعذارى خرجن من مضاربهن إلى فسحة البادية ينعمن فيها بأسرار الليل أو يقضين فيها بعض شأنهن، وأمسك عمر عن الحديث وكأنما لعبت هذه الأصوات بفؤاده، فلما رآه أصحابه أمسك أجالوا فيه أبصارهم، فإذا هو يهم بالقيام ويقول: سأدعكم هنيهة لبعض شأني وسرعان ما أعود، وابتسموا، فصاحبهم صاحب نساء كما أنه صاحب خمر، وقصد عمر إلى ناحية الصوت الناعم، فسمع غانية تقول لصاحباتها: هذا عمر يقدمنا؛ فلنخيل إليه أننا نفر منه كي لا يصرعنا، فلما اقترب منهن تظاهرت كل بالفرار إلى ناحية، ولم تبق إلا هاته الغانية أسقطت خمارها، وزعمت أنها تصلحه، وعرفها ابن الخطاب صاحبته التي لقيها منذ أيام، فسعد معها بأحلى سويعات عكاظ هذا العام، وأدركت صاحباتها حيلتها فتعالت أصواتهن بضحكات السخط والسخر والغيرة، وعاد عمر إلى أصحابه على موعد منها، ولم يطل به المقام حتى نقد الخمارة قدر ما شربوا، ثم انصرف عن أصحابه إلى حيثما اتفق.
كان النهار ضحى حين لقي عمر أصحابه كرة أخرى، وقد تذكروا مصارعة أمس وما أبدى عمر فيها من مهارة، وتمنوا لو أن عمر صارع صاحبه كرة أخرى حتى يصرعه، فلا تقوم لهذا البدوي من بعد في ميدان المصارعة قائمة، وخالهم عمر ورأى في قولهم ما لا تقره الشهامة، إنه الفائز، فإذا أراد صاحبه أن يثأر لنفسه فلن يتردد في مصاولته، لكنه لن يبدأ بالدعوة إلى هذه المصاولة ولن يتحداه، والسوق بعد موشكة على ختامها، فبعد ثلاثة أيام ينصرف الناس عن عكاظ إلى مجنة ليتجهزوا للطواف بالبيت، فتقدم كل قبيلة هديها قربانا لصنمها، فإذا نحر الناس ذهبوا إلى ذي المجاز يتروون منه لصعود عرفات، وفي الأيام الثلاثة التي تسبق مجنة يشغل الناس بالتجهز للحج عن كل مصارعة أو مصاولة.
وانقضت ثلاثة الأيام وقد أذعن الفتى البدوي لما أصابه؛ إذ رأى ابن الخطاب قرنا لا يقهر، وتجهز الناس للانصراف من عكاظ، فكان عمر أسبقهم إلى هذا التجهز: دعا غلامه فأتاه بجواده حين أضحى النهار، ورأى شبان من نبلاء القبائل المختلفة هذا الجواد، فأعجبوا بلونه الأدهم وأذنيه الصغيرتين ورأسه المترفع وساقيه الدقيقتين وبطنه الضامر، وكأنما أدركت بعضهم الغيرة لما رأوا من اعتزاز عمر بنفسه وبجواده، اعتزازا فيه صلف وغلظة، فدعوه للسباق، فإذا فرغوا من السباق استراحوا ثم انحدروا إلى مجنة بعد أن تكسر القيلولة.
وقبل عمر دعوتهم، فدعوا فجيئوا بجيادهم، وساروا جميعا إلى فسحة البادية، فاختاروا حلبة سباق فيها، وامتطى كل جواده ودفعه حين أشار المشير، فإذا عمر وجواده كأنهما قطعة واحدة لا يدري الشاهد أهي تنهب الأرض أم تلقي في يد الريح التراب، ولم يكن إعجاب أهل السوق بفوز عمر في السباق دون إعجابهم بفوزه في المصارعة، ولم يقف أمر الفتيات عند الإعجاب به؛ فقد أخذ منهن بمجامع القلوب وملك عليهن كل الجوارح، وكانت صاحبته التي أمتعته بأحلى سويعات عكاظ هذا العام تبتسم بينهن ابتسامة زادتهن غيرة، وجعلتهن يرمقنها من عيونهن العربية الجميلة بنظرات لعلها بعض ما عناه عمر بن أبي ربيعة حين قال:
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
وأفاض الناس من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، فقضوا المناسك لأصنامهم، ورجعت كل قبيلة منهم إلى مقامها من شبه الجزيرة.
واستدار العام وجاء موسم عكاظ، فكان لعمر فيه مثل ما كان له في العام الذي سبقه، وظل ذلك شأنه عدة سنوات.
ثم إنه تأخر عاما عن مفتتح السوق، فافتقده الناس وتساءلوا عن سبب تخلفه، وزاد تساؤلهم أنه كان قد بدأ يزاول التجارة ويشتغل بها، وكيف لتاجر له من المكانة ما لعمر أن يغيب عن سوق العرب العامة ومعرضهم السنوي الأكبر! لكنهم عرفوا أنه اضطلع بالمهمة التي كان يضطلع بها آباؤه من قبيلة عدي بن كعب، مهمة السفارة بين قريش وغيرها من القبائل كلما حدث بينهم خلاف، وأن هذه المهمة وكلت إليه في أمر ذي بال جد بين إحدى قبائل قريش وجماعة ثقيف، ولشد ما اغتبط أهل السوق جميعا حين علموا أن عمر جاء إليهم ليقضي معهم ما بقي من أيام السوق، وأنه أتم سفارته على خير حال، جاء ممتطيا جواده الأدهم، فبدأ يباشر تجارته وكانت قد سبقته، ثم لم تثنه مباشرتها عن المصارعة، ولم يزعزع ما له من شهرة بين أصحابه أنه صاحب خمر وصاحب نساء.
وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد هذا العام، ثم أذاع في الناس رسالته، فانبرى له عمر يحاربه بحمية الشباب والفتوة حربا جاهلية عنيفة أشد العنف، فإذا جاء إلى عكاظ، وجلس إلى الناس وصادف حديثهم سيرة الرجل الذي قام في قريش يدعوها إلى نبذ الأصنام وعبادة الواحد الأحد، هاج عمر وماج، وأطلق لسانه في محمد، وعابه بما فرق من كلمة قريش وبما صبأ عن دين آبائه وأجداده، ولقد كان الغضب يبلغ منه لخروج محمد على قومه، فلا يحجم عن التهديد بقتله لولا منع بني هاشم له وما يجره هذا القتل من ثارات لا قبل لمكة بها.
وظل ذلك شأنه حتى أسلم، فصار يدافع عن دين الله وعن رسول الله بمثل الحمية التي كان يحاربهما بها قبل إسلامه.
هذه صورة من شباب عمر بن الخطاب، ترتسم أمامك واضحة تمام الوضوح كلما ازددت إمعانا في قراءة كتب التاريخ الإسلامي قديمها وحديثها، فإذا أردت أن تعود إلى ما قبل شبابه لم تجد في هذه الكتب ما يعينك على رسم صورة من طفولته وصباه في هذا الوضوح، وإن أسعفتك في أمره بخير مما تسعفك في أمر الكثيرين ممن عاصروه.
فهو من قبيلة عدي بن كعب، وهي قبيلة عدنانية من قريش، انتهى إليها الشرف كما انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن في مقدمتها هاشم، وأمية، وتيم، ومخزوم، على أن عديا لم تبلغ من المكانة في مكة قبل الإسلام ما بلغه بنو هاشم وبنو أمية؛ فلم يكن لها من مناصب مكة الدينية أو الزمنية، ولم يكن لها من الثروة ما لهم، مع ذلك كانت تنافس بني عبد شمس الشرف، وتحاول أن تبلغ مكانتهم، وظل هذا التنافس ممتدا على الأجيال، حتى اضطر بنو عدي في حياة الخطاب بن نفيل والد عمر إلى الجلاء عن منازلهم القائمة عند الصفا والانحياز إلى قبيلة بني سهم والمقام في جوارهم، وقد حفز هذا التنافس أجداد عمر، فكانوا، على قلة عددهم وعلى ضعف مكانتهم من القبائل الكبرى، ذوي دراية وعلم وحكمة.
وقدمهم علمهم وقدمتهم حكمتهم إلى مكان السفارة والحكم في المنافرات، فكانوا المتحدثين عن قريش إلى غيرها من القبائل فيما ينجم من خلاف يتسنى حسمه بالمفاوضة، وكانت حكومتهم ترضى في المنافرات، وكانوا ذوي بلاغة وحسن عبارة، وقد أدت بهم الحكمة إلى أن ظهر بينهم زيد بن عمرو أحد من اعتزلوا عبادة الأوثان وامتنعوا من أكل ذبائحها، ثم كان بينهم عمر بن الخطاب، وحسبك به فخرا لقبيلة ينتمي إليها.
هذه قبيلة عمر، أما أبوه فهو الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وعدي هو أخو مرة الجد الثامن للنبي، فأما أمه فحنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وقد كان الخطاب شريفا في قومه، لكنه لم يكن ذا مال ولا خدم. كتب عمر إلى عمرو بن العاص وهو على مصر كتابا يسأل فيه عن أصل المال الذي جمعه بها؛ فغضب ابن العاص وكان مما أجاب فيه: ... ووالله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك وقد ائتمنتني؛ فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك، وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فإذا كان ذلك فوالله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا ولا فتحت لك قفلا.
وبلغ الغضب من ابن العاص لكتاب عمر أن قال لمحمد بن مسلمة حين ذهب إليه من قبل عمر يحاسبه: ... لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر! والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية
1
لا تجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج.
فقال له محمد:
إيها عنك يا عمرو! فعمر خير منك، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار ...
وكان الخطاب فظا غليظا، مر عمر في خلافته يوما بمكان كثير الشجر يقال له ضجنان، فقال:
لقد رأيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان والله ما علمت فظا غليظا.
وفي رواية الطبري أن عمر لما مر في خلافته بضجنان قال:
لا إله إلا الله المعطي ما شاء من شاء! كنت أرعى إبل الخطاب في مدرعة صوف، وكان فظا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد ...
ثم تمثل بأبيات من الشعر.
2
ولم يكن الخطاب يتزوج من النساء لشهوة، بل ليكثر ولده؛ فقد كانت كثرة الولد بعض ما تفاخر به العرب، وأنت تذكر أن عبد المطلب جد النبي عليه السلام أحس قلة حوله في قومه لقلة أولاده، فنذر إن ولد له عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وقد ذكرنا أن بني عدي كانوا يحسون قلة حولهم لقلة عددهم، ولذلك أجلاهم بنو عبد شمس عن منازلهم عند الصفا، فلا عجب أن يلتمس الخطاب كثرة الولد يمتنع بها ما استطاع.
وكان الخطاب رجلا ذكيا، موفور الاحترام في قومه، شجاعا يخوض المعارك على رأس بني عدي في جرأة وثبات جنان، اشتركت بنو عدي في حرب الفجار، فكان على رأسها زيد بن عمرو بن نفيل والخطاب بن نفيل عمه وأخوه لأمه؛ ذلك أن نفيلا كان على جيداء فولدت له الخطاب وعبدنهم، ثم مات نفيل فتزوج ابنه عمرو زوجته جيداء، وكان من أم غيرها، وقد كان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهلية، وولدت جيداء لعمرو زيد بن عمرو، فكان للخطاب أخا وابن أخ،
3
وتقارب الرجلين في السن هو الذي جعلهما على رأس قومهما في حرب الفجار.
ولما اعتزل زيد بن عمرو عبادة الأوثان وامتنع من أكل ما يذبح لها، جعل يقول لقومه: «أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى منه وتذبحوها لغير الله! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري!» ثم قال الشعر يدعو إلى نبذ عبادتها،
4
عند ذلك خاصمه الخطاب واشتد في خصومته وألب عليه جماعة من قريش أخرجوه من مكة ومنعوه أن يدخلها، وكان الخطاب أشدهم في ذلك وأقساهم عليه.
وقد تزوج الخطاب، فيمن تزوج، حنتمة بنت هاشم بن المغيرة من بني مخزوم، وهي لخالد بن الوليد ابنة عم لحا؛ فالمغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم جدهما معا، وكان المغيرة المخزومي سيدا من سادات قريش وبطلا من أبطالها، وكانت له إمارة الجند التي كانت لسيد بني مخزوم، وكان لذلك يلقب صاحب الأعنة، وكان لمكانته من قريش أول من نصح إلى عبد المطلب جد النبي ألا يذبح ابنه عبد الله وفاء لنذره؛ فقد قال له: «والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.» وكانت حنتمة لمكانتها هذه مرعية الجانب من زوجها، مفضلة عنده على غيرها من ضرائرها، فلما ولدت عمر فرح أبوه لمولده، وقرب للأصنام مبالغة في إظهار سروره، ونال فقراء بني عدي الكثيرون يومئذ من الطعام ما قل عهدهم به.
متى ولد عمر؟ ذلك أمر لا سبيل إلى القطع به، فالثابت أنه مات في أحد الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، لكن الخلاف قائم على سنه يوم مات: قيل: كان ابن خمس وخمسين، وقيل: كان ابن سبع وخمسين، وقيل: كان ابن ستين، وقيل: كان ابن ثلاث وستين، وقيل غير ذلك، وأكبر الظن أنه مات حول الستين، فإذا صح ذلك كان قد هاجر وهو دون الأربعين، وليست صحة هذا الظن مما نستطيع الجزم به.
ونشأ عمر في طفولته وصباه نشأة أمثاله من أبناء قريش، ثم امتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة، وهؤلاء كانوا قليلين جدا، فلم يكن في قريش كلها حين بعث النبي غير سبعة عشر رجلا يقرءون ويكتبون، ونحن نقول اليوم إنه امتاز على أقرانه بذلك، أما العرب لذلك العهد فلم يكونوا يعدون القراءة والكتابة مزية، بل كانوا يرغبون عن تعلمها وعن تعليمها أبناءهم.
ولما شب عمر جعل يرعى لأبيه إبله بضجنان وغير ضجنان من ضواحي مكة، وقد ذكرنا حديثه عن أبيه وقسوته عليه حين رعيه إبله، وروى صاحب العقد الفريد أن عمر قال يوما للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك، فأسمعه كلمة له، قال: «وإنك لقائلها؟» قال «نعم!» قال: «لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.» وكان رعي الإبل بعض ما يعهد به إلى أبناء قريش على اختلاف منازلهم من الشرف.
ولما تدرج عمر من الصبا إلى الشباب بدا في مظهر من القوة بذ به أقرانه، فاقهم طولا وجسامة، حتى لقد رأى عوف بن مالك الناس جمعوا في صعيد واحد، فإذا رجل قد علاهم جميعا على نحو يقف النظر، فسأل عنه، فقيل: هذا عمر بن الخطاب،
5
وكان أبيض اللون تعلوه حمرة، أعسر أيسر، في رجليه روح يسرع به في مشيته.
وقد حذق من أول شبابه ألوانا من رياضة البدن؛ حذق المصارعة وركوب الخيل والفروسية، لما أسلم لقي رجلا راعيا فقال له: أشعرت أن ذلك الأعسر الأيسر أسلم؟ فقال الراعي: الذي كان يصارع في سوق عكاظ؟ فلما أجاب الرجل أنه هو، صاح الراعي: أما والله ليوسعنهم خيرا أو ليوسعنهم شرا، وكان ركوب الخيل من أحب ألوان الرياضة إليه طول حياته، أقبل يوما في خلافته على فرس يركضه حتى كاد يوطئه الناس، وعجب الناس حين رأوه فقال: وما أنكرتم! وجدت نشاطا فأخذت فرسا فركضته، وكان له في الحرب مواقف ورثها عن أخواله بني مخزوم، وذلك قول أبي بكر في مرض وفاته: «وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.»
وكما حذق الفروسية والمصارعة وغيرهما من ضروب الرياضة وألوانها، تذوق الشعر ورواه، كان يسمع الشعراء في عكاظ وفي غير عكاظ، ويحفظ عنهم ويروي ما يروقه من شعرهم، وكان له من بعد أحاديث طويلة مع الحطيئة وحسان بن ثابت والزبرقان وغيرهم، ثم إنه برز في معرفة أنساب العرب إذ تعلمها عن أبيه، فصار من أنسب العرب للعرب، وكان جيد البيان حسن الكلام، لهذا كله كان يذهب في سفارات قريش إلى غيرها من القبائل، وكانت حكومته ترضى في المنافرة كحكومة أبيه من قبله.
وكان عمر، كغيره من شبان مكة ورجالها، محبا للشراب متوفرا عليه، بل لعله كان أشد من أمثاله ولعا به، كذلك كان له صدر شبابه غرام بالغانيات، جعل الذين يترجمون له يجمعون على أنه كان صاحب خمر وصاحب نساء، وإنما كان يجري في هذا على مألوف قومه؛ فقد كان لأهل مكة بالنبيذ غرام أي غرام، وكانوا يجدون في النشوة به نعيما أي نعيم، وكانوا يتخذون من جواريهم وما ملكت أيمانهم متاعا للهوهم وشهوتهم، ويجدون في غير الجواري سلوة وجدهم وغرامهم، وشعرهم في الجاهلية يتحدث عن ذلك ويفتن فيه، ومن بعد الإسلام كان شعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فتنة لغانيات مكة ممن ورثن عن أمهاتهن وخالاتهن نزوعا إلى الهوى أثمه الإسلام ولم يكن مأثما قبله.
فلما تم لعمر شبابه هوت إلى الزواج نفسه، وقد ورث عن قومه ميلا لكثرة الزوجات طلبا للولد، فتزوج في حياته تسع نسوة ولدن له اثني عشر ولدا: ثمانية بنين وأربع بنات، تزوج زينب بنت مظعون فولدت له عبد الرحمن وحفصة، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب فولدت له زيدا الأكبر ورقية، وأم كلثوم بنت جرول بن مالك فولدت له زيدا الأصغر وعبيد الله، وقد فرق الإسلام بين عمر وأم كلثوم بنت جرول، وتزوج جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح فولدت له عاصما، وكانت جميلة هذه تدعى عاصية، فغير النبي اسمها، وقال لها: بل أنت جميلة، وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة فولدت له فاطمة، وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو فولدت له عياضا، أما لهية فأم ولد، وولدها عبد الرحمن الأوسط، وفكيهة أم ولد كذلك وقد أنجبت زيدا أصغر ولده، كما أن عبد الرحمن الأصغر أمه أم ولد اختلف المؤرخون في اسمها.
وقد تزوج عمر أربعا من أولئك النسوة بمكة، وخمسا بعد هجرته إلى المدينة، على أن جمعهن لم يكتمل قط في بيته، فقد رأيت الإسلام فرق بينه وبين أم كلثوم بنت جرول، وقد طلق نسوة غيرها: طلق أم حكيم بنت الحارث بن هشام، وطلق جميلة التي ولدت عاصما، ولو أن السن امتدت به لتزوج غير أولئك النسوة التسع، فقد خطب أم كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وهو على إمارة المؤمنين، وأرسل فيها إلى أختها عائشة، فسألت أم المؤمنين أختها في ذلك فرغبت عنه، وقالت: إنه خشن العيش شديد على النساء، وخطب كذلك أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره، ويدخل عابسا ويخرج عابسا.
وما ذكرته أم كلثوم بنت أبي بكر عن شدته وغلظته، وما ذكرته أم أبان عن عبوسه وقسوة عيشه، كان بعض طبعه في شبابه، ثم لزمه في سائر حياته، لما استخلف كان أول دعائه قوله: «اللهم إني غليظ فليني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني!» ولقد ورث الغلظة عن أبيه وقسوته عليه في صباه، ثم أعانته قوة بدنه من بعد على بقائها، أما ما ذكر عن بخله فسببه أنه لم يكن غنيا، وأن أباه لم يكن غنيا، وقد ظل متوسط الحال في الغنى طيلة حياته، مع أنه كان يعمل في التجارة كالكثيرين من أبناء مكة، ولعل غلظته هي التي حالت بينه وبين الإفادة من التجارة ما أفاد غيره، فهو لهذه الغلظة لم يكن يستطيع بالتجارة أن ينبع الماء من الحجارة، ولا أن يحيل التراب ذهبا، على تعبير قومه من قريش، هذا مع أنه لم يكن يقف من تجارته عند رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، بل كان يذهب إليهما وإلى غيرهما من بلاد فارس والروم، لكنه كان في رحلاته هذه أكثر اشتغالا بتثقيف ذهنه منه بإنماء تجارته، وقد أشار المسعودي في مروج الذهب إلى رحلات عمر في جاهليته وأنه لقي في أثنائها كثيرا من أمراء العرب وتحدث إليهم، وأغلب الظن أن ما كان يقوم به من السفارة عن قريش، وما بلغه من المعرفة بالأنساب وأيام العرب، وما اطلع عليه في أثناء قراءاته في كتب عصره، قد جعله أكثر حرصا على الكسب لزيادة علمه منه على الكسب لنماء ماله.
وهذه حال تجعل صاحبها أكثر اعتدادا بذاته واعتزازا بنفسه، فصاحب المال في حاجة إلى إدامة صلاته الحسنة بالناس، محافظة على ماله وطمعا في تكثيره، والعامل في التجارة نجاحه فيها بحسن حيله وافتنانه في أساليبها، أما طالب الحكمة والراغب في المعرفة، فيستهين بالمال ويذل الدنيا؛ لأن الحرص على المال يصرفه عن الحكمة ويزيده تعلقا بالدنيا وإذعانا لذوي السلطان فيها، ومن أذل الدنيا واستهان بالمال وطلب الحكمة والمعرفة اعتز بنفسه أيما اعتزاز؛ وقد يبلغ من ذلك أن يعتزل الناس ازورارا عنهم، ورغبة عما بأيديهم، وتساميا عليهم، وهذه مرتبة لم يبلغها عمر في شبابه، فأما الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالذات فكان له منهما أوفر نصيب.
والتماس عمر أسباب المعرفة قد جعله منذ شبابه يفكر في شئون قومه وما يصلحهم؛ ثم جعله اعتزازه بنفسه يتعصب لرأيه فيما ينتهي إليه من ذلك، فلا يقبل فيه جدلا، وقد مالت به شدته ومال به بأسه إلى أن يبلغ بتعصبه حد العنف، وأن يناضل عن رأيه بيد البطش، كما يناضل عنه بحدة اللسان، لكن ذلك لم يمنعه من أن يقلب آراء غيره فيما بينه وبين نفسه، ليكون أبلغ حجة في دفعها وأقوى يدا في القضاء عليها.
ولم تكن الآراء في مكة ولا في غيرها من بلاد العرب لتختلف في شئون الاقتصاد وشئون الاجتماع وما إليهما؛ فقد ألف الناس في هذه الشئون ألوانا من الرأي، ورثوها عن آبائهم، وأخذوا بها في حياتهم، واطمأنوا إليها فيما بينهم من صلات؛ وإنما وقع الخلاف على دينهم وعباداتهم، ذلك أن النصارى واليهود المقيمين بينهم كانوا ينكرون عبادة الأصنام، ويرونها باطلا يجب أن يتنزه العاقل عنه، وقد كان الذين رآهم العرب ببلاد الروم في أثناء رحلة الصيف من أمثال هؤلاء اليهود والنصارى أرقى من العرب حضارة، وكانوا ينسبون رقيهم إلى أديانهم، ثم إن المبشرين بالمسيحية في ذلك العصر كانوا ذوي نشاط في الدعوة إلى دينهم والتبشير به مثل نشاطهم اليوم؛ لذلك صبأ من العرب أفراد ذوي حكمة أنكروا الأصنام وعبادتها.
ترى أصبأ عمر ، وهو القارئ الكاتب، مع الصابئين؟
كلا! بل كان حربا على هؤلاء أهول الحرب، وكان يرى في خروجهم على دين قومهم تقويضا لركن الجماعة العربية، ويرى لذلك محاربتهم والقضاء عليهم حتى لا يستفحل أمرهم، ولعله لم يكن متعصبا في هذا الرأي للأصنام وعبادتها تعصبه لقومه، حرصا على نظامهم وعلى ما يكفله النظام من إمساك كيانهم وشد أزرهم إزاء غيرهم من الأمم.
والواقع أن العالم اضطرب منذ أقدم العصور بين أمرين جوهريين لحياته، وهو لا يزال حتى اليوم مضطربا بينهما، ينصر أحدهما حينا وينصر الآخر حينا، هذان الأمران هما الحرية والنظام: حرية الفرد، ونظام الجماعة، فالجماعة لا حياة لها إلا بالنظام، والفرد لا حياة له إلا بالحرية، فإذا تعارضت حرية الفرد ونظام الجماعة فأيهما نؤيد؟ النظام لا ريب، فحرية الفرد لا كفيل لها إلا نظام الجماعة، وإذا أهدر نظام الجماعة أهدرت حرية الفرد معه، لكن! أليست لحرية الفرد حدود تجعلها لا تتعارض ونظام الجماعة! أوليس لنظام الجماعة حدود كذلك تجعله لا يتعارض وحرية الفرد! هذه الحدود هي التي كانت ولا تزال موضع الخلاف، فلحرية الفرد حدود في الحياة الاقتصادية، وفي الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية، وفي غير هذه من مظاهر الحياة، ولنظام الجماعة كذلك حدود في مظاهر الحياة ومرافقها جميعا، ولطالما قامت الثورات وشبت الحروب بسبب الخلاف على هذه الحدود للحرية وللنظام في الأمة الواحدة وفي علاقات الأمم بعضها ببعض، بل إن الحرب كثيرا ما شبت لأغراض السيادة والاستعلاء، ثم لم يلبث الدعاة لها أن استظلوا بلواء الحرية حينا، وبلواء النظام العالمي الكفيل للحرية العامة حينا آخر.
وقد تواضع الناس في كثير من الأزمان على أن حرية الرأي والعقيدة لا يمكن أن تتعارض مع نظام الجماعة، ما دامت محصورة في حدود العقيدة والرأي والتعبير عنهما، لكن ذلك لم يكن أمرا مقررا في عهد عمر، وكثيرا ما شبت الحرب بين فارس والروم تعصبا لدين على دين، بل لقد شبت الحروب الصليبية بعد ذلك بين أوروبا المسيحية والمسلمين، وظلت أزمانا طويلة متصلة الضرام بسبب العقيدة، ذلك لأن الدين اعتبر من أسس الحياة الاجتماعية، وقد أدى ذلك إلى اعتبار الذين يدينون بغير دين الدولة في حكم الأجانب عنها، إذا تسامحت معهم؛ لأنهم ورثوا عقائدهم عن آبائهم فإنها لن تجعل لهم من الحقوق ما لبني دينها، لا عجب إذن أن يكون عمر في جاهليته عدوا لمن يعبدون غير الأصنام، ولا عجب أن يكون حربا على من صبأ من بني قومه على عبادة ما كان يعبد آباؤه وأجداده.
ولم يغن عن هؤلاء الصابئين عنده أنهم كانوا ذوي حكمة ورجحان عقل؛ بل لعل حكمتهم ورجحان عقلهم جعلاهم أكبر جريرة في نظره، فالناس لا يتبعون الجهال منهم ولا يتابعون عامتهم، وإنما يتبعون من بني عشيرتهم من عرفوا حسن بصره بالأمور، ودقة منطقه في تحري الحق، فإذا جاز لقس بن ساعدة الإيادي أن يعيب أوثان العرب فهو نصراني له من دينه ما يعذره، أما زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبد الله بن جحش وأمثالهم من أهل مكة الذين انصرفوا عن عبادة الأصنام، وقال بعضهم الشعر في التوحيد، فلا عذر لهم ولا مفر من خصومتهم وحربهم، فلو أنهم تركوا وشأنهم لأضلوا جمهور الناس وفرقوا كلمتهم، ولأوشكوا أن يثيروا في الأرض الفساد، وهذه الحدة من عمر وأمثاله قد حفظت على قريش وحدتها، وعلى مكة مكانتها، وجعلت الحكماء يقصرون حكمتهم على أنفسهم، فلا يثيرون غيرهم لاتباعهم، وتغيير ما ورث الناس من عقائد آبائهم وأجدادهم.
وقد كان عمر من أشد قريش على الصابئين فيها وأكثرهم جرأة عليهم، وأقسامهم معاملة لهم، وكان له من غلظته ومن سرعته إلى الغضب ما يدفعه إلى المبالغة في شدته، وهو لم يكن قد جاوز الخامسة والعشرين، فكان شبابه يذهب به في التعصب لرأيه إلى أبعد مدى، وقد اقترنت حدته في التعصب لرأيه بغلظته وقسوته، فكان يحارب الخارجين على عبادة الأصنام أشد الحرب، ثم كان أشد حربا للذين يعيبونها.
في هذا الحين أذن الله فبعث محمدا إلى قومه يدعوهم للهدى ودين الحق، فلما بدأت دعوة التوحيد تنتشر، أخذ المتعصبون للأصنام من أهل مكة يعذبون المستضعفين ممن أسلموا ليردوهم إلى عبادة الأصنام، وكان عمر بن الخطاب من أشد أهل مكة خصومة للدعوة الجديدة ومحاربة لها، وسعيا لفتنة الذين اتبعوها.
ذكر ابن هشام أن أبا بكر مر به يوما وهو يضرب جارية ويعذبها لتترك الإسلام، ولقد ظل يضربها حتى مل لكثرة ما ضربها، عند ذلك تركها وقال: إني أعتذر إليك! إني لم أتركك إلا ملالة، وأجابته الجارية: كذلك فعل الله بك، وابتاع أبو بكر الجارية فأعتقها.
لم يكن عمر يحارب محمدا ودعوته تعصبا وجهلا؛ فقد رأيته من أحكم أهل مكة وأكثرهم علما، وهو قد سمع من أقوال محمد ما أعجبه، فلم يزد ذلك خصومته للدعوة الحديثة إلا لجاجة وقوة، ولم يزده إلا إمعانا في إيذاء من يستطيع إيذاءهم من المسلمين، حتى كانوا يلقون منه البلاء أذى لهم وشدة عليهم، ذلك بأنه رأى في متابعة هذا الرجل تقويضا لنظام مكة وإثارة للفساد فيها، ومكة ونظامها وطمأنينة أهلها أحب إليه من محمد ومن دعوته التي فرقت كلمة قريش وهونت مكانة البلد الحرام، والصبر على هذه الدعوة يزيد كلمة قريش فرقة ومكانة مكة تهوينا، ولئن وقفت قريش من محمد عند مناوأة الذين اتبعوه ومحاولة رد الضعفاء منهم عن دينهم، ليذهبن ذلك بريح مكة، وليجلعن قريشا مضغة في أفواه العرب جميعا.
وأي ذنب جنى هؤلاء الضعفاء حتى يعذبوا! إنما الذنب ذنب محمد وسحر بيانه وقوة منطقه، فهذا البيان الساحر هو الذي خلب عقول الضعفاء وعقول غيرهم ممن صبئوا عن دين آبائهم وأجدادهم، فلو أن محمدا مات؛ لانقضت الفتنة وانجلت الغمة، وأظل السلام البلد الحرام وما قتل فرد لنجاة قبيلة، بل لنجاة قبائل مكة جميعها، فتعود كلمتها إلى الاجتماع، ونظامها إلى الاستقرار!
لكن محمدا يقول كلاما حسنا، وهو لم يزد على ترديد هذا الكلام ودعوة الناس بالحسنى لاتباعه، وهو بعد رجل لم تجرب عليه قريش كذبا قط، أفيقتل لغير شيء إلا أن يقول ربي الله، ويقول ذلك لأنه يعتقده ويؤمن به !
وكيف السبيل إلى قتله أو التخلص منه وهو من بني هاشم، وبنو هاشم يمنعونه! وبين الذين آمنوا به واستجابوا لدعوته وقاموا معه جماعة ذوو مكانة ينتمون إلى قبائل عزيزة تمنعهم كما يمنع بنو هاشم محمدا، فأبو بكر وطلحة بن عبد الله من بني تيم بن مرة؛ وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص من بني زهرة، وعثمان بن عفان من بني عبد شمس؛ وأبو عبيدة بن الجراح من بني فهر بن مالك، والزبير بن العوام من بني أسد، ولهؤلاء جميعا من المكانة في قبائلهم ما يقتضيها الذود عنهم إذا اعتدى معتد عليهم، فلو أن عمر حاربهم وحارب محمدا معهم وألب قريشا عليهم لأثار بمكة حربا أهلية أشد خطرا على مكانتها من محمد ودعوته.
كانت نفس عمر تضطرب بهذه الخواطر كلما خلا إليها، فإذا خرج إلى قومه ورأى تفرق كلمتهم راجعه حرصه على أن تعود إلى مكة سكينتها بالقضاء على مصدر هذه الفرقة، وظل هذا الخاطر يتردد في نفسه، حتى أمر محمد من اتبعه بالهجرة إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينهم، فلما رآهم عمر يفارقون أهلهم ووطنهم رق لهم، وحز الألم في قلبه لفراقهم، وعظم عليه الأمر، فثارت نفسه وطال تفكيره في التخلص من محمد ودعوته، إنه إن يفعل يرح قريشا ويرض آلهة الكعبة وآلهة العرب جميعا، فإن أصابه بفعلته مكروه احتمله في سبيل قريش وفي سبيل مكة، وقريش أهله، ومكة وطنه، والمكروه في سبيل الأهل والوطن سائغ مستحب.
ذلك ما استقر عليه عزمه، لكنه نسي أن لله في الخلق حكمة، وأن حكمته جل شأنه قضت أن يغلب عقل عمر ثورة غضبه، فيؤمن بمحمد ليكون الفاروق الذي يتحدث الناس باسمه في إجلال وإكبار إلى آخر الدهر.
هوامش
الفصل الثاني
إسلام عمر
المشهور أن عمر بن الخطاب أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين امرأة، وتزيد روايات في هذا العدد وتنقص أخرى منه، وقد لاحظ ابن كثير في «البداية والنهاية» أن عمر أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وأن عدد الذين هاجروا إليها قارب التسعين بين رجال ونساء، وأن عمر ذهب بعد هجرتهم يريد محمدا وأصحابه والمسلمين بدار الأرقم عند الصفا فكانوا أربعين رجالا ونساء، أنت إذن في حل من القول بأن الذين سبقوا عمر إلى الإسلام يقرب عددهم من ثلاثين ومائة، وإن تعذر عليك أن تصل من ضبط العدد إلى أكثر من هذا التقريب المخالف للمشهور.
أما الروايات في سبب إسلامه فتختلف، وأشهرها أن عمر ضاق ذرعا بما فرقت دعوة محمد من كلمة قريش، وما حملته وأمثاله على إيذاء من أسلموا ليفتنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى دين قومهم، فلما أشار محمد على أصحابه أن يتفرقوا في الأرض فرارا إلى الله بدينهم، ونصح لهم أن يذهبوا إلى أرض الحبشة، ورآهم عمر يترحلون، رق لهم وشعر بالوحشة لفراقهم. روي عن أم عبد الله بنت أبي حثمة أنها قالت: «والله إنا لنترحل إلى أرض الحبش إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، وقف وقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم والله! لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله مخرجا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه، فيما أرى، خروجنا.» وعاد زوجها، فذكرت له هذا الحديث الذي دار بينها وبين عمر وأنها طمعت في إسلامه، فقال لها: لا يسلم هذا حتى يسلم حمار الخطاب.
وتجري الرواية بأن عمر حزن لترحل بني قومه عن وطنهم، بعد أن عذبوا وأوذوا، وجعل يفكر في الوسيلة التي تنقذهم مما هم فيه، فرأى أن هذا الأمر لا ينجح فيه إلا علاج حاسم، هنالك عزم أن يقتل محمدا؛ فليس إلى اجتماع كلمة قريش مع بقائه بينها سبيل، فغدا يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ورهطا من أصحابه ذكر له أنهم اجتمعوا بدار الأرقم عند الصفا، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، وفيما هو في طريقه لقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد؟ قال: أريد محمدا، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أخلاقها، وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! قال عمر: وأي أهل بيتي؟ فأجابه صاحبه: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وكان عندهما خباب بن الأرت ومعه صحيفة يقرئهما فيها سورة «طه»: فلما سمعوا حس عمر اختفى خباب في مخدع لهم وأخفت فاطمة الصحيفة، ودنا عمر من البيت، وسمع قراءة خباب فقال حين دخل: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالت فاطمة: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بسعيد بن زيد، فقامت فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالا له: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد، وأجابته أخته: إنا نخشاك عليها: قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها متى أتم قراءتها، وأعطته فاطمة الصحيفة، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب عبارته خرج من مخبئه وقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر! عند ذلك قال عمر له: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا في نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، وسار حتى ضرب الباب على رسول الله وأصحابه، وسمع القوم صوته ونظر أحدهم من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع فزعا يقول: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، قال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال له: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة! فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله؛ فكبر رسول الله تكبيرة عرف منها أصحابه أن عمر قد أسلم.
هذه أشهر الروايات في إسلام عمر، وثم روايات أخرى، من أشهرها ما أسند إلى عمر نفسه أنه كان يقول: «كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم، فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أني جئت فلانا الخمار، وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت إليه فلم أجده، فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين! فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام وكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول! وخشيت إذا أنا دنوت منه روعته! فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثياب الكعبة، فجعلت أمشي رويدا، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي، فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني حتى قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صلاته ثم انصرف يريد بيته فتبعته، حتى إذا اقترب من بيته أدركته، فلما سمع حسي عرفني وظن أني إنما اتبعته لأوذيه، فزجرني ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة! قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فحمد الله ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، وانصرفت عن رسول الله مؤمنا بدينه.»
ولهذه الرواية المنسوبة إلى عمر صورة وردت في مسند الإمام أحمد بن حنبل لعلها تكمل ما تقدم، وهي تجري بأن عمر قال: «خرجت أتعرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ:
إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون . قلت: كاهن! فقرأ:
ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين ، إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.»
هذه هي الرواية التي تلي الأولى في الشهرة، وابن إسحاق يثبت الروايتين ويردفهما بقوله: «والله أعلم أي ذلك كان.»
هاتان الروايتان ومثلهما مما أوردته الكتب عن إسلام عمر تصور اليوم الذي ترك عمر فيه دين آبائه وأجداده، وأشهد رسول الله على إيمانه بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، لكنها جميعا لا تصور التصور النفسي الذي أدى بعمر إلى أن يسلم، أفكان ذلك أمرا مفاجئا؟ أفبلغ من مباعدة عمر للإسلام وعداوته له أنه أبى النظر فيه والتدبر لشيء من أمره، ثم قذف الله بالإيمان إلى قلبه، وجعل الصحيفة التي كان خباب يقرؤها لأخته، أو القرآن الذي كان رسول الله يتلوه في صلاته، وسيلته جل شأنه لهداية هذا الرجل الذي كان لدينه عدوا؟ أم كان الأمر غير هذا، وأن عمر قد سمع القرآن قبل أن يقرأه في صحيفة خباب، وقبل أن يختفي تحت ثياب الكعبة فيسمعه من رسول الله، وأنه قلب فيه نظره بينه وبين نفسه، ثم كان يعود إلى التفكير في أمره وأمر محمد ومن اتبعه، وأن تفكيره الطويل هداه بإذن الله إلى ما اهتدى إليه؟
لا تصور لنا روايات المؤرخين عن إسلام عمر ما كان من هذا أو ذاك، مع أن تصويره ليس بالأمر العسير، ومع أن هذا التصوير يحسم أمرا يعتبره الجمهور من المسلمات، ونراه مرجوحا لا يثبت للنقد لحظة.
هذا الأمر هو ما جرت به الرواية المشهورة من أن عمر ذهب يقتل محمدا وهو في أصحابه عند الصفا لولا أن هداه الله حين قرأ الصحيفة التي كان خباب يقرئها ختنه وأخته، فليس بمعقول أن يقصد عمر إلى قتل محمد بالسيف وهو بين أربعين من أصحابه فيهم حمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما من أبطال مكة، ثم يحسب مع ذلك أنه قادر على تنفيذ مقصده، قد يصح أنه عزم التخلص من محمد بالقتل، وأنه فكر في الوسيلة لتنفيذ عزمه، فلما قرأ الصحيفة ورأى ما فيها حسنا رجع عما فكر فيه ثم أسلم، أما أنه أراد القتل على النحو الذي تصوره القصة المشهورة في إسلام عمر فلا يسيغه العقل، وهو لذلك مرجوح عندي، والراجح ما ورد في الرواية الثانية على لسان عمر نفسه وما أيده ابن حنبل في مسنده.
وهذا الراجح يتفق وما عرف عن نفسية عمر وشخصيته، فقد كان من صميم قومه، وكان متعصبا لهم، حريصا على نظامهم وعلى مكانة بلدهم، ثم إنه كان رجل عمل، قيمة الفكرة عنده أثرها الفعال في الحياة، فأما التأمل للتأمل، وأما الهيام بالفكرة لذاتها وإطالة التقليب فيها ابتغاء الحقيقة المطوية في جوانبها، ولو لم يكن للحقيقة ولا للفكرة مظهر يتأثر الناس في حياتهم به، فذلك ما لم يكن يغريه أو يخرجه عن إلف قومه، كان ذلك رأيه في شئون الحياة جميعا، بل كان رأيه في شئون العاطفة نفسها، فهو لم يكن يطمئن أن يقضي الشاب وقته يتلطف بامرأة أو يتغنى بمفاتنها، يريد بذلك أن يفتنها، بل كان يرى ذلك ضعفا غير جدير برجل كملت رجوليته؛ لذلك لم يعطف يوما على أولئك الغزلين الذين يتخذون من التغني بالحب صناعة لهم، أما مظهر رأيه هذا في أمر العقيدة، فكان في شدة برمه بابن عمه زيد بن عمرو؛ لأنه صبأ عن دين قومه، وذهب يلتمس دين الحق عند غيرهم، هذا كله كان في رأي عمر خيالا لا أثر في الحياة له، ولا يتفق مع ما فطر عليه من حرص على نظام الجماعة، وعلى مكانة مكة بين العرب جميعا.
وقد كان هذا الاتجاه الفكري متفقا مع خلق عمر؛ فقد كان قويا في بدنه، وكان لذلك يؤمن بالقوة في كل مظاهرها، وكان أشد بمظاهر القوة إيمانا أول ما بعث النبي؛ لأنه كان في فتوة شبابه، لما تخفف تجاريب الحياة من حدته واندفاعه، لهذا كان يعذب من يستطيع تعذيبهم ممن يتبعون رسول الله ليفتنهم عن دينهم، ولو استطاع أن يحاربهم جميعا لحاربهم، لكنه كان يعلم أن قبائل قريش تمنع رجالها، وأن من قبيلته بني عدي من لم يكونوا على رأيه؛ لذلك وقف أمره كما وقف أمر غيره من قريش عند تعذيب المستضعفين، دون أن يستطيعوا البطش بأبي بكر وعثمان بن عفان وأبي عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن كانت قبائلهم تمنعهم، وإن لم يصدهم ذلك عن مقاطعتهم وإيذاء من يستطيعون إيصال الأذى إليه منهم.
على أن عمر كان إلى هذا كله رقيق القلب، دقيق الحس بمعنى العدل، ومن آيات رقته ما كان منه حين قامت أخته تكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما رأى ما بها من الدم ندم وارعوى، وهذه رقة كثيرا ما نجدها في الأقوياء والباطشين حين يرون أنفسهم جاوزوا الحد اعتمادا على قوتهم، وحواره مع أم عبد الله بنت أبي حثمة يوم أزمعت الرحيل مع المهاجرين إلى أرض الحبشة، يشهد بهذه الرقة ويدل عليها أبلغ الدلالة، وقد بلغ من تأثر أم عبد الله بنت أبي حثمة بهذه الرقة أن قالت لزوجها حين رجع إليها: «لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا، حتى طمعت في إسلامه .» هذه الخصال مجتمعة تفسر لنا إسلام عمر من بعد.
لقد كان حريصا على نظام مكة وعلى مكانتها، مشفقا أن تسيء الدعوة للدين الجديد إليها، فلما رأى النبي وأصحابه يدعون إلى ربهم بالحسنى ولا يثيرون في الأرض فسادا، ثم رآهم إلى ذلك أقوياء في دينهم كل القوة، ورأى عقيدتهم أثمن عندهم من كل ما في الحياة ومن الحياة نفسها، عاد يفكر في أمرهم وفي موقفه منهم، فقد هددوا وأوذوا وعذبوا، فما استكانوا وما ضعفوا، وما كان جوابهم على ما أصابهم إلا أن قالوا ربنا الله، وزاد بهم الأذى والعذاب، فآثروا التضحية بوطنهم على التضحية بعقيدتهم، فركبوا البحر مهاجرين إلى أرض الله فرارا بدينهم، ليس هذا الدين إذن فكرة نظرية لا أثر لها في حياة أصحابها، ولا في حياة الجماعة التي يعيشون فيها، بل هو قوة دافعة جسيمة الأثر في الحياة الفردية والحياة القومية كلتيهما، وقد بدا هذا الأثر في حياة مكة منذ بدأ الإسلام فيها، وسيكون هذا الأثر أعظم على الأيام وأكثر وضوحا، فماذا يئول إليه أمر مكة ومكانتها إذا اتصلت هذه الهجرة، وتسامع العرب أن أبناءها لا يقيمون بها؛ لأنهم يظلمون فيها مع ما بينهم وبين القبائل التي تتألف منها أم القرى من صلة القربى وآصرة المودة، ويظلمون لغير شيء إلا أنهم خالفوا قومهم عن عقيدتهم، وفي بلاد العرب شتى العقائد: فيها المؤمنون بمختلف الأصنام والأوثان، وفيها من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وفيها مجوس يتبعون فارس، أليس خيرا لمكة أن يترك هؤلاء المسلمون لا يضارون في عقيدتهم ولا يفتنون عنها، وأن تترك الحرية لمن شاء أن يدخل في دينهم وأن يكون معهم؟! وهل لرجل كعمر تعلم ما لم يتعلمه غيره، وعرف من حكمة الفرس والروم واليهود والنصارى أكثر مما عرفوا، أن يظل مباعدا للمسلمين، وألا ينظر في دينهم نظر البصير الناقد لا نظر المتعصب الحاقد؟!
لقد سمع وقومه دعوة محمد والقرآن الذي يوحى إليه، وقد عرف نبأ الذين خرجوا يستمعون إلى رسول الله وهو يصلي في أثناء الليل في بيته ، وكيف عادوا ليلة بعد أخرى يستمعون إليه، وعرف ما كان من تلاومهم، ثم عرف أن أبا الحكم بن هشام سئل عما سمع من ذلك فقال: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذا! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!» ولهذا ظل أبو الحكم ومن معه يعذبون المسلمين بغيا بغير حق، وظل المسلمون على دينهم لا يفتنهم العذاب، بل يزيدهم له حبا وبه تمسكا، أليست هذه حجة دامغة على أنهم على الحق، وأن أبا جهل إنما أبى أن ينظر في دين محمد، وأن يؤمن به أو يصدقه، لما بين بني عبد شمس وبني عبد مناف من تنافس؟! فما لعمر لا ينظر في هذا الدين، ولا تنافس بين بني عدي وبني عبد مناف؟! لهذا ذهب عمر يستتر بثياب الكعبة ليرى محمدا يصلي، وليسمع ما يتلو في صلاته من قرآن ربه، ولهذا حرص على أن يتلو سورة طه في الصحيفة التي كانت عند أخته، ولقد نظر في هذا كله وأطال فيه الفكر فاهتدى، فأيد الله به دينه، ونصر به رسوله.
كان النبي عليه السلام شديد الحرص على أن يؤيد الإسلام برجل قوي جريء الجنان، لا يخشى أن يناهض خصومه في سبيل عقيدته، ولذلك كان يدعو ربه: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب!» وكان أبو الحكم رجلا حديد الوجه، حديد اللسان، قوي الشكيمة، لا يبالي الحرب ولا يهابها، وكان عمر بن الخطاب ما رأيت، فإسلام أحدهما جدير بأن يؤيد المسلمين، وأن يدفع الكثير مما يصيبهم من الأذى، لكن أبا الحكم كان متأثرا بما قدمنا من عامل المنافسة بين عشيرته وعشيرة محمد، فلم يكن إيمانه بالدين الذي جاء به محمدا أمرا ميسورا، أما عمر فقد ظلت الدوافع تؤدي به إلى طريق الحق شيئا فشيئا، وتحطم من حوله قيود التعصب لقومه ولنظام مدينته رويدا رويدا، وتغلب في نفسه عناصر العدل الأصيل فيها على سائر العناصر، حتى انتهى إلى ما قدمنا، فجاء إلى محمد وهو بين أصحابه في دار الأرقم عند الصفا، أو تبعه في الطريق من مصلاه عند الكعبة إلى بيته، فلما سأله رسول الله: ما جاء بك؟ قال في غير تردد: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
وكذلك أسلم عمر عن بينة بعد أن تبين ما لهذا الدين من أثر قوي في نفوس المؤمنين به، يتعدى أفرادهم إلى حياة الجماعة ونظامها؛ لذلك دخل في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، وحرص على أن يكون لجماعة المسلمين نظام يدافعون عنه كما تدافع قريش عن نظامها، فما لبث حين أسلم أن عمل على أن يذيع في قريش كلها إسلامه، روي أنه قال: «لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت على أبي جهل بابه، فخرج إلي فقال: مرحبا وأهلا بابن أختي! ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله! وقبح ما جئت به!»
وكان عبد الله بن عمر يوم أسلم أبوه غلاما يعقل ما يرى: وقد ذكر من حرص أبيه على إذاعة إسلامه، وتحديه قريشا في ذلك فيما روي عنه أنه قال: «لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه فقال له: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، حتى إذا وقف على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ! فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، عند ذلك ثاروا به، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيا عمر فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأقسم بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا، فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟! قالوا: صبأ عمر! قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلوا عن الرجل، فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه ...»
فلما هاجر عمر سأله ابنه عبد الله: يا أبت! من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ فقال عمر: ذاك يا بني العاص بن وائل السهمي.
والعاص بن وائل السهمي هو أبو عمرو بن العاص، وقد بلغ من حمايته عمر حين أسلم أكثر مما رأيت، توعدت قريش عمر بعد أن انفضت عنه، فبات في داره خائفا يترقب، قال عبد الله بن عمر: فبينما هو في الدار خائف إذ جاءه العاص بن وائل السهمي وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما بالك؟ قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلونني أن أسلمت، قال: لا سبيل إليك، وبعد أن قالها أمن عمر، فقد خرج العاص من عنده فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فسألهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ، قال: قد صبأ عمر فما ذاك! فأنا له جار! فتفرق الناس.
ولم يكن عجبا أن يجير العاص عمر بن الخطاب بعد الذي قدمنا من جوار بني سهم لبني عدي بن كعب في الجاهلية، وذلك حين نافس بنو عدي بني عبد شمس فغلبوا على أمرهم، وأجلاهم بنو عبد شمس عن منازلهم عند الصفا، واضطروهم إلى جوار بني سهم، وقد زاد هذا الجوار عمر جرأة في إسلامه، وتحديا لقريش، ودفعا لأذاها عن المسلمين، بذلك زادت شخصيته بروزا واعتداده بنفسه ظهورا، فكان له من المواقف ما لم يكن لغيره ممن سبقه إلى الإسلام، وما يسجله له المؤرخون تسجيل ثناء عليه وإعجاب به أي إعجاب.
روي أن عمر راح يسأل النبي: يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «بلى! والذي نفسك بيده إنكم على الحق إن متم أو حييتم.» قال: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن! فما لبث النبي أن خرج في صفين أحدهما فيه عمر والآخر فيه حمزة، ولهما كديد
1
كأنه الطحين، فدخلوا المسجد وقريش تنظر وتعلوها كآبة، فلا يجرؤ سليط منها ولا حكيم أن يقترب من صفين فيهما هذان.
إنه أسلم، فيجب أن يعرف الناس جميعا أنه أسلم: ليغضب منه من شاء أن يغضب، وليحاربه منهم من شاء أن يحاربه، وليتألب عليه من اجتمعوا في أنديتهم حول الكعبة وليناضلوه، وليبلغ ذلك منه حتى يناله الإعياء، فلن يصرفه ذلك عن تحديهم ومصارحتهم بأنه محاربهم، وبأن المسلمين متى بلغوا ثلاثمائة رجل فستكون الحرب حتى يجلي المسلمون المشركين عن مكة، أو يجليهم المشركون عنها، ولن يرده ما يعرفه من حدة أبي جهل وبأسه عن أن يذهب إليه في داره فيضرب عليه بابه ليقول له إنه أسلم، هو قوي مؤمن بالقوة، وهو شاب أشد بالقوة إيمانا، وهو جريء صريح لا يهاب الأقران ولا يخشى أحدا؛ لذلك لم يستخف كما استخفى غيره من المسلمين، بل أقسم ليصلين مع المسلمين عند الكعبة، وذلك بعد أن كانوا يصلون مستخفين في شعب من شعاب الجبل المحيط بمكة.
ولقد برت يمينه، كان عبد الله بن مسعود يقول: «كان إسلام عمر فتحا، كانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا.» وكان يقول: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.» وروي عن صهيب بن سنان أنه قال: «لما أسلم عمر أظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.»
والحق أن عمر لم تطب نفسه إلا أن جاهد قريشا، ليكون له ولإخوانه المسلمين ما لغيرهم من حق في بيت الله والصلاة لله حوله، وهو ما لبث حين جاهدها أن رأى معه حمزة بن عبد المطلب يجاهد جهاده، ويخرج وإياه مع المسلمين إلى موقف إيجابي لم يقفوه من قبل، موقف النضال ليكون لهم من الحقوق ما لغيرهم من قريش، وليكون لهم من حرية الدعوة إلى دينهم، ما لا سبيل لقريش أو لغير قريش أن تقف دونه.
وكان لهذا الموقف الإيجابي أثره في قبائل قريش جميعا، كان فيها كثيرون تهوي قلوبهم إلى الإسلام، ثم يمنعهم الخوف من أذى قريش أن يدينوا به، فلما رأوا عمر أسلم وقاتل قريشا وصلى عند الكعبة وصلى المسلمون جميعا عندها، دخلوا في دين الله وظنوا أنهم أصبحوا بمنجاة من الأذى ومن العذاب، عند ذلك قالت قريش بعضها لبعض: «إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها.» وجعلوا يفكرون في هذا الموقف الجديد كيف يواجهونه.
وانتشر النبأ بإقبال كثيرين من قريش على الإسلام، ثم انتقل هذا النبأ من الحجاز إلى الحبشة، وعرفه المسلمون الذين هاجروا إليها، فعادوا إلى وطنهم، فلما دنوا من مكة بلغهم أن ما تحدثوا به من إسلام أهلها لا يتفق والواقع، ذلك أن قريشا ما لبثت حين رأت كثيرين من أبنائها يقتفون أثر عمر ويتبعون محمدا، أن تعاهدت قبائلها فيما بينهم فكتبوا صحيفة تعاقدوا فيها على بني هاشم وبني المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، ورأى الذين هوت أنفسهم إلى الإسلام ولما يسلموا ما صنعت قريش، فترددوا، فوقفوا دون اتباع رسول الله، بذلك عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وعرف المسلمون الذين عادوا من الحبشة ما كان من ذلك، فلم يدخل أحد منهم البلد الحرام إلا بجوار أو مستخفيا، ورجع منهم إلى الحبشة كثيرون.
عادت الحرب العوان بين قريش والمسلمين، وصار عمر يتعرض لما يتعرض له أصحاب رسول الله، ويصيبه ما يصيبهم، ويتبع الوحي الذي ينزل من عند الله ثم يزداد بقوة إيمانه ودقة نظامه وحسن رأيه قربا من النبي وحظوة عنده، ليكون له من بعد في صحبة رسول الله، وفي عهد أبي بكر، وفي حياة الإسلام ذلك الأثر البالغ الذي جعل اسمه علما على القوة والعدل والرحمة والبر مجتمعة، وجعل عهده من أعظم العهود في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية، بل في تاريخ الحضارة الإنسانية.
هوامش
الفصل الثالث
في صحبة النبي
دخل عمر في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، فما لبث حين أسلم أن حرص على أن يذيع في قريش كلها إسلامه. كان المسلمون لا يستطيعون أن يصلوا بالبيت العتيق، فقاتل عمر قريشا حتى تركوهم فصلوا، وكانت الدعوة إلى الإسلام تجري خفية، حتى إذا أسلم عمر دعي إليه علانية، وجلس المسلمون حول البيت وطافوا به وانتصفوا ممن غلظ عليهم؛ لذلك فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فأقبل كثيرون من أبنائها على الإسلام، هنالك ائتمرت قريش، فتعاهدت قبائلها فكتبوا بينهم صحيفة علقوها في جوف الكعبة وتعاقدوا فيها على ألا تكون بينهم وبين محمد وبني هاشم وبني المطلب تجارة أو صلة، بذلك ازدادت الحرب شدة بين قريش والمسلمين.
وقد استعانت قريش في هذه الحرب بكل الأسلحة؛ استعانت بسلاح الدعاية فزعمت أن محمدا ساحر البيان يفرق بقوله بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، ودست عليه النضر بن الحارث يخلفه في كل مجلس ليقص على قريش نبأ فارس ودينها، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين، اكتتبها كما اكتتبتها، وأذاعت أن غلاما نصرانيا اسمه جبر هو الذي يعلم محمدا أكثر ما يأتي به، وكان محمد يكثر من الجلوس عند المروة إلى مبيعة هذا الغلام.
ثم إن قريشا اشتدت في إيذاء محمد وأصحابه؛ كانت أم جميل زوج أبي لهب تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله حيث يمر، وكان أمية بن خلف يهمزه ويلمزه كلما رآه، وكانت فتنة المستضعفين بمختلف أساليب العنف من مألوف ما يجري بمكة كل يوم.
وكان رسول الله والمسلمون الذين أقاموا معه بمكة ولم يهاجروا إلى الحبشة يلقون ما يصيبهم من ذلك كله صابرين على البأساء والضراء، فلما بلغ منهم الأذى وقاطعتهم قريش احتموا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، فكانوا فيه يعانون الحرمان، ولا يجدون من الطعام إلا القليل يحمله إليهم من أهل مكة من أخذتهم الشفقة بهم، ولولا ذلك لهلكوا جوعا، وقد ظلوا في هذا الشعب ثلاث سنوات حسوما، لا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم.
وفي هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يبلغهم رسالة ربه، فيرى بعضهم في صبره وصبر أصحابه على الأذى إيمانا بالحق الذي أوحاه الله إليه فيتبعونه.
وضاق هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية ذرعا بالصحيفة الظالمة التي قاطعت قريش بها محمدا فاتفقا مع آخرين فنزعوها من جدار الكعبة وشقوها، ولم تثر قريش لعملهم، فعاد محمد وأصحابه من الشعب، وجعل يذيع دعوته بمكة وفي القبائل التي تفد إليها في الأشهر الحرم.
وكانت قريش تزداد في حرب محمد عنفا كلما ازداد في الدعوة إلى الله إمعانا، ومات عمه أبو طالب، وماتت زوجه خديجة، فشجع ذلك قريشا على زيادة التعرض له وإيذائه، وأراد أن يستنصر ثقيفا بالطائف فردوه بشر جواب، وعرض نفسه في المواسم على القبائل وأتاها في منازلها، فلم يسمع له منها أحد.
ثم كان الإسراء، فانصرف جماعة من المسلمين عن دينهم، وازدادت قريش إيذاء لمن أقاموا على إسلامهم حتى ضاقوا بما يلقون منها ذرعا، على أن دعوة محمد كانت قد اتصلت على السنين، فتركت من الأثر ما جعل كثيرين يفكرون فيها وفي الحق الذي تنطوي عليه، وكان أهل يثرب أكثر تأثرا بها من سائر العرب؛ لذلك أسلمت طائفة منهم كانوا النواة لبيعة العقبة الأولى، وكان إسلامهم أول ما دعا رسول الله للتفكير في الهجرة إلى يثرب.
فلما استدار العام أقبل من المدينة خمسة وسبعون مسلما، ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وهؤلاء هم الذين بايعوا بيعة العقبة الثانية أو الكبرى، بايعهم رسول الله على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، ومن يومئذ أمر أصحابه بمكة أن يلحقوا الأنصار بيثرب على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، وكان هذا مبدأ الهجرة إلى المدينة، وبدأ انتقال الإسلام إليها وانتشاره منها إلى سائر الأرجاء من شبه الجزيرة.
هذه الفترة التي انقضت بين إسلام عمر وأمر محمد أصحابه أن يلحقوا الأنصار بيثرب هي لا ريب من أدق الفترات التي مر بها رسول الله ودين الله، أفكان لعمر بن الخطاب فيها مواقف تتفق وما عرف من صراحته وبأسه وقوة شكيمته؟ لم نقف في كتب السيرة وكتب التاريخ على شيء من ذلك فيه غناء، لكن ذلك ليس معناه أن عمر في فتوة شبابه ومضاء بأسه وبالغ قوته، قد وقف من الأحداث التي مرت حينئذ برسول الله وبالمسلمين موقفا سلبيا، فهو من غير شك قد كان من أكثر المسلمين شجاعة في احتمال ما ينزل بهم وصبرا عليه، ومن أشدهم دفعا لما يستطيع دفعه من الأذى عن رسول الله وعن إخوانه المسلمين، لكنه رجل يؤمن بالنظام ويحرص أشد الحرص على اتباعه، كان ذلك شأنه في الجاهلية، فأحر به أن يكون شأنه في الإسلام، وقد كانت سياسة رسول الله في هذه الفترة التي نتحدث عنها تتجنب البأس والشدة في كل مظاهرهما، ولا تتجاوز المغفرة لمن أساء إليه، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، كان ذلك موقفه من قريش بمكة، ومن ثقيف بالطائف، ومن سائر القبائل التي دعاها إلى النور والهدى فاستكبرت وأعرضت عن دعوته. وهذه سياسته لم يكن لبأس عمر وقوته أن يظهرا معها ظهورهما يوم أسلم وقاتل المشركين حتى صلى وصلى المسلمون معه عند الكعبة.
فلما كانت الهجرة هاجر عمر إلى المدينة كما هاجر غيره من المسلمين، فترك مكة في سر من أهلها، وإن جرت رواية تنسب إلى علي بن أبي طالب بأنه قال: «ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما واختصر عنزته
1
ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا متمكنا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة يقول لهم: شاهت الوجوه! لا يرغم الله إلا هذه المعاطس! من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.»
فابن هشام وابن سعد والطبري لا يثبتون هذه الرواية، بل يذكر ابن هشام في السيرة وابن سعد في الطبقات أن رسول الله أذن للناس في الهجرة، على أن يتركوا مكة متفرقين حتى لا تثور قريش بهم، فجعل المسلمون يخرجون أرسالا، يركب أهل القوة ويعتقبون، فأما من لم يجدوا ظهرا فيمشون، قال عمر بن الخطاب: «فكنت قد اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل، وكنا إنما نخرج سرا، فقلنا: أيكم ما تخلف عن الموعد فلينطلق صاحباه، فخرجت أنا وعياش بن أبي ربيعة، واحتبس هشام بن العاص ففتن فيمن فتن، وقدمت أنا وعياش فنزلنا قباء.» ثم تذكر الرواية بعد ذلك أن عياشا عاد إلى مكة استجابة لطلب أمه، وأنه حبس هناك ثم فتن فافتتن.
هل تتناقض هاتان الروايتان؟ أم يستطاع التوفيق بينهما بأن عمر تحدى المشركين على ما جاء في الرواية المنسوبة إلى علي بن أبي طالب، ثم هاجر بعد ذلك فخرج سرا على رواية ابن هشام وابن سعد؟ نرجح أن عمر لم يتحد أحدا، وأنه هاجر من مكة في سر من أهلها، وهو لم يفعل ذلك ضعفا منه أو جبنا، فهو لم يعرف الجبن ولا الضعف حياته، لكنه كان رجل نظام، فهو يتبع الجماعة ويحمل غيره على اتباعها، وقد كان المسلمون جميعا يخرجون في هجرتهم سرا فلا عجب أن يجاريهم عمر في ذلك حرصا على نظامهم، وحتى لا يشعر الذين يخرجون سرا بأنهم دون عمر في قوة إيمانه بالله ورسوله.
بلغ عمر قباء، فنزل بها في بني عمرو بن عوف على رفاعة بن عبد المنذر، ونزل أهله على رفاعة معه فلما جاء رسول الله مهاجرا وفي صحبته أبو بكر، كان عمر فيمن استقبله وسار في ركبه إلى المدينة، وعمل عمر مع رسول الله والمسلمين في بناء المسجد وبناء بيت رسول الله، حتى انتقل عليه الصلاة والسلام إليه من بيت أبي أيوب الأنصاري.
كانت الهجرة إلى المدينة بدء عهد جديد وسياسة جديدة في حياة الإسلام والمسلمين، اجتمع الذين هاجروا من مكة إلى الذين أسلموا بالمدينة، فكانوا قوة رفعت صوت المسلمين وأعلت كلمتهم، وأراد رسول الله أن يزيد هذا الصوت رفعة، وهذه الكلمة قوة، بأن يزيد ما بين المهاجرين والأنصار من رابطة، فيضاعف في نفوسهم الشعور بوحدتهم وعزتهم؛ لذلك دعاهم ليتآخوا في الله أخوين أخوين، فكان هو وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان عمه حمزة مولاه زيد بن حارثة أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين، وتآخى كذلك كل واحد من المهاجرين مع واحد من الأنصار إخاء جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب، وفي هذا الإخاء كان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أخو بني سالم بن عوف بن عمرو بن عوف الخزرجي، أخوين.
2
عززت هذه المؤاخاة مكانة المسلمين بالمدينة فخشي أهل يثرب من المشركين ومن اليهود بأسهم، لذلك لم يتردد اليهود فوادعوا رسول الله، وعقدوا معه عهدا يقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، وأضعف هذا العهد الذين أقاموا على شركهم من أوس المدينة وخزرجها، كما قوى المسلمين وزادهم بأسا وعزة.
هذه المكانة التي بلغها المسلمون في حياة المدينة العامة قد فتحت لعمر بن الخطاب ميادين لم تكن مفتوحة أمامه بمكة، إنه رجل نظام، ورجل رأي يناضل عنه في سبيل النظام، وقد كان المسلمون بمكة قلة عصمها إيمانها بالله ورسوله فلم تفتن ولم تضعف، متخذة من المقاومة السلبية سلاحها لدفع من يحاول فتنتها عن دين الله، والمقاومة السلبية لا تتفق وطبيعة عمر الثائرة القوية المتحفزة لتحدي من يتعرض لصاحبها؛ لذلك لم يكن بمكة متسع لنشاطه يبدو فيه وتظهر آثاره، أما وقد أصبح للمسلمين في حياة المدينة ونظامها هذا الأثر، فقد آن لعمر أن تظهر شخصيته وأن يكون له في الحياة العامة أثره.
بل لقد بدت في عمر صفات لم تعرف له بمكة: بدا أنه رجل محدث، يلهم الرأي وكأنما حدث بما ظن. لما اطمأن رسول الله بالمدينة كان الناس يجتمعون للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، وأراد رسول الله أن يجعل للمسلمين بوقا كبوق اليهود يدعون به لصلاتهم؛ لكنه كره البوق، فأمر بناقوس يدق ساعات الصلاة كما يدق الناقوس للنصارى، فنحت الناقوس وكلف عمر أن يشتري الغداة له خشبتين، وبينما عمر نائم في داره إذ رأى في المنام: «لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا للصلاة.» فذهب إلى رسول الله يخبره بما رأى فإذا الوحي سبقه به.
ويروى أن عبد الله بن زيد سبقه إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائف؛ مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ وألقى إليه صيغة الأذان، فأمر رسول الله بلالا فأذن بها، فسمعها عمر وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله يجر رداءه ويقول: يا نبي الله! والذي بعثك بالحق، لقد رأيت مثل الذي رأى!
من يومئذ بدأ الأذان للصلاة يعطر جو المدينة كل يوم خمس مرات فكان الحجة القائمة على أن كلمة المسلمين أصبحت العليا، والأذان للصلاة دعوة للنظام الذي يزيد الآخذين به أيدا وقوة، أما وقد حدث به عمر قبل أن ينزل به الوحي، فذلك الدليل على أن دين الحق قد أخذ على هذا الرجل القوي مسالك نفسه، فصار لا يفكر في شيء تفكيره في النظام الذي يزيد هذا الدين عزا وانتشارا.
على أن اليهود والمشركين الذين أقاموا على دينهم برموا بسلطان المسلمين وقوتهم، فبدءوا يأتمرون بهم ويعملون على مناوأتهم، وقد كان للمسلمين في مقاومة مؤامراتهم أساليب لا تخلو من شدة وعنف؟ وكان عمر بن الخطاب يشارك في هذه المقاومة كغيره من المسلمين.
وأراد رسول الله أن يرهب اليهود والمنافقين، وأن يقنع قريشا بأن الخير لها أن تصالحه على حرية الدعوة لدين الله، فبعث السرايا، وأمر عليها حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن جحش، كما خرج بنفسه على رأس بعضها، ولم تذكر كتب السيرة ولا كتب التاريخ شيئا عن اشتراك عمر في هذه السرايا الأولى، ولعل رسول الله قد آثر أن يبقى عمر بالمدينة لما كان من حسن سياسته مع صراحته في الحق، يشهد بذلك ما حدث حين قدم وفد من نصارى نجران إلى المدينة يجادلون رسول الله، فرد جدالهم وجدال اليهود بقوله تعالى:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
ثم دعا الوفد إلى قبول ما نزل عليه من ذلك أو يلاعنهم، ورأى هؤلاء النصارى أن يعودوا إلى قومهم ولا يلاعنوه، ثم رأوا شدة حرصه على العدل، فرغبوا إليه في أن يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في أمور اختلفوا عليها، فقال لهم رسول الله: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين، روى ابن هشام أن عمر بن الخطاب كان يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال: اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه فذهب بها أبو عبيدة.
وإنما طمع عمر في أن يوليه رسول الله الحكم لما كان يتولاه هو وآباؤه في الجاهلية من السفارة والحكم في المنافرات بين القبائل، فاختيار النبي أبا عبيدة مع ما كان لعمر في نفسه من مكانة، يشهد بأن رسول الله حرص على بقاء ابن الخطاب بالمدينة كيما يستعين بصراحته وجرأته وحسن رأيه هذا، على أنه قد يكون خشي شدة عمر وغلظته، فاختار أبا عبيدة؛ لأنه جمع بين الأمانة ولين الجانب ورضا النفس.
لم تقنع قريش بما أراد رسول الله من موادعتها على حرية الدعوة لدين الله، بل ظلت على عداوتها له ولأصحابه، فلما خرج يلقاها ببدر في ثلاثمائة من المسلمين، وعرف أن الذين جاءوا من مكة يزيدون على الألف، استشار أصحابه: أيقاتلهم أم يعود أدراجه إلى المدينة، وكان عمر كما كان أبو بكر ممن أشاروا بالقتال، فلما بدأت المعركة ثم حمي الوطيس، كان مهجع مولى عمر بن الخطاب أول قتيل من المسلمين، وفي أثناء المعركة قتل عمر خاله العاص بن هشام، يروى أن عمر التقى يومئذ هو وسعيد بن العاص فقال له: «إني أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه
3
فحدت عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله.»
هذه الكلمة التي قالها عمر هي أول ما يروى عنه في هذه الغزوة التي وجهت تاريخ الإسلام وتاريخ العالم كله وجهة جديدة، وهي تصور الأثر الذي تركه الإسلام في نفس عمر أدق تصوير، ففي سبيل هذا الدين يجب أن يستهين الإنسان بكل شيء، ويجب ألا يتردد حين القتال إذا واجهه أخ أو قريب، إنه يقدم حياته لله وفي سبيل الله، فليس له أن يتردد لأي اعتبار دون ما ينصر دين الله.
وأسر المسلمون سبعين من قريش أكثرهم من ساداتها وذوي المكانة فيها، فكان عمر بن الخطاب أشد المسلمين على هؤلاء الأسرى وأحرصهم على أن يقتلوا، وقد طمع الأسرى في الحياة وأن يفتدوا، فبعثوا إلى أبي بكر أن يكلم رسول الله ليمن عليهم أو يفاديهم، ووعدهم أبو بكر خيرا، وخافوا أن يفسد عمر عليهم أمرهم، فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل قولهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا، وتحدث أبو بكر إلى رسول الله ليمن على هؤلاء الأسرى أو يفاديهم فيأخذ منهم ما يأخذ قوة للمسلمين، أما عمر فكان الشدة كل الشدة والبأس غاية البأس، قال: «يا رسول الله! هم أعداء الله، كذبوك وقاتلوك وأخرجوك، اضرب رقابهم، هم رءوس الكفر وأئمة الضلالة، يوطئ الله بها الإسلام ويذل بهم أهل الشرك.»
واستشار رسول الله المسلمين في هذا الأمر فانتهوا إلى قبول الفداء، وأفدى النبي الأسرى وأطلق سراحهم، لكن الوحي ما لبث بعد ذلك أن نزل بقوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم .
وكذلك كان عمر محدثا فيما أبدى من رأي عن أسرى بدر، كما كان محدثا في أمر النداء بالأذان للصلاة، وبذلك زاد في نظر النبي وفي نظر المسلمين قدر رأيه وزادت عند النبي وعند المسلمين رفعة مكانته.
وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان سهيل خطيبا بالغ الحجة، فلما رأى عمر مكرزا يفتديه، أسرع إلى رسول الله يقول: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، وأجابه رسول الله: «لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا.» وعبارة عمر صريحة الدلالة في إصراره على رأيه وألا يترك القادرون من هؤلاء الأسرى يعودون لمناوأة المسلمين، وهو قد أصر على هذا الرأي مع ما كان من إقرار جماعة المسلمين قبول الفداء.
نزل الوحي مؤيدا رأي عمر في أمر الأسرى، فزاد ذلك عمر قربا من النبي ومكانة عنده، وأصبح وزيره كما كان أبو بكر وزيره، وكانت حفصة بنت عمر زوجا لخنيس بن حذافة أحد السابقين إلى الإسلام، وقد فارقها خنيس قبل بدر بأشهر، فتزوجها رسول الله كما تزوج عائشة بنت أبي بكر من قبل، وربطت المصاهرة بينه وبين عمر، وأتاحت لابن الخطاب أن يتردد عليه، كما كان أبو بكر يتردد عليه.
استدار العام وخفت قريش تأخذ لثأرها من بدر، وأشار الناس على رسول الله بالخروج لملاقاتهم بظاهر المدينة عند أحد، ودخل رسول الله بيته، ودخل معه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه درعه، وتقلد سيفه وسار في أصحابه يواجه عدوه، وانتصر المسلمون أول النهار، ثم دارت الدائرة عليهم حين خالف الرماة أمر رسول الله فنزلوا من مراكزهم فوق الجبل يشاركون الناس في الغنيمة؛ فقد دار خالد بن الوليد بفرسان قريش وراء المسلمين، ثم صاح صيحة ردت قريشا لمهاجمة محمد وأصحابه وهم في شغل بجمع أسلاب الموقعة، واضطرب المسلمون لهجوم قريش وتداعت صفوفهم، ثم زادهم تداعيا أن صاح مشرك: إن محمدا قد قتل؛ فقد خيل إلى المسلمين حين سمعوا هذه الصيحة أنهم لم يعد لهم ولا للدين الذين آمنوا به بقاء، وما بقاء هذا الدين ثم ما بقاؤهم وقد وعد الله رسوله النصر، وهذا رسول الله يقتل بيد المشركين، وهؤلاء أصحابه يهزمون ويفتك المشركون بهم! بل لقد ألقى رجال من كبار المهاجرين والأنصار بأيديهم وتولاهم اليأس، فانتحوا ناحية من الجبل جلسوا فيها، وانتهى أنس بن النضر إلى مجلسهم ذاك، فألفى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وطائفة من المسلمين معهم وهم في اضطرابهم ويأسهم لا يدرون ما يصنعون، عند ذلك هتف بهم: «ما يجلسكم؟» قالوا: «قتل رسول الله.» قال: «فماذا تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه.» ثم استقبل المشركين، فقاتلهم قتالا شديدا، وأبلى في قتالهم أحسن البلاء، ولم يقتل حتى ضرب سبعين ضربة أزالت معالمه، فلم يعرف جثمانه بعد موته إلا أخته، عرفته ببنانه.
على أن المسلمين ما لبثوا، حين عرفوا أن رسول الله لم يمت، أن عادوا إلى إيمانهم بأن الله ناصر رسوله، فأسرع إليه أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط غيرهم يمنعونه، وعرف خالد بن الوليد مكانهم، فعلا الجبل على رأس فرسان معه يريد أن يقضي على محمد ومن حوله، لكن عمر بن الخطاب ورهطا من المسلمين واجهوا خالدا وفرسانه، وقاتلوهم مستميتين دفاعا عن الرسول فردوهم على أعقابهم، ولم يصل خالد إلى بغيته.
قدمت أن ما حدث به عمر عن الأذان للصلاة يشهد بأن دين الحق كان قد أخذ على هذا الرجل القوي مسالك نفسه، فجعله لا يفكر في شيء تفكيره فيه وفي النظام الذي يزيده عزا وانتشارا، وموقف عمر من أسرى بدر ونزول الوحي فيهم مؤيدا رأيه، ووقفته في وجه خالد بن الوليد قبل أن يفاجئ النبي ومن معه، هذان الموقفان يدلان أبلغ دلالة على استئثار دين الله بنفس عمر استئثارا جعله يتعصب له ويشتد في نصرته، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان عمر منذ نشأته مؤمن القلب بما يعتقده، وإذا آمن القلب وهب المؤمن نفسه هبة خالصة لما يؤمن به، لقد رأينا مواقف عمر في جاهليته؛ رأينا تعصبه لقريش على غيرها من القبائل، وتعصبه لدين قريش على دعوة محمد تعصبا جعله يشارك في تعذيب المسلمين الأولين؛ فلما هدى الله قلبه إلى الإيمان به، ووقف في جانب دين الله ينصره بالحمية التي كان يقاتله من قبل بها، والآن قد عز المسلمون بدينهم ونبيهم، فلا شيء يعدل عند عمر أن ينصر هذا الدين وأن يضحي له بكل شيء، وأن يضحي في سبيله بحياته، وما أصابه وأصاب المسلمين من يأس حين تحدثت قريش بوفاة النبي، كان بعض هذا التعصب للدين تعصبا جعل الحزن يخرج بعمر عن سداده، فلما عرف أن رسول الله حي أقبل يلقي بحياته في سبيل ما آمن به قلبه، فنصره الله على القائد العبقري الذي اعتزت به قريش والذي كسب لها أحدا.
على أن إيمان عمر وتعصبه لهذا الإيمان لم ينهنها من اعتزازه بنفسه واعتداده برأيه أمام رسول الله نفسه، وقد كان عمر في هذا الاعتزاز بالرأي من أقوى المسلمين شكيمة وأبلغهم حجة، صحيح أن المسلمين جميعا كانوا لا يعرفون الجمود، وكان صاحب الرأي منهم يشير على رسول الله ويجادل لينصر رأيه أو يقتنع بنقيضه، شأنه في ذلك شأن المؤمنين في عهود الثورة، إذ يريدون أن يبلغوا بها إلى أسمى ما تنطوي عليه مبادئها، لكن عمر كان أصرحهم وأكثرهم جرأة ، لم يمنعه حبه رسول الله وعظيم إيمانه برسالته أن يدلي أمامه برأيه وأن يصر عليه، وأنت قد رأيته في موقفه من أسرى بدر كيف طلب أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو بعد ما قبل المسلمون فداء هؤلاء الأسرى، وسنرى له مثل هذه المواقف من بعد في صحبة رسول الله وفي خلافة أبي بكر، ثم نرى من اجتهاده في حياة الرسول ما أقر القرآن بعضه، كما نرى الكثير من الأحكام والمبادئ التي اجتهد فيها برأيه بعد وفاة الرسول باقيا يأخذ المسلمون به إلى اليوم.
لما سار رسول الله لقتال بني المصطلق وفرغ منهم، ازدحم رجلان من المسلمين على الماء واختلفا فاقتتلا، وكان أحد الرجلين من المهاجرين والآخر من الأنصار؛ فصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين! وصرخ صاحبه: يا معشر الأنصار! عند ذلك قال عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بالمدينة لمن حوله: «لقد كاثرنا المهاجرون في ديارنا والله ما أمرنا وإياهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.» وبلغت هذه المقالة رسول الله وعنده عمر بن الخطاب فهاج هائج عمر فقال: يا رسول الله! مر به عباد بن بشر فليقتله، وأجابه رسول الله فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! وأمر أن يؤذن بالرحيل في ساعة لم يكن المسلمون يرتحلون فيها.
وذهب ابن أبي إلى رسول الله ينكر ما قال، فنزل الوحي بتكذيبه، عند ذلك ذهب عبد الله بن عبد الله بن أبي، وكان مسلما حسن الإسلام، فقال: «يا رسول الله! إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار.» وأجابه رسول الله: «إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.» وأقام ابن أبي بعد ذلك ينظر إليه أهل المدينة شزرا ولا يقيمون له وزنا، وتذاكر النبي يوما شئون المسلمين مع عمر، وتناول الحديث ذكر ابن أبي وتعنيف قومه إياه، فقال رسول الله: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي أقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.» قال عمر: «قد والله علمت لأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم بركة من أمري.»
ولما مات عبد الله بن أبي هم النبي بالصلاة عليه، فقام عمر يذكر كيد الرجل للإسلام ونكايته به، ويذكر قوله تعالى:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، وابتسم النبي لحماسته في الطعن على رجل مات وقال: «لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له زدت.» وصلى عليه ومشى معه حتى فرغ من دفنه، وقد نزل بعد ذلك قوله تعالى:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره .
وأذن رسول الله في الناس بالحج لست سنوات من هجرته إلى المدينة، فلما قرب من مكة خرجت فرسان قريش تلقاه لتصده عن دخولها؛ فقد أقسمت لا يدخلها محمد عليهم عنوة، وكان رسول الله إنما جاء حاجا ولم يجئ غازيا؛ لذلك نزل الحديبية في أصحابه وعزم أن يفاوض قريشا لتفسح لهم طريق الطواف بالبيت وأداء فريضة الحج، ودعا إليه عمر بن الخطاب ليدخل مكة فيتحدث إلى قريش فيما جاء له، قال عمر: «يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان.» ودخل عثمان مكة، وطال حديثه مع قريش واحتباسه عن المسلمين حتى ظنوا أنه قتل، وبايع رسول الله أصحابه بيعة الرضوان لقتال قريش أن قتلوا عثمان، على أن عثمان عاد يذكر أن قريشا تأبى على المسلمين أن يدخلوا مكة هذا العام حفظا لهيبتها بين العرب ، لكنها لا تأبى المفاوضة للخروج من موقف الخصومة بعد أن أيقنت أن محمدا جاء حاجا ولم يجئ غازيا، واتصل الحديث بين الفريقين ابتغاء التعاهد والصلح، ولقد ضاق عمر صدرا بما كان النبي يقبله في هذه المحادثات، حتى لقد وثب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! أليس برسول الله؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أولسنا بالمسلمين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: أوليسوا بالمشركين؟ قال أبو بكر: بلى! قال عمر: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه،
4
فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
لم يقنع عمر بهذا الحديث بينه وبين أبي بكر، فذهب إلى رسول الله، والغضب لا يزال آخذا منه، فقال: يا رسول الله! ألست برسول الله؟ قال: بلى! قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال رسول الله: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني، وسكت عمر لهذا الجواب، وكان يقول من بعد: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون خيرا.
أرأيت إلى هذا الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالرأي! وما لعمر لا يعتز برأيه، وقد أيده الوحي في موقفه من أسرى بدر! ولقد ظل على رأيه حين أشار بقتل عبد الله بن أبي حتى أيقن أن أمر رسول الله أعظم بركة من أمره، كما ظل على رأيه في عهد الحديبية حتى نزل الوحي يؤيد رسول الله ويذكر أن هذا العهد فتح مبين، وكذلك كان يجادل رسول الله في الرأي مجادلة رجل لرجل حتى يتبين له الحق، إما بنزول الوحي، أو بتأييد الواقع رأيه، أو نقض الواقع له.
رأيت أن عمر لم يتجه بتفكيره إلى النظريات المجردة يقلبها ويمتحنها ليرتب عليها آثارها المنطقية، وإنما كان اتجاهه في الإسلام، كما كان قبله، إلى ما له أثر عملي في واقع الحياة الحاضرة أمامه، وهذا الأثر العملي هو الذي استثار رأيه في أسرى بدر، وفي أمر ابن أبي، وفي عهد الحديبية، كما أنه هو الذي استثار رأيه من بعد فيما لم ينزل به الوحي من شئون المسلمين العامة، ومن شئون رسول الله الخاصة.
كان لأهل مكة غرام بالنبيذ، وكان عمر صاحب خمر في الجاهلية، وقد ظل المسلمون يشربون الخمر طيلة مقامهم بمكة وعدة سنوات بعد الهجرة إلى المدينة، ورأى عمر ما يهيجه الشراب من سورة الغضب في النفوس، وما يدعو إليه من تنابز الشاربين ولمز بعضهم بعضا، وكثيرا ما انتهز اليهود والمنافقون أوقات الشراب ليثيروا بين الأوس والخزرج منازعاتهم القديمة، عند ذلك سأل عمر رسول الله عن الخمر، ولم يكن قد نزل فيها قرآن وقال: اللهم بين لنا فيها، فنزلت الآية:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ، ولما لم يكن في هذه الآية نهي عن الخمر فقد ظل بعض المسلمين يقضون ليلهم متوفرين على شرابهم، فإذا ذهبوا إلى الصلاة لم يعلموا ما يقولون فيها، وعاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال! فنزلت الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ومن يومئذ كان منادي الرسول للصلاة يقول: لا يقربن الصلاة سكران، وأقل المسلمون من الشراب وإن لم ينتهوا عنه، فبقي من أثره في بعضهم ما يسوء، شج أحد الأنصار مهاجرا بعظمة من عظام الجزور التي كانوا يأكلونها حين شرابهم لخلاف قام بينهما، وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضا فاضطغنا، ورأى عمر ذلك فعاد يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب العقل والمال، فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ، ولم يرق أناسا من المسلمين هذا النهي فقالوا: أتكون الخمر رجسا وهي في بطن فلان وفلان قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وفلان قتل يوم بدر؟ فنزل قوله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين .
هذا موقف عمر في شأن من شئون المسلمين العامة قبل أن ينزل الوحي بحكم فيه، ولم تكن شئون رسول الله الخاصة في رأي عمر كشئون غيره من الناس، بل كانت كشئون المسلمين العامة سواء، لذلك لم يكن يأبى أن يتعرض لها وأن يحدث النبي فيها، روى البخاري عن عائشة أنها قالت: «كان عمر يقول لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك فلم يفعل، وكان أزواج النبي يخرجن ليلا قبل المناصع،
5
خرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة، حرصا على أنه ينزل الحجاب، فأنزل الله عز وجل آية الحجاب.» وروي عن عمر أنه قال: «قلت: يا رسول الله! سيدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت آية الحجاب.» وآية الحجاب قوله تعالى:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
وقوله جل شأنه:
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما .
كان لعمر مع النبي في شئونه الخاصة موقف آخر، لعله لم يكن يقفه لولا أن ابنته حفصة كانت من أمهات المؤمنين، ذلك أن أزواج النبي أوفدن إليه يوما زينب بنت جحش وهو عند عائشة تصارحه بأنه لا يعدل بينهن، وأنه لحبه عائشة يظلمهن، فلما ولدت مارية إبراهيم وشغف رسول الله بالطفل حبا، ظاهرت عليه حفصة وعائشة وتابعهما سائر أزواجه، حتى رأى أن يهجرهن وأن يهدد بفراقهن، ورد في الصحيح عن ابن عباس أنه سأل عمر: من اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه؟ وأجابه عمر: تلك حفصة وعائشة، ثم قال: «والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا، حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينما أنا في أمر أأتمره إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا وما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبا لك يا بن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان، قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية! إنك لتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا تغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياها، ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت لي أم سلمة: عجبا لك يا بن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزواجه، قال عمر: فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، وكنا نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، وقال: افتح افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أزواجه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة! فأخذت ثوبي فأخرج حتى جئت، فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مشربة يرقى إليها بعجلة،
6
وغلام لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
أسود على رأس الدرجة، فقلت له: قل هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي، قال عمر : فقصصت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هذا الحديث، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم.»
وفي رواية أن النبي اعتزل نساءه شهرا كاملا، فلما أوفى الشهر على التمام أقام المسلمون بالمسجد ينكتون الحصى ويقولون: طلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نساءه، عند ذلك ذهب عمر إلى رسول الله في مشربته، فنادى غلامه رباحا كي يستأذن له، ولم يجب رباح، فكرر عمر النداء، فلما لم يجب رباح للمرة الثانية، رفع عمر صوته قائلا: يا رباح استأذن لي عندك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فإني أظنه ظن أني جئت من أجل حفصة، والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربن عنقها، وأذن له النبي
صلى الله عليه وسلم
فدخل، وبعد هنية قال: يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، ثم انعكف يحدث النبي حتى تحسر الغضب عن وجهه وحتى ضحك.
ويروى أن عمر دخل على نساء النبي حين اعتزلهن النبي وقال لهن: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن، وأجابته إحداهن قائلة: يا عمر! أما في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت! وفي هذا كله نزل قوله تعالى:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير * إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ، فلما نزلت هذه الآية رجع رسول الله إلى نسائه تائبات عابدات مؤمنات.
7
هذه أمور أثبت المؤرخون جميعا أن الوحي نزل فيها يؤيد رأي عمر، وفي صحيح البخاري أن عمر قال: «وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، وقلت يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي
صلى الله عليه وسلم
في الغيرة عليه فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية.» ولعل نزول الوحي موافقا رأي عمر في هذه المواقف هو الذي جعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه.» أو يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به.»
لهذه المواقف الكثيرة التي وقفها عمر من أسرى بدر، ومن عبد الله بن أبي، ومن الحديبية، ومن حكم الخمر، ومن نساء النبي، دلالة تلفت النظر، وتكشف عن جانب من شخصية عمر كان يزداد على الزمن وضوحا وقوة، ولسنا نقصد جرأته وصراحته وبروز شخصيته، وما إلى ذلك مما أسلفنا ذكره، ولسنا كذلك نريد حسن رأيه وواسع علمه، وإنما نرمي إلى ما دلت هذه المواقف عليه من عظيم اشتغاله بالشئون العامة، وتوفره عليها توفر من تعنيه سياسة قومه وتدبير أمورهم والعمل على حسن نظامهم، والواقع أنه برز في هذه الناحية أكثر مما برز غيره؛ ولذلك كان النبي يدعوه وزيره، وكان حين يشاور أصحابه يجعل لرأي عمر مكانة تعدل مكانة الرأي الذي يبديه أبو بكر صفي رسول الله وخليله.
وكان قدر عمر لا يفتأ لهذا يسمو في عيون المسلمين جميعا، مع أن النبي كان يخالف رأيه في كثير من المواقف مخالفة ترجع إلى ما كان لعمر من صلابة تجاوز الحزم، ولا تلتقي من ثم مع ما جمع رسول الله بين الحزم والحسنى، وبين القدرة والعفو.
لما سار المسلمون إلى فتح مكة، خرج العباس بن عبد المطلب، فرأى جيش ابن أخيه وقوته وأن لا قبل لقريش به، وخرج أبو سفيان بن حرب في جماعة يتنطسون الأخبار، وفيما أبو سفيان يتحدث إلى أصحابه عرف العباس صوته فقال له: يا أبا سفيان، هذا رسول الله في الناس، وا صباح قريش إذا دخل مكة عنوة! قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ وكان العباس على بغلة النبي البيضاء، فأركبه في عجزها، ورد أصحابه إلى مكة وسار به يريد النبي، ورأى عمر البغلة وعرف أبو سفيان، وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع إلى خيمة النبي وطلب إليه أن يضرب عنقه، فقال العباس: إني يا رسول الله قد أجرته، واحتدمت المناقشة بين عمر والعباس في أمر أبي سفيان، فأرجأ رسول الله الأمر إلى الصباح، وفي الصباح أسلم أبو سفيان بعد حوار بينه وبين رسول الله، فجعل النبي له من الفخر أنه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» وذهب عمر محنقا لنجاة أبي سفيان، حتى إذا فتحت مكة أبوابها، علم أن أمر رسول الله في هذه كأمره من قبل في قصة ابن أبي، كان أعظم بركة من أمره.
على أن صرامة عمر وصراحته ومخالفة النبي رأيه في بعض ما أشار به لم تنقص يوما من مكانة عمر أو من احترامه، ذلك بأنه كان صادق الإخلاص في كل ما يراه ويشير به، وللمخلص علينا حق احترامه وإكباره، وإن لم نأخذ بمشورته؛ ما بالك به إذا جاء الحق على لسانه في الكثير من مواقفه! ثم ما بالك به إذا خالفناه فرأيناه على الحق فرجعنا إلى رأيه! بعث النبي أبا هريرة يبشر بالجنة من شهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فلما سمعه عمر رده إلى رسول الله ردا عنيفا، وذهب في أثره يسأل رسول الله: أحق قد بعثته يبشر الناس هذه البشرى؟ فلما أجاب رسول الله أن نعم، قال عمر: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، وأخذ رسول الله برأيه وقال: فخلهم.
ولما اشتد برسول الله مرضه الأخير أشار إلى رجال من المسلمين كانوا في البيت حوله فقال: «إيتوني بدواة وصحيفة، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا.» واختلف الحاضرون، يقول بعضهم: «قربوا ليكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده.» ويخالفهم آخرون على رأسهم عمر فيقولون: «إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله.»
ورأى النبي خلافهم فقال: «قوموا، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف.» ولم يكتب، ولعله قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره، لما عرف من صدقه في إخلاصه وصراحته في رأيه،
والرجل أجدر باحترامنا وإكبارنا ما أنكر ذاته فصدر رأيه عن إخلاص للخير العام وحرص عليه، وكان عمر في ذلك خير مثل، وقد رأيت فيما قدمنا من آرائه كيف تنزه عن كل شائبة، بل لقد رأيته كيف ود أن يحرم الله الخمر ولم تكن محرمة، وقد كان في جاهليته رجل خمر يحبها ويتوفر على شرابها، فهو إنما ود أن تحرم حرصا على خير الجماعة وتماسكها وقوة نظامها، ثم إنه كان من أشد الناس زهدا في المال، فكان إذا أعطاه رسول الله مالا من فيء غنمه المسلمون قال: أعطه أفقر إليه مني، وقال ذلك يوما لرسول الله فقال له: خذه فتموله وتصدق به.
بل لقد بلغ من زهده أن أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمر به؟ وأجابه رسول الله: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها.» فتصدق عمر بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقا غير متمول فيها، وقال: إنه لا يباع أصلها ولا توهب ولا تورث، فكانت هذه أول صدقة تصدق بها في الإسلام، وكانت الأصل الأول لنظام الوقف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
رجل ذلك شأنه وهذا زهده لا عجب أن كان موضع التقدير والاحترام من كل المسلمين على ما كان في خلقه من شدة وغلظة، وموضع المحبة والإكبار من رسول الله حتى كان يدعوه يا أخي. استأذنه عمر يوما في العمرة فأذن وقال له: «لا تنسنا يا أخي من دعائك.» وكان عمر كلما ذكر هذه الكلمة يقول: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: «يا أخي».
وإخلاصه وتنزهه عن الهوى وحبه العدل هو الذي أبقى الفاروق لقبا له، وقد اختلف فيمن سمى عمر الفاروق، روي عن عائشة أنها سئلت عن ذلك فقالت: النبي عليه السلام، وروي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وهو الفاروق فرق به بين الحق والباطل.» وذكر ابن سعد في الطبقات عبارة بإسنادها نصها: «بلغني أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر الفاروق، وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال من ذلك شيئا.» وأي صح من هذه الروايات فقد كان عمر فاروقا لا ريب، وذلك ما خلد اسم الفاروق على الزمن؛ بقي لعمر إلى يومنا هذا، وسيبقى له أبد الدهر.
أما شدته وغلظته فهي التي جعلت رسول الله يؤثر أبا بكر عليه، ثم لا يؤثر عليه غير أبي بكر أحدا، لإخلاصه وصراحته وعزمه وحزمه، وبلغ من شهرة عمر بالشدة والغلظة أن لم يخفف منهما ما كان له في مواقف كثيرة من لين جانب ورقة عاطفة ذكرنا شيئا منهما في حديث إسلامه، روي أن عمر استأذن على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، ودخل عمر، ورسول الله يضحك ويقول: «عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب.» قال عمر: فأنت يا رسول الله أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قلن: نعم! أنت أفظ وأغلظ منه.
ولعل شدة عمر هي التي جعلت رسول الله يأمر في مرضه أن يصلي أبو بكر بالناس، وغاب أبو بكر مرة فصلى عمر بالناس وكبر بصوته الجهير، فقال رسول الله: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون.»
وقد تعجب لهذه الشدة وهذه الغلظة أين كانتا ساعة وفاة رسول الله؛ إذ أذهل النبأ عمر عن الواقع فكذب من حاول إقناعه بالحقيقة الأليمة، ووقف في المسلمين يقول: «إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد توفي، وإنه والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهن زعموا أنه مات.» فلما جاء أبو بكر ورأى رسول الله أيقن أنه مات، فوقف في الناس يقول: «إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.»
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ، فلما تلا أبو بكر هذه الآية خر عمر إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وكأنه لم يسمعها من قبل، فأين كانت شدته وغلظته هذه الساعة! بل أين هو في جزعه وهلعه من ثبات أبي بكر رقيق القلب سريع الدمع خليل رسول الله وصفيه، وأين هو من تجلده؟!
على أن عمر لم يلبث حين راجعه صوابه أن عاد الرجل السياسي، فأخذ يفكر في مصير المسلمين بعد الحادث الفاجع، وقد كان لتفكيره ولتصرفه في مواجهة هذا الموقف الدقيق من الأثر ما رد عن الإسلام كل عادية، وما مهد لانتشاره في الخافقين.
هوامش
الفصل الرابع
في عهد أبي بكر
أيقن عمر أن رسول الله قد مات، فأخذ يفكر في مصير المسلمين من بعده، وكان الأمر جديرا بأعمق التفكير؛ فلو أن العرب تنازعوا أمرهم بينهم لأصاب الإسلام شر ما له من دافع، فقد كان البعيدون عن مكة والمدينة، في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لا يخفون برمهم بسلطان قريش وسلطان المدينة، وبرمهم بهذا السلطان هو الذي أثار الأسود العنسي في اليمن، وهو الذي دفع بني حنيفة من أهل اليمامة ليتابعوا مسيلمة بن حبيب حين زعم أنه نبي، ودفع بني أسد ليتابعوا متنبئهم طليحة بن خويلد، فما عسى أن يكون مصير الإسلام بعد رسول الله إذا لم يحزم المسلمون أمرهم، ولم يواجهوا هذا الحادث الجلل بوحدتهم وثبات عزمهم؟
فكر عمر في هذا الأمر لأول ما أيقن أن رسول الله قد مات، وسرعان ما تبين في وضوح أن الأمر إذا ترك فلم يتوله في الحال من ينهض به ويدبر سياسة المسلمين، أوشك المهاجرون والأنصار أن يختلفوا، وأوشكت الثورة أن تضطرم في بلاد العرب كلها؛ لذا أسرع يشق طريقه خلال المجتمعين بالمسجد يتحدثون في وفاة رسول الله، وسار حتى أتى أبا عبيدة عامر بن الجراح، فقال له: «ابسط يدك أبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.» ووجم أبو عبيدة حين سمع مقالة عمر، وأدرك ما أدركه من ضرورة البت العاجل في أمر المسلمين، لكنه لم يرض رأي عمر، بل حدق فيه وقال له: «ما رأيت لك فهة
1
قبلها منذ أسلمت! أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإن الرجلين ليتبادلان الرأي في هذا الأمر الخطير إذا جاءهم النبأ بأن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يريدون أن تكون الإمارة على المسلمين لهم، عند ذلك أسرع عمر فأرسل إلى أبي بكر في بيت عائشة ليخرج إليه، ورد أبو بكر الرسول يقول: «إني مشتغل.» لكن عمر رأى أمر المسلمين أخطر من أن يترك لحظة أو يشغل عنه شاغل ولو كان جهاز رسول الله؛ لذا بعث كرة أخرى يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»
وخرج أبو بكر يسأل: أي أمر يمكن أن يصرفه عن جهاز رسول الله؟ قال عمر: «أما علمت أن الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير؟» ورأى أبو بكر خطر الموقف ، فأسرع ومعه عمر وأبو عبيدة يريدون السقيفة.
فلما بلغوها تولى أبو بكر مجادلة الأنصار في حزم ورفق، أما عمر فأقام إلى جانبه ينتظر ما يصير إليه الأمر، فلما رأى الحباب بن المنذر يحرض الأنصار ليثوروا إن لم يكن منهم أمير ومن المهاجرين أمير قام فقال: «هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم! ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم! ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة!» ورد الحباب يطلب إلى الأنصار إجلاء المهاجرين عن المدينة أو يتولوا عليهم الأمر، ثم وجه الحديث إلى المهاجرين الثلاثة يقول: «أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة.» فصاح به عمر: «إذن يقتلك الله!» ورد الحباب: «بل إياك يقتل!»
حركت هاتان العبارتان النفوس إلى الثورة، فتدخل أبو عبيدة بن الجراح في الأمر وقال موجها حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
سكنت هذه العبارة ثورة النفوس، فعاد القوم يتجادلون بالحجة، وانضم بشير بن سعد من زعماء الخزرج إلى المهاجرين فشق كلمة الأنصار، وقدر أبو بكر أن الأمر استوى وأن اللحظة لحظة الفصل، فقام يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة، ثم أخذ بيد كل من عمر وأبي عبيدة ونادى: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا!» ورأى عمر الناس اختلفوا فلم يدع للخلاف أن تنبت شجرته، فقام فنادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر!» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي أن تصلي أنت بالمسلمين! فأنت خليفة رسول الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعا.» وبايع أبو عبيدة أبا بكر وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وتتابع أهل السقيفة فبايعوا أبا بكر مجمعين، لم يند عنهم إلا سعد بن عبادة، فلما تمت البيعة عادوا إلى المسجد يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، فلما كان الغد جلس أبو بكر في المسجد، وقام عمر يعتذر إلى المسلمين عما ذكره من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» وقام الناس جميعا فبايعوا بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
هذا أول موقف لعمر بعد وفاة رسول الله، وهو كما ترى موقف حزم وبعد نظر وحسن سياسة بل هو موقف يرشح عمر للإمارة، ويشهد بجدارته لتولي سياسة الدولة الناشئة، مع إنكاره لذاته وتوجهه بكل تفكيره لخير الجماعة وحسن نظامها، لقد كان أشد الناس جزعا لوفاة رسول الله فلم يصدق حدوثها، فلما تيقنها لم يملك الجزع عليه تفكيره، ولم يصرفه الحزن عن التحدث إلى أبي عبيدة في أجل شأن المسلمين خطرا؛ في تدبير أمورهم وتوجيه سياستهم، وهو لم يكن يبتغي الأمر لنفسه على جدارته به، بل كان يفكر فيه تفكيرا منزها عن الأثرة والهوى؛ لذلك أسرع يريد أن يبايع أبا عبيدة، فلما نبهه أمين الأمة إلى أن الصديق أحق المسلمين جميعا بالأمر لم يتردد في إقرار رأيه، ولم يلبث حين عرف اجتماع السقيفة أن دعا أبا بكر ليواجهوا الأنصار فيه، ثم لم يصرفه عن مواجهتهم، ما قيل له من أن الانصار قر رأيهم فلن يعدلوا عنه، وذهابه مع صاحبيه إلى السقيفة هو الذي أدى إلى بيعة أبي بكر، وإلى اجتماع كلمة المسلمين.
لم يكن موقف عمر فيما قيل من تخلف علي بن أبي طالب وبني هاشم عن بيعة أبي بكر دون موقفه في السقيفة حزما وحسن سياسة، أنا في ريب من روايات التخلف عن البيعة، وقد أبديت هذا الرأي حين فصلت بيعة أبي بكر،
2
لكني لا أستطيع مع ذلك أن أجزم بأن عليا وبني هاشم أقبلوا على البيعة راضين إقبال غيرهم من المسلمين، والثابت أن فاطمة ابنة رسول الله ظلت مغاضبة أبا بكر إلى أن توفيت، أفكان ذلك لحرمان الصديق إياها ما طلبته ميراثا لها من أبيها، أم لأنها كانت ترى زوجها أحق من أبي بكر بالخلافة؟ ذلك ما اختلف فيه، فأما الذي لا خلاف عليه فذلك أن عمر كان يرى رأي أبي بكر أن تركة النبي صدقة لا تورث، ولا ريب أن رأيه هذا أغضب فاطمة، أفأدى غضبها إلى ثورة علي وإلى تهديد عمر وأخذه الأمر بالحزم؟ أيا كان ما حدث فقد ترك ما روي عنه أثرا في تاريخ الإسلام، لا يزال باقيا، وأقل هذا الأثر عدم إكبار الشيعة وغيرهم من العلويين عمر، بل عدم رضاهم عنه.
كانت سياسة أبي بكر بعد بيعته ألا يدع أمرا كان رسول الله يصنعه، وألا يصنع أمرا كان رسول الله يدعه؛ لذلك كان أول ما أمر به في خلافته أن يتم بعث الجيش الذي جهزه رسول الله بإمرة أسامة بن زيد لغزو الروم بالشام، وقد برم المسلمون بهذا الأمر كما برموا به في عهد رسول الله؛ لأن أسامة كان حدثا لما يبلغ العشرين، وزاد في برمهم خشيتهم أن تتعرض المدينة للخطر إذا غاب هذا الجيش عنها وانتقض العرب عليها وقاموا يناوئون سلطانها؛ لذلك قالوا لأبي بكر: «إن هؤلاء - أي جيش أسامة - جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» وأجابهم أبو بكر في حزم: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.»
أفكانت سياسة عمر في هذا الموقف كسياسة أبي بكر حزما وقوة؟ ذكروا أن أسامة طلب إلى عمر أن يستأذن أبا بكر في دعوة الجيش إلى المدينة ليكون عون الخليفة على المشركين، وقالت الأنصار لعمر: «فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة.» ولم يرفض ابن الخطاب طلب أسامة ولم يرفض طلب الأنصار، بل ذهب إلى أبي بكر فأبلغه ما قالوا، فكان رد الخليفة: «لو خطفتني الكلاب والذئاب لن أرد قضاء قضى به رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» وقال في طلب الأنصار: «ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتأمرني أن أنزعه!»
سار جيش أسامة وفيه جلة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيه عمر بن الخطاب شأنه شأن رجل منهم يدين بالولاء لأسامة أمير الجند، وسار أبو بكر يودع الجند ويوصيهم، فلما آن له أن يرجع، قال لأسامة: «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.» وأذن أسامة لعمر أن يدع الجيش وأن يرجع مع أبي بكر.
من الحق علينا أن نقف هنيهة ننبه إلى هذا الاختلاف في الاتجاه السياسي بين أبي بكر وعمر، فقد كان أبو بكر متبعا وليس بمبتدع، فما صنع رسول الله هو لا محالة يصنعه، وللمسلمين أن يقولوا ما شاءوا، وأن يخالفوه عن رأيه، فلن يسمع لهم ما كان يصدر عن أمر رسول الله، وقد أمر رسول الله أن يتم بعث أسامة فليتم، ليختلف المهاجرون والأنصار، ولتثر شبه الجزيرة كلها، ولتتعرض المدينة لما عسى أن تتعرض له من خطر، كل ذلك لا يمكن أن يصرف الصديق عن إنفاذ ما أمر رسول الله بإنفاذه، أليس الله قد اصطفاه وأوحى إليه كتابه، ووعده النصر وأن يحفظ دينه! فكيف تطوع لمسلم نفسه ألا ينفذ أمره! وكيف لخليفته الأول أن يكون أول مخالفيه.
وكان عمر يرى واجبا على السياسي أن يقيم وزنا لكل ما حوله من الأحداث، ومن هذه الأحداث أن خلاف المهاجرين والأنصار لم يظهر في عهد رسول الله ما ظهر في اجتماع السقيفة، وأن انتقاض العرب على سلطان المدينة لم يبلغ حد الثورة إلا حين ذاعت الأنباء بوفاة رسول الله في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة. إن المسلمين قد كانوا يدينون لأمر رسول الله عن إيمان وتسليم، وليس من حق أبي بكر أن يطمع في أن يدينوا له كما كانوا يدينون للرسول المصطفى من عند الله، فجدير بالخليقة أن يقيم لهذه الأمور وزنها، وجدير به، وقد انقطع الوحي بوفاة الرسول، أن يكون السياسي الذي يدبر الأمور بثاقب نظره وحسن بصره بالأمور، بعد أن لم يبق لغير البصر بالأمور تدبير أو سلطان.
هذا اختلاف جوهري بين الرجلين في سياسة الدولة، لكن هذا الاختلاف لم يكن ليجني على تقدير أحدهما صاحبه ومحبته إياه واحترامه له؛ لذلك أدى عمر لأبي بكر حقه، فلم يصنع أكثر من أن أبلغه رأي المسلمين وأيده بحجته، فلما أصر الصديق على رأيه سار عمر في الجيش جنديا مجاهدا في سبيل الله بإمارة أسامة، وما كان له ألا يفعل وقد بايع أبا بكر وأقر له بخلافة رسول الله، وأدى أبو بكر لعمر حقه، فاصطفاه وزيرا يشير عليه كما كان يشير على رسول الله، وكذلك ظلت علاقات الرجلين علاقات مودة صادقة واحترام متبادل وتعاون وثيق لخير الإسلام والمسلمين.
وقد حدث مثل هذا الاختلاف في الرأي بين الرجلين وجيش أسامة لا يزال في الشمال من شبه الجزيرة يقاتل أنصار الروم، ذلك حين أرادت قبائل عبس وذبيان القريبتين من المدينة أن تمنعا الزكاة، فقد رأى أبو بكر أن يقاتلهم، ودفع حجة مخالفيه في الرأي بقوله: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم على منعه!» وكان عمر من هؤلاء المخالفين القائلين بموادعة من أرادوا منع الزكاة والاستعانة بهم على المرتدين، وقد كان عنيفا في تأييد رأيه، حتى لقد وجه الكلام إلى أبي بكر في شيء من الحدة يقول: «كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله!» وأجاب أبو بكر على اعتراض عمر بقوله: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: إلا بحقها.» مع هذا الخلاف في الرأي، ومع أن أبا بكر حمل التبعة كاملة فقاتل الذين منعوا الزكاة وظفر بهم، لم يتغير ما بين الرجلين من ود، وسار عمر إلى جانب الصديق مجاهدا في صفوف المسلمين، إنه رجل نظام، وأبو بكر هو المسئول عن شئون الدولة، فواجب عمر أن يشير برأيه، وواجبه كذلك أن يطيع أمر الخليفة متى أمر، وقد فعل، ثم بقي الوزير الذي يسمع لقوله وتقدر مشورته.
ظفر أبو بكر بالذين منعوا الزكاة، فكان ظفره حجة ملموسة لرجاحة رأيه وحسن سياسته، ويروى عن عمر في هذا الشأن أنه قال: «والله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.» فلما عزم أبو بكر بعد هذا النصر أن يقاتل المرتدين في أرجاء شبه الجزيرة جميعا لم يخالفه أحد، ولعل المسلمين رأوا في الرجل الذي لزم الرسول عشرين عاما سويا نفحة من روح الرسول جعلته يرى بنور الله ما لا يرون، ويلهم من الرأي ما لا يلهمون، وسارت جيوش المدينة بإمرة عمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى قضاعة وإلى بني أسد تحارب المرتدين وتردهم إلى دين الله، والمسلمون مطمئنون إلى نصر الله جنده المجاهدين في سبيله، وابن الخطاب مقيم إلى جانب الخليفة يشير عليه بالرأي ويدبر وإياه سياسة الدولة.
وقضى خالد بن الوليد على الردة في بني أسد، وانتقل من منازلهم إلى البطاح يقضي على الردة في بني تميم، فقتل زعيمهم مالك بن نويرة وتزوج من امرأته،
3
مخالفا بذلك تقاليد العرب إذ كانوا يجتنبون النساء في الحرب.
غضب أبو قتادة الأنصاري لمقتل مالك بن نويرة بعد ما أظهر إسلامه، وظنها حيلة من خالد ليتزوج الجميلة ليلى، وكان يقال: إنه يهواها في الجاهلية، وذهب أبو قتادة ومتمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة، ولقيا أبا بكر وقصا عليه ما رأيا، فلم يزد على أن ودى مالكا، وكتب برد السبي، ثم أنكر على أبي قتادة أن يطعن في خالد أو أن يتهمه، وتحدث أبو قتادة إلى عمر بن الخطاب، فشاركه عمر في رأيه وانطلق يطعن معه على خالد وينال منه، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر محنقا وقال له: «إن في سيف خالد رهقا، وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله؛ لذلك قال حين ألح عمر عليه: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكف هذا الجواب عمر، فلم يكف عن المطالبة بعزل خالد، حتى ضاق الخليفة بإلحاحه فقال له: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم سيفا سله الله على الكافرين!»
هذا جواب حاسم لا ريبة معه في أن أبا بكر لن يعزل خالدا، أترى عمر اكتفى به، مطمئنا إلى أنه أدى واجبه في المشورة، وإلى أن واجبه بعد ذلك أن ينزل على رأي الخليفة وألا يثير الشبهة فيه؟ كلا! فقد كان عمر ثائرا بخالد ثورة جعلته يبالغ في النيل منه، فيجمع من حوله متمما وأبا قتادة ومن لف لفهما، ويستنشد متمما شعره في رثاء مالك، ويظهر الرضا عنه وعما يقول، وكيف لعمر أن تطيب نفسه فيسكت عن رجل قتل امرأ مسلما ونزا على امرأته، فوجب رجمه! ليكن هذا الرجل سيف الله! وليكن خال عمر وابن عم أمه! وليكن له من الفضل في قتال المرتدين ما له! إن الأمر يتصل بنظام الجماعة والمحافظة عليه، ولا شيء أضر بهذا النظام من التفريق بين الناس في المعاملة، والتسامح مع أحدهم في أمر يؤخذ به غيره ويعاقب عليه؛ لذلك لم يهدأ ثائره حتى استدعى أبو بكر خالدا إلى المدينة، ولا يشك عمر في أن الخليفة سينتهي إلى رأيه فيعزل القائد العبقري، لكن أبا بكر لم يصنع إلا أن عنف خالدا على التزوج من امرأة لم يجف دم زوجها، ثم تجاوز عما كان من قتله مالكا ومن معه من بني تميم، وأمره أن يسير ليلقى مسيلمة ورجاله باليمامة، مطمئنا إلى أن الله سينصر خالدا على بني حنيفة، فيصهره النصر وينسى الناس زواجه من ليلى.
لم يتزحزح عمر مع ذلك عن رأيه فيما صنع خالد وفي وجوب عزله وكان لهذا الإصرار أثره من بعد حين تولى عمر إمارة المؤمنين، فقد عزل خالدا عن إمارة الجيش أول ما تولى، ثم عزله من بعد ذلك عن عمله في الجيش كله، وسنقص تفصيل ذلك ورأينا فيه في مواضعه من هذا الكتاب.
لم ترو كتب التاريخ أن أبا بكر وعمر اختلفا في أمر ما اختلفا في أمر خالد، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين واتجاه كل منهما في سياسة الدولة، فقد كان عمر يرى أن لا عذر لرجل عن إثم إلا أن يكفر عنه، بذلك يستقر الأمر، ويقوم نظام الحكم على أساس متين من المساواة الصحيحة، والكبراء الذين يأتمون أكبر جريرة عنده، فالعفو عنهم أشد على نظام الجماعة خطرا، أما أبو بكر فكان يذكر أن رسول الله هو الذي سمى خالدا سيف الله، وأنه إذا وجب أن تدرأ الحدود بالشبهات في أوقات السلم، فأوجب أن تدرأ بها في أوقات البأس والخطر، وقد كان المسلمون في حاجة إلى خالد وعبقرية قيادته يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل لذلك لم يعزله أبو بكر، بل وجهه إلى مسيلمة باليمامة فقضى عليه، ثم وجهه إلى العراق ففتحه، ثم نقله إلى الشام فأنسى الروم به وساوس الشيطان.
أدى إصرار عمر على رأيه في خالد أن يتسقط كل هناة له، وأن يطلب إلى الصديق مؤاخذته بها، تزوج خالد إثر انتصاره باليمامة بنتا بكرا، فكتب الصديق يعنفه ويقول له: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» ونظر خالد في الكتاب فقال: هذا عمل الأعيسر، والأعيسر عمر بن الخطاب، ولما فتح العراق وبلغ فيه منازل هذيل وقضى عليهم، قتل رجلين معهما كتاب من أبي بكر بإسلامهما، ورأى عمر في مقتلهما ما يؤاخذ خالد به، وقال عن الرجلين: «كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب.»
يرى بعضهم عجبا أن يثور عمر بخالد كل هذه الثورة، وخالد خال عمر، وخالد سيف الله وناصر دينه، وقد يزيل هذا العجب ما يرويه بعض المؤرخين من أن عمر كان سيئ الرأي في خالد من قبل إسلامه، وكان سيئ الرأي فيه حياته،
4
ولعل عمر لم ينس لخالد غزوة أحد وموقفه منها، وانتصار المشركين على المسلمين بمهارته فيها، ثم مهاجمته رسول الله لولا أن وقف عمر في وجهه وصده عن غرضه، ومهما يكن من شيء فالثابت أن ابن الخطاب لم يحبب خالدا وإن لم يمنعه ذلك من تقدير قدرته والإعجاب بعبقرية قيادته، وكان خالد يبادل عمر هذا الشعور، ويرى إصبعه في كل أمر يجيئه من الخليفة لا يوافق هواه، وذلك قوله حين نقله أبو بكر من العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.»
من حقك أن تعجب لهذا الاختلاف الواضح بين أبي بكر وعمر في أمر خالد بن الوليد، لكن من الحق عليك أن تعجب بهذين الرجلين العظيمين كيف لم يغير هذا الاختلاف البين من مودتهما ومن وثيق تعاونهما لخير الإسلام والمسلمين، فقد ظل عمر على ولائه لأبي بكر وعلى عهده معه، يؤدي واجبه في الإدلاء بالمشورة، وينفذ أمر الخليفة بإخلاص تام في كل ما يعهد الخليفة إليه في تنفيذه، وقد ظلت ثقة الصديق بعمر كما كانت، ولم يعرها وهن ولم تتغير في قليل ولا كثير، وهذا الإخلاص المتبادل وهذه الثقة الأكيدة هما ملاك النظام في الدولة ومصدر بأسها وقوتها، ولذلك بلغت المملكة الإسلامية في عهد هذين الرجلين شأوا لم يتح لمملكة غيرها في العالم كله، وظل اسم أبي بكر واسم عمر في صحف التاريخ علما على الصدق والأمانة والقوة، ولا يدانيه في الجلال والعظمة علم غيره.
أبى أبو بكر أن يقيد من خالد بن الوليد لقتله مالك بن نويرة وتزوجه من ليلى، ووجهه إلى اليمامة، فكان نصره فيها حاسما، وكان إيذانا من الله بالقضاء على الردة في أرجاء شبه الجزيرة جميعا، وإن استشهد فيها من المسلمين ألف ومائتان، وقد جزع أهل المدينة لمن استشهدوا، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم جزعا لمقتل أخيه زيد، حتى لقد واجه ابنه عبد الله حين رجع إلى المدينة بقوله: «ما جاء بك وقد هلك زيد؟ ألا واريت وجهك عني!» وأجاب ابنه في صدق وإيمان: «سأل الله الشهادة فأعطيها؟ وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.»
على أن جزع عمر لمقتل أخيه لم يثنه عن التفكير في أمر هو أجل الأمور في حياة الإسلام والمسلمين خطرا، فقد كان فيمن استشهد عدد من حفاظ القرآن، فما عسى أن يكون الأمر إذا تلاحقت الغزوات فقتل فيها مثل من قتل من الحفاظ باليمامة؟ فكر عمر في هذا الأمر حتى استقر رأيه، ثم ذهب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد، فقال له: «إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.»
فوجئ الصديق بهذا الاقتراح فكان جوابه: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟» وأيد عمر رأيه بالحجة فأقنع أبا بكر، فدعا زيد بن ثابت وذكر له ما دار بينه وبين عمر، ثم قال له: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه.» وتردد زيد كما تردد أبو بكر، ثم شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقام فتتبع القرآن يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، وكذلك كانت مشورة عمر هي التي أدت إلى جمع القرآن وإلى بقائه كما جمع من يومئذ، حتى ليقول عنه المستشرق الإنجليزي وليم ميور: «والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»
وتذهب رواية إلى أن عمر أول من جمع القرآن في المصحف، وهذا قول يخالف التواتر، على أن التواتر يقر بفضله في المشورة على أبي بكر بالجمع وإقناعه به، فلو أن عمر لم يتنبه إلى ما قد يتعرض له القراء في غير اليمامة من المواطن، وما قد يترتب على ذلك من ذهاب قرآن كثير، لما فكر الصديق في جمع القرآن ولما أقدم عليه، بل لو أن عمر لم يراجع أبا بكر حين قال: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله.» ولم يقنعه بضرورة الجمع لما حرص أبو بكر عليه، ولا دعا زيد بن ثابت ليقوم به، فإذا كان لأبي بكر من الفضل في هذا العمل العظيم ما جعل علي بن أبي طالب يقول: «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف.» فلا ريب في أن عمر يشاركه في الأجر والفضل جميعا، وفي أن المسلمين مدينون له دينهم لأبي بكر في جمع كتاب الله، وهذه واحدة من نفحات روحه العظيمة، ومن أجل هذه النفحات وأعظمها خيرا وبركة.
لعلك رأيت فيما سبق ما بلغه عمر من مكانة في عهد الصديق، ورأيت أنه كان في هذا العهد كما كان في صحبة رسول الله رجل مشورة وحسن سياسة أكثر مما كان رجل مواقع وغزوات، بل لقد رأيته كيف خالف أبا بكر في قتال من منعوا الزكاة، كما ود قبل ذلك ألا يتم بعث أسامة، فلما رأى سياسة الجهاد والحزم تؤدي إلى الرفعة والنصر، آمن بها، وأيد أبا بكر فيها بكل قوته، أليست سياسة الجهاد هي التي قضت على الردة وأعادت المرتدين إلى حظيرة الإسلام، وجمعت شبه الجزيرة إلى لواء واحد؟ أولم تفتح هذه السياسة أبواب العراق وتمهد للإدالة من دولة كسرى؟ لا عجب إذن أن يؤمن عمر بها، وأن يندفع في تأييدها اندفاعه في تأييد كل ما يؤمن به.
لما تقدم خالد بن الوليد في العراق، ودوت أنباء نصره في شبه الجزيرة وما حولها، عزم أبو بكر على فتح الشام، وأصبح يوما فدعا إليه أهل الرأي وعمر في مقدمتهم، وذكر لهم أن رسول الله كان عول على أن يصرف همته إلى الشام، فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه، «والعرب بنو أم وأب، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا عند الله عز وجل ثواب للمجاهدين.» وطلب إليهم رأيهم في ذلك، فكان عمر بن الخطاب أسبقهم إلى إجابته، قال: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد، سرب إليهم الخيل في أثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال، والجنود تتبعها الجنود، فإن الله عز وجل ناصر دينه، ومقر الإسلام وأهله، ومنجز ما وعد رسوله.»
لم يتحمس الحاضرون لهذه الدعوة مع ما كان من كلام أبي بكر وعمر، بل تداولوا الحديث وقد أخذتهم هيبة الروم، فلما فرغوا منه عاد أبو بكر يدعوهم للتجهز فسكتوا، عند ذلك صاح فيهم عمر: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذ دعاكم لما يحييكم!» وهزت هذه الصيحة الحاضرين، فرضوا الجهاد وإن آثروا أن يستعين الخليفة على عدوه بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعا.
قف هنا وقفة أخرى، فهذا التغير الذي طرأ في اتجاه عمر، وأدى إلى تأييد سياسة الغزو بكل هذه القوة، يعزز تصويرنا السابق لطريقة تفكيره، ويزيدنا اقتناعا بأنه كان رجلا عمليا لا يقيم وزنا للفكرة من حيث هي، ولذاتها، بل من حيث ما تترك من أثر في واقع الحياة، ذلك ما ذكرناه حين صورنا طريقة تفكيره لمناسبة إسلامه، وانقلابه من سياسة الحذر إلى سياسة الغزو في عهد الصديق يزيد هذه الصورة جلاء ووضوحا، فهو قد كان للإسلام مباعدا، وكان على المسلمين حربا حين لم يكن للمسلمين من البأس ما يحمل غيرهم على الاعتداد بهم، فكان يرى وجودهم خطرا على نظام مكة وعلى مكانتها الدينية، فلما رأى المسلمون يثبتون على دينهم ويحتملون الأذى والتضحية في سبيله، ويبلغ بهم ذلك حتى يهاجروا عن وطنهم، تبين له ما لهذا الدين الجديد من سلطان على نفوس من يدينون به، وأيقن أنهم لن يغلبوا، عند ذلك راجع نفسه وجعل يفكر فيما يسمع من القرآن، حتى آمن بالله ورسوله وما جاء من عند الله، فلما آمن أيد المسلمين بمثل القوة التي كان يحاربهم بها من قبل، وهو قد كان لسياسة أبي بكر في القتال مباعدا، لم يطب نفسا ببعث أسامة ولم يرض قتال الذين منعوا الزكاة، فلما جهز أبو بكر المدينة لحروب الردة وقف بعيدا عن هذا التجهيز، فلا يكاد المؤرخون يذكرون له يومئذ رأيا، لكن سياسة أبي بكر في الغزو نجحت فقضت على المرتدين وفتحت العراق، عند ذلك انقلب عمر يؤيدها بكل قوته، كما آمن فانقلب يؤيد الإسلام بكل قوته.
وقد كان لهذا الاتجاه الجديد في تفكير عمر أثره من بعد في استخلاف أبي بكر إياه، وفي نجاح سياسة الفتح التي بدأها أول الخلفاء، وسنرى من بعد كيف أدت حماسة عمر لهذه السياسة إلى إقامة الإمبراطورية الإسلامية على أنقاض الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.
على أن ما حدث يومئذ من تغير في اتجاه عمر السياسي لم يصحبه تغير في تفكيره الاجتماعي، وكان تفكير عمر في الناحية الاجتماعية يخالف تفكير الصديق في طائفة من الأمور الجوهرية مخالفة تبلغ بعض الأحيان حد المناقضة، كان أبو بكر شديد الحرص على المساواة بين المسلمين لا يفرق فيهم بين عربي وعجمي، ولا بين السابقين إلى الإسلام ومن دانوا بعدهم به، فتح في عهده منجم للذهب على مقربة من المدينة فكان يسوي في قسمة الذهب الذي يجيء منه بين المسلمين، وقيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام على قدر منازلهم، فكان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» ولقد دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما فعل مع أهل المدينة، أما عمر فكان يميل بتفكيره إلى نظام الطبقات، كان يؤثر السابقين إلى الإسلام، ويؤثر أهل البيت على هؤلاء السابقين، وقد ترك هذا التفكير العمري أثرا في حياة المسلمين وفي سياسة الدولة الإسلامية وجه التاريخ الإسلامي في كثير من الحقب، ولا يزال باقيا إلى اليوم، وسنرى من ذلك، حين الكلام عن الديوان وعن نظام الحكم، ما لا يدع مجالا للريب فيه.
وهو لم يكن يخفي هذا الميل إلى تفضيل بعض الطبقات على بعض في عهد أبي بكر، لما شاور الصديق أهل مكة في غزو الشام واستمدهم إليه، على نحو ما فعل مع أهل المدينة، عارضه عمر في ذلك معارضة أساسها الحرص على أن يكون للمهاجرين والأنصار من السابقين إلى الإسلام أولوية في الرأي والسلطان على سائر المسلمين، وقد اعترض سهيل بن عمرو رأي عمر في ذلك وقال له: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أفإنكم أن كان الله قدم لكم في هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون أرحامنا ومستهينون بحقنا؟» وأجابه عمر في صراحة: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم للإسلام وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.»
على أن ما رآه عمر من تفضيل السابقين للإسلام وتفضيل أهل بدر وتفضيل آل البيت، لم يكن مصدره الهوى، وإنما كان مصدره الاقتناع، فلم يكن له أي أثر في معاملته لهؤلاء جميعا وفي عدله بينهم في خلافة أبي بكر وفي خلافته، ذلك أنه كان مفطورا على العدل، كمل في نفسه معناه وتجسمت في بصيرته صورته، ولي القضاء في عهد أبي بكر عامين فلم يختلف إليه متقاضيان، ولا ريب أن قد كان لاشتغال المسلمين بالغزو والفتح في حروب الردة وفي فتح العراق والشام أثر في ذلك كبير، ولا ريب كذلك في أن ما اشتهر عن عمر من العدل قد كان له فيه أثر أي أثر، فمن العوامل التي تشجع الناس على التقاضي طمع من لا حق له في أن يخطئ القاضي فيضل طريق الحق، أو يحابي فيحيد عن هذا الطريق، ولم يعرف الناس أن عمر كان يحابي في الحق أحدا، أو أنه كان ينظر في الأمور بغير روية أو تمحيص يهديانه الحق ويكشفان له عنه، لا عجب وذلك شأنه ألا يذهب إليه متقاض يلتمس عنده غير الحق، ثم لا عجب أن يخشى الباغي سطوته، فيرجع عن بغيه ويرد إلى صاحب الحق حقه.
وكان العدل في فطرة عمر منذ نشأته، ثم نمت فكرة العدل في نفسه حتى بلغت الكمال؛ لأنه سما بعقله وقلبه فوق شهوات هذه الحياة الدنيا، فلم يجعل لها عليه سلطانا، اشتغل بالتجارة صدر شبابه فكفاه منها أن ترزقه وترزق عياله رزق كفاف لا رزق نعمة وترف، وكان يذهب في تجارته إلى العراق وإلى الشام واليمن، فكان أشد حرصا على مقابلة الأمراء والحكماء من أهل هذه البلاد ليزداد بالتحدث إليهم علما، منه على أن تزداد تجارته ربحا فيصبح من الأغنياء، فلما أسلم اتجه به إسلامه شيئا فشيئا إلى ناحية التطهر، فاتخذ من التقشف وسيلته إلى هذه الغاية، لذلك استغنى عما في أيدي الناس، فلم يكن له عند أحد منهم حاجة، ولم يكن له في أحد منهم مطمع أو مأرب، ولعل ما عرف عنه من غلظة قد دفعه إلى هذا التطهر وأعانه عليه، فهو لم يكن يبالي أن يقول لكل إنسان كل ما يعتقده من غير مداراة أو التماس للرضا، ألم يذهب إلى رسول الله إثر عهد الحديبية يقول له: «ألست برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا!» ولم يكن عمر يصطنع هذه الجرأة معتزا بها ما استغنى عن الناس، فإذا احتاج إليهم دارى وتزلف، فإنما يداري ويتزلف من تذله الدنيا وتستهويه، فأما من أذل الدنيا مستغنيا عنها فهو أشد استغناء عن الزلفى وعن المداراة، وذلك شأن المتطهرين أولي النفوس الكبيرة والقلوب المصفاة، وكان عمر في الطليعة من هؤلاء.
هذه الصفات التي اجتمعت لعمر مالت به إلى إيثار الخير العام على نفسه وعلى أهله وذويه، وهذا التفكير الذي انتهى به إلى أن يؤمن بسياسة أبي بكر في التوسع بالعراق والشام، جعلت أبا بكر يراه أجدر من يخلفه على سياسة المسلمين، لكن في عمر شدة وغلظة ترغبان بالكثيرين من أولي الرأي عن مودته، وأصحاب الرأي هم أعوان الخليفة في سياسة الدولة، فإذا انقطعت المودة بينه وبينهم لم يسرعوا إلى معاونته بالرأي، فشق عليه أن يسوسهم وأن يسوس الدولة بهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يوازن بين صفات عمر وحسن سياسته وبين ما فطر عليه من غلظة قد تفسد عليه الأمر ثم لا تكافئها سائر مزاياه؟
فكر الصديق في هذا الأمر حين شعر في مرضه بأنه مشف على الموت، أتراه يدع المسلمين يختارون لأنفسهم، فلا يشير عليهم في الأمر برأي ولا يستخلف منهم أحدا، وله أسوة في رسول الله؟! هذا أيسر طريق وأهونه، لكن الصديق ذكر سقيفة بني ساعدة وموقف الأنصار بها، وذكر ما كان موشكا أن يحدث لولا أن جمع الله كلمة المسلمين على بيعته، ولئن اختلف المسلمون حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرا، فلم يبق الأمر دائرا بين المهاجرين والأنصار دون غيرهم بعد أن جاهد العرب ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا، أدى اختلافهم إلى فتنة قد تثور في بلاد العرب كلها، فتفسد الأمر وتقضي على سياسة التوسع وهو لا يزال في بداءته، فأما إذا استخلف وجمع كلمة المسلمين على من استخلفه فقد اتقى ما يخشى، وإذا كان رسول الله لم يستخلف، فذلك لئلا يظن الناس أن من استخلفه قد استمد الأمر على المسلمين بوحي من عند الله، فأصبح خليفة الله، ولا خوف من مثل هذا الظن إذا استخلف أبو بكر، فجنب المسلمين الاختلاف، وكفل لسياسة التوسع الاستمرار والنجاح، فليفعل! وليكن عمر خليفته! وليجمع كلمة المسلمين عليه! وهو إن استطاع أن يجمعها فذلك التوفيق من الله توفيقا ينصر دينه.
وأصبح فدعا إليه عبد الرحمن بن عوف فسأله عن عمر، فقال: «هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة.» قال أبو بكر: «ذلك لأنه يراني رفيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.» وانصرف عبد الرحمن، فدعا الخليفة عثمان بن عفان فسأله عن عمر، فقال: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.» وبعد انصراف عثمان شاور أبو بكر سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، حريصا على أن يجمع كلمتهم على خلافة عمر، وسمع بعض أصحاب النبي بمشاورات أبي بكر في استخلاف عمر، فأشفقوا من غلظة ابن الخطاب وشدته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بالخليفة ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!» وغضب أبو بكر لما سمع من ذلك وصاح بأهله: أجلسوني، فلما أجلسوه قال، ولا يزال الغضب آخذا منه مأخذه: «أبالله تخوفوني! خاب من تزودكم من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك!» ثم اتجه إلى طلحة فقال له: «أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.»
أشفق أبو بكر من هذا الحديث ألا يكون قد جمع كلمة المسلمين على الرضا بخلافة عمر له، فقضى ليله مؤرقا، فلما أصبح دخل عليه عبد الرحمن بن عوف فبادله التحية، ثم تحدث الصديق وكأنما عناه ما حدث بالأمس فقال: «إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه.» وأجابه عبد الرحمن: «خفف عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا، ولم تزل صالحا مصلحا.»
لم يكتف أبو بكر بمشاروة أولي الرأي من المسلمين وبخاصة بعد أن رأى منهم من خالفه في رأيه؛ لذلك أشرف من حجرة بداره على الناس بالمسجد، فقال يخاطبهم جميعا: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد وليت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا!» وأجاب الناس: «سمعنا وأطعنا.» عند ذلك رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم ما أنت به أعلم، واجتهدت لهم رأيا فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم.» وسمع الناس دعاءه فازدادت كثرتهم اطمئنانا لما صنع.
ودعا أبو بكر عمر فعهد إليه وأوصاه بمتابعة الحرب في العراق والشام من غير هوادة، وذكره بما يجب على من ولي أمر المسلمين من تحري الحق، وبأن الله ذكر آية الرحمة مع آية العذاب، ليكون العبد راغبا راهبا لا يثني على الله غير الحق، فإن فعل لم يكن غائب أحب إليه من الموت، يحاسبه الله بعده فيثيبه عن الحق واتباعه، فلما فرغ من وصيته خرج عمر من عنده وهو يفكر في هذا الأمر الذي ألقي على عاتقه فود لو أن الصديق برئ من مرضه ليواجه موقفا ما أدقه.
لكنه لم يتردد في قبول ما ألقي عليه متى آن له أن ينهض بتبعته، إنها تبعة عظيمة وعبء جم المتاعب، لكن! من لهذا العبء كابن الخطاب يحمله وينهض به! ولقد حمله عمر بعزم وقوة، فلم يترك هذه الدنيا حتى امتد الفتح الإسلامي فشمل فارس والشام ومصر، وحتى قامت الإمبراطورية الإسلامية على أمتن دعامة وأقوى أساس.
هوامش
الفصل الخامس
عمر يستفتح عهده
قبض أبو بكر بعد مغيب الشمس من مساء الإثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة للسنة الثالثة عشرة من الهجرة (22 أغسطس سنة 632م)، فلما جن الليل غسل وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله إلى المسجد، وصلي عليه، ونقل جثمانه إلى قبر الرسول، ودفن في حفرة إلى جنبه
صلى الله عليه وسلم ، وجعل رأسه إلى كتف رسول الله وألصق اللحد باللحد، وقد تولى دفنه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر.
أتم عمر واجبه الأخير للخليفة الأول، وخرج من حفرة القبر بدار عائشة فسلم على أصحابه، ثم انطلق عائدا أدراجه يؤم داره بعد منتصف الليل،
1
ودخل مضجعه وجعل يفكر فيما يتنفس عنه الغد، فسيبايعه المسلمون من بكرة النهار ليتولى أمورهم، فيواجه منهم من رضي استخلافه كارها، ثم يواجه الموقف الحربي الجليل الدقيق في العراق وفي الشام؛ فماذا عسى أن يفعل ليتغلب على هذين الأمرين وهما بأعظم مكان من جلال الخطر في حياة الدولة الناشئة.
كان موقف المسلمين بالعراق والشام يومئذ بالغا غاية الدقة، فقد جمدت قوات المسلمين بالشام أمام قوات الروم فأنجدها أبو بكر بخالد بن الوليد في عدد من جيش العراق، مع ذلك أقامت القوات وخالد على رأسها ولا يبلغ المسلمين بالمدينة من نبئها ما يبعث إلى نفوسهم الأمل في نصرها أو يطمئنهم على مصيرها، وقد ضعف جيش العراق بغياب خالد فيمن فصل بهم من المسلمين إلى الشام، فلم يستطع المثنى بن حارثة الشيباني، على براعته ومقدرته، أن يحتفظ بكل ما غنمه المسلمون من سواد العراق، فارتد إلى الحيرة وتحصن بها، حقا إنه انتصر على جيش من الفرس وجهه شهريران بن أردشير بقيادة هرمز جاذويه، فالتقى هو والمسلمون على أطلال بابل فردوه مدحورا، لكن المثنى رجع بعد نصره يتحصن بمواقفه الأولى خيفة أن يباغت، موقنا أنه لن يستطيع التقدم وإن استطاع المقاومة، بل لقد تصبح المقاومة أمرا عسيرا إذا اطمأن بلاط فارس وزال اضطرابه، لهذا كتب إلى أبي بكر يستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، وكان أبو بكر قد حرم الاستعانة بهم في الحرب، فلما أبطأ عليهم رد الخليفة استخلف بشير بن الخصاصية على من بالعراق من المسلمين، وذهب إلى المدينة يعرض موقفه الدقيق، ويدافع عن رأيه في الخروج منه.
ترى كيف يواجه عمر هذه الأمور كلها؟ في هذا وفيما يتصل به بات يفكر ليله، ضارعا إلى الله أن يلهمه الرأي، وأن يهديه الصراط السوي، إنه سيرى المثنى في طليعة من يراهم متى أصبح، وسيطلب المثنى إليه ما طلبه إلى أبي بكر من قبل، أن يعينه بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، وسيردد المثنى أن التائبين من أهل الردة يطمعون في مغانم الغزو، فلا أحد أنشط إلى الحرب منهم، وقد أوصى أبو بكر عمر في أمر العراق وصية لا بد من تنفيذها، إذ دعاه إليه وقال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به! إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
أفيندب الناس مع المثنى أم يدعه يستعين بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة؟ إنه ليخشى أن يتقاعس الناس إذا ندبهم بعد ما رأوا أصحابهم بالشام لا يستطيعون التقدم فيه، ورأوا المثنى بالمدينة خائفا من الفرس وصولتهم، ولكن المسلمين لا بقاء لهم بالعراق إذا لم تعزز قواتهم فيه بمدد قوي، والتفكير في الانسحاب من تلك البلاد أمر لا يخطر للمثنى ببال؛ فهو الذي دفع أبا بكر لغزوها، وهو الذي تقدم خالدا والمسلمين جميعا إليها؛ فليس هينا على نفسه أن يجلو عن بلد كان الطليعة في غزوه، وأن يجلو عنه وهو موقن بمقدرته على فتحه، ولو أن عمر أمده بالتائبين من أهل الردة، لتابع الفتح ففض على كسرى إيوانه.
ولم يخطر الانسحاب من العراق ببال عمر كذلك؟ فإنما استخلفه أبو بكر ثقة منه بأنه أقدر المسلمين على متابعة سياسته ولا سبيل إلى متابعة هذه السياسة إلا أن يأخذ الأمر بالحزم، وأن ينفذ وصية الصديق فيندب الناس مع المثنى، وأن يعزز قوات المسلمين بالشام، أترى وجوه المسلمين وأصحاب رسول الله الذين برموا باستخلافه يعاونونه في ذلك صادقين؟ وإذا ترددوا في معاونته فما عساه يصنع؟ وماذا يكون من أثر ترددهم في العرب وفي ولائهم للمدينة؟ ألا إن سياسة الحزم وحدها هي التي تنجح في هذا الموقف، والحزم لا ينقص عمر، فليعزم الأمر، وليتوكل على الله!
بات عمر وقد عناه التفكير في هذا كله، وأصبح فخرج إلى الناس بالمسجد، فأقبلوا على بيعته إقبالا سكن بعض ما جاشت به نفسه، فلما كان الظهر وازدحم الناس للصلاة، صعد عمر المنبر درجة دون الدرجة التي كان يقوم أبو بكر عليها، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وذكر أبا بكر وفضله ثم قال: «أيها الناس! ما أنا إلا رجل منكم، ولولا أني كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم.» قال هذه العبارة متأثرا في تواضع ورفق أخذ بهما الناس ورأوا فيهما دليلا على صدق فراسة الصديق فيه، وبعد نظره في استخلافه، فأثنوا على عمر خيرا وزادهم ثناء عليه أن رأوه يتوجه بنظره إلى السماء ويقول: «اللهم إني غليظ فليني! اللهم إني ضعيف فقوني! اللهم إني بخيل فسخني!» وأمسك عمر هنيهة حتى سكن الناس، ثم قال: «إن الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.»
أتم عمر كلامه ثم نزل فأم الناس للصلاة، حتى إذا فرغ منها التفت إليهم فندبهم للذهاب إلى العراق مع المثنى، وذكر لهم وصية أبي بكر في ذلك، وسمع الناس نداء الخليفة، فنظر بعضهم إلى بعض ثم لم يجب الدعوة منهم أحد، وكأنما ذكروا ما أصاب إخوانهم بالشام، فلم يريدوا أن يصابوا بمثله، أليس أبو بكر قد دعاهم لغزو الشام فترددوا فقام عمر يومئذ فصاح بهم: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم إلى ما يحييكم!» عند ذلك أجابوا الدعوة، فساروا لمواجهة هرقل وجنوده، وها هم أولاء أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، ومن معهم من الصحابة ومن تبعهم من الأمراء والأبطال من مختلف الأرجاء في شبه الجزيرة، في موقفهم من الروم لا يستطيعون التغلب عليهم، ثم لم يغن عنهم أن أمدهم أبو بكر بخالد بن الوليد بعدما دوخ الفرس بانتصاراته في العراق، أتراهم يكونون أحسن حظا إذا لبوا نداء عمر وساروا مع المثنى في العراق؟! أم تراهم يقفون هناك من جنود كسرى موقف أصحابهم بالشام من جنود هرقل؟! وليس يطمع أحد منهم في أن يرد عمر خالدا إلى العراق وهم يعلمون سوء رأيه فيه، ويذكرون موقفه منه في حادث مالك بن نويرة.
والمثنى بن حارثة قائد عظيم لا ريب، لكنه ليس من قريش وليس من أصحاب رسول الله، بل هو من بني بكر بن وائل، ثم إنه لم يلبث، حين فصل ابن الوليد من العراق إلى الشام، أن انسحب من سواد العراق إلى الحيرة، ثم جاء إلى المدينة يستمد الخليفة، ويدل بذلك على أنه في مكان من الفرس لا يحسد عليه، ولعل له عذره، فاسم الفرس كان يلقي في قلوب العرب الرعب، ولقد ظن بعضهم أن خالدا غلبهم؛ لأنهم استخفوا بادئ الرأي بأمره، فلم يواجهوه من قوتهم بما يرده على عقبه، أما وذلك الشأن فما لهم ولقتال قد تدور عليهم دائرته؟
لم يخف أحد من الزعماء وأولي الرأي ملبيا نداء عمر، وإذا تثاقل هؤلاء كان غيرهم من جمهور الناس أكثر تثاقلا، هنالك أطرق عمر هنيهة، ثم عاد إلى مجلسه من المسجد وعاد الناس يتتابعون على بيعته وانصرف الناس بعد العشاء، وبقي عمر ليله يفكر، فلما أصبح وأخذ مكانه من المسجد، وعاد الناس يتتابعون على بيعته، ونادى المنادي لصلاة الظهر، فما لبث عمر حين انفتل منها أن نادى في الناس بصوته الجهير يأمرهم أن يردوا سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، ويعلل ذلك بقوله: «إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب.»
سمع الناس هذا الأمر، فشخصت أبصارهم إلى عمر، وجعلوا يتساءلون بينهم: ماذا أراد به؟! لقد سبى المسلمون من العرب في حروب الردة تنفيذا لأمر أبي بكر حين أذاع في أرجاء شبه الجزيرة أنه أمر كل قائد من قواده ألا يقبل من مرتد إلا الإسلام، ومن أبى يقاتله على ذلك، ولا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء والذراري، أفيريد عمر بهذا الأمر أن يخالف أبا بكر وأن يجري على غير سنته؟ أم أنه رأى الناس تقاعسوا حين ندبهم للذهاب مع المثنى فأراد أن يستميل العرب من مختلف القبائل إليه ليمد المثنى بهم؟ أيا ما كان الأمر، فما أمر به جديد في سياسة الدولة يقف النظر ويوجب التساؤل.
الحق أن عمر لم يذق النوم في الليلتين اللتين انقضتا منذ قبض أبو بكر إلا غرارا، فالناس يتتابعون على بيعته احتراما لعهد الصديق ووصيته، ولكن الكثيرين من زعمائهم لا يزالون يبرمون به لغلظته، وقد كان لبعضهم في ولاية الأمر مأرب، ولن تستقيم الأمور في دولة لا يتضامن أولو الرأي فيها على توجيه سياستها، والموقف أدق من أن يدعه عمر للزمن مكتفيا بأن يدعو الله أن يحببه للناس وأن يحبب الناس إليه، فإن لم يأخذ الأمر بالحزم أوشكت شئون الدولة أن تضطرب، أما وقد أمر برد السبي إلى عشائرهم فتألف قبائل العرب وكسب قلوبا كانت تنفر من شدته، فليمض غير متردد في سياسته، ولقد خرج إلى الناس بالمسجد في اليوم الثالث، فلما فرغوا من بيعته قام فيهم فقال: «إنما مثل العرب مثل جمل أنف
2
اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده، أما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق.»
ازدادت الأبصار شخوصا إلى عمر، وخيل إلى الحاضرين بالمسجد جميعا أن هذا الرجل سيكون عليهم سوط عذاب بشدته وغلظته، ورأى عمر ذلك في وجوههم، فصعد المنبر حين ازدحموا لصلاة الظهر فقال:
بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه، ومن قال ذلك فقد صدق. ... إنني كنت مع رسول الله، فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان - كما قال الله - بالمؤمنين رءوفا رحيما، فكنت بين يديه سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول الله حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله كثيرا وأنا به أسعد.
ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عز وجل وهو عني راض، فالحمد لله على ذلك كثيرا وأنا به أسعد.
ثم إني وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف.
ولكم علي أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم علي ألا أجتبي شيئا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم، ولكم علي ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم في ثغوركم،
3
وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال.
فاتقوا الله، عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني! وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال عمر هذا القول ثم نزل فأم الناس للصلاة، وأتمها ثم انصرف عنهم، وجعل الناس يفكرون فيما سمعوا منه، لقد عرفوه رجلا صريحا ظاهره كباطنه، وسره كعلانيته وعرفوه رجلا عادلا مع ما فيه من شدة وغلظة، وها هو ذا يذكر لهم أن شدته لن تكون إلا على الظالمين، وهو لا يخدعهم حين يقول إنه سيكون لأهل السلامة والقصد ألين من بعضهم لبعض، فقد عرفوا من رفقه في بعض المواضع ما لا سبيل إلى إنكاره أو نسيانه، ثم إنه وعدهم أن يزيد في عطاياهم وأرزاقهم، وأن يكون أبا لعيالهم إذا غابوا عنهم في حرب، أليس خليقا بهم أن يولوه كل ثقتهم، وأن يجيبوا دعوته إذا دعاهم؟!
كان ذلك شأن كثيرين من سواد الحاضرين، أما زعماؤهم فقد ظلوا في تحفظهم، برما بعمر من جانب بعضهم، وهيبة للموقف في الشام وفي العراق من جانب الأكثرين، وعاد عمر لصلاة العصر، ثم ندب الناس مع المثنى فاثاقلوا، وكان المثنى حاضرا، وكان شديد الإلحاح على عمر أن يعينه بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، فهم لقتال الفرس أنشط، وزاد إلحاحه شدة حين أمر عمر برد السبي من أهل الردة إلى عشائرهم، ثقة منه بأن هذا الأمر سيجعلهم أكثر إقبالا على السير معه، فلما أبطأ عمر في إجابته إلى ما طلب ورأى الناس يزدادون إقبالا على عمر وطمأنينة لخلافته، طمع في أن يتقدموا لما ندبهم الخليفة له، لكنه رأى تثاقلهم، وتبين في وجوههم أن وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وعزهم وشوكتهم وقهرهم الأمم، عند ذلك وقف يخطبهم فقال:
أيها الناس! لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبحبحنا
4
ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها.
سمع عمر عبارة المثنى ورأى حسن أثرها في الناس فقام فيهم خطيبا، فكان مما قاله لهم:
إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة،
5
ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين الطراء المهاجرون عن موعود الله، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها، فإنه قال:
ليظهره على الدين كله ، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومول أهله مواريث الأمم، أين عباد الله الصالحون!
شعر الناس بما في تثاقلهم من سبة لهم بعد الذي سمعوا من كلام المثنى ومن كلام عمر، إنهم نصروا رسول الله وأعزوا دين الله، ونصروا أبا بكر من بعده فنصرهم الله، فما بالهم لا يتحركون لدعوة عمر! وترددوا: أيلبون الدعوة أم يظلون على تقاعسهم، وإنهم لكذلك إذ تقدم أبو عبيد عمرو بن مسعود الثقفي للسير إلى العراق، فكان أول منتدب لهذا الأمر الجليل، وثنى من بعده سليط بن قيس، عند ذلك اجتمع الناس إليهما وأجمعوا السير معهما، فكان معهما ألف رجل من أهل المدينة، ورأى عمر اجتماع ذلك البعث فاغتبط أيما اغتباط، وخفق قلبه شكرا لله أن أخرج المسلمين من ذلك الجمود الذي كانوا فيه، والذي أوشك أن يفسد عليهم أمرهم.
من من المهاجرين والأنصار يتولى إمارة البعث؟ فكر الذين ترددوا في إجابة الدعوة في هذا الأمر، وخافوا أن يجعل عمر الإمارة على جيش فيه عدد عظيم من أهل المدينة لواحد من غير أهل المدينة؛ لذلك أسرع قوم إلى الخليفة يقولون له: «أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار.» لكن ترددهم ثلاثة الأيام الأولى من خلافة عمر قد حز في نفسه وأحفظه عليهم؛ لذلك لم يتردد أن أجابهم: «لا والله لا أفعل! إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.» ثم دعا أبا عبيد فولاه الإمارة، ودعا سعد بن عبيد وسليط بن قيس وقال لهما: «أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من القدمة.»
اطمأن المثنى بن حارثة حين رأى هذا الجيش يتأهب للسير معه إلى العراق، أما عمر فرأى ألا حاجة بالمثنى إلى البقاء بالمدينة، ولذلك أمره أن يرجع إلى العراق فيلحق بقواته فيه، وقال له: «النجاء حتى يقدم عليك أصحابك ...» وأخذ الجيش الجديد في الأهبة، حتى إذا دنا موعد الرحيل قال عمر لأبي عبيد يوصيه:
اسمع من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب، والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف.
هذه مشكلة معقدة ألهم الله عمر فيها الرأي، فحلها في أربعة الأيام الأولى من خلافته، ثم لم يصرفه اشتغاله بها عن التفكير في المشاكل الأخرى القائمة أمامه، فقد فكر في أمر الشام، وفي أمر نصارى نجران، وفي سائر الأمور التي كان يرى فيها غير رأي أبي بكر، وفكر في الخطة التي يجب أن يسير عليها لينفذ رأيه ويجمع المسلمين حوله، وكان حين تنفيذه رأيه في هذه المشاكل صريحا كعهد المسلمين به، حازما غاية الحزم، لا يعرف التردد ولا المداراة، ولا يأبى أن يحمل التبعة كاملة؛ لأنه كان يؤمن بأنه على الحق، وأن الله مؤيده لذلك لا محالة.
لقد عرف الناس جميعا سوء رأيه في خالد بن الوليد، وحرصه في حادث مالك بن نويرة على أن يقيد أبو بكر منه، ولم يتغير رأي عمر في خالد من بعد هذا الحادث، وقد فصل خالد من العراق إلى الشام بأمر أبي بكر وولي الإمارة على قوات المسلمين فيه، ثم قضى به أكثر من شهر فلم يتغلب على قوات الروم، بل لم يواجههم، أية فرصة خير من هذه لعزل خالد عن إمارة الجيش ورد هذه الإمارة إلى أبي عبيدة! وهذا ما فعل عمر، فقد كتب إلى أبي عبيدة غداة قبض أبو بكر، يخبره بوفاة الخليفة، ثم كتب بعزل خالد وتولية أبي عبيدة إمارة الجيش مكانه، وأن يكون خالد أمير اللواء الذي كان أبو عبيدة أميره، وبعث بوفاة أبي بكر مع يرفأ مولاه، وبعزل خالد وإمارة أبي عبيدة مع محمية بن زنيم وشداد بن أوس، وأوصى أبا عبيدة في كتاب توليته بقوله: «لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستر يده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في هلكة! وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمض بصرك عن الدنيا وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيتم مصارعهم !»
كيف غامر عمر بعزل خالد وخالد على رأس قوات المسلمين بالشام، وهذه القوات في موقف دقيق! فقد كانوا هناك بإزاء الروم لا يواجهونهم ولا يقدرون من أمرهم على شيء، ولا يقدر الروم من أمر المسلمين على شيء، كان ذلك موقفهم قبل أن يذهب خالد بن الوليد من العراق إليهم، ثم ظلوا فيه بعد أن أقدم خالد بينهم، كان كلا الفريقين يتحين الفرصة التي يخرج فيها من جموده، ويوقع فيها بعدوه، أفلا يخشى الخليفة أن يفت أمره بعزل خالد من أعضاد المسلمين فيزيد موقفهم دقة؟ أولم يكن الأجمل به أن يتريث حتى يخرج خالد بالمسلمين من المأزق الذي هم فيه، وله بعد ذلك أن يأمر بما يشاء؟!
هذه اعتبارات لها من غير شك قيمتها في تطور القتال، وسنرى من بعد أن أبا عبيدة قدرها قدرها دون أن يخشى برم الخليفة به، أو غضبه عليه، لكن عمر نظر في الأمر من غير هذه الناحية، فلو أنه أرجأ الأمر بعزل خالد إلى ما بعد المعركة لأضر ذلك بسياسته وأفسد عليه خطته، فليس للمعركة مصير إلا أن ينهزم المسلمون فيها أو ينتصروا، فإن انهزموا لم يغن عزل خالد عن هزيمتهم، وإن انتصروا وخالد قائدهم لم يكن لعمر أن يعزل قائدا في أوج نصره، فإن فعل أتى أمرا إدا، وعمر حريص على ألا يبقى خالد على القيادة العامة بالشام أو بغير الشام؛ لذلك أسرع فأصدر الأمر بعزله، وله من العذر أن خالدا لم يحقق ما ندبه أبو بكر لتحقيقه، فإذا انتصر المسلمون بعد هذا فلا تثريب على عمر فيه، فهو إنما صنع ما اقتنع بأنه الحق، وصنعه وخالد في موقف لا يظلمه فيه من يأمر بعزله.
يتساءل الناس إلى يومنا هذا عن السر في عزل عمر خالدا، وخالد سيف الله على لسان رسول الله، وهو الذي قضى على الردة وفتح العراق، وهو البطل لا يشق غباره، وعبقري الحرب غير منازع، أحقا أن مقتل مالك بن نويرة وتزوج خالد من امرأته قد بقي له من الأثر في نفس عمر ما حمله على هذا التصرف؟ أم خشي عمر أن يفتتن خالد بالناس كما افتتنوا به لانتصاره المتصل في الحرب، وقد يجر افتتانه على الدولة شرا؟ يرى بعضهم هذا الرأي الأخير، ويذكرون أن خالدا رجع إلى المدينة يسأل عمر عما حمله على عزله فأجابه: «ما عزلتك لريبة فيك ولكن افتتن بك الناس، فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه رواية لا سند لها، فالثابت أن خالدا لم يذهب إلى المدينة بعد عزله، وأنه بقي بالشام يتابع غزواته بإمرة أبي عبيدة حتى عزله عمر عن كل عمله بالجيش في السنة السابعة عشرة من الهجرة. ولا أحسب كذلك أن مقتل مالك بن نويرة كان سبب العزل، فقد انقضت سنتان بين هذا الحادث واستخلاف عمر، وفي هاتين السنتين بلغت عبقرية خالد في القيادة أوجها، وكانت فعاله في غزوة اليمامة وفي حرب العراق حديث الناس جميعا في شبه الجزيرة وفي فارس والروم، وعندي أن عمر إنما عزل خالدا؛ لأن الثقة بين الرجلين لم تكن قائمة قبل خلافة عمر ولا في أثنائها.
ولست أقصد ثقة عمر بعبقرية خالد، أو ثقة خالد بعدل عمر، وإنما أقصد الثقة القائمة على ما يكون للرجل من حسن الرأي في صاحبه حتى ليغضي عن هناته، وحتى لتذهب الحسنة التي يأتيها صاحبه أضعافها من سيئاته، وقد كان عمر يرى في خالد زهوا يدفعه إلى التسرع في الحرب، وإن لم يكن للتسرع مسوغ، وإن خالف به أمر ولي الأمر، وقد دفعه الزهو والتسرع إلى القتال يوم فتح مكة، حين نهى النبي عن القتال، كما دفعه للسير إلى بني تميم وقتل مالك بن نويرة دون إذن من أبي بكر، وكان خالد ينسب كل ما يوجهه الخليفة الأول إليه من لوم إلى تحريض عمر، حتى ليقول حين أمره الصديق بمغادرة العراق إلى الشام: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة، حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» وإذا ضاعت الثقة بين رجلين على هذا النحو، لم يكن تعاونهما مستطاعا، وبخاصة إذا كان أحدهما رئيس الدولة والآخر أمير جندها وصاحب لوائها، لا عجب إذن بعزل عمر خالدا حتى لا تكون بينهما صلة مباشرة، بل يكون أبو عبيدة هو الذي يوجه خالدا ويصدر إليه أوامره، وقد كانت الصلة بين خالد وأبي عبيدة صلة مودة وحسن رأي.
قد يعترض على رأينا هذا بأن الخليفة لا يلي أمر الدولة لحسابه، بل لحساب المسلمين جميعا، وكان من الواجب لذلك على عمر أن ينسى ما بينه وبين خالد، وأن يدع سيف الله يمضي لا يشيمه، متأسيا في ذلك بأبي بكر، وما صنع ضاربا المثل للمسلمين في تقدير الرجال بأعمالهم، والسمو بهذا التقدير على الآراء والميول الذاتية، وهذا اعتراض له وجاهته في المنطق النظري لا ريب، لكن وجاهته هذه تتضاءل كل التضاؤل أمام الواقع من أمر هذه الحياة، فنحن معشر الناس، لا نتصرف في شئون الحياة بعقولنا وحدها، بل إن لعواطفنا علينا لسلطانا أي سلطان، وسواء أكان ما نتصرف فيه من خاصة شئوننا أو بعض ما وكل إلينا من شئون غيرنا فإنا نتأثر حين التصرف فيه بشعورنا كتأثرنا بعقولنا، وقد يكون الشعور أكبر من العقل أثرا في اتجاهاتنا، ومن المحال أن نقيم بين حكم الشعور وحكم العقل حدا فاصلا، صحيح أن بعض الناس أكثر تأثرا بشعورهم، وبعضهم أكثر تأثرا بعقلهم، لكن اختلاف الكم لا يغير من تزاوج الشعور والعقل في توجيه أحكامنا، ولا ريب أن قد تأثر عمر بشعوره نحو خالد، ولعله كذلك قد ظن أن خالدا حسده على الخلافة، كما ظن خالد من قبل أن عمر حسده على فتح العراق، والرجلان بالغان غاية القوة كل في ناحيته، فإذا تعارض شعور كل منهما نحو صاحبه على هذا النحو، خيف أن يتصادما، وأن يكون لتصادمهما أثر سيئ في شئون الدولة وفي مصيرها؛ لذلك أخذ عمر الأمر بحزم حاسم لا يعرف هوادة، غير ناظر إليه من ناحية العدل وما يوجبه، بل من ناحية النظام العام ومن ناحية أمن الدولة وسلامتها.
على أن تصرف عمر بعزل خالد لم يكن شذوذا منه، وإن كان الأول من نوعه ، بل كان سياسة جرى عليها مع الولاة والأمراء طيلة عهده، وسنرى من بعد أن مؤاخذة هؤلاء الولاة والأمراء بالشدة كانت من مألوف خطته، وأنه كان يدعوهم إليه، ويحاكمهم عما يبلغه من شكايات، ويعزل من لا يقتنع بدقته وأمانته في أداء عمله، ذلك أنه كان يحرص على تركيز السلطة كلها في يديه، وذلك قوله أول ولايته: «والله لا يحضرني من أمركم شيء فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.» إذا اجتمع هذا الرأي في سياسة الدولة إلى ما عرف عن عمر وسوء رأيه في خالد وضياع الثقة والألفة بين الرجلين، تكشف السر في عزل خالد، وتكشف مكان هذا السر من نفس عمر.
عزل عمر خالدا عن إمارة الجيش بالشام وردها إلى أبي عبيدة، لكن ذلك لن يغير من موقف المسلمين بإزاء الروم، ولن يشد أزرهم في قتالهم، بل لعله يؤدي إلى النقيض فتكون الطامة الكبرى.
وإذا كان عمر أمر برد السبي من أهل الردة إلى عشائرهم فكسب بذلك قلوبهم، فقد أقبلوا سراعا من كل حدب يلبون دعوته يريدون أن يأخذوا في الحرب بنصيب يطهرهم من سابق ردتهم، ويجعل لهم ولذويهم من مغانم الحرب ما لسائر المسلمين؛ لذلك اطمأن عمر إلى توفيق الله في معالجة الموقف الدقيق لجيوش المسلمين خارج شبه الجزيرة، فاتجه بتفكيره إلى ناحية أخرى لا تخالف سياسة رسول الله وسياسة الصديق في أساسها، وإن خالفت هذه السياسة في بعض تفاصيلها.
ذلك أن رسول الله دعا الناس كافة إلى دين الله، لم يفرق في دعوته بين أهل الكتاب وغيرهم، وقد رأى يهود المدينة في هذه الدعوة خطرا عليهم، فوادعوا محمدا وعاهدوه على حرية العقيدة، لكنهم ما لبثوا حين رأوه يستقر له الأمر أن ائتمروا به، فقاتلهم وأجلاهم عن المدينة وعن أكثر منازلهم من شبه الجزيرة، ولم يبق منهم إلا قليلون بعد غزوة خيبر صالحوه على البقاء بأرضهم والعمل فيها على أن يكون للمسلمين النصف من غلاتها، أما نصارى نجران فبعثوا وفدا يجادل النبي، فلما دعاهم ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، تولوا وعادوا إلى بلادهم، ثم إنهم بعثوا إليه وفدا صالحه على الجزية يدفعونها لقاء دفاع المسلمين عن حرية عقيدتهم، فلما تولى أبو بكر أقر نصارى نجران وعاهدهم على ما عاهدهم النبي عليه، واقتضى يهود خيبر ما كان يقتضيهم رسول الله.
ونظر عمر في الأمر يوم استخلف فاتجه فيه وجهة جديدة، فقد دعا إليه يعلى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران عن ديارهم، وقال له: «إيتهم ولا تفتنهم عن دينهم، ثم أجل من أقام منهم على دينه، وأقرر المسلم، وامسح أرض كل من يجلى منهم، ثم خيرهم البلدان، وأعلنهم أنا نجليهم بأمر الله ورسوله ألا يترك بجزيرة العرب دينان، فليخرج من أقام على دينه منهم، ثم نعطيه أرضا كأرضهم إقرارا لهم بالحق على أنفسنا، ووفاء بذمتهم فيما أمر الله من ذلك بدلا بينهم وبين جيرانهم من أهل اليمن وغيرهم فيما صار لجيرانهم من الريف.»
يحسب بعضهم أخذ عمر بهذه السياسة نقضا لما صنعه رسول الله وما تابعه الصديق عليه، والمستشرقون يذهبون لذلك في التحامل على عمر إلى حد لومه على ما صنع، أما المؤرخون المسلمون فيلتمسون له المعاذير، فيذكر بعضهم أن رسول الله إنما عاهد نصارى نجران على ألا يفتنوا عن دينهم «ما رعوا العهد، ونصحوا، ولم يأكلوا الربا»، وإنهم أكلوا الربا أضعافا مضاعفة، فنقضوا العهد، فحق لعمر أن يجليهم عن شبه الجزيرة، ويذكر آخرون أنهم اختلفوا فيما بينهم واشتد خلافهم، فطلبوا إلى عمر أن ينقلهم إلى ديار غير ديارهم، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أنهم قويت شوكتهم، فخشيهم عمر فأجلاهم، وسواء أصح بعض ما روي من ذلك أم لم يصح كله، فإنه في رأيي لم يكن السبب في تصميم عمر على إجلائهم عن شبه الجزيرة، وإنما يرجع السبب في ذلك إلى تكييف عام لسياسة الدولة اقتنع به عمر فنفذه في حزم وعدل.
ولكي نقدر هذا التكييف يجب أن ننفي عن عمر تهمة التعصب كما يلقيها عليه المستشرقون! فهم يذكرونها متخذين من اقتناع أهل هذا العصر الحاضر بمبدأ حرية العقيدة حجة لهم في مؤاخذة عمر بما صنع، وهذا خطأ أدى إليه تجاهل الواقع، فالواقع من عصر عمر أن العقيدة كانت أساسا جوهريا في حياة الجماعة، فكان المخالفون لعقيدة الجماعة أو الخارجون عليها يعدون في حكم الأجانب عن الجماعة، بل في حكم الخارجين عليها، وكان حربهم لذلك حلا لصاحب الأمر بل واجبا عليه، ولهذا حورب محمد في دعوته إلى الله وإلى دين الله، ولهذا شبت حروب شعواء بين الروم والفرس بسبب العقيدة، وقد ظل الأمر على هذا في أوروبا وغير أوروبا إلى عهد غير بعيد منا، ففي سبيل العقيدة شبت الحروب الصليبية بين النصارى والمسلمين، وفي سبيلها حدثت المآسي والمجازر بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد عاهد رسول الله نصارى نجران؛ لأن شبه الجزيرة لما تكن وحدتها السياسية قد تمت، فكانت نجران لصيقة باليمن التي ظلت على وثنيتها زمنا غير قليل بعد هذا العهد بين محمد وهؤلاء النصارى، فلما قبض رسول الله وخلفه أبو بكر، كانت اليمن في طليعة من انتقض على سلطان المدينة وارتد عن الإسلام، فكان طبيعيا أن يعاهد الصديق نصارى نجران على ما عاهدهم رسول الله عليه، وقد قضت حروب الردة على الانتقاض وعلى الردة جميعا، وأدى القضاء عليهما ثم أدى ما تلاهما من غزو العراق والشام إلى توطيد الوحدة السياسية والوحدة الدينية في أرجاء شبه الجزيرة جميعا، فأصبحت كلها دولة واحدة، عاصمتها المدينة، وحاكمها خليفة رسول الله، وكذلك تولى عمر أمر المسلمين وقد زالت الأسباب التي أدت إلى معاهدة نجران في عهد النبي وفي عهد الصديق، وآن لعمر أن يفكر تفكيرا جديدا في سياسة دولة اتحدت أجزاؤها من شمال شبه الجزيرة إلى جنوبها، وأصبحت المدينة عاصمتها لا ينازعها منازع.
أما وقد أصبحت بلاد العرب دولة متحدة تدين كلها بدين واحد، ويسوسها رجل رضي أهلها جميعا بيعته، فجدير بأميرها أن ينفي عنها كل سبب للضعف أو الوهن، ومن أسباب الوهن لأمة أن تتعدد أجناسها أو تتعدد الشرائع ذات السلطان النافذ بين أهلها، ذلك أمر أقره الناس ولا يزالون يقرونه، ولذلك نرى المعاهدات المختلفة إلى أحدث العصور تنقل الجماعات من أهل الجنس الواحد إلى صعيد واحد، ولذلك لا تبيح أمة متحضرة أن يقوم فيها أكثر من تشريع واحد، والإسلام يتناول فيما يتناوله أمورا لا تتفق ومقررات النصرانية، فهو يحرم الربا، والنصرانية لا تحرمه، ويحرم الخمر، والنصرانية لا تحرمها! وهو دين التوحيد، والنصرانية دين تثليث، وقد كانت هذه المقررات وما إليها نافذة يومئذ لا يستطيع أحد أن يتسامح فيها كما يتسامح الناس فيها اليوم باسم حرية العقيدة، فلم يكن عجبا أن يصر عمر على ألا يترك بجزيرة العرب دينين وقد أصبح للعرب في شبه الجزيرة كلها دين واحد ارتضوه في عهد رسول الله وعادوا إليه بعد ما ارتد بعضهم عنه في عهد أبي بكر، فوحدة الدين هي الكفيلة بطمأنينتهم وبمتانة وحدتهم، وبألا تقوم بينهم وبين من لم يكونوا على دينهم ثائرات تجني على الطمأنينة أو تعبث بالوحدة، وهذا ما فعل؛ ولهذا دعا إليه يعلى بن أمية وألقى عليه أن يجلي نصارى نجران.
وتصرف عمر في هذا الأمر خليق بالحمد، غير خليق بالتحامل ولا باللوم، فهو لم يلجأ إلى ما لجأ إليه أصحاب الكثرة من الكاثوليك أو البروتستانت؛ إذ كانوا يرهقون خصومهم في المذهب حتى ليقتلوهم بعد أن يذيقوهم العذاب ألوانا؛ بل كان أول ما أوصى به يعلى ألا يفتن نصارى نجران عن دينهم، وأن يدع لهم الحرية كاملة في البقاء عليه أو التحول عنه إلى الإسلام، وأن يعطيهم أرضا كأرضهم خارج شبه الجزيرة، بذلك لا يظلمهم ولا يصنع معهم إلا ما تصنعه الدول المتحضرة اليوم، إذ تنقل أهل جنس من الأجناس إلى حيث تقيم كثرة من بني جنسهم، وحيث يأمنون أن يضرهم الاختلاف في الجنس مع جيرانهم أشد مما يضر الكثرة الضخمة القائمة من حولهم.
لم يرتب الناس بعد ما عرفوا من أمر عمر بإجلاء نصارى نجران في أنه سيجلي اليهود ويجلي غير المسلمين جميعا عن شبه الجزيرة، وقد كانت هذه السياسة جديدة، لكنهم لم ينكروها ولم يعجبوا لها، بل لعلهم كانوا أكثر عجبا لتولية أبي عبيد الثقفي إمرة الجيش بالعراق وفيه من فيه من أهل المدينة مهاجريهم والأنصار، ثم كانوا أكثر من ذلك عجبا لعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش بالشام، لكنهم رأوا عمر يأخذ الأمر بالحزم والعدل معا، وذكروا مواقفه من رسول الله ومن أبي بكر، ثم ذكروا موقف المسلمين ودقته بالعراق والشام، ورأوه يخطبهم منكرا نفسه متجردا لله في سبيل خيرهم جميعا، فآثروا أن يدعوا له الأمر وأن يلقوا عليه التبعة، وأن يضرعوا إلى الله بالدعاء أن يوفقه كما وفق أبا بكر قبله.
ولم يكن ما يخطبهم عمر به أقل من سائر الاعتبارات أثرا في نفوسهم؛ فقد كان إخلاصه يتجلى في عباراته، وكان إنكاره لنفسه وتجرده لله في سبيل خيرهم تنم عنهما كل كلمة من كلماته، كان يقول لهم:
إني لأرجو أن عمرت فيكم، يسيرا أو كثيرا أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، وألا يبقى أحد من المسلمين، وإن كان في بعثه، إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله.
وكان يقول:
إني امرؤ مسلم وعبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء فلا يقولن أحدكم إن عمر قد تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي، وأتقدم وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم ... وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي عتبكم ... وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله، لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله.
بهذه الأقوال وبمثلها كان عمر يخطب الناس فيتألف قلوبهم ، وقد تألف قلوب العرب في أرجاء شبه الجزيرة منذ أمر برد السبي من أهل الردة إلى عشائرهم، فلما أمر أبا عبيدة، وعزل خالدا، وأمر بإجلاء نصارى نجران لم ير الناس في ذلك كله ما يبرمون به، وإن رأوا فيه جديدا استفتح عمر به عهده، مستقلا فيه برأيه، غير متأس فيه بسلفه، وما لهم يبرمون به، وتبعة ذلك كله عليه، وقد عرفوه رجلا يضطلع بأجسم التبعات فلا ينوء بحملها، وكثيرا ما يلهمه الله الرأي فيما ينهض به منها، فيكون التوفيق رائده ونصيبه!
وجلس عمر يوما في المسجد وقد فرغ من توجيه المسلمين إلى سياسته، وقد آن لهم أن ينفذوها، وأقبل عليه أبو عبيد يودعه ليسير إلى العراق في الجيش الذي اجتمع حول الراية، وأقبل في أثره عدد من الناس غير قليل، وكلهم يحيون خليفة خليفة رسول الله، وقد وجدوا هذا اللقب، برغم ترديدهم له، ثقيل النطق ثقيلا على السمع فجعلوا يتحدثون بينهم فيما اختلجت به نفوسهم، وإنهم لكذلك إذ أقبل بعضهم يحيي عمر ويقول: «سلام الله عليك يا أمير المؤمنين.»
6
واغتبط الناس لهذا اللقب الجديد حين سمعوه وافترت ثغورهم أمارة رضاهم عنه، ومن يومئذ لم يدع أحد عمر خليفة خليفة رسول الله بل دعاه الناس جميعا «أمير المؤمنين.» وبقي هذا اللقب له ولمن بعده من خلفاء المسلمين وملوكهم.
والآن قد سبقنا المثنى إلى العراق فلنسارع لنلحقه به، ولنرو حديثه حين يدركنا أبو عبيد بجيشه، فتكون القيادة العامة له، ثم يكون له من حسن البلاء ما ينتهي به إلى المغامرة وإلى الاستشهاد.
هوامش
الفصل السادس
أبو عبيد والمثنى في العراق
كان أبو عبيد بن مسعود الثقفي أول منتدب للعراق؛ لذلك ولاه عمر إمارة الجند فيه، وأمره بالسير إليه متى تم تجهيز جيشه، أما المثنى بن حارثة فعجله عمر وقال له: «النجاء حتى يقدم عليك أصحابك!» وامتطى المثنى جواده ورجع أدراجه يريد الحيرة، وجعل وهو في طريقه إليها يذكر أياما خلت في خلافة أبي بكر، حين قضى العلاء بن الحضرمي على الردة في البحرين، فانضم هو إليه وقعد بكل طريق للمرتدين المنهزمين الذين يعيثون في الأرض فسادا، ثم سار مشاطئا الخليج الفارسي يقاوم دسائس الفرس، ويقضي على أنصارهم من القبائل حتى بلغ مصب الفرات، عند ذلك أمده الصديق بخالد بن الوليد، فسار المثنى تحت لواء القائد العبقري يدوخ معه جيوش كسرى وتفتض جنودهما الأمصار، وتفتح الحيرة والأنبار وعين التمر وغيرها من البلاد، حتى يبلغ خالد الفراض على تخوم الشام من شمالي العراق.
ويستقر الأمر بخالد في أرض الأكاسرة، ويغتبط المثنى بما فتح الله عليهم من ذلك، ويقيم مع قواته بالحيرة وبأرض السواد أكثر من سنة، ثم إذا أبو بكر يأمر خالدا بالمسير إلى الشام يتولى فيه إمارة الجند لمقاتلة الروم، ويفصل خالد من العراق في عدد من خيرة رجال الجيش فيه، فيخشى المثنى العاقبة، ثم يفتح الله عليه فيقهر هرمز جاذويه على أطلال بابل، ويرتد إلى الحيرة يتحصن بها، ثم يستمد أبا بكر بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، ويبطئ الخليفة عنه لاشتغاله بأمر الشام، فيسير المثنى إلى المدينة، فإذا الصديق مشف على الموت، ثم إذا الله يختاره إليه، وإذا عمر يتولى الأمر من بعده، فيندب الناس مع المثنى ويجعل أبا عبيد على رأسهم.
لم ينس المثنى وهو يذكر هذه الحودث ما ساد بلاط فارس من الاضطراب في أثنائها، وما أوهن هذا الاضطراب من قوة الفرس وشد من عزم المسلمين، لقد حكم الأكاسرة الفرس وحكموا عرب العراق حكما مطلقا لا معقب لكلمتهم فيه، وكان كسرى أبرويز هو الذي قتل أبا قابوس النعمان بن المنذر وقضى على ملك اللخميين بالحيرة، وهو الذي حارب الروم وغلبهم، وامتد ملكه في أرضهم إلى بيت المقدس وإلى مصر، فلما تولى هرقل أمر الروم، قاتل كسرى ورده على أعقابه، واغتبط العرب واغتبط الفرس الذين برموا ببطش كسرى لما حل به، فلما ثار به ابنه شيرويه وقتله، اختلف أمراء الفرس وانقسم رأيهم فيما أصابه، وصار شيرويه في الفرس سيرة حمق وغرارة جعلت أهل بلاطه يبرمون به، وجعلت كل طامع في العرش يحالف من الأمراء من يعاونه لبلوغ غرضه، وقتل شيرويه، فجعل هؤلاء الطامعون يقتتلون فيقتل بعضهم بعضا، جهرة حينا، وغيلة حينا، ثم يتولى صاحب الغلب منهم الأمر شهورا حتى يقتل؛ لذلك تعاقب على العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء، لا عجب وذلك هو الأمر أن تضعف قوة الفرس وأن ينهد ركنهم، فتدور الدائرة عليهم في الغزوات التي دارت بين العرب وبينهم.
وتنبه أهل فارس لما جره الاضطراب عليهم من فساد أمرهم فملكوا عليهم شهريران بن أردشير وتعاهد أمراؤهم على معاونته، وعرف شهريران مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام، فكان إجلاء المسلمين عن العراق أول ما استقر عليه عزمه، لكن المثنى قهر قائده على أطلال بابل فحم فمات.
خلفت دخت زنان ابنة كسرى أخاها على العرش، لكنها ضعفت عن النهوض بالأمر فخلعت، وتولى سابور بن شهريران الملك مكانها، واستوزر سابور الفرخزاد، وأراد أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، فساءها أن يتزوجها عبدها، فدست عليه سياوخش الفاتك فقتله في مخدعها ليلة عرسه، ثم سارت معه في أعوانها إلى سابور فحصرته وقتلته، ورأى المثنى أن يواجه الفرس وبلاطهم مضطرب، فاستمد أبا بكر فأبطأ عليه، فذهب بنفسه إلى المدينة يستعجل المدد، وها هو ذا في طريقه عائد إلى الحيرة، ترى ألا يزال الفرس في اضطرابهم فلا شيء أيسر من الظفر بهم؟ أم تراهم اطمأن ملكهم، فلا بد للظفر بهم من قوات كثيرة العدد والعدة.
بلغ المثنى الحيرة، فكان أول سؤاله عما يجري في بلاط فارس، وعلم أنهم شغلوا عن المسلمين في أثناء غيبته باختلافهم، ثم علم أن بوران ابنة كسرى تعمل على جمع كلمتهم، وكانت بوران أميرة ذات حكمة، فكان الفرس كلما اختلفوا رضوا حكمها واطمأنوا إلى عدلها، فلما قتل سياوخش الفرخزاد، وجلست آزرميدخت على العرش، اختلف أهل فارس، ورأت بوران أن لا سبيل إلى مصالحتهم، هنالك بعثت إلى القائد رستم بن الفرخزاد من أنبأه بمقتل أبيه واستحثه على السير إلى المدائن، وكان رستم حين ذاك على فرج خراسان، وكان قائدا بارعا ، فأقبل في جنده مسرعا يريد المدائن، ولاقى في طريقه إليها جيوشا لآزرميدخت فهزمها، ثم حاصر المدائن وحصر آزرميدخت وسياوخش فيها، وظفر بعدوه فدخل العاصمة، وقتل سياوخش، وفقأ عين آزرميدخت، وأقام بوران على عرشها، وتولت بوران السلطان في فارس على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك في آل كسرى: في الرجال منهم إن وجدوا وإلا ففي النساء، واستوزرت بوران رستم، وأطلقت يده في أمور الدولة، وجعلته على الجند، وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا.
عرف المثنى ذلك كله وهو مقيم بالحيرة لا يستطيع شيئا إزاءه، لقد نحف جيشه فلم يبق في مقدوره أن يهاجم حتى يجيئه أبو عبيد، وقد أقام أبو عبيد بالمدينة شهرا بعد المثنى يجهز جيشه ويتجهز للسير به، فلما أتم تجهيزه استأذن عمر في السير فأذن له بعد أن أعاد عليه النصح أن يسمع من أصحاب النبي وأن يشركهم في الأمر، وأن يشاور سليط بن قيس لجرأته وتجربته، وكان لعمر بسليط ثقة، حتى لقد قال لأبي عبيد: «إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، والحرب لا يصلحها إلا المكيث.» وسار أبو عبيد في الجند، حتى إذا بلغ العراق ألفى المثنى قد انسحب من الحيرة إلى خفان على حدود البادية.
ذلك أن رستم كان رجلا جريئا طموحا، يثير طموحه إعجاب الفرس وتعلقهم به، وطموحه هذا هو الذي جعل المؤرخين يذكرون أنه كان عالما بالنجوم، وأنه رأى فيها مآل فارس، وأنه سئل كيف يتولى أمرها وهو يرى في النجوم ما يرى، فقال: الطمع وحب الشرف.
وما لبث حين أمرته بوران أن كتب إلى دهاقين السواد يأمرهم أن يثوروا بالمسلمين، ودس في كل رستاق رجلا يثير أهله، ثم بعث جندا لمصادمة المثنى، وانتشرت أوامره في الناس، فثار أهل العراق من أعلاه إلى أسفله بالمسلمين، وبلغ المثنى نبأ ما حدث، ورأى أن لا قبل لجنوده بلقاء من عبأهم رستم لمصادمته، فآثر الحذر وانسحب من الحيرة إلى خفان حتى لا يؤتى من خلفه، وأدركه أبو عبيد بخفان فنزل في الناس ليريحوا ظهورهم وأقام يتدبر خطته لمهاجمة القوات التي جاءت تنازله.
كان رستم قد بعث في المدائن جيشين يواجهان المسلمين، جعل على أحدهما القائد جابان، وأمره أن يتخطى الفرات إلى الحيرة، وجعل على الآخر القائد نرسي وأمره أن يعسكر بكسكر بين الفرات ودجلة، وكان أبو عبيد قد خرج من المدينة في أربعة آلاف ثم اجتمع إليه في الطريق عدد عظيم زاد جنده إلى عشرة آلاف، فلما جم الناس خرج يلقى جابان، فالتقيا بمكان يقال له: النمارق بين الحيرة والقادسية، والتقى الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا أظفر الله فيه أبا عبيد بجابان وجنوده، وأسر جابان وأسر قائد تحت إمرته يدعى مردانشاه، وقتل هذا الأخير من أسره، أما جابان وكان شيخا كبيرا، فخدع الذي أسره إذ قال له: «إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وأعطيك كذا وكذا ...» وأجزل له الوعد، قال آسره؛ نعم. قال: فأدخلني على أميركم حتى يكون ذلك بمشهد منه، فأدخله على أبي عبيد فشهد على ما تم، على أن قوما من المسلمين عرفوه وقالوا لأبي عبيد اقتله فإنه الأمير، وأجابهم أبو عبيد: «وإن كان الأمير، فإني لا أقتله وقد أمنه رجل من المسلمين: فالمسلمون في التواد والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم فقد لزمهم كلهم.»
عرفت بوران ما حل بجابان، وعرفه رستم، فأمر الجالينوس أن يسير لنصرة زملائه وأن يلحق نرسي بكسكر، وفصل الجالينوس يغذ السير إلى غايته، لكن أبا عبيد كان أسرع منه سيرا، فإنه ما لبث حين هزم جابان أن أمر جنده بالسير لمواجهة نرسي، ولاقوه والمنهزمين الذين فروا إليه من النمارق بمكان يدعى السقاطية على مقربة من كسكر، وذلك قبل أن يصله الجالينوس، ولم يثبت نرسي للمسلمين أكثر مما ثبت جابان، ففر في جنده تاركا لعدوه مغانم كثيرة، وعرف أبو عبيد أن الجالينوس في جنده قد بلغ قرية بارسما فواجهه وهزمه، ففر كما فر نرسي في المنهزمين حتى بلغوا المدائن .
ووجه أبو عبيد قواده، والمثنى في مقدمتهم، فاحتلوا سواد العراق من أعلاه إلى أسفله، وأذاعوا الرعب في الناس، وأعادوا إلى ذاكرتهم أيام خالد بن الوليد وفعاله، ورجع الدهاقين إلى أبي عبيد يصالحونه ويعتذرون عما كان منهم في ممالأة الفرس على العرب، ويذكرون أنهم غلبوا على أمرهم، فلم يكن لهم فيما حدث نهي ولا أمر، ولما أتم أبو عبيد الصلح معهم جاءوا بآنية فيها ألوان من طعام فارس الشهي وقالوا: هذا قرى لك وكرامة أكرمناك بها، قال: أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟! قالوا: لا! فرده وقال: «لا حاجة لنا فيه! بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم وأهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثلما يأكل أوساطهم!» ولم يأكل من طعام أتى به الدهاقين غداة ذلك اليوم حتى علم أنهم قربوا مثله لأصحابه.
أفاء الله على المسلمين بعد غزوة السقاطية مغانم كثيرة، بينها من الأطعمة مقادير عظيمة، فلم يفرحوا منها بشيء فرحهم بلون من التمر يدعى النرسيان كان ملوك فارس يحبونه، وقد اقتسموه بينهم وجعلوا يطعمون منه الفلاحين، ثم بعثوا بخمسه إلى عمر بالمدينة وكتبوا له: «إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحبونها، وأحببنا أن تروها لتذكروا إنعام الله وإفضاله.»
وعاد المثنى ودخل الحيرة واستقر بها وكله الرجاء أن يستتب له الأمر فيها كما استتب لخالد بن الوليد من قبل، فقد ظل خالد بها سنة كاملة لم يجرؤ جيش من جيوش فارس على التصدي له في أثنائها، ترى أيواتي الحظ المثنى ما واتى خالدا، فيقيم بالحيرة زمنا ثم يفتح المدائن؟ كان ذلك كله أمامه، وكان له في تحقيقه أكبر الرجاء.
لكن أمله سرعان ما ذوى، فقد عظم على رستم، وفيه من الطموح والكبرياء ما ذكرنا أن تنهزم جيوش فارس أمام هؤلاء الأجلاف من العرب، فسأل خاصته: «أي العجم أشد على العرب فيما ترون؟» وأجابوه: «إنه ذو الحاجب بهمن جاذويه.» فدعاه إليه ووجهه على قوة عظيمة، ورد الجالينوس معه وقال له: إن عاد لمثل ما فعل فاضرب عنقه، وليظهر للناس مبلغ عنايته بالموقف وحرصه على رفع ما أنزل المسلمون بجند فارس، جعل في مقدمة الجيش راية كسرى، وكانت من جلود النمر، عرضها ثماني أذرع وطولها اثنتا عشرة ذراعا؛ وسار بهمن من المدائن يقصد مواجهة عدوه والقضاء عليه.
وتراجع أبو عبيد وجنوده إلى قرية قس الناطف، فعبروا النهر إليها، وتحصنوا ينتظرون عدوهم بها، وأقبل بهمن عليهم فلم يكن إلا النهر بينه وبينهم، ثم بعث إلى أبي عبيد يقول له: «إما أن تعبروا إلينا وندعكم والعبور، وإما أن تدعونا نعبر إليكم.» وأشار أصحاب أبي عبيد ألا يعبر، وأن يدع الفرس يعبرون، لكن أبا عبيد أخذته العزة فقال: «لا يكونوا أجرأ على الموت منا، بل نعبر إليهم!» فناشده سليط بن قيس ووجوه الناس وقالوا: «إن العرب لم تلق مثل جنود فارس مذ كانوا، وإنهم قد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدة بما لم يلقنا به أحد، وقد نزلت منزلا لنا فيه مجال وملجأ ومرجع من فرة إلى كرة.» فقال: «لا أفعل! جبنت والله إذن وجبن سليطا.» فرد عليه سليط بقوله: «أنا والله أجرأ منك نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأي فستعلم.»
من عجب أن يقف أبو عبيد من أصحابه هذا الموقف، وأن ينسى نصيحة عمر إياه أن يستشير أصحاب رسول الله، وأن يشركهم في الرأي معه، وأن يقيم لرأي سليط وزنه، وأعجب من ذلك أن ينسى قول عمر: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة، تقدم على قوم قد جرءوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه.» وألا يذكر أن الخليفة أمره ولم يؤمر سليطا؛ لأن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث، وسليط سريع إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان، لكنها الأقدار تنسي البصير بصره، والحكيم حكمته، ومن يدري! فلعل مشورة سليط بألا يعبر المسلمون النهر إلى الفرس زادت أبا عبيد عنادا وتشبثا برأيه، ولذلك أمر جنوده بالعبور فعبروا من المروحة حيث تحصنوا، إلى قس الناطف حيث أقام الفرس ، وعبر سليط بن قيس في مقدمة العابرين.
كان جند المسلمين دون عشرة الآلاف، مع ذلك ضاق بهم المكان الذي تركه لهم الفرس وراء الجسر، فلم يكن لهم فيه مرجع من فرة إلى كرة، ولم يمهلهم بهمن حين تم عبورهم أن أمر جنوده فحملوا عليهم، وفي مقدمتهم الفيلة عليها الجلاجل، ونظرت خيل المسلمين إلى هذه الفيلة وسمعت رنين جلاجلها، فأنكرت ما رأت وما سمعت، وفرت فلم يثبت منها إلا القليل على كره، ورشق الفرس المسلمين بالنبل فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وحز الألم في نفوس المسلمين لما أصابهم وألا يصلوا إلى عدوهم، ورأى أبو عبيد أن صفوفه توشك أن تضطرب؛ فترجل وترجل جنوده، ومشوا إلى الفرس فصافحوهم بالسيوف فقتلوا منهم ستة آلاف، فاشتد بذلك ساعدهم، لكن الفيلة تقدمت إليهم فجعلت لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، ونادى أبو عبيد رجاله أن يقطعوا بطن هوادج الفيلة وأن يقلبوا عنها أهلها وأن يقتلوهم، ففعلوا فلم يتركوا فيلا إلا قلبوا راحلته وقتلوا أصحابه، بذلك تداول الفريقان التقدم والتراجع، فكانت المعركة سجالا بينهما ساعات من النهار.
كان أبو عبيد شديد الحرص على أن ينتصر ذلك اليوم، وزاده حرصا ما كان من مخالفته سليط بن قيس والذين أشاروا عليه ألا يعبر الجسر إلى عدوه، فلو أن النصر تم للفرس لركبه عار الهزيمة وحده، ولكان هذا العار مسبة الدهر له؛ لذلك كان مضطرب النفس تتداوله الانفعالات كلما تغير مصير المعركة؛ يغتبط ما رأى الفرس يتراجعون، فإذا تقدموا ملكته خشية العار ودفعته للمغامرة، وقد اطمأن حين قلب جنوده عن الفيلة أهلها فلم يبق عليها من يقودها، لكنه رأى على مقربة منه فيلا أبيض عظيما يضرب بخرطومه يمنة ويسرة فيشتت المسلمين من حوله، وكأنه بطل بارع يعرف مواقع ضرباته، وأيقن أبو عبيد أن قتل هذا الفيل يقوي روح المسلمين ويضعضع روح الفرس، فتقدم إليه فضرب خرطومه بسيفه، وهاج حر الضربة هائج الفيل، فتقدم إلى أبي عبيد فضربه برجله فألقاه على الأرض، ثم وقف فوقه فأزهق روحه، وكان أبو عبيد قد أوصى إن مات أن يتأمر مكانه على التعاقب سبعة من قومه بني ثقيف سماهم بأسمائهم، فلما رأى أولهم ما حل بأميره أخذ اللواء مكانه، وقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد، فجر جثته إلى المسلمين ثم عاد يحاول قتل الفيل، لكنه لقي حتفه كما لقي أبو عبيد حتفه، وتتابع الثقفيون السبعة كل منهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت،
1
عند ذلك خشعت أنفس الناس وضعفت روحهم، وارتد كثيرون منهم إلى الجسر يبتغون النجاة بأنفسهم، وما بقاؤهم أمام جيش لا قبل لهم به، وقد مات أمراؤهم فاختل نظامهم واضطربت صفوفهم!
ورأى المثنى دقة الموقف فتقدم إلى اللواء فحمله، وهو لم يكن يطمع في أن يقاتل وينتصر بعد الذي أصاب المسلمين، إنما كان يرجو أن يرتد بهم في نظام فيعبر النهر إلى المروحة، ثم يرى بعد ذلك رأيه، وإنه ليدبر الخطة للتراجع إذ رأى عبد الله بن مرثد الثقفي يقطع الزوارق الأولى من الجسر، ويصيح بأعلى صوته: «أيها الناس! موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو نظفر.» ورأى الناس ما فعل ابن مرثد، فتولاهم الفزع فتواثبوا في النهر، فغرق منهم من لم يصبر، وخشي المثنى أن تعم الفوضى، فوقف واللواء بيده ينادي: «يأيها الناس! أنا دونكم، فاعبروا على هيئاتكم ولا تدهشوا، فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب!» وأمر فجيء بابن مرثد فضربه وضمت السفينة التي قطعت فصلح الجسر، فبدأ الناس يعبرون مرتدين والمثنى يقاتل دونهم، ويحول هو ورجاله بين الفرس وبينهم، وأصابت المثنى وهو في موقفه ذاك ضربة رمح جرحته وأثبتت فيه حلقا من درعه، وقاتل معه أبو زيد الطائي النصراني دفاعا عن المسلمين، ولم يكن سليط بن قيس دون المثنى إقداما وجرأة، بذلك استطاع من بقي من جند المسلمين أن يعبروا إلى المروحة والمثنى واقف دونهم لم يزعزعه ذلك الجرح الذي أصابه، فلما رأى المثنى عبور أصحابه جميعا سار في مؤخرتهم، تاركا وراءه سليط بن قيس شهيدا، يختلط دمه بتراب ذلك الميدان الذي تردى فيه ألوف من أبطال المسلمين.
ترى أيعبر بهمن جاذويه النهر وراءهم فيقتلهم عن آخرهم ويعفي في أرض العراق على كل أثر للمسلمين؟! أم يكتفي بهذا النصر الحاسم وله به عند رستم وبوران والفرس جميعا فخار لم يتح لغيره من القواد مثله؟!
لم يغب عن المثنى أن ذا الحاجب قد يتعقبه؛ لذلك انحدر مسرعا بجنوده من المروحة إلى الحيرة، ثم تابع انحداره إلى الجنوب يريد أليس، وهو يحسب لمتعقبيه ألف حساب، وكيف لا يفعل وقد قتل من جند المسلمين في الموقعة من قتل وغرق منهم في الفرات من غرق، وفر ألفان من أهل المدينة يريدون النجاة بأنفسهم! لكن الأقدار التي غشت على بصر أبي عبيد فدفعته ليعبر الجسر فيلقى حتفه، ويورد المسلمين موارد الهلكة، كانت أبر بالمثنى وأرفق، فقد بلغ ذا الحاجب والمعركة دائرة أن الفرس بالمدائن اختلفوا فرقتين، إحداهما مع رستم، والأخرى مع الفيرزان تناصب رستم العداوة؛ لذلك عاد بالجيش إلى العاصمة، ولم يتخلف من قواده إلا جابان ومردانشاه في كتيبة من الجند، وسار هذان القائدان يتعقبان المثنى وهما يحسبان أنهما قادران عليه، لكن أهل أليس أخبروا المثنى بما ترامى إليهم عن فارس، فخرج في رجاله وفي عدد كبير من أهل أليس، فأسروا جابان ومردانشاه وأصحابهما، وضرب أعناقهم جميعا، وكذلك لقي جابان حتفه جزاء خدعه أبا عبيد يوم أسر بالنمارق فاستأمن آسره فأمنه، أما وقد غادر جابان فرجع يقاتل المسلمين ويخفر ذمتهم، فقتله بعد أسره هو العدل بعينه.
كان أول من قدم المدينة من المسلمين الذين شهدوا غزوة الجسر عبد الله بن زيد.
ولقد رآه عمر بن الخطاب حين دخل المسجد فناداه: ما عندك يا عبد الله؟ وسار عبد الله وألقى الخبر عليه فلم يبد جزعا، بل تلقاه ساكنا، ودخل بعض الذين فروا من الغزاة إلى المدينة منكسي رءوسهم خزيا من عار الهزيمة والفرار، أما سائرهم فنزلوا البوادي حياء أن يلقوا أهلهم فيعيروهم فرارهم وجبنهم، ورأى عمر حالهم فرق لهم ورحمهم، وجعل يدفع عنهم برم الناس بهم وسخطهم عليهم، فكان يقول: «اللهم كل مسلم في حل مني ! أنا فئة كل مسلم، من لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة، يا معشر المسلمين لا تجزعوا! أنا فئتكم وإنما انحزتم إلي، يرحم الله أبا عبيد! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة.» وكان معاذ القارئ أخو بني النجار ممن فروا من الجسر إلى المدينة، وكان يبكي كلما قرأ قوله تعالى:
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، فكان عمر يقول: «لا تبك يا معاذ! أنا فئتك، وإنما انحزت إلي.»
يذكرنا موقف عمر من هؤلاء الذين فروا مرتدين إلى المدينة بعد هزيمتهم بالجسر بموقف رسول الله من الجند المسلمين الذين عادوا من غزوة مؤتة بعد إذ قتل قوادهم فيها، فداور خالد بن الوليد بمن بقي منهم وارتد بهم إلى المدينة غير منتصر على عدوه، فقد جعل أهل المدينة يحثون على هذا الجيش التراب ويقولون: «يا فرار! فررتم في سبيل الله!» فيقول رسول الله: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله.» ولم يكن ارتداد المسلمين بمؤتة كهزيمتهم بالجسر فظاعة وسوء أثر، ولم يكن عمر كرسول الله رحمة ورقة، مع ذلك كان رءوفا بمن نكبوا في الجسر، بل كان فئتهم؛ وقف بجانبهم ودافع عنهم، وأبدى من العطف عليهم ما سكن من روعهم وخفف من عار هزيمتهم، ولا عجب، وقد صارت إليه إمارة المؤمنين، أن يكون بالمؤمنين رحيما، فيكون أبرهم بهم، وأشدهم عطفا على الضعفاء منهم، وإن ظل شديد البأس على الأقوياء، شديد البطش بالظالمين.
كان هذا شأن عمر ومن ارتدوا من الجسر، أما المثنى فتحصن بأليس زمنا بعد أن قتل جابان ومرادنشاه وجنودهما، فلما أراح ظهره وجم جنوده، جعل يفكر في موقفه بالعراق ومصير المسلمين فيه، إنه موقف حرج لا ريب، ومتى اطمأن الأمر في بلاط المدائن فستعود الجنود متراصة تتقدمها الفيلة لتهاجمه، فماذا يصنع يومئذ؟ أفكتب القدر في لوحه أن يعود سلطان الأكاسرة إلى ما كان عليه؟ إن يكن ذلك قضاء الله فلم يعد له ولا لجنده بالعراق بقاء، وليس في وسعه إلا أن ينسحب كما انسحب الذين فروا إلى المدينة، وأن يعود إلى أرض قومه بني بكر بن وائل يقضي بالبحرين بقية أيامه.
لكنه المثنى الذي قال عنه قيس بن عاصم المنقري حين سأل أبو بكر عنه: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
وقد كان له مواقف بالعراق ليست دون موقفه اليوم حرجا ولا دقة، كان له مثل هذا الموقف أول ما جاء من البحرين إلى دلتا النهرين، وذلك قبل أن يمده أبو بكر بخالد بن الوليد، وكان موقفه أكثر دقة يوم فصل خالد من العراق إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، رجل ذلك شأنه ليس بالذي يستسلم أو يلقي بيديه مخافة ما تكنه الأقدار في حجب الغيب، فإنما هو قوة تلقي بها الأقدار لتوجيه مصاير العالم، فليعالج النكبة بما عرف عنه من دقة القائد الصبور المحنك، وليستمد الخليفة فهو لا ريب ممده، والحرب لا يصلحها إلى الرجل المكيث.
وكذلك وقف المثنى جلدا جريئا، يواجه الأيام السود التي أعقبت غزوة الجسر وكادت تعفي على سلطان المسلمين بالعراق، ولم يكتف بأن بعث إلى عمر يطلب المدد؛ فمجيء الجند من المدينة يقتضي زمنا قد يواثبه الفرس فيه، بل بعث فيمن يليه من قبائل العرب، فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر الذين قالوا: نقاتل مع قومنا، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخفان ليكون على مقربة من تخوم العرب، يلجأ إليهم إذا غلبه الفرس، ويلقى عندهم مددا جديدا إذا غلب الفرس، وما كان أشد حاجته إلى المدد ليتابع ظفره! وفي مرج السباخ اجتمع إلى عسكره عدد عظيم من الجند، اطمأن له، فأقام فيهم ينتظر ما الله فاعل بالفرس وبه.
لم يكن عمر بن الخطاب دون المثنى قلقا على موقف المسلمين بالعراق بعد غزوة الجسر، ولم يغب عنه أن المثنى بحاجة إلى مدد سريع يواجه به هذا الموقف الدقيق، وكان العرب يفدون إلى المدينة من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ملبين نداء الخليفة منذ رفع الحظر عمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، فندبهم عمر إلى العراق، فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه، ويبدون الرغبة في الشخوص إلى الشام والاشتراك في غزوه، لكن خالد بن الوليد كان قد ظفر بالروم في الشام حين لاقوه على اليرموك، فلم يكن به من حاجة إلى مدد؛ لذلك لم يرض عمر أن يشخصهم إلى الشام، ولم يرغب أحد في الشخوص إلى العراق، وكان جرير بن عبد الله البجلي قدم على أبي بكر في خلافته، فذكر عدة له من رسول الله أن يجمع بني بجيلة وكانوا مشتتين في القبائل، فرده أبو بكر وقال له: «ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو أرضى لله ورسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين!» فلما ولي عمر أعاد عليه جرير عدة رسول الله، وأقام عليها البينة: فكتب عمر إلى عماله، فجعلوا بني بجيلة في صعيد واحد، فلما اجتمعوا قال عمر لجرير: «اخرج حتى تلحق بالمثنى.» فقال جرير: «بل الشام فإن أسلافنا بها.» وأردف عمر: «بل العراق فإن الشام في كفاية.» ولم يزل عمر ببني بجيلة وهم يأبون عليه حتى جعل لهم الربع في خمس ما يفيء الله على المسلمين يضاف إلى نصيبهم من الفيء، عند ذلك رضوا الذهاب إلى العراق وعليهم جرير ورأى الناس ما صنع بنو بجيلة فحذوا حذوهم، وكان الذين فروا من غزوة الجسر في مقدمتهم، ثم تابعهم بنو الأزد وعليهم عرفجة بن هرثمة، وبنو كنانة وعليهم غالب بن عبد الله؛ وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس جميعا ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، وساروا يريدون العراق ينضمون إلى جنده ويمدون المثنى فيه.
هذا موقف عمر بالمدينة، وذلك موقف المثنى بالعراق، فماذا كان موقف الفرس بالمدائن؟ ترامت إليهم أنباء الأمداد التي تسير تباعا إلى العراق، فهالهم أمرها وأدركوا الخطر عليهم منها ، فقسم رستم والفيرزان السلطان بينهما، وجمعا جندا عظيما جعلا عليه القائد مهران الهمذاني، وأمراه أن يسرع السير للقاء هؤلاء الغزاة المسلمين، وسارت هذه القوات تتقدمها الفيلة، ومهران أحرص الناس على أن يحرز نصرا ينسي الفرس نصر ذي الحاجب في غزوة الجسر، وعرف المثنى مسيرة هذا الجيش وهو في عسكره بمرج السباخ، فأرسل إلى جرير بن عبد الله وإلى غيره من الأمراء الذين جاءوا يمدونه يقول: «إنا جاءنا أمر لم نستطع منه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب.»
2
ثم سار بقواته حتى انتهى إلى البويب على شاطئ الفرات حيث وافاه جند المسلمين جميعا، وسار مهران كذلك بقواته حتى كان قبالة المسلمين لا يفصل بينهما إلا النهر.
أجال المثنى بصره في قواته فاطمأن، فلئن لم يكن فيها من الفيلة مثل ما للفرس، إنها لتمثل بمن انضم إليها من الأمداد قوات العرب جميعا في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة، ففيها أولئك الذين استمدهم المثنى وهو بأليس فأمدوه، وفيها بجيلة والأزد وكنانة وغيرها من قبائل العرب الذين أجابوا نداء عمر، وفيها من بني النمر نصارى قدموا مع أنس بن هلال وجلاب جلبوا خيلا، وفيها من تغلب نصارى جاءوا مع ابن مردى الفهر التغلبي وجلاب جلبوا خيلا، وفيها غير بني النمر وبني تغلب رجال من قبائل عربية أخرى مقيمة بالعراق، هؤلاء جميعا رأوا موقف العرب من العجم فقالوا: نقاتل مع قومنا، وكذلك جمعت رابطة الجنس إلى جيش المسلمين عددا غير قليل من نصارى العراق وقفوا بجانبهم وحاربوا في صفوفهم.
وبعث مهران إلى المثنى يقول: «إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم.» ولم يكن المثنى قد نسي ما أصاب أبا عبيد حين عبر النهر يلقى ذا الحاجب، وكان عمر قد أهاب به بعد غزوة الجسر ألا يعبر نهرا قبل أن يتم له النصر؛ لذلك بعث إلى مهران أن اعبروا أنتم، وعبر الفرس إلى البويب وتعبئوا في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل.
وخرج المثنى على فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلا لقتال ، فإذا فرغ من القتال ودعه، وكان الفرس يدعى الشموس للين عريكته، وطاف المثنى راكبا في صفوفه يعهد إليهم عهده ويحضهم ويأمرهم بأمره ويحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، فكان يقف عليهم راية راية يقول: «إني لأرجو ألا تؤتى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم.» فكانوا يجيبونه بمثل قوله، وإذ كان الشهر رمضان فقد نادى المسلمين: «أيها الناس إنكم صوام والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تفطروا فتقووا بالطعام على عدوكم.» وأجابه الناس إلى ما طلب فأفطروا، وسمع المثنى من جانب الفرس زجلا يرددونه وهم يقتربون، فقال: «إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وأتمروا همسا.» وجعل الناس يستمعون إلى المثنى وهو يتحدث إليهم منصفا إياهم جميعا، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا أو فعلا، بل ازدادوا له حبا وبه تعلقا، فلما قال لهم: «إني مكبر ثلاثا فتهيئوا ثم احملوا مع الرابعة.» تهيأت الرايات جميعا تنتظر الشدة على العدو وهي أشد ما تكون اغتباطا بلقائه وحرصا على الظفر به.
ولم يكد المثنى يكبر أول تكبيرة حتى أعجل الفرس العرب وعاجلوهم فشدوا عليهم، واختلت لشدة الفرس بعض صفوف المسلمين من بني عجل؛ فأرسل المثنى من يقول لهم: «إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.» واعتدل بنو عجل وشدوا مع سائر الجند على الفرس، فأعادت شدتهم للصفوف نظامها، واشتبك الفريقان في قتال دام ساعات أعنف قتال، ورأى المثنى أن المعركة تترجح حامية الوطيس بين الفريقين، وأنها تؤذن أن تطول، ففكر في الوسيلة التي يكفل بها النصر للعرب؛ وذلك بأن يحمل على قائد الفرس فيزيله عن مكانه أو يقتله، ولينفذ عزمه دعا إليه أنس بن هلال النمري ثم دعا ابن مردى الفهر التغلبي، وقال لكل منهما: «إنك امرؤ عربي وإن لم تكن في ديننا، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي.» وحمل المثنى على مهران حملة صادقة فأزاله حتى دخل في ميمنته، ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم فاجتمع القلبان وثار النقع، فلا يعرف أي الفريقين لمن منهما الغلب، وانكشف الغبار لحظة رأى المسلمون فيها تراجع قلب الفرس، فحملت عليهم الميمنة والميسرة فدفعوهم إلى ناحية النهر يبتغون النجاة، والمثنى في أثناء ذلك يحرض جنده ويرسل إليهم من يقول لهم: «عاداتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم.» فيزداد المسلمون حماسة وشدة على العدو وضربا في صميمه.
ولم يطق الفرس أن يثبتوا لهذا البأس فانهزموا وانقلبوا يولون الأدبار، يريدون أن يعبروا الجسر، فلما رأى المثنى انهزامهم سابقهم إلى الجسر وسبقهم إليه وردهم عنه، فازداد اضطرابهم، فتفرقوا تصعد جماعة على شاطئ النهر وتصوب أخرى، وحصرهم فرسان المسلمين وهم في اضطرابهم فقتلوهم شر قتلة، وبلغ من فزع الفرس وهم على هذه الحال أن كان الرجل من المسلمين يقتل عدة منهم فلا يرتد إليه أحد يحاول قتله، حتى لقد سمي يوم البويب هذا يوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل من العرب قتل كل واحد منهم عشرة من الفرس في المعركة.
وظل المسلمون يتعقبون الفالة من عدوهم يمعنون فيهم قتلا إلى الليل، فلما أصبحوا عادوا يتعقبونهم كرة أخرى إلى الليل، بذلك أزهق في البويب من الأرواح أكثر مما أزهق في أية غزوة أخرى، فكانوا يحرزون قتلى الفرس بمائة ألف، بقيت جثثهم صرعى طريحة في الميدان حتى بليت وصارت عظاما، ثم بقيت دهرا طويلا لم تدفن إلا بعد بناء الكوفة، ثم عفى عليها التراب أزمان الفتنة.
انتصر المسلمون بالويب كما ترى نصرا مبينا، وكان اجتماع الناس على محبة المثنى من أسباب ذلك النصر، بل كان أجل هذه الأسباب وأعظمها، لقد رأوه يخوض الغمار قوي اليقين جريء الجنان، ففعلوا فعله واستبسلوا استبساله، فنصرهم الله، وكان الذين فروا من الزحف يوم الجسر يقاتلون لا يبالون الموت يريدون أن يتطهروا من عار هزيمتهم، فبينما كان المثنى يعدل الصفوف للمعركة رأى أحدهم يتقدم صفه مندفعا نحو الفرس مستقبلا، فقرعه بالرمح وقال له: «لا أبا لك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل.» وأجاب الرجل: «إني بذلك لجدير.» واستقر ولزم الصف، وكان لسائر القواد والجنود مواقف بطولة تسجل بمداد الفخر. لما حمي وطيس المعركة اندفع مسعود بن حارثة أخو المثنى يخوض غمارها، فصرع قبل أن ينهزم الفرس فتضعضع من معه، فرأى ذلك وهو دنف فقال: «يا معشر بكر بن وائل! ارفعوا رايتكم رفعكم الله! لا يهولنكم مصرعي.» وكان قبل أن يصاب قد قال لهم: «إن رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه؛ فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم.» وقاتل أنس بن هلال النمري النصراني حتى قتل، وحمل غلام نصراني من التغلبيين على مهران فقتله واستولى على فرسه ثم انتحى يترنم بقوله: «أنا الغلام التغلبي، أنا قتلت المرزبان.» ولما سبق المثنى الفرس إلى الجسر فمنعهم من عبوره حاز عرفجة بن هرثمة كتيبة منهم إلى الفرات، فلما أحرجوا كروا على عرفجة ورجاله وقاتلوهم قتال المستميت ونالوا منهم، فقال رجل لعرفجة: «لو أخرت رايتك!» فكان جواب ابن هرثمة: «علي إقدامها.» وحمل بها على الفرس فولوا نحو الفرات، فما بلغه منهم أحد حيا، وجرح من أعلام المسلمين يومئذ وقتل عدد غير قليل، كما جرح وقتل مثلهم من بني النمر وبني تغلب وغيرهم من عرب العراق، لكن النصر توج استشهادهم فأبقى على التاريخ ذكرهم، فهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وانتهت المعركة، فضم المثنى أخاه مسعودا وأنس بن هلال النصراني إليه، وتوجع لما أصابهما، لم يفرق اختلاف دينهما من وجده عليه، ثم صلى على من استشهد من المسلمين وقال: «والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم ينكلوا، وفي الشهادة كفارة.»
وجلس المسلمون أمسية فراغهم من المعركة مغتبطين يسمرون، قال المثنى: «قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام، والله لمائة من العرب في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم، إن الله أذهب بأسهم ووهن كيدهم، فلا يروعنكم زهاء ترونه، ولا قسي فج ولا نبال طوال؛ فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كالبهائم أينما وجهتموها اتجهت .» وذكر بعضهم أخذ المثنى الجسر على الفرس وما أدى ذلك إليه من إفناء جيشهم، فلم يدع المثنى المتحدث يسترسل في حديثه، بل أنكر صنيع نفسه في ذلك وأظهر الندم عليه وقال: «لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم؛ فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تقتدوا بي، أيها الناس، فإنها كانت مني زلة، لا ينبغي إحراج أحد إلا من لا يقوى على امتناع.»
وهذه العبارة من القائد المنتصر في معركة عظيمة أزالت عن المسلمين عار معركة الجسر، تشهد بشجاعة المثنى وصراحته في الحكم على نفسه، كشجاعته في قيادة المعارك وخوض غمارها، فلو أنه كان ممن يزدهيهم الفخر ويلعب بلبهم إعجاب الناس بهم لما قال منها كلمة، لكنه رأى الفرس الذين ارتدوا عن الجسر يقتلون من المسلمين ويستميتون يريدون الثأر منهم، فأسف لموت من مات من جنوده، وندم على فعلته، وقدر ما ربما كان يترتب على استماتة عدوه من انقلاب كفة النصر، ثم كان جريئا في إعلان خطئه حتى لا يقع في مثله غيره.
غنم المسلمون في البويب مغانم كثيرة، وأصابوا بقرا وغنما ودقيقا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن على تخوم شبه الجزيرة، وإلى عيالات من أقاموا بالحيرة ممن سبق إلى العراق في الأيام التي خلت قبل البويب والجسر، ورأى النسوة اللاتي أقمن على تخوم شبه الجزيرة إقبال الخيل عليهن تحمل الميرة، فحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو بن عبد المسيح وكان مع القافلة: «هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش.» واستأمن الرجال النساء وبشروهن بالفتح ودفعوا إليهن ما جاءوا به، وقالوا هذا أول المغنم.
وأمر المثنى القواد والرجال فانطلقوا في السواد حتى بلغوا ساباط على مرأى من المدائن وجيوش الفرس تفر أمامهم فرار النعام لا تمنعهم من شيء ولا تمنع منهم أحدا، وانطلق المثنى بدوره فغزا الخنافس والأنبار أيام سوقهما، فنال منهما ما شاء الله أن ينال من المغانم، وبلغ المسلمون دجلة وأغاروا على قرية بغداد وبلغوا تكريت، وجعلوا كلما غزوا يقتلون المقاتلة ويسبون الذرية ويستاقون الأموال، حتى كان لهم من ذلك ما لا يحصى، بذلك دان لهم العراق كله كرة أخرى، وقسم المثنى الفيء على الناس، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة ربع الخمس تنفيذا لعهد عمر، ثم بعث بثلاث أرباعه إلى أمير المؤمنين بالمدينة.
استتب الأمر للمثنى كما استتب من قبل لخالد بن الوليد، فانتشر المسلمون في سواد العراق ينالون من رزقه وينعمون بخيراته، وأقام المثنى بالحيرة يفكر فيمن أفنت هذه الموقعة الضروس من جند المسلمين، وفي الوسيلة لتعزيز الجيش بمن يقوم مقامهم فيه، ولعله لم يكن يستعجل المدد، فقد استولى الرعب على نفوس الفرس بعد ما كرثتهم البويب، حتى لقد خيل إليه أن لا قيام لهم بعدها، وأن خلافهم بالمدائن سيشتد على أثرها، وأن الثورة ستشب بسبب هذا الخلاف في كل أرجاء فارس فتوهن أمرها وتزعزع نظامها.
جدير بنا أن ندع المثنى يفكر في موقفه، وأن نفكر نحن فيما للبويب من دلالات على التاريخ؛ فلهذه الغزوة أكثر من دلالة، لقد رأينا النصارى العرب من أهل العراق يقفون في خطوط المسلمين يحاربون الفرس بالحمية التي يحاربهم بها المسلمون، ورأينا المثنى يقول لأنس بن هلال النمري: «يا أنس! إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتني حملت على مهران فاحمل معي.» ثم يقول مثل هذا القول لابن مردى الفهري التغلبي، ألا يقطع ذلك بأن الحرب في العراق لم تكن حربا صليبية، ولا حربا إسلامية، وأن الدين لم يكن هو الذي أثارها، وإنما أثارها حرص العرب على أن يتخلص بنو جنسهم من النير الأجنبي الذي ركبهم قرونا طويلة، وأن يكون الجنس العربي وحدة سياسية أينما كانت منازله؟ أحسب الأمر واضحا فلا سبيل إلى الريبة فيه، والاعتبارات التي أثارت الحرب في العراق هي التي أثارت الحرب في الشام، أما الفتح لنشر الإسلام بالسيف فلم يدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر، وإن دار بخاطرهما أن تكون الدعوة إلى الإسلام حرة لا يقف في سبيلها عائق من العوائق .
ذلك أن الدعوة إلى الإسلام بقوة السلاح لا تتفق ومبادئ الإسلام، ولا يقرها الكتاب الذي أوحاه الله إلى رسوله، وقد كان النبي وخلفاؤه يذكرون دائما قوله تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى:
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وإنما انتشر الإسلام تبعا لاتساع رقعة الفتح؛ لأن أهل البلاد المفتوحة رأوا مبادئ هذا الدين القيم فأكبروها ثم اعتنقوها، عن بينة وتفكير حينا، وتشبها بالرجال الذين أتوا بالمعجزات في الفتح وفي الحكم حينا آخر، فإذا صح لهذا السبب أن نقرن انتشار الإسلام باتساع رقعة الفتح، فلا صحة لما يقال من أن هذا الفتح كانت غايته نشر الإسلام ببطش السيف.
هذا بعض ما تدل عليه غزوة البويب، وهي تدل كذلك على أن ما كان بين العرب والفرس من خصومة قد بلغ حدا لا رجاء معه في صلح ولا في هدنة، فقد جاءت البويب على إثر غزوة الجسر حيث انهزم المسلمون هزيمة نكراء، فمحت آثار هزيمتهم وجعلت كلمتهم العليا، وألقت في نفوس الفرس الرعب وهدت عزيمتهم، مع ذلك لم يفكر المسلمون في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة الجسر، ولم يفكر الفرس في التسليم ولا في الصلح إثر غزوة البويب، فلم يكن بد من أن تتصل الحرب حتى يذعن أحد الفريقين دون قيد أو شرط.
ولهذا لم يلبث الفرس حين زال عنهم روع البويب أن عادوا يفكرون فيما يوشك أن يصير إليه أمرهم إذا ظلوا فيما هم فيه من فرقة وانقسام، ولقد خيل إليهم أن هؤلاء الغزاة من العرب سيدخلون عليهم عاصمة ملكهم، ويفتضون عليهم كل حصونهم، ويخضعون أبناء كسرى لسلطانهم، إلا أن تكون المعجزة فتتحد كلمتهم ليواجهوا الغزاة ويجلوهم عن أرضهم، وكيف لكلمتهم أن تتحد ورستم والفيرزان يتنازعان السلطان، والأمراء والدهاقين منقسمون تؤيد طائفة أحد المتنازعين وتؤيد الأخرى منافسه! لذا ذهب أهل الفرس إليهما جميعا فحذروهما عاقبة اختلافهما وما يجره على فارس من وهن يعرضها للهلكة، «فما بعد بغداد وساباط وتكريت إلا المدائن!» ثم إنهم أنذروهما قائلين: «والله لتجتمعان أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت!»
وتشاور الفيرزان ورستم فاستكتبا بوران كتابا إلى نساء كسرى وسراريه، فجاءوا بهن وعرفوا منهن أنه لم يبق ذكر من ذرية كسرى إلا يزدجرد بن شهريار بن كسرى وكانت أمه قد أخفته عند أخواله حين قتل شيري جميع الذكور من ذرية أبيه، فجاءوا به، وهو يومئذ في الحادية والعشرين من عمره، فجعلوه على عرش أجداده واجتمعوا عليه وتباروا في معونته، فاطمأنت فارس بعد انزعاجها، وأخذت تعد العدة كيما تثأر لكرامتها وشرفها.
وترامت إلى المثنى أنباء الفرس فزايلته طمأنينته، وأيقن أن أهل السواد لن يلبثوا أن ينتقضوا على المسلمين إذا سارت جيوش الفرس ونحوهم، فكتب إلى عمر بالمدينة يذكر له ما عنده وما يتوقع من ثورة وانتقاض، لكن كتابه أبطأ قبل أن يبلغ عمر، وتجهز الفرس، فأثار تجهزهم قرى العراق ومدنه، فلم يجد المثنى بدا من أن ينسحب كرة أخرى إلى تخوم شبه الجزيرة، فسار في جنده حتى نزل بذي قار، وجمع ما استطاع من الناس في عسكر واحد، ثم أقام ينتظر مدد الخليفة ليعود من جديد ويفتح المدائن.
ولما وصل كتاب المثنى إلى عمر وعرف تجهز العجم بعد أن اجتمع أمرهم واتحدت كلمتهم قال: «والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب!» وكتب إلى المثنى ومن معه يأمرهم بالخروج إلى تخوم العراق والتفرق في المياه التي تلي العجم، وأن يستمدوا أهل النجدة ليكونوا معهم حتى لا يبغتهم الفرس وهم في غير عدد وعدة.
نزل المثنى بذي قار، فلم يفكر الفرس في السير لمواجهته، وهناك أقام حتى أدركه سعد بن أبي وقاص، إذ جاء أميرا على الجيوش التي جهزها عمر ليجهز بها على فارس، لكن مقام المثنى مع سعد لم يطل؛ فقد نغر عليه الجرح الذي أصابه يوم الجسر وما زال به حتى قضى عليه، بهذا تجري بعض الروايات وتجري روايات أخرى بأن المثنى قبض بذي قار قبل أن يصل سعد إلى العراق، وأنه ترك لسعد وصية نورد حديثها في موضعه.
والآن وقد قبض المثنى فحق علينا أن نختم هذا الفصل، وقبل أن نندفع مع الحوادث في تيارها الجارف، أن نقف هنيهة على قبر هذا القائد القادر نودعه ونوفيه بعض حقه.
فقد حمل هذا الرجل عن المسلمين في حرب الفرس عبئا لم يحمل أحد مثله، كان أول مسلم ذهب إلى دلتا النهرين فدعا أبا بكر للتفكير في فتح العراق، ولولا ذهابه إليها ومغامراته فيها لما فكر الخليفة في مواجهة فارس، وقد فتح مع خالد بن الوليد ما شاء الله أن يفتحاه من سواد العراق، ولولا إقدام ابن حارثة وحسن رأيه وبراعة قيادته لما استطاع بعد أن ذهب خالد إلى الشام أن يثبت للفرس وأن يواجههم.
ولقد أوصى أبو بكر عمر بعد ذلك أن يندب الناس مع المثنى، فكان طبيعيا أن يتولى المثنى إمارة القوات التي تسير إلى العراق لنجدته، فهو الذي عرف مداخله وسار في أرجائه، فله من الجرأة على أهله ما ليس لغيره، ولو أن أبا بكر عاش لما أمر أحدا غيره، لكن عمر أمر أبا عبيدا؛ لأنه كان أول الناس انتدابا، ولأنه كان ثقفيا من أهل الحجاز! وكان المثنى من بكر بن وائل، أفغضب المثنى لذلك أو حز في نفسه أن خالف عمر وصية أبي بكر في أمره؟ كلا! بل سما بتفكيره فوق هذا الاعتبار، وقدر تعصب أهل الحجاز لبني وطنهم، فسبق أبا عبيد إلى العراق ثم سار تحت لوائه، فانتصر معه يوم النمارق وحمل اللواء بعد مقتله ومقتل أصحابه يوم الجسر، ثم انسحب إلى أليس، حتى جاءه المدد وكان يوم البويب قاد الموقعة ببراعة تعيد إلى الذاكرة فعال خالد بن الوليد في أعظم غزواته.
وتأمير عمر أبا عبيد على المثنى من الخطوات الأولى التي أقر بها أمير المؤمنين نظام الطبقات بين المسلمين، وقد يلتمس لعمر من العذر عن هذه الخطوة أن أبا عبيد تقدم حين أحجم غيره، فكان أول الناس انتدابا، لكن الواقع أنها كانت خطوة تتفق وتفكير عمر، يشهد بذلك أن جرير بن عبد الله البجلي ذهب في أعقاب غزوة الجسر مددا للمثنى، فلما عرف المثنى أنه مر قريبا منه كتب إليه أن أقبل إلي فإنما أنت مدد لي، ورد عليه جرير: «إني لست فاعلا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين، أنت أمير وأنا أمير.» وكتب المثنى إلى عمر يشكو جريرا، فرد عليه أمير المؤمنين بقوله: «إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم .» ولما وجه عمر سعد بن أبي وقاص إلى العراق كتب إلى المثنى وإلى جرير أنه أمر سعدا عليهما، ذلك أن سعدا كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان عمر يرى السابقين الأولين إلى الإسلام طبقة تفضل غيرها من سائر طبقات المسلمين.
لم يغضب المثنى لتأمير غيره عليه؛ ذلك لأنه كان مؤمنا حسن الإيمان، كما كان جنديا باسلا يقدر معنى النظام وطاعته، ويسمو بالنظام وبالإيمان جميعا على أهواء النفس وشهواتها، على أن إقصاءه عن إمارة الجيش لا يغض من قدره، ولا يمحو ما سجل التاريخ له في صحفه، فإن يكن خالد بن الوليد عبقري الحرب وسيف الله، فالمثنى بن حارثة هو السابق الأول إلى فتح العراق، وهو القائد المحنك الذي حمل العبء في أشد مواقف المسلمين به دقة، وهو الحكيم الذي جمع قلوب العرب من أهل العراق حوله مع أنهم لم يكونوا على دينه، فاستطاع بما صنع من ذلك أن يضرب الفرس في البويب ضربة لم يفيقوا منها ولم ينتصروا قط بعدها.
ويزيد المثنى فخارا أنه أتم ذلك كله في زمن ما أقصره، فقد بلغ أبو عبيد تخوم العراق مستهل الخريف من سنة أربع وثلاثين وستمائة لميلاد السيد المسيح، فانتصر بالنمارق في أوائل أكتوبر من تلك السنة، وقتل بالجسر في أخريات الشهر نفسه، فتولى المثنى القيادة وانتصر بأليس ثم انتصر نصره الحاسم بالبويب في شهر نوفمبر، ولو أنه جاءه المدد في أعقاب البويب لسار إلى المدائن ففضها قبل أن يطوي ذلك العام أيامه، لكن المدد أبطأ عليه، ثم إن الموت عاجله، فمات وقد عقد النصر على هامته إكليلا من الفخار باقيا على الدهر ما بقي الدهر.
والآن وداعا أيها القائد القادر وفي ذمة الله! ولنترك الآن ميدانك يدوي بآيات نصرك لنقف بالشام إلى جانب صاحبك ابن الوليد! وليذكر الناس جميعا على تعاقب الأيام أن المثنى بن حارثة الشيباني كان الطليعة في التمهيد للإمبراطورية الإسلامية، ثم كان من بناتها ذوي الحكمة والأيد، ولن يغض من عظمة صنيعه في بنائها أنه لم يكن قرشيا، ولم يكن من أصحاب رسول الله، وأنه لم يتول إمارة الجيش بعد خالد، فقد تولاها بالفعل في البويب فكان فيها ندا لخالد إقداما، ولعله كان فيها أكثر من خالد تسامحا وحكمة.
هوامش
الفصل السابع
فتح دمشق وتطهير الأردن
لعلك تذكر أن أبا بكر لما عزم فتح الشام واستمد العرب جميعا لغزوه وجه أربعة ألوية إلى أرضه، جعل على أحدها أبا عبيدة بن الجراح، وعلى الثاني عكرمة بن أبي جهل، وعلى الثالث يزيد بن أبي سفيان، وعلى الرابع عمرو بن العاص، وأنه اختص كل لواء بمنطقة في الشام يغزوها، فإذا اجتمعت هذه الجيوش فالأمير عليها أبو عبيدة، وقد لقيت هذه الجيوش من مقاومة الروم وبأسهم ما اضطرها إلى الاجتماع في صعيد واحد على ضفة اليرموك، ولم تدعها جند هرقل تتقدم، بل وقفت إزاءها على ضفة النهر الأخرى، وضاق أبو بكر ذرعا بجمود جنوده، فكتب إلى خالد بن الوليد بالعراق ليسير إلى الشام أميرا على جيوشه كلها، وبلغ خالد الشام، وأقام شهرا آخر على ضفة اليرموك دون أن يواجه الروم، وقبض أبو بكر وتولى عمر إمارة المؤمنين والموقف لا يزال على جموده، فكان من أول ما استفتح به عهده أن حمل محمية بن زنيم وشداد بن أوس كتابا إلى أبي عبيدة بعزل خالد عن إمارة الجيش وبردها إليه كما كانت قبل أن يفصل خالد من العراق إلى الشام.
1
بينا محمية بن زنيم وشداد بن أوس في طريقهما إلى الشام يحملان رسالة عمر بعزل خالد، كان خالد يدبر للقاء الروم والقضاء عليهم، ولقد عرف أن الروم يتجهزون للقائه، فعبأ جيوشه كراديس على نحو لم يألفه العرب من قبل؛ وذلك لأنه ليس أكثر في رأي العين من الكراديس، ثم حمل بهم غداة ذلك اليوم فالتقى هو وجيش الروم فحطمه، وقضى على كل أمل للروم في استبقاء الشام.
2
تجري طائفة من الروايات بأن رسولي عمر بعزل خالد وصلا إلى الشام صبح اليوم الذي وقعت فيه هذه المعركة الفاصلة، وأنهما رفعا رسالة أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة فلم يذع ما فيها حتى انتهت المعركة، فلما تم فيها النصر للمسلمين أنبأ خالدا بها وأذاع في الجيش أمرها، وتولى القيادة مكان خالد، وتذهب روايات أخرى إلى أن أبا عبيدة لم يذع ما في الرسالة إثر الموقعة، بل أخفاه وسار تحت إمرة خالد إلى دمشق، حتى إذا فتحت وتم الصلح مع أهلها أذاع أمر أمير المؤمنين، وتسوق بعض الروايات الحوادث غير هذا المساق، وتذكر أن عمر أمر بعزل خالد عن كل عمله في الجيش وبمحاكمته في أمور نسبها إليه وطلب سؤاله عنها.
والراجح عندي أن أبا عبيدة لم يذع النبأ بعزل خالد أول ما بلغه، سواء كان قد بلغه صبح يوم اليرموك أو بعد انتصار خالد فيها، وأنه كتم هذا النبأ أياما حار في أثنائها ما يصنع به وكيف يذيعه، وفي هذه الأثناء عرف الناس أن أبا بكر قبض وأن عمر تولى مكانه، فاختلفوا رأيا، وبرم بعضهم بولاية عمر كما برم بها قوم من أهل المدينة، ثم هدأت ثائرتهم ورضوا الواقع، حين علموا أنه تم بوصية أبي بكر، وقدر خالد أن عمر لن يرضاه أميرا على جيوش المسلمين بالشام، وأنه لا بد أن سيعزله، وتحدث بذلك إلى بعض المقربين منه، ولعله تحدث به إلى أبي عبيدة، عند ذلك أنبأه أبو عبيدة برسالة عمر فلم يغضب ولم يثر، ورضي طائعا أن يتولى قيادة لوائه بإمرة ابن الجراح، كما قبل ابن الجراح من قبل أن يكون تحت لوائه طوعا لأمر أبي بكر حين بعث خالدا من العراق إلى الشام،
3
ولم يثر الناس بأمر عمر وعزله خالدا؛ لأنهم كانوا يعرفون ما بين الرجلين منذ حادث مالك بن نويرة، وكذلك تم هذا التبديل في إمارة الجيش إثر موقعة انتصر فيها خالد نصرا حاسما، فلم يترك في نظام المسلمين وجندهم أي أثر تخشى مغبته.
هذا ما أرجحه، وهو ما يستخلص من مختلف الروايات، وقد كتب به أبو عبيدة إلى عمر وأنبأه بما تم من نصر على الروم في اليرموك، وبعث إليه بخمس الفيء، وذكر له أنه خلف بشير بن سعد بن أبي الحميري على اليرموك ليحمي ظهره، وخرج إلى مرج الصفر يتعقب فلول المنهزمين الذين تجمعوا بفحل، وأنه أتاه الخبر بأن هرقل أمد دمشق بقوات من حمص، وكان هرقل يقيم بها، فهو لا يدري أيبدأ بدمشق أم بفحل من بلاد الأردن.
وتناول عمر كتاب أبي عبيدة، فلم يلبث حين قرأه أن كتب إلى أبي عبيدة:
أما بعد فابدءوا بدمشق فانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم في نحورهم، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل بدمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، وضع شرحبيل وعمرا بالأردن وفلسطين.
تلقى أبو عبيدة رسالة عمر، فبعث إلى فحل بعشرة من قواده في مقدمتهم أبو الأعور السلمي، وسار هو وخالد بن الوليد في قوة الجيش الكبرى يقصدون دمشق، ورأى الروم الذين لجئوا إلى فحل مقدم المسلمين عليهم، وكان أثر اليرموك وما أورثه إياهم من فزع لا يزال آخذا بنفوسهم، فأطلقوا ماء بحيرة طبرية ونهر الأردن في الأرض حولهم، فأوحلت وتعذر السير فيها، وغاظ المسلمون ما صنع عدوهم، فوقفوا بإزائهم يحاصرونهم ولا يستطيعون التقدم في الأرض الموحلة إليهم، وظل ذلك موقفهم حتى فرغ إخوانهم من فتح دمشق، واستطاعوا أن يمدوهم بقوات زادتهم بأسا وإقداما.
ولم يكن عجبا أن يفتح المسلمون دمشق مع مناعة حصونها وما أمدها هرقل به من جند عظيم، فقد كانوا إلى حين نصرهم الله باليرموك يسيرون في أرض مياهها جارية، لكن ما بها من خصب وزرع لم يزد على مواقع الخصب بالمدينة وما حولها، فلم يبلغ إغراؤه ما بلغت دلتا النهرين بالعراق، فلما ساروا من الواقوصة على اليرموك إلى دمشق رأوا جمالا يبهر بهاؤه اللب، وتسحر بهجته القلب، رأوا أراضي البلقاء في الجنوب تمتد مروجها إلى مسرح النظر، ورأوا في الشمال مراعي جولان أبهى نضرة وأمرع خصبا، ثم رأوا مزارع القمح والشعير متلاحقة بين هذه المراعي تقوم خلالها الأشجار مختلفا أنواعها، منها المثمر وغير المثمر، ومنها ذو الأريج يفوح شذى زهره فيعطر ما حوله من الأرجاء، والنهيرات والغدران تجري مياهها الصافية مصقولة الصفحة حينا، متدفقة في اندفاع حينا آخر، تسقي هذه الزروع والأشجار والحدائق الغناء، وقد تحدرت من تلال كست سفوحها الخضرة أو نمت فوقها الأشجار الباسقة، فجلت رباها كأنها الأعلام بين أودية تنبسط تارة وتتموج بين الارتفاع والانخفاض تارة أخرى، وهي في انبساطها وفي تموجها يكسوها بساط من الزهر بألوانه البهيجة الفواحة، وزادت بنات الأصفر على تعبير العرب، هذا الوسط الطبيعي الرائع رواء وبهجة، يتهادين فوق هذه الربى وبين هذه الأودية، فتمسك النظر قدودهن الممشوقة وخدودهن الملساء أشربت وجناتها حمرة تنم عن عافية وري، وقد سواهن البارئ أحسن تسوية وقومهن أحسن تقويم، فكن ملائك هذه الجنان التي يسير العربي خلالها في الطريق إلى العاصمة الحصينة، وها هنا وهناك تقوم المدائن التي أنشأها الرومان وأقاموا فيها المسارح والملاعب والكنائس، وكلها عمائر تلفت عظمتها النظر وتثير الإعجاب، وهناك على حدود الأفق إلى الشمال تبدو أعالي الجبال توجت هاماتها الثلوج، فبدت في جلال، ما أشبهه بجلال المشيب، ناصع البياض، أي شيء هذا السحر الباهر وهذا الجمال الساحر! وهل من باعث غير الإيمان أقوى منهما يدفع إلى المغامرة في سبيلهما! ولهؤلاء الجنود المسلمين من قوة الإيمان بالله ورسوله أوفى حظ وأوفر نصيب، وقد زاد هذا السحر قوة الإيمان في نفوسهم، فدفعهم يسرعون إلى عاصمة الشام وهم أشد ما يكونون حرصا على فض حصونها والدخول إلى قلبها.
بل لقد زادهم اسم دمشق حرصا على الإسراع إليها والاستيلاء عليها، فكم سمعوا بعجائبها من إخوانهم وآبائهم الذين كانوا يذهبون أثناء رحلة الصيف بالشام إليها! وكم حدثهم عن تاريخها بنو وطنهم من المسيحيين الذين يحجون إلى بيت المقدس، ثم يذهبون إلى مقر الملك بالشام يجتلون نعمة الحضارة فيه، ويبتاعون من متاجره الغنية تحفا لا مثيل لها بالمدينة المقدسة بفلسطين، قص عليهم هؤلاء المسيحيون تاريخها، فأذكوا في نفوسهم تطلعا أي تطلع لمشاهدتها والتمتع بجناتها الفيحاء ومياهها الجارية وظلالها الوارفة وفاكهتها الشهية، وما فيها من جمال يحدث عن حاضر فاتن وماض أكثر فتنة، فدمشق من أقدم مدائن العالم إن لم تكن أقدمها جميعا،
4
وقد توالت عليها عصور عظيمة كانت فيها مقر عبادة وثنية ضخمة، فلما جاءت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لأتباع السيد المسيح لا يبذها في جمالها وجلالها إلا كنيسة أنطاكية كبرى معابد المسيحية بالشام، هذا إلى ما أقامه الروم فيها من عمائر فاقت كل ما وقعت عليه أعين هؤلاء العرب في طريقهم إليها جلالا وعظمة، كيف إذن لا تنهب جيوش المسلمين الطريق إليها نهبا! وكيف يخامرها ريب في أنها لا بد مستولية عليها بعد أن قهرت الروم باليرموك، وقضت من جندهم على عشرات الألوف خروا صرعى في الميدان أو تردوا هلكى في هاوية الواقوصة!
ولم يجد هذا الجيش الظافر في طريقه مقاومة تذكر، فلم يكن الروم يعتمدون في قتالهم على ما كان يعتمد عليه الفرس من التحصن بالأنهار ومجاري المياه المتشابكة بين دجلة والفرات؛ لأنه ليس بالشام مثل هذه الأنهار، ولم يكن الروم يندفعون إلى المعارك مستميتين اندفاع الفرس؛ لأن العراق كان للفرس منه نصيب عظيم، وكانت المدائن عاصمة الأكاسرة على شاطئ دجلة أكبر أنهاره، أما الشام فكان ولاية رومية، وكانت القسطنطينية عاصمة القياصرة بعيدة عن بيت المقدس وعن دمشق؛ فلم يكن في نفوس المدافعين عنها من الحماسة والاستماتة ما كان في نفوس المدافعين عن المدائن، ولم تبعث العصبية الدينية في نفوسهم حب الاستشهاد في سبيل بيت المقدس، فقد غلب الفرس الروم واستولوا على كنيسة القيامة وعلى كنيسة المهد من قبل، فلم يجد أهل البلاد في هذا التغيير الذي طرأ على حكامهم ما يدعوهم إلى افتداء هذه المعابد بأرواحهم، فإذا كان هرقل قد رد الفرس واسترد فلسطين، فلم يكن حكم عماله خيرا من حكم الفرس ولا أكثر رفقا ومعدلة، لذلك لم يعتمد هرقل على شيء في هذه البلاد اعتماده على المدن المحصنة، كدمشق وحمص وأنطاكية، اعتزازا بحصونها، واطمئنانا إلى قوة مقاومتها.
بلغ المسلمون غوطة دمشق فازدادوا حماسة واندفاعا؛ فقد رأت أعينهم هذا السهل الفسيح تقوم عليه أم المدائن وأقدمها، وكأنه قطعة من الجنة هبط بها الملائكة من سماء الخلد إلى هذه الأرض: أنهار جارية، وعيون دافقة، وأشجار متشابكة الأغصان، وأعناب وتين وزيتون وجنة نعيم، وبين هذه الظلال الوارفة تسري خلالها نسمات تضوع عطرا، قامت منازل المترفين الذين آتاهم الله من فضله ورزقهم من طيبات هذه الدنيا، تحدث عما كان فيها ومن كان فيها من سادة يمتعون وجوار كأنهن الحور العين، أين من هذا الجمال الرائع والنعمة السابغة، ما رأت عيون الذين صحبوا خالد بن الوليد إلى العراق، وكانوا يرونه سحرا أي سحر، وفتنة أي فتنة! فإذا صحت كلمة خالد بالعراق: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب! وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش، لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.» إذا صحت هذه الكلمة بالعراق مرة فإنها تصح أمام دمشق وغوطتها ألف مرة، فما يرون هنا ليس هو الطعام بلغ من الكثرة مبلغ التراب، وإنما يرون مع الطعام ما لم يكن يدور لهم في خيال، وما حسبه أكثرهم مما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
ألفى المسلمون منازل الغوطة وقصورها خالية لا يسمع فيها إلا غناء الأطيار على أفنان بساتينها، ذلك أن أهل المنازل والقصور هجروها ليحتموا من الغزاة بأسوار المدينة المنيعة، وكانت أسوار دمشق مضربا للممثل في التحصن والمنعة، بنيت من حجارة ضخمة متينة، وعلت إلى ارتفاع يزيد على ستة أمتار في سمك يزيد على ثلاثة، وكانت حصونها رفيعة الذرى كثيرة الشرفات، يحتمي بها الرماة بالسهام والمجانيق من المدافعين فيها، وقد زادها هرقل تحصينا بعد غزو الفرس إياها، أملا في أن ترد كل طامع في الإمبراطورية، وكان بالأسوار أبواب منيعة يحكم إغلاقها فلا تدع سبيلا لداخل إلى المدينة أو خارج منها، وأحيطت الأسوار بخندق يزيد عرضه على ثلاثة أمتار طمته مياه نهر بردى، بذلك كانت دمشق كلها قلعة واحدة ذات أبراج في كل نواحيها، فلم يكن لمهاجمتها سبيل إلا بعد حصار طويل يفت في أعضاد أهلها، ويضعف عزائمهم ويحملهم على التسليم.
قدر أبو عبيدة ما يقتضيه اقتحام المدينة الحصينة من هذا الحصار الطويل، فأمر جنوده ففتحوا كنائس الغوطة ومنازلها واتخذوها مساكن يأوون إليها، وقدر أن هرقل قد يبعث بجنود من حمص أو فلسطين يحصرون قواته حول دمشق بين حصون المدينة وجيوش الروم، فبعث ذا الكلاع الحميري فعسكر بين دمشق وحمص، وبعث علقمة بن حكيم ومسروق العكي فعسكرا بين دمشق وفلسطين، فلما اطمأن إلى ما صنع من ذلك أمر قواده وجنوده بالتقدم لحصار العاصمة، تمهيدا لاقتحامها، وعين لكل منهم بابا من أبوابها ينزل عليه، فنزل هو على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، ونزل يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير أو باب كيسان، أما خالد بن الوليد فنزل على الباب الشرقي، وكان على مقربة من هذا الباب دير يسمى دير صليبا اتخذه خالد مقرا له، ولذلك سمي من بعد دير خالد.
ونصب المسلمون المجانيق والدبابات حول المدينة وبدءوا يهاجمون حصونها، لكن هذه الحصون كانت أمنع من أن تفتضها عدة العرب وطرازها ساذج والجنود الذين يستعملونها غير مدربين على فنون الحصار؛ لذلك قاومت كل هجوم ورد حماتها جنود الدبابات ورماة المجانيق بسهامهم ونبلهم ، وكان نسطاس حاكم المدينة وباهان قائد جنودها على ثقة من أن هرقل لن يدع عاصمة ملكه بالشام تسقط في أيدي أعدائه وهو مقيم على مقربة منها بحمص في جيش عظيم، وأن هؤلاء العرب لن يلبثوا لذلك أن يفضوا حصارها وينفضوا عنها كما فعل غيرهم من قبل، ولهذه الثقة طالت مقاومتهم ولم يجد المسلمون إلى المدينة منفذا، والحق أن هرقل لم يكذب ظنهم؛ فقد بعث من حمص بقوات سارت مددا لدمشق، لكن هذه القوات لقيت ذا الكلاع وفرسان اليمن في طريقها، فكان بين الفريقين قتال عنيف ارتد الروم على أثره منهزمين إلى حمص، وعرف نسطاس وباهان ما كان من ذلك فاضطربا حينا، لكنهما سرعان ما استردا ثقتهما بقدرة دمشق على المقاومة، فعما قريب يشتد البرد فلا يطيق العرب أبناء الصحراء الحارة احتماله، فيعودون أدراجهم، وتعود إلى مدينتهم حرمتها وكرامتها.
على أن طمأنينتهم هذه لم تمنعهم من أن يبعثوا إلى هرقل من يستعجل مدده مخافة أن يطول بالناس الحصار فتهن عزائمهم، وأرسل إليهم قيصر يقول: إنه ممدهم، ويحرضهم على الثبات والمقاومة، وقوت رسالة هرقل عزيمتهم، وجعلتهم يثبتون لهجمات المسلمين ويصدونها، وإن لم يغامروا بالخروج من أسوار مدينتهم لمواجهة الذين هزموا جند الروم في اليرموك وقضوا عليهم، وطالت مقاومتهم وطال حصار المسلمين إياها زمنا اختلف فيه: قيل: كان سبعين يوما، وقيل: أربعة أشهر، وقيل: ستة أشهر، وضيق المسلمون عليهم الحصار طول هذا الزمان، وطال انتظارهم مدد قيصر على غير جدوى، وانقضى الشتاء وأقبل الربيع والعرب على حصارهم لا يريمون عنه، عند ذلك وهت قوتهم ووهنت عزائمهم، وانقطع رجاؤهم في مدد قيصر وفي جلاء المحاصرين، فبدءوا يفكرون في التفاهم معهم وفي مصالحتهم.
انتهى المسلمون بالدخول إلى المدينة وعقد الصلح مع أهلها، كيف دخلوا؟ أكان ذلك عنوة أم فتح الدمشقيون لهم الأبواب؟ ومن من المسلمين عقد الصلح، وعلى أي شيء عقد؟ هنا تختلف الروايات بل تضطرب، وأكثر هذه الروايات شهرة أن خالد بن الوليد كان مقيما على الباب الشرقي لا ينام ولا ينيم، وكانت له عيون زاكية فلا يخفى عليه مما يجري في دمشق شيء، ونمى إليه يوما أن بطريق المدينة ولد له ولد فرح به، فأولم للناس، فأكل الجند وشربوا وغفلوا عن مواقفهم، وكان خالد قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا،
5
فلما أدرك الليل أعجازه نهد هو وجنده الذين قدم بهم من العراق، وقال لهم: إذا سمعتم تكبيرنا من السور فارقوا إلينا، ثم تقدمهم ومعهم القعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثالهم من الشجعان المغاوير، فعبروا الخندق عائمين على القرب، وأثبتوا أوهاق حبالهم في شرف السور وتسلقوا سلاليمها، حتى إذا ارتقوا على الجدار جذبوا بعض الحبال وأثبتوها في الشرف التي تلي داخل المدينة وألقوها، فانحدر خالد وطائفة ممن معه ونزلوا أمام الباب فعالجوا فتحه بسيوفهم، وكثر إخوانهم الذين أقاموا بأعلى الجدار، فلما سمع رجال خالد تكبيرهم أسرعوا يعبرون الماء ويتسلقون الجبال إلى زملائهم فوق السور.
وكان الباب الشرقي أمنع أبواب دمشق وأكثرها ماء وأحصنها مدخلا؛ لذلك لم يكن عليه من الحراس إلا عدد قليل، فاجأهم خالد ومن معه وهم في غفلتهم فقتلوهم، وفتحوا أغلاق الباب بالسيوف فدخل منه من لم يرق إلى أعلى السور واندفعوا داخل المدينة يكبرون، وفزع الناس في سائر أرجائها، وانتشر بينهم خبر المسلمين واقتحامهم الباب الشرقي وقتلهم من قابلهم، عند ذلك أسرعوا إلى سائر الأبواب ففتحوها وصالحوا أبا عبيدة فأمنهم ودخل من باب الجابية ولا علم له بما فعل خالد، فلما عرف ما يجري من سفك الدماء بعث إلى خالد أن يكف عن القتال فقد صالح الناس وأمنهم، واعترض خالد بأنه فتح باب المدينة عنوة، لكن أبا عبيدة كان الأمير على الجند؛ فلم يكن بد لخالد من أن يسمع لأمره وأن يجري الصلح على الجانب الذي فتحه.
هذه أكثر الروايات شهرة في فتح دمشق، وهي تنهض، على غرابة وقائعها، وتجد من يؤيدها من مؤرخي العرب ومن المستشرقين؛ لأن بطلها خالد بن الوليد، ولو أن بطلها كان غير هذا العبقري صاحب المعجزات في الحرب لرماها المؤرخون جميعا بالتهافت، بل لما أقدم أحد على روايتها، فمن غير خالد لا ينام ولا يدع غيره ينام! ومن غيره يستوي إليه علم ما تحتويه دمشق من أسرار داخل أسوارها، حتى ليعلم أن البطريق ولد له ولد وأنه أولم للناس، وأن الحرس بلغ منهم الطعام والشراب فغفلوا عن مواقعهم؟ ومن غيره، بعد حصار دام سبعين يوما أو أربعة أشهر، أو ستة أشهر يقدم على أن يعبر الخندق مع أصحابه مستعينين بالقرب، وأن يتسلق الأسوار على الحبال وأن يهبط بنفسه داخل هذه الأسوار معرضا نفسه للخطر حين انبلاج الصبح! لكن لخالد في الحرب معجزات رأيناها في حروب الردة وفي فتح العراق وفي غزوة اليرموك، فلا عجب أن تكون هذه إحدى المعجزات التي كفلت له في كل غزواته النصر والسؤدد، وأن تجد لذلك من يؤيدها من مؤرخي العرب ومن المستشرقين.
على أن هذا التأييد لم يعصمها من تفنيد الناقدين لها وطعن الطاعنين عليها، وأخذهم بغيرها من روايات أدنى إلى المألوف في مثل موقف دمشق، من هذه الروايات أن أبا عبيدة هاجم باب الجابية بقواته ففتحه عنوة، على حين صالح خالد أهل المدينة مما يلي الباب الشرقي فلما التقى القائدان في قلب دمشق أجاز أبو عبيدة صلح خالد وأجراه على المدينة كلها، ولا فرق بين هذه الرواية والرواية الأولى إلا فيما يتصل بخوارق خالد، كعلمه بوليمة البطريق وأثرها في الحراس، وتسلقه الأسوار والأوهاق، ولو لم يذكر من هذه الخوارق شيء وقيل: إن خالدا فتح الباب الشرقي عنوة، وإن أبا عبيدة صالح من يلي باب الجابية ثم أجرى الأمر في المدينة كلها مجرى الصلح، لتساوت الروايتان، ولكان معناهما أن قواد المسلمين عرفوا أن الحصار أوهن عزائم المحصورين، فاتفقوا على مهاجمة أبواب المدينة جميعا، فلما رأى الدمشقيون هجومهم اختلفوا فيما يصنعون، ففتحت طائفة أبوابها، وتأخرت طائفة، فاقتحم القائد الذي يليها بابها عنوة، وكذلك دخل من دخل من المسلمين صلحا واقتحم من اقتحم دون أن يلقى مقاومة، ثم أجري الأمر في المدينة كلها على الصلح.
هذا التصوير يوفق بين تينك الروايتين ولا يناقض غيرهما من الروايات المختلفة عن فتح دمشق، ومن هذه الروايات أن أسقف المدينة وقف على أسوارها غير مرة يتحدث إلى خالد بن الوليد، وأنه قال له يوما: «يا أبا سليمان إن أمركم مقبل، ولي عليك عدة، فصالحني على هذه المدينة!» ورضي خالد فدعا بدواة وقرطاس وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم، لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.» ويضيف البلاذري بعد أن يثبت هذا الكتاب أن الأسقف أفضى إلى خالد ذات ليلة بأن المدينة في عيد وأن أهلها في شغل، وأشار عليه أن يلتمس سلما، فجيء بسلمين فارتقى عليهما جماعة من المسلمين إلى أعلى السور، ونزلوا إلى الباب وليس عليه إلا رجل أو رجلان، فتعاونوا عليه وفتحوه عند طلوع الشمس، وكان أبو عبيدة من جانبه قد دخل باب الجابية عنوة، فنشر له الأسقف كتاب خالد، فقال بعض المسلمين: «والله ما خالد بأمير، فكيف يجوز صلحه؟» فقال أبو عبيدة: «إنه يجير على المسلمين أدناهم.» وأجاز الصلح.
وتذهب رواية أخرى إلى أنه لما طال الحصار واشتد الأمر على أهل دمشق دسوا إلى المسلمين من تحدث معهم في الصلح، فأصر المسلمون على المشاطرة؛ أي أن يكون لهم النصف في كل ما في دمشق، فتردد أهل المدينة في قبول ما عرض عليهم، فلما رأوا حاميتهم عاجزة عن الدفاع عنهم، وأن لا مفر لهم من التسليم، بعثوا إلى أبي عبيدة وحصلوا منه على أمان المدينة، ثم فتحوا أبوابها له، فدخلها هو وقواده وجيشه من غير قتال.
ويذهب بعض المستشرقين إلى أن حامية دمشق يئست من الدفاع عنها فغادرتها، فقرر سكانها التسليم ففتحوا مدينتهم للجيش العربي، ثم صالحهم أبو عبيدة بعد أن دخل المدينة واستقر بها.
هذه هي الروايات المختلفة في فتح دمشق، والمؤرخون متفقون مع اختلافها على أن المدينة فتحت صلحا ولم تفتح حربا، وهذا يرجح ما قدمنا من أن طول الحصار واليأس من مدد هرقل أديا بالدمشقيين إلى طلب الصلح فاختلف على شروطه، فأراد المسلمون أن يقتحموا أسوار المدينة ففتح أهلها أبوابها لهم، ولعل بعض هذه الأبواب قد تأخر ففتح عنوة، ثم كانت المفاوضات وكان الصلح.
ونود قبل أن نذكر شروط هذا الصلح أن نجتاز مع أبي عبيدة وخالد بن الوليد وزملائهما أسوار دمشق، وأن نسير هنيهة معهم خلال هذه المدينة العامرة ذات التاريخ الحافل والجمال الرائع وأن نلقي في أثناء مسيرتنا هذه النظرة على ما تحويه، فلهذه النظرة بشروط الصلح أوثق الصلة، تحدثت عن جمال الطريق المؤدي من اليرموك إلى دمشق، وعن جمال الغوطة، أما المدينة فتبذ هذا الجمال جلالا وبهاء؛ فهي ملتقى تجارة الشرق والغرب من أقدم العصور، وهي لذلك من أكثر المدن سكانا وأضخمها ثروة، يشقها طريق مستقيم يصل غربها بشرقها، ويجري من باب الجابية إلى الباب الشرقي، وتقوم على جانبيه متاجر لم ير العرب لها نظيرا في بلادهم، ولم يروا لها نظيرا في العراق، ويجري خلال المدينة نهر بردى بمياهه المتدفقة الصافية، وقد قامت حوله القصور الفخمة ذات الحدائق الغناء ترتفع خلالها نوافير المياه صاعدة في السماء، وما أكثر كنائس دمشق وأجملها! فهي من العمائر الرومانية المتفاوتة البهاء؛ يبلغ عددها خمس عشرة، وأعظمها كنيسة القديس يوحنا المعمدان، بنى الرومان هذه الكنيسة معبدا وثنيا قبل أن يدينوا بالمسيحية، فلما تنصروا جعلوها مكان عبادتهم وصلواتهم للسيد المسيح ولأمه العذراء البتول، ويقوم من حول هذه الكنائس والقصور والمتاجر ما اعتاد الرومان تشييده من مسارح وحمامات وملاعب، ما أشد ما يقف هذا كله نظر هؤلاء العرب الذين يمرون به! إنهم لم يشهدوا مثله فخامة وجلالا وعظمة، أين منه ما رأت عيونهم بصنعاء وبالحيرة! وأين منه الخورنق والسدير قصرا النعمان بن المنذر بن ماء السماء! ترى أية شروط للصلح يمليها عليهم هذا الثراء العظيم، وهذا الجمال الباهر؟ وهل تراهم يعفون عنه فلا يشاركون أصحابهم فيه؟ أو تراهم يحرصون على أن يكون لهم منه نصيب أقله نصفه؟!
تختلف الروايات في ذلك كاختلافها في فتح دمشق، ففي رواية للبلاذري أن الصلح جرى على ما في كتاب خالد بن الوليد لأسقف دمشق، وهو الكتاب الذي أثبتنا نصه من قبل، والذي يجعل للمسلمين الجزية دون غيرها، يأخذونها لقاء تأمينهم أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم ودورهم وكنائسهم وسور مدينتهم، ويثبت البلاذري تأييدا لهذا الرأي قول أبي عبد الله الواقدي: «قرأت كتاب خالد بن الوليد فلم أجد فيه أنصاف المنازل والكنائس.» ويضيف الواقدي أن المسلمين إنما نزلوا منازل دمشق واستقروا بها؛ لأن أصحاب هذه المنازل تركوا المدينة لما فتحت، ولحقوا بهرقل إذ كان يقيم بأنطاكية، فأصبحت منازلهم لا مالك لها فنزل المسلمون بها.
أما الطبري فقد روى أن صلح دمشق كان على المقاسمة على الدينار والعقار، وعلى جزية دينار عن كل رأس، ويفسر ابن كثير المقاسمة في المال والعقار بأن جانبا من المدينة فتح عنوة فكان كله حقا للمسلمين، على حين فتح جانب منها صلحا فوجبت عليه الجزية دون سواها، ولذلك أخذ المسلمون نصف ما في المدينة من كنائس ومنازل وأموال بحكم الفتح عنوة، وفرضوا عليها الجزية بحكم الفتح صلحا.
ويقرر الذين يذكرون المقاسمة في الكنائس والمنازل والأموال أن المسلمين أخذوا سبع كنائس من الكنائس الأربع عشرة القائمة بدمشق، وأنهم قسموا الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس يوحنا المعمدان، فتركوا نصفها للنصارى يقيمون فيه صلواتهم ويتلون فيه الإنجيل، وجعلوا النصف الآخر مسجدا للمسلمين يتلى فيه القرآن ويذكرون فيه اسم الله وينادى من فوقه للصلاة.
وظلت هذه القسمة نحوا من ثلاثين سنة طلب في أثنائها معاوية بن أبي سفيان، ثم طلب عبد الملك بن مروان أن يزيدا في المسجد بأن يضاف جانب من الكنيسة إليه، ومع ما عرضا في ذلك من مال طائل، لقد أبى النصارى عليهما ورفضوا إجابة طلبهما تمسكا منهم بحكم الصلح الذي تم عند فتح دمشق، ولما استخلف الوليد بن عبد الملك طلب إلى النصارى ما طلب سلفاه وعرض عليهم مالا طائلا، فأبوا عليه كما أبوا عليهما، فهددهم ليهدمنها إن لم يقبلوا عرضه، وخوفوه غضب الله فلم يخف وهدمها وأدخلها في المسجد، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما صنع الوليد بكنيستهم، فكتب إلى عامله يأمره بأن يرد عليهم ما كان لهم، وكره فقهاء دمشق وأهلوها من المسلمين أمر عمر وقالوا: «نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة!» وعرضوا على النصارى أن يعطوهم كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت في أيدي المسلمين، على أن يمسكوا عن المطالبة بما كان لهم من كنيسة يوحنا، فرضي النصارى، وأقر عمر بن عبد العزيز هذا الاتفاق.
فلولا أن صلح دمشق كان على المقاسمة لما جعل جانب من كنيسة يوحنا مسجدا، ولما طلب معاوية وعبد الملك أن يدخلا ما بقي بأيدي النصارى في المسجد، ولما هدم الوليد الكنيسة، ولما شكا النصارى الأمر إلى عمر بن عبد العزيز، كذلك يقول الذين يذكرون أن صلح دمشق كان على المقاسمة، وأنه لم يقتصر على الجزية، وقد يجيبهم مخالفوهم بأن كنيسة يوحنا لم تقسم في صلح خالد ولم يقسم غيرها من الكنائس والمنازل والأموال، فهذا الصلح لم يفرض إلا الجزية، وإنما طلب معاوية بن أبي سفيان وطلب عبد الملك بن مروان أن تكون الكنيسة مسجدا بعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الإسلامية، وبعد أن زاد عدد المسلمين فيها على عدد النصارى، وبعد أن أصبح الأمر فيها لأمير المؤمنين، فإن يكن النصارى قد أبوا عليهما ما طلبا فتركا الكنيسة لم يمساها، فذلك الدليل على التسامح الإسلامي وعلى احترام عهد الصلح مع ما كان من تبدل الأحوال؛ إذ صارت دمشق عربية إسلامية بعد أن كانت مسيحية رومية، ومجاراة هذا التبدل هي التي طوعت للوليد بن عبد الملك أن يفعل ما فعل، ولهذا التطور رضي النصارى في عهد عمر بن عبد العزيز أن يدعوا الكنيسة مسجدا للمسلمين، وأن يأخذوا كنائس الغوطة خارج أسوار العاصمة الإسلامية.
ونحن نميل إلى ترجيح هذا الرأي الأخير، وهو على كل حال أكثر الآراء تواترا، ورواته هم أكثر الرواة عددا.
اختلف الرواة في أمر المقاسمة، لكنهم جميعا متفقون على أن الصلح فرض على أهل دمشق جزية يدفعونها لقاء منعهم وحرية عقيدتهم وحماية مدينتهم وأموالهم، كانت هذه الجزية دينارا وكيلا معينا من الحنطة على كل رأس وزيتا وخلا لقوت المسلمين، هذا خلا الضرائب التي كان الدمشقيون يدفعونها لحكامهم من الروم، فقد ظلوا يدفعونها لمن قام على حكمهم من المسلمين.
أبلغ أبو عبيدة عهد الصلح عمر بن الخطاب، فكتب إليه بتعديله، وذلك بأن فرق بين الطبقات في الجزية، إذ جعل على الأغنياء أربعة دنانير عن كل رأس، وأربعين درهما على من دونهم، وقيل: بل جعلها طبقات على قدر غنى الغني وإقلال المقل وتوسط المتوسط، ثم ألزمهم أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت ومن الودك والعسل.
هذا نصاب الجزية في صلح دمشق، وذلك ما قيل في أمر المقاسمة، وعلى أساس من هذا الصلح العادل بعد حصار طويل استقر المسلمون بعاصمة الشام وجلت عنها حامية هرقل، وجلا عنها المتعصبون للروم من أهله، وكانت سياسة المسلمين في إدارتها هي السياسة التي رسمها أبو بكر في عهده حين بعث خالد بن الوليد يفتح العراق؛ تركوا لأهل دمشق ما كان لهم من إدارة مدينتهم، وأقاموا الأمر فيها على الأساس الذي صوره خالد في كلمته لبعض أهل العراق: «إن كنتم عربا فماذا تنقمون من العرب! وإن كنتم عجما فماذا تنقمون من الإنصاف والعدل!» فلما اطمأن المقام للمسلمين بالمدينة الجميلة بدءوا يفكرون في الواجب عليهم لدينهم ووطنهم.
كان طبيعيا أن يتجه أبو عبيدة بادئ ذي بدء إلى التفكير فيمن خلف وراءه من جنود المسلمين عند فحل بالأردن، وفيما يجب عليه بعد أن يتغلب على قوات الروم هناك، على أن كتاب عمر إليه بتعديل نصاب الجزية تناول أمورا لم يكن له بد من المسارعة إلى تنفيذها، وفي مقدمة هذه الأمور رد القوات التي فصل بها خالد بن الوليد إلى العراق على أن يظل خالد بالشام، فقد كان مما أوصى به أبو بكر عمر حين استخلفه أن قال له : «إذا فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.» وها قد فتح الله دمشق على أبي عبيدة، ثم إن المسلمين بالعراق يلاقون في قتال الفرس الشدائد، فهم أشد ما يكونون حاجة إلى المدد، والقوة التي فصلت من العراق إلى الشام مدد لا يستهان به؛ ففيها من الأبطال الصناديد من عركوا الحرب وعركتهم، ومن كان لهم في كل المواقع التي حضروها بلاء مشهود؛ لذلك أمر أبو عبيدة هاشم بن عتبة على جند العراق وجعل معه القعقاع بن عمرو وأضرابه من أولي النجدة والبأس، وعوضهم عمن استشهدوا في وقائع الشام جندا يعدل الجند الذي جاء من العراق عددا وقوة، وخرجوا جميعا يقصدون المثنى وعسكره بذي قار على تخوم البادية، متخذين طريق القوافل المعبد، بعيدين عن الطريق التي غامر بهم خالد فيها حين جاء إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، ولم يدر بخاطر هاشم بن عتبة وقواده وجنوده في أثناء مسيرتهم خلال الصحراء أنهم يتقدمون إلى العراق ليقفوا مع المسلمين بإمرة سعد بن أبي وقاص، فيواجهوا الفرس في الموقعة الحاسمة التي فتحت الطريق إلى المدائن وإلى قلب فارس؛ موقعة القادسية.
فلندعهم الآن في مسيرتهم، ولنصحب أبا عبيدة في الشام، وسنعود عما قليل إليهم نشهد معهم هذه الموقعة الفاصلة التي قضت على جيش كسرى وأدالت دولته وفتحت صحفا في التاريخ جديدة مجيدة.
6
اطمأن أبو عبيدة إلى مقام المسلمين بدمشق، فاتجه إلى التفكير فيمن خلفهم وراءه من جنود المسلمين عند فحل الأردن، ولقد دفعت حماسة الظفر جماعة من أصحابه، فأشاروا عليه أن يسير من دمشق إلى حمص ليفتحها، فقد كان هرقل مقيما بها في أثناء حصار دمشق، فلما رأى قواته لا تستطيع الوصول إلى عاصمة الشام للذود عنها جلا عن حمص إلى أنطاكية، فلو أن أبا عبيدة سار إلى حمص ففتحها لجلا هرقل عن أنطاكية إلى الأناضول أو إلى القسطنطينية، فإذا فعل انهدت عزائم جنوده في أنحاء الشام جميعا فألقوا بأيديهم لا يقاومون ولا يقاتلون، لكن أبا عبيدة خالف هذه المشورة، وما كان له أن يقبلها وقد أمره عمر ألا يتقدم ما بقي وراءه من الروم جند يهددون رجعته، أو يستطيعون أن يقطعوا ساقته، وقد استقر من جند الروم عند فحل إلى الجنوب من بحيرة طبرية من نجوا من اليرموك، ثم أيدهم هرقل بقوات جديدة، وكانت هذه القوات لا تزال في فزعها من هزيمة اليرموك حين سار أبو الأعور السلمي في جند المسلمين ليقاتلها؛ لذلك أطلقت مياه البحيرة والنهر في الأراضي التي حولها فتوحلت، فعاقت جيش المسلمين عن التقدم، لكن الروم لم يستطيعوا هم كذلك أن يتقدموا ولم يجدهم لذلك مدد هرقل نفعا، وبقيت الأرض متوحلة طول الشتاء وطيلة حصار دمشق، وبقي الروم محصورين وراء فحل في وادي بيسان، فلما سلمت دمشق وكان الصيف قد أقبل، وبدأت الأرض تجف، وترك أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على قوة من فرسان اليمن بدمشق، وتقدم ومعه خالد بن الوليد وقوات الجيش مجتمعة، فبلغ فحل ووادي بيسان حين بدأ جفاف الأرض يسمح للجيوش بالالتقاء والقتال.
وكان أبو بكر قد جعل إمارة الأردن لشرحبيل بن حسنة، كما جعل حمص لأبي عبيدة، والبلقاء ليزيد بن أبي سفيان، والعربات لعمرو بن العاص، وجعل القيادة العملية لمن يقع القتال في إمارته، ولم يعدل عمر عن هذا الأمر؛ لذلك تولى شرحبيل القيادة على جيوش المسلمين المقيمين عند فحل، ومن أقام منها بإمرة أبي الأعور السلمي من قبل أن تحصر دمشق، ومن جاء منها بعد حصار دمشق بقيادة أبي عبيدة.
وبعث شرحبيل أبا الأعور في لوائه إلى طبرية فحاصرها، وجعل خالد بن الوليد على مقدمة الجيش، وأبا عبيدة وعمرو بن العاص على مجنبتيه، وضرار بن الأزور على الفرسان، وسارت هذه القوات جميعا فعبرت اليرموك عند أم قيس على مقربة من مصبه بالأردن، ثم تخطت وادي الغور، حتى إذا بلغت فحل عسكرت بها فوقفت قبالة الروم ببيسان، ولما لم تستطع أن تتخطى الأرض المستوحلة إليهم تشاور الأمراء، فكتبوا إلى عمر بموقفهم وأقاموا ينتظرون جوابه، ولم تكن قلة المئونة تعجلهم إلى التزحزح عن موقفهم؛ فقد أصابوا من ريفه أفضل مما أصاب الروم، إذ كان الخصب من حولهم يجعل مادتهم متصلة وعيشهم رغدا، وكان الروم بإزائهم يقفون في ثمانين ألفا أشد ما يكونون حرصا على أن يظفروا بأولئك الذين قضوا على قواتهم باليرموك وفتحوا عليهم دمشق.
ولما طال وقوف المسلمين عند فحل خيل إلى سقلار بن مخراق قائد هرقل على قواته العظيمة أن الخير في أن يأخذ عدوه على غرة منه فيوقع به ويقضي عليه، وتخيرت له طلائعه، خلال الأرض المحيطة به، مكانا تسير منه قواته، فلما أقبل الليل تخطى بجنده هذا المكان ولا يخامره الريب في أن المسلمين قد أمنوه فهم في غير عدة القتال، وأنهم لذلك ستضطرب صفوفهم لأول صدمة من صدماته، لكنه قدر فأخطأ؛ فقد كان المسلمون على حذر لا يأمنون مجيء الروم، وكان شرحبيل لذلك لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة؛ لذلك تلقى سقلار وجنوده فقاتلهم أشد قتال وأمره، واستبسل الروم مستقتلين، فطالت المعركة الليل كله واستمرت اليوم الذي يليه إلى الليل، وكان لخالد بن الوليد ولضرار بن الأزور يومئذ مواقف ذكرت المسلمين بفعالهما فيما سبقها من الغزوات والوقائع، فلما أظلم الليل خارت قوى الروم، فاضطربت صفوفهم، فانهزموا وهم حيارى بعد ما أصيب سقلار ومن يليه من قواده.
أما لهذه القوات المنهزمة من ملجأ تفر إليه أو خط دفاع تحتمي به؟ كلا! فقد أسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل فتعذر عليهم السير فيه، فلحق بهم المسلمون، وكانوا يحسبونهم على قصد فإذا هم في اضطرابهم لا يطيقون سيرا ولا فرارا، ولا يستطيعون أن يردوا يد لامس، وركبهم المسلمون فوخزوهم بالرماح وألقوهم في الوحل وقتلوهم شر قتلة، فأصيب الثمانون ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد، وكذلك ظفر المسلمون أحسن ظفر وأهنأه، وغنموا ما شاء الله أن يغنموا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، واطمأنوا إلى أن الله ناصرهم، وكتب أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين بالمدينة يخبره بظفرهم، وبأنه سيسير ومعه خالد بن الوليد إلى حمص.
وازداد المسلمون بنصر الله إيمانا حين رأوه جل شأنه يصنع لهم وهم كارهون، كرهوا توحل الأرض إذ حال بينهم وبين عدوهم، فكان ما كرهوا عونا لهم وحصارا لعدوهم وقضاء آخر الأمر عليه أيما قضاء، أليست هذه آية الله وبرهانه على أنه لا محالة ناصرهم وأنهم سيديلون من دولة الروم والفرس جميعا؟
7
كان أبو الأعور لا يزال محاصرا طبرية حين فرغ المسلمون من فحل، ونهد شرحبيل ومعه عمرو بن العاص من فحل إلى بيسان فنزل بجنوده يحاصرها، وتحصن أهل بيسان بكل مكان وحاولوا صد المسلمين، وما لهم لا يصدونهم وقد علموا أن خالد بن الوليد وأبا عبيدة عادا إلى دمشق ليسيرا منها إلى حمص، وأن أبا الأعور لا يزال على حصار طبرية، وأن قوات المسلمين مقسمة في أماكن مختلفة من الشام، فالقوات التي بقيت منها لمحاصرتهم ليست مما يتعذر صده! لكنهم لم يطل مع ذلك مقاومتهم واضطروا بعد قليل إلى التسليم وقبول صلح كصلح دمشق، ذلك بأن حالهم المعنوية كانت قد هوت إلى منحدر من الضعف بسبب ما أصابهم في اليرموك وفي دمشق وفي فحل، ثم إن أهل الشام لم تبلغ منهم عداوة المسلمين مبلغا يعاون الروم على المقاومة؛ فقد حكمهم الروم حكم بأس وقسوة لا يثيران في النفس حماسة لهذا الحكم أو حرصا على بقائه، ومن أهل الشام قبائل كثيرة من العرب والنصارى، تنازعتهم رابطة الجنس ورابطة الدين زمنا، فهم عرب كالمسلمين، ونصارى كالروم؛ فلما رأوا ضعف هرقل وجبن بلاطه وهزائم قواده لم يأب بعضهم أن يكون مع العرب المسلمين وأن يدلهم على عورات الروم، هذا إلى ما للنصر من لألاء يبهر الأنظار ويدعو الجماهير للإعجاب بالمنتصر والانضمام إليه.
وبلغ أهل طبرية ما أصاب بيسان وأهلها، فطلبوا إلى أبي الأعور أن يصالحوا شرحبيل، فجمعهم به فصالحوه كما صالحه أهل بيسان على صلح دمشق؛ وذلك أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدن وما أحاط بها، فيدعوا لهم نصفها، ويجتمعوا في النصف الآخر، وأن يدفعوا جزية دينارا عن كل رأس كل سنة، وكيلا من البر عن كل قدر معين من الأرض، واحتذى أهل أذرعات وعمان وجرش ومآب وبصرى مثالهم، وصالحوا المسلمين مثل صلحهم، وكذلك أذعنت بلاد الأردن إلى حوران وإلى البادية، ورضيت سلطان المسلمين الذين أقاموا الجند في المدن ثم تركوا لأهلها إدارة شئونها، على أن يتولوا هذه الإدارة بالعدل والنصفة. •••
والآن أنتابع أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد في مسيرتهما إلى حمص، أم نسير مع هاشم بن عتبة والقعقاع بن عمرو وجيش العراق لنرى ما فعل الله بالمثنى ومن بقي معه من رجاله، ولنشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص؟ وبعبارة أخرى: أنتابع قوات المسلمين في فتح الشام حتى يفتح الله عليهم الشام كلها، أم ننتقل إلى العراق فنقص أنباءه إلى أن يتم فتحه؟ جرى بعض المؤرخين على الطريقة الأولى، وآثر آخرون الطريقة الثانية. وسنتابع نحن الآخرين فننتقل إلى العراق، لتكون رقعة الدولة الإسلامية تحت نظرنا نتابعها في مجموعها، ونراها أمام أعيننا تنفرج شيئا فشيئا إلى الشرق وإلى الغرب، ذلك أدنى إلى أن نقدر الجهد الذي كان هؤلاء المسلمون الأولون يبذلونه في مواجهة الأسدين فارس والروم في وقت واحد، أدنى كذلك إلى أن نحيط بسياسة عمر، وأن نعرف كيف كان يواجه هذه الحوادث الجسام المتلاحقة، وكيف كان ينهض معها بأعباء الحكم في المدينة وفي شبه الجزيرة جميعا على نحو يزيد العرب طمأنينة إلى حياتهم، وحماسة للفتح الذي كان يدر عليهم من خيرات فارس والروم ما لم يدر مثله بخواطرهم في أي عهد من عهود تاريخهم.
على أنه لا بد لنا، قبل أن ننتقل مع هاشم بن عتبة وأصحابه إلى العراق، من أن نقف وقفة قصيرة لنذكر هنا ما ذكرنا في سيرة أبي بكر عن اختلاف المؤرخين في التسلسل التاريخي لوقائع الفتح في الشام، فقد رأينا من حوادث هذا الفصل أن أبا بكر قبض والمسلمون على اليرموك، وأن المسلمين انتصروا باليرموك في عهد عمر، وذلك يوم أقبل البريد إلى الشام بوفاة أبي بكر وعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش وبإسنادها إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأنهم ساروا بعد ذلك بأمر عمر إلى دمشق فحاصروها وفتحوها، ثم عادوا بعد صلح دمشق إلى الأردن فطهروه وصالحوا أهله على صلح أهل دمشق، وهذه رواية الطبري وابن خلدون وابن الأثير وابن كثير ومن أخذ أخذهم، أما الأزدي والواقدي والبلاذري فيخالفون الطبري في هذا الترتيب لوقائع الفتح في الشام، ويذكرون أن أجنادين ودمشق وغيرهما من الوقائع كانت قبل اليرموك، ويذهب بعضهم إلى أن اليرموك كانت آخر الغزوات بالشام، ومن العسير أن نقطع برأي حاسم في هذا الاختلاف، والطبري نفسه يذكر هذا الاختلاف ولا يقطع فيه برأي، فيقول: «قال محمد بن إسحاق: كان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وكانت وقعة فحل قبل دمشق، وإنما صار إلى دمشق رافضة فحل واتبعهم المسلمون إليها، وزعم أن واقعة فحل كانت سنة ثلاث عشرة في ذي القعدة، وأما الواقدي فإنه زعم أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة، وزعم أن وقعة اليرموك كانت في سنة خمس عشرة، وزعم أن هرقل جلا في هذه السنة بعد وقعة اليرموك في شعبان من أنطاكية إلى قسطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة.»
لا غناء في الوقوف عند هذا الاختلاف ما دام القطع فيه برأي غير ميسور، وقد أخذنا في هذا الفصل برواية الطبري ومن أخذ مأخذه، فلنجر عليها، ولن يجني ذلك في شيء على ما نريده من التأريخ للإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر، فسواء تقدم فتح دمشق على اليرموك أو تأخر عنه، فوقائع الفتح متفق على جملتها وإن وقع الخلاف على تاريخها وعلى بعض تفاصيلها، ورواية الطبري عن سيف بن عمرو عمن روى عنه أن اليرموك كانت في رجب من سنة ثلاث عشرة (سبتمبر سنة 634)، وأن دمشق حوصرت في شوال من تلك السنة، وفتحت في أوائل السنة التي تليها (بين ديسمبر سنة 634 وأوائل الربيع من سنة 635)، وأن فحل وقعت بعد دمشق في صيف سنة 635، ثم تلتها سائر مدن الأردن.
سار أبو عبيدة وخالد بن الوليد بعد فحل إلى حمص، وسار هاشم بن عتبة عائدا إلى العراق، فلندع خالدا وأبا عبيدة، ولنسر مع جيش العراق لنشهد القادسية، هذه الغزوة الفاصلة التي فتحت أمام المسلمين أبواب المدائن، والتي تعد في رأي المؤرخين جميعا إحدى الغزوات الحاسمة التي وجهت تاريخ العالم وجهة جديدة.
هوامش
الفصل الثامن
القادسية
قضت جيوش المسلمين على قوات الروم بفحل، فانصرف أبو عبيدة وخالد يريدان حمص، في حين سار هاشم بن عتبة والقعقاع بن عمرو على رأس جيش العراق مددا لقوات المسلمين فيه، وسار سعد بن أبي وقاص من المدينة مثل مسيرتهما من الشام على رأس جيش تزيد عدته على ثلاثين ألفا وجهه عمر ليقضي على سلطان الفرس في العراق كله.
وكانت إمارة سعد على هذا الجيش نتيجة مشاورة طويلة؛ ذلك أن المثنى بعث إلى عمر بعد غزوة البويب يذكر له اجتماع الفرس وتمليكهم يزدجرد بن شهريار بن كسرى وإرساله الجيوش إثر الجيوش لقتال العرب، وما أدى ذلك إليه من ثورة أهل السواد بالمسلمين، واضطرارهم إياهم للانسحاب إلى ذي قار على تخوم شبه الجزيرة، عند ذلك كتب عمر إلى عماله على الكور والقبائل في بلاد العرب كلها يقول لهم: «لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي، والعجل العجل!» وقال: «والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب!» فلما اجتمع له من الجند بضعة آلاف خرج بهم حتى نزل على ماء يدعى صرارا فعسكر به، ولا يدري الناس أيسير بنفسه على رأس هذا الجيش إلى العراق، أم يقيم بالمدينة ويؤمر على الجيش رجلا غيره، وسأله عثمان بن عفان في ذلك، فدعا الناس للصلاة، فلما اجتمعوا سألهم رأيهم فيمن يسير على رأس الجيش إلى العراق، قال العامة: سر وسر بنا معك، ودخل عمر في رأيهم وكره أن يدعهم إلا أن يخرجوا من هذا الرأي في رفق، ثم إنه دعا أصحاب المشورة فاجتمعوا إليه، فقال لهم: احضروني الرأي فإني حائر، وترادوا القول بينهم، ثم أجمع ملؤهم على أن يبعث أمير المؤمنين رجلا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش ويبقى هو بالمدينة يمد هذا الرجل بالجنود، «فإن كان هذا الذي يشتهي من الفتح فذلك ما يريد ويريدون، وإلا ندب جندا آخر يغيظ به العدو حتى يجيء نصر الله.» وكان مما قاله عبد الرحمن بن عوف لعمر في تأييد هذا الرأي: «أقم وابعث جندا، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبل وبعد، فإنه إن يهزم جيشك فليس كهزيمتك، وإن تقتل أو تهزم في أنف الأمر خشيت ألا يكبر المسلمون، وألا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا.» عند ذلك جمع عمر المسلمين فخطبهم، وكان مما قاله لهم: «يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأن أبعث رجلا.»
وسأل عمر خاصته عمن يتخيره لإمارة هذا الجيش الذي اجتمع إليه، وإنهم ليعرضون الأسماء فيما بينهم إذ جاء عمر كتاب من سعد بن أبي وقاص، وكان على بعض صدقات نجد، يخبر بأنه تخير له ألف فارس ذوي نجدة ورأي، وسمع القوم ما في الكتاب وعمر يسألهم عمن يؤمره، عند ذلك أجابوه: قد وجدت الرجل! قال: فمن؟ قالوا: الأسد في براثنه! سعد بن مالك! ووافقهم عمر، وبعث إلى سعد فقدم عليه من نجد، فأمره على حرب العراق، ثم كان أول ما أوصاه به قوله: «يا سعد، سعد بني وهيب! لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن! وليس بين الله وبين أحد نسب إلا بطاعته؛ فالناس شريفهم ووضيعهم في دين الله سواء، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
يلزمه فالزمه، وعليك بالصبر!»
وإنما أوصى عمر سعدا بهذه الوصية لما كان لسعد من مكانة بين المسلمين وقربى من رسول الله؛ فقد كان من بني زهرة أخوال النبي، وكان من أسبق قريش إلى الإسلام ، أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان لذلك يقول: «أسلمت يوم أسلمت وما فرض الله الصلاة.» ويقول: «ما أسلم رجل قبلي إلا رجل أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد أتى علي يوم وإني لثلث الإسلام.» وكانت عائشة ابنته تصفه بقولها: «كان أبي رجلا قصيرا دحداحا غليظا ذا هامة شثن الأصابع أشعر، وكان يخضب بالسواد.» وكان سعد ذا مال ونعمة، فكان يرتدي الخز ويلبس في يده خاتما من ذهب، وهو لذلك صاحب حديث الوصية، فقد مرض وهو بمكة في عنفوان شبابه مرضا أشفى منه على الموت، فعاده رسول الله يوما فقال له: «يا رسول الله! إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بثلثي مالي؟» قال رسول الله: لا، قال سعد: فبنصفه، وأجاب رسول الله: لا، قال سعد: فالثلث؟ عند ذلك قال رسول الله: «الثلث، والثلث كثير، أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.»
وكان سعد إلى صفاته هذه فارسا شجاعا وبطلا مقداما، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله، شهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وغزوات الرسول كلها، وكان في فتح مكة يحمل إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وقد ثبت يوم أحد مع رسول الله حين ولى الناس، ودافع عن رسول الله دفاعا مجيدا حتى كان
صلى الله عليه وسلم
يقول له: «ارم سعد فداك أبي وأمي!» هذا إلى أنه أول من رمى سهما في الإسلام حين ذهب في سرية عبيدة بن الحارث إلى ماء بالحجاز بوادي رابغ، فلقيهم جمع من قريش على رأسهم أبو سفيان فانسحبوا من غير قتال إلا هذا السهم الذي رمى به سعد، ولذلك كان يقول: «إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله.» فارس هذه صفاته لا عجب أن يكون الأسد في براثنه، وأن يتفق للناس رأيا واحدا على تأميره في الجيش الذاهب للعراق ليواجه موقفا من أدق المواقف التي واجهت المسلمين فيه.
خرج سعد من المدينة قاصدا العراق على رأس أربعة آلاف من الجند معهم نساؤهم وأبناؤهم، وكانت القوات تقبل بعد خروجه تترى إلى المدينة تلبية لنداء عمر، فكان يبعثها في إثر سعد لتنضم إليه، بذلك ازداد جنده عددا وقوة، وزاد في قوته أن بعثت شبه الجزيرة بخيرة رجالها من الأبطال والفرسان والشعراء والخطباء والرؤساء وكل ذي رياسة ومكانة، وكان بين هؤلاء عمرو بن معدي كرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي والأشعث بن قيس الكندي وغيرهم من الزعماء، كل على رأس قبيلته، وبلغت القوات عشرين ألفا حين اقترب سعد من زرود، أما قوات المثنى التي انسحبت إلى ذي قار بعد معركة البويب، وبعد أن تولى يزدجرد أمر فارس، فكانت ثلاثة آلاف انضم إليهم من القبائل المجاورة خمسة آلاف غيرهم، وكانت القوات التي فصلت من الشام بإمرة هاشم بن عتبة ثمانية آلاف، بذلك بلغ الجيش الذي سار من مختلف الأنحاء ليشهد القادسية ستة وثلاثين ألفا أو نحوها، وذلك أضخم جيس عبأه المسلمون لغزو العراق منذ سار المثنى إلى دلتا النهرين في عهد أبي بكر.
وقد اكتمل جمع هذه القوات كلها، خلا القوة المقبلة من الشام، حين بلغ سعد شراف، لكن المثنى لم يكن في جنوده، فقد نغر عليه جرح الجسر فمات بعد أن استخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولم يكن المعنى بن حارثة أخو المثنى في هذه الجنود أيضا، فقد علم أن قابوس بن قابوس بن المنذر ذهب إلى القادسية بأمر الفرس يدعو العرب إلى الاشتراك مع جنود كسرى في قتال المسلمين، وأنه كاتب بني بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان بن المنذر يكاتبهم به لينضموا إلى دعوته، وقد أسرع المعنى من ذي قار إلى بني بكر بن وائل فأفسد على قابوس خطته، واستبقى قومه بني بكر على ولائهم للمسلمين، ثم رجع إلى ذي قار فاصطحب سلمى زوج أخيه المثنى، وسار بها حتى أدرك سعدا بشراف حين أزمع الرحيل إلى القادسية.
ودخلت سلمى ودخل المعنى على سعد، فقص عليه نبأ قابوس وبني بكر بن وائل، ثم ذكر له وصية المثنى إليه ألا يقاتل عدوه من أهل فارس، إذ اجتمع أمرهم وملؤهم، وألا يقتحم عليهم عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم، على أدنى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم وإن تكن الأخرى كانوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم، فلما سمع سعد رأي المثنى ووصيته ازداد حزنه لموته وترحم عليه، وأمر المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرا، ثم خطب سلمى إلى نفسها فتزوجها وبنى بها، وكان مثل هذا الزواج بعض عادات العرب تكريما لذكرى العظيم المتوفى وإكراما لأرملته حتى تظل في مثل عزها وكرامتها في حياة زوجها الأول.
كان عمر بن الخطاب بالمدينة على علم بحركات جيش العراق وتنقلاته، فقد كانت أوامره إلى سعد أن يكتب له في كل موقف وأن يتلقى أوامره، وكان سعد قد كتب إليه أول ما نزل شراف وقبل أن يجيئه الخبر بموت المثنى يذكر له أنباءه ويسترشده، فلما قرأ عمر هذا الكتاب بعث إلى سعد، فكان رأيه كرأي المثنى في وصيته، أمر سعدا بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرق والمسالك على فارس، ثم قال له: «ولا يهولنك كثرة عددهم وعددهم فإنهم قوم خدعة مكرة، وإن أنتم صبرتم وأحسنتم ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لم يجتمع شملهم أبدا، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم. وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر فإنكم عليه أجرأ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل، حتى يأتي الله بالفتح عليهم ويرد لكم الكرة.» وكان مما ختم به كتابه قوله: «اكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية.»
وكان عمر فيما يصدره من أوامره لا تفوته كبيرة ولا صغيرة، فلم يكن يكفيه أن يشجع القواد والجند وأن يهز قلوبهم، وأن يذكر لهم مفاخرهم ومفاخر قومهم، ثم لم يكن يكفيه أن يحذرهم بأس العدو وخداعه، بل كان يرسم لهم الخطط، ويذكر لهم موعد الانتقال من مكان إلى مكان، وكأنما كان على علم بهذه الأرض وتقويمها، كان مما جاء في بعض كتبه إلى سعد قوله: «إذا بلغت القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لمادتهم، وهو منزل رغيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر.» وكتب له باليوم الذي يرتحل فيه من شراف وقال له: «فإذا كان يوم كذا وكذا فارتحل بالناس حتى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس، وشرق بالناس وغرب بهم.» وجاء في كتاب آخر بعث به إلى سعد قوله: «اكتب إلي أين بلغك جمعهم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم، فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتابة به قلة علمي بما هجمتم عليه والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها.» وكتب إليه سعد يصف البلدان ويصور له موقع القادسية بين العتيق، أحد فروع الفرات، وخندق سابور، ويذكر له سهل القادسية الأخضر الممتد إلى الحيرة بين طريقين يطلع أحدهما بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ويسير الآخر إلى الولجة في فيض من المياه، ثم يذكر له أن أهل السواد الذين كانوا قد صالحوا المسلمين قد انتقضوا عليهم وانضموا عونا لأهل فارس. ورد عمر على هذا الكتاب يقول: «قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينفض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله، وإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم فلا تشكن في ذلك.» وجعل يدعو لسعد خاصة وله وللمسلمين عامة.
هذه الكتب المتبادلة بين سعد وعمر تشهد باهتمام أمير المؤمنين بأمر العراق، وتتبعه أنباء الجند فيه بدقة دونها كل دقة، وحرصه بذلك على أن يكون وكأنه القائد الذي يسير على رأس الجيش ويجهز للمعركة، فهو يوجهه ويشرف على كل حركة من حركاته، وقد كان ذلك شأنه مع جند المسلمين بالشام، فكان يكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح بمثل ما كان يكتب به إلى سعد بن أبي وقاص، وكان يتابع بنظره، بل بقلبه وكل جوارحه، مسير هؤلاء القواد ومن يلونهم من الجنود، وكأنه حاضر معهم وسائر في خطاهم؛ مشفق عليهم من عدوهم، شريك لهم في سرائهم وضرائهم، حريص أشد الحرص على نصرهم، وليبلغ هذا النصر جعل يذيع النداء تلو النداء في أرجاء شبه الجزيرة يدعو إليه كل قادر على القتال فيوجهه إلى العراق أو إلى الشام، ذلك بأنه لم يبق لديه ريب في أنه إن لم يفتح المدائن ويضم إليه العراق كله، وإن لم يفتح حمص وأنطاكية ويضم إليه الشام كله، بقيت بلاد العرب يهددها الأسدان فارس والروم، وتهديد بلاد العرب يهدد الدين الناشئ فيها، وحماية هذا الدين وحرية الدعوة فرض عين على كل مسلم، وعلى أمير المؤمنين قبل كل مسلم، ولا بد لحمايته من تقليم أظافر الأسدين، ومن القضاء على كل قوة تهدد شبه الجزيرة.
تلقى سعد كتب عمر، فبدأ سيره من شراف يريد القادسية، على أنه لم يفصل من شراف حتى كان قد عبأ جيشه تعبئة عرفها عمر وأقرها، فأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء، فجعل على كل عشرة عريفا، وأمر على الرايات رجالا من أهل السابقة في الإسلام، وجعل على المقدمة والمجنبتين أبطالا حاربوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان في هذا الجيش أربعمائة وألف حاربوا مع رسول الله، منهم بضعة وسبعون بدريا، وبضعة عشر وثلاثمائة ممن كانت لهم صحبة في بيعة الرضوان وما بعدها، وثلاثمائة ممن شهدوا الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة في جميع أنحاء العرب، وسار سعد بالناس متمهلا حتى بلغ العذيب فنزلها وأقام بها زمنا قبل أن يسير إلى القادسية.
وكانت العذيب من مسالح فارس الحصينة ذات البروج المنيعة، ولقد بلغتها طلائع المسلمين في وجه الصبح، فوقفت قبالتها، وجعلت تنظر إليها فإذا رجل يتراءى بكل برج من بروجها؛ لذلك أمسكوا ولم يتقدموا ، حتى إذا أدركهم كثف من الجيش ساروا يريدون اقتحام هذه البروج، فلما دنوا منها رأوا رجلا يركض نحو القادسية، ورأوا البروج خلاء ليس بها أحد، عند ذلك أيقنوا أن الرجل كان مكيدة، وكان يتراءى بين البروج ليراهم ويعرف قوتهم فينطلق بخبرهم إلى الفرس، ثم وجدوا بالبروج رماحا ونشابا وأسفاطا انتفعوا بها، وقد انطلق في أثر ذلك الفارس زهرة بن الحوية ليأسره فلم يدركه، فعاد يشارك المسلمين في الحديث عن ثباته ورباطة جأشه.
استقر سعد بالعذيب حين لم يجد بها من الفرس أحدا، ثم جعل يبعث قوات من جنده تغير على ما حولها تنشر الرعب في نفوس الناس وتجيء بالغنائم والأسرى، وقد سارت إحدى هذه الغارات بليل تريد الحيرة، فلما جاوزوا السيلحين وقطعوا جسرها في طريقهم إلى عاصمة اللخميين سمعوا جلبة وضوضاء، فأحجموا وأقاموا كمينا حتى يتبينوا، وإنهم لكذلك إذ جازت بهم خيول تتقدم ابنة مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين أحد أشراف العجم، فلما جازت الخيل كمين المسلمين حمل هؤلاء على من يحيطون بالعروس ففروا، فأخذوا الأثقال وأخذوا ابنة المرزبان في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع ومغانم عظيمة القيمة، ثم رجعوا بذلك كله إلى سعد بالعذيب فقسمه بين المسلمين.
تولى أهل العراق الفزع فانكمشوا وسكنت ثورتهم بالمسلمين، واطمأن سعد إلى موقفه بالعذيب فحصن الموقع، وترك به كثيرا من أسر العرب، ووضع به خيلا يحمي هذا الحريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ثم سار إلى القادسية فنزل بها بحصن قديس، ونزل زهرة بن الحوية بحيال قنطرة العتيق، ووزع الجند كل فرقة في مكان، وأقام بها يبعث الغارات تجيء إليه بمئونة الجيش غنما وأبقارا وبرا ودقيقا وكل ما يحتاج إليه الناس.
1
وأقام سعد بالقادسية شهرا أخصب الجيش فيه بما كان يجيء من الطعام في هذه الغارات التي اتسع نطاقها بين الحيرة وكسكر والأنبار، وكتب سعد إلى عمر يخبره بموقفهم، ولعله وصف القادسية أدق الوصف في هذا الكتاب، ويذكر له أن الفرس لم يوجهوا إليهم أحدا ولم يسندوا إلى أحد قيادة جيش لمحاربتهم فيما يعلمون، لكنه لم يلبث بعد ذلك أن علم من أهل الحيرة أن يزدجرد ولى رستم بن الفرخزاد أمر الحرب، وأمره بالسير لمواجهة المسلمين، فكتب إلى عمر كرة أخرى بالخبر، فكتب عمر إليه:
لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليهم رجالا من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم.
قد تعجب لتباطؤ الفرس دون مواجهة سعد وجنوده، بعد اجتماعهم على يزدجرد ومعاونتهم له حتى ينتقم لهم من هزيمة جيوشهم بالبويب، فقد فصل سعد عن المدينة في أوليات الربيع من تلك السنة، ثم أقام بشراف وبالعذيب أشهرا، وأقام بالقادسية أكثر من شهر قبل أن يعلم بمسيرة عسكر من الفرس لقتاله، فأين كان الفرس؟ وماذا كان يصنع يزدجرد طيلة هذه الأشهر؟
الواقع أنهم لم يكونوا في غفلة عن الأمر، فقد بعث يزدجرد إلى رستم بن الفرخزاد وقال له: «أنت رجل فارس اليوم، وأنا أريد أن أوجهك لقتال العرب.» وأجابه رستم: «دعني بالمدائن، فلعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب، فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أشد على عدونا، ولن تزال العرب تهاب العجم ما لم تضربهم بي.» ونظر يزدجرد فيما قال رستم وشاور أهل الرأي فيه، فلما بلغه ما فعل العرب وأخذهم ابنة مرزبان الحيرة وغارتهم على بلاد العراق، أعاد القول على رستم، وأعاد رستم كلامه وقال: «لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وملكك! دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس، فإن تكن لنا فذلك، وإلا بعثنا غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس ما لم أهزم.» فلما اشتدت غارات العرب على السواد من أسفله إلى أعلاه، وبعث مرازبته ودهاقينه إلى يزدجرد أنه إن لم ينجدهم نزلوا على أمر المسلمين طائعين أو كارهين، زال من نفسه كل تردد وأمر رستم فسار إلى ساباط، وعلم سعد بمسيرته فكتب إلى عمر فأجابه بما قدمنا وأمره أن يبعث إلى صاحب الفرس من يناظرونه ويدعونه.
أفأراد عمر بكتابه أن يبعث سعد رسله إلى رستم، أم إلى يزدجرد؟ وإلى أيهما سار الرسل بالفعل؟ هنا تختلف الروايات: فيجري بعضها بأن الرسل تحدثوا إلى رستم، فلما أخفقت رسالتهم وقعت القادسية، ويذهب بعضها إلى أن الرسل ذهبوا وفدا إلى يزدجرد بالمدائن فأخفقت رسالتهم فكانت القادسية، وتجري رواية ثالثة بأن الرسل ذهبوا إلى رستم، فلما لم تنجح مهمتهم ذهبوا وفدا إلى يزدجرد فلم يكونوا أكثر توفيقا في إقناعه، فعادوا من المدائن ليشاركوا إخوانهم المسلمين في غزوة القادسية.
ولعل وفد المسلمين ذهب إلى يزدجرد بالمدائن قبل أن يلقى أحدا منه رستم بالقادسية، فقد كان رستم لا يزال بساباط على مقربة من المدائن كما رأيت، ولم يكن قد سار منها إلى القادسية ليقف قبالة سعد وجيشه على ضفة الفرات الأخرى، وكان رستم يبطئ في مسيرته تنفيذا للسياسة التي أشار بها على يزدجرد؛ لذلك اكتفى حين بلغ ساباط بما بعثته مسيرة جيشه من الطمأنينة إلى نفوس أهل السواد، ثم بعث إلى أهل الحيرة وإلى غيرهم من أهل المدن المنتشرة من أسفل السواد إلى أعلاه يعاتبهم لتزعزع عقيدتهم في قوة دولتهم ولفزعهم من العرب، ويعدهم أنه ممزق شمل هؤلاء العرب، وملق بهم إلى صحاري شبه الجزيرة؛ فلا تحدثهم أنفسهم بالعودة إلى العراق أبدا.
أما سعد فلم يكن له من تنفيذ أمر عمر بد؛ لذلك بعث ليزدجرد وفدا فيه أهل الرأي والسياسة والشجاعة، بينهم النعمان بن مقرن، وفرات بن حيان، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، والمغيرة بن شعبة، والمعنى بن حارثة وغيرهم من أمثالهم، وأمرهم أن يدعوه إلى الإسلام، فإذا أبى فالمناجزة، وبلغ الوفد المدائن، فعجب أهلها حين رأوا رجاله عجافا، وجعلوا ينظرون إلى أشكالهم ، وإلى أرديتهم على عواتقهم، والسياط في أيديهم والنعال في أرجلهم، وإلى خيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها، ويتساءلون بينهم: كيف يقدم هؤلاء على غزونا ويطمعون في الظفر بنا واقتحام عاصمتنا؟! واستأذن الوفد على يزدجرد، فاستدعى وزراءه واستشارهم، ثم أذن للوفد فدخل عليه، فقال لهم في كبرياء وعظمة: «ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أتراكم اجترأتم علينا لما تشاغلنا بأنفسنا؟» فأجابه النعمان بن مقرن وذكر له بعث الله رسوله في العرب وما جاء به من عند الله، ودعاه إلى الإسلام، ثم قال له: «فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتموها فالمناجزة.» وختم كلامه بقوله: «فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتم بالجزية قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.»
كبر على يزدجرد أن يسمع مثل هذا القول، ولكنه آثر الحكمة والحلم مقرونين إلى الحزم فقال: «إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون في أن تقدموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم كثرته، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا قوتا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم.» وسمع الوفد هذه المقالة فسكتوا، عند ذلك قام المغيرة بن شعبة فقال: «أيها الملك، هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به قالوه، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عنه، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي، فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد ...» وذكر له من سوء عيش العرب وإرسال الله رسوله إليهم على نحو مقالة النعمان بن مقرن، ثم قال: «اختر: إن شئت الجزية، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنجي نفسك.»
لم يطق يزدجرد الصبر على ما سمع فقال وقد أخذ منه الغضب: «لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي!» ثم أمر من جاء بوقر من تراب فقال: «احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور!»
لم يفزع الوفد لغضب يزدجرد ولم تنخلع قلوبهم لوعيده، بل قام عاصم بن عمرو فحمل التراب على عاتقه وهو يقول: «أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء.» وسار يحمل التراب فخرج من الإيوان، إيوان كسرى، فركب راحلته وانطلق وأصحابه حتى بلغوا القادسية ودخلوا على سعد بحصن فديك، وقص عاصم بن عمرو ما حدث وكيف حملوا أرض فارس ثم قال: «أبشروا فقد والله أعطانا الله مقاليد ملكهم.»
يتفق مؤرخو العرب جميعا على رواية ما حدث بين يزدجرد ووفد سعد، ولا يقع بينهم خلاف إلا على بعض العبارات التي تبادلها الفريقان، ويذهب بعض المستشرقين إلى أن هذه الروايات وضعت من بعد، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل في تفاصيلها، ونحن لم نورد هنا من هذه التفاصيل إلا أقلها، ويستشهد المستشرقون على ما يقولونه بأن هؤلاء المؤرخين المسلمين لا يفوتهم في كل مناسبة يتصل فيها وفد من المسلمين بغيرهم من المجوس أو من النصارى أن يجروا على لسان المتكلمين من المسلمين حديث العرب قبل بعث النبي وما كان بينهم من عداوة وبغضاء، وما كانوا فيه من بؤس وشقاء، حتى إذا بعث الله رسوله إليهم بالهدى ودين الحق ألف بين قلوبهم وأغناهم من جوع، وأفاء عليهم من الخير ما لم يعرفه آباؤهم وأجدادهم، مع أن من هؤلاء المسلمين من كانوا يعيشون قبل الإسلام في رخاء ونعمة، كأهل اليمن وأهل البلاد التي تشاطئ الخليج الفارسي، لقد نسب المؤرخون مثل هذه الأقوال إلى المسلمين الذين هاجروا في عهد النبي إلى أرض الحبشة، وذلك حين دعاهم النجاشي وسألهم عن سبب خروجهم على دين قومهم، وقد نسبوا مثلها إلى المسلمين الذين ذهبوا إلى أرض العراق واتصلوا بأهله في عهد أبي بكر، ثم نسب ما يشبهها إلى خالد بن الوليد حين لقي جرجة القائد الرومي في موقعة اليرموك، وها هم أولاء ينسبون مثلها إلى الوفد الذي لقي يزدجرد، أفلا يدل ذلك على أن هذه الأقوال وضعت في أزمان متأخرة لغايات سياسية، وأنها أجريت على ألسنة المسلمين الأولين دعاية للإسلام من ناحية، وتثبيتا لسلطان أمير المؤمنين من ناحية أخرى؟
ويضيف المستشرقون، تأييدا لنقدهم، أن المؤرخين المسلمين لا يتورعون عن رواية أمور هي أدنى إلى الخرافة، من ذلك أن يزدجرد دعا إليه أولي الرأي ودعا رستم من ساباط، وذكر لهم ما كان بينه وبين وفد المسلمين وقال: إنه استحمق أشرفهم لحمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره، فقال له رستم: إنه ليس بأحمق، وليس هو بأشرفهم، وإنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، وتطير رستم لما سمع، وخرج من عند الملك غضبان كئيبا، ذلك أنه كان منجما دلته النجوم على أن الذين خرجوا من المدائن بترابها إنما خرجوا معهم بأرض فارس، وليتقي مغبة هذه النبوءة بعث في أثرهم رجلا وقال: «إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.» ولما لم يدركهم الرجل ازداد رستم تطيرا، واستهجن رأي الملك وفعله.
لكنه مع ذلك لم يستطع أن يخالف الملك حين أمره أن يسير لمواجهة المسلمين، ذلك أن يزدجرد قال له: «لتسيرن أو لأسيرن بنفسي.» وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفا، وخرج هو في ستين ألفا، وجعل على الميمنة الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي، ثم إنه كتب إلى أخيه البندوان يقول: «أما بعد فرموا حصونكم واستعدوا وأعدوا فكأنكم بالعرب قد قارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تنقلب سعودهم نحوسا.» وبعد أن ذكر ما يرى من ذلك في النجوم ختم كتابه بقوله: «ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا.» مع ذلك تابع سيره وكأنما يدفعه القدر كارها إلى حتف فارس وحتفه.
يرى المستشرقون هذه الرواية عن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة ، ويجدون فيها تأييدا لنقضهم رواية المؤرخين المسلمين عما دار بين وفد سعد ويزدجرد، ولا أراني أميل ميلهم وإن كنت لا أتهمهم فيه.
فأما أن المسلمين الأولين كانوا يذكرون لعدوهم ما كانوا عليه من فرقة وضعف قبل الإسلام، وما صاروا إليه من وحدة وعزة حين اجتمعوا إلى لوائه، وأنهم كانوا يحدثونهم عن بعث رسول الله بهذا الدين وعن المبادئ السامية التي جاء بها فكان اتباعها سبب عزتهم ووحدته؛ أما ذلك كله فلا عجب فيه ولا موجب لابتداعه من بعد لغايات سياسية أو غير سياسية، فقد كان هذا الدين ثورة على العقائد والنظم السائدة يومئذ في بلاد العرب وفي فارس والروم، وكان ثورة عالمية قام صاحب الرسالة يبلغها الناس كافة ويدعوهم إلى اعتناق مبادئها، ويلقي على الذين آمنوا به واتبعوه أن يقوموا في هذه الدعوة مقامه، وقد كتب رسول الله إلى هرقل وإلى كسرى وإلى غيرهما من الملوك والأمراء يبلغهم رسالة الإسلام ويدعوهم إليه، فليس عجبا أن يحذو المسلمون في ذلك حذوه، وأن يتحدثوا عن دينهم في كل مكان نزلوه، وإلى كل شخص اتصل بهم أو اتصلوا به، بل ذلك كان الطبيعي يومئذ، وهو الطبيعي كلما قامت ثورة تدعو إلى مبدأ جديد، كان رجال الثورة الفرنسية يتحدثون عنها ويذيعون مبادئها حيثما نزلوا من بقاع الأرض، وكانوا يذكرون ما أصاب فرنسا قبلها من اضطهاد وظلم، وما نالت فرنسا بعدها من سؤدد وعزة ومكانة أدت إليهما مبادئها السامية، وكذلك فعل الروس ولا يزالون يفعلون، فليس العجب في أن يتحدث المسلمون عن دينهم وأن يذكروا سوء حالهم قبله ورفعة مكانهم بعده، وإنما يكون العجب ألا يفعلوا، وكيف لمؤمن ألا يدعو الناس إلى ما يؤمن به وهو يعتقد أنه الحق، ويعتقد أن الساكت عن الحق شيطان أخرس! وكيف لمؤمن يرى في المبادئ التي يدين بها قوام السعادة للإنسانية، ثم لا يدعو الناس إليها، فإذا آمنوا بها كفاه ذلك منهم وكان أساسا للإخاء الصحيح بينه وبينهم، وأساسا لحريتهم ولسعادتهم وإسلامهم!
أما القول بأن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة ، فذلك ما لا أتعرض للخوض فيه؛ فلست عالما بالنجوم، ولست أعرف لذلك مبلغ ما تهدينا إليه من علم بشئون هذه الأرض التي نعيش عليها، وما يقع من الأحداث فيها، على أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها ويحسبون أن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن غيرهم، ومهما يكن من شيء فالثابت أن الفرس في ذلك العهد قد كانوا من أكثر الناس اطمئنانا إلى علم النجوم واهتداء بها في حياتهم العامة والخاصة، وأنهم لم يكونوا يرون علمها حديث خرافة، ومن الواجب على المؤرخ ألا يجعل مقياسه في ثبوت الوقائع وعدم ثبوتها مبلغ اتفاقها مع تقديره الذاتي للأمور والآراء، وإنما يكون مقياسه لصحتها عقائد الناس وآراءهم في الزمن الذي حدثت هذه الوقائع فيه، أما والفرس كانوا يزاولون في ذلك العهد علم النجوم، فأبلغ الظن أن أمراء الجند منهم كانوا أشد الناس بهذا العلم عناية، والمتواتر على كل حال أن رستم كان عالما بالنجوم، وأنه رأى فيها ما يضمره الغيب لفارس، وأن طموحه وكبرياءه هما اللذان دفعاه ليخالف ما رأى، وليشارك بوران في حكم بلاده وأن يسير بأمر يزدجرد على رأس الجند للقاء سعد بن أبي وقاص والمسلمين.
بينما كان رستم يسير على رأس مائة وعشرين ألفا من جنود فارس يريدون القادسية كان سعد يبعث بالغارات إلى النجف والفراض ومنازل القبائل المنتشرة في السواد، يستاقون منها الدواب والماشية والغلال وشتى ألوان الطعام إلى جند المسلمين.
وبلغ رستم الحيرة وكانت قد هادنت المسلمين، فدعا إليه كبراءها ولامهم على ما صنعوا وهددهم وهم بالانتقام منهم؛ فقال له حكيمهم: لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا، وتلومنا على أن ندفع عن أنفسنا، وجاوز رستم الحيرة إلى النجف، وقدم الجالينوس إلى السيلحين، وإنه بالنجف إذ علم أن خيول المسلمين تغير على النهرين، فأرسل إليهم قوة تقاتلهم، وعرف المغيرون نبأ هذه القوة، فرجع عمرو بن معدي كرب ومن معه أدراجهم إلا طليحة بن خويلد الأسدي فإنه أبى أن يرجع معهم، وقال أحدهم إذ رأى إباءه: «أنت رجل في نفسك غدر، ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن.» يشير إلى ما كان من رجال طليحة حين تنبأ وقاتل خالد بن الوليد في غزوة البزاخة،
2
مع ذلك أصر طليحة على إبائه أن يرجع معهم، ومضى حتى دخل معسكر رستم خفية وقتل اثنين من فرسانه وساق جواديهما ثم خرج يعدو به فرسه، فركب جماعة من أصحاب رستم في طلبه فقتل اثنين منهم وأسر الثالث وقد شارف عسكره، عند ذلك ارتد طالبوه، ودخل هو على سعد والأسير معه، وقال الأسير حين سأله سعد عن فعال طليحة: «باشرت الحروب منذ أنا غلام، وسمعت بالأبطال، فلم أسمع بمثل هذا، إن رجلا قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفا فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوتات، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره ثم أدركته أنا وخلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين، فرأيت الموت واستؤسرت.»
وتابع رستم مسيرته حتى بلغ القادسية بعد أن قضى أربعة أشهر مذ فصل من المدائن للقاء عدوه، وإنما تمهل وتباطأ ظنا منه أن يهن العرب إذا لم يجدوا مئونة تكفيهم، أو أن يسأموا طول المقام فينصرفوا إلى بلادهم، وتمهل كذلك تطيرا من لقاء سعد بعد ما دلته النجوم على مصير فارس، وقد رأيت أنه كان يؤثر البقاء بالمدائن وأن يعبئ لقتال العرب جيشا إثر جيش حتى يتضعضع ركنهم وينهد عزمهم، لكن يزدجرد أبى عليه رأيه وأمره أن يسير بنفسه، فتباطأ حتى قضى هذه الأشهر الأربعة في طريق كان يستطيع قطعها في أيام معدودات.
بلغ رستم القادسية في جيش عدته مائة وعشرون ألفا، يتقدمهم ثلاثة وثلاثون فيلا بينها فيل سابور الأبيض، وكانت سائر الفيلة تألفه وتتبعه، لكنه كان يود، مع جسامة هذه القوة، أن يصرف العرب عن بلاده دون قتال، علما منه أنه إن ينهزم دونهم تفتح لهم أبواب المدائن وأبواب فارس كلها؛ فهو رجل فارس الذي تشرئب إليه الأعناق من كل صوب، والقائد البطل القادر ليس في فارس كلها بطل مثله، وهو قد تطير من النجوم ودلالتها، ثم إنه رأى في نومه أحلاما زادته بدلالة النجوم إيمانا، هذا إلى ما أبدى العرب من بطولة لم تثبت لها أعداد فارس وعددها، ولم تثبت لها الفيلة في الغزوات المتلاحقة التي بدأت منذ اقتحم المثنى دلتا النهرين إلى أن انتصر على الفرس انتصاره العظيم بالبويب، ففي هذه المواقع جميعا كان العرب دون الفرس عددا وعدة، وكانوا مع ذلك يبلغون منهم ويركبون أكتافهم، وينقلون الغنائم الطائلة بعد انتصارهم، هم إذن قوم كتب النصر لهم، فإن هو ردهم إلى شبه الجزيرة دون قتال أسدى إلى بلاده وإلى مليكه يدا دونها كل نصر.
صف رستم إذن عسكره قبالة عسكر المسلمين، وقدم الفيلة أمامه، وبدا بذلك في مظهر من القوة يدخل إلى النفوس الرعب، ثم بعث إلى سعد ليبعث له رجلا من عقلاء المسلمين يبين له ما جاء هؤلاء المسلمون فيه، وعبر إليه المغيرة بن شعبة وجلس معه على السرير، وحدثه عن رسول الله وبعثه بمثل ما حدث أصحابه يزدجرد بالمدائن، وقال له: «إن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم فقالوا: لا صبر لنا عليه.» ثم انتهى من حديثه إلى ما انتهى إليه أصحابه: أن يسلم الفرس أو يؤدوا الجزية، فإن أبوا هذا وذاك فالقتال.
وعظم على أصحاب رستم أن يذكر المغيرة الجزية تفرضها العرب على فارس، فهاج هائجهم، لكن رستم استمهل المغيرة حتى يروئ في الأمر، ثم بعث الغداة إلى سعد أن يوفد إليه من يحدثه حديث الصلح، وتكلم رسول سعد بمثل حديث المغيرة، فعرض عليه رستم ما عرضه يزدجرد على أصحابه، أن يفرض العرب قوتا إلى خصبهم، وأن يكرم وجوههم، وأن يعودوا إلى بلادهم، فلما أبى سفير المسلمين منه إلا الإسلام أو الجزية أو القتال، استمهله رستم كرة أخرى، ثم بعث يطلب سفيرا آخر، وكان المسلمون منذ عهد النبي لا يؤجلون مثل هذه السفارات أكثر من ثلاثة أيام يكون بعدها الصلح أو تكون بعدها الحرب، فلما أصر المسلمون على موقفهم: الإسلام أو الجزية أو القتال، لم يبق من الحرب مفر.
ترى هل بلغ من تطير رستم وإشفاقه من مصير القتال أنه كان يريد الصلح بأي ثمن؟! تذهب بعض الروايات هذا المذهب، ويذكر بعض المؤرخين أن رستم مالت نفسه إلى الإسلام، لولا أن رده أصحابه عنه، وهذا رأي مرجوح يدفعه ما سنراه من بأس الفرس في اليومين الأولين من وقعة القادسية، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن رستم أراد بمطاولة المسلمين أن يوقع الخلاف بينهم في الرأي، فإذا اختلفوا بعد الذي رأوا من قوة هذا الجيش الزاحف إليهم زادهم اختلافهم ضعفا وعجزا عن مقاومة القائد القادر وجنوده، وأيما الرأيين صح، فقد بقي المسلمون لا يتغير رأي واحد منهم عن رأي صاحبه، ولا يرضى أحد منهم دون الإسلام أو الجزية إلا بالقتال، عند ذلك بعث رستم إلى سعد يقول له: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، وما كان لسعد أن يعبر النهر ومثل غزوة الجسر حاضر أمام ذهنه، وما كان له أن يدع رستم يعبر إليه وينظم صفوفه لقتاله، لذلك بقي مكانه مطمئنا إلى موقفه يحميه النهر من أمامه، وخندق سابور عن يمينه، والصحراء المترامية وراء ظهره.
ما كان لسعد أن يعبر النهر، وما كان لرستم أن يقف جامدا مكانه؛ فقد تضعضعت هيبة الدولة وضعف سلطان المدائن في نفوس أهل العراق من فرس وعرب، فإذا لم يضرب رستم في القادسية ضربته، أوشك هذا السلطان أن ينهار، وأوشكت هذه الهيبة أن تزول، هذا إلى أن جنود يزدجرد كانوا يتحرقون للقاء المسلمين يريدون أن يزيلوا ما لحق إخوانهم قبل ذلك من خزي وعار؛ لذلك لم يكن لرستم بد من أن يعبر النهر وأن يلقى عدوه، وإذ أبى سعد عليهم أن يعبروا العتيق على القنطرة وقال لهم: لا نرد عليكم شيئا غلبناكم عليه، فقد تمهل رستم حتى جن الليل، ثم أمر رجاله فطموا العتيق بالتراب والقصب وبكل ما كان لديهم مما لا حاجة لهم به في الحرب، وعلى هذا الجسر عبر جيش الفرس، ثم جعل رستم الفيلة في القلب والمجنبتين عليها الصناديق والرجال، وجعل جنوده من ورائها، وضرب لنفسه قبة نصب فيها سريره الفخم المكفت بالذهب، بذلك وقف الجيشان متأهبين للقتال ينتظران بدأه بين ساعة وساعة، وهما يعلمان أنهما مقبلان على معركة حاسمة ليس بعدها إلا أن يندحر الفرس فينفتح أمام العرب طريق المدائن، أو يندحر العرب فيعودوا إلى صحاري شبه الجزيرة، وليس يعلم إلا الله أيستطيعون بعده أن يعودوا إلى العراق كرة أخرى.
معركة ذلك شأنها كان يزدجرد حريصا على أن يعرف أنباءها ساعة فساعة، بل لحظة فلحظة، حتى كأنه حاضرها، وقد كان على النقيض من رستم، واثقا بحسن مصيرها، أليس شابا، والشباب لا يعرف اليأس ولا يتصور الفشل والهزيمة! أولم تجتمع فارس حوله كما لم تجتمع حول أحد سبقه على العرش، وقد عقدت العزم على أن تنتصر! هي لا ريب ستنتصر إذن؛ لذلك اشتد حرصه على أن يتابع أطوار المعركة التي تنصرها، ولذلك وضع الرجال من المدائن إلى القادسية، يلقي أدناهم من المعركة بأنبائها إلى من بعده فيلقيها هذا إلى من يليه، وهكذا حتى تبلغ المدائن؛ بذلك تطير الأنباء نبأ بعد نبأ إلى مسامعه فيتلقاها وهو أشد ما يكون ثقة بأن يأتيه النبأ الأخير منها بانتصار رجاله الحاسم.
ولعل أول نبأ سمعه قد زاده استبشارا بالخاتمة التي يؤمن بها، ذلك أن سعد بن أبي وقاص عاوده أول المعركة مرض كان يتردد عليه جعله لا يستطيع أن يركب أو يجلس فهو مكب على وجهه في صدره وسادة يعتمد عليها ويشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه، ذلك المرض كان عرق النسا ودمامل جعلت هذا الفارس البطل ذا الفعال المجيدة يعجز عن كل حركة يوجبها مكانه من جيش المسلمين في هذا الوقت الرهيب، وزاد يزدجرد استبشارا ما ألقي إليه من برم بعض المسلمين بسعد وتندرهم بمرضه، حتى ليقول قائلهم:
نقاتل حتى أنزل الله نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيم
وبلغ سعدا ما يتندر به الناس وأن طائفة من وجوه القوم تتهمه وتشغب عليه وترميه بالخور وضعف العزم، فحز ذلك في نفسه وأثار غضبه فقال لمن حوله: احملوني وأشرفوا بي على الناس، وارتقى به من حوله، ورأى الجند ما به من الوجع فعذروه لكن ذلك لم يكفه، بل شتم الذين شغبوا عليه وهم بهم وقال لهم: «أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم، والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننت به سنة يؤخذ بها من بعدي.» وأمر برجال بينهم أبو محجن الثقفي فحبسهم وقيدهم في القصر، إزاء هذا الحزم لم يكتف القوم بأن يعذروا سعدا، بل أعلنوا ولاءهم وطاعتهم، فكان مما قاله جرير بن عبد الله البجلي: «أما إني بايعت رسول الله على أني أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدا حبشيا.» وسرى مثل هذا الروح في نفوس الجند، فسكنت بوادر الفتنة وانطفأت نارها.
عند ذلك كتب سعد إلى الرايات يقول: «إني قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني، إني مكب على وجهي وشخصي لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري.» وقرئ هذا الكتاب على الناس فأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
وخطب سعد وهو على حاله تلك من يليه من الجند، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، قال الله جل ثناءه:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج، فأنتم تطعمون منها وتأكلون منها، وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وخيار كل قبيلة وعز من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم .
ورأى عاصم بن عمرو ما بسعد من الوجع، فزاده ذلك تأثرا بما سمع من كلامه، فقام في الناس فقال:
هذه بلاد قد أحل الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلون والله معكم، إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم من ذلك جار وحافظ، لم يبق هذا الجمع منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك، الله! الله! اذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، ألا ترون أن الأرض وراءكم بسابس قفار ليس فيها خمر ولا وزر يعقل إليه ولا يمتنع به! اجعلوا همكم الآخرة.
ودعا سعد إليه جماعة من الذين انتهى إليهم رأي الناس وانتهت إليهم نجدتهم وعظم فيهم شرفهم، وكان منهم من أولي الرأي المغيرة بن شعبة وعاصم بن عمرو، ومن أهل النجدة طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب، ومن الشعراء الشماخ والحطيئة وعبدة بن الطيب، ومن سائر الطوائف أمثالهم، وقال لهم: «انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم، ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فأنتم من العرب بالمكان الذي أنتم به، أنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم، وأنتم سادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال.»
وانطلق هؤلاء جميعا يخطبون ويقولون الشعر ويعدون الناس النصر في عبارات تهز المشاعر والقلوب، قال الهذيل الأسدي لقومه: «يا معشر معد! اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كأسود الأجم، وتربدوا لهم تربد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.» وقال عاصم بن عمرو: «يا معشر العرب إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان العجم، وإنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمرا تكونوا به شينا على العرب غدا.» وقام كل بنحو هذا الكلام وخطب كل أمير أصحابه، فتحاضوا على الطاعة والصبر، وتعاهدوا وتواصوا بالنصر أو الموت دونه.
ورأى رستم تجهز العرب، فثارت في نفسه الحمية لوطنه ، فأنسته طيرته وأنسته دلالات النجوم، وأعادته الجندي المثل الذي عرفته فارس بطلها الأكبر؛ لذلك لم يلبث، حين عبر جنده النهر واصطفوا صف القتال، أن لبس درعيه ومغفرا وأخذ سلاحه، وأمر بفرسه فأسرج فركبه وهو يقول: غدا ندقهم دقا، وبعث من يحرض الجند على القتال دفاعا عن وطنهم ودفعا لهؤلاء العرب الأجلاف الذين خضعوا أجيالا لنير فارس، ثم إذا هم اليوم تحدثهم نفوسهم بقتالها والظفر بها، أي عار كهذا العار يجب دفعه!
وكذلك وقف الجيشان ينتظران أمر الصدام، وقد أخذت منهما الحماسة كل مأخذ بما يسمعه المسلمون عن جنة الخلد ونعيم الدنيا، وما يسمعه الفرس عن الوطن وعن ملك كسرى وعظمته.
وكان سعد بن أبي وقاص قد أرسل في الناس: إذا سمعتم التكبير فشدوا شسوع نعالكم، فإذا كبرت الثانية فتهيئوا، فإذا كبرت الثالثة فشدوا النواجز على الأضراس واحملوا، وأمر من يقرأ سورة الجهاد فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس واطمأنوا إلى ما هم مقبلون عليه، فلما فرغ القراء كبر سعد فكبر الذين يلونه، ثم كبر الثانية فتهيأ الناس، فلما كبر الثالثة أنشب أهل النجدات القتال وخرجوا يبارزون أهل فارس، وأقبل أهل فارس عليهم وهم في مثل حماستهم يلبون نداء من يريدون نزالهم، وكان غالب بن عبد الله الأسدي في مقدمة من خرجوا يبارزون، خرج وهو يقول:
قد علمت واردة المسائح
ذات اللبان والبنان الواضح
أني سمام البطل المشايخ
وفارج الأمر المهم الفادح
فخرج إليه هرمز، وكان من ملوك الباب، وكان متوجا، فأسره غالب، فجاء به سعدا ثم رجع إلى المطاردة.
وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب
مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أني امرؤ لا من يعيبه السبب
مثلي على مثلك يغريه العتب
وبينما هو يرتجز طارد فارسيا نفر منه، فلقي فارسا معه بغل ففر الفارس واستاق عاصم البغل والرحل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فلما نظر فيه سعد نفله الناس ليأكلوه.
كبر سعد الرابعة فالتقى الجيشان، فأبلى أبطال المسلمين بلاء لم يعرف سعد له نظيرا، وقد كان هؤلاء الأبطال يقدرون ما رمتهم به فارس من عدد وعدة فنزع ذلك من قلوبهم كل رحمة، كان عمرو بن معدي كرب يحرض الناس بين الصفين إذ خرج إليه رجل من الأعاجم يرمي بنشابه فلا تنزل واحدة منها الأرض، ورمى بنشابة أصابت درع عمرو، فالتفت إليه فحمل عليه وكسر عنقه، ثم وضع سيفه في حلقه فذبحه، ثم ألقاه وهو يقول: هكذا فاصنعوا بهم، ثم إنه أخذ سواري الفارس القتيل ومنطقته ويلمق
3
ديباج كان عليه.
ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلا حملت عليهم، ففرت خيلهم نفارا وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم، ورأى سعد ما أصاب بجيلة فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته كل واحد في كتيبة وطليحة يصيح بهم: «يا عشيرتاه! لو علم سعد أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدئوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكرروا ولا تفروا! شدوا عليهم باسم الله.» فشدوا عليهم فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم، لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو يقول: «يا معشر بني تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل! أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟» قالوا: بلى والله! ونادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وليستدبروا الفيلة وليقطعوا وضنها، وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وصنع أصحاب عاصم بالفيلة كما أمرهم، فاستدبروها وضربوها بالنبل فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا، ونفس عن أسد وعن بجيلة جميعا بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة.
كان سعد رابضا في محبس مرضه بقديس ينظر إلى هذه المعركة الدائرة الرحى، ويعجب حينا بفعال أبطال العرب، ويفزع حينا مما تصيب به الفيلة والفرسان رجال بجيلة وأسد، ويحز في نفسه ألا يخوض هذه الحرب الزبون كما خاض من قبل أمثالها، وكانت سلمى بنت حفص زوج المثنى بن حارثة ثم زوج سعد من بعده مقيمة إلى جانبه ترى ما يرى، وتذكر ما كان لزوجها الأول من مواقف في مثل هذه الأيام الكبر، فلما رأت الفرس يشتدون على أسد ويقتلون منهم صاحت: «وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم!» قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه وفي نفسه، وأثار كلامها سعدا فلطم وجهها وقال: «أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى!» يعني أسدا وعاصما.
ولم تطأطئ اللطمة من رأس البدوية الأنوف، بل حدقت في سعد وقالت: «أغيرة وجبنا!» وخجل سعد لما صنع فتندى بالعرق جبينه وقال: «والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي!» وعرف الناس ما دار بين سعد وسلمى، فأكبروا البدوية الجريئة، ولم يبق شاعر إلا اعتد بها، وإن عرفوا سعدا غير جبان ولا ملوم.
مع ما كان من الفعال المجيدة والبلاء العظيم الذي أبلاه المسلمون، ظل سعد مشفقا من مصير المعركة لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم، وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميا وطيسه، فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقفه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابا بعد ما نزل بهم في ذلك اليوم الأول من كوارث.
ويطلق المؤرخون على هذا اليوم الأول من أيام القادسية اسم أرماث، وليس يذكر أحد منهم لهذه التسمية سببا، ويحسب بعض المستشرقين أن أرماث اسم للمكان الذي وقع القتال فيه، وليس لهذا الظن ما يسوغه، فقد اتصل القتال بالقادسية ثلاثة أيام وليلة في مكان واحد، ثم أطلق على كل يوم من هذه الأيام اسم يميزه.
رجع الجيشان مساء يوم أرماث كل إلى مواقفه، فلما تنفس الصبح شغل العرب وشغل الفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بواد قريب من العذيب، ونقلوا الجرحى إلى العذيب ليقوم النساء على العناية بهم، أما الفرس فدفنوا القتلى في المؤخرة وحملوا الجرحى إلى الضفة الأخرى من النهر.
وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان القعقاع بن عمرو التميمي يسرع السير في ألف من الجند الذين فصلوا من الشام نجدة لجيش العراق تنفيذا لأمر عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة أن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق، فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل، سار هاشم بن عتبة في ستة آلاف مددا لسعد بن أبي وقاص، وجعل القعقاع بن عمرو على مقدمته وعجله أمامه كي يدرك سعدا قبل فوات الوقت، والقعقاع هو ذلك البطل المعلم الذي أمد به أبو بكر خالد بن الوليد عشية مسيرته إلى العراق، فلما قال له قوم: أتمد رجلا ارفض عنه جنوده برجل؟! كان جوابه: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وصدق أبو بكر، فقد سار القعقاع مع خالد في غزو العراق فكان عنده في مثل مكانة المثنى بن حارثة، بل كان أقرب إلى فؤاده وأعظم حظوة عنده؛ لذلك جعله على الحيرة مكانه حين فصل إلى دومة الجندل مددا لعياض بن غنم، ثم اختاره من أمراء جنده حين فصل من العراق إلى الشام، لا عجب وذلك شأنه أن يكون من أجرأ العرب على الفرس بالعراق وأعرفهم بأساليب حربهم، ثم لا عجب أن يقدمه هاشم بن عتبة وأن يعجله لغياث سعد والمسلمين، فجيش فيه مثل القعقاع لا يهزم.
كان القعقاع على مقبرة من القادسية فجر الغداة من يوم أرماث، وليشد مقدمه عزائم المحاربين في الموقعة الخطيرة قسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار هو على رأس الفرقة الأولى، وبلغ سعدا وأصحابه بالقادسية قبل استئناف المعركة، فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وإقبالها، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال بعد أن قال للناس: اصنعوا كما أصنع، فلما كان بين الصفين نادى: من يبارز! فخرج إليه ذو الحاجب وعرفه بنفسه قائلا: أنا بهمن جاذويه! عند ذلك صاح القعقاع: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! ولم يطل بين الرجلين الجلاد، فقد انقض القعقاع على ذي الحاجب وأورده حتفه.
ورأى الناس صنيعه ورأوا الجنود المقبلة من الشام ترد داركا فتنشطوا وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وزادهم نشاطا أن لم يروا الفيلة بينهم؛ فقد تكسرت توابيتها بالأمس فأصبح الفرس يعالجون إصلاحها، فلم يفرغوا من ذلك حتى دارت رحى القتال وحمي وطيسه، وكان القعقاع كلما رأى فرقة من فرق جيشه كبر وكبر الناس معه، فازدادوا بذلك نشاطا وألقوا في روع الفرس أن هذا المدد المقبل عليهم لا آخر له ولا طاقة لجنود رستم بقتاله، وكيف يطيقونه وقد رأوا القعقاع وحده يصرع كل من يلقاه! صرع ذا الحاجب! فأراد فارسان معلمان من أبطال فارس الصناديد، أن يثأرا لصاحبهما، فخرجا يبارزان القعقاع فلقيهما ومعه الحارث بن ظبيان بن الحارث فأورداهما حتفا كحتف ذي الحاجب، ونادى القعقاع في الناس: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها، فتواصى الناس وحملوا بسيوفهم على الفرس وجعلوا يضربونهم حتى المساء.
وكان سعد بن أبي وقاص قد حبس أبا محجن الثقفي وقيده كما قدمنا، وكان أبو محجن من فرسان العرب المشهود لهم، فلما اشتد القتال وتردد تكبير الناس في أذنه، صعد يجر أغلاله حتى أتى سعدا يستعفيه ويستقيله، لكن سعدا زجره ورده، فذهب إلى زوجه سلمى بنت حفص فطلب إليها أن تحل قيده وأن تعيره البلقاء فرس سعد، وأقسم إن سلمه الله أن يرجع فتضع رجله في القيد، قالت سلمى: وما أنا وذاك! فرجع مكتئبا يرسف في القيد ويقول:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصاريع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
فلما سمعت سلمى شعره رقت له وقالت: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، وأطلقته، فاقتاد البلقاء وركبها وعليه سلاحه، وانطلق بين الصفين يكبر ويركض الفرس إلى الميمنة حينا وإلى الميسرة حينا آخر، ويقصف الأعداء قصفا منكرا، ولم يعرفه الناس فظنوا أنه بعض أصحاب هاشم بن عتبة، أما سعد بن أبي وقاص فجعل ينظر من القصر ويقول: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلما انقضى اليوم رجع فوضع رجليه في القيد، وتحمل سعد فنزل فوجد فرسه يعرق، فسأل في ذاك فروت له سلمى ما حدث، فرضي عن أبي محجن وأطلقه.
4
واتصل القتال يومئذ إلى منتصف الليل والمسلمون يرون فيه الظفر، وقد بلغ من ابتهاجهم على أثره ما تشهد روايات المؤرخين به، ذكروا أن القعقاع وحده قتل يومئذ ثلاثين رجلا، وقد رفه غياب الفيلة عن المسلمين فازدادوا إقداما وازدادوا للفرس توهينا.
ويضيف المؤرخون أن بني عم القعقاع جللوا إبلا وبرقعوها، ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فكان أثرها فيهم يومئذ كأثر الفيلة في العرب يوم أرماث؛ فقد ولت خيل الفرس نفارا من منظرها، فركبتهم قوات المسلمين وأعملوا فيهم السيوف قتلا وبترا، وبلغت الحماسة من بعض الجند فاندفع خلال صفوف الفرس يريد قتل رستم، فلما كان على مقربة منه موشكا أن يضربه بسيفه تعرض له من الفرس من قتله وأنقذ رستم من يده، وكذلك تنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه، فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته، فلما تنصف الليل لم يكن للفريقين بد من أن يرجع كل إلى عسكره يعيد تنظيم صفوفه ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر.
يطلق المؤرخون على هذا اليوم الثاني من أيام القادسية اسم أغواث، ويحسب بعض المستشرقين أنهم اختاروا له هذا الاسم؛ لأن القعقاع أغاث فيه جيش سعد بمن جاء بهم من الشام، وليس من اليسير إقرار هذا التفسير إلا أن نجد لسائر أيام الغزاة تفسيرا من نوعه، وقد رأينا أن يوم أرماث لا يمكن أن يكون له مثل هذا التفسير، أما الليلة التي انقضت بين يوم أرماث ويوم أغواث فيطلق المؤرخون عليها اسم ليلة الهدأة، كما أنهم يطلقون اسم السواد على الليلة التي تلت يوم أغواث.
بلغ من اغتباط المسلمين بيوم أغواث أن باتوا على إثره ينتمي كل منهم إلى قبيلته، وبلغ من اعتباط سعد به واطمئنانه إلى قوة المسلمين بعده أن قال لبعض من عنده حين عزم النوم: «إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم من السوء.»
اطمأن سعد ونام، أما القعقاع بن عمرو فبات ليله يسرب أصحابه الذين جاءوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح يوم أغواث، وقد أمرهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة على نحو ما فعلوا في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عتبة وجاء بمن معه يشارك في المعركة فذاك، وإلا جددوا للناس رجاء في المدد، فزادهم هذا الرجاء إقداما في الحرب وإيمانا بالفوز فيها.
أصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين من القتلى والجرحى ألفان من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ودفن كل جيش قتلاه، ونقل الجرحى إلى حيث يعنى بهم، وكانت نساء المسلمين يعنين بالجرحى ويمرضنهم، ويبذلن من صنوف العناية ما يرفه عنهم وما ينسيهم ألمهم، بذلك اشتركن في هذه المعركة الحاسمة، فكان لهن فيها فضل سجله الشعراء وخلدته كتب التاريخ.
ووقف القعقاع في المؤخرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل وكبر وكبر الناس معه وقالوا: جاء المدد، وأدرك هاشم بن عتبة وجنوده رجال القعقاع، فلما عرف ما صنع صاحبه جعل رجاله فرقا، وأمرهم أن يتلاحقوا دراكا، فلا تسير فرقة حتى تغيب الأخرى عن نظرها، وسار هو على رأس الفرقة الأولى ومعه قيس بن هبيرة، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم للقتال، فلما رآه الناس ورأوه كبر، كبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو بأسهمه، ثم عاد فكرر فعلته، فلم يجرؤ أحد على مصاولته.
لم يضعضع المدد الذي جاء المسلمين من عزيمة الفرس؛ فقد أصلحوا توابيت فيلتهم واقتحموا بها المعركة منذ طلعت الشمس، وهم موقنون أنها ستفتك بالمسلمين أكثر مما فتكت بهم يوم أرماث، وقد اتخذوا حيطتهم لكي لا يصنع المسلمون بها مثلما صنعوا ذلك اليوم حين قطعوا وضنها وقلبوا توابيتها وقتلوا رجالها ونخسوها فولت مدبرة فأحاطوها بفرسان يحمونها، وأنست الفيلة إلى هؤلاء الحماة فلم تفتك بهم، لكنها لم تفتك كذلك بعدوهم، ذلك أن الفيل إذا كان وحده كان أوحش، فإذا أطاف أصحابه به كان آنس، وقد شد فرسان المسلمين على حماة الفيلة من العجم فكانت المعركة تدور حول الحيوانات الضخمة فتذرها في حيرة لا تدري من تضرب ومن تدع؛ لذا ظل القتال على شدته سجالا بين الفريقين؛ يتقدم العرب تارة فيردهم الفرس، ويتقدم الفرس تارة فيردهم العرب، ثم يزداد الفرس بأسا إذ يقدم عليهم من المدائن حرس يزدجرد مددا، فلا ينهنه ذلك من همة العرب ولا يخفف من حر النزال.
على أن الفيلة ما لبثت حين ألفت الموقف واشتدت من حولها المعركة أن عادت إلى مثل فتكها يوم أرماث، ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب، فسأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها، فقالوا: إنها مشافرها وعيونها، فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو يقول: اكفياني الأبيض وكان هذا الفيل بإزائهما، وبعث إلى حمال والربيل، وكانا من بني أسد، يقول: اكفياني الفيل الأجرب، وكان بإزائهما، وكان هذان الفيلان أشد الفيلة ضراوة، وكانت الفيلة كلها تتبعهما، وترجل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فتراجع الحيوان من الألم ونفض رأسه، وطرح سائسه ودلى مشفره فضربه القعقاع بسيفه، وحمل حمال والربيل على الفيل الأجرب ففقأ إحدى عينيه وضربا مشفره، وصاح الفيلان، وارتد الفيل الأجرب إلى ناحية صفوف الفرس فخنسوه، فانقلب إلى صفوف المسلمين فوخزوه، فجعل يهرول ذهابا وجيئة بين الصفين وهو يصيح صياح الخنزير، ثم اندفع فوثب في النهر فاتبعته الفيلة كلها وقد ألقت ركبانها عن ظهورها وتخطت الماء وولت مدبرة ولم تعقب.
هنا اضطرب ميزان المعركة؛ فقد بدأت كفة الفرس فيها ترجح حين بدأت الفيلة تفرق كتائب المسلمين، فلما اضطربت الفيلة بين الصفوف وقف الجيشان ينظران إليها يحاولان ردها واتقاء شرها، فلما رأوها تعبر العتيق وتوليهم أدبارها، قويت عزائم المسلمين ورأوا في فرارها آية من آيات الله لنصرهم على عدوهم، أما الفرس فاعتدوا بعددهم وبالمدد الذي بعثه يزدجرد إليهم، فأعادوا تنظيم صفوفهم واستأنفوا القتال بحماسة زادها فرار الفيلة استعارا، وكذلك التقى الجيشان في صدام أي صدام، وظلا يقتتلان حتى أقبل الليل والغبار مخيم، فلا سعد يعلم ولا رستم يعلم لمن الدائرة وعلى من تدور.
أترى الجنود رجعوا إلى صفوفهم كما فعلوا أول من أمس؟ أتراهم واصلوا القتال جانبا من الليل ثم رجعوا كما فعلوا أمس؟ لا هذا ولا ذاك، بل واصل الجيشان القتال وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب جميعا ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم، وكأنما دار هذا الخاطر بأنفسهم من غير أن يكون لسعد أو لرستم في الأمر رأي، بل لقد حدث الأمر وليس يعرف أحد من المسئول عن حدوثه؛ فهي الأقدار قضت به ودفعت إليه، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له، ولا راد لقضائه.
والواقع أن القتال هدأ وطيسه حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه يتهيآن ليوم رابع أشد من أرماث وأغواث وعماس فتكا، لكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرا في جماعة من الجند وقال لهما: «إن وجدتما القوم قد سبقوكما إليها فانزلا بحيالهم، وإن لم تجداهم علموا بها فأقيما حتى يأتيكما أمري.» ولم يجدا على المخاضة أحدا، فسولت لهما نفساهما أن يخوضاها، وأن يأتيا الأعاجم من خلفهم، واختلفا كيف يفعلان، أخذ طليحة مكانه وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ارتاع لها أهل فارس، وظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وتعجب لسماعها المسلمون وظنوا أن الأعاجم فتكوا برجالهم فهم يكبرون مستغيثين، وأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يبق لديهم ريب في غدر العرب بهم فقدموا صفوفهم زاحفين، ورأى القعقاع صنيعهم! فزاحفهم من غير أن يستأذن سعدا، وأطل سعد من مجلسه بقديس وقد بدأ يحسب لزحف الفرس الحساب، فلما رأى القعقاع يزاحفهم قال: اللهم اغفر له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني! وقال لأصحابه إذا كبرت ثلاثا فاحملوا، لكنه ما لبث حين كبر الأولى أن رأى أسدا تزحف، والنخع تحمل، وبجيلة تندفع في الغمار، وكندة تتقدم، ورأى رحى الحرب تدور حول القعقاع، فاستغفر الله لهؤلاء جميعا ودعاه أن ينصرهم، وكبر الثانية والثالثة، فلحق الناس بعضهم بعضا، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم؛ فكان للسيوف قعقعة وصليل كصوت القيون، وكان المقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، وكان القتال يشتد أو يحمى وطيسه كلما تقدم الليل، وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، وسعد ورستم قد انقطعت عنهما الأصوات والأنباء فلا يعلمان من أمر ما يدور شيئا، ولا يملك سعد في مرضه غير الدعاء يقبل عليه في ضراعة وابتهال أن ينصر الله جنده، ولم يغمض لسعد، كما لم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن، فلما بدأ الصبح ينبلج عن الأفق نوره جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، عند ذلك اطمأن سعد إلى أنهم الأعلون، وأنهم آخذون برقاب الفرس أخذا، وزاده طمأنينة أن سمع القعقاع بن عمرو يرتجز:
نحن قتلنا معشرا وزائدا
أربعة وخمسة وواحدا
نحسب فوق اللبد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
الله ربي واحترزت عامدا
تنفس الصبح عن هذه الليلة الدامية الصاخبة، يسميها المؤرخون ليلة الهرير، ولما يكن النصر عقد لواءه لأحد الفريقين، أفأحس الجند الجهد بعد أن قضوا أربعا وعشرين ساعة في قتال أعنف قتال، فآن لهم أن يريحوا ظهورهم وأن يناموا؟! كلا! بل سار القعقاع في الناس يقول: «إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا؛ فإن النصر مع الصبر.» واجتمع إليه جماعة من الرؤساء ومعهم جنودهم، فصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه، ورأت القبائل صنيع المهاجرين والأنصار، فقام فيهم رؤساؤهم يشيرون إلى هؤلاء المسلمين ويقولون: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ويشيرون إلى الفرس ويقولون: ولا هؤلاء أجرأ على الموت منكم، وحملت القبائل على من بإزائهم في قتال شديد ظل متصلا حتى قام قائم الظهيرة، عند ذلك بدأت صفوف الفرس تضطرب؛ تراجع الفيرزان والهرمزان في المجنبتين فانفرج القلب، وهبت ريح دبور عاصف، فأطارت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وزحف القعقاع بمن معه إلى السرير فبلغوه، فإذا رستم قد قام عنه إلى بغال قدمت عليه بمال، فوقف بجوار أحدهما يستظل بحمله واندفع رجال القعقاع إلى ناحية النهر، وهم لا يعلمون بأمر المال تحمله البغال ولا بأمر رستم واحتمائه بظلها، فضرب هلال بن علقمة أحدها فقطع حبال الحمل الذي تحته رستم، فوقع عليه أحد العدلين فكسر فقاره وهلال لا يشعر به، وزحف رستم وألقى بنفسه في النهر، فرآه هلال فعرفه، فاقتحم النهر وراءه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم صعد سريره يصيح: قتلت رستم ورب الكعبة! إلي! إلي! وأطاف الجند به يكبرون ويهللون، وعرف الأعاجم ما أصاب قائد الفرس الأعظم فأسقط في أيديهم، فوهنت قوتهم وانهد ركنهم! فقام فيهم الجالينوس يدعوهم إلى عبور النهر على الردم كما عبر الفيرزان والهرمزان، ولكن الردم انهار بهم في النهر المتدافع التيار، فغرق بانهياره ثلاثون ألف فارسي مقترنين بالسلاسل، وأخذ ضرار بن الخطاب علم الفرس الأكبر - درفشكابيان - وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف، وكذلك انهزمت جيوش يزدجرد شر هزيمة، وانطلقت فلولهم يولون الأدبار لا يعقبون.
مع ذلك أمر سعد فخرج القعقاع وشرحبيل يتعقبانهم، ثم اتبعهما زهرة التميمي والناس من ورائه، وأدرك زهرة الجالينوس يجمع المنهزمين فقتله، وجعل المسلمين يقتلون من يلونهم من الفرس ويأسرونهم، فلا يلقون منهم أية مقاومة، بل إن بعض الروايات لتذهب إلى أن الجند المسلمين كانوا يأمرون المنهزمين بأن يقتل بعضهم بعضا فيفعلون، ذلك أن الفرس تحطمت روحهم المعنوية فلم يبق فيهم عصب لمقاومة، لقد رأوا القتل يصيب من ثبت منهم، ورأوا قوادهم يفرون، فألقوا بأيديهم واستسلموا، فكان الشاب من جند المسلمين يسوق العشرات منهم فيسيرون أمامه منكسة رءوسهم وكأنهم قطيع من النعم، لا إرادة لهم ولا رجاء يحركهم إلا الإبقاء على حياة عار ومذلة، أما الذين أنجاهم الفرار، فتفرقوا وكل واحد منهم يحس أنه أدرك بالفرار كبرى أماني الحياة.
هذا نصر حاسم أحرزه المسلمون، فتوجهم فخارا، ودفع نساءهم وصبيانهم حين عرفوا أمره أن يندفعوا إلى ميدان المعركة ليشاركوا فيه، روي عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي أنها قالت: «شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوى ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك ونصرفهم به.» وكذلك اشترك المسلمون جميعا، رجالا ونساء وصبية، في هذه المعركة العنيفة الفاصلة التي جعلت كلمة الذين آمنوا العليا، وكان لها من الأثر في قيام الإمبراطورية الإسلامية ما كان لغزوة بدر من الأثر في قيام الإسلام.
ولم يضن المسلمون بثمن ليدركوا هذا النصر المؤزر، لقد رأيت فعالهم المجيدة، ورأيت من بلاء أبطالهم ما كان القعقاع بن عمرو مثلا بارزا فيه، وقد رأيتهم كيف أرخصوا دماءهم وأرواحهم في سبيل النصر فجزاهم الله الحسنيين، قتل منهم في الساعات الثلاثين التي انتهت إلى الظفر ستة آلاف، وقتل يومي أرماث وأغواث ألفان وخمسمائة، وهذا العدد من القتلى كان مما يفوق تصور العرب لذلك العهد، لكنه لم يكن شيئا بالقياس إلى من قتل من الفرس في حومة الوغى، ومن غرق منهم في النهر حين الهزيمة، ومن تردى بعد ذلك قتيلا حين الفرار.
رجع القعقاع وزهرة وسائر الأمراء والجند فأحاطوا بسعد، فألفوه خفف النصر بعض علته، وجمع الناس الأسلاب والأموال، فإذا شيء لا يحيط به خيال عربي، وأرسل سعد إلى هلال بن علقمة فسأله عن رستم وقال له: جرده إلا ما شئت، فلم يدع هلال على القتيل شيئا إلا أخذه، فبلغ ذلك سبعين ألفا، ولولا أن قلنسوته سقطت في النهر لضاعف ذلك حظ هلال، وجاء زهرة بن الحوية بسلب الجالينوس، فاستكثر سعد أن ينفله إياه كاملا فكتب إلى عمر في ذلك فرد عليه عمر: «تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلي به، وقد بقي عليك من حربك ما بقي، تفسد قلبه، أمض له سلبه وفضله أصحابه عند عطائه بخمسمائة.»
وقسم سعد الفيء في الناس، فكان عطاء الفارس ستة آلاف والراجل ألفين، ثم فضل أهل البلاء فزاد كل واحد منهم خمسمائة، مع ذلك بقي من الفيء شيء كثير غير الخمس الذي نحاه سعد ليبعث به إلى المدينة، وكتب سعد إلى عمر بما فعل، وسأله عما يفعل بما بقي عنده، فكتب إليه عمر: «أن رد على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ممن لم يشهد الواقعة.»
5
ونفذ سعد أمر عمر، فبقي لديه ما اضطره أن يبعث إلى عمر يسأله عما يفعل به، وأمر عمر أن يوزع على حملة القرآن، وإنه ليوزعه عليهم إذ أتاه عمرو بن معدي كرب وبشر بن ربيعة الخثمي وكانا أبليا في الموقعة بلاء ضاعف جزاءهما، وهذا البلاء هو الذي أطمعهما في أن يكون لهما حظ مع حملة القرآن، وسأل سعد عمرو بن معدي كرب: ما معك من الله تعالى؟ قال عمرو: إني أسلمت باليمن ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبى سعد أن يجعل له من مال الحفاظ نصيبا، وسأل بشرا عما يحفظ من القرآن، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم! وضحك القوم ولم يفز بشر من هذا المال بنصيب.
أوتحسب الفارسين رضيا جواب سعد أو سكتا قانعين؟ كلا، بل قال عمرو:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد
قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن على نفذ
ولا سوية إذ تعطى الدنانير
وقال بشر بن ربيعة:
أنخت بباب القادسية ناقتي
وسعد بن وقاص علي أمير
وسعد أمير خيره دون شره
وخير أمير بالعراق جرير
تذكر هداك الله وقع سيوفنا
بباب قديس والمكر عسير
عشية ود القوم لو أن بعضهم
يعار جناحي طائر فيطير
6
وكتب سعد إلى عمر بقصة عمرو وبشر وما قال لهما وردهما عليه، وبعث إليه بأبياتهما، فكتب عمر إليه: أن أعطهما على بلائهما، فأعطى كل واحد منهما ألفي درهم أرضتهما ولم تغضب أحدا؛ فقد عرف الناس جميعا أنهما، إلى حسن بلائهما، أحرص على المال من غيرهما.
وكذلك انتهت المعركة إلى ما رأيت من نصر حاسم، حين كان الناس في كل الأرجاء من شبه الجزيرة يتطلعون ببصائرهم وقلوبهم إلى ناحيتها، وهم على أحر من الجمر شوقا لمعرفة أنبائها، يقول المؤرخون: «كانت العرب، من العذيب إلى عدن أبين، ومن الأبلة إلى بيت المقدس، يتربصون وقعة القادسية، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وقد بعث أهل كل بلدة قاصدا يكشف ما يكون من خبرهم.» وكان عمر بن الخطاب أشد الناس تطلعا وشوقا لمعرفة ما تنتهي إليه؛ لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى أهله ومنزله، وإنه ليسير يوما إذ لقيه راكب على ناقة عرف حين سأله أنه مقبل من هناك، فقال له: يا عبد الله حدثني، قال الرجل: هزم الله المشركين، وجعل عمر يخب معه يسأله والراكب يحدثه وهو على ناقته لا يعرفه، وكان هذا الراكب سعد بن عميلة الفزاري رسول سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين، وكان يحمل رسالة سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من أصيب من المسلمين وأسماء من عرف منهم، فلما دخل الرجلان المدينة وسلم الناس على عمر بإمرة المؤمنين، قال ابن عميلة: هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين! وأجابه عمر في بساطة: لا بأس عليك يا أخي! وتناول منه كتاب سعد وقرأه على الناس.
بينما كان عمر يتلو على أهل المدينة كتاب سعد بالفتح، كان يزدجرد بالمدائن قد كرثته الأنباء، فأكب يستعيد أقوال رستم وما كان يشير به فيتولاه الحزن ويقعد به الهم دون التفكير فيما يستطاع عمله ... وماذا يستطيع هو، وماذا تستطيع فارس كلها؟! لقد انطلق المسلمون في وادي العراق من أعلاه إلى أسفله، فعاد الناس جميعا إلى طاعتهم معتذرين عن ولائهم للفرس بأنهم غلبوا على أمرهم، كان سعد يعذرهم تألفا لهم وحرصا على أن تسود الطمأنينة ربوعهم، بل لقد أقبل عليه من قبائل العرب المنتشرة فيما بين النهرين من ذكر أن إخوانهم الذين سبقوهم إلى الإسلام كانوا أوفر منهم عقلا وأكثر حكمة، ثم أعلنوا بين يديه إيمانهم بالله ورسوله، ماذا يستطيع يزدجرد إزاء ذلك كله وقد كانت تبلغه أنباؤه فتزيده هما على همه وتدفع اليأس إلى نفسه، لولا أن أبقت حمية شبابه سرابا من الأمل يلمع أمامه فيخدعه عن الواقع، ويغريه بالتعلق بعرش حرمه صبيا، فلما اعتلاه تزلزلت قوائمه، وتزعزعت أركانه! وهيهات لسراب أن يحقق أملا، أو يدفع للقضاء حكما! •••
هذه وقعة القادسية التي فتحت الطريق إلى إيوان كسرى في عاصمة ملكه، ومهدت للإدالة من دولته والقضاء الأخير على سلطانه؛ لذلك روى أكثر المؤرخين من تفاصيلها ما روت كتب السيرة من تفاصيل غزوة بدر، وأضافوا إليها من الخوارق ما لا يحمل على تصديقه إلا ما كان لهذه الغزوة من أثر حاسم في تاريخ العالم، بل لقد أسهب المستشرقون والفرس في روايتها ما أسهب المؤرخون المسلمون، وليس في ذلك من عجب والقادسية أعظم أثرا في تاريخ الإنسانية من غزوات تيمورلنك ونابليون، بل من كل الغزوات التي وقعت إلى عصرنا الحاضر وكان لها في توجيه الحضارة أبلغ الأثر.
من الحق على المؤرخ، وذلك شأن القاسية، أن يقف عندها يستشف أسرارها ويستخلص عبرها، لقد فتح خالد بن الوليد سواد العراق وسار فيه من جنوبه إلى شماله، وأخضع ريفه ومدنه، وتولى كل أمره، وكان له في قتال الفرس عليه معجزات باقية على التاريخ، أفيرجع ظفره بهم إلى تشاغلهم بما كان في بلاطهم من اضطراب، وما كان بين أمرائهم من تنازع على العرش جعلهم يقتتلون، فيقتل بعضهم بعضا غيلة حينا وجهرة حينا، حتى لقد جلس على هذا العرش تسعة ملوك في أربع سنوات؟ إن يكن ذلك هو الذي أظفر خالدا بهم، فكيف ظفر به أبطال القادسية، وقد اجتمعت كلمة فارس بعد شتات، وقد تعاقد الأمراء والرعية جميعا على أن يكونوا رجلا واحدا حول يزدجرد ينصرونه ويؤازرونه؟ نعم كيف بقيت العلة وقد انتفى سببها، وكيف ظفر المسلمون على قلتهم بالفرس على كثرتهم، والفرس في بلادهم وهم أصحاب العدة والحضارة، والمسلمون طارئون عليهم، وأكثرهم بدو على فطرتهم، لا يملكون من عدة الحرب ما يملك عدوهم، ولا يعرفون من أساليبها ما يعرف!
السر في ذلك أن اجتماع كلمة الفرس لم يغير ما بأنفسهم، وإنما كان أمرا ظاهرا قضت به ضرورات الساعة، ثم بقيت القلوب في أعماقها شتى، وبقي السادة والأمراء يفكر كل منهم في نفسه وفي مطامعه قبل أن يفكر في وطنه، فلو أنهم انتصروا على العرب وأجلوهم عن بلادهم، لعاد الأمر كما كان، ولاضطرب البلاط كرة أخرى، ولطغت المطامع الذاتية على كل اعتبار سواها، ألم تر إلى رستم كيف تلكأ فلم يخرج على رأس الجيش إلا كارها مخافة ثورة الشعب به إذا خرج يزدجرد مكانه! ألم تر إلى تباطئه وتباطؤ سائر القواد في السير حتى قضوا أربعة أشهر منذ فصلوا من المدائن إلى أن بلغوا القادسية! والواقع أن رستم لم يكن يرى في النجوم إلا ما كان مرتسما في قرارة فؤاده، لقد استولى عليه حب نفسه فعز عليه أن يهزم أو يقتل، فرأى مصير وطنه مرتبطا في النجوم بما يخاف من هزيمته ومقتله، ولو أنه عرف فارس ونسي نفسه ورأى موته وحياته سيين في سبيل وطنه، لما تعلل ولا تباطأ، ولما رأى في النجوم ما رأى، ولسما بروحه فوق الخوف وفوق الإشفاق، ولسرت منه إلى القواد والجند قوة تجعلهم جميعا يخوضون غمار الموت لا يبالونه، لكن القواد والجند كانوا كرستم تعلقا بذواتهم وإشفاقا مما يصيبهم، فكانت روح كل واحد منهم أعز عليه من فارس ومن كل ما فيها، وإنما كانوا يسيرون إلى المعركة تحرك الرؤساء أطماعهم وأهواؤهم، ويحرك الجند إذعان ومذلة ألفوها أجيالا طويلة، أترى ما تقضي به ضرورة الساعة من اجتماع الكلمة كافيا ليقضي في النفوس على هذه العوامل الكمينة التي تأصلت فجعلت كل رجل في الدولة يعيش لذاته، وكل جماعة فيها لا تفكر إلا في مصالحها؟
وكان من أثر هذه العوامل أن قضت في النفس الفارسية على فكرة المثل الأعلى تعيش الأمة من أجله وتجاهد في سبيله، والناس إذا لم تجتمع على مثل أعلى مصور في رسالة يريدون صادقين تحقيقها، لم يهزهم للجهاد دافع غير حب الذات والمحافظة على الحياة، وكان هذا شأن السادة الأمراء في فارس، وشأن يزدجرد نفسه، أورثه حب الذات حرصا على العرش أكبر من حرصه على حرمة بلاده، كما أورث حب الذات السادة والأمراء حرصا على مطامعهم غشى في نفوسهم على كل ما سواه، وسرى هذا الروح في الأمة الفارسية كلها، فأورث أهلها الخضوع والرضا بحياة الذلة، وقد خدعت عما بها من ذلك حين غلبت الروم وانتزعت من أيديهم الشام ومصر، ونسيت أن الروم كانوا كالفرس تدهورا وانحلالا، فلما ردهم الروم على أعقابهم ظنوا الحرب سجالا، وفاتهم أن القوة السليمة من العلل لا ترد على أعقابها، فإن ردت يوما فلعلة بها، ولم تعبأ فارس بغارات المسلمين أول ما شنوها، وحسبت أنهم لن يلبثوا أن يعودوا أدراجهم هيبة لاسم فارس وإعظاما لبأسها، فلما رأت ظفرهم بها وقهرهم لها، تفتحت منها الأعين، ولكن لترى هزائمها وزوال ملكها.
أفيغني جيش انحلت قوته المعنوية هذا الانحلال إذا وقف بإزاء جيش كملت فيه هذه القوة، فهو يجاهد في سبيل مثل أعلى يؤمن به ويرى الموت في سبيله شهادة يتقدم بها إلى ربه، فتفتح له أبواب الجنة يدخلها خالدا في نعيم مقيم ورضوان من الله سرمدي! وقد اجتمعت كلمة المسلمين حول هذا المثل الأعلى فوهبوا أنفسهم لله في سبيله، واستحبوا الموت على الحياة لتحقيقه، فكانوا بذلك قوة من قوى القدر هيأها ليرد الإنسانية بها إلى الصراط السوي، وألقى عليها رسالة يجب أن يسمع العالم لها محافظة على حياته.
مثل هذه القوة لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
لهذا فرت فيلة الفرس أمامها، وتداعت صفوفهم لبأسها، وولى جمعهم مدبرا من خشية أبطالها، فانفسحت لها السبل تذيع عن جانبيها رسالتها فيقبل الناس على هذه الرسالة طائعين، وقد رأوا قوة الحق ماثلة في كل كلمة من كلماتها، وكل عبارة من عباراتها، ثم رأوها تدفع الباطل فيزهق، إن الباطل كان زهوقا.
هذا هو السر في ظفر المسلمين بالفرس في غزوة القادسية، أما العبرة التي تستخلص منها فخير ما يعبر عنها قوله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وقد غير الإيمان بالله ورسوله ما بأنفس المسلمين، وهداهم إلى الحق الذي تقوم الحضارة الفاضلة على أساسه، فعزوا بالإسلام وأعزوه، أما الفرس والروم فظلوا أشد حرصا على متع الحياة ولينها منهم على المبادئ السامية التي تجعل للحياة الإنسانية قيمتها ومعناها، وتجعلنا لذلك حقيقين أن نحياها فأذلهم المتاع ولينه، ولم يغن عنهم شيئا.
غير المسلمون ما بأنفسهم حين آمنوا بالله ورسوله، فاجتمعوا حول مثل أعلى صوره الله في رسالته إلى نبيه، فأصبح المسلمون بفضل هذا الاجتماع أمة واحدة، وصار كل واحد منهم في هذه الأمة كالعضو في الجسد، لا قوة له بذاته، بل بقوة الجسد كله، بذلك صار كل رجل من أبناء الأمة، وكل امرأة من نسائها، قوة يجذبها المثل الأعلى إليه، ويدفعها قوية للمغامرة في سبيله، ويسمو بها إلى حيث لا تعرف الضعف ولا التراجع ولا الهزيمة، بل تؤثر الموت الكريم على الموقف الشائن، أرأيت إلى طليحة بن خويلد الأسدي كيف كان ضعيفا أمام خالد بن الوليد في حروب الردة، وكيف كان قويا بالغ القوة على الفرس في القادسية! وهل رأيت كيف انهزم عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس في ردتهما أمام جند المسلمين، وكيف أبليا في القادسية بلاء ذكره لهما الذاكرون! ذلك أن طليحة كان يوم تنبأ قوي الشكيمة ضعيف الإيمان، فلم تغن قوة شكيمته عن ضعف إيمانه، وكذلك كان عمرو بن معدي كرب والأشعث بن قيس وسائر الذين ارتدوا وحاربوا المسلمين، فلما عادوا إلى الإسلام وصاروا فلذة من الأمة التي اعتزت بإيمانها، زادهم الإيمان قوة على قوتهم، فكان لهم من الفعال في القادسية ما رأيت، وكان لهم بعد القادسية من فعال البطولة والمجد ما خلده التاريخ.
وكان أمير المؤمنين من هذا الجسد بمكان الرأس، يدبر أمور الجميع لخير الجميع، ويجد السعادة في أن يشقى ليسعد الجميع، وقد تأسى عمر في هذا الأمر برسول الله ثم بأبي بكر، فكان مثلا عاليا بعدله وحزمه وإيثاره كل رجل من أبناء الأمة على نفسه، وإيثاره خير الأمة على خير أي من أفرادها بذاته، رأى الخير بعد القادسية في أن يرد الخمس من المغانم على المحاربين فرده، ورأى أن يجزل سعد العطاء لأهل البلاد ففعل، ورأى أن يتألف أهل العراق ممن اعتذروا عن انتقاضهم على المسلمين فتألفهم سعد، ولم يغضب أحد من أهل المدينة لشيء من هذا وفيه ما فيه من حرمانهم؛ لأنهم رأوا أمير المؤمنين يريد الخير للإسلام كله، ورأوه يستشيرهم فيما جل ودق من أمره، وخير الإسلام خيرهم، وإنكار الذات بعض ما أمرهم الله به؛ لذلك أعانوا عمر على ما فعل، فجزاهم الله بعد ذلك عنه أضعافا مضاعفة.
هذا بعض ما في القادسية من سر وعبرة، وهذا السر وهذه العبرة هما اللذان شادا بفضل الله للإسلام إمبراطوريته ومجده، فلنتابع بناة هذه الإمبراطورية والذين رفعوا لواء هذا المجد، ولنسر معهم؛ فإنهم لن يلبثوا أن يسيروا إلى المدائن فيفتحوها، ولن يلبث سعد أن يجلس على إيوان كسرى بعد أن فر عنه صاحبه مودعا إياه الوداع الأخير.
7
هوامش
الفصل التاسع
فتح المدائن
فر الفرس بعد القادسية فرار النعام، فبلغ الجانب الأكبر منهم أطلال بابل، وتفرق الآخرون في أرجاء فارس، أما المسلمون فأقاموا بالقادسية شهرين حتى أراحوا ظهورهم وأبل سعد من مرضه، وكان عمر قد كتب إلى سعد ألا يبرح منازله حتى يأتيه أمره، فلما اطمأن إلى أنباء الجند وأمدهم، أمر سعدا بالسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق، على أن يجعل معهم كثفا من الجند يكون لهم حظ سائر الجند من المغنم جزاء حمايتهم عيالات المسلمين.
وقدم سعد زهرة بن الحوية فسار إلى الحيرة ونزلها، فلما بلغها عبد الله بن المعتم وشرحبيل بن السمط عاود سيره إلى المدائن، ولقيه في أثناء مسيرته جمع من الفرس ببرس
1
فهزمهم ففروا ينضمون لمن سبقوهم إلى بابل، وعرف زهرة نبأ الذين اجتمعوا ببابل من فلول القادسية فكتب إلى سعد به إذ كان بالحيرة مع هاشم بن عتبة، وسار سعد يريد بابل، فلقي الفيرزان فهزمه في أسرع من لفت الرداء، وفر الفيرزان إلى نهاوند، والهرمزان إلى الأهواز، ومهران إلى المدائن، وتقدم جند المسلمين، فلقيهم شهريار بكوثي فقتلوه وهزموا أصحابه، ونفل سعد سلب شهريار لمن قتله، وتقدم زهرة بن الحوية إلى ساباط، فصالحه أهلها على الجزية، وذلك حين عرفوا أنه هزم الجند الذي اعترضه فيما بين سورا والدير وقتل قواده، وكذلك كانت جنود المسلمين تسير في أرجاء السواد فلا تلقى مقاومة تذكر، وكان المدنيون يهرعون من كل صوب إلى أمراء هذه الجنود بالطاعة، يعلن فريق منهم إسلامه، ويرضى فريق أداء الجزية، وينزل الجميع على حكم هؤلاء الذين غزوهم وأقاموا العدل بينهم، ثم جلوا عنهم حين فصل خالد بن الوليد إلى الشام، ها هم أولاء يعودون إليهم في قوة بددت كل أمل في جلائهم مرة أخرى، من ذا يجليهم وقد هلك رستم وتضعضعت الروح المعنوية في نفوس الفرس جميعا! إنه إذن الإذعان لقضاء قضاه الله فلا مرد له، ولن يقدر عليه أحد.
أقام سعد ببابل، وقدم زهرة بن الحوية على رأس قوة تسير إلى المدائن، ترى هل أثارت أطلال بابل في نفوس سعد والذين نزلوها ذكر المدينة القديمة التي شهدت حضارة الإنسانية الأولى متداولة بينها وبين طيبة ومنفيس وعالم الفراعنة الأولين؟! وهل تراهم ذكروا عهد الآشوريين وثقافتهم وما كان لبابل في عهدهم من جلال وعظمة بأسوارها المنيعة، ومعابدها الضخمة، وأبراجها الحصينة، وحدائقها المعلقة، وقصورها الفخمة مهد الترف والنعمة والجمال والدلال؟ هم لا ريب قد ذكروا برج بابل، وذكروا تداول الأمم الطارئة عليه، حتى أصبح مضرب المثل لكثرة اللغات التي يتكلمها من نزلوه أسارى أو فاتحين، ولكن لعل ما ذكروه من أمر البرج ومن أمر المدينة نفسها لم يتعد حديثا يتداولونه أويقات سمرهم، فقد كانوا في شغل بما هم مقبلون عليه من فتح المدائن، والمدائن عامرة، وبابل أطلال، والمدائن عاصمة الفرس، وبابل لم تبق عاصمة ولم تبق مدينة، والمدائن عنوان الحياة، وبابل أثر دارس لعهد مضى، والناس يتعلقون بالحاضر وقلما يتخذون من الماضي عبرة، وأكثرهم لا يلتمسون العبرة ما بسم لهم وجه الحياة، فإذا تجهم وجه الحياة وانقبض، ذكروا العهود الخوالي لعل فيها ما يأسو كلوم الحاضر. وقد كان وجه الزمان باسما للمسلمين أي ابتسام، فما لهم ولبابل والآشوريين الذين أصبحوا أحاديث، وهم يرون من حولهم حياة زاخرة، وكنوزا ثمينة، وشعبا لا يلبث حين يسمع باسمهم أن يهرع إليهم بالطاعة، ويلتمس عندهم العفو والمغفرة.
بل إن منهم لمن ذكروا لمرأى بابل فعال المسلمين بها يوم عسكر المثنى بن حارثة على مرتفع من أطلالها، وأقام بين شبكة من جداول دجلة ينتظر هرمز جاذويه وهجومه عليه، ذكر هؤلاء ذلك الموقف العصيب الذي فجأهم بعد مسيرة خالد إلى الشام، وارتقاء شهريران بن أردشير عرش كسرى واعتزامه طرد العرب من بلاده، وذكروا كيف قتل المثنى فيل هرمز، وكيف هزم الفرس وتعقبهم حتى قاربوا المدائن، وتحدث هؤلاء بما شهدوا من ذلك إلى أصحابهم الذين جاءوا مع سعد من المدينة، والذين انضموا إليه من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة، وذكروا لهم أن هذا السواد الذي يسيرون فيه بين غدران مترعة ومزارع واسعة وحدائق يانعة، قد خضع لسلطانهم، فأكلوا من خيراته، وأرسلوا إلى المدينة ما استطاعوا أن يرسلوه من ثمراته.
فبابل وسائر الأماكن التي يمر المسلمون بها كانت بعض ما فتحوا وحكموا، كانت القادسية في يدهم، وكانت الحيرة مقر إمارتهم، وكانت برس وكوثي وغيرهما من الريف والقرى تدين لهم، وكانت المدائن مطمح أنظارهم، فهم اليوم يمرون بأماكن لكثيرين منهم فيها ذكريات رفاهة ونعمة، وإنما الفرق بين أمسها ويومها أنها كانت لهم بالأمس مستقرا وكانوا فيها سادة حاكمين، وهي اليوم ميدان فتح جديد، فهم ينتقلون من واحدتها إلى الأخرى متجهين شمالا بشرق من القادسية إلى الحيرة، إلى برس، إلى بابل يريدون ساباط والمدائن وهم يجدونها اليوم أهون أمرا مما كانت من قبل بعد أن فت الوهن في أعضاد أهلها فأيقنوا أن لا مفر لهم من الله إلا إليه.
سار زهرة بن الحوية وهاشم بن عتبة يريدون المدائن، فلما كانا على مقربة من بهرسير لقيتهما بساباط كتيبة لبوران ابنة كسرى كان رجالها يحلفون كل يوم ألا يزول ملك فارس ما عاشوا، وكان مع هذه الكتيبة أسد تألفه كسرى، ولم تثبت الكتيبة للمسلمين أكثر مما ثبت جنود فارس ببرس وبابل، وكيف تثبت وقد رأت حظ الأسد كحظ الفيلة بالقادسية! فقد اندفع هاشم بن عتبة فضربه بالسيف ضربة جدلته قتيلا، هنالك فرت الكتيبة تحتمي ببهرسير، وأدرك سعد رجاله وعرف فعالهم، فقبل رأس ابن أخيه هاشم إكبارا لقتلة الأسد، وقبل هاشم قدم عمه تقديرا لعطفه، ثم رفع سعد رأسه إلى السماء شكرا لله، واتجه بعد ذلك بنظره إلى ناحية المدائن وتلا قوله تعالى:
أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال .
وجعل سعد أول الليل يفكر في موقفه من المدائن، أيهاجمها وجنوده لا تزال تهزمهم نشوة الظفر، فهم أشد ما يكونون حرصا على اقتحامها؟ أم يريحهم أياما ثم يسير بهم إليها؟ لكنه منه على مقربة؛ فإذا هو وقف دونها يغري وقوفه أهلها بالحرص على الذود عنها، الخير إذن أن يأخذهم على غرة؛ لذلك أمر بعد أن ذهبت هدأة من الليل فارتحل الناس حتى نزلوا على بهرسير.
وبهرسير ضاحية للمدائن، تقع على ضفة دجلة اليمنى، وتقع المدائن قبالتها على ضفته اليسرى؛ فهي لذلك جزء منها وإن فصلها النهر عنها، والمدائن كلها تقع على نحو عشرين ميلا إلى الجنوب من بغداد التي كانت يومئذ قرية ليس لها على غيرها من قرى دجلة أي امتياز.
وكانت المدائن عاصمة إيران منذ عهد بعيد، خلفت بابل ثم فاقتها جلالا وبهاء وعظمة، وقد ظلت ولها جلالها مع ما أصابها من غزو الروم إياها واستيلائهم غير مرة عليها، ومع ما كان من اضطراب بلاطها وقيام الثورات فيها؛ لذلك كانت الأبصار تشرئب من جوانب العالم إليها، وكان اسمها يبهر خيال الناس جميعا ويثير فيه من معاني الروعة والسحر ما لا يثيره اسم رومية ولا اسم القسطنطينية؛ فقد جمعت من معاني الترف الشرقي أبهى صوره وأكثرها وحيا لآلهة الفن وشياطين الشعر، لا عجب وذلك شأنها أن يسير المسلمون إليهم وكلهم شوق لما سيشهدون فيها مما لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا عجب أن يزيدهم هذا التصور حماسة وإقداما ليصبح ما ظنوه خيالا قد تجسم أمامهم حقيقة واقعة.
سار سعد بالناس إلى بهرسير والحماسة تهز الجند هزا؛ لذلك كانوا كلما قدمت خيل عليهم وقفوا ثم كبروا غير مرة، لكنهم ألفوا أهلها تحصنوا بها وأغلقوا دونهم أسوارها، فلا سبيل إلى اقتحامها، ولا مفر لذلك من حصارها.
وحاصرها سعد وهو لا يخشى أن يبغته أحد من خلفه، فقد بث الخيول فأغارت على ما بين دجلة والفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح جاءوا بهم أسرى، وحفروا الخنادق من حولهم، لكن هؤلاء الفلاحين لم يكونوا جندا محاربين، فلم يكن من أسرهم فائدة، ولم يكن في إطلاقهم من الأسر خطر؛ لذلك أشار شيرزاد دهقان ساباط على سعد فصرفهم إلى قراهم ليعملوا في الأرض ويكثروا من غلاتها، وكتب سعد إلى عمر بما صنع، فأقر الخليفة مشورة شيرزاد، فأمن أهل السواد من شواطئ دجلة إلى أرض العرب وأقاموا يفلحون الأرض، وأدى الدهاقين الخراج والجزية فازداد الفلاحون أمنا، وأقام سعد على حصار بهرسير وهو لا يخشى أن يبغت من خلفه، وهو مطمئن إلى أقوات جيشه.
ونصب المسلمون المجانيق وجعلوا يرمون بهرسير داخل أسوارها، ولم يهن الفرس لشدة هذا الرمي، فقد أيقنوا أنهم إن لم يردوا عدوهم عن مدينتهم انكشفت أمامه العاصمة وعظم الخطر عليها، وليس الدفاع عن بهرسير بالأمر العسير؛ فأسوارها قوية وحصونها منيعة، وجسر دجلة يصلها بالمدائن، وعلى هذا الجسر تجيء من أرجاء فارس المترامية أمداد لا تحصى وأقوات لا نهاية لها؛ لذا ثبتوا للحصار شهورا طوالا، يختلف المؤرخون أكانت تسعة أو ثمانية عشر شهرا، وفي أثناء هذا الحصار كانت قواتهم تتخطى الأسوار أحيانا تقاتل المسلمين لعلها تنزل بهم من الهزيمة ما يردهم على أعقابهم، لكن المسلمين كانوا لا يفتئون يظفرون بهذه القوات ويردونها إلى المدينة مجللة بالعار تحتمي بأسوارها، فلما طال الحصار واشتد بالفرس ما يصيبهم أخرجوا جيشا عليه من القواد من كانت للجند بهم ثقة أي ثقة، لكن هذا الجيش انهزم كذلك ورجع إلى المدينة، وفتت هزيمته في أعضاد الفرس وأدخلت في روعهم أن هؤلاء المسلمين لا غالب لهم.
وكانت أنباء الحصار والقتال تبلغ يزدجرد يوما فيوما، بل ساعة فساعة، فيتولاه الهم ويكاد يساوره اليأس، وطال ذلك به ورأى المسلمين بعد كل هذه الأشهر لا يهنون، ورأى وراءهم من ثراء العراق طعاما كرفغ التراب، ثم رأى الفرس يزداد تهافتهم وتضعف حماستهم، فأيقن أن بهرسير لا محالة صائرة إلى عدوه، عند ذلك بعث إلى سعد رسولا يعرض للصلح أن يكون دجلة حدا فاصلا بينه وبين العرب، «فلنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم.» لكن سعدا رفض مصالحة يزدجرد ورد رسوله، وكيف يصالحه وأمر عمر بفتح المدائن صريح لا لبس فيه! وكيف يصالحه بعد أن هزم جنده أهل بهرسير وأسروا منهم، وهم موشكون أن يقتحموا عليهم أسوارهم! ولم يكن الرسول قد بلغ يزدجرد ليبلغه رفض سعد بن أبي وقاص حين أمر بتشديد الحصار ومضاعفة الرمي بالمجانيق، ولم يجب أحد من بهرسير رماة المسلمين بنشابة ولا بسهم، فأيقن سعد أن حامية المدينة تخلت عنها، فنادى في الناس ونهد بهم ليقتحموها، وتسورها الرجال وفتحوا أبوابها فلم يجدوا بها من يرد عادية عليها، ولم يخرج إليهم منها إلا رجل نادى بالأمان علموا منه أن حامية بهرسير انتقلت إلى المدائن بأمر يزدجرد، وأنها أحرقت الجسر وجمعت كل السفن التي تجري فوق دجلة، ليبقى النهر بتياره المتدفع خط دفاع يرد الغزاة عن العاصمة العامرة.
دخل المسلمون بهرسير في جوف الليل، فلم يثنهم ذلك عن الاندفاع إلى ناحية دجلة يريدون عبوره إلى المدائن ليقتحموها كما اقتحموا ضاحيتها، ولم يجدوا الجسر يعبرون عليه ولم يجدوا سفنا تحملهم، فوقفوا على شاطئه، فرأوا أمامهم منظرا بهرهم، فأقاموا مبهوتين يحدقون فيه ملء عيونهم وملء قلوبهم ولا يكادون يصدقون ما يرون؛ بناء ضخم بالغ غاية الروعة والهيبة والفخامة يقوم أمامهم على الشاطئ الآخر إلى ارتفاع لم تألفه أبصارهم، ويميزه بياض لونه برغم دجى الليل المدلهم، ورق الليل وصفت السماء وسرى في الجو نسيم عذب زاده لطفا وزاد هذا المنظر الفذ روعة وجلالا؛ فأمسك الجند أنفاسهم وفتحوا عيونهم وأفواههم أن ملك الإعجاب عليهم كل حواسهم، وتلاحقت فرق الجند إلى النهر ووقفت على شاطئه تولاها البهر وكأنما سمرت في أماكنها، فلما أقبل ضرار بن الخطاب في زمرته، ورأى ما رأوا، نادى بأعلى صوته: الله أكبر! هذا أبيض كسرى! هذا ما وعد الله ورسوله! عند ذلك تعالت الأصوات بالتكبير من كل جانب وأيقن الناس جميعا أنهم بإزاء هذا الإيوان الذي طالما سمعوا به مذكورا في شعر الشعراء وأحاديث المحدثين، وجعلوا يكبرون حتى أصبحوا وكلهم الشوق ليعبروا إلى الإيوان، وليحيطوا به وليملئوا عيونهم منه وليدخلوه، وليروا تخت كسرى في بهوه العظيم، وليروا قائدهم جالسا عليه يعلن كلمة التوحيد فتجيبه الأصداء من كل جوانب القصر بأن صدق الله وعده، فكلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.
لم يكن عجبا أن يتولى المسلمين البهر لمرأى قصر كسرى؛ فقد كان هذا القصر عجيبة الأرض لذلك العهد، ولم يكن قدمه موضع العجب فيه، فقد كان يومئذ حديثا لم يمض على بنائه مائة عام؛ إنما كان جلاله وكانت عظمته موضع العجب، شاده كسرى أنوشروان، سنة خمسين وخمسمائة لميلاد السيد المسيح، طرازا بذ به أفخر عمائر الرومان والإغريق جميعا، كانت واجهته تزيد على مائة وخمسين مترا، ويربي ارتفاعه على أربعين مترا، وكانت القباب الجاثمة فوق أبهائه الخمسة تتوج بهاءه وجلاله، وتثير التطلع في نفوس هؤلاء العرب الذين شدت أبصارهم إليه عما عسى تحتوي هذه الأبهاء من ثراء وزخرف، إن بها لا ريب من ذلك ما يقصر الخيال دونه، وهذا البهو الذي يتوسطها، وتعلو قبته قبابها جميعا، هو لا ريب هذا الإيوان الذي لم يسمع الناس في العالم كله بشيء من مثله، أليست الأحاديث تجري عن تخت كسرى والجواهر الكريمة التي ترصع قوائمه بما يشبه الأساطير! والتخت والإيوان والقصر قائمة كلها أمام الجند لا يفصل بينهم وبينها إلا النهر وهي تزيدهم في كل لحظة بهرا، متى إذن يعبرون إليها ويرون رأي العين كل ما فيها؟!
بينما تدرو هذه الخواطر في نفوس المسلمين يغذيها خيالهم، ويزيدها منظر المدائن حياة وقوة، كان يزدجرد مشتت الخاطر يهيم على وجهه في أبهاء القصر وقد ركبته الوساوس من كل جانب، إن دجلة حصن طبيعي بسعة مجراه وتدفع تياره، وقد زاده في هذا الفصل سعة وزاده تياره تدفعا ذوبان الثلوج في أعالي الجبال التي ينبع منها بأذربيجان والموصل، ولا سبيل للمسلمين إلى تخطيه بعد أن جمعت السفن كلها إلى جانبه الشرقي، ألا تستطيع قوات الفرس أن تحمي شاطئه، وأن تدفع بذلك كل خطر عن العاصمة؟ هذا هو التفكير الطبيعي في مثل هذا الموقف، وكان جديرا بيزدجرد أن يتجه إليه، وأن يدعو قواده يدير معهم الرأي فيه، وأن يبعث من روحه الشاب إلى أرواحهم وأرواح الناس جميعا من أهل العاصمة حماسة للذود عن حرمتهم وعن كرامتهم، ولو أنه فعل لكان ذلك أقل ما يجب عليه لنفسه، ولأمة أسلمته زمامها، والتفت حوله للدفاع عن كيانها.
لكن اضطرابه أضل قلبه وأفسد تفكيره، وجعله يرى هؤلاء المسلمين جنا لا تقف قوة في سبيلهم ولا طاقة لأحد إلا بالفرار أمامهم، ومن أولى منه بأن يكون أمام الناس في هذا الفرار، نجاة بنفسه وبأهله! لذلك أمر رجاله فحملوا بيت ماله وما خف من متاعه وخزائنه، وحملوا النساء والذراري وخفوا بهم يقصدون حلوان، ورأى الناس ما صنع عاهلهم، فخارت عزائمهم واندفعوا يفكرون في النجاة بأنفسهم وذويهم، أليس الناس على دين ملوكهم! ولماذا يكون أهل الملك وجواريه أعز عليه من زوج الجندي أو القائد وأبنائهم عليه! بذلك انهارت روح المقاومة في أنفس الفرس، ولم يبق لهم أمل في غير الحظ يسعدهم فيجعل النهر أداة في رد الغزاة عنهم، أو يعثر بهم كرة أخرى فلا سلطان لهم عليه ولا سبيل إلى مقاومته.
وكذلك كان دجلة يجري بين جندين: جند تحطمت قواه فلم يبق له عزم ولا إرادة فألقى بيديه وترك للحظ مصيره، وجند سمت روحه المعنوية وبلغ من قوة الإيمان بالنصر حتى خيل إليه أن يضرب النهر بعصاه ينفرج فيه طريق يجتازه عليه إلى إيوان كسرى، هذه معجزة أتاحها الله لكليمه موسى ففر بها من مصر مع قومه، وسيتيح الله اليوم مثلها لجند المسلمين فيعبرون النهر ويقتحمون المدائن ويديلون دولة الأكاسرة، ويرفعون لواء الحق فوق الإيوان الأعظم.
نعم! هي معجزة تلك التي اجتاز المسلمون بها دجلة، لقد وقفوا على شاطئه ينظرون إلى تدافع مياهه، ويفكر سعد في الوسيلة إلى عبوره، فلا يسعفه التفكير بنافع، فأمر رجاله فجاءوه بعلوج من الفرس سألهم فدلوه على مخاضة في النهر تخاض إلى صلب الوادي، لكنه خشي عادية التيار على الجند، وهو حريص أن يبقي على كل رجل؛ لذلك تردد فلم يعمل بما أشاروا به، فلما كان الغد أتاه النبأ بأن يزدجرد أمر بخزائنه أن تحمل إلى حلوان، عند ذلك جمع الناس وقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه منه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.»
أية مفاجأة هذه التي فاجأ سعد بها رجاله! أولم يكن إلى أمس مترددا! ألا يخاف أن يتردد الناس فلا يقوون على أمر فيه من الخطر أهوله! لكن الناس لم يترددوا؛ فقد سحرهم مرأى المدائن أعظم السحر، وجذبهم قصر كسرى إليه بقوة دونها كل قوة، فهم يقدمون على المستحيل ليدخلوا العاصمة وليحيطوا بالقصر؛ لذلك لم يكد سعد يتم كلمته حتى قالوا جميعا: «عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.»
ولكن كيف يعبرون؟ وهبهم عبروا على خيولهم، فجند فارس على الشاطئ الآخر يصدونهم فلا يخرجون من الماء، تنبه سعد لهذا فندب الناس وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض
2
حتى نلاحق به الناس لكي لا يمنعوهم من الخروج؟! وانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستمائة من أهل النجدة، فأمر سعد عاصما عليهم، فساروا حتى بلغوا شاطئ دجلة قال عاصم لأصحابه: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولا في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟ وانتدب له ستون فارسا تقدمهم هو إلى حافة النهر وهو يقول للذين ترددوا: أتخافون من هذه النطفة! ويتلو قوله تعالى:
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ، ثم دفع فرسه فاقتحم النهر واقتحم زملاءه معه، ورأى القعقاع بن عمرو هذه الكتيبة الأولى تتقدم في سبحها، ومد بصره إلى الجانب الآخر من النهر، فرأى الفرس وكأنما يتهيئون للقائها، فأمر أصحابه الستمائة فدفعوا خيولهم إلى النهر فدخلوه كما دخله عاصم وأصحابه، وتولى الفرس العجب لما صنع عدوهم، فقال بعضهم: مجانين، مجانين! وقال آخرون: إنكم والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا!
وأقام الفرس ينظرون إلى هؤلاء المغامرين، فلما رأوا عاصما وأصحابه توسطوا النهر أرسلوا فرسانا ليمنعوهم من الخروج وليقاتلوهم في الماء، ودنوا من عاصم حين دنا من الفراض، فقال عاصم لأصحابه: الرماح، الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون، وارتدت خيول الفرس حين أصابت الرماح عيونها، فلم يملك فرسانها دفعها ليلقوا هؤلاء الذين خاضوا غمار الموت في لجة النهر لا يبالون ما يصيبهم، ولم يصب أحد من كتيبة الأهوال بأذى، بل خرج عاصم على رأسها إلى الشاطئ ففر الفرس أمامه، وأدركه القعقاع على رأس الكتيبة الخرساء فلم يبق على الشاطئ من الفرس أحد.
ورأى سعد بن أبي وقاص تحكم أصحابه في فراض المدائن، فأمر فرسانه فاندفعوا جميعا ألوفا مؤلفة إلى لجة النهر من حيث اقتحمه عاصم، وامتلأ النهر بالخيل، فلم يكن ماؤه في هذه الساعة ليرى، وأمر عاصم أصحاب الزوارق والسفن من الفرس فدفعوها إلى جانب بهرسير، فنقلت من جيش المسلمين من لم يعبر على جواده، فلما عبر سعد بالجيش كان أهل المدائن جميعا قد فروا، ولم يبق منهم إلا من تحصنوا بالقصر الأبيض ، ولم يقاوم هؤلاء، بل قبلوا أداء الجزية، وفتحوا أبواب القصر للمسلمين.
هذه معجزة من معجزات الحروب لا يكاد العقل يصدقها، فيقول ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن يتم وصفها: «وكان يوما عظيما وأمرا هائلا، وخطبا جليلا، وخارقا باهرا، ومعجزة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» وهذه العبارة للمؤرخ الإسلامي تصور شعوره وتصور شعورنا حين ترتسم أمامنا هذه الفعال الباهرة وهذا الإقدام فاق كل إقدام، وهل كلمة غير المعجزة تصح وصفا لهذه الأعمال؟ وأية معجزة كأن تقتحم كتيبة الأهوال النهر وعاصم على رأسها، وأن تقتحم الكتيبة الخرساء النهر والقعقاع على رأسها، ثم لا يخشى رجل في الكتيبتين أن يبتلعه الموج أو أن يرميه الفرس من الشاطئ الآخر بالنبال! لكنه الإيمان بالنصر يسمو بالنفس إلى حيث تصبح الحياة ويصبح الموت أمامها ألفاظا يتساوى مدلولها في سبيل الغاية التي تريد دركها، ولم يكن للمسلمين صبر على المدائن، فهم يريدون أن يقتحموها وإن بذلوا لفتحها كل ثمن، وإن بذلوا لفتحها مهجهم وأرواحهم؛ لذا قال الفرس حين رأوهم: إنا لا نقاتل إنسا بل نقاتل جنا لم يثبتوا لهذا الجن الذي جاءهم من خلل الموج وكأنه بعض قوى القدر التي تزلزل الأرض وتدك الجبال، أليست البراكين والصواعق من قوى القدر؟ كذلك كانت الكتيبتان، وكذلك كان سعد وسائر الجيش إذ اندفعوا إلى النهر فرقة بعد فرقة يحيلون لجة مائه خيولا وفرسانا، كيف لقوة أن تثبت أمام هذه القوة! وماذا يصنع الفرس، وقد انحلت قواهم وتحطمت روحهم، إلا أن يفروا أمام هذا الجن الذي جاءهم فملأ نفوسهم رعبا وفزعا! «هذه معجزة لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع.» تلك ألفاظ ابن كثير، ولولا أن تيمورلنك أتى بمعجزة مثلها إذ عبر جيشه النهر سابحا حين هاجم بغداد في العقد الأخير من القرن الرابع عشر المسيحي، لتردد بعضهم في تصديقها، بل إن البلاذري ليذكرها في شيء من الحذر، ويضيف إليها روايات يراها أدنى إلى أن تصدق، من ذلك رواية أبان بن صالح إذ يقول: «انتهى المسلمون إلى دجلة وهي تطفح بماء لم ير مثله قط، وإذا الفرس قد رفعوا السفن والمعابر إلى الجيزة الشرقية وحرقوا الجسر، فاغتم سعد والمسلمون إذ لم يجدوا إلى العبور سبيلا، فانتدب رجل من المسلمين فسبح فرسه وعبر فسبح المسلمون، ثم أمروا أصحاب السفن فعبروا الأثقال، فقالت الفرس: والله ما تقاتلون إلا جنا فانهزموا.» ومنه رواية أبي عمرو بن العلاء إذا يقول: «لم يجد سعد معابر فدل على مخاضة عند قرية للصيادين، فأخاضوها الخيل، فجعل الفرس يرمونهم، فسلموا غير رجل من طيئ لم يصب يومئذ غيره.»
أنت لا ريب ترى ما في هذه الروايات من احتياط يشعر بأن أصحابها يترددون في التسليم بالرواية التي سقناها وأجمع عليها الطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولكن هذا الاحتياط لا ينفي هذه الرواية ولا يثبت ما يعارضها، وإنما هو احتياط من يرى فيها عجبا يدعو إلى شيء من الشك فيها، ولو أن هؤلاء الذين تشككوا عاشوا إلى أواخر القرن الرابع عشر المسيحي وعرفوا أن تيمورلنك عبر دجلة بجيشه، كما عبر سعد بجيشه؛ لانقضى عجبهم وزال من نفوسهم كل شك في الرواية التي اجتمعت الأقوال عليها، بل لما رأوا عجبا فيما يدعو منها إلى العجب، ولأيقنوا أن سعدا «اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملئوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده ... وأن سعدا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد، ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشب لرجل كانت علاقته رثة فدفعه الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه ... وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات، فقال له سلمان: ذللت لهم والله البحور كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا أفواجا، فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق أحد ولم يفقدوا شيئا.»
وخرج جيش المسلمين من الماء تنفض خيوله أعرافها صاهلة، ودخلوا المدائن فلم يجدوا إلا من تحصن بالقصر، ذلك أن يزدجرد كان قد أخذ سائر أهله وما قدر عليه من الأموال والمتاع وفروا إلى حلوان، ودعا سعد من تحصنوا بالقصر لينزلوا فنزلوا، ودخل بجنده، وجعل يجيل بصره فيما احتواه هذا القصر المنيف من نفائس ومتع ويتلو قوله تعالى:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين .
ما أعظم هذا الفتح وأجله! فهذه مدينة كسرى وهذا إيوانه، وهؤلاء هم جنود شبه الجزيرة المجدبة الجرداء يسيرون تولاهم البهر خلال جنات القصر بين أزهار يانعة وأشجار باسقة وتمر وفاكهة وأعناب شتى ألوانها، لم تقع أعينهم على مثلها، وينتقلون من الحدائق إلى الأبهاء فيزيدهم ما فيها بهرا، نقوش جل جمالها وجلت دقتها عن الوصف، وأثاث لم يروا في دمشق نظيره، وطنافس من حرائر فارس طرزت بالذهب والفضة، وأسباب الترف والنعمة جمعت إلى هذا الإيوان من بدائع صنع الشرق في مختلف أرجائه، أي شيء هذا كله! وهل يجزي الشكر لله عنه؟! لكن سعدا وأصحابه لا يملكون غير الشكر لله على ما فتح عليهم؛ لذلك صلى سعد شكرا لله صلاة الفتح، ثماني ركعات بتسليمة واحدة، ثم أمر أصحابه فجاءوا بعيالات المسلمين من الحيرة ومن سائر مدن العراق وقراه، فأنزلهم في المدائن.
ونزل سعد قصر الأكاسرة وأقام به، واتخذ الإيوان مصلى، وترك ما به من تماثيل قائما لم يحركه ، وما له يحركها ولم تكن إلا بعض الزخرف الذي ازدان به القصر وازدانت به أبهاؤه جميعا، وإن خص الإيوان منه بأكثره بهاء وروعة! وقد كسا الزخرف وكست النقوش جدران القصر من مستوى الأرض إلى أعلى العقود، ثم تركت الجدران التي تبدو للنظر من الخارج ملساء ساطعة البياض.
ووجد سعد خزائن كسرى مترعة بالأموال وبنفيس الثياب والأمتعة والآنية والألطاف والأدهان وما إلى ذلك مما لا تعبر الألفاظ والأرقام عن قيمته، وكان سعد قد بعث جنده يطاردون يزدجرد والذين فروا معه إلى حلوان، فأدركوهم وجاءوا به وبما حملوه، فإذا قيمته تضاهي قيمة ما بالقصر، ووجد المسلمون بدور المدائن من التحف والنفائس ما أذهل خيالهم، وما دل على ترف أهلها ترفا لم يعرفه غير الفرس.
وإنا لتتولانا الدهشة اليوم لنفاسة هذه الغنائم وقيمتها وكثرتها، فلا عجب أن تولت أولئك الفاتحين الذين رأوا هذه الغنائم بأعينهم أضعاف ما يتولانا من البهر والدهشة، وأن يذكر المؤرخون العرب هذه الغنائم في تفصيل يسوغ دهشتنا ودهشة الفاتحين.
ذكروا أن سعدا وجد بخزائن كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار، ثلاث مرات، ووجدوا بالقصر من التحف والأمتعة ما لا تدرى قيمته، وجاء الذين خرجوا في أثر يزدجرد بتاج كسرى مرصعا بالدر والجوهر، وبثيابه من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر، ومن غير الديباج منسوجا ومنظوما، كما جاءوا بخرزات كسرى ووشاحه ودرعه التي فيها الجواهر، وطارد القعقاع بن عمرو فارسيا فقتله وأخذ منه عيبتين فيهما أسياف وأدراع لكسرى ولهرقل ولخاقان الترك وللنعمان ولملوك آخرين غزاهم الفرس وغزوا الفرس، وجاء عصمة بن خالد الضبي بسفطين في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة، ولجامه كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجواهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل
3
من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر، ووجد المسلمون بدور المدائن سلالا مختومة برصاص ظنوا ما فيها طعاما فإذا هو آنية من الذهب والفضة متماثلين ، ووجدوا بدور المدائن كذلك كافورا كثيرا حسبوه لكثرته ملحا فعجنوا به فوجدوه مرا.
ترى أأغرت هذه الكنوز أولئك العرب، فهم أحد منهم بأن يأخذ شيئا منها لنفسه ولا يرده إلى من ولاهم سعد قبضها ليقسمها من بعد؟ كلا! بل جاء كل بما استولى عليه من السلب فسلمه والي القبض حتى يرى سعد فيه رأيه، ولما جاء القعقاع بن عمرو بأسياف كسرى والملوك وأحضرها عند سعد خيره بينها، فاختار سيف هرقل وترك سائرها، وأقبل رجل إلى والي القبض بحق نفيس، فقال الوالي والذين معه: ما رأينا فيما عندنا مثل هذا ما يعدله أو يقاربه، وسألوا الرجل: هل أخذت منه شيئا؟ قال: لا والله، لولا الله ما أتيتكم به! وسألوه: من هو؟ فقال: لا أخبركم فتحمدوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، وعرف سعد أمر هذا الرجل وأمثاله، فقال: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت إنهم على فضل أهل بدر، وكان جابر بن عبد الله يقول: «والله الذي لا إله إلا هو ما أطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، فقد اتهمنا ثلاثة نفر هم طليحة وعمرو بن معدي كرب وقيس بن المكشوح فما رأينا كأمانتهم وزهدهم.» وهذه الشهادة من جابر لأولئك الثلاثة لها دلالة خاصة؛ فقد كانوا على رأس المرتدين الذين حاربهم أبو بكر وحاربوه حرصا على الدنيا وسلطانها، وها هم أولاء حسن إسلامهم فأصبحوا في طليعة العرب جهادا في سبيل الله، وزهدا في الدنيا، وتقربا إلى الله بالعمل الصالح والبلاء في الحرب أحسن البلاء.
فصل سعد خمس الغنائم ليرسله إلى المدينة، وحرص على أن يكون فيه كل ما يعجب منه العرب وكل ما يعجبهم، ثم أراد أن يرسل خمس القطيف، وهو بساط كسرى، فرآه لا تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء، فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل، وهو يقع من أهل المدينة موقعا؟ وكان هذا البساط مربعا ستون ذراعا في مثلها، وكانت الأكاسرة تعده للشتاء إذا اشتد القر وذهبت الرياحين، وقد صورت في هذا القطيف طرق المملكة وبسطت فيه الأرض مذهبة تجري خلالها أنهار رصعت بالدرر، وجعلت حافاته كالأرض المزروعة فيها نبات الربيع قام على سوق من ذهب، وجعل ورقه من الحرير وتمره من الجوهر، وأقر الناس رأي سعد، فأرسل القطيف مع الخمس إلى المدينة.
وقسم سعد الفيء في الجند، وكان قد تم ستين ألف فارس، فأصاب الفارس منهم اثني عشر ألفا، ثم جعل لأهل البلاد على قدر بلائهم، وقسم سعد المنازل بين الناس، وأنزل العيالات في الدور فأقاموا بها حتى ارتحل منهم من ارتحل عنها بعد أن امتد الفتح إلى ما وراءها من ريف فارس، وأنت في حل من أن تصور لنفسك مبلغ ما أدت إليه هذه المغانم من غبطة الناس ومن حماستهم لفتح جديد يدر عليهم مغانم جديدة.
ذهب بشير بن الخصاصية بخمس الفيء إلى المدينة، ووضعه بين يدي أمير المؤمنين، وكان عمر قد سبقت إليه الأنباء بفتح المدائن، إذ كتب سعد إليه بما يجعله كأنه حاضرها، مع ذلك دهش لما رأى من كثرة هذا الفيء ونفاسته وإحضار المسلمين له كاملا، فالتفت من حوله يقول: «إن قوما أدوا هذا لأمناء!» وأجابه علي بن أبي طالب: «إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.» ونظر عمر إلى ثياب كسرى وأسيافه ودروعه، فألبسها خشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وقيل إنه دعا إليه سراقة بن جعشم، وكان من أجسم العرب وأبدنهم، فألبسه قميص كسرى وسراويله وقباءه وسيفه ومنطقته وسواريه وتاجه وخفيه وقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال: بخ بخ، أعيرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه! رب يوم يا سراق بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفا لك ولقومك! ... وقيل كذلك: إنه كانت لكسرى عدة أزياء لكل حالة زي، فجاء عمر بأجسم عربي بأرض المدينة وجعل يلبسه إياها زيا بعد زي، فيرى الناس ينظرون إليها أمرا عظيما من سحر الدنيا وفتنتها، فلما فرغ الأعرابي من لبسها جميعا رفع عمر رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي!»
هذه لفتة من لفتات عمر سيذكرها من بعد، وسيذكر أثرها في الأمة في صراحة دونها كل صراحة؛ فقد أحس بما لهذا الترف من فتنة تجذب النفوس إليه فتجعله مثلها الأعلى تنفق في سبيله كل ما أوتيت من قوة وتدبير، وتنصرف لذلك عن المعاني الإنسانية الكريمة التي تسمو بقلوبنا وعقولنا إلى أرفع الذرى فتقربنا من الله وتجعلنا بفضل منه نرى وجه الحق ذي الجلال، ولهذه اللفتة، ولخشية عمر أن يكون الله قد أعطاه متاع كسرى ليمكر به، بكى حتى رحمه من كان عنده، ثم أشار إلى هذا المتاع وقال لعبد الرحمن بن عوف: «أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي!»
وقسم عمر الخمس بين الناس على أقدارهم، ونفل منه من غاب ومن شهد من أهل البلاء، ورأى القطيف لا ينقسم فقال لمن حوله: «أشيروا علي في هذا القطيف.» قال الملأ: قد جعل الجند ذلك لك، فالرأي فيه رأيك، وقال بعض: إنه لأمير المؤمنين لا يشركه فيه أحد، وأبى عمر أن يقبضه أو يبدي في أمره رأيا فقام علي بن أبي طالب فقال: «لم يجعل الله علمك جهلا، ويقينك شكا، إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، وإنك إن تبقه اليوم على هذا لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له.» قال عمر: «صدقتني ونصحتني.» ثم قطع القطيف وقسمه بين الناس، فأصاب عليا منه قطعة لم تكن أجود تلك القطع، ومع ذلك باعها بعشرين ألفا.
بينما كان عمر يقسم الفيء بين الناس بالمدينة، فيرى الناس فيما يصيبهم منه نعمة من الله لم يكن لهم بمثلها عهد ، كان سعد بن أبي وقاص قد اطمأن بالمدائن واستقر بقصر كسرى وجعل إيوانه مصلى للمسلمين، ينادى فيه باسم الله، وتقام فيه الصلاة، ويجتمع الناس به كل جمعة ليخطبهم سعد ويؤمهم، وكان يزدجرد قد نزل حلوان مغموما مدحورا، يقطع الهم نياط قلبه ويفري الأسى كبده، ويذكر عظمة فارس وجلال مجدها، فيزداد به الحزن، ويتراءى له شبح رستم وما كان يذكره من دلالات النجوم، أين يومه اليوم من تلك العهود الخوالي حين زحف أسلافه من إيران إلى العراق فاكتسحوه إلى شواطئ دجلة، وحين أقاموا بطيسفون قبالة سلوقية، وحين مدوا طيسفون، وضموا إليها ما حولها من البلاد، وجعلوا منها ومن سلوقية بلدا واحدا هو المدائن، ثم أطلقوا على سلوقية اسم بهرسير لينسى أهلها أيام عزها، إذا كانت مدينة يونانية حريصة على استقلالها، حرص إسبرطة على استقلالها! وأين يومه اليوم من عهود أجداده الأكاسرة بني ساسان الذين دوخوا العالم، ومن عهد جده أردشير صاحب القصر والإيوان والفخامة والنعمة! إنه اليوم مليك غلب على أمره، وطرد من عاصمة ملكه، ففر كما يفر الجبناء، أتراه يصبر على هذه الهزيمة ويرضى بهذه النكبة، وهل كتب القدر لهؤلاء العرب أن يطاردوه إلى أقصى الأرض؟ إن به من حرارة الشباب وإقدامه ما يمد له من حبال الأمل، أبقيت له من هذا لأمل بقية؟ أم حطمت الهزيمة هذا الإقدام وأثلجت تلك الحرارة، فقضت في نفسه على كل أمل وكل رجاء؟!
لم يفكر الشاب المنهزم في شيء أول ما نزل حلوان، لقد عرض على المسلمين الصلح على أن يكون دجلة حدا فاصلا بينه وبينهم، أتراهم وقد فتحوا المدائن يكتفون بها ويقفون عندها؟ إنهم إن يفعلوا يحققوا بعض رجائه، والمستقبل كفيل من بعد بتدبير شأنه، لكنهم منتصرون، والمنتصر لا يعرف هوادة، وجيوشه الكثيرة تطير إلى كل جانب تطلب النجاة، فليترك الأمر للأيام! وغد لناظره قريب!
ماذا يكون في غد؟ ذلك حديثنا في الفصل التالي.
هوامش
الفصل العاشر
المسلمون في العراق
استقر سعد بقصر كسرى، وأقام المسلمون في دور المدائن من حول القصر ينعمون بحياة دعة ونعمة، وما لهم لا يفعلون وفي أيديهم من المغانم التي نفلوها ما يكفيهم السنين، وأقواتهم تجيئهم من البلاد المجاورة سهلة وفيرة، ودجلة يجري من تحتهم فينسيهم البادية وكثبان الرمال، والجسر الذي يصل بين سلوقية وطيسفون، ويجعل منهما هذه المدائن البارعة متنزه المترفين، جدير بأن يلهم الشاعر العربي ما ألهم مثل هذا الجسر ببغداد علي بن الجهم إذ قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!
وكان الناس يجتمعون بسعد في قصر كسرى، فيتحدث سعد إلى ذوي العلم منهم بماضي هذه البلاد، ويذكر ويذكرون أياما سلفت كانت فيها مقر حضارة العالم، ففي أرجاء مختلفة منها قامت دول البابليين والآشوريين والكلدان، وكنت بعض هذه الدول تستقر بها، وكان بعضها يطرأ عليها ثم يترحل عنها، ثم تطلق كل دولة اسمها على الجانب الذي استقرت به بين النهرين: دجلة والفرات.
و«بين النهرين» اسم أطلق هو أيضا على هذه الأصقاع من أقدم العصور؛ فكذلك كانت تسمى عهد الفراعنة الأقدمين حين امتد سلطان مصر إليها، وكذلك كانت تسمى حين خضعت لحكم الإغريق بعد حكم الفراعنة، ولا عجب أن يظل هذا الاسم باقيا إلى اليوم، وهو يصف مواقع أرضها بين نهرين يجريان فيها بالخصب والحياة.
ولم يطلق اسم العراق على ما بين النهرين إلا بعد أن دخلت في سلطان الفرس؛ فقد زحف الفرس من سهل إيران إليها بعد أن جلا الفراعنة والإغريق عنها، فاكتسحوا البلاد إلى شواطئ دجلة وما وراءها، وأقاموا بطيسفون عاصمة ملكهم، ثم جعلوا منها ومن البلاد السبع المحيطة بها ومن سلوقية اليونانية المستقلة، تلك «المدائن» التي أقامت قرونا تزهى على التاريخ بجلال عظمتها، وسعة سلطانها، وطائل ثرائها، وترف أهلها، وإذا كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العراق العجمي، فقد غلب الفرس عليها اسمه واعتبروها جزءا منه، كما اعتبروا سلوقية جزءا من طيسفون، ومن يومئذ أطلق اسم العراق على هذه البلاد.
ويمتد هذا العراق الذي غلب المسلمون عليه الفرس من دلتا النهرين جنوبا، حتى ينتهي في الشمال إلى ما دون بلاد الموصل، متاخما الشام من أعلاه متاخمة كان لها أثرها في تاريخ الفرس والروم، ثم كان لها أثرها في تاريخ الفتح الإسلامي، وقد أدت متاخمة العراق للشام إلى انتقال الأديان التي ظهرت بفسلطين إلى ربوعه، وإلى غزوها وثنية اليونان ومجوسية الفرس فيه، ولذا استقرت به جالية كبيرة من اليهود، ثم انتقلت النصرانية إليه بعد انتقالها إلى الشام.
ولما كانت بلاد ما بين النهرين تجاور العرب، كما تجاور العجم، فقد نزحت إليها قبائل كثيرة من شبه الجزيرة، استقرت بها وجعلتها منازلها، كما نزحت إلى الشام قبائل كثيرة استقرت به وجعلته منازلها، فلما غزا العرب ما بين النهرين كانوا قد ألفوا العراق اسما لهذه البقعة من الأرض، فلم يطلقوا عليها اسما غيره، ثم أطلقوا اسم السواد على ما بين دجلة والفرات وما جاورهما، وليفرق المؤرخون بين هذا العراق وعراق العجم أسموا أحدهما العراق العربي، والآخر العراق العجمي.
وطبيعة الأرض في العراقين متابينة أشد التباين، فالعراق العربي سهل يجري فيه النهران، وتنتشر فيه شبكة من النهيرات والجداول والغدران، تجعل الجانب الأكبر منه أخضر يانعا كثير الخيرات وافر الثمرات، وهو ينتهي من الشرق إلى جبل رفيع الذرى يفصل بينه وبين العراق العجمي، تتلاحق وراءه جبال وأودية تنتهي إلى سهل إيران، وقد كان هذا الجبل حاجزا طبيعيا شديد المنعة، يفصل آسيا وشرقها الأقصى من هذه البلاد الواقعة في غرب آسيا، والتي كانت لذلك أكثر اتصالا بالشعوب المقيمة حول البحر الأبيض في إفريقية وأوروبا منها بالبلاد المجاورة لها في الشرق.
وكان من أثر هذا الوضع الجغرافي الذي أتاح لقبائل العرب أن تهاجر إلى العراق وإلى الشام أن امتدت منازل الجنس العربي من خليج عدن والمحيط الهندي في الجنوب إلى أقصى الشمال من أرض العراق والشام، وأن خضعت هذه القبائل كما خضعت أرجاء كثيرة من شبه الجزيرة قرونا طويلة لحكم فارس والروم، وها هم أولاء عرب شبه الجزيرة يغزون الدولتين العظيمتين، فيبلغون دمشق في الشام والمدائن في العراق وينزل سعد بن أبي وقاص قصر كسرى في عاصمة ملكه.
وأقام سعد بالعاصمة الفاتنة حتى جم وجم جنده، وما كان له أن يتعقب الفرس في بلاد العراق المترامي الأطراف فيما وراء دجلة، فلم يكن عمر قد أذن له في تعقبهم؛ لذلك لم يزد على تنطس أخبارهم وإرسال العيون من رجاله ليعودوا إليه بأنبائهم، وقد جاءته الأنباء بأن الفرس الذين فروا منهزمين بلغوا جلولاء، على نحو أربعين ميلا في شمال المدائن، وأنهم رأوا الطرق عندها تفترق إلى شتى الأرجاء من إيران، فقال بعضهم لبعض: «لو افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا وأبدينا عذرا.» وجاءته الأنباء كذلك بأن يزدجرد اجتمع إليه وهو في طريقه إلى حلوان رجال وأعوان وجنود من شتى البلدان، فأمر عليهم مهران ووجهه معهم إلى جلولاء، وأقام بمقره الجديد يمدهم بالرجال والأقوات، واجتمع هؤلاء وفلال المدائن واحتفروا حول المدينة خندقا عظيما أحاطوه بحسك الحديد، وأقاموا بها العدد والعدد وآلات الحصار وتواثقوا وتعاهدوا ألا يفروا، وأن يفنوا المسلمين عن آخرهم ويجلوهم عن بلادهم.
جاءت هذه الأنباء سعدا وهو في مقره بقصر كسرى، فبعث بها إلى عمر بالمدينة، وكتب عمر إليه أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدمتهم القعقاع بن عمرو، وعين له من يكونون على الميمنة والميسرة والساقة بأسمائهم، وكان الجند قد جم واستراح، وتحركت في نفسه الحماسة للقتال، بعد أن قضى بالمدائن أشهرا استمتع فيها بما فتح الله وأفاء عليه من مغانم طائلة لا عهد له بمثلها،
1
وبلغ هاشم جلولاء، فألقى الفرس متحصنين بها، مستميتين في الدفاع عنها، فحاصرها، ولم يكن الحصار وحده ليحملها على التسليم، فقد كانت الأمداد تجيء تباعا من حلوان، كما كانت الأمداد تجيء إلى المسلمين تباعا من المدائن؛ لذا طال الحصار ثمانين يوما كان الفرس يخرجون في أثنائها للقاء المسلمين ثم يرتدون إلى حصونهم منهزمين، وأيقن الفرس أنهم إن أقاموا على ذلك ذهبت شوكتهم، ولم يغن عنهم أنهم أضعاف جند المسلمين عددا؛ لذا أمرهم قائدهم مهران يوما فصبحوا المسلمين بأهول الحرب، يقول ابن كثير: «فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فنى النشاب من الطرفين، وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات،
2
وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماء، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم! إنا كالون وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم! فحمل وحمل الناس، فأما القعقاع فإنه صمم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه.» ورأى القعقاع الناس يتحاجزون لإقبال الليل فنادى مناديه «أين أيها المسلمون! هذا أميركم على باب خندقهم، فأقبلوا عليه ولا يمنعنكم من بينكم وبينه من دخوله!» وحمل المسلمون وقاتلوا عدوهم قتالا أذكرتهم شدته ليلة الهرير إلا أنه كان أعجل، فلما انتهوا إلى باب الخندق ورأوا القعقاع قد أخذ به، ورأوا الفرس ينهزمون أمامهم يمنة ويسرة إذ يحول الخندق بينهم وبين الارتداد إلى المدينة، عند ذلك أخذهم المسلمون من كل وجه وقعدوا لهم كل مرصد، حتى لقد قتل منهم في ذلك الوقت مائة ألف رجل، وفر من بقي منهم يريدون حلوان، فاتبعهم القعقاع فأدرك مهران بخانقين فقتله، وفر الفيرزان على فرسه ينهب الأرض إلى حلوان، فذكر ليزدجرد مصيبة جلولاء، ففر يزدجرد إلى الري، وقدم القعقاع حلوان، فخرج إليه حماتها فقاتلوه قتالا شديدا، ثم انهزموا أمامه، ودخل المسلمون فغنموا وسبوا وضربوا الجزية عليها وعلى ما حولها من الكور والأقاليم.
وكتب سعد إلى عمر بفتح جلولاء وبالغنائم العظيمة التي غنمها المسلمون فيها، وبنزول القعقاع حلوان، واستأذنه في مطاردة الفرس داخل بلادهم، لكن عمر آثر الحذر فخالف بطل القادسية وفاتح المدائن عن رأيه، وكتب إليه يقول: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد! إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.»
كان هذا الرأي الذي رآه عمر كله السداد، وليس يقف سداده عند إيثار سلامة المسلمين على كل ما سواها، بل يتخطى ذلك إلى أن المسلمين لم يكونوا قد أمنوا العراق واطمأنوا إلى حياة الاستقرار فيه، فقد كان شماله لا يزال مخشي الانتقاض، مع انتصار المسلمين بتكريت والموصل وهيت وقرقيسياء، وذلك بعد فتح المدائن، وكان جنوبه على مثل هذه الحال مع إخضاع المسلمين إياه قبل المدائن وبعدها، فليس من بعد النظر في شيء أن يدفع المسلمون جنودهم إلى جبال إيران وإلى ما وراء هذه الجبال من سهول مترامية الأطراف، فإذا انتفض العراق من بعد، كما انتفض قبل نزول سعد به وانتصاره الحاسم فيه، لم يكن التغلب عليه أمرا يسيرا، ومن الخير أن يتخذ المسلمون جبال إيران حدا فاصلا بينهم وبين الفرس، وأن يفرغوا للقضاء على كل أثر للانتقاض بالعراق، ليفرغوا بعد ذلك إلى تنظيم الحكم فيه.
هذا، ثم إن سياسة عمر كانت إلى ذلك العهد سياسة عربية ترمي إلى ضم الجنس العربي الممتد من المحيط الهندي إلى شمال العراق والشام في وحدة يكون السلطان فيها لشبه الجزيرة، بل يكون السلطان فيها للمدينة، وحسبه أن تطمئن هذه الربوع جميعا لوحدتها تحت هذا السلطان، وأن تكفل فيها حرية الدعوة لدين الله بالحجة والموعظة الحسنة، وأن يكون بينها وبين الفرس والروم من حسن الجوار ما يذهب عن العرب والمسلمين الروع، والله مظهر بعد ذلك دينه على الدين كله ولو كره الكافرين.
لم يكن لسعد إلا أن ينزل على رأي أمير المؤمنين وحكمه، وقد أرضى هذا الرأي الأبطال والجند بعد إذ رأوا القوات تسير بين حين وحين تقمع كل انتقاض يحدث في أنحاء السواد، وبعد إذ وقع لهم من مغانم القادسية والمدائن وجلولاء أضعاف ما كانوا يطمعون فيه، فلم يكن حظ المحارب من مغانم جلولاء دون حظه من مغانم المدائن، كان المال الذي أصابوه منها ثلاثين ألف ألف، فيه من النفائس والتحف ما حمله الذين فروا من المدائن، ثم إنهم أصابوا من الدواب وعدة الحرب ما لم يدع الفرس شيئا منه بالعاصمة، كما أنهم سبوا بجلولاء ولم يقع لهم بالمدائن سبي، فلما قسم سعد هذا الفيء العظيم أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب غير من كان له حظ في السبايا ومن بينهن من نشأن في الدلالة والنعمة، فأعجزتهن هذه النشأة عن الفرار في الجبال والسهول.
وبعث سعد بأخماس هذا الفيء إلى المدينة مع جماعة فيهم زياد بن أبي سفيان، فلما قدموا على عمر وصف زياد فتح جلولاء وحلوان في بلاغة وبراعة وصفا دفع عمر إلى أن يقول له: «هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟» وأجابه زياد: «نعم يا أمير المؤمنين! فوالله ما على وجه الأرض رجل أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على ذلك مع غيرك!» وقام فقص على الناس خبر الواقعة وفعال أبطال المسلمين فيها وكم قتلوا من الفرس، وما أصابوا منهم، كل ذلك في عبارة قوية أخاذة بمجامع القلوب، وأعجب عمر به فقال: هذا والله الخطيب المصقع! ومست هذه التحية قلب زياد فقال: «إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا.»
وأشار بعض أصحاب الرأي على أمير المؤمنين أن يجعل الفيء في بيت المال، فقال: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه! وبات الفيء في صحن المسجد وعليه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه، فلما أصبح عمر وصلى بالناس الغداة وطلعت الشمس أمر فكشف عن الفيء، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره وذهبه وفضته بكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فوالله إن هذا لموطن شكر!» قال عمر: «والله ما هذا يبكيني! وتالله ما أعطى الله قوما هذا إلا تحاسدوا وتباغضوا، وما تحاسد قوم إلا ألقي بأسهم بينهم.»
نقف هنيهة عند هذه الكلمة الحكيمة، فلم يكن العرب يعرفون الكسب الهين قبل أن ينهال عليهم هذا الفيء العظيم من كل صوب، بل كانوا يسعون في مناكب الأرض يبتغون من رزق الله، فينال كل منهم جزاء عمله على قدر حظه، كانوا يذهبون بالتجارة رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام يحتملون ما يصيبهم من مشقة الطريق ومن عادية المعتدين، وكانوا يحمون القوافل التي تسير بين الغرب والشرق تحمل ما تحمل من أموال، لقاء أجر يتعرضون في سبيل اقتضائه لقتال من تحدثهم أنفسهم بسلب هذه القوافل، وكانوا لذلك يلقون العناء في ما ينالون من أسباب العيش ومتع الحياة، وها هم أولاء اليوم يغنمون من الحروب ما شاء الله أن يغنموا، ويجبى إليهم من الخيرات ما شاء الله أن يجبى، فما عسى أن يؤدي إليه ذلك الانقلاب الخطير في حياتهم الاقتصادية؟! لا عجب أن ينتهي بهم إلى الدعة وحب الترف، والدعة تدعو إلى التحاسد والبغضاء إذ يريد كل أن ينال الحظ الأوفر ويزداد به ترفا ونعمة، والناس إذا استناموا للدعة لانت قناتهم، وإذا تباغضوا ذهبت ريحهم، أين ذلك مما يدعو الله إليه من إخاء وتعاون وتساند ليكون أبناء الأمة عزا للأمة، وليكونوا أعوانا للحق الذي أوحاه الله إلى رسوله ينصرونه ويعززونه! وقد خشي عمر ما تؤدي إليه الدعة من لين وتباغض فبكى، وكأنما رأى خلال الغيب ما خطه القدر في لوحه لهذه الأمة التي بايعته فعزت به وعز بها، وأسالت النضار بفعالها في صحاري شبه الجزيرة الجرداء.
وقسم عمر هذا الفيء الذي أبكاه بين الناس على ملأ وتشاور وإجماع من المسلمين، ونفل من ذلك بعض أهل المدينة، وقد صنع في هذه القسمة ما صنعه حين قسم الفيء الذي بعث به سعد على إثر غزوة القادسية.
حضر زياد بن أبي سفيان قسمة هذا الفيء، ثم رجع إلى سعد بن أبي وقاص بكتاب عمر وأمره ألا يطارد الفرس داخل بلادهم، وقرأ سعد الكتاب فأكبر حكمة أمير المؤمنين، ذلك أنه يوم كتب إلى عمر باجتماع الفرس بجلولاء وإمداد يزدجرد إياهم بالقوات من حلوان، كتب إليه كذلك بأن أهل الموصل من الروم اجتمعوا بتكريت على دجلة إلى شمال المدائن، وأن كثيرين من نصارى العرب من إياد وتغلب والنمر انضموا إليهم ومالئوهم على مقاومة المسلمين، وكتب إليه عمر، فبعث عبد الله بن المعتم إلى تكريت في خمسة آلاف، ساروا إليها وحاصروها أربعين يوما، وأرهق الحصار المدافعين عن المدينة، فعزم الروم على الفرار في السفن بأموالهم، وعرف ابن المعتم نبأهم، فراسل العرب النصارى يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما أجابوه إلى ما طلب ألقى إليهم أن يأخذوا أبواب المدينة المؤدية إلى السفن على الروم، فإذا خرجوا ليركبوها قتلوا منهم من قدروا على قتله، وحمل المسلمون على المدينة، وكبروا وكبر الأعراب من الجانب الآخر، فاضطرب الروم وأخذوا في الخروج من الأبواب، فأخذتهم سيوف المسلمين من أمامهم وسيوف الأعراب الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم، لم يفلت منهم أحد، عند ذلك جرد عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل العنزي ليسير إلى الموصل، تنفيذا لعهد عمر في كتابه إلى سعد، وسار ابن الأفكل مسرعا ومعه من أسلم من إياد والنمر وتغلب، ففجأ الحصنين نينوى والموصل قبل وصول أنباء تكريت إليهما، وأراد من بالحصنين المقاومة، فلما عرفوا ما أصاب تكريت أجابوا إلى الصلح والجزية، وقسمت مغانم تكريت فبلغ نفل الفارس ثلاثة آلاف ونفل الراجل ألف درهم.
بلغت هزائم الروم بتكريت والموصل سمع إخوانهم بالشام، وكانوا يلقون من بأس خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح ما سنقص نبأه بعد حين، فتولاهم الفزع أن يبلغ المسلمون بالعراق تخوم الشام فيأخذوهم من خلفهم، على حين يقاتلهم خالد وأبو عبيدة يدفعونهم متراجعين إلى تلك التخوم، بذلك يحصرون فلا يجدون ملجأ إلا الإذعان والتسليم؛ لذا بعثوا إلى أهل الجزيرة الموالين للروم يستعدونهم على من عندهم من المسلمين، وبلغت أنباؤهم هذه سعدا حين رجع هاشم بن عتبة منتصرا من جلولاء، كما بلغه أن جندا عظيما من أهل الجزيرة اجتمعوا بمدينة هيت على شاطئ الفرات، فأرسل إليهم بأمر عمر جيشا جعل عليه عمرو بن مالك، وألفاهم عمرو تحصنوا بالمدينة وحفروا خندقا حولها، فخلف الحارث بن يزيد على حصارهم بعد أن تبين منعة موقفهم، وسار هو شمالا إلى قرقيسياء عند ملتقى الفرات والخابور على تخوم ما بين العراق والشام، فأخذها عنوة على غرة من أهلها فأجابوه إلى الجزية؛ ثم كتب إلى الحارث بن يزيد أن يخلي عن الجنود الذين تحصنوا بهيت إذا هم خرجوا منها، وإلا حفر حول خندقهم خندقا وجعل أبوابه من ناحيته، وبعث الحارث إلى هيت بما عزم من ذلك، فأيقنوا أنه الحصار حتى الموت، فأذعنوا وانصرفوا عن المدينة واحتلها المسلمون.
عرف سعد أنباء هيت وقرقيسياء وانتصار جنوده فيهما، فازداد إيمانا بحكمة عمر إذ أمره ألا يتعقب جنود يزدجرد في جبال فارس وسهولها، فلو أنه تعقبهم بقواته ثم انتقض العراق أو حاول الفرس إثارته لتعذر عليه قمع الفتنة فيه، ولقد بلغه بعد انتصار هاشم بجلولاء أن قوات الفرس اجتمعت بماسبذان على تخوم ما بين العراق العربي من الشرق وفارس من الغرب، فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش قاتلهم بسهل ماسبذان، فهزمهم وقتل قائدهم، ثم طردهم إلى مدينة ماسبذان فاستولى عليها عنوة ورأى أهلها فروا في الجبال، فدعاهم فاستجابوا إلى الجزية، فأقرهم في مدينتهم.
أدى انتصار هذه الحملات المتلاحقة في شمال العراق وشرقه إلى خضوع أهله لسلطان المسلمين وإذعانهم لأمرهم، وقد أذعن جنوب العراق قبل أن يذعن شماله وشرقه؛ ذلك بأن أهله رأوا بأس المسلمين منذ غزاهم خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة في عهد أبي بكر، وقد انتقض هذا الجنوب على سلطان المسلمين حين انتقض العراق كله على هذا السلطان، فلما وجه عمر سعد بن أبي وقاص إلى القادسية وجه عتبة بن غزوان لغزو الجنوب، فسار ومعه عرفجة بن هرثمة البارقي إلى الأبلة، على مقربة من موقع البصرة اليوم، فاستردها من الفرس بعد قتال ظل سجالا أسابيع عدة، وكانت الأبلة يومئذ مرفأ ترسو به السفن القادمة من الصين والهند والذاهبة إليهما، وكان به من الهنود المشتغلين بالتجارة عدد كبير، وحمل أهل الأبلة ما خف من متاعهم، وخرجوا منها حين انهزم المدافعون عنها، ودخلها المسلمون فغنموا ما فيها واقتسموه، ثم عبر عتبة النهر على أثر الجيش المنهزم وتعقبه، واستولى على دست ميسان وأخذ مرزبانها أسيرا بعث بمنطقته إلى المدينة، وعرف عمر ممن حمل المنطقة إليه أن العرب بالعراق شغفوا بأنعم الدنيا حبا، فخشي مغبة ذلك عليهم، ودعا إليه عتبة يسأله عما أصابهم، واستخلف عتبة مجاشع بن مسعود على الجيش والمغيرة بن شعبة على الصلاة، فلما عرف عمر استخلافه مجاشعا أظهر الغضب منه وقال له: تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر! أتدري ما حدث؟ وذكر له أن المغيرة بن شعبة هزم الفرس بالمرغاب، وأنه برغم انتصار مجاشع بالفرات؛ قد أسند أمر الجند إلى المغيرة، حتى لا يكون لبدوي إمارة على قرشي أو على رجل من أصحاب رسول الله.
لم يكن انتصار المغيرة على الفرس يسيرا؛ فقد اشتد القتال وتداوله الفريقان واستمات فيه الفرس، وإنهم لكذلك إذ رأوا كتيبة حسبوها مددا للمسلمين فانهدت قوتهم فانهزموا، ولم تكن هذه الكتيبة إلا نساء المسلمين خرجن من أخبيتهن، واتخذن من خمرهن رايات وسرن بها يردن معاونة الرجال.
وأمر عتبة بالعودة إلى عمله، فاستعفاه من ذلك فأبى، وإن عتبة لفي طريقه إلى العراق إذ وافاه أجله، فظل المغيرة على إمارة الجند مكانه.
3 •••
اطمأن الأمر للمسلمين في العراق فآن لهم أن يفكروا في نظامه وفي موقفهم منه، أتراهم يتركونه مكتفين بأن يتركوا فيه من رجالهم من يفقهون أهله الذين أسلموا في دينهم، ومن يحصلون الجزية ممن لم يسلموا؟ ذلك ما كان يفعله رسول الله حين كان الناس من قبائل شبه الجزيرة ومن مدنها يعلنون إسلامهم، وكان يبعث إليهم من يفقههم في دينهم، ومن يقبض منهم الزكاة، ترى لو أن عمر فعل ذلك بالعراق أفكان يأمن العاقبة؟ إن رسول الله لم يكن غزا القبائل ولم يكن فتح المدن التي أسلمت، اللهم إلا مكة والطائف، مع ذلك انتهز المرتدون في أرجاء شبه الجزيرة أول فرصة فأعلنوا تمردهم قبيل وفاته، ثم انتشرت الردة حين بيعة أبي بكر كما تنتشر النار في الهشيم، هذا وأهل شبه الجزيرة كانوا عربا، فلم يكن سلطان المدينة ليثقل عليهم، ولم تكن نفوسهم لتنفر منه كما ينفر غير العرب، طبيعي وقد أدت ردة العرب إلى ما عرفت من حروب أن يخشى عمر تمرد الفرس من أهل العراق ولم يكن أكثرهم قد أسلموا، بل تمرد عرب العراق أنفسهم من أسلم منهم ومن بقي على دينه، فقد ألف هؤلاء جميعا سلطان الحيرة وسلطان المدائن وما كان يحيط بهذا السلطان من نعمة ورفاهية، كما ألفوا لونا من الحياة فيه ترف لا يتفق في كثير والحياة العربية في شبه الجزيرة، ولا يتفق في كثير وتعاليم الدين الذي أوحاه الله إلى النبي العربي، فلو أنهم تركوا وشأنهم لكانوا أدنى من عرب شبه الجزيرة إلى التمرد، وعمر أبعد نظرا وأشد حذرا من أن يدع الفتنة يذر قرنها في بلاد فتحها، وهي بعد تجاور شبه الجزيرة وقد يمتد إليها من هذه الفتنة شرر ما أغنى أمير المؤمنين عن التقدير لنتائجه.
لم يكن ذلك وحده ما يخلق بعمر أن يخشاه، فلو أنه أمن تمرد أهل العراق إذا تركهم وترك معهم من المسلمين من يفقه الذين أسلموا منهم في دينهم لوجب عليه أن يحسب الحساب للفرس الذين انهزموا أمام جيوشه إلى ما وراء جبالهم، لقد تمنى لو أن بينه وبينهم جبلا من نار فلا يخلص إليهم ولا يخلصون إليه، ولكن هذا الجبل لم يكن موجودا، وليس عجبا أن يفكر الفرس الذين انهزموا إلى سهول إيران في الرجعة إلى العراق ليثأروا لأنفسهم وليستردوا ما ضاع منهم، كما فعلوا بعد أن استولى خالد بن الوليد على الحيرة والأنبار ثم فصل إلى الشام مددا لجند المسلمين فيه، وثأر الفرس لأنفسهم أدنى إلى النجاح إذا انسحبت قوات المسلمين من العراق، أما إن بقيت به وعززت مراكزها فيه فسيتردد الفرس طويلا قبل التفكير في الثأر؛ فإذا أقدموا عليه كانت جيوش أمير المؤمنين في منعة وقوة وعدة للقائهم والقضاء عليهم وردهم إلى ما وراء جبالهم، بل كانت في عدة للتقدم في سهولهم والاستيلاء على بلادهم، كما استولت على العراق وأزالت عنه سلطانهم .
لم يغب هذان الاعتباران عن تقدير عمر، بل لعلهما لم يكونا موضع تفكيره؛ لأنهما بديهيان، ولأن عمر يوم عزم متابعة الغزو في العراق لم يكن يقصد من غزوه إلى إجلاء الفرس عنه وتركه بعد ذلك وشأنه، وإنما كان قصده أن يضم العراق وأن يضم الشام إلى هذه الوحدة العربية الممتدة من خليج عدن والمحيط الهندي وخليج فارس في الجنوب إلى أقصى الشمال من بادية الشام؛ لذلك كان طبيعيا أن يلي الظافرون بالعراق أمره، وأن يطمئنوا إلى الاستقرار به، وأن يتولوا تنظيم الحكم فيه، أفيقيمون هذا النظام على نحو ما كان الروم والفرس يصنعون في البلاد التي يفتحونها؟ أم ماذا عسى أن يكون النظام الذي يقرره عمر في البلاد المفتوحة للإمبراطورية الإسلامية الناشئة؟
لو أن أمير المؤمنين قدر لإرضاء جنده الظافر بالعراق لسار على خطة الفرس والروم ولجعل لهذا الجند كل شيء، ولما ترك لأهل البلاد إلا الفتات الذي يفيض عن هذا الجند، كما أن دهاقين الفرس لم يكونوا يتركون للفلاحين الذين يعملون في أرضهم إلا الفتات الذي يفيض عنهم، وقد غنم جنود المسلمين في القادسية والمدائن وجلولاء وغيرها من الوقائع ما لم يكونوا يحلمون بمثله، وقد رأوا من خيرات العراق في شتى أرجائه ما يغريهم بعيش نعمة وترف يستمتعون بما يشاءون منه في ظلال سيوفهم، وأنت تذكر ما قاله خالد بن الوليد لجنوده يوم انتصر بالولجة أول عهد المسلمين بغزو العراق، لقد قام يومئذ فيهم وقال لهم: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب! والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.»
وأين طعام الولجة من طعام المدائن! وأين ثراء الفرات من ثراء دجلة! وأين عظمة الحيرة وجلال الخورنق والسدير من عظمة قصر كسرى ومقر ملكه وعرشه! والمسلمون هم اليوم سادة هذا الثراء والناعمون به، وهم اليوم في أوج نصرهم، أفلا يجدر بعمر أن يرضيهم ويجعل لهم من أنعم العراق ما كان يجعله كسرى لجنوده الظافرين، وما كان يجعله قيصر لجنوده الظافرين!
إلى هذا الأمر اتجه عمر بتفكيره، وفيه جعل يشاور أصحابه، وكان أول ما دار بخاطره أن ذكر أوامر أبي بكر إلى قواده يوم وجههم إلى العراق يفتحونه، لقد كان العرب في العراق يعملون فلاحين في أرضه، ثم ينالهم القليل من خيره؛ أما وافر الخير فيذهب إلى الدهاقين الفرس الذين كانوا يسومون العرب الخسف والظلم، وقد أمر أبو بكر قواده ألا ينالوا هؤلاء الفلاحين العرب بسوء، لا يقتلون منهم أحدا ولا يأخذون منهم أسرى، ولا يسيئون إليهم في أمر يتصل بهم، وهذه السياسة كلها الحكمة لا ريب ويجب اتباعها مع فلاحي العراق جميعا، عربهم وغير العرب، ويجب أكثر من هذا أن يشعر الفرس أنفسهم، ممن لم يقاوموا الفاتحين ولم يقوموا في وجوههم أن الحكم الجديد لم ينل مصالحهم المادية بأذى، ولم يصبهم في أشخاصهم وأهليهم بسوء، يتساوى من هؤلاء من أقاموا بأرضهم، ومن فروا فزعا من القتال ثم عادوا إلى أرضهم آمنين وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجا أو جزية لا ينوءون بأيهما، بهذا، وبإقامة العدل بين الأهلين يطمئن المحكومون ويستريحون إلى سلطان المسلمين.
على أنه يجب أن يشعروا كذلك بأن للحاكمين من القوة والبأس ما يحطم كل خيال للانتقاض يمكن أن يداعب خواطرهم باسم الإباء الذاتي أو العزة القومية، ويجب لذلك أن تكون للفاتحين مدن خاصة بهم، لا يشاركهم أحد من المحكومين في مساكنها، بل يستأثرون بها، ويجتمع جندهم فيها، ثم يكون هذا الجند على أهبة للقتال في كل وقت، بهذا يأمن المسلمون ثورة العراق بهم، ويأمنون تفكير الفرس في الثأر لأنفسهم، ويطمئنون إلى سلطانهم، وإلى أنهم قادرون في كل حين أن يحافظوا عليه عزيزا كريما.
هذه هي السياسة التي استقر عندها رأي عمر بعد مشورة أصحابه، وقد أعانت الحوادث على تنفيذها في هوادة لا تثير هواجس أهل العراق ولا هواجس الفرس، ولا تشعر المسلمين الفاتحين بأنهم حرموا مغانم الفتح ، ذلك لأن جو مدن العراق أضر بصحة الجند المسلمين، قدمت وفود الجند على عمر من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل يذكرون له الفتح والمغانم، فلما فرغ من النظر في حاجاتهم قال لهم: «والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم
4
بها! ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما أبدءوا فما غيركم؟» قالوا: «وخومة البلاد.» وبعث إلى سعد بالمدائن يسأله عما غير ألوان العرب، فأجابه بمثل ما قالوا، وكان حذيفة بن اليمان مقيما بالمدائن مع سعد، وكان قد كتب إلى عمر قبل مجيء الوفود إليه يقول: «إن العرب قد رقت بطونها، وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها.» وخشي الخليفة ما يجره ذلك على المحاربين من ضعف، فكتب إلى سعد يقول له: «إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث رائدا يرتاد لهم منزلا بريا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.» وإنما أراد عمر بهذا الكتاب أن يحقق غرضين؛ أولهما: أن يكون المكان الذي يختار لمقام هؤلاء العرب جافا كالبادية، تجري مع ذلك فيه المياه الصالحة، والثاني ألا يحول بحر أو جسر دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين بهذا المكان إذا احتاجوا يوما إليه، وكان حذر عمر يجعله يرى البحر مركبا ذا خطر، ويرى لذلك ألا يفصل بينه وبين جنده ما يعرض المدد الذي يبعثه إليه لأي خطر.
واستقدم سعد عبد الله بن المعتم من الموصل والقعقاع بن عمرو من جلولاء، وبعثهما يرتادان المكان الصالح لمقام العرب كما وصفه أمير المؤمنين، وسأل عمر من حوله بالمدينة ممن لهم علم بمواقع العراق أيعرفون مكانا بهذه الصفة، واتفق رأي الجميع على أن موضع الكوفة على مقربة من الحيرة خير المواقع، فالكوفة كالحيرة تقع على الفرات في مكان نضارة وخضرة، وهو غير بعيد مع ذلك عن الصحراء، وسار سعد من المدائن إلى موقع الكوفة فاختار أعلى مكان منها وأمر أن يبنى المسجد عليها، وأن يترك حوله فناء فسيح قدر مرمى السهم من أوسط المسجد يكون سوقا للبيع والشراء، وأقيم المسجد وبنيت له ظلة مائتا ذراع من أساطين رخام اتخذت من قصور للأكاسرة تشبه سماؤها سماء الكنائس الرومية، وأحيط صحن المسجد بخندق لئلا يقتحمه الناس ببنيان، وبني معمار فارسي من آجر مباني الأكاسرة دارا لسعد بحيال المسجد، جعلت فيها بيوت الأموال، وسميت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كل قبيلة مكانا نزلته وجعلت به خيامها، فلما استقر الناس كتب سعد إلى عمر يقول: «إني قد نزلت بالكوفة منزلا فيما بين الحيرة والفرات بريا وبحريا ينبت الحلفاء والنصى، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن، فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة.»
وطاب مقام الناس بالكوفة، ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، فأستأذنوا عمر في أن يقيموا منازل من القصب تكون أكثر من الخيام ثباتا، فأذن في كتاب يقول فيه: «إن المعسكر أشد لحرمكم وأذكى لكم، وما أحب أن أخالفكم.» ولم يلبث الناس حين قرئ عليهم كتاب عمر أن ابتنوا منازلهم من القصب وأقاموا بها، ثم وقع الحريق في هذه المنازل فالتهمها، فأمسى أصحابها دون مأوى، أيعودون فيقيمون بالخيام؟ ذلك ملجأ لا غنى عنه ليقي الناس العراء، لكنهم ألفوا المنازل فلم يبق لهم على المقام بالخيام صبر؛ لذلك بعثوا إلى عمر يذكرون له خبر الحريق ويستأذنونه في البناء باللبن، فأذن لهم وقال «افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة.» وكذلك قامت منازل الكوفة وأقام الناس بها، وجعلت تنازع الحيرة مكانتها حتى نزعتها عنها، وجعلت عاصمة اللخميين أدنى إلى قرية تقوم إلى جانب هذا البلد الذي صارت في سنوات عاصمة ذات شأن في التاريخ الإسلامي.
استقر سعد بالكوفة، فزاد في قصره بابا جعل له ظلة؛ لأن غوغواء الناس بالسوق كانت تمنعه من الحديث، وادعى بعضهم أن سعدا قال لمعماره: سكن عني الصوت، وبلغ ذلك عمر وأن الناس يسمون الدار قصر سعد، فسرح محمد بن مسلمة إلى الكوفة وقال له: «اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك.» وقدم ابن مسلمة الكوفة، وبلغ نبؤه سعدا فاستدعاه ، فأبى أن يدخل القصر، فخرج هو إليه وعرض عليه نفقة، فأبى أن يأخذها ورفع إليه كتاب عمر فإذا فيه: «بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا، إنه ليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت.» فلما تلا سعد ما في الكتاب حلف إنه ما قال الذي قالوا، واقتنع ابن مسلمة بصحة يمينه، فعاد أدراجه، فقص على عمر الخبر كله، وقال له عمر: «فهلا قبلت من سعد؟!» قال ابن مسلمة: لو أردت ذلك كتبت لي به أو أذنت لي فيه، وأجابه عمر: «إن أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عند عهد من صاحبه عمل بالحزم أو قال به ولم ينكل.» وعذر أمير المؤمنين سعدا وأقره.
بنيت البصرة في الوقت الذي بنيت فيه الكوفة وبنيت على مقربة من الأبلة في دلتا النهرين متصلة بالخليج الفارسي، وكان ذلك في السنة الثامنة عشرة من الهجرة، الرابعة من خلافة عمر، وفي رواية أن البصرة أقيمت قبل الكوفة، وإن لم تبن دورها باللبن حتى بنيت به دور الكوفة، ذكر البلاذري أن عتبة بن غزوان غزا الأبلة في السنة الرابعة عشرة للهجرة، فلما فتحها كتب إلى عمر: إنه لا بد للمسلمين من منزل يشتون فيه إذا شتوا، ويسكنون فيه إذا انصرفوا من غزوهم، وأجابه الخليفة: أن اجمع أصحابك في موضع واحد، ولكن قريبا من الماء والمرعى، واكتب إلي بصفته، واطمأن عمر إلى موقع البصرة حين وصفه له عتبة، فنزلها الناس فبنوا مساكن بالقصب، وبنى عتبة مسجدا من قصب كذلك، وكان الناس إذا غزوا نزعوا القصب وحزموه، فإذا رجعوا من الغزو أعادوا بناءه، ثم إن الحريق التهم الكوفة، فأذن عمر فبنى أهل البصرة كما بنى أهل الكوفة باللبن، وصارت البصرة من بعد ثغر العراق على الخليج الفارسي، فبنيت مساكنها بالحجارة، وأقيم بها مسجد من أفخم المساجد ثم كان لها في تاريخ الإسلام مثل ما كان للكوفة من أثر.
ليس من شأننا ونحن نؤرخ لعهد عمر أن نعدوه لنذكر ما قامت به كل من المدينتين من بعده، وحسبنا أن نشير إلى أنهما تركتا، في تاريخ اللغة والأدب والفقه والثقافة الإسلامية، مذاهب ما زال أثرها يذكر إلى اليوم، وقد كان بين المدينتين من التنافس في ذلك كله مثل ما كان بينهما من التنافس في توجيه سياسة الدولة العامة وسياستها بالعراق خاصة، وقد بدأت كل مدينة منهما تتبوأ مكانتها في عهد عمر، وكان ذلك طبيعيا؛ إذ كانت الكوفة عاصمة العراق، وكانت البصرة ثغره الأول، وإذ استأثر أهل شبه الجزيرة بالمدينتين كما قدمنا، فهاجر أهل الجنوب من اليمن وما جاورها إلى الكوفة، وهاجر أنصار المدينة وأهل الشمال إلى البصرة، وقد كان لهذه الهجرة في غزوة فارس من بعد أحسن الأثر.
على أي الموارد كان يعتمد أهل المدينتين لحياتهم بعد إنشائهما؟ لقد اطمأن الأمر بالعراق كله زمنا قبل أن تعود قوات المسلمين لقتال يزدجرد وجنوده بفارس فتغنم منهم الغنائم، ولم يكن العرب أهل زراعة ليعتمدوا على عملهم في أرض العراق، أفكانوا يغصبون الفلاحين فيه ثمرات كدهم كما كان يصنع دهاقين الفرس من قبل؟!
يتعدى الجواب على هذا السؤال أمر الكوفة والبصرة وما كان يعتمد عليه أهلهما في حياتهم إلى ما كانت قوات المسلمين بالمدائن وجلولاء وتكريت والموصل وشتى أرجاء العراق تعتمد عليه لحياتها، لقد ذكرنا من قبل أن عمر اتجه بسياسته إلى ما اتجه إليه أبو بكر قبله، فأمر قواده وجنوده ألا ينالوا الفلاحين في العراق بأذى، وأن يقيموا بين أهله جميعا عدلا يطمئنون معه إلى سلطان المسلمين فيه، وحسب الأمير المسلم أن يقتضيهم خراجا أو جزية لا ينوءون بأيهما، فلما فتحت جلولاء كتب سعد إلى عمر في أمر الفلاحين، من فر منهم ومن أقام، وكان قد فر منهم بضعة وثلاثون ومائة ألف يتألف منهم بضعة وثلاثون ألف بيت، فكتب إليه عمر:
أن أقر الفلاحين على حالهم إلا من حارب أو هرب منك إلى عدوك، وأجر لهم ما أجريته للفلاحين قبلهم، وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم، أما من سوى الفلاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه - أي تفتحوه - ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلاها فهي لكم، فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذلك، ومن لم تدعوهم ففيء لكم لمن أفاء الله ذلك عليه.
5
ونفذ سعد أوامر عمر هذه، فأقر الفلاحين، ودعا من لج، ووضع الخراج على من رجع، وقبل الذمة، واستصفى ما كان لآل كسرى ومن لج معهم من الأمراء والدهاقين وغيرهم وكان ما استصفاه من هذه الأموال كثيرا موزعا بين جبل فارس وتخوم العرب، وكانت هذه الأموال التي استصفاها سعد حبسا لا يجوز بيعه، كما لا يجوز بيع المنافع العامة من الآحام ومفيض المياه وسكك البريد وما كان لبيوت النار: معابد المجوس.
ترتب على تنفيذ هذه السياسة أن بقيت للفلاحين أرضهم واعتبروا من أهل الذمة، سواء منهم من أقام بأرضه في أثناء الحرب ومن فر منها جزعا ثم عاد بعد الحرب إليها، وكذلك ردت الأرض المملوكة للذين اشتركوا في الحرب من الفلاحين وغير الفلاحين، ثم دعاهم سعد إليه واعتبرهم من أهل الذمة ولما يكن قد قسم أرضهم بين رجال المسلمين، أما الأراضي التي كانت لآل كسرى ولمن اشترك في الحرب من الأمراء والأشراف والدهاقين، فاعتبر ملكا خاصا للدولة، حرم التعامل فيه، وأبيح للفلاحين من أهل العراق استغلاله لقاء أجر يدفعونه لخزانة الدولة، وقد أجري هذا الحكم على الأراضي المملوكة لبيوت النار، فأما المنافع العامة من مجاري المياه وسكك البريد فكانت ملكا عاما، حرمة التعامل فيها قائمة بحكم المنفعة التي خصص لها.
أدى هذا التنظيم إلى تدفق الأموال في خزانة الدولة من مصادر شتى؛ من الخراج والجزية وأجر الأرض المملوكة للدولة، وأجري العطاء من هذه الأموال على الجند وأهليهم بالكوفة والبصرة وسائر مسالح المسلمين، وكان هؤلاء الجنود يودون لو قسمت أرض السواد بينهم وصارت ملكا لأفرادهم ولذويهم من بعدهم، ولم يكن سخاء العطاء الذي يصيبهم ليمنعهم من أن يفاتحوا الولاة بهذه الرغبة، لكن عمر كان يأبى عليهم ما يطلبون من ذلك، قائلا: «لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا.» وإنما أبى عمر منذ اليوم الأول أن يجعل الأرض قسمة بين الجند حتى لا يسكنوا إلى الزراعة ويألفوا حياة الاستقرار، فإذا دعوا إلى قتال اثاقلوا عنه، على حين لا تزال الدولة في حاجة إلى قوتهم وحماستهم، وإلى جيش تام العدة دائم الأهبة، وكيف لأمير المؤمنين أن يطمئن إلى استقرار جنده وقد يرجع الفرس غدا لثأرهم، وقد يثيرون العراق كما أثاروه من قبل؟! فلتبق أرض كسرى ملكا للدولة يستغلها عمالها بأيدي الفلاحين من أهل العراق، ولتقم جنود المسلمين بمسالحها متأهبة لإجابة كل دعوة للقتال.
وكان عطاء أهل الكوفة وأهل البصرة كعطاء غيرهم من المقاتلين رخاء ووفرة، بل لقد ضاعفت كثرة المقيمين بهما هذا العطاء مما جعل أهلها في رخاء ورغد، مع ذلك نفس أهل البصرة على أهل الكوفة موقع بلدهم وما كان يدره عليهم من الخير، سأل عمر بن الخطاب وفدا من أهل البصرة قدموا إليه عن حاجتهم، فقال الأحنف بن قيس وكان معهم: «يا أمير المؤمنين! إن مفاتح الخير بيد الله، وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة، وإنا نزلنا سبخة ملتفة لا يجف نداها ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة لذلك فتربق ولدها كما يربق العنز،
6
يخاف بادرة العدو وأكل السبع، فإلا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا.» فزاد عمر في عطائهم وأمر عامله على الكوفة، وكان أبا موسى الأشعري، فأجرى لهم نهرا من دجلة على ثلاثة فراسخ إلى شمالها.
وكذلك عاش المسلمون بالعراق في رخاء لا شيء من مثله في شبه الجزيرة، ثم كان لهم مع ذلك الرخاء عزة السادة الفاتحين، وقد أقاموا على هذه الحال عدة سنوات لا يفكرون في فتح فارس ولا يسعون إلى فتح جديد، مكتفين برد الهرمزان إذا حاول مناوشتهم في الجنوب الشرقي من ناحية البصرة، ذلك أن عمر كان مصرا على رأيه أن يكتفي بالعراق والدفاع عن تخومه، ولذلك أبى على الذين هزموا الهرمزان أن يلاحقوه داخل بلاده، وأمرهم أن يهادنوه على شروط نقضها الهرمزان غير مرة فأخذ أسيرا وأرسل إلى عمر بالمدينة، وليس المقام ها هنا مقام تفصيل لما صنع الهرمزان مع المسلمين وما صنعوه وسنعود إلى هذا التفصيل بعد حين.
أصر عمر على أن يكتفي بالعراق وأن يدفع الفرس عن تخومه، وكان الفرس قد شغلوا عن العراق بما أصابهم من اضطراب بلاطهم وفساد أمرهم وتسلط الأثرة على نفوسهم، فاضطربت شئون هذا العراق، وفسدت مرافقه، وتدهور إنتاجه، فرأى عمر أن يصرف همته إلى إصلاحه؛ لذلك أمر رجاله أن يمسحوا أرضه، وأن ينظموا مجاريه ليصل الماء إلى كل بقعة صالحة للزراعة فيه، وأن يصلحوا قناطره وجسوره، وأن يعمروا كل ما خربه الفساد أو خربته الحرب في أرجائه، وكان المهندسون الفرس الذين أقاموا بالعراق خير عون على تنفيذ هذا الإصلاح، ذلك أنهم رأوا السلطان مستتبا للمسلمين في البلاد ورأوا كسرى عاجزا عن استرداد هذا السلطان، ثم رأوا أمنا مطمئنا وعدلا شاملا، فآثروا التعاون مع الفاتحين لخير العراق وأهله، وزاد ما تم من هذا الإصلاح في ثبات السلطان الجديد واستقراره، فقد رأى كبراء الفرس الذين أقاموا أهل ذمة وردت إليهم أموالهم ما يجره هذا الإصلاح لهم من زيادة ثروتهم، ورأى الفلاحون فيه عمرانا يزيدهم أمنا ونعمة، ورأى العرب من أهل القبائل التي استقرت به أن بني جنسهم خير من الفرس حكما وأعم عدلا، فاستراح الجميع إلى النظام الذي أقامه أمير المؤمنين أساسا لحكم البلاد، وانصرفوا إلى أموالهم يثمرونها، وإلى أعمالهم يدأبون لإتقانها وتجويدها، وما كان لهم أن يتجهوا بتفكيرهم إلى غير هذه الناحية وهم يرون قوات المسلمين على مقربة منهم في كل مكان، دائبة الأهبة للقضاء على كل انتقاض يحاول أحدهم أن يثير ثائرته.
كان العمل للرزق وللثراء حافز أهل العراق جميعا، أما الفاتحون فكانوا في نعمة بما يصيبهم من العطاء، وكانوا مع ذلك ينافس بعضهم بعضا وينفس بعضهم على بعض، وقد رأيت أهل البصرة كيف نفسوا على أهل الكوفة موقع بلدهم وكثرة خيراتهم، وكانت القبائل التي أقامت بكل من هذين البلدين تتنافس ويفاخر بعضها بعضا، ذلك أن روح القبيلة الأصيل فيهم حفزهم إلى هذا التنافس وهذه المفاخرة، وزاد في حفزهم فراغ قوى هذا الروح وشجعه، ثم إنهم رأوا في مفاضلة عمر بينهم وتفضيله قريشا على غيرها، ورفعه مكانة المهاجرين والأنصار على من سواهم، ما أغراهم بالكيد لمن آثرهم الخليفة برعايته، وهذا الكيد هو الذي دعا بعضهم فنسب إلى سعد بن أبي وقاص ما لم يقله حين بنى باب قصره، وسعى قوم بسعد إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة، فأرسل عمر يسأل أهل الكوفة في ذلك، وسأل عنه سعدا، فلما علم أنه يصلي بالناس صلاة رسول الله قال: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق! وبلغ من كيد أهل الكوفة لسعد أنه قال لهم يوما: اللهم لا ترض عنهم أميرا ولا ترضهم بأمير، وكأنما استجاب الله دعاء سعد؛ فلم يكن أمير على الكوفة إلا سعى به أهلها إلى الخليفة، ذلك أن الأمير كان يراهم يكيد بعضهم لبعض ويثور بعضهم ببعض، فيعمل للقضاء على فتنتهم، فينقلبون إلبا عليه عند أمير المؤمنين.
لم يكن لهذا التنافس بين أهل الكوفة والبصرة وغيرهم من سائر المسلمين بالعراق أثر تخشى مغبته في عهد عمر؛ فقد كان المسلمون جميعا جنودا يدعون إلى الميدان حينا بعد حين، فيسكن تنافسهم، وينقلب أهلوهم إلى التطلع لأخبارهم وما يصيبون من نصر أو يصيبهم من ضر، هذا إلى أن النشاط الذي ملأ أرجاء العراق لإصلاحه جعل الناس في شغل به عن الاستماع لهذه المنافسات وأنبائها، ثم إن عمر كان إلى حزمه وشدته حكيما رحيما، فلم تدع شدته لفتنة أن تثور، ولم تدع حكمته ورحمته لمظلوم أن يشكو، بذلك سارت الأمور في العراق راضية مطمئنة، لا تزعج الخليفة ولا تزعج غيره من المسلمين. •••
بينما كانت سعد بن أبي وقاص يسير من القادسية إلى المدائن ويبعث قواده إلى جلولاء وتكريت والموصل، وينشئ الكوفة والبصرة، ويطمئن له الأمر في العراق كله، كان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ومن معهم من القواد والجند يجاهدون الروم بالشام، وكان عمر بن الخطاب ينتقل من المدينة إلى بيت المقدس وإلى دمشق، فلننتقل الآن إلى الشام لنصحبهم، فنرى كيف أتموا وحدة الجنس العربي من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة.
هوامش
الفصل الحادي عشر
جلاء هرقل عن سورية
بينما كان سعد بن أبي وقاص يهزم الفرس بالقادسية، ثم يقتحم العراق إلى المدائن، وينشئ البصرة والكوفة، وينظم الحكم في البلاد، كان أبو عبيدة بن الجراح وزملاؤه بالشام يتقدمون فيه ويفتحون مدنه ويجلون الروم عنه، وما كان لهم ألا يفعلوا بعد أن هزموا تذارق باليرموك، وفتحوا دمشق، وقضوا على قوات هرقل بفحل، وأخضعوا ما حولها من أرض طبرية وبيسان، ذلك أن طبرية واليرموك وفحل ودمشق تقع كلها على مقربة من تخوم الشام إلى ناحية البادية، وللروم من الحصون والمعاقل المنيعة في داخلية البلاد ما يهدد الغزاة إذ لم يفضوها على حماتها، فليتقدموا إلى هذه المعاقل، وليفتحوا بلادا عزم أبو بكر ثم عزم عمر على فتحها.
وكانت خطة الفتح بالشام تختلف عن خطته بالعراق، كانت إمارة الجند بالعراق موحدة منذ تولاها خالد بن الوليد في عهد أبي بكر، وظلت كذلك من بعده حتى عهد بها عمر إلى سعد بن أبي وقاص، أما الشام فأنت تذكر أن أبا بكر بعث إليه أربعة جيوش عين لكل منها منطقة، وجعل على كل منها أميرا له تصريف القتال في منطقته، فإذا اجتمعت فأبو عبيدة بن الجراح أميرها، وكان عمرو بن العاص هو الأمير على القوات التي أرسلت إلى فلسطين.
وقد اجتمعت هذه الجيوش على اليرموك حين عجز كل منها منفردا عن مواجهة الروم، وضاق أبو بكر ذرعا بمقامها على اليرموك دون قتال، فبعث خالد بن الوليد من العراق إليها وجعله أميرا عليها، فلما قبض أبو بكر وتولى عمر عزل خالدا ورد الإمارة إلى أبي عبيدة، وأبلغ أبو عبيدة خالدا هذا الأمر بعد اليرموك في رواية، وبعد دمشق في رواية، وخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان في قوة على دمشق بعد فتحها، وسار ومعه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وسائر القواد والجند، فهزم الروم بفحل، واستولت قواته على بيسان وطبرية وصالحوا أهلها. عند ذلك كتب إليه عمر أن يغزو حمص، فسار بقواته شمالا نحو دمشق ومعه خالد بن الوليد، وترك عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بالأردن ليفتحوا فلسطين، فكان عمرو هو أمير قوات الحرب فيها مع بقاء أبي عبيدة أميرا على الجند كله.
والآن فلنتابع أبا عبيدة في مسيرته بالشام لنعود من بعد فنساير ابن العاص حتى يبلغ بيت المقدس، فيقيم على حصارها حتى يعقد عمر الصلح مع أهلها، وليس يدعونا للبدء بمسايرة أبي عبيدة أنه الأمير الأول، وإنما يدعونا لذلك أنه سيعود هو وخالد بن الوليد ليكونا مع عمر على أبواب مدينة المسجد الأقصى، فمن الخير أن تكون رقعة الفتح بالشام كله مجلوة أمامنا في ذلك اليوم المشهود، يوم سار الفاروق مع بطريق إيلياء
1
خلال المدينة المقدسة ليضع القواعد لمسجد الصخرة، فيربط في بقعة واحدة من الأرض بين الأديان الثلاثة السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يأمره بغزو خمص، فسار في قواته ومعه خالد بن الوليد في طريق دمشق يريد غايته، فلما بلغ عاصمة الشام أمر هاشم بن عتبة ففصل في قوات العراق مددا لسعد بن أبي وقاص فيما كان مقبلا عليه من غزو الفرس بالقادسية، وسار أبو عبيدة يريد حمص، فاتصل بالقوة التي وقفت ردءا لدمشق من شمالها بإمرة ذي الكلاع الحميري فأمرها بالسير معه، فلما بلغ مرج الروم إلى الشمال الشرقي من دمشق لقي جيشا من الروم بعث به هرقل بإمرة توذر البطريق فوقف قبالته، وإنه لكذلك إذ أقبلت فرقة من الفرسان على رأسها شنس الرومي مددا لتوذر، لكن شنس عسكر على حدة، وتداول أبو عبيدة وخالد بن الوليد ما يصنعان، فاستقر رأيهما على أن يلقى خالد توذر، وأن يلقى أبو عبيدة شنس، ولا يشكان في أن جيشي هرقل يريدان صدهما عن التقدم إلى حمص.
وقضى كل من الرجلين ليله ينظم خطته لمواجهة عدوه، فلما تنفس الصبح كان خالد قد استقر رأيه على مصادمة توذر والقضاء عليه، ولكن ما أشد دهشته! فليس لتوذر وجيشه فيما حوله من الأرض أثر، أين ذهب؟! وكيف ذهب؟! وكيف غابت عن حيلة القائد العبقري حيلته! ولم يك إلا كلمح البصر حتى أيقن خالد أن غريمه انسحب بجنده من أول الليل يقصد دمشق، ثقة منه بأن حماتها لن يطيقوا مقاومته، وظنا منه بأن جيش المسلمين كله سيقف بإزاء شنس يقاتله، وكانت حامية دمشق أضعف بالفعل من أن تصد وحدها هذا الجيش الزاحف عليها، فلو أنه افتض المدينة وتحصن بها لما أغنى الانتصار على شنس شيئا، ولعاد أبو عبيدة وخالد جميعا لحصار عاصمة الشام من جديد، ولأضعف ذلك من عزم المسلمين وضعضع من ركنهم؛ لذلك استاذن أبا عبيدة وأسرع في كتيبة من الفرسان يلاحق توذر حتى لا يدهم يزيد بن أبي سفيان في مأمنه، وكانت الأنباء قد بلغت يزيد بمقدم توذر وجيشه، فخرج ليصدهم ولا علم له بأمر خالد وكتيبته، وأنشب يزيد القتال بعد أن غلق أبواب المدينة آملا أن يطول الأمر بينه وبين الروم حتى يأتيه المدد، وبينما توذر يهاجمه أقبل خالد في كتيبته فأخذ الروم من خلفهم، وكبر خالد وكبر الذين معه، فسمع رجال يزيد تكبيرهم فأيقنوا مقدم المدد فزاد ذلك في قوتهم، أما الروم فما لبثوا حين سمعوا التكبير وأحسوا هجمة خالد عليهم أن تداعت قواتهم واضطربت صفوفهم، فأخذهم يزيد من أمامهم، وخالد من خلفهم وأمعنوا فيهم قتلا فلم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم المسلمون خيلهم ودوابهم وأداة حربهم وكل ما خلفوا من متاعهم، فقسمه يزيد على أصحابه وأصحاب خالد، ثم عاد إلى دمشق مجللا بفخار النصر، مطمئنا إلى أن الله منجز المسلمين وعده ما صدقوا وصبروا وآثروا الآخرة على الدنيا.
عاد خالد بعد هذه الموقعة التي قتل فيها توذر فسار إلى مرج الروم، فألفى أبا عبيدة انتصر على شنس وقتله ومزق جيشه كل ممزق، وانطلق يلاحق فلوله إلى حمص، وبلغت هذه الأنباء هرقل وبلغه أن أبا عبيدة يحاصر بعلبك، فارتحل إلى الرهاء بعد ما بعث إلى أهل حمص يعدهم المدد ويشجعهم على المقاومة، وكيف لا يقاومون والفصل شتاء وبرد حمص قارس فلا طاقة لهؤلاء العرب باحتماله والصبر عليه! ولم تطل مقاومة بعلبك، بل صالح أهلها أبا عبيدة فتركهم إلى حمص، فحاصروها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، وامتنع أهل المدينة بحصونها فلم يكونوا يخرجون لقتال المسلمين إلا في اليوم الشديد برده، وبلغ البرد بالمسلمين أشده، وطال بالروم الحصار وهم ينتظرون مدد هرقل أو جلاء المسلمين فرارا من البرد، لكن المسلمين صبروا، ومدد هرقل لم يصل، وانصرم الشتاء، فأيقن أهل حمص أن لا طاقة لهم من بعد بهؤلاء الذين لا يبرحونهم ولا يفتئون يضيقون الخناق عليهم، وإنهم ليختلفون، فيقول بعضهم بمصالحة المسلمين، ويرى بعضهم الصلح عارا دونه الموت، إذا الأرض زلزلت فتصدعت جدران المدينة وتهافتت منها دور كثيرة، فأخذ أهلها الرعب، ورأوا فيما حدث نذيرا من الله بعذاب شديد، ففزعوا إلى رؤسائهم يطلبون الصلح فلا نجاة لهم إلا به.
ولو أن المسلمين اقتحموا حمص في هذا الوقت لما قاومت ولأخذوها عنوة، لكنهم كانوا قد طال حصارهم لها، واشتد عليهم شتاؤها، ثم كان اضطراب الأرض بالزلزال قد رابهم وروعهم، فلم يشعروا بما كان من رعب أهل المدينة وفزعهم؛ لذلك أجابوا رؤساء المدينة إلى الصلح حينما فاتحوهم فيه، فتركوا لأهلها دورهم وبنيانهم، وصالحوهم على صلح دمشق في الخراج والجزية، وأخذوا منهم من المنازل ما يكفي لإقامتهم، ثم إن أبا عبيدة كتب إلى عمر بما حدث، فبعث عمر إليه: «أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام؛ فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكاتفك إن شاء الله.»
أقام أبو عبيدة في مدينته حتى تنصف الربيع من السنة الخامسة عشرة للهجرة، فلما زالت عن جنده شدة الشتاء وما أصابهم من زمهريره، عاودهم النشاط للفتح، وانضم إليه أهل القوة والجلد من عرب الشام فازدادوا نشاطا، فعاد أبو عبيدة يفكر في متابعة الغزو بشمال الشام، وزاده إقبالا على هذا التفكير ما ترامى إليه من أنباء عمرو بن العاص وزملائه الذين نازلوا جنود هرقل بفلسطين، وتداول المشورة مع خالد بن الوليد، فاستقر رأيهما على السير شمالا إلى أنطاكية من ناحية، وإلى حلب من الناحية الأخرى، والطريق إلى أنطاكية بشاطئ نهر الأرند،
2
ويمر بحماة وشيزر، وتهدده قلاع اللاذقية، ودون الطريق إلى حلب حصن قنسرين تحيط به هضاب لا بد من اجتيازها قبل بلوغ هذا المعقل المنيع.
خلف أبو عبيدة عبادة بن الصامت على حمص، ومضى في الجيش نحو حماة، ففتحت له أدستان أبوابها، ثم تلقاه أهل حماة مذعنين، فصالحهم على صلح حمص، وبلغ أهل شيزر أن المسلمين يسيرون إليهم فأسرعوا إلى مصالحتهم على صلح حماة، وفتح أبو عبيدة سلمية، ثم سار حتى أتى ثغر اللاذقية، فلما رأى أهلها مقدمه تحصنوا بمعقلهم وأغلقوا باب مدينتهم وأعدوا لمقاومة عدوهم، مطمئنين إلى أنه إن حاصرهم استطاعوا الوقوف في وجهه، حتى يأتيهم المدد من طريق البحر، ورأى أبو عبيدة حصون المدينة وأدرك صعوبة مرامها، وأنه إن يقف قبالتها يطل وقوفه، فإذا جاءتها الأمداد كان بين أن ينصرف عنها عاجزا دونها، أو يقيم على حصارها فيصرفه ذلك عن السير إلى أنطاكية؛ لذلك لجأ إلى الحيلة، فعسكر على بعد من المدينة ثم أمر أن تحفر حفائر كالأسراب تستر الحفيرة منها الفارس راكبا، فلما فرغ رجاله من حفرها أظهروا أنهم منصرفون عن المدينة إلى حمص، ورآهم أهل اللاذقية يسيرون فاطمأنوا ورجعوا إلى مألوف حياتهم، فلما جن الليل عاد المسلمون أدراجهم فاستتروا بتلك الحفائر، وأصبح أهل اللاذقية ففتحوا أبوابها وانتشروا بظاهرها، فلم يرعهم إلا المسلمون يخرجون من مكانهم مندفعين إلى المدينة يدخلونها عنوة، فيقف حرسهم على بابها يمنعون أهلها من دخولها، وتحيط قواتهم بالحامية المقيمة في حصونها، وفر الذين خرجوا إلى ظاهر المدينة، تولاهم الفزع فهم يطلبون النجاة حيثما وجدوا إلى النجاة سبيلا، ولم يجد الذين أقاموا بالمدينة بدا من التسليم فسلموا، وطلب الفارون الأمان، فصالحهم أبو عبيدة على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا، وترك لهم كنيستهم وبنى المسلمون من بعد مسجدا على مقربة منها.
وسار أبو عبيدة من اللاذقية إلى معرة حمص
3
ففتحها، ووجه خالد بن الوليد منها إلى قنسرين كورة ولاية حلب، ولم تكن مناعة قنسرين لتخفى على ابن الوليد، ولم يكن يخفى عليه ما يجيئها من مدد، ولكن! متى راعت خالدا قوة حصن أو مناعة مدينة! ومتى ردته الصفوف المتراصة عن اقتحامها وخوض لجتها! لذلك سار إلى غايته مطمئنا إلى أن الله ناصره، وكان لقنسرين حاضر إلى جنوبها يقيم بها عرب من تنوخ وسليح في خيامهم وكأنهم طلائع لهذه المدينة المنيعة، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم العرب الذين ينزلون ظاهر المدن لحمايتها، وعلم الروم أن القادم عليهم هو العبقري القاهر، فلم يطمئنوا إلى مقدرة أهل الحاضر على الوقوف في وجه الغزاة، فخرج ميناس، أعظم رجل في المملكة بعد هرقل، على رأس جند عظيم، فسار إلى الحاضر فعبأ جيشه بها وأقام ينتظر مقدم المسلمين ليصدهم عن التوغل في ملك قيصر، وبعث رجالا من أهل ثقته يتنطسون أخبار عدوه ليدبر على ضوئها خطة لقائه، وإنه ليتنسم هذه الأخبار إذ فجأه خالد مع الصبح من حيث لا يدري، وحاول ميناس أن يصد هذه المفاجأة، لكن خالدا كان قد أحكم تدبيره فهاجم الروم بكل قوته، فلم يستطيعوا الصبر أمامه، وكيف يصبرون واسمه يهز القلوب، ويدك العزائم! وكيف يصبرون وقد تداولت أسماعهم أنباء المسلمين وفتحهم دمشق وحمص وحماة واللاذقية! ومتى كان لجيش تحطمت قوته المعنوية صبر! وحاولوا الفرار فإذا خالد قد أخذ عليهم مسالكه، فأمعن جنده فيهم قتلا فمات أكثرهم على دم واحد، وتردى ميناس على رأسهم يتخبط في دمه، ولجأ الذين فروا إلى قنسرين وتحصنوا، فتبعهم خالد إليها فألفاهم غلقوا أبوابها، عند ذلك بعث إليهم النذير يقول: «لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.» وقاومت حصون المدينة زمنا أيقن أهلها بعده أن لا مفر لهم من النزول على حكم قاهر ميناس وتذريق وقواد الروم جميعا، فبعثوا إليه طالبين الأمان على صلح حمص، لكن خالدا رأى أن يعاقبهم بمقاومتهم فأبى إلا تخريب المدينة، ففر أهلها إلى أنطاكية تاركين أموالهم ونساءهم وأبناءهم وديعة بيد القدر.
هذه هي الرواية المشهورة في فتح قنسرين، على أن بعض المؤرخين المولعين بالأدب يضيفون إليها موقفا كان لجبلة بن الأيهم الغساني في الدفاع عن هذه المدينة، وأنت تعلم أن جبلة كان آخر ملوك بني غسان من قبل هرقل، وأنه كان حليفا صادق الولاء للروم، وقد كان، كغيره من ملوك بني غسان وملوك الحيرة محبا لشعراء العرب، يكرمهم ويحسن وفادتهم، وكان حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله أحب الشعراء إليه وأحظاهم عنده، ومدائح حسان فيه لا تزال تروى إلى اليوم على أنها من عيون الشعر العربي، وكان جبلة مقيما عند جسر الحديد على نهر الأرند قريبا من أنطاكية حين ترامت إليه أنباء قنسرين وحصارها، فسار إليها يخفف الضغط عنها ويعين حاميتها على قهر عدوهم، وإنه لفي مسيرته إذ جاءته طلائعه برجل من المسلمين ذكر أنه سعيد بن عامر الخزرجي، وأنه ينتمي إلى أجداد جبلة من مزيقياء إحدى بطون بني ثعلبة العنقاء، وادكر جبلة حين سمع اسم الخزرج صديقه الشاعر الأنصاري، فسأل سعيدا: كم لك منذ فارقته؟ وأجابه سعيد، عهدي به قريب، وقد دعاني إلى دعوة صنعها وأمر جاريته أن تنشد شعرا فيك فأنشدت:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
قبر ابن مارية الجواد المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
فلما سمع جبلة ذلك منه أجازه وذكر له أن الملك بعثه مددا لقنسرين، وطلب إليه أن يحذر خالدا بأس جنوده ومضاء أسيافهم ، وتابع جبلة وجيشه السير مع الروم ولقي خالدا وكاد ينتصر عليه لولا أن جاء المسلمين مدد رجح كفتهم، فهزموا جبلة واستولوا على المدينة المحصورة، ففر من أهلها إلى أنطاكية من فر، وقدم أبو عبيدة في جنده فألفى خالدا تم له النصر، فصالح أهل قنسرين على الأمان والجزية، وأن تهدم حصونهم وأسوارهم، ورأى العرب من أهل الحاضر ما كان من ذلك، فأقبلوا يعلنون الطاعة وأسلم منهم كثيرون، أما من بقي على نصرانيته فضربت عليه الجزية.
وهذه الرواية عن جبلة وسيره للدفاع عن قنسرين مرجوحة في رأيي؛ ولذلك لم يذكرها الطبري وابن خلدون وابن الأثير وابن كثير ومن إليهم، وإن ذكرت في فتوح الشام المنسوب للواقدي، أما الرواية المشهورة التي ذكرها المؤرخون الثقات فهي الراجحة، وقد كتب أبو عبيدة إلى عمر بفعال خالد بن الوليد وقضائه على ميناس وجيشه واقتحامه قنسرين على منعتها، وقوله لأهلها: «لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.» فأخذ عمر الإعجاب بعبقرية خالد بارزة في هذه الأعمال أيما بروز، وقال: «أمر خالد نفسه! يرحم الله أبا بكر! هو كان أعلم بالرجال مني!»
هذه الكلمات التي قالها عمر تدلنا على أن خالدا أتى في قنسرين بمعجزات فاقت مواقفه بدمشق وحمص وما سواهما من البلاد التي فتحها المسلمون منذ تولى عمر الخلافة إلى يوم تنفست عنها شفتاه، ودلالتها على ذلك أشد وأقوى لما نعرفه عن عمر وسوء رأيه في خالد، حتى لقد عزله عن إمارة الجيش أول ما آلت إليه إمارة المؤمنين، وقد بلغ من عمق الأثر الذي تركته هذه الفعال في نفس عمر أن أسند إلى خالد إمارة قنسرين حين لقيه ببيت المقدس بعد أشهر من ذلك اليوم.
ومن عجب أن تترك فعال خالد بقنسرين كل هذا الأثر في نفس أمير المؤمنين، وأن تكون قنسرين عاصمة الولاية الممتدة حولها؛ ثم لا يقص المؤرخون الثقات من تفاصيل فتحها أكثر مما رأيت،
4
وليس هذا الإيجاز مما خصت به قنسرين، بل جرى عليه الطبري ومن أخذ مأخذه، وجرى عليه البلاذري ومن تابعه، فأجملوا وقائع الفتح بالشام إجمالا لا يتفق وتفصيلهم وقائع العراق وما حدث فيها، وإنما فصلوا من وقائع الشام غزوة اليرموك وفتح بيت المقدس، وأعاروا فتح دمشق بعض العناية، لاعتبارهم اليرموك مفتاح الشام كما اعتبروا القادسية مفتاح العراق، ولأن دمشق عاصمة الشام وبيت المقدس مدينة المسجد الأقصى، وكم وددنا لو أنهم فصلوا ما حدث بقنسرين لنقف منه على السر في كلمة أمير المؤمنين.
ذكرنا أن أهل قنسرين بعثوا إلى خالد يطلبون الأمان على صلح حمص، وأن خالدا رأى أن يجزيهم بمقاومتهم، فأبى إلا تخريب المدينة، ففر أهلها إلى أنطاكية، فلما جاء أبو عبيدة وعرف ما طلبوا رأى فيما أراد خالد أن يجزيهم به عدلا لا غبار عليه، ولذلك هدم حصون المدينة وأسوارها ثم رأى أن يقرن إلى العدل الرحمة، فأجاب أهل المدينة إلى الأمان والصلح الذي طلبوا، قيل: إن كنائس المدينة ومنازلها قسمت فاستولى المسلمون على نصفها، وقيل: بل أقيم مسجد على بقعة من أرضها وترك ما سوى ذلك لأهلها كما كان فعاد الذين فروا إلى أنطاكية وقد رضوا أداء الجزية، وأمر أبو عبيدة فأحسنت معاملتهم كما أحسنت معاملة غيرهم في البلاد التي فتحها المسلمون، وقام العدل بينهم على أساس من المساواة الصحيحة وإنصاف الضعيف من القوي.
مع ذلك بقي في نفوسهم من الحفيظة والحقد ما دفعهم إلى الانتقاض والغدر حين سار المسلمون عنهم يريدون حلب، ووجه أبو عبيدة إليهم قوة حصرتهم وأخذت منهم بقرا وغنما وتركت بينهم حامية تكفل إذعانهم، وتحمي مؤخرة الجيش الفاتح، واطمأن أبو عبيدة فسار حتى نزل حاضر حلب فاجتمع له أصناف من عرب هذا الحاضر، صالحهم على الجزية، وأسلم منهم بعد ذلك من أسلم، وقدم أبو عبيدة عياض بن غنم إلى حلب فحاصرها، فلم يلبث أن طلبوا الصلح مع أن حصونهم منيعة، وما مناعة الحصون إذا تضعضعت القلوب وضعفت الهمم وخارت العزائم! وقد رأى أهل حلب ما حل بمن قبلهم ورأوا المقاومة لا ترد هؤلاء الفاتحين الذين لا يهابون الموت، فألقوا بأيديهم ، قيل : إن عياضا قبل ما طلبوا من الأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسهم وحصنهم، فصالحهم عليه، وأن يدعوا مكانا يقيم المسلمون فيه مسجدهم، وقيل: بل صولحوا على قسمة منازلهم وكنائسهم، وقيل: إن أبا عبيدة دخل حلب فلم يجد بها أحدا ورأى أهلها انتقلوا إلى أنطاكية، فلما تم الصلح رجعوا إليها.
تردد ذكر أنطاكية في هذا الفصل، وقد رأينا من قبل أن هرقل لجأ إليها حين جلا عن حمص بعد فتح دمشق، وسنرى أبو عبيدة الآن يسير إليها فيفتحها، فلا يلبث هرقل بعد فتحها أن يذر الشام كله وأن يرتد إلى القسطنطينية، ثم لا يلبث جبلة بن الأيهم أن ينضم إلى المسلمين وأن يذهب إلى عمر بالمدينة، وليس في ذلك عجب؛ فقد كانت أنطاكية إلى يومئذ عاصمة الإمبراطورية الرومية في الشرق، والمدينة التي تلي فيها مدينة قسطنطين، وكان أباطرة الروم يؤثرونها على الإسكندرية لقربها منهم، ولشعورهم بأنها أوثق ارتباطا بهم من العاصمة المصرية التي يفصلها البحر عنهم، والتي كانت تثور الحين بعد الحين بهم؛ لذلك كانت أنطاكية موضع عنايتهم، فكانوا يقيمون بها من المعابد والعمائر والملاعب ما جعلها تزهى على دمشق وغير دمشق من سائر مدن الشرق، كان ذلك شأنها أيام الوثنية الإغريقية والرومية، ثم كان ذلك شأنها أيام المسيحية، كانت معابد الأوثان تقوم في أرجائها فخمة ضخمة، وقد دكتها الزلازل غير مرة فأعادها الأباطرة أكثر فخامة، وكانت الكنائس المسيحية التي قامت من بعد لا تقل عن تلك المعابد جلالا ومهابة، ذلك أن لأنطاكية سبقا إلى المسيحية تفاخر به؛ فأهلها أول من أطلق عليهم اسم المسيحيين، وبطارقتها يذكرون أن القديس بطرس هو الذي نصر آباءهم، وقد أقام برنابا بينهم وأذاع تعاليمه فيهم، فكان له بالمدينة من التلاميذ والأتباع ما جعلها في العصور المسيحية الأولى مقر نشاط ديني عظيم، ومقام بطريق آسيا، وقد عقدت بها في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي عشرة مجامع كنسية تركت مقرراتها من الأثر في تكوين الفرق المسيحية ما يفصله تاريخ النصرانية، ونشأ عن ذلك أن انفسحت رقعة المدينة في ذلك العهد فبلغ ساكنوها مائة ألف نسمة، وما كانت لتضيق بمعيشة هذا العدد العظيم وموقعها عند مصب الأرنط على بحر الروم يجيء إليها بكل ما يحتاج إليه أهلها محمولا على السفن من مختلف بلاد الإمبراطورية، كما أن موقعها على طريق القوافل المؤدي إلى حلب، والمتفرع من حلب إلى العراق، وإلى آسيا الصغرى، قد جعلها مستقر تجارة عظيمة متصلة بين الشرق والغرب.
ظلت هذه المكانة لأنطاكية إلى عهد عمر، فكانت عنده عظيمة الذكر والأمر، وكان فتحها يعادل في نظره فتح المدائن وفتح بيت المقدس؛ لذلك كان ينتظر أنباء أبي عبيدة عنها بالتلهف الذي كانت ينتظر به أنباء سعد بن أبي وقاص عن القادسية، ولم يكن أبو عبيدة يجهل مناعة أنطاكية بموقعها وقوة حصونها، كما لم يغب عنه أن الروم الذين نجوا بعد هزائمهم في وقائع الشام كلها قد اجتمعوا وعزموا الدفاع عنها، وكانت أنطاكية منيعة حقا، تحيط بها من كل جوانبها أسوار رفيعة سميكة يدهش ارتفاعها ويدهش سمكها، وكانت هذه الأسوار ترتفع أحيانا من أخاديد الوادي الممتد إلى ناحية حلب، وتعلو الجبال المحيطة ببعض نواحي المدينة أحيانا أخرى، حتى ليخيل إلى الناظر إليها أن الجبال أحاطت بها من كل جانب، فلا سبيل إلى اختراقها أو تخطيها. موقع هذه مناعته، وبه من قوات الروم كل من تراجع بعد حروب الشمال بالشام، جدير أن يصد المسلمين عنه، بل أن يصرفهم عن التفكير في منازلته، وكان جديرا بهرقل أن يتحصن به، وأن يجلب إليه عن طريق البحر كل مدد يدفع به عدوه ويغسل به العار الذي لحقه ولحق إمبراطوريته، لكن هرقل لم يفكر في العود من الرهاء إلى أنطاكية، ولا في إمداد المدينة العظيمة بل تركها يسير أبو عبيدة إليها، فيخرج إليه أهلها فيهزمهم في معركة حامية خارج حصونها، ثم يحاصرها من كل جوانبها، فلا تجد مفرا من التسليم له والنزول على حكمه، وصالحهم أبو عبيدة على الجزية والجلاء، ورحل عنهم.
وكأنما كبر على أنطاكية أن تنزل بها هذه الهزيمة النكراء ، فنقض أهلها عهدهم، فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم، فقضى على انتقاضهم، وصالحهم على الصلح الأول، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بما كان من ذلك كله، فكان أمر الخليفة إليه أن يرتب حامية مرابطة بأنطاكية، وألا يؤخر عن رجالها العطاء حتى لا تنتقض المدينة كرة أخرى.
لم يبق بعد أنطاكية إلا أن يطهر المسلمون ما بقي من شمال الشام، وأن يقضوا على كل انتقاض فيه؛ لذلك سار أبو عبيدة إلى حلب حيث اجتمع جيش من الروم كرة أخرى فهزمه وبدد شمله، ثم فتح قورس ومنبج، وبعث خالد بن الوليد ففتح مرعش، بذلك كله اتصل الفتح في الشام بالفرات، وقربت الشقة بين قوات المسلمين فيه وقواتهم في العراق، هذا إلى أن يزيد بن أبي سفيان خرج من دمشق فغزا بيروت ففتحها وفتح الثغور المجاورة لها، وترامت هذه الأنباء كلها إلى هرقل وهو بالرهاء فأيقن أن سورية لم تبق له، وأنها ضاعت منه وانسلخت عن إمبراطوريته.
ماذا عساه يصنع؟ أفيبقى بالرهاء يؤلب أهل الجزيرة ومن جاورهم ليقاوموا، ولعل القدر يبسم لهم بعد عبوسه؟! كلا بل تولاه اليأس وأيقن أفول نجمه؛ لذلك سار من الرهاء قاصدا القسطنطينية، فلما مر بشمشاط كان خالد بن الوليد يسير في بلاد قلقية من مرعش إلى تل أعزاز إلى الدلوك مهددا بذلك رجعته، وفصل هرقل مسرعا من شمشاط فمر في طريقه بشرف علاه وأشرف منه على أرض سورية الجميلة وقال والهم ملء جوانحه: سلام عليك يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولن يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا! وبلغ بزنطية منهد الركن، فألقى بها عصا تسياره دامي القلب كئيبا محسورا.
أليس عجيبا أن يكون ذلك مصير هرقل ومصير سورية! لقد غزا الفرس الروم في سنة أربع عشرة وستمائة للميلاد واستولوا على الشام ومصر، فلم يلبث هرقل حين جلس على عرش الإمبراطورية أن سار على رأس جيشه وحارب الفرس وهزمهم، وأجلاهم عن مصر والشام، واسترد منهم الصليب الأعظم، ثم رده في حفل حافل إلى بيت المقدس، فما بال جيوشه تنهزم أمام المسلمين كل هذه الهزائم؟! ما باله لا يتولى قيادتها ولا يبعث إليها من قوة روحه مثل ما فعل أول ما جلس على عرشه؟! بل ما باله يبقى بعيدا عنها، فيقيم بحمص ثم بأنطاكية، ثم بالرهاء، ليفر آخر الأمر فرار الجبان إلى بيزنطية فينزلها مذموما مدحورا؟! هذا ولما تكن عشر سنوات قد انقضت بين انتصاره على الفرس وانهزامه أمام المسلمين؛ فقد هزم الفرس في سنة خمس وعشرين وستمائة، وبدأت هزائمه أمام المسلمين سنة أربع وثلاثين وستمائة، وكان فراره من سورية كلها سنة ست وثلاثين وستمائة، أليس لهذا الانقلاب العجيب من سر يمكن جلاؤه؟ أم أنه القدر دفع المصادفة فأدت إليه، فلا سبيل لتفسيره ومعرفة أسبابه؟!
ليس في حياة العالم أمر لا يخضع لسنن الكون، ولو أنا عرفنا كل هذه السنن وأحطنا علما بكل ما يقع من الحوادث جليلها ودقيقها، لاستطعنا أن نفسر الظواهر الاجتماعية، وأن نعرف ما يترتب عليها، بالدقة التي نعرف بها مدار الأفلاك وسير الكواكب، لكن كثيرا من السنن لا يزال علمه غائبا عنا، ومن حوادث الكون كثير تفوتنا معرفته؛ إما لأنه مضى ولم يدونه من سبقنا تدوينا نطمئن إلى دقته، أو لأن حياتنا أقصر من أن نحيط في أثنائها بكل الدقائق التي تجعل حكمنا على الظواهر الاجتماعية دقيقا دقة رياضية، لكن ذلك لم يمنع الكتاب والمفكرين في كل العصور من أن يلتمسوا الأسباب ويرتبوا عليها النتائج، فإذا جاء بعدهم نظراؤهم محصوا آراءهم لينفوا زيفها وليبلغوا بها غاية الدقة، وهذا التمحيص ابتغاء الدقة سيظل متصلا على الأجيال حتى نبلغ من العلم بالسنن الكونية في شئون الاجتماع ما بلغنا من العلم بالقوانين الرياضية، فتتجلى أمامنا أسرار الوجود الإنساني ويستوي لنا علم ماضيه ومستقبله، وأغلب ظننا أن الأمد لا يزال بعيدا بيننا وبين هذا المبلغ، فليكن دأبنا مداومة التمحيص لمعرفة الحقيقة؛ فهذا التمحيص هو مظهر الحيوية العقلية والنشاط الروحي، فإذا لم يتيسر لنا أن نكشف عن كل الحقائق كاملة استطعنا أن نظفر منها بأكبر حظ مستطاع.
والآن ما سر الانقلاب الذي طرأ على هرقل وجيوشه، فجعلها تنهزم أمام قوات المسلمين ولما تمض عشر سنوات بعد انتصارها على الفرس، وإجلائها إياهم عن مصر والشام، وتهديدها عاصمة ملكهم؟! أتراها أجهدتها تلك الحروب وقد استطالت ست سنوات واستنزفت من الأموال ودماء الرجال ما استنزفت؟ قد يكون لهذا السبب قيمته في بعض الأحيان؛ لكنه لا قيمة له فيما نحن بصدده، وهو لذلك لا يفسر انقلاب الروم من النصر إلى الهزيمة في هذه السنوات القليلة، ذلك لأن قوة العرب لم تكن كقوة الفرس أو كقوة الروم نظاما وعدة، وعشر سنوات كافية لتجنيد جيش جديد من أرجاء الإمبراطورية لا يستطيع العرب تجنيد مثله عددا وعتادا، وقد رأينا في اليرموك ودمشق وفحل والغزوات كلها أن أعداد الروم كانت تزيد على أعداد العرب أضعافا مضاعفة، ثم لم يغن ذلك عنها ولم يؤتها القوة على المسلمين، بل صدقت كلمة خالد بن الوليد في اليرموك: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال.» لا مفر إذن من أن نلتمس لهذا الانقلاب أسبابا أخرى تفسره وتجلوه.
وهذه الأسباب شتى، ولكنها تتضافر جميعا فتؤدي إلى نتيجة محتومة هي في رأينا علة ما حدث، وخلاصة هذه النتيجة أن سياسة الدولة انتهت إلى برم الناس بها وسوء رأيهم فيها، وإلى انصرافهم لذلك عن تأييدها، وعدم حماستهم لمؤازرتها، والنصر متعذر في جو نفسي هذا شأنه، ذلك بأن التجنيد الحربي لا يكفي وحده لإحراز النصر، فالتجنيد المدني ليس دونه خطرا، ونحن نشعر اليوم بهذا الأمر شعورا قويا، ويخيل إلينا أن مرجعه أن المدنيين يقاسون من أهوال الحرب ما يقاسي الجنود في الميدان؛ فهم معرضون للحصر البحري، والغزو الجوي، وما إلى ذلك مما لم يكونوا يتعرضون في تلك العصور لمثله، وهذا صحيح، ولكنه لا يصور إلا الناحية العنيفة مما قد يتعرض المدنيون له، ولا يصور ما هم مطالبون به من تضحيات إيجابية متصلة هي أساس قوة الجند، وعلى قدرها يكون رجاؤهم في النصر، فالمدنيون هم الذين يمدون الجيش بعتاده وأقواته، وهم الذين يستحبون الحرمان حين الحرب ويؤثرون الجيش على أنفسهم وذويهم، ليكفل لهم نصره حياة سلم فيها أمن ودعة، وهم إنما يبذلون هذه التضحيات مخلصين يوم يطمئنون إلى سياسة الدولة، وإلى قيام الحكم على أساس العدل بينهم وإصلاح شئونهم، فإذا لم يرضوا هذه السياسة وبرموا بها لم يبذلوا هذه التضحية إلا كارهين، ولم يكن عندهم من الحماسة لانتصار الدولة ما يزيد جيوشها إقداما وبأسا، وهذه الحال النفسية أقوى أثرا في انتصار الجيوش وخذلانها من كل مدد وعتاد.
وهذه الحال النفسية هي التي قوت هرقل ونصرته على الفرس، فقد كانت عوامل الفساد والانحلال تدب في كيان الإمبراطورية الرومية قبل أن يجلس هذا العاهل على عرشها ويتولى أمورها؛ لذلك غلبها الفرس واستولوا على ممتلكاتها، فلما قام هرقل بالثورة على فوكاس لسوء حكمه وتولى الأمر مكانه، آمن الناس بأن عصرا جديدا يوشك أن يبزغ فجره، وأن الإمبراطورية لن تلبث أن تسترد ما كان لها من عزة وسؤدد؛ لذلك أقبلوا على هرقل يؤازرونه مخلصين، يبذلون من التضحيات كل ما يستطيعون بذله، ويرخصون أمنهم بل حياتهم في سبيل نصرته، وما أعظم ما يستطيع من يرخص حياته! لذا ظفر هرقل فاسترد ما أضاع سلفه، وانتظر الناس من بعد أن يتحقق رجاؤهم في العصر الجديد.
لكن هرقل ما لبث حين استتب له الأمر في مصر والشام أن لجأ إلى سياسة أحفظت عليه أهل مصر والشام، لقد خوت خزائنه، ولا بد أن يملأها، فبهظ أهل هاتين الولايتين بالضرائب فنفروا، لكن نفورهم من فداحة الضرائب لم يكن وحده ليغير على العاهل العظيم قلوبهم لو أنهم وجدوا عن التضحية المادية عوضا في حكم يكفل لهم الأمن والحرية، ولا شيء أعز على الناس من حرية العقيدة، إنهم ينفرون إذا حاولت صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم لا يستمعون إليك إلا أن يتبينوا إخلاصك لهم وحرصك على هداهم، فإذا اطمأنوا إلى ذلك قاربوك في حذر أول الأمر، حتى إذا آمنوا بما دعوتهم بذلوا في سبيل إيمانهم دماءهم وأرواحهم، أما وذلك شأنهم مع الذين يدعونهم للحق بالحسنى فأحر بهم أن تثور نفوسهم إذا أراد حاكم أن يصرفهم قسرا عن عقيدتهم ليفرض عليهم عقيدة غيرها، فإذا لم يستطيعوا الثورة الصريحة عليه مكروا به وتمنوا له السوء، وكان هذا شأن هرقل في مصر والشام وسائر بلاد الإمبراطورية؛ لذلك تغيرت عليه النفوس ونفرت منه القلوب، فلم يجد سندا من قوة المدنيين ومن روحهم المعنوية تؤازر جيوشه في حرب المسلمين.
فهو حين تم له النصر على الفرس وجاء بالصليب الأعظم إلى بيت المقدس أعطى اليهود العهد الذي طلبوه بالأمان على أنفسهم ومعابدهم، لكن المسيحيون وقساوستهم جعلوا، بعد حفلة إعلاء الصليب، يذكرون اليهود بالسوء ويغرونه بهم، إذ يتهمونهم بأنهم كانوا أشد من الفرس قسوة على المسيحيين وأفظع منهم جرما في تدمير الكنائس وإحراقها، ولقد تردد هرقل بادئ الرأي في نقض عهده، فلما ألح عليه من حوله وذكروا له من الحجج ما يحله من هذا العهد، زال تردده، فأمر بإجلاء اليهود عن بيت المقدس بل أباح دماءهم «حتى لم يبق منهم في دولة الروم ومصر والشام إلا من هرب أو اختفى.»
5
ولم يكن الذين هربوا من بيت المقدس إلى الصحراء فيما وراء نهر الأردن قليلين، هؤلاء ظل حقدهم على هرقل لهذه الفعلة النكراء متقد الضرام لم يطفئه أنه أذن لهم من بعد بالعود إلى موطنهم، فتربصوا، حتى إذا لاحت أعلام المسلمين ضووا إليهم وصاروا لهم أدلاء يكشفون لهم عن عورات البلاد ويقفونهم على أسرار الدولة.
لم يكن اليهود وحدهم هم الذين أكل قلوبهم الحقد على هرقل، بل كان النصارى يشكون كذلك مر الشكوى، ذلك أن هرقل رأى، حين اطمأن له الأمر، أن يوحد المذاهب المسيحية في الإمبراطورية كلها، إيمانا منه بأن تعدد المذاهب هو الذي فرق كلمتها وخضد شوكتها، وكان أكبر رجائه أن يحقق زعماء الكنيسة هذه الوحدة بحكمتهم لتقوم في أرجاء الإمبراطورية على الرضا والوفاق، دون إجبار أو إكراه، ولو أن ذلك تم لكان قوة للدولة على أعدائها، ولشاد لهرقل مجدا باقيا على التاريخ، لكنه لم يكن ليتم، فبقيت المذاهب على تعددها، واضطر الإمبراطور أن يكره الناس على الإذعان للمذهب الرسمي الذي فرض عليهم، فمن أبى حقت عليه كلمة العذاب، وأبى الناس فاضطهدوا، فشكوا إلى هرقل بطش عماله، فأعارهم أذنا صماء، فانصرفت عنه النفوس ونفرت منه القلوب.
كان هرقل حسن القصد لا ريب حين أراد تحقيق الوحدة المذهبية، لكنه نسي حقيقة لو ذكرها لسار غير سيرته، ولما تغير الناس عليه، فتوحيد القوانين تيسيرا للمعاملات بين الناس أمر مرغوب فيه، بل أمر واجب، ومهما يكن من اختلاف الرأي في صلاح القانون الذي ينظم هذه المعاملات فمن المستطاع تغييره يوم يخشى سوء أثره، لكن حرية الضمير في أمر العقيدة لا يمكن أن يحد القانون منها أو أن ينظمها، فهذه الحرية ملاك حياتنا الإنسانية، كما أن الهواء ملاك حياتنا المادية، لذلك يضيق الناس بكل حد منها، ويثورون أعنف الثورة بمن يحاول القضاء عليها، وزعماء الكنيسة وأئمة المذاهب أحرص على حريتهم وعلى حرية الناس في هذا الأمر، فلن يتفقوا على حده وتقييده، ذلك بأنهم إن قيدوه ضعف سلطانهم الروحي على النفوس وتزعزعت مكانتهم في القلوب، وهذا ما حدث بالفعل حين اختار هرقل أسقفا لأنطاكية، وآخر لبيت المقدس، وثالثا للإسكندرية، وفرض على الناس أن يقبلوا المذهب الذي أقره مجمع خلقدونية، فلم ينزل واحد من هؤلاء الأساقفة عن مذهبه ولا عن حرية رأيه، ثم اختلفوا في سياستهم باختلاف طباعهم، فاضطهد أسقف الإسكندرية المصريين ليحملهم على تغيير مذهبهم، ولجأ أسقف بيت المقدس إلى الحيلة، وكان أسقف أنطاكية أوسع صدرا، ولو أن هرقل لم يفرض مذهبا ولم يلزم الناس اعتناقه لما انصرفت عنه النفوس ولا تغيرت عليه القلوب، ولقد بلغ من تغيرها أن وقف أهل الشام حين غزا العرب بلادهم لا تتحرك في نفوسهم الحماسة لدفعهم، بل كان كثير منهم يضرعون إلى الله في أعماق نفوسهم أن تزول دولة قيصر عنهم، كتب أبو الفرج العبري يقول: «لما شكا الناس إلى هرقل لم يجب جوابا، ولهذا أنجانا الله المنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته لدينا أن أخرجنا من ظلم الروم وخلصنا من كراهتهم الشديدة وعداوتهم المرة.»
فداحة الضرائب، وحقد اليهود، والاضطهاد الديني؛ هذه عوامل ثلاثة جعلت المدنيين من أهل الشام ينظرون إلى الروم المحاربين فلا تحركهم حماسة لنصرهم، أو حرص على معاونتهم، وثم عامل رابع تضافر مع هذه العوامل الثلاثة التي أدت إلى هزيمة هرقل وفراره من سورية، فلم تكن حماسة العرب المقيمين على تخوم بادية الشام لتدفعهم إلى الاستماتة في قتال بني عمومتهم من أبناء شبه الجزيرة، ولعل جبلة بن الأيهم كان أكثر هؤلاء العرب حماسة في نصرة هرقل، فهو مدين بملكه للروم الذين عززوه ونصروه وجعلوا له من المكانة ما يخشى أن يزول إذا انتصر المسلمون، مع ذلك لا تروي كتب التاريخ من مظاهر هذه الحماسة إلا تلك القصة المرجوحة التي أشرنا إليها حين الحديث عن فتح قنسرين، والتي لا يثبتها المؤرخون الثقات في كتبهم، أما والجو الذي أحاط بهرقل وجنوده هو ما رأيت، فلا عجب أن تدور عليه الدوائر وأن يأفل نجمه، وأن يفر إلى بزنطية كاسف البال حسيرا مدحورا.
وهذه العوامل هي التي جعلته يدع لغيره قيادة جيشه، فقد سمع بفعال العرب في العراق لعهد أبي بكر فآثر أن يقوم تذارق إلى اليرموك في عدد ضخم من الجند، فلما هزم الجيش وقتل تذارق رأى ألا يغامر بنفسه مخافة أن ينهزم فيدفن في الميدان كل مجده، ولعله ذكر يومئذ رسالة النبي العربي يحملها إليه دحية بن خليفة الكلبي وهو في طريقه إلى بيت المقدس يرد الصليب الأعظم إلى قبر السيد المسيح، وذكر كيف استهان بهذه الرسالة ولم يكترث لها، وها هو ذا يرى العرب الذين اتبعوا محمدا وآمنوا برسالته ينتشرون في الأرض ويندفعون إلى بلاده غزاة فاتحين، يستحبون الموت على الحياة فيهب الله لهم كل أنعم الحياة، أين منهم جنوده الذين لا يصبرون على البأساء ولا يجدون في الفرار عارا! وكيف لهرقل وذلك شأنه وشأن جنده أن ينتصر؟ بل وكيف له ألا ينحدر من قمة المجد إلى حضيض الهوان؟ لقد نسي أن لله في الكون سننا لا تبديل لها، وأن جهل هذه السنن يؤدي بالناس إلى الخطأ ويورطهم في الضلال، وهذا النسيان هو السبب فيما أصابه، وما جعله في التاريخ عبرة المعتبر.
رأى جبلة بن الأيهم مصير هرقل، ورأى قبائل العرب من أهل الشام يهرع الكثيرون منهم إلى الإسلام، فأيقن أن لا بقاء لملكه ولا لعزه إلا أن يسلم ويسلم ذووه معه، وكتب إلى أبو عبيدة بإسلامه وإسلام بني غسان، فاغتبط أمين الأمة، وأبلغ النبأ أمير المؤمنين فاغتبط عمر له، ثم إن جبلة كتب إلى عمر يستأذنه في القدوم عليه فأذن له، فخرج إلى المدينة في خمسمائة من أهل بيته، وأمر عمر الناس باستقباله، فلم يبق بالمدينة بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إلى جبلة وإلى زيه، وكان جبلة قد أمر مائتي رجل من أصحابه فلبسوا السلاح والحرير، وركبوا الخيول معقودة أذنابها، وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية جدته، وأعجب أهل المدينة بذلك كله فلما انتهى جبلة إلى عمر رحب به ولطف له وأدنى مجلسه.
وأقام جبلة بالمدينة زمنا ثم خرج مع عمر، فبينا هو يطوف بالبيت وطئ إزاره رجل من بني فزارة فانحنى، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، واستعدى الرجل عمر، فدعا جبلة وسأله فأقر بما حدث، قال عمر: «قد أقررت فإما أن ترضي الرجل، وإما أن أقيده منك.» وأنكر جبلة ما سمع وقال: «وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟!» قال عمر: «إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية.» قال جبلة: «قد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.» قال عمر: «دع عنك هذا، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك.» قال جبلة: «إذن أتنصر». قال عمر: «إن تنصرت ضربت عنقك؛ لأنك أسلمت فإن ارتددت قتلتك.» فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال: «أنا ناظر في هذا ليلتي هذه.»
وكان قد اجتمع بباب عمر من شتى الأحياء خلق كثير يعجب بعضهم لحزم عمر، ويرى بعض فيه شدة ما أغناه عنها، وبلغ من اختلافهم أن كادت تقوم بينهم فتنة، فلما أمسوا تفرقوا وأذن عمر لجبلة في الانصراف، وأسر جبلة إلى رجاله فتحملوا بليل إلى الشام فأصبحت مكة منهم خالية، وتابع جبلة مسيرته إلى القسطنطينية، فدخل على هرقل متنصرا هو ومن معه، فسر بهم هرقل وظن أنه فتح من الفتوح عظيم، وأقطعه حيث شاء وأجرى عليه ما شاء.
6
وعاش جبلة في جوار هرقل عيش ترف ونعمة يضاهئان ما كان له في ملكه بالشام أو يزيدان عليه، لكنه ظل مع ذلك دائم الحنين إلى منازله بأكناف دمشق، روى أبو الفرج في الأغاني أن عمر بعث رجلا إلى هرقل بكتاب منه، فلما أزمع الرجل الرحيل ذهب إلى جبلة فرأى ما هو فيه من عز يزيد على عز هرقل نفسه، ورأى الجواري حوله يغنينه وينشدنه شعر حسان بن ثابت فيه، وسأل جبلة الرسول عن حسان فقال: أما إنه مضرور البصر كبير السن، فأمر جاريته فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج دفعها إلى الرسول ليدفعها إلى حسان، ثم راود الرسول على مثلها لنفسه فأبى، فبكى جبلة، ثم قال لجواريه: ابكينني، فوضعن عيدانهن وأنشأن ينشدن قول جبلة:
تنصرت الأشراف من عار لطمة
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها لجاج ونخوة
وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
رجعت إلى القول الذي قاله عمر!
ويا ليتني أرعى المخاض بدمنة
وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر!
ويا ليتني بالشام أدنى معيشة
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر!
ورجع الرسول إلى المدينة وذكر لعمر حال جبلة وصلته حسانا، فلما حصل شاعر رسول الله على الدنانير والأثواب انصرف عن أمير المؤمنين وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشر
لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها
كلا ولا متنصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده
إلا كبعض عطية المذموم
وتجري بعض الروايات بأن جبلة اشتد حنينه إلى منازله بأكناف دمشق، وود لو استطاع أن يعود إلى الإسلام فيعود إليها على أن يزوجه عمر إحدى بناته، وأنه مات قبل أن يصله رد عمر بإجابته إلى ما أراد، وهذه الرواية غير صحيحة؛ لأن جبلة عاش إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، قيل: إن معاوية بعث إليه أن يرجع إلى الإسلام ووعده أن يقطعه غوطة دمشق بأسرها فأبى، وقيل: إن جبلة بعث إلى معاوية يعرض الرجوع إلى الإسلام على أن يعطيه منازله وعشرين قرية من الغوطة، فكتب إليه معاوية يجيبه إلى ما طلب، فوجده قد مات، وقد يستطاع التوفيق بين الروايتين الأخيرتين بأن جبلة أبى ما عرضه عليه معاوية، ثم إنه ندم لإبائه فعاد يطلب ما رفض ومات قبل أن يجاب إليه.
وكانت تقيم مع جبلة بالقسطنطينية جالية من أهله وعشيرته آثروه على منازلهم وأهلهم بالشام، وقد قربهم ملوك الروم وأعزوهم فكانوا في بلاطهم حتى دالت دولتهم، يرجح ذلك أن عددا من رجال البلاط في قصر هرقل وخلفائه كانوا يسمون باسم جبلة، وهو اسم عربي لم يعرفه الإغريق ولا عرفه الروم قبل أن ينزل جبلة بن الأيهم عاصمتهم.
أقام جبلة في جوار هرقل يهز الحنين إلى منازله قلبه، وأقام هرقل حسيرا في عاصمة ملكه، يود لو استطاع الرجعة إلى الشام يسير بين جناته الفيحاء، وجباله المجللة بالثلوج، وأوديته الخصبة، حتى يبلغ قبر المسيح ببيت المقدس، أتراه يحاول هذه الرجعة وقد ودع سورية الوداع الأخير، أم أنه وهن عزمه وانهد ركنه؟ ذلك ما سنرى من بعد، فلندعه الآن كاسف البال في قصره، ولنعد إلى فلسطين نساير قواد المسلمين في ربوعه، حتى ندخل معهم بلد المسجد الأقصى.
هوامش
الفصل الثاني عشر
عمر في بيت المقدس
انتصر المسلمون باليرموك في أول خلافة عمر، وقد فرت فلول الروم من هناك إلى فحل فاجتمعت بها، فبعث أبو عبيدة أبا الأعور السلمي ينازلها، وسار هو إلى دمشق، وأقام أبو الأعور فيمن معه من الجند بإزاء تلك الفلول ومن انضم إليها من المدد الذي بعث به هرقل إلى فحل، فلما فتح المسلمون دمشق عاد أبو عبيدة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فحاصروا الروم بفحل، وما زالوا بهم حتى هزموهم، ثم استولوا على طبرية وبيسان ووقفوا على أبواب فلسطين، عند ذلك سار أبو عبيدة وخالد بن الوليد إلى حمص تنفيذا لأمر عمر، تاركين عمرو بن العاص وشرحبيل على القوات التي كانت في إمرتهم للاستيلاء على فلسطين، وفتح أبو عبيدة حمص، وسار المسلمون منها إلى حماة فحلب فأنطاكية فشمال الشام وجنوب قلقية والنصر يسير في ركابهم، فلم يجد هرقل بدا من الفرار إلى القسطنطينية، مودعا سورية الوداع الأخير.
بينما كان أبو عبيدة يسير مظفرا في شمال الشام، كان عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة يواجهان قوات الروم التي اجتمعت بفلسطين ويعملان للقضاء عليها، ولم يكن ذلك أمرا يسيرا، فقد كانت هذه القوات عظيمة كثيرة العدد والعتاد، وكان على قيادتها أطربون
1
أكبر قواد الروم وأكثرهم غورا، وقد رأى ألا يفرق جنده في أماكن كثيرة حتى تتوحد القيادة في يده، وحتى لا يفت ظفر العرب ببعض هذه القوات في أعضاد سائرها، فوضع بالرملة جندا عظيما ووضع بإيليا
2
جندا مثله، وترك بغزة وسبسطية ونابلس واللد ويافا حامياتها، وأقام ينتظر مقدم العرب عليه، واثقا من قدرته على الظفر بهم وتشتيت شملهم.
أدرك عمرو بن العاص دقة الموقف، ورأى أنه إذا واجه أطربون بكل جيشه فانضمت قوات الروم بعضها إلى بعض لم يقدر عليها، وقد تقدر عليه؛ لذلك كتب إلى عمر، فأمر الخليفة يزيد بن أبي سفيان أن يوجه أخاه معاوية إلى قيسارية ليفتحها، فلا يجيء إلى أطربون مدد من البحر عن طريقها، وكانت قيسارية ثغرا جليل الخطر حصين الموقع تحميه قوة كبيرة، وسار معاوية فحصر أهلها، فجعلوا يزاحفونه فيهزمهم ويردهم إلى حصونهم، فلما طال ذلك بهم خرجوا يقاتلونه مستميتين فقضى عليهم حتى كانت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا، بلغوا بعد الهزيمة والفرار مائة ألف، وبسقوط قيسارية والقضاء على جندها أمن المسلمون جانبها، وامتنع كل مدد يجيء إلى الروم عن طريقها.
3
وحاصر العرب غزة كما استولوا على قيسارية، وكانت غزة قد سقطت في يد المسلمين أيام أبي بكر ثم جلوا عنها، وبوقوع هذين الثغرين في نفوذ العرب أمن عمرو ناحية البحر، واضطر أطربون إلى الاعتماد على القوات التي في إمرته دون غيرها.
لم يكتف عمرو بهذا، فقد رأى أطربون يتقدم بقواته إلى أجنادين، فوجه علقمة بن حكيم ومسروقا العكي إلى ناحية إيلياء فشغل بهما جندها، ووجه أبا أيوب المالكي إلى ناحية الرملة فلم يبق بد من احتفاظها بحاميتها، وكتب عمرو بذلك كله إلى عمر، وذكر له دهاء أطربون وسعة حيلته، ووصف له من قوة الروم وعدتهم ما جعل الخليفة يأمر بإرسال المدد العظيم إليه، ثم إنه أعاد النظر في الكتاب فابتسم لصفته أطربون بالدهاء والمكر، وقال لمن حوله: «قد رمينا أطربون الروم بأطربون العرب فانظروا عم تنفرج.»
وبلغت الأمداد فلسطين، فبعث عمرو ببعضها قوة لمن شغلوا جند العدو بإيلياء والرملة وسار هو في جلة الجيش يلقى أطربون بأجنادين، فإذا الروم بحصونهم وخنادقهم في منعة أي منعة، كيف السبيل إليهم؟ وهل من يدله على مأتاهم؟ لم يجد لذلك وسيلة إلا الحيلة، فبعث الرسل يتفاوضون في الصلح، وأسر إليهم أن يوافوه بمداخل العدو وعوراته، لكن الرسل لم تشفه، فآثر أن يتولى الأمر بنفسه، على ألا يظهر عدوه على أمره، فلئن عرف أطربون أن عمرا هو الذي يحادثه ليأخذنه أسيرا، ثم لن يفلته، هذا إن لم يقتله، وتنكر عمرو وسار إلى أطربون ودخل عليه كأنه رسول بعد أن تأمل حصونه وعرف منها ما أراد، وتحدث الرجلان، فداخلت أطربون الريبة في شخص محدثه، وقال في نفسه: «والله إن هذا لعمرو، أو إنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله!» ثم دعا جنديا من رجال حرسه، فأسر إليه إذا مر العربي بمكان بذاته أن يقتله، وفطن عمرو إلى أن في الأمر كيدا، فقال لأطربون: «قد سمعت مني وسمعت منك، فأما ما قلته فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكاشفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك.»
سمع أطربون هذا القول فخالج نفسه الشك فيما ظن، فاسترجع الحارس الذي أسر إليه بقتل هذا العربي، وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك، وخرج عمرو مسرعا إلى عسكره لا يلوي على شيء ولا يظن أن يعود لمثلها، وعرف أطربون الأمر فقال: «خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق.» وبلغ عمر ما حدث فقال: «غلبه عمرو، لله عمرو!»
لم يبق أمام عمرو إلا أن ينشب القتال بعد أن عرف مآخذه ومآتيه، وبعد أن أعد له عدته، والتقى الجيشان بأجنادين كما التقى جيشا المسلمين والروم من قبل بالواقوصة على اليرموك، وكلاهما يعلم ما لهذا اليوم في حياة الإمبراطورية وفي حياة الإسلام من أثر؛ لذلك بلغت شدة القتال بأجنادين ما بلغت باليرموك، فكثر القتلى من الجانبين، وترجح النصر زمنا بينهما، لكن المسلمين كانوا أكثر صبرا، فقد كانت أنباء أبي عبيدة وخالد بن الوليد وانتصاراتهما بشمال الشام قد بلغتهم وبلغت الروم، وكان أهل فلسطين من اليهود والنصارى يقفون من حكامهم ومن غزاتهم موقف المتفرج، لا تحركهم حماسة للروم ولا غضب على المسلمين، فكان لعمرو وجنوده من أنباء إخوانهم، ومن موقف المدنيين حولهم، ما زادهم حماسة وحملهم على الثبات والنصر، فلما آذنت الشمس بالمغيب رأى أطربون صفوفه تضطرب ورجاله تولاهم الإعياء، فانسحب في الناس متقهقرا إلى ناحية بيت المقدس، ورآه علقمة بن حكيم ومسروق العكي في تقهقره فأمرا رجالهما ففسحوا له طريقا، فدخل المدينة بمن بقي من جنوده معتمدا على مناعة حصونها وقوة مقاومتها، منتظرا يوما يكون الحظ فيه أقل عبوسا فيكون له من الرجاء في النصر ما فاته هذا اليوم.
وأمر عمرو علقمة بن حكيم ومسروقا العكي وأبا أيوب المالكي فعسكروا بقواتهم في أجنادين، وأقام هو معهم ينظر في مهاجمة أطربون ببيت المقدس، ورأوا قبل مهاجمته أن يحيطوا به، وأن يقطعوا خط رجعته من ناحية البحر ففتحوا رفح وغزة وسبسطية ونابلس واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا، فتحوا بعضها عنوة، وسلم بعضها ورضي الجزية بغير قتال، بذلك بقيت بيت المقدس والرملة وحدهما حصينتين يحيط بهما المسلمون، أتراهم وقد أمنوا ألا يجيئهم أحد من خلفهم يحاصرون بيت المقدس ويهاجمونها، أم يكتبون بذلك إلى عمر ويقيمون حيث هم إلى أن يجيئهم رأيه؟
وإنهم ليفكرون فيما يصنعون إذ تناول عمرو رسالة من أطربون يقول فيها: «أنت صديقي ونظيري، وأنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغتر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة!» وتعجب عمرو حين قرأ الكتاب، ورد عليه بأنه «صاحب فتح هذه البلاد.» وطلب إلى أطربون أن يشاور وزراءه لعلهم ينصحونه قبل أن يدهمه، لكن أجنادين كانت قد استنفدت من جند المسلمين ما جعلهم بحاجة إلى المدد؛ لذلك آثر ابن العاص أن يكتب إلى عمر يستمده ويستشيره، فبعث إليه يقول له: «إني أعالج حربا كئودا صدوما وبلادا ادخرت لك فرأيك.»
4
تناول عمر بن الخطاب هذا الكتاب وقرأه، والثابت في روايات المؤرخين جميعا، المسلمين منهم وغير المسلمين، أنه ذهب من بعد إلى بيت المقدس وعقد الصلح مع أهله، لكن ما حدث بين تناوله الكتاب ومجيئه إلى فلسطين وعقده الصلح يقع عليه خلاف كبير.
ومن المتفق عليه أن أهل بيت المقدس تولاهم الروع من أجنادين، وثبت في نفوسهم أن مدينتهم صائرة إلى العرب لا محالة؛ لذلك بادروا بالاتفاق مع الأسقف صفرنيوس فنقلوا الصليب الأعظم وكل ما كان في الكنائس من الآنية، وجعلوا كل ذلك عند الساحل ثم وضعوه في سفينة وبعثوا به إلى دار الملك بالقسطنطينية، ليوضع الصليب من بعد في كنيسة القديسة أيا صوفيا، وقد انسحب أطربون بقواته من بيت المقدس إلى مصر قبل أن تبدأ مفاوضات الصلح بين عمر ورسل المدينة المقدسة، لكن الخلاف يقع على ما سوى ذلك وعلى ما يتصل به من الحوادث، فهل تقدم عمرو بن العاص فحاصر إيليا قبل أن يبرحها أطربون وقبل أن يحضر عمر بن الخطاب لمصالحة أهلها ، أم هم طلبوا الصلح قبل أن يحاصروا؟ وهل جاء خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح من الشام فتوليا حصار المدينة ولم يكن عمرو حاصرها، أم تولياه معه؟ وهل جاء عمر بن الخطاب من شبه الجزيرة في أمداد اشتركت في الحصار ثم كانت مفاوضات الصلح، أم جاء في عدد قليل من الرجال بعد أن طلب أهل إيليا الصلح على أن يعقدوه مع أمير المؤمنين؟ وهل طال زمن الحصار أم قصر؟ هذه كلها أمور ترد في أمرها روايات يصعب التوفيق بينها وحسبنا أن نوجزها هنا لنفصل بعدها ما أتمه عمر في بيت المقدس حين مفاوضات الصلح وبعدها.
يجمل بي قبل إيجاز هذه الروايات وتمحيص ما يستطاع تمحيصه منها أن أشير إلى أن موقع إيلياء بالمنطقة الجبلية في جنوب فلسطين جعلها منذ القدم قلعة حصينة ذات شأن كبير من الناحية الحربية، وأن قدماء المصريين كانوا يعتمدون عليها في رد أعدائهم الذين يحاولون الانحدار إلى مصر من ناحيتها، وقد ثارت المدينة بحكم المصريين وتخلصت منهم ثم ردت إليه غير مرة، ففي عهد داود وسليمان استقلت عن مصر فبنى سليمان هيكله بها، واحترق الهيكل واخترقت إيلياء كلها حين غزا الفرس فلسطين في القرن السادس قبل الميلاد، وأعيد بناء الهيكل من بعد، ثم اتخذه اليهود معبدهم والمكان المقدس لشعائرهم، فقووا عمارته وحصنوه وجعلوا منه قلعة ثبتت لغزو الرومان في القرن الأول قبل الميلاد، وهدم هيرودس الهيكل حين تولى أمر فلسطين من قبل الرومان، ثم أعاد بناءه وزاد فيه ورفع عمده، وجعله أكثر مما كان فخامة ومنعة، فلما استقرت المسيحية بفلسطين وتطاول عليها العهد أهمل الهيكل حتى كاد يصبح أطلالا، مع ذلك ظلت المدينة المقدسة معتمدة على مناعة موقعها وقوة حصونها، فلم تفتح أبوابها للفرس حين غزوها في أوائل القرن السابع الميلادي، بل قاومت حصارهم ثمانية عشر يوما اضطرت بعدها للتسليم، فلما استردها هرقل أذاق اليهود العذاب قتلا ونفيا وتنكيلا، لاتهامه إياهم بأنهم مالئوا الفرس حين الغزو ودلوهم على عورات البلاد.
هذه اللمحة السريعة من تاريخ بيت المقدس تنفي الرواية القائلة بأنها لم تقاوم المسلمين، وأن أطربون انسحب منها أول ما جاءه النبأ بمسير الغزاة إليها، وأن أسقفها صفرنيوس لم يلبث حين بلغ عمرو بن العاص أسوارها أن بعث إليه يطلب الصلح على أن يحضر أمير المؤمنين فيتولى عقده بنفسه، فقد رأيت كيف قاومت الغزو في كل تاريخها، وكيف قاومت الفرس قبل عشرين سنة من مجيء المسلمين إليها، ولقد ظفر الفرس يومئذ بالروم في الشام وهزموهم في عدة مواقع، كما ظفر المسلمون بهم في اليرموك ودمشق وفحل وأجنادين، ثم لم يحمل ظفر الفرس المدينة المقدسة على الإذعان دون مقاومة، طبيعي وذلك شأنها أن تقاوم المسلمين كما قاومت الفرس، وأن تصدق الرواية التي تقول إنهم حاصروها شهورا قبل أن تطلب الصلح، وأن ينهار القول بأنها سلمت بالصلح دون مقاومة.
ويجب كذلك أن نستبعد الرواية القائلة بأن خالد بن الوليد أو أبو عبيدة بن الجراح حاصرها أحدهما أو كلاهما، على ما ذكره الطبري وابن الأثير وابن كثير وغيرهم، يقول الطبري: «كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حصر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب فكتب إليه بذلك فسار عن المدينة.» وإنما نستبعد هذه الرواية؛ لأن أبا عبيدة وخالدا كانا حين حصار بيت المقدس، في شغل بفتح حمص وحلب وأنطاكية، وبإخضاع ما جاورها من البلاد، وأن هرقل كان إزاءهما بالرهاء يجمع الجيوش لردهما على أعقابهما، وقد كان ذلك كله كما كان حصار بيت المقدس في السنة الخامسة عشرة من الهجرة (636 للميلاد)، والراجح أن حصار بيت المقدس استطال شهورا من تلك السنة، كان هذان القائدان يسيران في أثنائها بأقصى الشمال من سورية حتى يضطرا هرقل فيرحل إلى عاصمة ملكه على البسفور، أما وذلك شأنهما فالقول بأن أحدهما أو كليهما حاصر بيت المقدس قول لا ينهض، ويجب لذلك استبعاده.
بقيت الرواية القائلة بأن عمرو بن العاص هو الذي حاصر بيت المقدس، وأن حصاره لها طال، وأنها قاومته مقاومة عنيفة، وهذه هي الرواية الراجحة في رأينا؛ لأنها تتفق وما عرف عن بيت المقدس من مقاومة كل من أقدموا على غزوها في مختلف العصور، ولأن عمرو بن العاص لم يكن دون أبي عبيدة مهارة في القيادة ومقدرة عليها؛ وحسبه أنه فاتح مصر معقل الروم المنيع، ولعلك تذكر أنه ود، حين وجه أبو بكر الجيوش لغزو الشام أن يكون أميرا عليها، وأن عمر بن الخطاب قال له يومئذ: «إنك إن لم تكن أميرا هذه المرة، فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد.» ومن قبل ذلك كان أميرا على الجند الذي عهد إليه أبو بكر في القضاء على ردة قضاعة، رجل ذلك شأنه، وله من الحيلة في الحرب والسلم ما لم يشتهر غيره بمثله، وهو بعد صاحب الإمارة على جيوش المسلمين بفلسطين وصاحب فتحها، هو لا ريب الذي تولى حصار بيت المقدس، وهو الذي أقام على حصارها، والذي دارت محادثات الصلح بينه وبين أهلها.
وقد طال هذا الحصار واشتدت مقاومة المدينة، حتى كتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: «إني أعالج حربا كئودا صدوما وبلادا ادخرت لك فرأيك.» يقول الطبري في رواية: إن أهل إيلياء «كانوا أشجوا عمرا وأشجاهم، ولم يقدر عليهم ولا على الرملة.» لذلك أمده الخليفة بجند عظيم ليتقوى به ويقدر عليهم.
هل سار عمر من المدينة مع هذا الجند، أو بقي بها حتى فاوض أهل بيت المقدس عمرا في الصلح واتفقوا على تسليم المدينة على أن يأتي الخليفة بنفسه ليكتب عهدها؟ المشهور أن عمر لم يترك المدينة إلا ليتم الصلح مع أهل إيلياء، وأنه لذلك ذهب في نفر قليل، وبعض الروايات تجري بما يخالف هذا المشهور، روي عن عدي بن سهل أنه قال: «لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين استخلف عليا وخرج ممدا لهم، فقال علي: أين تخرج! إنك تريد عدوا كلبا.» وفي رواية ذكرها ابن كثير «أن عمر ذهب إلى فلسطين يتم الصلح مع أهل إيلياء، وأنه سار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب.» ومن عجب أن يسير عمر بالجيوش لغير شيء إلا أن يتم الصلح ويكتب عهده، ومن عجب كذلك أن يطلب أهل بيت المقدس أن يقدم عمر من المدينة ليتم الصلح معهم وهم يعلمون أن بينه وبينهم مسيرة أسابيع ثلاثة تطرد العير في أثنائها مقبلة من المدينة إليهم؛ لذلك أرجح أن عمر ضاق صبرا بطول الحصار وبكتب عمرو إليه عن بأس عدوه، وأنه أمده، فلما طلب إليه مددا جديدا خرج مع المدد حتى نزل الجابية بين بادية الشام وأرض الأردن، وكان أبو عبيدة وخالد بن الوليد قد فرغا من إخضاع الشام، فدعاهما ليوافياه إلى الجابية حتى يتشاور معهما ومع غيرهما من قواد المسلمين في أنجع الطرق للقضاء على مقاومة المدينة المحصورة.
وعرف أطربون وصفرنيوس مقدم عمر، وعرفا ما نزل بالروم على أيدي أبي عبيدة وخالد من المصائب، وقدرا أن المدينة لن تستطيع المقاومة طويلا من بعد، فانسحب أطربون مستخفيا في قوة من الجند إلى مصر؛ فلما اطمأن البطريق الشيخ إلى نجاته تولى مفاوضة المسلمين في تسليم المدينة، وإذ كان قد علم أن أمير المؤمنين بالجابية فقد اشترط أن يأتي بنفسه ليكتب عهدها، وليس بين الجابية وبيت المقدس ما يتعذر إجابة صفرنيوس إلى طلبه.
هذا ما أرجحه، وما يتفق وسياق التاريخ لوقائع الغزو بالشام وفلسطين، والرواية المشهورة لا تأباه ولا تنكره مع أنها تخالفه في أن عمر إنما سار من المدينة بعد أن طلب أهل بيت المقدس الصلح، مشترطين أن يتولاه الخليفة بنفسه، وأصحاب هذه الرواية يختلفون بينهم فيمن بعث بمطلب أهل إيلياء أن يقوم عمر بمصالحتهم أكان أبا عبيدة أم عمرو بن العاص؛ كما يختلفون في السنة التي تم فيها فتح المدينة، ولست أناقش أقوالهم ابتغاء تمحيصها بعد ما رجحت ما يخالفها، فحسبي أن أثبت هنا هذه الرواية المشهورة عن سير عمر من المدينة إلى إيلياء.
ومجمل هذه الرواية أن عمر تناول كتاب قائده بالذهاب إلى فلسطين فقرأه على المسلمين بالمسجد واستشارهم فيه، ورأى عثمان بن عفان ألا يبرح عمر المدينة: «فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالف علي بن أبي طالب رأي عثمان وأشار على عمر بالسير إلى إيلياء، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام ... «فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح، ولست آمن أن ييأسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم، لا سيما وبيت المقدس معظم عندهم وإليه يحجون.» وآثر عمر رأي علي وأخذ به، فاستخلفه على المدينة، وأمر الناس بالتأهب للسير معه.
وسار عمر من المدينة حتى نزل الجابية
5
وكان قد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بها ليوم سماه لهم، وأن يستخلفوا على أعمالهم، فلما عرفوا مقدمه صاروا إليه يتقدمهم يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد على الجند في عرض يأخذ بالنظر، ورآهم عمر مقبلين عليهم الحرير والديباج، فغلى الدم في عروقه لمرآهم، فنزل عن فرسه وأخذ الحجارة ورماهم بها وصاح مغضبا: «سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي! وإنما شبعتم منذ سنتين، وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم.» واعتذر أمراء الجند قائلين: «يا أمير المؤمنين إنها يلامقة وإن علينا السلاح.» ورأى عمر سلاحهم فخفف مرآه من ثورة غضبه فقال: «فنعم إذن.» وركب حتى دخل الجابية وسار القوم في صحبته.
وبينما عمر معسكر بالجابية فزع الناس إلى السلاح إذ رأوا خيلا مقبلة عليها الفرسان في أيديهم السيوف، فتبسم عمر لمرآهم وقال: مستأمنة، لا تراعوا وأمنوهم، وكان هؤلاء رسل صفرنيوس أسقف بيت المقدس جاءوا يتمون الصلح مع أمير المؤمنين، وصالحهم عمر على صلح دمشق، بل على صلح أكثر منه سخاء، وكتب معهم كتابا أورد الطبري نصه كما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانها وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم أن يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
وختم عمر الكتاب بتوقيعه، ثم أشهد خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.
رجع رسل صفرنيوس بالكتاب إلى بيت المقدس فاغتبط به الأسقف واغتبط به أهل المدينة جميعا، وكيف لا يغتبطون وقد أقرهم المسلمون وأمنوهم على أموالهم وأنفسهم وعقائدهم، لا يضار أحد منهم بسبب دينه، ولا يكره على شيء في أمره! وكيف لا يغتبطون وقد أباح هذا العهد لمن شاء من أهل المدينة أن يرحل عنها مع الروم، وأباح لمن شاء من الروم ومن الأجانب المقيمين بالمدينة أن يظلوا بها آمنين، ثم لم يفرض عليهم غير الجزية يؤدونها لقاء منعهم وكفالة أمنهم! أين هذا مما كان يريد هرقل أن يكره أهل المدينة عليه من ترك مذهبهم إلى مذهب الدولة الرسمي فمن أبى جدع أنفه، وصلمت أذناه، وهدم بيته! ألا إن هذا الصلح لعهد جديد فتح الله به على النصارى من أهل بيت المقدس، وهو عهد لم يتهيأ لهم في التاريخ ولم يكن لهم رجاء قط في مثله.
وترامت أنباء هذا الصلح إلى أهل الرملة، فتطاولت أعناقهم يريدون أن يعقدوا مع أمير المؤمنين صلحا مثله، وكذلك كان شأن غيرهم من أهل فلسطين، وقد ظفر أهل اللد من عمر بكتاب جرى عليهم وعلى البلاد التي دخلت من بعد معهم فيه، وفي هذا الكتاب أعطى عمر أهل اللد أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، وألا يكرهوا على دينهم، ولا يضار أحد منهم، على أن يعطوا من الجزية ما يعطي أهل مدائن الشام، ولما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله أقام على فلسطين رجلين جعل لكل منهما نصفها؛ فلعلقمة بن حكيم الرملة وما معها، ولعلقمة بن مجزز إيلياء وما معها.
أتم عمر صلح فلسطين فصرف أبا عبيدة وخالدا ومن جاء معهما من شمال الشام كلا إلى عمله،
6
ثم إنه أراد الذهاب إلى بيت المقدس مستصحبا عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فوجد فرسه لا يزال يتوجى، فجيء ببرذون فركبه، فلما سار جعل البرذون يتخلع به وتصلصل جلاجله، فكره عمر ذلك منه، فنزل عنه وضرب وجهه بردائه وقال: «قبح الله من علمك هذا من الخيلاء!» ولم يركب برذونا قبله ولا بعده، وأقام أياما جم في أثنائها فرسه فركبه ودخل بيت المقدس، وتلقاه البطريق صفرنيوس وكبراء المدينة فتلطف بهم وأدناهم، وتحدث إليهم حديثا أدخل محبته في قلوبهم؛ فقد رأوا منه الصدق فيما أعطاهم من أمان على أنفسهم وعقائدهم ومعابدهم، ورأوا منه حبا للحق والعدل أين منه ما كان في عهد قيصر من بطش واضطهاد! وأمسى الوقت وانصرف القوم على أن يلقوه صبح الغد، فلما خلا عمر بنفسه صلى شكرا لله على ما أنعم به عليه.
وأية نعمة أكبر من أن يكون فاتح بلد المسجد الأقصى وخليفة رسول الله في الصلاة به! لقد أنعم الله على عبده ورسوله فأسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، فلما بلغ
صلى الله عليه وسلم
بيت المقدس صلى على أطلال هيكل سليمان إماما لإبراهيم وعيسى وموسى، ومن يوم تمت هذه المعجزة بإذن الله لم يذهب رسول الله إلى فلسطين ولم يرد المسجد الأقصى، وخلفه أبو بكر فلم يجعل الله من حظه أن يرده، وقد أوتي عمر هذا الحظ؛ فتحت له بيت المقدس أبوابها، واستقبلته استقبال الظافر المحبوب لعدله وتسامحه وحرصه على ألا يكره أحد في دينه، وبيت المقدس هي من بعد أول قبلة للمسلمين، وهي للنصارى مكان قبر المسيح، ولليهود أرض المعاد، أفنعمة أكبر من هذه النعمة يشكر عمر ربه عليها! فإذا أقام الليل بطوله مصليا، فلن يقضي إلا بعض ما عليه من حق، و
إن ربك من بعدها لغفور رحيم .
أصبح عمر فجاء إليه صفرنيوس فسار معه خلال المدينة يريه آثارها ومواضع الحج منها، وكم ببيت المقدس من آثار! فهو بلد الرسل والأنبياء: إليه سار كليم الله يوم خرج من مصر ومعه بنو إسرائيل؛ وبه كانت قصة صلب المسيح، وتقوم لذلك فيه كنيسة القيامة، يذكر المسيحيون أن جثمانه دفن بها ثم رفع إلى السماء منها، وبه من آثار الأنبياء محراب داود وصخرة يعقوب، وهي الصخرة التي تذكر كتب السيرة أن رسول الله صعد منها في المعراج، هذا إلى أطلال هيكل سليمان التي بقيت تذكر ملكا عظيما وأنبياء عدة، ولقد قام الكثير من هذه الآثار على أطلال معابد وثنية شادها حكام فلسطين من قبل رومية، وشاد مثلها قبلهم حكام فلسطين من قبل مصر، ولعل صفرنيوس لم يضن على عمر فذكر له ما كان معروفا من قصص هذه المعابد، وهو كثير، وبينما الرجلان بكنيسة القيامة أدرك عمر موعد الصلاة، فطلب البطريق إليه أن يصلي بها فهي من مساجد الله، واعتذر عمر بأنه إن يفعل يتبعه المسلمون على تعاقب القرون، إذ يرون عمله سنة مستحبة، فإذا فعلوا أخرجوا النصارى من كنيستهم وخالفوا عهد الأمان، واعتذر للسبب نفسه عن الصلاة بكنيسة قسطنطين المجاورة لكنيسة القيامة، وكانوا قد مدوا له عند بابها بساطا يصلي عليه،
7
وإنما صلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة على أطلال الهيكل، وفي هذا المكان شيد المسلمون من بعد مسجدا فخما، هو المسجد الأقصى، أما في عهد عمر فقد كان هذا المسجد ساذج البناء كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم.
يذهب بعض المستشرقين إلى أن عمر إنما اعتذر عن الصلاة بكنيسة القيامة لما كان بها من صور وتماثيل، وأنه أبدى العذر الذي ذكرناه سترا للسبب الحق، وحرصا على ألا يجرح شعور البطريق الشيخ، وهذا تفسير غير صحيح لحادث تاريخي جليل الخطر في علاقة أهل الأديان المختلفة بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، ومما يشهد بعدم صحته أن عمر زار كنيسة المهد ببيت لحم مع صفرنيوس بعد زيارته كنيسة القيامة، فلما أدركه موعد الصلاة صلى بها، وفيها من التماثيل والصور والصلبان ما بكنيسة القيامة بل ما يزيد عليه، ثم إنه خشي أن يتخذ المسلمون صلاته بها سنة فيخرجون منها أصحابها، فكتب للبطريق عهدا خاصا يجعل هذه الكنيسة للنصارى، وألا يدخلها من المسلمين أكثر من شخص واحد في المرة، هذا، وقد رأينا سعد بن أبي وقاص اتخذ إيوان كسرى مصلى للمسلمين ولم يحرك ما به من التماثيل، وكان في مقدوره أن يزيلها بعد أن فتح المدائن وأصبح صاحب الإيوان، وما كان لعمر أن يتحرج من الصلاة في الكنيسة وبها من الصور والتماثيل ما بها وكان رسول الله قبل هجرته إلى يثرب يصلي عند الكعبة وبها من الأصنام والأوثان ما لم يصده أو يصد مسلما عن الصلاة عندها، ولقد جاء إلى مكة بعد سبع سنوات من هجرته ومعه ألفان من المسلمين لعمرة القضاء، فطاف بالبيت والأصنام لا تزال تعمره، وعلا بلال سقف الكعبة وأذن لصلاة الظهر، وصلى محمد وصلى الألفان معه عندها صلاة الإسلام، وما كان لمحمد والذين اتبعوه ألا يصلوا بمكان فيه صور أو تماثيل، والإسلام إيمان بالله، والأعمال فيه بالنيات، فمن صدق إيمانه وخلص لله وجهه فأينما ولى فثم وجه الله، وإنما حطم محمد الأوثان والأصنام حول الكعبة وفي جوفها يوم فتح مكة حتى يكون بيت الله حراما على كل دين إلا على الدين الذي أوحاه الله إلى نبيه بينات من الهدى والفرقان، كي لا تذكر هذه الأصنام والأوثان أحدا بجاهليته فيثور في نفسه إليها حنين، أما الذين صفت قلوبهم لله وتطهرت نفوسهم من كل عبادة إلا عبادته جل شأنه فأولئك لا خوف عليهم أينما صلوا، وأولئك يرون وجه الله في كل خلقه، جل ثناؤه وتباركت أسماؤه!
وكان اعتذار عمر عن الصلاة بكنيسة القيامة حادثا جليل الخطر في تاريخ الأديان وعلاقة أهلها بعضهم ببعض في مختلف بقاع الأرض، فهو يصور تسامح الإسلام وصدق عمر في تمسكه بأن لا إكراه في الدين، ويصور سياسة المسلمين لذلك العهد وقيامها على أساس من حرية العقيدة، وأن الدعوة إلى سبيل الله إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالمجادلة بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، عجب أن يحدث ذلك على يد الفاروق في بيت المقدس لأكثر من ثلاثمائة وألف سنة خلت، ثم يظل بيت المقدس مدار الحروب التي اتصلت من بعد على الأجيال والقرون، ويبقى إلى عصرنا الحاضر مثارا للنعرة الدينية والتعصب المذهبي في شتى أرجاء العالم، وموضع النزاع المستمر بين النصارى واليهود والمسلمين، ولو أن الملوك والساسة من أهل الأمم المختلفة أدركوا ما أدركه عمر في ذلك العهد، ورأوا مثله أن لا إكراه في الدين، وجعلوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولم يزعموا لأنفسهم حقا على فلسطين باسم أرض المعاد أو هيكل سليمان، إذن لاستراح العالم من عناء يقاسيه في شتى أرجائه، لا تخلو منه قارة من القارات ولا أمة من الأمم، قد يجيبك منصف بحق: ومتى أراد الناس أن يستريحوا؟ وهل لهم في غير المنازعات وسيلة إلى الجاه والمجد والرخاء؟ أليس تاريخ العالم سلسلة متصلة الحلقات من الحروب أثارتها الأهواء باسم الدين تارة، وباسم حرية العقيدة أخرى، والدين وحرية العقيدة مما يزعمون براء، وإنما يتخذان تعلة لتسويغ الحروب إطفاء لشهوات وأهواء لا يعنيها من الدين ولا من حرية العقيدة إلا أن تتحقق! وهذا جواب حق، وهو يدل على أن ضمير الإنسانية ما يزال في طفولته، وأن تعاليم الأنبياء والرسل والفلاسفة والحكماء لما تثمر في نفس الإنسانية الأثر الذي أراده أصحابها.
أما وشأن عمر في معاملة المسيحيين ما قدمت فلا حاجة بي إلى إدحاض ما زعم بعضهم من أنه أثبت في صلح بيت المقدس عهدا على النصارى ألا يمنعوا المسلمين من دخول كنائسهم في الليل أو في النهار، وألا يتحدثوا عن دينهم أو يحاولوا إقناع غيرهم باعتناقه، وألا يلبسوا لباس المسلمين ولا يتزينوا بزينتهم، وألا يتكلموا العربية لغة الفاتحين ولا يتسموا بأسمائهم، وألا يركبوا الخيل ولا يحملوا السلاح، وأن يقفوا إذا مر بهم مسلم، فإذا أقبل عليهم ظلوا وقوفا حتى يجلس، وألا يبيعوا الخمر ولا يرفعوا على كنائسهم صلبانا ولا يدقوا أجراسها، وألا يتخذوا خادما كان في خدمة مسلم، فلا شيء من هذا أو من مثله يتفق وموقف عمر بكنيسة القيامة وكنيسة المهد، ولا شيء من مثله يتفق وما أبداه صفرنيوس وأهل إيلياء جميعا من الغبطة لصلح عمر، وموقفه بالكنيستين واستقبال البطريق وكبراء المدينة له وإقبالهم عليه قد فصله المؤرخون المسيحيون الأولون ولم يرد في كتب المتقدمين من مؤرخي العرب عنه شيء يذكر، وإنما ينسب هذه الأمور إلى عمر دعاة هم الذين دفعوا الصليبيين لغزو فلسطين، ودعايتهم ذات الهوى تضيف إلى الفاروق عن عمد كل ما حدث، في العصور المتأخرة عنه، من مساوئ الحكم أو مظاهر التعصب، وقد أدت عوامل التدهور التي دبت من بعد في كيان المملكة الإسلامية إلى مساوئ في الحكم، وقد كان بين المسلمين ومن انتسبوا إليهم في ذلك العهد المتأخر متعصبون ودعاة إلى التعصب، لكن عمر كان بريئا من هذا كله، وكان ساميا عليه غاية السمو، وما حاجته إليه وقد فتح الله له كل أبواب العالم، وقد كان الكثيرون يدخلون في الإسلام أفواجا غير مكرهين ولا مضطهدين، وكانت جيوش الإمبراطوريتين الفارسية والرومية لا تثبت لجيوشه ولا تملك أمامها إلا الهزيمة والفرار، فلو أن عمر لم يكن السياسي المحنك البعيد النظر لهدته مع ذلك فطرته إلى أن يحسن معاملة أولئك الذين تفتح له أبواب مدنهم ويسلمونه مقاليد أمورهم، ما بالك به وقد كان ملهما في السياسة، فلم يكن الظفر ينسيه الحذر أو يدفعه إلى التعاظم والبطر، ولم يكن الحزم ينسيه أن العدل والرحمة أبلغ أثرا في نفوس الأمم المحكومة ما ظلت ساكنة إليهما، فلم تدفعها النعرة إلى ما يوجب البطش والجبروت، ولذا أجمع المنصفون من المؤرخين المسيحيين على الإشادة بعدل عمر وتسامحه ورفقه، وعلى إكبار موقفه ببيت المقدس واعتداله في الصلح مع أهله.
ولم يغير من إجماع هؤلاء المنصفين ما روي من أن عمر قام يوما يخطب المسلمين ببيت المقدس، فذكر في خطبته قوله تعالى:
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ؛ فقام قس من النصارى كان حاضرا فقال: إن الله لا يضل أحدا، فلما كررها قال عمر لمن حوله: «انظروا إن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه.» فأمسك القس لهذا النذير، وليس يرجع بقاء المنصفين على إجماعهم إلى أن هذه الرواية لا تعتمد على سند ثابت بمقدار ما يرجع إلى أنها إن صحت لم تطعن على تسامح عمر وعدله، فلم يكن عمر ساعتئذ في موقف جدل مذهبي مع هذا القس، وإنما كان في موقف الخطيب يذكر المسلمين بما يؤمنون به ولا يمارون فيه، فتدخل هذا القس بالمقاطعة وتكريره لها إخلال بالنظام يدعو إلى الظن بأن مقترفه أراد أن يفسد على أمير المؤمنين موقفه؛ لذلك لم يزد عمر على النذير، فلما أمسك القس ولم يمض في المقاطعة مضى هو في خطابه حتى أتمه، ثم صلى بالمسلمين ولم ينل القس بسوء.
ولو صح ما روي عن هذا القس لاتخذناه حجة جديدة على ما كان لتعدد المذاهب والفرق المسيحية في ذلك العهد من أثر في الحياة العامة؛ فلم يغضب أحد من المسيحيين لنذير عمر ولم يجد فيه مظهر تعصب أو اضطهاد؛ ذلك لأن تعدد المذاهب أدى بأصحابها إلى التقاطع، وجعلهم يرون في مقاطعة القس مخالفة لآداب اللياقة لا يوجبها التعصب لعقيدة مقررة، أما والمسلمون يتسامحون مع أصحاب المذاهب جميعا فيسوون بينهم ولا يجادلونهم في مقرراتهم، فقد استحق القس نذير عمر، ولم يكن لأحد أن يعترضه أو يثور بسببه.
على أن تسامح عمر لم يكن معناه أن يدع بيت المقدس للمسيحيين، وألا يكون للمسلمين حظهم الديني منه؛ فبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى، وإلى مسجده الأقصى أسرى الله بعبده؛ فقدسيته عند عمر لم تكن دون قدسيته عند النصارى، هذا إلى أن المسلمين لم يكونوا ينزلون بلدا حتى يقيموا لهم مسجدا به، وقد ذكرنا أن عمر اعتذر لصفرنيوس عن الصلاة بكنيسة القيامة، وأنه صلى بمكان قريب من صخرة يعقوب على أطلال الهيكل، وفي هذا المكان أقيم مسجده ساذج البناء كمسجد النبي بالمدينة يوم أقيم، ذكر ابن كثير أن عمر استشار كعب الأحبار في أي مكان يصلي، وكان كعب الأحبار يهوديا فأسلم، فقال له: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا! ولكن أصلي حيث صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية الطبري أن عمر سأل كعبا: أين ترى أن نجعل المصلى؟ قال كعب: إلى الصخرة، وأجابه عمر: ضاهيت والله اليهودية يا كعب! وقد رأيتك وخلعك نعليك! بل نجعل قبلته صدره كما جعل رسول الله قبلة مساجدنا صدورها إنا لم نؤمر بالصخرة، ولكن أمرنا بالكعبة، وجعل قبلة المسجد صدره متجها إلى الكعبة غير متجه إلى الصخرة.
وإنما صرف عمر القبلة إلى الكعبة ولم يجعل الصخرة دونها؛ لأن الكعبة قبلة المسلمين في كتاب الله، ثم لم يصرفه ذلك عن إعظام الصخرة، فهي موضع الإسراء في حديث رسول الله، ولقد بلغ من إعظامه لها أنه رأى عليها كناسة كان الروم يلقونها فوقها، فقال لأصحابه: اصنعوا كما أصنع، ثم جثا في أصلها وجعل يحمل ما عليها بنفسه فيلقيه بعيدا عنها، وصنع أصحابه صنيعة، وما زالوا بالصخرة حتى زال كل ما عليها، وقد بقيت الصخرة محاطة برعاية المسلمين من يومئذ إلى أن أقام عبد الملك بن مروان عليها قبة بالغ في العناية بعمارتها ، فشادها على نحو جعلها أروع آية في البناء، حتى لقد بذ بها عمارة المسجد الأقصى والمسجد الحرام، بل بذ بها كل ما بناه من المساجد، وكان عبد الملك قد شغف بالعمارة البزنطية لمقامه بدمشق بين كنائس النصارى وآثارهم؛ ولذلك كانت المساجد التي شادها تأخذ بالقلوب والأبصار.
تم لعمر ما أراد من زيارة بيت المقدس فعاد أدراجه إلى المدينة متخذا إليها الطريق الذي جاء منه، فلما كان بالجابية أقام أياما ثم غادرها على فرسه، وكانت أنباء ما صنع بفلسطين قد بلغت عليا والمسلمين، فاستقبلوه بظاهر المدينة استقبالا حافلا، وكيف لا يفعلون وقد خلصت لهم الشام كما خلصت لهم العراق! وكيف لا يفعلون وعمر أول من قام بمثل هذه الرحلة من يوم بعث الله رسوله يبلغ الناس في ربوع الأرض دينه!
ترى، أيطمئن عمر لما فتح الله عليه فينظم حكمه ويعزز وحدته؟ كان ذلك رجاءه؛ ولذلك ود لو أن بينه وبين الفرس جبلا من نار فلا يخلصون إليه ولا يخلص إليهم، وود لو أن بينه وبين الروم سدا يصرفهم عنه ويصرفه عنهم، لكن مشيئة القدر كانت أقوى من مشيئته، وقد كتب القدر في لوحة أن يقضي خالد وأبو عبيدة على كل انتقاض بالشام، وأن يفتح عمر بعد ذلك من الممالك ما شاء الله أن يفتحه، فلندع أمير المؤمنين بالمدينة يدبر أمره ويحكم تدبيره، ولنعد إلى الشام لنرى ما الله صانع به!
هوامش
الفصل الثالث عشر
مصير خالد بعد إخضاع الشام
عاد أبو عبيدة وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان من بيت المقدس كل إلى عمله، فأقام يزيد بدمشق، ونزل أبو عبيدة بحمص، واستقل خالد بإمارة قنسرين، وجعل كل واحد منهم يدبر الأمر في ولايته بحزم يلطف الرفق من حدته، وعدل تجري الرحمة في مسالكه، وقد أمنوا فجاءات العدو بعد أن لحقته الهزيمة في كل مكان، وبعد أن دانت الشام للمسلمين من أقصى الجنوب بفلسطين إلى أقصى الشمال في سورية.
على أن أهل الجزيرة المقيمين بين العراق والشام، والذين دهم رجال سعد بن أبي وقاص من قبل منازل إخوانهم بهيت وتكريت والموصل وقرقيسياء، لم تهدأ نفوسهم بعد الذي نزل بإخوانهم، بل رأوا مساكنهم معرضة لغزو المسلمين إذا ظل هؤلاء يسيرون بالشام سيرتهم بالعراق؛ يفتحون ويخضعون القبائل، ويفرضون الجزية على من لم يدخل الإسلام، وكانوا قد يئسوا من يزدجرد بعد فراره إلى الري؛ لذلك كتبوا إلى هرقل أنهم معدون لمعاونته إذا بعث من البحر جندا يقاتل المسلمين ويسترد منهم ما استولوا عليه، ونظر هرقل في الأمر فرأى أنه لن يصاب بشر مما نزل به، فإن يبسم له الحظ فينتصر بهؤلاء الحلفاء على عدوه، ويقهر المسلمين في شمال الشام، استطاعت جيوشه أن تلاحقهم إلى دمشق وإلى بيت المقدس، ويومئذ تكون المعجزة، فيسترد قبر المسيح من العرب كما استرده من الفرس، ثم يسير إليه مجتازا سورية ومعه الصليب الأعظم يعيده إلى مكانه كما فعل قبل عشر سنين، ألا لئن تم ذلك ليكونن للصليب فيه من الفضل مثل ما كان له في عهد قسطنطين، ولينصرن الله المسيحية على يديه نصرا تعتز به على كل دين!
وأعاد أهل الجزيرة الكتابة إلى هرقل، فرأى منهم عزما لا يلين، ورأى أكثرهم من العرب النصارى الذين استمسكوا بدينهم وآثروا الجهاد في سبيله، وكان هرقل قد زايله الروع إذ قضى أكثر من سنة بعيدا عن ميادين القتال بالشام، ثم إنه رأى ثغوره ما يزال الكثير منها حصينا يقاوم هجمات المسلمين، ورأى أسطوله لم يصب بأذى، ورأى المسلمين يخافون البحر وكل ما يأتي من ناحيته، فقوى ذلك من عزمه ومال به إلى إجابة أهل الجزيرة لما يطلبون، صحيح أن تخوم المسلمين في شمال الشام حصينة فلا يتيسر اقتحامها عليهم، لكن هؤلاء العرب النصارى كفيلون بأن يقضوا مضجع خالد وأبي عبيدة إذا جاءوهم من قبل البادية، فإذا سار مدده من البحر في الوقت نفسه وعرف المسلمون أنهم يهاجمون من الشرق والغرب فت ذلك في أعضادهم، وأثار أهل الشام بهم، وأتاح له فرصة الثأر منهم.
وكتب هرقل إلى هذه القبائل يشجعهم ويحرضهم، ويذكر لهم أنه أمر سفنه فهي تمخر البحر تحمل الرجال والعتاد من الإسكندرية إلى أنطاكية، وسارت هذه القبائل بكل قواتها من الجزيرة تريد حمص، وبلغت أبا عبيدة أنباء ذلك كله، فدعا إليه خالد بن الوليد من قنسرين يشاوره، واستقر رأي الرجلين على أن تجتمع قوات المسلمين بشمال الشام لمواجهة العدو، فجمعا بحمص جند أنطاكية وحماة وحلب وسائر المسالح القريبة منها، وترامت إلى هذه البلاد أنباء هرقل ومدده المقبل من البحر، وأنباء الجزيرة وسير قبائلها إلى حمص، فتطاولت أعناق أهلها وذهبوا يتساءلون: عم تسفر هذه الحملة الجديدة التي يقوم بها قيصر وحلفاؤه؟ فلما أقبلت سفن هرقل إلى أنطاكية فتحت المدينة أبوابها لجنوده وثارت بالمسلمين، واندلع لهب الثورة في شمال الشام كله، وألفى أبو عبيدة نفسه محصورا في حمص يحيط به الثائرون من كل جانب، ويسير أعداؤه لمهاجتمه مقبلين من ناحية البحر ومن ناحية البادية، ماذا عساه يصنع؟ جمع أصحابه وذكر لهم أنه كتب إلى أمير المؤمنين يستمده لمواجهة هذا الموقف الدقيق، واستشارهم في مواجهة العدو وقتاله أو التحصن في انتظار المدد المقبل من المدينة، وانفرد خالد بن الوليد في المشورة بمناجزة العدو؛ أما سائر الأمراء فرأوا التحصن واستعجال المدد، ورأى أبو عبيدة رأيهم وخالف خالدا، فزاد في مناعة الحصون، وكتب إلى عمر بما رآه أصحابه.
لم ينس عمر يوما أن جنده بالعراق والشام قد يتعرض لمثل هذا الخطر، فيتعرض الفتح الإسلامي كله لمثل ما تعرض له يوم تولى إمارة المؤمنين، لهذا أمر بإنشاء البصرة والكوفة وجعلهما مسالح للمسلمين لا يقيم بهما غيرهم، ثم جعل في كل مصر من ستة أمصار أخرى أربعة آلاف فارس على تمام الأهبة لمثل هذه المفاجآت، فلما جاءه كتاب أبي عبيدة ورأى الخطر العظيم المحيط به، كتب في التو إلى سعد بن أبي وقاص: «أن اندب الناس مع القعقاع بن عمر، وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدم إليهم في الجد والحدة.» ونفذ سعد أمر الخليفة ليومه، فندب القعقاع في أربعة آلاف من الفرسان المجربين فانطلقوا يغذون السير من الكوفة إلى حمص.
كان الأمر أخطر من أن يكفي لمواجهته سير القعقاع على رأس أربعة آلاف؛ فقد بلغ عدد الذين ساروا من الجزيرة إلى حمص ثلاثين ألفا، غير من بعثهم هرقل على السفن إلى أنطاكية، وكان عمر يعلم أن رجاله في كل بلد من بلاد الشام قد شغلوا بأهله، فلو أنهم تركوا هذه البلاد إلى حمص لاضطرب النظام في الشام كله؛ لذلك أردف أمره بسير القعقاع من الكوفة بأوامر أخرى كلها حسن التفكير وبعد النظر، فإنما أغرى القبائل التي سارت من الجزيرة إلى حمص بما صنعت ما خيل إليها من بعد منازلها عن المسلمين وغزوهم، فلو أن هذه المنازل غزيت لارتدت هذه القبائل على أعقابها، ولخفف ذلك عن أبي عبيدة وجنوده، فليسرح سعد بن أبي وقاص سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، «فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص»، ولتكن الرقة مقصد سهيل، وليسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، فإذا أخضع هذان الأميران الرقة ونصيبين، فليسيرا إلى حران والرهاء، وليسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، ولتكن لعياض بن غنم إمارة الجند كله في حرب الجزيرة، فإذا سار هؤلاء الأمراء جميعا ذكر أهل الجزيرة ما أصاب أهل هيت وقرقيساء والموصل فلم يقاوموا.
لم يكتف عمر بهذا كله؛ فقد قدر أن هرقل لم يندفع إلى المغامرة بإرسال جنوده على متن البحر إلى الشام بعد الذي أصابه من الهزائم فيه إلا لأنه استوثق من قوته، واطمأن إلى قدرته على الثأر لنفسه، ولا أدل على ذلك من أنه جعل ابنه قسطنطين على رأس الجيوش التي نقلتها السفن من الإسكندرية، ولو أن هرقل نجح في هذه المغامرة لقضى ذلك على سياسة عمر أيما قضاء، ولن يرضى عمر تصور هذا الاحتمال، ولن يألو جهدا في إفساده، لا بد إذن من تعبئة كل قوة يستطيع تعبئتها لمواجهة هذا الخطر الداهم، بل لا بد أن يواجهه هو بنفسه؛ لذلك حشد ما استطاع من قوات المدينة وما حولها وسار هو على رأسها متخذا طريق دمشق إلى ميدان القتال.
وكذلك تحركت الإمبراطورية الناشئة من شتى أرجائها للدفاع عن كيانها، سار القعقاع بأسرع ما يستطيع غياثا لأبي عبيدة، وانطلق سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة وعياض بن غنم لغزو الجزيرة وتأديب أهلها، وفصل عمر من المدينة قاصدا حمص، ودوت هذه الأنباء في العراق والشام كما دوت في شبه الجزيرة، وبلغت أبا عبيدة وأصحابه كما بلغت قبائل الجزيرة الذين جاءوا لحصاره، واطمأن أبو عبيدة لما بلغه، أما القبائل فأيقنت أن منازلها بالجزيرة لن ترعى لها حرمة بعد الذي صنعت، وأنه مصيبها ما أصاب الموصل وهيت وقرقيساء من قبل، فانخلعت منها القلوب وآثرت الرجعة من حيث أتت، لعل في رجعتها ما يكفر عن ذنبها.
وأصبح أبو عبيدة يوما فعلم أن القبائل تفرق أهلها مرتدين إلى بلادهم وذويهم، وأنه لم يبق بإزائه إلا الروم جند هرقل، فدعا إليه أمراء جنده وذكر لهم أنه يرى مناجزة القوم، واغتبط خالد بن الوليد، وأشار بمفاجأتهم قبل أن يأخذوا للموقف الجديد عدته، وظن الروم حين رأوا القبائل تتخلى عنهم، ورأوا المسلمين يخرجون من حصون حمص للقائهم أن في الأمر مكيدة دبرت لهم فتولتهم الحيرة، وهاجمهم أبو عبيدة فلم تمنعهم حيرتهم من الشدة في لقائه شدة تشهد بأنهم أعدوا لهذا اللقاء ما استطاعوا من قوة، فلولا انصراف القبائل عنهم لكان لهم من البأس ما يسوغ مخاوف أبي عبيدة ومخاوف عمر، لكن حيرتهم أضعفت مقاومتهم وانتهت بهم إلى الهزيمة، ففروا قبل أن يبلغ القعقاع بن عمرو حمص، وقبل أن يبلغ عمر الجابية
1
في طريقه إلى الشام، فلما بلغها ألفى رسول أبي عبيدة بها يذكر له انتصارهم قبل ثلاثة أيام من وصول القعقاع إليهم، ويستشيره في الفيء وهل يكون لرجال القعقاع نصيب منه، واطمأن عمر ولم ير بعد الذي بلغه أن يتابع مسيرته، فكتب إلى أمين الأمة كي يشرك أهل الكوفة في العطاء؛ فسيرهم لنجدته هو الذي أدخل الرعب إلى قلب عدوه فأدى ذلك إلى هزيمته، «جزى الله أهل الكوفة خيرا، يحمون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار»، ثم تحمل راجعا إلى المدينة.
ترى هل انسحبت جنود هرقل إلى قنسرين أو حماة أو غيرهما من البلاد التي اندلع فيها لهيب الثورة لينظموا بها صفوفهم للمقاومة، أم تعقبهم المسلمون فقضوا عليهم؟ وماذا فعل الثوار بحلب وأنطاكية والمعاقل المنيعة حين بلغهم انتصار المسلمين بحمص؟ لا يذكر المؤرخون عن ذلك شيئا يصح الوقوف عنده، وأغلب الظن أن فلول الروم التي نجت من الموت طارت إلى السفن بأنطاكية فأقلعت بهم في البحر إلى الإسكندرية أو إلى بزنطية وقد تولاهم وتولى قيصر اليأس أن يعودوا إلى الشام أبدا، ولم يلبث الثائرون حين عرفوا إقلاع السفن بالجند أن هدأت ثورتهم، فعاد خالد بن الوليد إلى قنسرين، وعاد كل أمير في شمال الشام إلى إمارته، مطمئنين جميعا إلى أن الأمور سكنت إلى قرار لن يكدر صفوه من بعد مكدر.
على أن مقام خالد بقنسرين لم يطل؛ فقد سارت القوات التي فصلت من العراق يظلها لواء سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان والوليد بن عقبة بإمرة عياض بن غنم لغزو الجزيرة وتأديب أهلها، فلما بلغت منازل القبائل التي آزرت هرقل كانت هذه القبائل قد بدأت تنصرف مرتدة عن حمص، وكان سهيل بن عدي قد سلك بجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، فتحصن أهلها منه فحاصرهم، فقالوا فيما بينهم: «أنتم بين أهل العراق وأهل الشام، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء!» وبعثوا إلى عياض بن غنم بواسط يريدون الصلح، وعقد لهم سهيل بن عدي الصلح عن أمر عياض؛ لأنه أمير القتال وجعلهم من أهل الذمة، أما عبد الله بن عتبان فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل، ومن ثم عبر النهر وسار إلى نصيبين،
2
فلقيه أهلها بالصلح فعقده لهم على صلح أهل الرقة، وقدم الوليد بن عقبة على بني تغلب وعرب الجزيرة فضووا إليه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، وكتب الوليد إلى عمر بالمدينة يخبره بما صنعوا وأقام ينتظر جوابه في أمرهم، ثم إن عياضا ضم إليه سهيلا وعبد الله بن عتبان وسار في الناس إلى حران، فأخذ ما دونها، حتى إذا انتهى إليها تلقاه أهلها بالإجابة إلى الصلح والجزية، فأجراهم مجرى أهل الذمة، وكذلك فعل أهل الرهاء حين سار إليهم سهيل بن عدي، بذا دخلت الجزيرة كلها في حكم المسلمين، فكانت أسهل البلاد وأيسرها فتحا، وبفتحها التقى سلطان المسلمين بالعراق والشام.
ومن عجب أن يكون ذلك شأن القبائل التي كاتبت هرقل ووعدته بتأييدها، وإنما عذرها أنها رأت الروم يفرون أمام عدوهم، فأيقنت أن هؤلاء المسلمين قد صنع لهم فلا سبيل إلى مقاومتهم، والخير كل الخير في مصالحتهم. وإن المؤرخين البزنطيين ليذكرون أن حاكم الرهاء صالح عياضا على أن يدفع له مائة ألف ذهبا يتقي بها غزو المسلمين ولايته وأن هرقل رفض صنيعه وعزله عن عمله، فلم ينفذ لقيصر أمر بعد أن زال سلطانه عن هذه الأرجاء وصار كل أمرها للمسلمين، وكيف ينفذ له أمر وقد صار لا يستطيع أن يرفض لأمير المؤمنين مطلبا؛ لأنه لا يستطيع أن يؤيد رفضه بالقوة التي تدعمه وتعززه!
لما كتب الوليد بن عقبة إلى عمر يذكر له أن عرب الجزيرة نهضوا معه إلا بني إياد فإنهم ارتحلوا إلى أرض الروم، كتب عمر إلى هرقل يقول:
إنه بلغني أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ثم لنخرجنهم إليك.
ولم يجد هرقل بدا من النزول على ما أراد عمر فأخرج إيادا من أرضه؛ فعاد أربعة آلاف منهم إلى منازلهم حتى خضعت لسلطان المسلمين، وتفرق سائرهم فيما بين الشام والجزيرة من بلاد الروم، وإنما كتب عمر إلى هرقل هذا الكتاب حتى لا يتخذ المنهزمون أمام المسلمين أرض عدوهم ملجأ يتحصنون به ليوم ثأر، وحتى يجمع العرب كلهم في صعيد واحد تحت سلطان واحد.
لم يصنع بنو تغلب صنيع إياد، ولم يرتحلوا إلى أرض الروم؛ لكنهم أبوا على الوليد بن عقبة حين لم يقبل منهم إلا الإسلام، واحتكموا فيما بينهم وبينه إلى أمير المؤمنين، وكتب الوليد إلى عمر بإبائهم، فأجاز عمر رأيهم وأبى أن يفرض الوليد الإسلام عليهم، «فإنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل من أحد فيها إلا الإسلام، فدعهم على ألا ينصروا وليدا ولا يمنعوا أحدا من الإسلام.» فلما بلغهم حكم عمر رضي بعضهم أن يدخل في دين الله، وأصر بعض على نصرانيته، ثم لم يقبل هؤلاء أن يكونوا أهل ذمة يؤدون الجزية، وذهب وفد منهم إلى المدينة، وكان بينهم بعض من أسلم منهم، فقال مسلموهم لعمر: «لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن ضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزية، على ألا ينصروا مولودا إذا أسلم آباؤهم.» وأصر عمر على أن يؤدوا الجزية، فقالوا: «والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم.» قال عمر: «لئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ثم لأسبينكم.» قالوا: «فخذ منا شيئا ولا تسمه جزاء.» قال عمر: «أما نحن فنسميه جزاء وسموه أنتم ما شئتم.» ولما رأى علي بن أبي طالب ما بلغه هذا الحوار من شدة، قال: يا أمير المؤمنين! ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال عمر: بلى! ورضي منهم الصدقة بدل الجزاء.
وإنما أصر نصارى بني تغلب على ألا يؤدوا الجزية أن كان في قومهم عز وامتناع فكانوا يرون في أداء الجزية آية خضوع ومذلة لا تليق بهم ولا تتفق وما عرف الناس لهم من إكرام وكرامة، وكرامتهم وقوتهم هما اللتان جعلتا الوليد بن عقبة يريدهم على الإسلام ليكون له بهم قوة ومنعة، ولقد كان تشدد عمر معهم في أداء الجزية بادئ الرأي ثم قبول صدقتهم مضاعفة بعد مشورة علي بن أبي طالب، سياسة منه يحمد عليها، مع مخالفتها لموقف أبي بكر من أهل الردة، ومخالفتها لموقفه هو من أعدائه الأقوياء في فارس والروم، فبنو تغلب عرب، وكان عمر حريصا على عزة العرب، ولئن أقام على نصرانيته منهم من أقام ليرجعن هؤلاء جميعا إلى الإسلام ولو بعد حين، والرفق في هذا الموقف أبلغ، وقد دلت الأيام على حسن فراسة عمر وبعد نظره؛ إذ نصرت تغلب المسلمين من بعد نصرا عزيزا، وأيدتهم على أعدائهم في مواقف كثيرة.
لم يكتف عمر بقبول الصدقة من هؤلاء النصارى! بل رأى أن ما بينهم وبين الوليد بن عقبة من خلاف قد يدفعهم إلى إخراجه فيضعف صبره فيسطو عليهم؛ لذلك عزله عنهم وأمر عليهم فرات بن حيان كيما يطمئن إلى استتباب الأمن واستقرار الطمأنينة في ربوعهم.
تم ذلك كله في السنة السابعة عشرة من الهجرة فتم به استقرار السلطان للمسلمين بالشام من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والواقع أن ما بقي من سيرة عمر لا يعرف في الشام انتقاضا، ولا يعرف من جانب هرقل محاولة لاسترداده، إلا ما قيل عن قيسارية، فقد سبق أن ذكرنا رواية الحصار الذي ضربه معاوية بن أبي سفيان عليها قبيل فتح بيت المقدس، وإلى ما قيل من فتحه إياها وقتله فيها ثمانين ألفا بلغوا بعد الهزيمة والفرار مائة ألف، على أن البلاذري ينبه إلى اختلاف الروايات في أمر هذه المدينة فيقول: «قال قائلون: فتحها معاوية، وقال آخرون: بل فتحها عياض بن غنم بعد وفاة أبي عبيدة وهو خليفته، وقال قائلون: بل فتحها عمرو بن العاص ... والذي اجتمع عليه العلماء أن أول الناس الذي حاصرها عمرو بن العاص، نزل عليها في جمادى الأولى سنة 13 فكان يقيم عليها ما أقام، فإذا كان للمسلمين اجتماع في أمر عدوهم سار إليهم فشهد أجنادين وفحل والمرج ودمشق واليرموك، ثم رجع إلى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء، ثم خرج إلى مصر من قيسارية، وولي يزيد بن أبي سفيان بعد أبي عبيدة فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها وتوجه إلى دمشق مطعونا فمات بها.» والذي يخلص من هذه الروايات أن قيسارية حوصرت وطال حصارها؛ حتى لقد قيل إنها حوصرت سبع سنين، ذلك بأنها كانت ثغرا حصينا ومعقلا منيع الأبراج والأسوار، به من السكان والجند عدد لا نظير له بأنطاكية ولا بدمشق، يقول البلاذري: إن مائة ألف كانوا يقومون كل ليلة على سورها يحرسونها، وكان سبب فتحها أن يهوديا أتى المسلمين ليلا فدلهم على طريق في سرب فيه الماء إلى حقو الرجل، فدخل المسلمون المدينة منه في الليل فكبروا، فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه، ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها في السنة السابعة عشرة ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأقام فيها مسلحة ووكل بها الحفظة، وقد وجد بها معاوية سبعمائة ألف من المرتزقة وثلاثين ألفا من السامرة ومائتي ألف من اليهود، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها.
سبق أن قلنا: إن خالد بن الوليد لم يقم بقنسرين طويلا، ولم نعثر في كتب الثقات على تفاصيل لغزوه بعد انصرافه من حمص إلى إمارته أكثر من أنه سار في دروب الروم مع عياض بن غنم، وعاد من غزواته بمغانم كثيرة، وأراني في حل من القول بأن ما حدث، إثر مجيء السفن عليها جنود الروم إلى أنطاكية، من ثورة شمال الشام بسلطان المسلمين، لم يزل فجأة إثر هزيمة الروم بحمص، وأن ما أشار إليه المؤرخون من انتقاض حلب وحماة وأنطاكية وغيرها من الحواضر قد اقتضى خالدا وعياض بن غنم وغيرهما من قواد المسلمين أن يقمعوه، وقد ذكر الواقدي أن حلب قاومت مقاومة عنيفة، وأن خالد بن الوليد إنما تغلب عليها بعد حصار طويل، فلما سكنت الثورة في شمال الشام تجاوزه المسلمون إلى إرمينية، كما كانوا قد تجاوزوه بعد غزو خالد بن الوليد مرعش وشمشاط وغيرهما من قبل، ثم عادوا إلى الشام كما عادوا إليه أول مرة، ذلك أن عياض بن غنم ما لبث حين تم له الأمر بالجزيرة أن سار صوب إرمينية يعزز تخوم المسلمين ويدخل الروع في نفوس أعدائهم، وسار خالد بن الوليد من شمال الشام إلى تلك الأرجاء حتى بلغ آمد والرهاء، فكان في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء المغانم، ويلقي في القلوب الرعب،
3
ثم عاد إلى قنسرين وقد اجتمع له من الفيء شيء عظيم؛ لذلك انتجعه رجال من الآفاق يرجون جوائزه فلم يضن عليهم، وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجعه فأجازه بعشرة آلاف درهم.
تحدث الناس بفعال خالد بن الوليد بقلقية وإرمينية معجبين، وذكروا بها خوارقه المجيدة وانتصاراته المعجزة بالعراق والشام، وتحدثوا بجوائزه وأعطياته للأبطال والشعراء وبجائزته العظيمة للأشعث بن قيس، فذكروا بها أريحية ملوك بني غسان وملوك الحيرة، ونمي حديث الإعجاب به وخبر هذه الجائزة إلى عمر بالمدينة كما كان ينمى إليه كل شيء من أمور عماله، فهاج هائجه على خالد ورآه لا يرجع عن غيه، فقد بلغه من قبل أن خالدا، إذ كان بآمد من أرض إرمينية، دخل حماما فتدل بغسل فيه خمر، فكتب إليه: «بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم.» وأجابه خالد: «إنا قد فتناها فعادت غسولا غير خمر.» ولم يعجب عمر هذا الجواب، فرد عليه مغضبا: «إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه!» وكان عمر قد أمره أن يحبس ما يصيبه من المال على ضعفة المهاجرين وها هو ذا يجعله أعطيات لذوي البأس والشرف واللسان، ألا يدل ذلك على أنه لا ينفذ ما أمره به من مراجعته في حساب المال، وألا يعطى شاة ولا بعيرا إلا بإذنه، وأنه مصر على قوله يوم وجه إليه هذا الأمر: «إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك.»
كيف يستقيم الحال وخالد يريد أن يستأثر بالسلطان ويستقل بالأمر دون حسيب أو معقب! بل كيف يستقيم وقد فتن خالد بالناس لإعجابهم به وإكبارهم فعاله، فخيل إليه أنه أصبح صاحب الأمر والنهي في الشام كله، وأنه صار فيه ملكا كجبلة وآبائه من بني غسان يثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع! ألا لئن ترك وشأنه ليبلغن به الزهو يوما، فلا يقيم لأمر الخليفة وزنا ولا يحسب له حسابا، فلئن أراد الخليفة يومئذ نزعه من عمله ليثورن به وليجدن من الجند ومن أهل الشام أعوانا له؛ وقد يؤيده الروم فتكون الطامة الكبرى، ويومئذ لا يلومن عمر إلا نفسه، ثم ليحاسبنه الله على ما قصر في أمر المسلمين بتردده وإحجامه.
هاج هائج عمر على خالد فقال: «والله ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمره فلم أنفذه! والله لا يلي لي خالد عملا أبدا.» وكتب إلى أبي عبيدة أن يستقدم خالدا وأن يعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلم: أأجاز الأشعث بن قيس من ماله أم من إصابة أصابها، فإن زعم أنها من إصابة فقد أقر بخيانته، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمره أن يعزله على كل حال، وأن يضم إليه عمله.
تناول أبو عبيدة هذا الكتاب فتولته الحيرة؛ فلخالد في نفسه وفي نفوس الجند والمسلمين جميعا منزلة أعظم المنزلة، لكن أمير المؤمنين مطاع ويجب تنفيذ أمره، فليدع خالدا إليه، وليترك التنفيذ لرسول عمر ولمؤذن النبي، وكتب إلى خالد فقدم عليه، فلم يذكر له عن كتاب عمر شيئا، بل جمع الناس وجلس لهم على المنبر، ثم قام البريد الذي أوفده الخليفة يسأل خالدا: أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة أصبتها؟ ودهش خالد مما سمع ولم يجب، وكرر البريد السؤال فلم ينبس خالد ببنت شفة، كل ذلك وأبو عبيدة جالس على المنبر ساكت لا يقول شيئا، فلما ألح البريد في السؤال وألح خالد في الصمت، قام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر أن تعقل بعمامتك، وأن تنزع عنك قلنسوتك حتى تجيب عما تسأل الآن عنه، وزادت بخالد الدهشة فلم يخرج من صمته، هناك تناول بلال قلنسوته، ولم يديه وراء ظهره وعقله بعمامته، وقال: «ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟»
دهش خالد لهذا الموقف فوجم وأعياه الجواب، وهو في الحق موقف يخرج بكل إنسان عن صوابه، أليس هو موقف الاتهام الصريح بخيانة الأمانة؟ فإذا فوجئ به إنسان علانية وعلى ملأ من الناس جشأت نفسه وتولاه الذهول؛ ما بالك به موجها إلى خالد بن الوليد وهو في أوج ظفره بأعداء الله وأعداء المسلمين!
وعلى أي نحو يوجه هذا الاتهام؟ على نحو هو الإهانة كل الإهانة: تضم يداه إلى ظهره، وتعقلان بعمامته، وترفع قلنسوته عن رأسه! ما كان أغنى أمير المؤمنين عن هذا كله! أولم يكن حسبه أن يدعو خالدا إلى المدينة ما دام قد عزله عن عمله، فإذا لقيه بها سأله عما شاء، كما شاء فيما بينه وبينه؟!
لم تكن دهشة المسلمين الذين شهدوا هذا المنظر بأقل من دهشة خالد، ولقد تهامس بعضهم يتساءلون بينهم: ماذا يراد بسيف الله بعد هذا الموقف الذي يزرى بأحد الجند، بله القائد النابغة الذي فتح العراق والشام ودوخ الفرس والروم؟! أمن أجل عشرة آلاف من الدراهم تعقل يداه وتنزع قلنسوته، وهو الذي استفاء المسلمون ببأسه مئات الألوف بل ملايينها؟ وماذا تراه صنع بهذه العشرة الآلاف لتلحقه هذه الإهانة؟ أفأخذها لنفسه وأنكرها على أبي عبيدة أو على الخليفة؟ كلا! بل أجازها الأشعث بن قيس أمير كندة صاحب البلاء العظيم في العراق والشام، ولطالما أجيز الأشعث وأمثاله ذوو المكانة ممن شهدوا المواقع وكان لهم فيها بلاء وخطر! ألا إنها لقسوة من أمير المؤمنين برجل بلغ من ثقة رسول الله وثقة الصديق وثقة المسلمين به أعظم مبلغ!
كان أبو عبيدة ينظر إلى الناس من مجلسه على المنبر فيرى أمارات الدهشة والإنكار بينة على وجوههم، فلا يزيده ذلك إلا إمعانا في الصمت الذي التزمه في هذا الشأن، والذي أصر عليه منذ دعا خالدا إليه وأمر غيره أن ينفذ أمر عمر فيه، ولعله لم يكن أقل الحاضرين دهشة لهذا المنظر وأسفا عليه، لقد كان يعرف أكثر من غيره ما يؤاخذ عمر خالدا به من الزهو والتسرع إلى الحرب وشدة الحرص على الاستقلال بالرأي، ولقد صرف غاية همه خلال السنوات التي انقضت من خلافة عمر ليزيل من نفس أمير المؤمنين سوء رأيه في خالد وشدة برمه به، وقد بلغ من ذلك أن حمل عمر على إطراء خالد إثر قنسرين وما أحرزه ابن الوليد من النصر المؤزر فيها، أفذهب كل جهده هباء! فلم تكن صيحة عمر يومئذ: «أمر خالد نفسه! يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني!» إلا صيحة إعجاب بفعلة عظيمة جزى خالد عنها بإمارة قنسرين، ثم ظل مع ذلك برما به! إن يكن ذلك فهو أعجب، وأعجب منه أن يجيء الأمر بعزل خالد في أوج مجده، والفرس والروم والعرب والمسلمون يتحدثون جميعا بفعاله، ويطأطئون الرءوس إكبارا لعظمته وإجلالا لعبقريته!
كان ذلك شأن أبي عبيدة وشأن جموع المسلمين شهود هذا المنظر، فماذا كان شأن خالد نفسه؟ أترانا نستطيع أن نصور ما كان يدور تلك الساعة بخلده، وما كانت تختلج به جوارحه؟! إن ألفاظ الدهشة والألم والكبرياء الجريح والغيظ المكظوم والثورة المكبوتة لتضيق منفردة ومجتمعة عن أن تصف ما كانت تضطرب به في هذه الساعة نفس رجل لم يطأطئ يوما رأسه ولم يعرف الذلة حياته، بل كان في جاهليته وفي إسلامه مثال الأنفة والكرامة والعزة، وكان البطل المعلم، كم جدل سيفه رءوس الأعزة، والقائد القاهر عنت لقوة بأسه العروش والممالك، أتراه اليوم يقيد بعمامته وكم قيد بالسلاسل ألوف الأسرى! أتراه يتهم بخيانة المسلمين في أموالهم وهو الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين! يا لسخرية القدر! أما كان خيرا له أن يصرع في ميدان البطولة والشرف من أن يجاء به إلى موقف الخونة الأنذال فيصرع شرفه وتهدر بطولته!
ولكن كيف له أن يخرج من هذا الموقف المهين؟ فهذا بلال يسأله: أمن ماله أم من إصابة أصابها أجاز الأشعث بعشرة آلاف؟ وبلال لن يفك طائعا عقاله حتى يجيب، أفيلزم الصمت فيطول به هذا المنظر المزري؟ أم يكسر عقاله بيديه ويضع على رأسه قلنسوته وينظر إلى الحاضرين جميعا تلك النظرة الفاتكة التي عرفها خصومه وأصدقاؤه فيقول لهم: لا جواب عندي وليفعل عمر بعد ذلك ما بدا له؟ لكنه جندي من جنود المؤمنين، وعمر أمير المؤمنين، وهو الذي قضى بسيفه على المرتدين يوم ثاروا يحاولون أن ينازعوا أبا بكر إمارته، يثور هو بعمر فينازعه حقوق إمارته؟ كلا! إنه لأعظم إيمانا بالله من أن يثور بمن ولاه المؤمنون إمارتهم؛ لذلك لم يزد حين كرر بلال سؤاله: أمن مالك أجزت أم من إصابة أصبتها، على أن أجاب: بل من مالي!
ضج المسلمون فرحا حين سمعوا هذه الكلمة تتنفس عنها شفتا خالد، وخيل إلى كثيرين أن كل شيء قد انتهى، وأنه سيعود إلى إمارته بقنسرين كما كان، ثم ينسي الزمان وتنسي فعاله ما حدث، وزادهم اطمئنانا إلى ذلك أن بلالا لم يلبث حين سمع كلمة خالد أن أطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده وقال: «نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخم ونخدم موالينا.»
وخرج خالد وخرج الناس من هذا المجلس، يتحدث بعضهم إلى بعض، ويختلف بعضهم مع بعض: يرى قوم أن أمير المؤمنين على حق، فهو لم يحاسب خالدا إلا كما يحاسب غيره من عماله، ويرى آخرون أن خالدا خير أمير لجند المسلمين وأكثرهم نصرا، فمن حقه يوم توزن أخطاؤه أن توزن معها جلائل أعماله، ومن حقه إذا أراد عمر محاسبته أن يدعوه إليه وأن يحاسبه بنفسه وألا يقف موقف متهم آثم بين جند يقدرونه، ويقدسونه، وتعصب لخالد قوم أثارت إهانته نفوسهم، فذهبوا يذكرون مواقف عمر منه في عهد أبي بكر وعزله إياه عن إمارة الجند يوم استخلف، ويزعمون أن أمير المؤمنين إنما عرض خالدا للإهانة غيرة منه لتعلق الناس به ومحبتهم له؛ فهي المنافسة حركت ترات قديمة وليس فيها من العدل شيء.
أما خالد فلم تزايله دهشته بعد هذا المجلس، بل جعل يسائل نفسه وقد تولته الحيرة: ماذا أراد عمر به؟ فليس طبيعيا أن يكتفي بإجابته أنه أجاز الأشعث من ماله، وهو لا بد قد كتب لأبي عبيدة بأكثر مما حدث، ولو أنه لم يقصد إلى أكثر من العلم بمصدر العشرة الآلاف لكفاه أن يسأل أبو عبيدة خالدا وأن يبلغ أمير المؤمنين جوابه، فأما أن يقفه بين الناس هذا الموقف المهين، فلأمر له ما وراءه، وهذا الأمر خطير لا ريب، تشهد بذلك حيرة أبي عبيدة حيرة ألزمته الصمت، أفيسأله خالد عنه فيخرجه من حيرته ويقف هو على جلية الخبر؟ تحدث في هذا إلى بعض خلصائه، فذكروا له أن الناس يتناقلون بينهم أنه يذكر أن المال الذي أجاز به الأشعث من إصابة أصابها فلن يناله سوء وسيرده أبو عبيدة إلى عمله، أتراه يلقى أبا عبيدة فيسر إليه بما يشاء عمر حتى يعود إلى قنسرين أميرا كما كان؟! تردد في هذا الأمر بعد أن راودته عنه نفسه، فهو إن يفعل فيعرف الناس تنهدم في أنفسهم كرامته، وتنهدم معها ثقتهم به؛ لذلك ذهب إلى أخته فاطمة بنت الوليد يستشيرها، فقالت له: «والله لا يحبك عمر أبدا، وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك.» وأقر خالد رأيها وقبل رأسها وقال لها: صدقت، وأقام ينتظر الأيام وما تكشف عنه.
بينما كان ذلك يجري بحمص كان عمر ينتظر بالمدينة مقدم خالد عليه معزولا عن عمله، فلم يدر قط بخلده أن يحجم أبو عبيدة عن تبليغ خالد أمر عزله أو أن يدع خالدا يتولى من الشئون ما لم يبق له بعد العزل أن يتولاه، فلما طال به الانتظار وأبطأ خالد عليه ظن الذي كان، وأدرك أن أبا عبيدة في لينه وتؤدته وتواضعه قدر ما ينزل بنفس خالد من الهم إذ يعرف المصير الذي أراده له أمير المؤمنين، وما ينشأ عن ذلك من قلق الجند والمسلمين في وقت ما أحوج أبا عبيدة فيه إلى اتقاء كل قلق وكل فتنة، أترى أمين الأمة توقع أن يعدل عمر عن أمره، فإذا سكنت الأيام من جماح ثورته كتب إليه برد خالد إلى عمله، ولذا سكت وصبر حتى تمر العاصفة فلا يرى أحد لها أثرا؟ دار بنفس أمير المؤمنين أن يكون هذا الخاطر قد مر بخلد أبي عبيدة فلم يطق أن تقوم في نفسه ظنة بأناته وبسداد رأيه ومضاء عزيمته، فكتب إلى خالد يستقدمه ويبلغه الأمر الذي أحجم أبو عبيدة عن أن يبلغه له، فلما تناول خالد كتابه ثارت نفسه، ورأى في صنيع أبي عبيدة إشفاقا عليه، وهو رجل يزدري الإشفاق وينكره؛ لذلك ذهب إلى أمين الأمة تضطرب نفسه بين محبته والغضب منه، وقال له: «رحمك الله! ما أردت إلى ما صنعت؟! كتمتني أمرا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم!» وأجابه أبو عبيدة في مودة وعطف: «والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بدا، وقد علمت أن ذلك يروعك.»
لم يبق لخالد إلا أن يرجع إلى المدينة معزولا يلقى أمير المؤمنين، فخرج يريد قنسرين وثورة نفسه على أشدها، والغيظ يكاد يفري مهجته، أذلك جزاؤه عن كل ما قدم! وهل أخفى عمر في نفسه ترته القديمة عليه طيلة هذه السنين ليستخدمه ما كان بحاجة إلى قوة ساعده وعبقرية قيادته، فلما رأى القدرة على الاستغناء عنه تلمس له هنة فلم يجد، فتخذ من قصة الأشعث وجائزته حجة يقيم عليها هذه المسرحية ليعزله عن عمله بعد أن يهدر كرامته ويمرغ في التراب أمام الناس عزته؟! يا له من حاقد لا ينسى حقده! ولعل هذا الحقد كان يزداد ضراما كلما رفع الحظ نجم خالد فيجعله أكثر علوا وسموا، ولو أنه عزله عن كل عمله يوم استخلف لكان له من العذر أنه أشار على أبي بكر بأمر فلم ينفذه، فلما تولى هو مكانه نفذه، فأما أن يدعه أربع سنوات يخوض المعارك ويدوخ الأقران ويقهر الجيوش، فيخضع دمشق ويطهر الأردن، ويستولي على حمص، ويأخذ قنسرين عنوة، ويرد حلب إلى الطاعة، ويطرد هرقل من سورية، ويتخطى قلقية إلى إرمينية، ويصل بين الفتحين في العراق والشام، ثم يعزله بعد ذلك كله بتهمة الخيانة أو السرف، فذلك العذر الذي لا طاقة لخالد باحتماله، والذي لا عذر عنه من شدة عمر بسائر عماله، فلم يأثم خالد ولم يرتكب نكرا، وأين ثراؤه على عظيم بلائه! وأين ما صنعوا مما صنع! إنهم أولو فضل لا ريب، وانتصار ابن أبي وقاص بالقادسية وفتحه المدائن، وطرده يزدجرد إلى الري، من أعظم أعمال البطولة، وفتح ابن العاص بيت المقدس نصر أكبر النصر، لكن خالدا صاحب الفضل الأول في فتح العراق وفتح الشام، وفتحهما هو الذي دوخ كسرى ودوخ قيصر، وهو الذي فتح الباب واسعا لمسيرة المسلمين بعده إلى ما شاءوا من الآفاق، أولو كانت جائزة الأشعث سيئة فأين قوله تعالى:
إن الحسنات يذهبن السيئات ؟! فليكن جزاء خالد عند الله! والله من بعد حسيب عمر ورقيبه!
كانت هذه الخواطر تدور بنفس خالد وهو في طريقه بين حمص وقنسرين، فكان يفضي بها إلى بعض خلصائه فيهونون عليه الأمر ويذكرونه بقوله تعالى:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ، وبقوله:
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
ويجيبهم خالد ومس الإهانة يحز في نفسه: «إن عمر ولاني الشام حتى إذا صارت بثنية
4
وعسلا عزلني.» فلما بلغ قنسرين كظم غيظه، وتحمل وخطب أهل عمله، وذكر مجيد فعالهم معه، ولم يذكر لهم عمر بسوء، ثم ودعهم وعاد بأهله ومتاعه إلى حمص، فخطب أهلها وودعهم، وفصل عنهم منصرفا إلى المدينة.
فلما بلغها ولقي أصحابه بها ألفى أمر عمر فيه وما أصابه من مهانة حين تنفيذه قد سبقه إليهم، ورأى منهم متعصبين له ناقمين من عمر، فتحدث إليهم بأعماله، وذكر لهم إخلاصه لله وللدين الذي أوحاه الله إلى رسوله، وقص عليهم ما استفاء المسلمون على يديه، والقليل الذي اختص هو به من هذا الفيء، فزادهم ذلك له تعصبا، ومن عمر نقمة، ثم إنه لقي عمر فقال له: «لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مجمل يا عمر!» ولم يجد الخليفة موضعا للين يمكن أن يساء به تفسير أمره، فقال لخالد ولا يزال يتهمه: «فأين هذا الثراء! من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟» وجعل يكرر عليه السؤال كلما رآه، فلما ضاق به خالد قال له: «من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفا فهو لك.»
5
وقوم عمر عروض خالد بثمانين ألف درهم ترك له منها ستين ألفا وأخذ العشرين الزائدة فأدخلها بيت المال.
وتحدث قوم إلى عمر في أمر خالد وما صنع به، ورأوا أنه قسا عليه وأن خالدا جدير بالكرامة، وقالوا له: يا أمير المؤمنين لو رددت على خالد ماله! لكن عمر كان لا يزال على سوء رأيه في سيف الله ولا يزال يتهمه؛ لذلك أجاب الذين تحدثوا إليه: إنما أنا تاجر للمسلمين، والله لا أرده عليه أبدا
6
وأنكر قوم هذه الشدة من عمر، ورأوا فيها من المبالغة ما لا يفسره إلا شدة ضغنه على خالد وعظيم حرصه على النيل منه، فما ثمانون ألف درهم قيمتها دون السبعة الآلاف من الدنانير لرجل غزا وسبى واستفاء من المرتدين ومن العراق ومن الشام ست سنوات تباعا ما قيمته الملايين! وهذا الضغن يبدو في قول الطبري بعد أن روى رفض عمر أن يرد إلى خالد ماله، «فكأن عمر يرى أنه اشتفى من خالد حين صنع به ذلك.»
ولعل عمر إنما قسا على خالد وبالغ في القسوة عليه بعد عوده إلى المدينة معزولا؛ لأنه رأى جماعة من المتعصبين لخالد يحاولون إثارة الفتنة وأن يمشوا بين الناس بالفساد، فلو أنه أظهر اللين لظن قومه لينه ضعفا، ولأيقنوا أنه عزل خالد في غير إثم، ولجرأ ذلك على الشر وشجع عوامل القلق، ولم يغب ذلك عن فطنة خالد ولم تفته مرامي أمير المؤمنين فيه، فقد كان يرى عمر إذا خلا إليه كان الرقة معه واللطف به، فإذا تحدث إليه قوم في الأمر كان ما رأيت بأسا وشدة عاتب خالد عمر يوما في خلوة وأعاد عليه أنه كان في أمره غير مجمل، فقال عمر له: «يا خالد! والله إنك علي لكريم، وإنك إلي لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء أبدا.» وكفت هذه الكلمة خالدا فهدأت من ثورة نفسه وجعلته يرد الذين حاولوا تحريضه على القيام مع خصوم عمر في الثورة به بقوله: أما وعمر حي فلا! وكيف لخالد أن يثور بأميره لأمر أصدره، وهو جندي يعرف النظام ويؤمن به، وهو مسلم حسن الإسلام حريص على أن ينتصر دين الحق على يديه أو على يدي غيره! لذا سكن كارها إلى حياة لا ترضاها نفسه، حياة الجندي البطل يرى ميادين القتال مفتوحة أمامه، وهو مبعد عنها لا يستطيع خوض غمارها؛ لأن أميره عزله وأقصاه، وحسبك لتقدر ما حز ذلك في نفسه أن تذكر قوله، حين أقام بالحيرة سنة لا يقاتل الفرس امتثالا لأمر أبي بكر: «ألا إنها لسنة كأنها سنة نساء.»
واطمأن عمر إذ برت يمينه ألا يلي له خالد عملا أبدا ثم لم تثر لعزل خالد عاصفة، ولم يمالئ خالد أحدا على إثارتها، فغلب جانب البر فيه جانب الشدة والبأس، فأذاع في الأمصار: «إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.»
أفتعبر هذه الإذاعة تعبيرا صادقا عن رأي عمر في خالد، وتشهد أنه اقتنع بأن الرجل لم يرتكب إثم الخيانة ولا إثم الإسراف حين أجاز الأشعث بعشرة الآلاف؟ أم هي إذاعة سياسية قصد بها ابن الخطاب إلى تسكين الخواطر التي ثارت لما أصاب سيف الله، تعصبا له وإعجابا به، وخشية أن يجري عمر في سياسته على تغليب الهوى والأخذ بالظنة في أمر بناة الإمبراطورية الناشئة؟ أغلب الظن أنها كانت إذاعة سياسية أريد بها الاعتذار عن أمر أوشك حين وقوعه أن يحدث حدثا، وآية ذلك أن خالدا مات بعد أربع سنوات من عزله، ولم يترك من حطام الدنيا غير فرسه وغلامه وسلاحه، فلما عرف عمر ذلك من أمره حزن وقال: «يرحم الله أبا سليمان! كان على غير ما ظنناه به.» إذن لقد قامت بنفس عمر ظنة في خيانة خالد أو في إسرافه كانت سبب سخطه عليه وعزله إياه، وخطب الناس بالجابية يوما فقال: «إني أعتذر إليكم عن عزل خالد بن الوليد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأمرت أبا عبيدة.» لم تكن فتنة الناس بخالد هي إذن وحدها التي أدت إلى عزله مخافة أن يوكلوا إليه ويبتلوا به ويتعرضوا للفتنة بسببه، وليعلموا أن الله هو الصانع، بل كانت في نفس عمر سخطة على خالد لأسباب كانت فتنة الناس بسيف الله بعضها أو كانت أعظمها.
لم يسكن الناس لإذاعة عمر ولم يروها مسوغة عزل خالد، بل ظل منهم كثيرون وفي نفوسهم على عمر موجدة لهذا العزل أي موجدة، لما خطب بالجابية يعتذر جابهه أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بكلام يقول فيه: «والله ما أعذرت يا عمر! ولقد نزعت عاملا استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ووضعت لواء رفعه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأغمدت سيفا سله الله، ولقد قطعت الرحم وحسدت ابن العم!» وأجابه عمر: «إنك قريب القرابة، حديث السن، مغضب في ابن عمك.»
عاش خالد أربع سنوات بعد عزله بعيدا عن ميادين فخره ومجده، يحز الهم في قلبه أن يرى إخوانه وبني وطنه يقتحمون فلسطين إلى مصر والعراق إلى فارس، وهو مقيم في بيته، وسيفه في غمده لا يجرده لنصر أو شهادة، ولا يبديه مشهورا أمام الأبطال يهز قلوب العدو هزا، ويحصد رقابهم حصدا، أفما كان حسبه خلال هذه السنوات أن يستمتع بهذا المجد انعقد له لواؤه، وتكلل بغاره جبينه؟!
كلا! فما المجد لرجل لا يزال قديرا على أن يرفع صرحه ويعلي بناءه! إنما يسكن إلى مجد بلغه من يقعد به الجهد عن أن يسمو من مراتبه إلى أعظم مما بلغ، وكان خالد لا يزال قديرا أن يقتحم مراتب المجد جميعا، فيفتح من أرض الروم أضعاف ما فتح، ويبلغ عاصمة قيصر كما بلغ سعد بن أبي وقاص عاصمة كسرى، أما وعمر قد ألزمه عقر داره، فكسر سيفه وهد ركنه، فما أطول أيامه وأشد ألمه! وقد اخترم الهم حياته فمات بعد هذه السنوات المريرة
7
وهو يقول: «لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي.» وفي الرواية المشهورة أن خالدا بكى حين حضرته الوفاة وقال: «لقد حضرت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!»
حزن المسلمون لموت خالد أشد الحزن، وكان عمر بن الخطاب من أشدهم حزنا، رووا أنه سمع أمه تندبه وتقول:
أنت خير من ألف ألف من القو
م إذا ما كبت وجوه الرجال
فقال: «صدقت والله إن كان لكذلك!» وكان عمر ينهى عن الندب على الميت وبكائه حتى لقد شتت النسوة اللاتي اجتمعن ببيت عائشة يندبن أباها أبا بكر، فلما اجتمع نساء المدينة يبكين خالدا لم يعرض عمر لهن ولم يعترض عليهم فقيل له: ألا تسمع! ألا تنهاهن:
8
فقال: «وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة،
9
على مثله تبكي البواكي!» ودخل هشام بن البختري في ناس من بني مخزوم على عمر بن الخطاب فقال: يا هشام أنشدني شعرك في خالد، فأنشده أجود شعره، فلما فرغ من الإنشاد قال عمر: «قصرت في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب الشرف وأهله، وإن كان الشامت به متعرضا لمقت الله.» وجرى ذكر خالد يوما فاسترجع عمر وقال: «كان والله سدادا لنحور العدو! ميمون النقيبة.» فقال له علي: «فلم عزلته؟» قال: «ندمت على ما كان مني!» ويروى أن عمر كان غائبا يحج حين مات خالد، وأنه كان قد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، فلما رجع وجده قد مات، وطبيعي أن هذه الرواية إن صحت لا تستند إلى أكثر من قول نسب إلى عمر أو نقل عنه بعد وفاة خالد بن الوليد.
أفكان عمر صادق الحزن على خالد حين خرج عن مألوف رأيه فترك نسوة قريش يندبنه ثم أظهر الندم على عزله وقال فيه كل ما قاله؟ أم اقتضته مروءته أن يكون مجملا مع ابن خاله في مماته، ولم يكن مجملا معه في حياته، فترك النسوة يبكين لعل في البكاء ما يخفف لوعتهن، وقال ما قال يعزي به بني خالد وأهله؟ الله أعلم بالسرائر، ونحن بعد إزاء روايات مضطربة عن هذا الموقف من مواقف عمر، يتعذر علينا أن نقطع أيها الصحيح وأيها الموضوع.
وإن يصدق حزن عمر فلا عجب والموت يسمو بمن مات إلى مقام السيرة المبرأة عن الشماتة والحقد، فللأحياء منها المثل والعبرة، ولقد كان لعمر من قوة ثقته وشدة بأسه وعظيم إيمانه وعدله ، وبالغ رقته ورحمته، وما بينه وبين خالد من صلة الرحم، ما يدعوه للحزن عليه والأسى لمصاب أهله فيه، وكيف لا يحزن وعلى مثل خالد تبكي البواكي! بل كيف لا يحزن ولا يزال اسم خالد يدوي في الآفاق كما لا يزال اسم عمر يدوي فيها، وخالد أعظم بناة الإمبراطورية الإسلامية، وعمر أعظم من وطد ركنها ووجه سياستها!
هذه قصة خالد وعمر وقد وقف غير واحد من المؤرخين عندها، ونصبوا أنفسهم منصب الحكم بين الرجلين ليقولوا: أظلم عمر خالدا أم لم يظلمه حين عزله، وكثيرون يتعصبون لخالد ويقفون في صفه ويرون أن عمر لم ينصفه، فلو أن قصة الأشعث بن قيس صحت على أسوأ وجهيها وكان خالد قد أجازه من إصابة أصابها، لما كفت في رأيهم سببا لعزله، صحيح أن عمر كان شديدا في محاسبة عماله، وأنه كان يسألهم عما كسبوا من مال في ولاياتهم، ويقبض منهم ما لعلهم كسبوه بسببها، لكنه لم يعزل كل من وجه إليه هذه التهمة، بل لقد وجهها إلى عمرو بن العاص وهو على مصر غير مرة ثم لم يعزله، ولم يكن أحد من ولاة عمر وعماله كخالد بأسا وأيدا، ولم يكن لواحد منهم مثل عبقريته في القيادة وإقدامه في الحرب، فليس من الإنصاف أن يشتد عمر في مؤاخذته ما لم يشتد في مؤاخذتهم، أما الذين يتعصبون لعمر ويقفون في صفه، ويرون أنه لم يظلم خالدا حين عزله، فيذكرون أن جائزة الأشعث لم تكن وحدها سبب عزله، وإنما كانت بعض المظاهر لزهو خالد وخروجه على أمر الخليفة، فقد أمره ألا يتصرف في الفيء إلا بعد مراجعته فلم يفعل، وأن يحبسه على ضعفة المهاجرين فجعله لذوي الشرف واللسان؛ لذلك خشي عمر أن يفتتن خالد بالناس كما فتنوا به، فيكون الخطر على الدولة في بقائه، كما خشي أن يظن الناس أن خالدا أصبح ضرورة لا غنى عنها لانتصار جيوش المسلمين، فتصغر أقدر القادة دونه، وتعظم العقيدة فيه فتضعف العقيدة بالله، وذلك شر إن أصاب الدولة وتأصل فيها فسد أمرها ، ولا سبيل إلى استئصال هذا الشر إلا بعزل مصدره، ولو في غير جريرة، فإذا رأى الناس جيوش الدولة لا تزال من بعد مظفرة، قرت عقيدتهم بالله وثقتهم بقوادهم وساستهم، فكان للدولة ولدين الله بذلك كسب لا يقاس عزل رجل بجانبه، ولو كان هذا الرجل خالد بن الوليد.
لم ير كثيرون أن يقفوا من خالد وعمر موقف الحكم إكبارا لهما عن مقام القضاء، والاتهام، واقتناعا بأن ما انتهى إلينا من تفاصيل الحوادث وملابساتها فيه من القصور والاضطراب ما يردنا عن الحكم، وإن أسفوا مع ذلك على ما حدث أشد الأسف، فخالد وعمر رجلان قل نظيرهما في الرجال، فلو أنهما تضامنا إلى النهاية في بناء الإمبراطورية وسياستها، لأسرع الفتح أكثر مما أسرع، ولاتسعت رقعته أكثر مما اتسعت، ولدخل المسلمون القسطنطينية وخالد على رأسهم، ولأدالوا من دولة قيصر ما أدالوا من دولة كسرى، ولكان لذلك أثره الباقي في حياة الإسلامة وفي حياة العالم، ولرأينا من هذا الأثر غير ما نرى اليوم، ولسارت الحضارة غير سيرتها التي عرفنا.
وهذه فروض لا يدري أحد ما كان يصح منها لو لم يحدث ما حدث، وعندي أن عمر إنما عزل خالدا عن كل عمل للسبب الذي عزله من أجله عن إمارة الجند غداة خلافته، فالثقة بين الرجلين لم تكن قائمة في عهد أبي بكر ولا من قبله، وكان عمر يود لو أن أبا بكر عزل خالدا لحادث ابن نويرة أو لحادث غيره، فلما أبى الصديق أن يأخذ بظنة عمر فيه ولم يعزله، لم يكن لعمر يوم تولى أن يفصله عن الجند كله، فقد كانت جيوش المسلمين على اليرموك في إمرته، وكانت ضخامة اسمه وثقة الصديق به تحولان دون عزله؛ لذا اكتفى برد أبي عبيدة إلى مكانه من إمارة الجند، وأن يسير خالد تحت لوائه، فلما انتصر خالد في اليرموك وفتح دمشق ودوت فعاله في شبه الجزيرة كما دوت في العراق والشام، ثم كانت جيوش الروم لا تزال قوية بإزاء المسلمين، لم يكن لعمر إلا أن يحتمل ابن خاله وإن على مضض وأن يعجب بفعاله وإن بقي على سوء رأيه فيه، فلما فر هرقل إلى عاصمة ملكه ثم قمع المسلمون ما حدث من الانتقاض في شمال الشام، وحصنوا ما بينهم وبين الروم من تخوم، وأمن عمر عودة هرقل وجنوده، لم يبق لخالد إلا أن يكبح جماح زهوه؟ وأن ينزل على رأي الخليفة في الفيء وغير الفيء، كما ينزل كل عامل غيره، لكن خالدا ظل على اعتزازه بنفسه واعتداده بمقدرته، فاستأثر بما رأى أنه من الحق لنفسه أن يستأثر به حين توزيع العطاء من مغانمه، مخالفا بذلك أمير المؤمنين عن رأيه، خارجا فيه عن سياسته، وحرك ذلك في نفس عمر كل ما اجتمع فيها من سوء الرأي بخالد قبل حادث ابن نويرة وبعده، فكان الذي حدث من استدعاء خالد إلى حمص ليقف بين الناس موقف المتهم، ولتنزع قلنسوته ويعقل بعمامته؛ وليسأل كأنه خائن للأمانة، وليعزل بعد ذلك فيبقى بعيدا عن ميادين فخره ومجده حتى يموت على فراشه كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!
رحم الله خالدا ورحم عمر! لقد كانا قوتين من أضخم قوى القدر، اتسعت لهما شبه الجزيرة ما كانتا كمينتين، فلما تفتحتا وانتشرتا ضاق بانتشارهما ملك الفرس والروم مجتمعين؛ فاصطدمتا فلم يكن بد من أن تنكمش إحداهما حتى تبلغ الأخرى مدى انتشارها، وقد رضي خالد أن يكون القوة التي تنكمش، لكي لا يؤدي الصدام إلى تحطيم القوتين جميعا، ومن توفيق الله أن حانت ساعة انكماشه بعد أن اطمأن المسلمون بالشام إلى سلطان أقروه، وعدل أقاموه، وسياسة أحكموها.
أفقر المسلمون بالشام على نحو ما قروا بالعراق، فاستأثروا فيه بمدن أقاموها كما أقاموا البصرة والكوفة، ثم انتشروا في سائر أرجائه؟ كلا! بل أقاموا بدمشق وحمص وغيرهما من المدن الكبيرة فيه، وشجعوا القبائل التي أسلمت وكانت مقيمة بالحاضر المتصل بهذه المدن على الإقامة معهم بها، ثم لم ينتشروا فيما وراءها، وقد يبدو هذا عجيبا؛ ففي الشام الحدائق الغناء، والأودية الممرعة الخصب تكسوها المزارع إلى مدى الأفق، والجبال الباسقة تجلل هاماتها الثلوج ناصعة البياض، والأشجار المثمرة من أعناب وتين وزيتون، والمياه المتدفقة منحدرة من السفوح المرتفعة إلى المنبسطات السهلة الواسعة، فكيف لم يجذبهم كل ذلك إليه ما جذبتهم أرض العراق! السر في ذلك أن بالعراق من أرض البادية ومن أشجار النخيل ما استهوى نفوسا ألفت النخيل وألفت البادية، والناس أكثر ميلا لما ألفوا واطمئنانا إليه، ثم إن أهل العراق كانوا أسرع إلى الإسلام؛ فكان ذلك أدعى لتوثيق الأواصر بينهم وبين أهل شبه الجزيرة، أما نصارى الشام فاستمسك أكثرهم بادئ الأمر بدينهم، ورأوا أداء الجزية أيسر عليهم من تركه، فظل اختلاف الدين حجابا بينهم وبين العرب الفاتحين، على أن سياسة الحكم في القطرين لم تختلف، بل كانت قائمة فيهما على حماية أهل الذمة والتسوية بينهم وإن اختلفت مذاهبهم وأجناسهم، وأن يكون المسلمون جميعا سواء فيما فرضه عليهم الدين الجديد، يؤدون لله حقه، ويهبون له حياتهم راضين مطمئنين.
أدى استقرار المسلمين بالشام والعراق إلى وحدة الجنس العربي، أفما آن لعمر أن يضم هذه الإمبراطورية الناشئة في وحدة تزيدها قوة؟ كان ذلك أكبر رجائه، بل كان ذلك عزمه الصادق، لكن للأقدار حكما لا يستقر أمامه عزم، وقد أرادت الأقدار أن تزداد الإمبراطورية سعة، وأن تزداد رقعتها انفساحا، وسنرى من بعد ما ينطوي عليه حكم الأقدار في ذلك من موعظة بالغة.
هوامش
الفصل الرابع عشر
المجاعة والوباء
كان المسلمون في المدينة وفي شتى الأرجاء من شبه الجزيرة ينعمون بأنباء النصر الذي حالف جنودهم في العراق والشام، وبأخماس الفيء ترد إلى الخليفة، فيقسمها بينهم أعطيات تزيدهم رخاء، وتنقلهم من شظف البداوة وتقشفها إلى ما يشبه الحضارة لينا وطراوة، فقد زادتهم هذه الأعطيات قدرة على أن يبتاعوا من تجارة اليمن والشام ما يشاءون، وأن يقتنوا من خيرات مصر تجيء إليهم محمولة على السفن ما يجدون في اقتنائه متاعا لم يكن لهم من قبل بمثله عهد، وزادهم ذلك إقبالا على الحياة وتحمسا للفتح، واستمساكا بالدين القيم الذي يسر لهم نصر الدنيا والآخرة.
وإنهم لكذلك ناعمون إذ فجأهم القدر، في أخريات السنة السابعة عشرة وطيلة السنة التي تلتها، بهولين عظيمين؛ أصابهم أحدهما في موطنهم من شبه الجزيرة، وأصاب الآخر إخوانهم المجاهدين في الميادين، فأما أول الهولين فالمجاعة التي انتشرت في بلاد العرب من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، والتي دامت تسعة أشهر هلك فيها الزرع والضرع، والحرث والنسل، وأصاب الناس منها أشد الجهد والبلاء، وأما الهول الثاني فطاعون عمواس الذي امتد من الشام إلى العراق، فأفنى الألوف من خيرة المسلمين، رجالا ونساء، جندا ومدنيين، حتى ارتاع له عمر وارتاع له الناس جميعا أيما ارتياع.
وسبب المجاعة أن أمسك المطر في شبه الجزيرة كلها تسعة أشهر كاملة؛ وأن تحركت الطبقات البركانية من أرضها فاحترق سطحها وكل من عليه من نبات، فصارت الأرض سوداء مجدبة كثيرة التراب، فإذا تحركت الريح سفت رمادا؛ لذا سمي هذا العام عام الرمادة، ونشأ عن إمساك المطر وهبوب الرياح وهلاك الزرع والضرع جوع أهلك الناس والأنعام؛ فقد فني الكثير من قطعان الغنم والماشية، وجف ما بقي منها، حتى كان الرجل يذبح الماشية فيعافها لقبحها برغم جوعه وبلواه، ومن ثم أقفرت الأسواق فلم يبق فيها ما يباع ويشترى، وأصبحت الأموال في أيدي أصحابها لا قيمة لها إذ لا يجدون لقاءها ما يسد رمقهم، وطال الجهد واشتد البلاء، فكان الناس يحفرون أنفاق اليرابيع والجرذان يخرجون ما فيها.
كان أهل المدينة أحسن من غيرهم حالا أول العهد بالمجاعة، فالمدينة حضر ادخر أهلها حين الرخاء ما اعتاد أهل الحضر ادخاره، فلما بدأ الجدب جعلوا يخرجون ما ادخروا يعيشون منه، أما أهل البادية فلم يكن لهم مدخر فاشتد بهم الكرب من أول الأمر، ثم إنهم هرعوا إلى المدينة يجأرون إلى أمير المؤمنين بالشكوى، ويلتمسون لدى أهلها فتاتا يقيمهم، وازداد هؤلاء اللاجئون عددا فضاقت بهم المدينة، واشتد أهلها بالبلاء، فصاروا في مثل حال أهل البادية جدبا وجوعا.
ماذا يصنع عمر بنفسه؟ وماذا يصنع بهؤلاء الجياع؟ لقد كان بيت المال في يده، وكان في مقدور عماله بالعراق والشام أن يبعثوا إليه ما يبقي به على نظام عيشه قبل المجاعة، ثم كان له من العذر لو أنه فعل، أن تبعته كانت تقتضيه ألا يبلغ من الحمل على نفسه والقسوة بها فينوء به الجهد عن رعاية سائر المسلمين، ولكن تصرفه في هذا الموقف كان مثلا رائعا يجدر بكل من ولي الأمر في أمة أن يعرفه وأن يحتذيه.
حدث بعد ما اشتدت المجاعة أن جيء عمر بخبز مفتوت بسمن، فدعا رجلا بدويا فأكل معه فجعل البدوي يتبع باللقمة الودك إلى جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك؟ وأجابه الرجل: أجل! ما أكلت سمنا ولا زيتا ولا رأيت آكلا له منذ كذا وكذا إلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس، وظل على هذا العهد حتى أذن الله فعاد المطر وزال عن الناس الجدب.
وقد كان جادا في هذا العهد كل الجد، قدمت السوق عكة من سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام له بأربعين درهما، وذهب إليه الغلام فقال له: قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن فابتعتهما بأربعين، قال عمر: أغليت فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافا، وأطرق هنيهة ثم قال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم.
حكمة ما أعظمها وما أجلها لذاتها! وهي أكثر عظمة وجلالا إذ تصدر من رجل اجتمع له يومئذ من ملك كسرى وملك قيصر ما كان المسلمون يفاخرون به فارس والروم والعالم كله، اجتمع له العراق والشام وما فيهما من خير ونعمة، وقد كان عمر قديرا يومئذ أن يجمع من ترف الفرس ونعيم الروم ما شاء، لكنه كان يرى النعيم تعلقا بالدنيا، والترف مضلة لصاحبه، فسما عليهما ابتغاء الآخرة وابتغاء وجه الله ورضاه، وكان يرى أنه، وهو أمير المؤمنين، لا يمكن أن يعنيه شأن الرعية إذا لم يشعر بما يشعر به أكثرهم فقرا وإملاقا، ليسارع إلى القضاء على الفقر وعلى الإملاق، رآه الناس عام الرمادة وقد اسود لونه وكان أبيض مشربا بحمرة ؛ ذلك أنه كان يأكل السمن واللبن واللحم، فلما أمحل الناس حرمها على نفسه وأكل بالزيت، وأكثر من الجوع، حتى كان الناس يقولون وقد رأوا ما أصابه: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين.
والواقع أنه اهتم بأمرهم وبذل في سبيلهم كل جهده، كتب إلى عماله في العراق والشام يستنجدهم لغياث أهلهم في شبه الجزيرة، وكانت عباراته إلى هؤلاء العمال صادرة من قلبه، تشهد بسمو تقديره لتبعته، وعظيم شعوره بأنه مسئول أمام الله وأمام ضميره عن كل فرد من رعيته، كتب إلى عمرو بن العاص بفلسطين يقول: «سلام عليك! أما بعد، أفتراني هالكا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك! فيا غوثاه! يا غوثاه يا غوثاه!» وأجابه عمرو: «أما بعد، فلبث، لأبعثن إليك بعير أولها عندك وآخرها عندي.» وبعث عمر بمثل هذا الكتاب إلى معاوية بن أبي سفيان وأبي عبيدة بن الجراح بالشام، وإلى سعد بن أبي وقاص بالعراق، فأجابوه جميعا بنحو مما أجاب به عمرو بن العاص.
وكان أبو عبيدة بن الجراح أسرع الأمراء استجابة لنداء عمر وغياثا لأهل شبه الجزيرة؛ سبقهم جميعا فقدم في أربعة آلاف راحلة محملة طعاما، فولاه عمر قسمته فيمن حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم؛ فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين! إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علي الدنيا! لكن عمر أجابه: خذها فلا بأس بذلك إذا لم تطلبها، وإني قد وليت لرسول الله مثل هذا فأعطاني بعد أن قلت له مثل ما قلت لي، وقبض أبو عبيدة المال وانصرف إلى عمله.
وبعث عمرو بن العاص الطعام من فلسطين على الإبل وفي السفن من ثغر أيلة،
1
بعث في البحر عشرين سفينة تحمل الدقيق والودك، وبعث في البر ألف بعير تحمل الدقيق، وبعث معاوية بن أبي سفيان ثلاثة آلاف بعير من الشام، وبعث سعد بن أبي وقاص ألف بعير تحمل كلها الدقيق، هذا خلا خمسة آلاف كساء أرسلها عمرو، وثلاثة آلاف عباءة أرسلها معاوية.
وولى عمر من يطعم الناس ويكسوهم في أمصار المملكة وباديتها، وتولى هو بنفسه إطعام أهل المدينة ومن اجتمع إليهم من العرب، وانصرف رسله إلى أرجاء شبه الجزيرة يخففون عن الناس بلواهم، فلقي الموكلون بالتوزيع ما بعث به سعد بن أبي وقاص من الأقوات عند أفواه العراق، فأقاموا ينحرون للناس الجزر ويطعمونهم الدقيق ويلبسونهم العباء حتى رفع الله البلاء، وكذلك فعل الرسل ما بين مكة والمدينة، وقال عمر لرسوله الذي بعثه يلقى عير الشام: «أما ما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية، فأما الظروف فاجعلها لحفا يلبسونها، وأما الإبل فانحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتى يأتي أمر الله بالفرج.»
تولى عمر إطعام أهل المدينة ومن اجتمع إليها، فكان يأدم الخبز بالزيت يجعله ثريدا، وينحر بين الأيام الجزور فيجعلها على الثريد، ويأكل مع القوم مما يأكلون، فلما أقبلت الإبل من العراق والشام كان ينحر على مائدته كل يوم عشرين جزورا يطعمها الناس، وكان له عيون يجتمعون عنده إذا أمسوا فيخبرونه بكل ما رأوه يومهم، وأمر ليلة بعد أن فرغ الناس من العشاء بإحصاء الذين طعموا على موائده فكانوا سبعة آلاف رجل، وأحصيت العيالات التي لم تأت والمرضى والصبيان فكانوا أربعين ألفا، وزاد هؤلاء وأولئك بعد أيام فكان الذين تعشوا عنده عشرة آلاف والآخرون خمسين ألفا، وكان العمال يقدمون في السحر إلى قدور عمر فيعملون حتى يصبحوا، ثم توزع العصيدة ويوزع اللحم على المرضى والصبيان والعيالات ممن لا ينالون طعامهم على موائد أمير المؤمنين، وكان عمر يتعهد هؤلاء جميعا بنفسه ليطمئن إلى أنهم حصلوا على ما يدفع عنهم غائلة الجوع، وكان يرسل الدقيق والتمر والأدم إلى منازل القادرين على تهيئتها لغذائهم شهرا بشهر، يوزع ذلك عليهم في نظام يشبه نظام «البطاقات» أيام الحرب في عهدنا الحاضر، يزيد فيه وينقص منه على قدر ما عنده، وكان لذلك يقول: «لو لم أجد للناس ما يسعهم إلا أن أدخل على أهل كل بيت عدتهم فيقاسموهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بالحيا فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم.»
2
مع هذه العناية من عمر بالعرب جميعا فشا المرض في الناس، وهلك منهم كثيرون، فكان يتعهد المرضى، ويبعث بالأكفان لمن مات ويصلي عليهم، وقد استطاع خلال الأشهر التسعة التي قاسى الناس فيها هول الكارثة أن يخفف منها ما قدر أمراء الأنصار على إمداده، فلما قصرت مواردهم ازداد في شبه الجزيرة المرض والموت وبلغ الهول منهم أشده، فلم يجد عمر ملجأ من الله إلا إليه، لقد كان طيلة هذه الأشهر التسعة يصلي بالناس العشاء ثم يدخل إلى بيته فلا يزال يصلي حتى آخر الليل، ضارعا إلى الله ألا يجعل هلاك الأمة على يديه، فلما لم يستجب ربه دعاءه، ولم تسعف السماء الناس بمطر، عزم على أن يستسقي، فكتب إلى عماله أن يخرجوا بالناس في يوم عينه، وأن يتضرعوا إلى ربهم أن يرفع المحل عنهم، وخرج هو بالناس ذلك اليوم وعليه برد رسول الله، فلما انتهى إلى المصلى تضرع الناس وألحوا في الدعاء، وبكى عمر بكاء طويلا حتى أخضل لحيته، وكان العباس بن عبد المطلب قائما إلى جنبه، فأخذ عمر بيده ورفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنا نستشفع بعم رسولك إليك!» ودعا العباس ربه وعيناه تهملان، وأقام الناس يدعون ربهم تضرعا وخشية وقد أيقنوا الموت إن لم يسعفهم الله بالمطر، واستجاب الله لعباده المؤمنين الذين صدقوه ما عاهدوا عليه، إن الله بعباده لرءوف رحيم.
استجاب الله لعباده ففتح أبواب السماء بماء منهمر وسيل دافق، وسرعان ما ربت الأرض واخضرت، فلم يبق للأعراب الذين قدموا المدينة أن يقيموا بها؛ لذلك جعل عمر يسير بينهم يقول: اخرجوا! اخرجوا! الحقوا ببلادكم! يخشى أن يظل منهم بالمدينة من يظنها ألين عيشا، بل إنه وكل بهؤلاء الأعراب من يخرجونهم إلى باديتهم ويعطونهم قوتا وحملانا تبلغهم منازلهم، ثم كان يخرج بنفسه من يحتاج خروجهم إلى أمره، فلما بلغوا مساكنهم عادوا إلى مألوف حياتهم وإن لم يجدوا من أعطيات الفيء ما يرفه عنهم، فقد شغل عمر بهذه المجاعة في شبه الجزيرة فشدد أوامره إلى جنده ألا يقاتلوا عدوهم إلا إذا أكرهوا دفاعا عن أنفسهم.
لم يبعث عمر جباته عام الرمادة ليقبضوا الزكاة، بل أخرهم إلى أن ارتفع الجدب، فلما اطمأن الناس إلى العيش وكثرت عندهم مادته، أمر الجباة أن يسيروا إليهم وأن يأخذوا من كل قادر حصتين: حصة عن عام الرمادة، وأخرى عن العام الذي بعده، وأن يقسموا إحدى الحصتين على المعوزين، ويقدموا عليه بالثانية، بذلك زاد في تخفيف الفقر عن الفقراء، ثم لم يرهق غيرهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به.
يجدر بنا أن نقف هنيهة ها هنا ننظر في سياسة عمر كما تجلوها تصرفاته في أثناء هذه الشدة التي أصابته وأصابت قومه، ولسنا نريد بوقفتنا أن نبدي ما تثيره هذه التصرفات في النفس من إعجاب بعمر وإكبار له، وإنما نريد أن نستشف من هذه التصرفات فكرة مجملة عن صورة الحكم في ذهن رجل ألقت عليه الأقدار أن يكون أول بادئ بتفصيل نظام الحكم في الجماعة الإسلامية، وأشد هذه التصرفات أخذا بالنظر حمل عمر على نفسه وقسوته عليها، وأنه لم يكن يحمل عليها رغبة عن الطيبات مما رزق الله، فالإسلام لا يدعوه للرغبة عنها، وإنما كان يفعل ليشعر بشعور الضعفاء والمعوزين وذوي الحاجة، وذلك قوله: «كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم!» لذلك نزل بعيشه إلى مستوى حياة الفقراء الذين لم يكونوا يجدون إلا مائدته يجلسون إليها مع الألوف من الجائعين لينالوا ما يبقي عليهم الحياة، فكان يأكل معهم ولا يرضى أن يتناول طعامه في بيته حتى لا يظن أحد أنه يؤثر نفسه بشيء لا يناله ذو الفاقة من قومه، وقد حقق بتصرفه هذا غرضين جليلين: أولهما الشعور بألم الناس شعورا يدفعه إلى مضاعفة الجهد في العناية بهم والعمل لرفع الضر عنهم، والثاني طمأنينة السواد إلى أن أمير المؤمنين يشاركهم في بأسائهم وضرائهم، فلا تثور نفوسهم، بل يظلون راضين بكل ما يصيبهم؛ لأن أكبر رجل في الدولة يشاركهم فيه، وقد بلغ عمر من هذين الغرضين خير ما يبلغه حاكم في أية أمة من الأمم.
كان عمر إذن يرى أن أول واجب على ولي الأمر أن يجعل حياته في مستوى الحياة لجمهور الشعب، لكنه كان يرى كذلك أن يدع القادرين على تثمير المال واستغلال الأرض يستمتعون بطيبات الرزق، ليزيدهم المتاع بها حرصا على إتقان العمل وسعيا لزيادة خبراته ومضاعفة ثمراته، بذلك يزداد جمهور الشعب لولي الأمر حبا، وبسياسته تعلقا، وعلى التضحية في سبيل هذه السياسة إقبالا، وتزداد مكانة ولي الأمر في نظر القادرين وذوي المكانة سموا إذ يرون تعلق الشعب به ومحبته له، فلا يدور بخلد أحدهم أن يناوئه أو يخرج عليه، ثم تزداد أواصر الود بين طبقات الشعب المختلفة تمكينا؛ لأن ولي الأمر يقوم من هذه الطبقات مقام القلب من جسم الإنسان يوزع بينها أسباب الحياة بالقسط، ويوجهها جميعا للخير العام.
لم تكد المجاعة تنقضي ويرفع الله عن الناس الضر حتى روعهم النبأ بانتشار الوباء في الشام وامتداده إلى العراق، فقد فشا الطاعون في عمواس من أرض فلسطين، ثم انتقلت عدواه إلى الشام، فجعل يفتك بكل من يصابون به فتكا ذريعا مزعجا، لم يكن الواحد منهم يكاد يطعن حتى يدركه الموت، وما أكثر الذين كانوا يطعنون! وطال هذا الوباء شهرا هلك في أثنائه من المسلمين خمسة وعشرون ألفا، فيه من أكابر الناس وأشرافهم عدد غير قليل، منهم أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وغيرهم ممن في طبقتهم، وكان الحارث بن هشام قد خرج من المدينة إلى الشام في سبعين من أهل بيته فماتوا جميعا لم يبق منهم إلا أربعة وقيل: إن أربعين من ولد خالد بن الوليد ماتوا في هذا الطاعون الذي انتشر في الجند كما انتشر بين المدنيين، فأفزع الناس وأخافهم عواقبه، فلو أن أعداءهم حاولوا العود إليهم لعجزوا هم عن مقاومتهم، لكن الروم أشفقوا من الوباء أن يصيبهم منه ما أصاب المسلمين، فلم يفكروا في الرجعة إليه خوفا على أنفسهم من هذا الهول الذي فدح عدوهم.
لم تكن أنباء هذا الوباء مزعجة أول انتشاره، وكان عمر قد أزمع الذهاب إلى الشام ينظم شئونه بعد ما تم فتحه، وسار من المدينة، حتى إذا بلغ سرع على مقربة من تبوك لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة فأخبروه أن الأرض سقيمة، وذكروا له طرفا من أنباء الطاعون وشدة إصابته، وراع عمر ما سمعه منهم، فلما أمسى جمع المهاجرين الأولين يستشيرهم: أيتابع طريقه إلى الشام مع ما فيها من وباء أم يعود أدراجه إلى المدينة؟ واختلف رأيهم، فمن قائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، وما نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ ومن قائل: إنه لبلاء وفناء وما نرى أن تقدم عليه، واختلف الأنصار كما اختلف المهاجرون كأنما سمعوا قولهم فأعادوه، هنالك جمع عمر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم، فلم يختلف عليه اثنان، بل قالوا جميعا: ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء، وأمر عمر فنادى ابن عباس في الناس ليعدوا رواحلهم، فلما صلوا الصبح التفت عمر إليهم وقال: «إني راجع فارجعوا.»
لم يكن أبو عبيدة حاضرا مشاورات عمر وما انتهى إليه من رأي، فلما عرف ذلك قال له: «أفرارا من قدر الله يا عمر!» ودهش الخليفة لهذا الاعتراض، ونظر مليا إلى أبي عبيدة ثم قال: «لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة! نعم! فرارا من قدر الله إلى قدر الله.» وأطرق هنيهة ثم أردف «أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله!»
خلا عمر بأبي عبيدة بعد هذا الحديث يتذاكران في شئون الشام وفيما يجب أن يقابل الوباء به، وإنهما لفي حديثهما إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فرأى الناس في هرج، فسألهم ما شأنهم، فلما أخبروه الخبر قال: عندي من هذا علم، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إذا سمعتم بهذا الوباء فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه.» واطمأن عمر لهذا الحديث وقال: الحمد لله، انصرفوا أيها الناس!
وعاد عمر بالناس إلى المدينة، وعاد أمراء الأجناد ومن معهم إلى أعمالهم، وجعل عمر يفكر في أمر المسلمين بالشام وفيما دهاهم من فتك الطاعون، فأخذته الشفقة بأبي عبيدة أن يصاب به وأن يتوفى منه وكان عمر يرجو أن يطول بأبي عبيدة العمر ليخلفه على إمارة المؤمنين، أليس أبو بكر قد دعا الناس لمبايعة أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر، فبايع الناس أبا بكر، ثم بايعوا عمرا؛ فجدير به أن يستخلف أبا عبيدة وأن يدعو الناس لمبايعته؛ فإذا توفي في الطاعون فمن ذا ترى عمر يستخلف؟ هذا إلى أن عمر كان يحب أبا عبيدة أصدق الحب، ويضعه في أسمى مكان من نفسه، ولذا فكر في إبعاده عن الشام لاستخراجه من الوباء، لكنه كان يعرف ما انطوت عليه نفس صاحبه من صدق الإيمان بالله وبفكرة الواجب، وأنه لن يدع رجاله بالشام فرارا بنفسه من قدر الله، فكتب إليه فلم يشر إلى شيء مما دار بنفسه، بل قال له: «أما بعد، فإني قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها فعزمت عليك، إذ نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي.» وقرأ أبو عبيدة الكتاب فأدرك مراد عمر، وأنه إنما حرص على أن يستخرجه من الوباء، فقال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثم كتب إليه: «إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي.» وقرأ عمر هذا الكتاب فبكى، فسأله من حوله: أمات أبو عبيدة؟ فأجاب ولا يزال الدمع آخذا بخناقه: «لا! وكأن قد.»
وددت لو أني وقفت عند كلمة عمر حين اعترض أبو عبيدة عوده إلى المدينة بقوله: أفرارا من قدر الله، وأود لو أقف الآن عند هذين الكتابين اللذين تبادلهما عمر وأبو عبيدة، ففي كلمة عمر وفي الكتابين ما يجلو لنا صفحة من حياة ذلك العصر فيها عناصر قوته وأسباب انفساح الإمبراطورية الإسلامية فيه، لكني أوثر أن أقص ما حدث إلى أن رفع الله البلاء وإلى أن عادت الحياة في الشام سيرتها الطبيعية، فذلك يزيد هذه الصفحة جلاء، ويكشف عن تفكير المسلمين الأولين من أصحاب رسول الله وعن حريتهم في هذا التفكير وعدم تقيدهم إلا بالحق يملك عليهم بصائرهم ويهديهم الله إليه على علم.
قرأ عمر كتاب أبي عبيدة فبكى، وأخذ يفكر في الوسيلة لإنقاذ أهل الشام مما نزل بهم، وشاور أهل الرأي، ثم كتب إلى أبي عبيدة يقول: «إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.» وإن أبا عبيدة ليفكر في تنفيذ هذا الأمر إذ طعن فمات، فخلفه معاذ بن جبل، فطعن هو وماتا جميعا، واستخلف معاذ عمرو بن العاص فخطب الناس فقال: إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا في المرتفعات، فأذهب ذلك شدة الوباء وانتهى بزواله، وبلغت عمر مقاله ابن العاص فلم يكرهها، بل رأى فيها تنفيذا للأمر الذي بعث به إلى أبي عبيدة.
ما علة هذا الوباء؟ وإلى أي سبب يرجع؟ ليس فيما لدينا من الروايات ما يجلو لنا هذه العلة، ويكشف لنا عن سبب نطمئن إليه ونقتنع به، وإن بعض المتأخرين ليذهبون إلى أن طاعون عمواس نجم عن كثرة القتلى في الميادين كثرة تعذر معها دفن أكثرهم، فأثار ذلك في الجو من الميكروبات ما كان سبب الوباء، أما المتقدمون من المؤرخين فيردون سببه إلى غضب من الله استنزله أبو عبيدة على أهل الشام لشرب جماعة من المسلمين فيه الخمر، فقد كتب إلى عمر: «إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، فسألناهم فتأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال:
فهل أنتم منتهون ، ولم يعزم علينا.» ولم يكن القرآن قد نص على حد للخمر، ولم يحد رسول الله ولا حد أبو بكر شاربا لها، لذلك جمع عمر أصحاب الرأي بالمدينة، وقص عليهم ما جاء في كتاب أبي عبيدة، فرأوا أن عبارة القرآن:
فهل أنتم منتهون ، تعني الأمر؛ أي فانتهوا، وأجمعوا على أن يضرب الذين شربوها ثمانين جلدة وأن يفسقوا،
3
وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين، ودعاهم أبو عبيدة وسألهم على رءوس الناس، فقالوا: إن الخمر حرام، فجلدهم ثمانين وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث، فكان الطاعون.
وأحسب الأكثرين اليوم يؤثرون رأي المتأخرين أو ما يماثله، ولا يرون دعاء أبي عبيدة على أهل الشام سبب الوباء، وقد سقت الكلمة التي نسبت إلى أبي عبيدة وإنني لفي ريب من صدورها عنه، فما كان له أن يرجو هذا البلاء الماحق لأهل الشام جميعا لغير شيء إلا أن بعضهم شرب الخمر، فما أكثر ما يرتكب الناس من آثام أعظم من أم الكبائر ثم لا يرسل الله عليهم البلاء حاصدا يصيب المذنب والبريء! وأبو عبيدة رجل رقيق الطبع شديد الإيمان، أبر بمن يسوسهم من أن تصدر عنه هذه الكلمة، ما بالك وفيمن يسوسهم من الجند من رأيت من وفائه لهم ما يشهد به كتابه لعمر حين دعاه إلى المدينة ليستخرجه من الطاعون! على أن ريبنا في صدور هذه الكلمة من أبي عبيدة لا ينفي أن قوما شربوا الخمر، فلما سألهم تأولوا قوله تعالى:
فهل أنتم منتهون ، وأنه رفع أمرهم إلى عمر ثم أوقع عليهم الحد تنفيذا لأمر الخليفة، فتواتر الرواية بهذا الحادث وتنفيذ الحد في عهد عمر ومن بعده يقطع بصحتها، وهي تتفق وما حدث في حياة النبي حين دعا عمر الله أن يبين لهم في الخمر، وأن يبين لهم فيها بيانا شافيا؛ لأنها تذهب العقل والمال، لا عجب وذلك شأنه أن يقسو على شاربيها وأن يضع لها الحد وأن يقيمه في خلافته، فيقام من بعده على أنه من حدود الله.
وأيا ما كان سبب الوباء فقد أدى تفرق الناس في المرتفعات ، استجابة لدعاء عمرو بن العاص، إلى ذهاب شدته ثم إلى زواله بعد أن أفنى من المسلمين بالشام خمسة وعشرين ألفا، وبعد أن انتقل من الشام إلى العراق ففتك فيه بأهل البصرة أشد مما فتك بغيرهم، وكان أهل البصرة من خيرة جند المسلمين، مع ذلك لم يفكر يزدجرد في استرداد العراق أكثر مما فكر هرقل في استرداد فلسطين أو الشام، فقد خشي ما خشيه هرقل أن يصاب جنوده بالوباء وأن ينتقل معهم إلى أرض فارس، فتكون الطامة شرا من الحرب وآثارها.
كيف يواجه عمر الموقف بعد أن زال الوباء؟ إنه إن يترك الشام على حاله بعد فناء من فني من المسلمين، وبعد أن مات من جندهم به عدد عظيم، يتعرض الفتح فيه لعواقب لا يرضاها، فقد يفكر الروم في القدوم إليه يحاولون استرداده، ثم إن النظام الاقتصادي فيه قد شابه اضطراب سببته مواريث الذين ماتوا، وهو لا يأمن أن يثير توزيع التركات ثائرات بين المسلمين أنفسهم، فليس له إلا أن يذهب بنفسه، فينظر في ذلك كله ويضع كل أمر في نصابه؛ لذا فصل من المدينة في جماعة من الصحابة وخلف عليا عليها، واتخذ الطريق إلى أيلة، فلما بلغها دفع إلى أسقفها قميصا له قد انجاب مؤخره عن مقدمه من طول السير، وقال له: اغسل هذا وارقعه، وغسل الأسقف القميص ورقعه، وخاط قميصا آخر مثله، وعاد بالقميصين إلى عمر وقال له: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك مني، فلبس عمر قميصه ورد الآخر وقال: هذا أنشفهما للعرق.
وسار عمر من أيلة فنزل الجابية فجعلها مقره، وذكر له عماله بالشام وفلسطين ما كان من أمر المسلمين وما نزل بهم، فزار بلاد سورية جميعا، وتفقد شئون المسلمين في شتى أرجائها، وبذل لهم، ورتب منازلهم بدمشق وحمص وسائر المدن التي بلغ فيها فتك الوباء أشده، ثم إنه نظم ثغور الشام ومسالحه، وأعاد توزيع القوات في كوره، وسمى الرجال الذين عينهم عليها، فلما فرغ من ذلك قسم المواريث، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، بذلك استقر كل أمر في نصابه، وعاد كل شيء إلى نظامه، واطمأن الناس بعد طول الفزع، ولم يفكر الروم في الرجعة إلى الشام.
وكان عمر حين جاءه النبأ بموت أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان قد ولى مكانهما شرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان، فلما كان بالجابية عزل شرحبيل عن عمله، وسأله شرحبيل: أعزله عن سخطة؟ فقال: لا! إنك لكما أحب، ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال شرحبيل: فاعذرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام عمر فقال: «أيها الناس! إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل.» والحق أن شرحبيل كان قائدا حسن المداورة بالجيوش، لكنه لم يكن رجل سياسة يعرف كيف يوجه الناس إلى أغراضه القريبة والبعيدة، أما معاوية فكان على شبابه سياسيا محنكا ذا بصر بموارد الأمور ومصادرها.
ولما قفل عمر من رحلته بالشام إلى الجابية يريد المدينة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:
ألا إني قد وليت عليكم، وقضيت الذي علي في الذي ولاني الله من أمركم إن شاء الله، قسطنا بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود وهيأنا لكم الفروج، وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيؤكم وما قاتلتم عليه من شأنكم، وسمينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم فمن علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا، نعمل به إن شاء الله.
وحضرت الصلاة وكان عمر قد أزمع الرحيل بعدها، فقال له الناس: لو أمرت بلالا فأذن! وكان بلال قد انقطع عن الأذان منذ قبض رسول الله، فأراد الناس سماعه بعد إذ رفع عنهم البلاء، ليذكروا نعمته جل شأنه، إذ أرسل رسوله إليهم فهداهم للإسلام وأورثهم الأرض ووطد لهم أكنافها وأذل لهم الفرس والروم، فلما أصابهم الضر رفعه عنهم ولم ينزل نقمته عليهم، وأذن بلال بصوته الندي لم تغير منه السنون، فأحيا في نفوس الذين أدركوا رسول الله عهدا كانوا يقفون فيه وراءه
صلى الله عليه وسلم
صفوفا متراصة يصلي بهم ثم يحدثهم فيزيدهم هدى، فلم يبق من هؤلاء واحد إلا بكى حتى بللت دموعه لحيته، وبكى من لم يدرك النبي لبكائهم، ثم كان عمر أشدهم بكاء؛ لأنه كان أكثرهم لفضل الله ولفضل رسوله ذكرا، ولقد ظل هذا النداء للصلاة، أرسله مؤذن النبي للمرة الأولى والأخيرة في جو الشام على مقربة من بيت المقدس، علما في التاريخ على فتح المسلمين، واستقرار الإسلام فيها، وقراره بها إلى يوم الدين؛ لذلك لا ينسى مؤرخ أن يذكره، فهو لذاته نصر من الله وفتح مبين.
ودع عمر أهل الشام وعاد إلى المدينة وقد استقر عزمه على أن يزور العراق، لكن الله لم يشأ له أن يزوره، وقيل: إنه كان أزمع الذهاب إلى العراق قبل مسيرته إلى الشام، فإذا بلغ شماله انحدر إلى حلب ودمشق من الفراض، فصرفه كعب الأحبار عن عزمه وجعله يبدأ بالشام، فكانت رحلته إليه آخر رحلة له خارج شبه الجزيرة.
4
أما وقد فرغنا من حديث عمواس وطاعونها وموقف عمر منه، فلنتحدث عن دلالة ما وقع فيه على حرية المسلمين العقلية لذلك العهد، وعما انطوت هذه الحرية عليه من عناصر القوة، وكيف فتحت لهم أبواب الإمبراطورية العظيمة التي ظلت تزداد على الأيام فسحة وعظمة حتى غير المسلمون ما بأنفسهم فغير الله ما بهم.
لما سار عمر يريد الشام فلقيه أمراء الأجناد بسرغ وذكروا له أن الأرض سقيمة فأمر الناس بالعود إلى المدينة، اعترضه أبو عبيدة بن الجراح بقوله: «أفرارا من قدر الله يا عمر!» فقال: «نعم! فرارا من قدر الله إلى قدر الله.» وهذا الاعتراض وهذا الجواب يصوران التفكير القدري وما وقع عليه من خلاف لا يزال قائما إلى اليوم، ونحسب كلمة عمر أدق تصويرا للقدرية الإسلامية، فابن الجراح والذين أشاروا على عمر بالسير إلى الشام وقالوا له: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدك عنه بلاء عرض لك؛ هؤلاء إذ يؤمنون بأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وبأن لكل أجل كتابا فإذا جاء أجلهم فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون، يرون أن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، فإذا اعتزمنا أمرا وجب لذلك علينا أن نغض الطرف عن كل ما سواه، وأن نمضي قدما في سبيله، لا يصدنا دونه بلاء يعرض أو عقبة تقوم، وهذا الرأي يؤمن به أمراء الجند مصدر قوة ليس كمثلها قوة، والجندي الذي يؤمن بالله مكفول له النصر لا محالة، فأول ما يقضي به الإيمان الصحيح ألا يهاب الجندي الموت، وأن يقدم عليه مغتبطا به، فإن استشهد ففي سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل القضية التي ينصرها، وإن ظفر فعاش كان له فخر الأبد، وإيمان الجند بهذا الرأي هو الذي نصر المسلمين في مختلف الميادين؛ لأنهم آثروا الشهادة في سبيل الله، فوهب لهم الله حياة كرامة وعزة.
لكن القدرية بهذا المعنى العظيم الأثر في حياة الجندي لا يمكن أن تكون القدرية كما يجب أن يفهمها السياسي المسئول عن مصالح الناس ومصيرهم في الحرب وفي غير الحرب، وكما يجب أن يفهمها المفكر الذي يقلب الأمور على وجوهها وينظر فيها من كل نواحيها، فصحيح أن لكل أجل كتابا، وأن تفكيرنا أقصر من أن يرد عادية القدر عنا، لكنا يجب مع ذلك أن ننظر في الأمور وأن نتدبرها لنحسن التصرف فيها إلى غاية ما يهدينا إليه علمنا وعقلنا، وما يهدينا إليه العقل والعلم وحسن التفكير هو من قدر الله؛ كما أن إقدام الجندي على الموت في ميدان القتال وما يصيبه نتيجة هذا الإقدام هو من قدر الله، وأول واجب على أمير الجند ألا يلقي بجنده إلى التهلكة بسوء رأيه، وألا يعرضهم للموت حتى يستقر رأيه على ملاءمة الأحوال لخوض المعركة، فإذا خاضها وجب عليه أن يعمل للانتصار فيها بأقل تضحية ممكنة، وأول واجب على السياسي ورجل الدولة ألا يعرض نفسه ومن يسوسهم إلى هلكة يستطيع تجنبها، أو يستطيع إنقاذ الناس منها، من غير إضرار بمصلحة الدولة العليا وبسياستها للحاضر وللمستقبل، فإذا ظفر من ذلك بما أراد كان ظفره فخرا له كفخر الجندي بانتصاره، ثم كان هذا الظفر قدرا من الله ورحمة بعباده.
وذلك ما رآه الذين قالوا عن الطاعون إنه بلاء وفناء، وأشاروا على عمر أن يرجع إلى المدينة فسمع إلى مشورتهم، وكان سماعه لها ونزوله عليها الحكمة كل الحكمة، فلو أنه سار إلى الشام فطعن فمات لأصابت المسلمين خسارة عظيمة قد تنتقض بسببها عليهم أمورهم، ولو أنه سار إلى الشام فطعن بعض أصحابه فعاد بسائرهم فانتقل الوباء إلى شبه الجزيرة لتعرض أهلها لكارثة توقيتهم إياها واجب على أمير المؤمنين، وهو حين يفر من الموت ويتحاشى نقل الوباء إلى شبه الجزيرة إنما يفر من قدر الله، فيجنب نفسه ويجنب شبه الجزيرة كارثة لم يردها الله لهم.
والمثل الذي ضربه عمر لأبي عبيدة في هذا المقام يفسر رأيه في القدرية خير تفسير، فإذا وجد راع واديا فيه عدوة خصبة وأخرى جدبة، فرعى الجدبة رعاها بقدر الله، وإذا رعى الخصبة رعاها بقدر الله، ذلك أنه إما عالم فمختار بينهما، فاختياره قدر من الله؛ لأن عقله الذي وهبه الله هو الذي هداه إليه، أو جاهل لهما فراع ما أمامه بقدر الله؛ لأن الأخرى مغيبة عليه فلا اختيار له بين العدوتين، وقد عرف عمر العدوتين في أمر الشام ووبائه، فوجب عليه أن يختار بينهما، وقد استشار فاختار ففر من قدر الله إلى قدر الله.
ولقد زاده الله اطمئنانا إلى اختياره ما رواه عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله أنه قال: «إذا سمعتم بهذا الوباء في بلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارا منه.» فهذا الحديث إنما يفرض الحجر الصحي على ما نفهمه في عصرنا الحاضر، إذ يعزل البلد الموبوء عن غيره من البلاد، ثم يعزل الأصحاء من أهله عن المرضى، ولا يسمح لهؤلاء الأصحاء أن يختلطوا بغيرهم في بلد آخر مخافة أن يكون الداء جنينا فيهم، فتنتقل عدواه منهم ولو لم تظهر آثاره عليهم، والاحتياط لمثل هذا الاحتمال واجب، وهذا الاحتياط هو الذي دعا أمير المؤمنين؛ لأن يعجل بالعود إلى المدينة.
وليس يمنع الحجر الصحي الناس من أن ينتجعوا في حدود بلدهم مكانا يرونه أذهب للداء عنهم وذلك ما كتب به عمر إلى أبي عبيدة إذ قال له: «إنك أنزلت الناس أرضا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة.» وهو بعينه ما أشار به عمرو بن العاص حين طلب إلى الناس أن يتجبلوا من الطاعون في الجبال، ولم يكره عمر رأي ابن العاص؛ لأنه رآه فرارا من قدر الله إلى قدر الله، توجبه الحكمة ويقضي به العقل وتفرضه الروية، ومعنى ذلك أن ما نكسبه في الحياة إنما نكسبه بقضاء وقدر، والعاقل حكيم يهديه الله إلى الخير فيكون ذلك قدر الله له، فإذا لم يغن عن إنسان تفكيره فأصابه ما يؤذيه كان ما يصيبه قدر الله له.
أترى إلى هاتين النظريتين في مدلول القدرية، يؤيد إحداهما أبو عبيدة وطائفة من المسلمين معه، ويؤيد الأخرى عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه، ويؤمن كل من الفريقين بأن له الحرية التامة في التمسك برأيه، وعليه في الوقت نفسه أن يحتم الرأي الآخر، ثم لا يطعن تأييده هذا الرأي أو ذاك في عقيدته ولا يغير من حسن إيمانه وإسلامه! أما وعمر أمير المؤمنين فرأيه هو الذي ينفذ، ثم يبقى أبو عبيدة ومن معه على رأيهم لا يبدلونه ولا ينزلون عنه، ويبقى عمر على احترامهم واحترام رأيهم، كما يبقون هم على احترامه واحترام رأيه.
هذه الحرية العقلية وما أدت إليه من تبادل الاحترام بين هؤلاء المسلمين الأولين كانت عنصر قوتهم وسبب ظفرهم بعدوهم وتغلبهم عليه وفتحهم بلاده، ذلك بأنهم كانوا يؤمنون بأن كل واحد منهم إنما يصدر في رأيه عن قصد الخير للجماعة، وأنه يتحرى الحق لوجه الله جل شأنه، واختلاف الآراء في طبيعة الإنسان ما دام حرا عزيز الجانب، وإنما يغلب رأي حين تراه الجماعة حقا تقضي مصلحتها بتغليبه، ومصلحة الجماعة متأثرة أبدا بأحوال تتغير بالزمان والمكان، فلا ضير عليها أن تغلب الرأي الذي تراه حقا في زمانها ومكانها، وأن يبقى من يخالفونها عن رأيها أحرارا ما قصدوا إلى الخير وابتغوا برأيهم وجه الحق وحده.
قدمت أن رأي عمر هو في نظري أدق تصويرا للقدرية الإسلامية، وهو يتفق كذلك مع الجبرية العلمية كما نفهمها نحن في هذا العصر، وكما فهمها فلاسفة الإغريق منذ أكثر من ألفي سنة، وهذه الجبرية تذهب إلى أننا غير مختارين في رأي أو عمل، وأن اختيارنا لهذا الرأي أو ذاك، ولهذا الأمر أو ذاك، يتأثر بعوامل كثيرة لا سلطان لنا عليها، من بيئتنا ووراثتنا ونشأتنا التعليمية وحالنا الصحية كما يتأثر بغرائزنا الإنسانية وبأهوائنا الذاتية، وكثيرا ما وجه حياتنا ووجه تفكيرنا وعملنا حادث طارئ لم يكن في حسباننا ولا في حسبان غيرنا، والبيئة والوراثة والنشأة والغرائز والأهواء والطوارئ كلها من قدر الله الذي لا نملك له تحويلا ولا تبديلا؛ لذلك كان فارا إلى قدر الله من يفر من قدر الله.
أدت الحرية العقلية إلى تبادل الاحترام بين المسلمين الأولين، فلم يكن ما حدث من خلاف في الرأي بين عمر وأبي عبيدة ليمنع عمر من التفكير في استخراج صاحبه من أرض الوباء إبقاء عليه لخيره وخير المسلمين، والكتابان اللذان تبودلا بين الرجلين في هذا الشأن يقفان النظر ويثيران في الذهن شتى الفكر، فأنت إذا نظرت إليهما من ناحية العاطفة رأيتهما مثلا في الوفاء قل نظيره؛ وفاء من عمر لأبي عبيدة أمين الأمة وصاحبه في السقيفة والقائد السياسي الذي رضي أهل الشام حكمه، ووفاء من أبي عبيدة لجنوده الذين خاضوا معه المعارك وبذلوا أنفسهم في سبيل الله وأظفروه بالروم أيما ظفر، وإن أنت نظرت إليهما من ناحية الخير العام للدولة الناشئة رأيت الرجلين يختلفان رأيا على هذا الخير وهما يلتقيان مع ذلك عنده، فعمر يعرف قدر أبي عبيدة وما للمسلمين من خير في بقائه، ويرى لذلك إنقاذه من وباء فتاك لا فخر لمن يموت به، وأبو عبيدة يعرف واجبه لجنده ويرى مغادرته إياهم نجاة بنفسه شر مثل يضرب لهم ولمن دونه من أمرائهم، هذا إلى أن كلا من الرجلين يستمسك في كتابه برأيه ، فلا يرى عمر بأسا من أن يفر الإنسان من قدر الله إلى قدر الله، وهو يدعو أبا عبيدة إلى هذا الفرار، ويصر أبو عبيدة على ألا يفر مما كتب في لوح القدر وإن رأى الموت جاثما أمامه، فيبقى بالشام فيموت راضيا بقضاء الله وقدره، ويقرأ عمر كتاب أبي عبيدة، ويرى مخالفته له وعدم إذعانه لأمره، فلا يثور ولا يغضب، ولا يرى في هذه المخالفة خروجا على واجب النظام، بل تأخذه الشفقة بصاحبه فيبكي إذ يراه وكأن قد مات.
هذه الثقة بين أمير المؤمنين وكبار المسلمين، مع إكباره لهم واحترامه رأيهم، كانت من عناصر القوة التي دفعت فتحهم، فأسرع ونجح في أحوال رأينا من دقتها في القادسية وفي شمال الشام شهيدا على ما كان لإيمان المسلمين بالله من فضل في إقدامهم وجرأتهم، وقد زادتهم هذه العناصر ثباتا وقوة، فقد كانت الحرية المحترمة والثقة المتبادلة قوام الإمبراطوريات الكبرى التي اكتسحت العالم في عصور مختلفة، فوجهت سياسته وأقرت فيه حضارة تقدم بها خطوات في سبيل الكمال.
لا أريد أن أختم هذا الفصل من غير أن أشير إلى ما كان لأمر عمر بعزل شرحبيل بن حسنة عن إمارة الأردن وإقامة معاوية بن أبي سفيان أميرا على الشام كله من أثر أدى من بعد إلى قيام الدولة الأموية، وإلى انتقال العاصمة الإسلامية من المدينة إلى دمشق، وإلى اختلاط العرب بغيرهم من العناصر التي دخلت في دينهم اختلاطا جعل الدولة الناشئة تتطور لتصير إسلامية أكثر منها عربية، فقد كان عمر لإكرامه بني هاشم لا يوليهم في البلاد المفتوحة، بل كان يبقيهم بالمدينة مع كبار الصحابة ليشيروا عليه، وقيل له في ذلك فقال يوما لابن عباس: «إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل الناس وترككم ... والله ما أدري احترمكم عن العمل ورفعكم عنه وأنتم أهل ذلك، أم خشي أن تهاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم، ولا بد من عتاب.» وكان معاوية رجلا حكيما عصمته حكمته أن تغشي مطامعه على بصيرته، حليما صانه حلمه عن بطش القدرة، ثاقب النظر يتألف الناس بسلطانه ويجذبهم إليهم بحسن حديثه وحسن حيلته، وطال عهده بالشام بقية عهد عمر، ووليه أيام عثمان، فانتهت سياسته بأهل الشام إلى تعلقهم به والتفافهم حوله ومناصرتهم له حتى على الأدنين من أهل بيت رسول الله، فكان لذلك من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما كان.
ولم يكن عمر ليقدر ما حدث من ذلك بطبيعة الحال، فقد سكنت منافسات بني عبد شمس وبني عبد مناف منذ أسلم أبو سفيان وقومه بفتح مكة، وقد رأيت أبا سفيان وبنيه وصدق إخلاصهم في أثناء وقائع الفتح؛ لذلك نسي الناس الحفائظ القديمة، فلم تثر إقامة معاوية على إمارة الشام في نفس شبهة، ولم يفكر أحد فيما ترتب من بعد عليها، وهل كان لأحد يومئذ أن يفكر في أن الثورات الكبرى كالعواطف الهوجاء، تقتلع، وتذر وراءها من الآثار ما تذر، ثم تبقى كوامن الأرض كما هي، لتنبت بعد مرور العاصفة نباتها القديم في صورة تلائم الجو الجديد؟
أقر عمر الأمور في الشام، ثم ودع أهله وعاد إلى المدينة مطمئنا إلى زوال الهولين اللذين نزلا بالمسلمين، واستقر بهما زمنا سار بعده إلى مكة على رأس المسلمين يؤدي فريضة الحج كعادته كل عام، فلما فرغ منها عاد إلى المدينة يستقبل من أنباء الفرس ومن أنباء الروم في مصر ما يتجه به إلى سياسة جديدة يواجه بها أحداثا كان يرجو ألا تكون، فلننتقل معه لنستقبل هذه الأنباء، ولنرى من أثرها في سياسة الإسلام والمسلمين ما يفسح رقعة الإمبراطورية إلى حدود الصين من الشرق وإلى حدود تونس من الغرب.
هوامش
الفصل الخامس عشر
التوسع في فتح فارس
كانت سياسة عمر أن يقف بالفتح في حدود العراق والشام لا يتعداهما، وأن يجمع العرب بذلك في وحدة تمتد من جنوب شبه الجزيرة إلى شمال بادية السماوة؛ لذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح المدائن، حين بعث يستأذنه في مطاردة الفرس وراء جبلهم: «وددت لو أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ! حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.» وكان عمر مخلصا في هذه السياسة كل الإخلاص، والواقع أنها كانت خطوة جديدة في سياسة الإسلام؛ فقد كان رسول الله يحرص كل الحرص على تأمين شبه الجزيرة وتخومها حتى لا يعتدي الفرس أو الروم عليها، وكان يرجو أن يهدي الله كسرى وقيصر وأمراء مصر والشام والعراق إلى الإسلام بلا قتال، وكانت هذه سياسة أبي بكر حين أنفذ بعث أسامة لقتال الروم على تخوم الشام كما أمر به رسول الله، فلما دخل المثنى بن حارثة الشيباني العراق وأمده الصديق بخالد بن الوليد فانتصر على الفرس، ثم لما بدأ الفتح في الشام، لم يدر بخاطر أبي بكر ولا بخاطر عمر أن يتخطيا حدود العراق والشام إلى ما وراءهما، فقد كان بالعراق والشام من قبائل العرب التي نزحت من شبه الجزيرة وأقامت مملكة الحيرة ومملكة غسان من يمتون إلى المسلمين بأوثق الصلة؛ فمن حق المسلمين أن يطمعوا في مؤازرتهم وانضمامهم إليهم، فأما ما وراء ذلك من أرض الفرس وأرض الروم فلم يكن للخليفتين الأولين مطمع في غزوه وفتحه.
على أن الحوادث كثيرا ما كانت أقوى من الرجال، وكثيرا ما حملتهم على تعديل اتجاههم وتغيير سياستهم، وقد حملت الحوادث عمر على تعديل سياسته بإزاء الفرس وبإزاء الروم على كره منه بادئ الأمر، ثم ملأته حماسة للسياسة الجديدة بعد أن حالف النجاح هذه السياسة إلى مدى لم يتوقعه الخليفة ولم يتوقعه أحد غيره.
فأنت تذكر أن الهرمزان أحد قواد الفرس بالقادسية قد نجا من الموت وفر بعد الهزيمة فلجأ إلى الأهواز وأقام بها، وأن يزدجرد عاهل الفرس فر بعد فتح المدائن إلى حلوان ثم إلى الري، وأن سائر جنود فارس وقوادها فروا أشتاتا في مختلف أرجائها، فلما أمر عمر سعدا ألا يتعقبهم وأن يتولى تنظيم العراق وإصلاحه، خيل إلى الفرس أن العرب أمسكوا عن تعقبهم خوفا منهم، فأطمعهم ذلك فيهم وأغراهم بمناوشتهم، وكان أهل الأهواز أسبق من غيرهم إلى المناوشة، فكانوا لذلك أول من اصطدم بالمسلمين، فدارت الدائرة عليهم، فكانت هزيمتهم طليعة ما تلاها من هزائم الفرس واندحارهم.
والأهواز تقع إلى الجنوب الشرقي من العراق العربي وتتصل به، ويجري فيها من فروع دجلة نهير دجيل ونهير كارون، ولا يفصلها عن العراق العربي جبل فارس الرفيع الذرى، وإن فصلت بينهما في بعض الأماكن مرتفعات يتعذر اجتيازها إلا من مسالك مألوفة لأهل تلك الأرجاء، وكان موقع الأهواز على مقربة من الأبلة والبصرة، سببا في اشتباك أهلها بالعرب قبل غيرهم من أهل فارس، فأكثر الروايات على أن المسلمين فتحوا الأبلة في عهد أبي بكر أول ما ذهب خالد بن الوليد إلى العراق، وأن الفرس استردوها بعد ذلك فبقيت في سلطانهم حتى فتحها عتبة بن غزوان في عهد عمر بن الخطاب.
وتوفي عتبة وولى عمر المغيرة بن شعبة على البصرة مكانه،
1
وكان عتبة قد شخص إلى المدينة قبيل وفاته، فحدثت أهل الأهواز أنفسهم بالثورة بسلطان المسلمين في غيابه، فخرج المغيرة حتى يؤمن التخوم بينه وبينهم، ولم يجد مشقة في التغلب عليهم، لكن ما يعرفه من سياسة عمر جعله لا يتعقبهم داخل بلادهم، بل يكتفي بقهرهم ومصالحتهم على مال يدفعونه، ثم إنهم لم يلبثوا إلا قليلا حتى نكثوا عهدهم، فأحلوا المسلمين من صلحهم وأباحوهم أرضهم.
ذلك أن عمر عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وولاها أبا موسى الأشعري، وأمره أن يشخص المغيرة إليه ليحاكمه، فقد كانت أم جميل إحدى نساء بني هلال تغشى الأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فغشيت المغيرة يوما فهبت ريح فتحت كوة داره، فرآه أبو بكرة وجماعة معه عليها، ثم خرج المغيرة ليؤم الناس للصلاة، فمنعه أبو بكرة وقال له: لا تصل بنا، وكتب إلى عمر بما حدث، ودعا عمر أبا موسى الأشعري إليه أول ما قرأ الكتاب وقال له: «يا أبا موسى إني مستعملك، إني أبعث بك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك.» وأجاب أبو موسى: «يا أمير المؤمنين أعني بعدة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإني وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به.» قال عمر: «فاستعن بمن أحببت.» فاستعان أبو موسى بتسعة وعشرين صحابيا.
وبلغ أبو موسى البصرة ومعه كتاب عمر إلى المغيرة، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس: «أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرا، فسلم ما في يدك، والعجل!» وكتب أمير المؤمنين إلى أهل البصرة: «أما بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن ذمتكم، وليمضي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم، وليتقي لكم طرقكم.»
وارتحل المغيرة ومتهموه حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم، فشهد ثلاثة شهادة كاملة، وشهد الرابع بما يؤيد أقوالهم، ولكنه أجاب بأنه لم يعرف المرأة ولم ير الفعل، فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد، قال المغيرة موجها القول إلى أمير المؤمنين: «اشفني من الأعبد.» يريد بذلك أن يرد إلى البصرة، لكن عمر نظر إليه شزرا وقال: «اسكت! أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك!» وكذلك ظل أبو موسى على ولايته البصرة.
رأى أهل الأهواز هذا التغيير في ولاة البصرة، فخيل إليهم أنه سيجر إلى اضطراب يثير المسلمين بعضهم ببعض ويمكنهم من الثورة بهم، أليسوا قد ألفوا مثل ذلك في بلاط كسرى! ألم يروا صلات أشرافهم وأمرائهم يكتنفها جو من الدسائس يجعل كل أمير يثور بخصومه ما أمكنته الفرصة! لذلك نقضوا عهدهم وأبوا أداء الجزية التي صالحوا المغيرة عليها، وزاد في تشجيعهم على الثورة بالمسلمين أن العلاء بن الحضرمي أمير البحرين اجتاز الخليج الفارسي بالجند في السفن لغزو المنطقة المقابلة له، منطقة فارس، ونزل بجنوده فسار قاصدا إصطخر العاصمة العظيمة بعد ما تغلب على من لقيه من جنود الفرس، لكنه نسي أن يحمي ظهره، فقطع الفرس عليه خط رجعته إلى السفن، وكان العلاء قد اندفع إلى هذه المغامرة من غير أن يستأذن أمير المؤمنين، مع ما يعرفه من كراهية عمر ركوب البحر، وإنما فعل ذلك ؛ لأنه نفس على سعد بن أبي وقاص أن يفتح المدائن، فأراد هو أن ينافسه فيفتح إصطخر فيكون له مثل فخاره، فلما أخفق وأحيط به استغاث، فأمر عمر حامياته بالبصرة والكوفة فأنقذوه وأنقذوا من معه، وعزل عمر العلاء عن البحرين وجزاه عن مغامرته بأن جعله مرءوسا لسعد بن أبي وقاص بالعراق.
شجعت هذه العوامل الفرس على الثورة بالمسلمين، فأبوا أداء الجزية التي كانوا قد ارتضوها، فلم يكن بد من مناجزتهم، حتى لا يغريهم سكوت المسلمين عنهم بالإمعان في الثورة، والتفكير في المقاومة، والاسترسال من ذلك إلى اجتياز التخوم وانتهاك حرمة العراق العربي؛ لذلك جمع أبو موسى قواته ودفعها إلى مدينة الأهواز، ففتحها بعد أن كانت قد فتحت مناذر ونهر تيري.
من هم أمراء الجند الذين تولوا قيادة المسلمين في هذا الغزو؟ ومن الذين واجهوهم من قواد الفرس وقاتلوهم فانهزموا أمامهم؟ وكيف كانت مسيرة الجيوش؟ وماذا كانت خطة القتال؟ تختلف الروايات على إجمال ذلك وتفصيله اختلافا كبيرا، على أنها تنتهي جميعا إلى أن المسلمين اجتازوا تخوم خوزستان، وساروا في أرضها وحصروا الأهواز وفتحوها؛ وأن الفرس طلبوا الصلح بعد فتح الأهواز فأجابهم المسلمون إليه على أن يظل ما فتحوه من أرض خوزستان في حوزتهم وسلطانهم، وأن يقر الفرس في بلادهم ولا يتخطوها.
والروايات على اختلافها تتفق في تأييد المعروف من سياسة عمر وحرصه على أن يقف بالفتح في حدود العراق العربي، كما أنها تقص من التفاصيل ما يكشف عن جانب له قيمته في هذا المعنى، لذلك يجمل بنا أن نلخص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها.
يطيل الطبري الحديث عن فتح مناذر ونهر تيري، وعن موقف الهرمزان من المسلمين، وخلاصة روايته أن الهرمزان فر من القادسية إلى الأهواز، وجعل يغير بأهلها على ميسان ودست ميسان المجاورتين للعراق العربي متجها إليهما من وجهين هما مناذر ونهر تيري، وقد استمد عتبة بن غزوان سعد بن أبي وقاص لقتاله فأمده، فوجه سلمى بن القين وحرملة بن ربطة فنزلا على حدود ميسان ودست ميسان واستمدا غالبا وكليبا، من أبناء عمومتهم من العرب الذين استوطنوا الأهواز، ودفعوهم للقاء الهرمزان، واتحد هؤلاء العرب من أبناء العم، فلقوا الفرس وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأخذوا مناذر ونهر تيري، وبلغوا دجيلا واجتازوه إلى سوق الأهواز، وعرف الهرمزان ما أصاب قومه، فطلب إلى المسلمين الصلح فأجيب إليه على ألا يجلو المسلمين عما فتحوا من أرض خوزستان.
ثم حدث أن اختلف الهرمزان مع غالب وكليب على تخوم ما بينهما من البلاد، ولم ينزل على حكم سلمى وحرملة، بل استعان بالأكراد حتى كثف جنده، ونقض ما بينه وبين المسلمين من عهد، وأحيط عمر علما بما حدث فأمر حرقوص بن زهير السعدي الصحابي على الجند الذي نهد لقتال الهرمزان، فأجلاه عن الأهواز، واضطره أن يفر مشرقا إلى رامهرمز، ثم أمر حرقوص جزء بن معاوية بمطاردته، فلما رأى الهرمزان أن لا قبل له بقتال المسلمين طلب الصلح كرة أخرى، فأذن عمر بإجابته إليه، وكتب إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه، وأذن لجزء عمارة البلاد، فشق الأنهار وعمر الموات.
هذه خلاصة وجيزة لرواية ابن جرير، وقد أخذ ابن الأثير في تاريخه الكامل بهذه الرواية، أما ابن كثير فقد أوجز في تلخيصها، فلم يزد على القول بأن المسلمين نصروا على الهرمزان وفتحوا مناذر والأهواز ونهر تيري، وقتلوا من جيشه جما غفيرا، وسلبوا ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تستر، وابن خلدون أكثر إيجازا، ولعل ما بين رواية ابن جرير ورواية البلاذري من خلاف هو الذي دعاهم إلى هذا الإيجاز.
وخلاصة رواية البلاذري أن المغيرة بن شعبة غزا سوق الأهواز بعد أن هزم البيرواز وصالحه على مال، فلما ولي أبو موسى البصرة مكان المغيرة نكث البيرواز، فغزاه أبو موسى ففتح الأهواز، وأصاب المسلمون من الفرس سبيا كثيرا، لكن عمر كتب إليهم: «إنه لا طاقة لكم بعمارة الأرض، فخلوا ما في أيديكم من السبي، واجعلوا عليهم الخراج.» فردوا السبي ولم يملكوهم، وسار أبو موسى من بعد إلى مناذر فحاصر أهلها فاشتد قتالهم، واستشهد المهاجر بن زياد في حربهم ، فجزوا رأسه ونصبوه بين شرفتين من شرفات قصرهم، وتولى الربيع أخو المهاجر إمارة المقاتلة، ففتح مناذر عنوة بعد أن قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكتب عمر إلى أبي موسى: «إن مناذر كقرية من قرى السواد، فردوا عليهم ما أصبتم.»
أنت ترى أن اختلاف الروايات لا يقتصر على أسماء الذين قاموا بهذه الغزوات وكيف قاموا بها، بل يتجاوز ذلك إلى تعاقبها التاريخي، والخلاف على تعيين بدئها ليس بأقل من الخلاف على أمراء الجند فيها؛ فقد قيل: إنها بدأت في السنة الخامسة عشرة من الهجرة، وقيل: في السنة السادسة عشرة، وقيل: في السنة السابعة عشرة، وقيل: في السنة التاسعة عشرة، وقيل: في السنة المتممة العشرين، وأكبر الظن أنها بدأت في أواخر السنة الخامسة عشرة، وأن ما كان ينقضي بين كل صلح ونقضه جعلها تستطيل على الزمان كل هذه السنوات.
على أن الروايات المختلفة تتفق كلها على أن عمر كان حريصا على سياسته ألا يتخطى الفتح حدود العراق العربي، ولذلك كان يجيز الصلح كلما طلبه الفرس بعد هزيمتهم، وكان يأمر برد السبي إلى حريتهم والاكتفاء منهم بالخراج، ثم يأمر رجاله بتعمير البلاد وشق الأنهار خلالها وإصلاح الموات من أرضها وإقامة العدل بين أهلها، ولو أن الفرس أذعنوا للأمر وارتضوا هذه السياسة وأخلصوا في عهدهم مع المسلمين، لبقي ليزدجرد سلطان فارس ولما امتد الفتح الإسلامي في عهد عمر إلى ما امتد إليه.
لم يكن قتال الفرس والتغلب عليهم ثم الظفر بهم بالأمر اليسير في هذه الأرجاء؛ فقد كانوا يقاومون أشد المقاومة، وكانوا يقفون المسلمين مواقف بالغة غاية الدقة، ويضطرونهم أحيانا إلى الارتداد عن موقع إلى غيره حين يرون هذا الموقع أمنع من أن ينال، ولقد خرج جزء بن معاوية يتعقب الهرمزان في تراجعه إلى رامهرمز، حتى إذا انتهى إلى قرية الشغر أعجزه الهرمزان، فمال إلى قرية لا يطيق أهلها منعها.
عرف يزدجرد مقاومة بني وطنه، فطمع في استرداد ما ضاع من ملكه، فجعل يثير حمية الفرس ويحرك حماستهم بإظهار الألم على ما سلف من هزائمهم وما استولى عليه العرب من بلادهم، قيل: إنه كان بمرو وقتئذ، وقيل: كان بإصطخر، أو بقم، وإنه كتب إلى أهل فارس يذكرهم الأحقاد ويؤلبهم «أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد وما والاه والأهواز، ثم لم يرضوا بذلك حتى توردوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحركوا أهل فارس تنتصروا.» وتكاتب أهل فارس وأهل الأهواز وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة.
بلغت هذه الأنباء حرقوص بن زهير وأمراء المسلمين، فأبلغوها عمر، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل، وسمى جماعة من أبطال المسلمين يسيرون معه لينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره، وكتب إلى أبي موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا عليهم سهيل بن عدي، وسمى طائفة من الأبطال يسيرون على رأس الجند معه.
أفكان ذلك عدولا من عمر عن سياسته أن يلزم المسلمون العراق العربي، فهو يريد بهذه البعوث أن يوغل في أرض فارس؟ أم كان تأديبا للفرس، فإذا أذلتهم الهزيمة لم يعودوا إلى الغدر؟ الواقع أن عمر كان مترددا بين هذا وذاك، ثم كان أشد ميلا إلى الاستمساك بسياسته منه إلى الاستيلاء على أرض فارس، قدم عليه وفد من جند البصرة فيهم الأحنف بن قيس، فتحدث إليهم ثم وجه الكلام إلى الأحنف يقول له: «إنك عندي مصدق، وقد رأيتك رجلا! فأخبرني: أأن ظلمت الذمة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟» وأجابه الأحنف، «لا! بل لغير مظلمة والناس على ما تحب.» قال عمر: «فنعم إذن، انصرفوا إلى رحالكم!» فلما بلغته أنباء يزدجرد وتحريضه أهل فارس على المسلمين أراد أن يلقي على هؤلاء الغدرة العجزة درسا لا ينسونه، فبعث إليهم النعمان بن مقرن وسهيل بن عدي.
سار النعمان مجتازا أرض الأهواز ليلقى الهرمزان برامهرمز؛ وسمع الهرمزان بمسيره فنهد يلقاه بأربك،
2
في جيش عظيم من أهل فارس، وبادره الشدة وهو يرجو أن يقتطعه، واشتد القتال بين الفريقين، فلما رأى الهرمزان بأس المسلمين تراجع من أربك إلى رامهرمز، فإلى تستر مطمئنا إلى أنه يستطيع أن يتحصن بأسوارها وبروجها، وتقدم النعمان إلى رامهرمز فاستولى عليها.
وكان سهيل بن عدي قد سار من البصرة يريد لقاء الهرمزان، فلما بلغته أنباء النعمان واستيلاؤه على رامهرمز وانحياز الهرمزان إلى تستر، مال من سوق الأهواز، فجعل وجهته إلى هذه المدينة الحصينة، وبلغها، فألفى النعمان بن مقرن سبقه إليها ووقف بجنده أمام حصونها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء فنزلوا جميعا على أسوارها، وحاصرت كل هذه القوات تلك المدينة المنيعة، وقد تحصن الهرمزان وجنوده من أهل فارس ومن أهل الأهواز بخنادقها، ووقفوا قبالة عدوهم مطمئنين إلى منعة حصونها منعة تحول دون اقتحامها وترد كل عاد إليها.
ولم يخطئ الهرمزان في تقديره؛ فقد حاول المسلمون اقتحام أسوار المدينة فردوا عنها، وزاحفهم الفرس غير مرة، فارتدوا على أعقابهم أحيانا، وردوا المسلمين عن مواقفهم أحيانا أخرى، وطال الحرب سجالا بين الفريقين، وأيقن المسلمون بأس عدوهم بعد أن اجتمع إلى الهرمزان داخل أسوار المدينة جند عظيم جاء لنصرته من شتى الأرجاء ملبيا نداء كسرى، لا قبل للمسلمين إذن باقتحام المدينة إلا أن يجيئهم مدد يزيدهم قوة، وكان أبو سبرة على جند الكوفة وجند البصرة جميعا، فكتب إلى عمر يصف له منعة تستر وقوة الفرس المتحصنين بها ويستمده، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يسير في جند البصرة جميعا مددا لأبي سبرة، وأن يضع نفسه وقواته تحت إمرته، وسار أبو موسى بجنده يمد أبطالا شهدوا المواقع وأبلوا فيها بلاء كفل انتصارهم بها جميعا.
واستمر الحصار واشتد القتال، وكان الفرس يخرجون من أسوار المدينة يزاحفون المسلمين ثم يرتدون إلى الحصون بعد أن يصاب من الفريقين عدد كبير، وكتب أبو موسى إلى عمر يصف له ما يلقونه، فكتب الخليفة إلى عمار بن ياسر، وكان على الكوفة، أن يسير مددا إلى أبي سبرة، وأن يقيم عبد الله بن مسعود على إمارة الكوفة مكانه.
ورأى المسلمون حين أدركهم عمار وجنوده أن لا مقام لهم حول الأسوار، فلا بد أن يقتحموا المدينة بعد أن طال حصارهم لها شهورا، ورأى الهرمزان من أعلى الحصون تجهز المسلمين للقتال فأمر جنده بالخروج إليهم والشدة عليهم، وكله اليقين أنه ظافر بهم فردوهم على أعقابهم، وخرج هو بنفسه، حتى إذا كان على أبواب المدينة يقاتل المسلمين ويقتل منهم، لقيه البراء بن مالك وعرفه فاندفع إليه يريد قتله، ولم تخدع البراء نفسه؛ فقد كان البطل المجرب والفارس المعلم، عرف له المسلمون مواقفه في حروب الردة وفي حروب العراق والشام جميعا، وشهدوا له بأنه لا يغلب، ولقد أردى أمام تستر مائة مبارز خرجوا إليه ينازعونه الشجاعة والبأس، لكن الهرمزان لم يكن دونه قوة وبأسا؛ لذلك انفلت من ضربة سددها إليه خصمه، ورمى البراء بضربة أصمته قتيلا، وخرج مجزأة بن ثور يأخذ بثأر البراء فلم يكن أحسن منه حظا، فاستشهد كما استشهد غيره من خيرة أبطال المسلمين وشجعانهم.
لكن المسلمين كانوا يعلمون أن تستر عاصمة خوزستان وأكثر بلادها منعة، وأنها إن تغنم تخضد شوكة الفرس وتضعضع عزمتهم؛ لذلك لم يفل من عزمهم مقتل الصناديد من إخوانهم، بل زادهم استشهاد هؤلاء حبا للقتال وإقداما عليه وبلاء فيه وإقبالا على الموت ابتغاء الظفر، ومالت الشمس آخر النهار وقد تولى الفرس الإعياء، فلم يكن لهم بد من التراجع إلى المدينة والتحصن بقلاعها وأسوارها، وأصبح الصباح فلم يخرج منهم للقتال أحد، ذلك بأنهم رأوا المسلمين استحبوا الموت على الحياة، وأقسموا لا يبرحون تستر أو يفنوا عن آخرهم.
وضاقت المدينة بالفرس وطالت حربهم، فخرج أحد بنيها على غفلة منهم واستأمن أبا موسى فأمنه على أن يدله على مأتى للمدينة يكون منه فتحها، وفرض أبو موسى للرجل ولأهله رزقا إذا أظفر الله المسلمين بعدوهم، ودلهم الرجل على مدخل الماء للمدينة، فوجه أبو موسى معه أشرس بن عوف الشيباني، فخاض الرجل به دجيلا ودخل معه المدينة من سرب يجري إلى جانب مدخل الماء،
3
ثم ألبسه لباس الخدم وسار به في طرقات تستر، وأظهره على عوراتها، وأراه الهرمزان، ثم رده إلى أبي موسى، فشهد عنده بصدق ما قاله هذا الفارسى، وندب أبو موسى أربعين رجلا مع أشرس وأتبعهم مائتين، وسار الجميع في أعجاز الليل، فدخلوا المدينة وقتلوا الحرس وعلوا الأسوار وكبروا، وراع الهرمزان ما فاجأه من أصواتهم، ففر إلى قلعته وهو يقول لمن حوله: «ما دل العرب على عورتنا إلا بعض من معنا ممن رأى إقبال أمرهم وإدبار أمرنا.» واختلط حابل الفرس بنابلهم حين رأوا أميرهم يفر من بينهم، ورأوا أبواب المدينة يفتحها العرب ويدخلونها عليهم، وبلغ من اختلاطهم واضطراب أمرهم أن كان الرجل منهم يقتل أهله وولده ويلقيهم في دجيل خوفا من الغزاة، ألم يكونوا قد سمعوا أن مدينتهم أعز من أن تنال، وأن أميرهم أعظم شوكة وأشد بأسا من كل محارب! وهذا الأمير يفر والمدينة تفتح أبوابها والعرب يقتحمونها! فأي خير بعد هذا في عيش ذلة وضعة وانكسار! ومتى يستحب الموت على الحياة إن لم يكن في مثل هذا المقام!
تحصن الهرمزان بقلعته، فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فأطل عليهم وقال لهم: «إن في جعبتي مائة نشابة، ووالله ما تصلون إلي ما دام معي منها نشابة، وما يخيب لي سهم! فما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح!» وإنما وجه إليهم هذا القول وهو موقن أنه لا محالة مقتول إذا أسر في قتال، وأن لا أمل له في حياة إلا على صلح، وقال له القوم: ماذا تريد؟ فأجابهم: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، وأجابه القوم إلى ما طلب، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا وساروا به إلى أبي موسى وذكروا ما كان بينهم وبينه، فحمل الهرمزان مع أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر فكان بين الرجلين حديث طويل نقصه في ختام هذا الفصل.
كان تسليم الهرمزان نفسه إيذانا بإذعان تستر؛ لذلك كف من بقي من أهلها عن المقاومة وألقوا بأيديهم، فتسلم المسلمون المدينة، واستولوا على ما فيها من الأموال، فاستأثروا لأنفسهم بأربعة أخماسه، وجعلوا الخمس لأمير المؤمنين، وقد بلغ نفل الفارس يومئذ ثلاثة آلاف، ونفل الراجل ألف درهم.
يجمل بنا، قبل أن نتابع جيوش المسلمين في مسيرتها لفتح ما بقي من أرض خوزستان، أن نقف هنيهة نلتمس ما ينطوي عليه فتح تستر من عبرة، فتستر عاصمة خوزستان كما رأيت، وكانت من أشد مدن الفرس منعة وأقواها حصونا، وكان يزدجرد قد وعد الهرمزان أن يطلق يده بالسلطان في خوزستان وفي منطقة فارس الواقعة في جنوبها، فكان ذلك من أقوى الحوافز دفعا له إلى الاستماتة في المقاومة والوقوف في وجه المسلمين أشهرا، فكيف تسول لرجل من أهل تستر بعد ذلك نفسه أن يدل العرب على مدخلها ويكشف لهم عن عورتها؟ بل إن بعض الروايات لتجري بأن جماعة من أمراء الفرس انضموا برجالهم إلى المسلمين المحاصرين تستر وعاونوهم في قتال بني وطنهم منحدرين بذلك إلى هاوية سحيقة من الانحلال النفسي، ثم ما للهرمزان يرضى، بعد أن أبلى ما أبلى في الدفاع عن المدينة الحصينة، أن يسلم آخر الأمر نفسه، وأن ينزل على حكم خليفة المسلمين في حياته وفي موته؟
لا أراني في حاجة إلى أن أكرر هنا ما ذكرته تعليقا على القادسية من ضعف الشعور القومي في النفس الفارسية لذلك العهد ضعفا جعل حب الذات والحرص على الحياة أقوى سلطانا على هذه النفس من كل اعتبار معنوي، وما أدى ذلك إليه من اضطراب البلاط واقتتال الأمراء على السلطان، وإنما أريد أن أرتب على هذه الحال المعنوية الآثار التي انتهت إلى هزيمة تستر وما تلاها من الهزائم.
فحيثما أدى انحلال الروابط الاجتماعية في أمة من الأمم إلى انحلال روحها المعنوي، ضعفت مناعة هذه الأمة فقصرت عن أن تمد ببصرها إلى المستقبل، وأن تقدر لما يصيبها فيه، فالروابط الاجتماعية ملاك الحياة المعنوية وقوامها في الأمة، ومكان القوة المعنوية من الأمة مكان غريزة الاحتفاظ بالحياة في الفرد، وكما تدعونا هذه الغريزة للاحتفاظ بكل عضو من أعضائنا سليما ما استطعنا الاحتفاظ به والدفاع عنه، فإذا أوجب الاحتفاظ بحياتنا بتر عضو من الأعضاء لم نتردد في بتره بدافع من هذه الغريزة نفسها، كذلك تدعو القوة المعنوية القائمة من الجماعة مقام تلك الغريزة من الفرد لأن تدافع الجماعة عن كل فرد من بينها إلى غاية ما تستطيع الدفاع عنه، فإذا لم يكن بد من التضحية بطائفة من الأفراد محافظة على كيان المجموع لم تتردد الجماعة في التضحية بهم، واستحب هؤلاء الأفراد هذه التضحية دفاعا عن الكيان القومي الذي أعزهم، والكفيل وحده بأن يعز أبناءهم وحفدتهم.
وكما يحدث أن تنحل حيوية الجسم، فإذا كل عضو من أعضائه يؤدي وظيفته لحسابه لا لحساب مجموع الجسم فتضعف بذلك غريزة الاحتفاظ بالحياة ضعفا ينتهي إلى الموت، كذلك يحدث أن تضعف القوة المعنوية في الأمة بانحلال الروابط الاجتماعية بين أبنائها واقتصار كل منهم على التفكير في نفسه ولنفسه، غير معتد بما بينه وبين سائر أفراد الأمة من تضامن هو الحفيظ لكيان الجماعة، عند ذلك تضعف الأمة بعد قوة، وتذل بعد عز، وتنحل معنوياتها انحلالا هو النذير بانقراضها بوصفها جماعة لها كيانها.
الأمة التي تبلغ الروح المعنوية فيها أوج قوتها لا تعرف اليأس ولا الاستسلام وتؤثر الموت على حياة ضعف ومذلة ومثل هذه الأمة لا يمكن أن تذل أو تضعف، ولا يمكن أن تفنى؛ لأن حيويتها المعنوية تتغلب على كل ضعف وتحول دون كل انحلال ... أفرادها فيما بينهم كتلة واحدة متضامنة على الزمان كتضامنها في المكان، فإذا فقدت الأمة طائفة منهم قامت طائفة غيرها مكانها وأدت عملها، حتى تسترد بالتعويض الطبيعي ما فقدت، فتعود أكثر مناعة وأشد بأسا مما كانت، وهذه الأمة لا يمكن أن يقوم من أبنائها من يدل عدوها على عورتها حرصا على أمنه في الحياة أو على حياته نفسها، فإذا أحيط برجل من رجالاتها ما أحيط بالهرمزان آثر الموت مجاهدا ليكون جهاده ويكون موته مثلا عاليا لمعاصريه، ودرسا ساميا لمن يجيء بعده، وإذا قضى القدر أن تغلب هذه الأمة يوما فلتعود في غدها فتسترد قوتها وتثأر لنفسها، وتحيا بذلك مع سائر الأمم حياة عزة وبأس وسلطان.
أما وقد انحلت الروابط الاجتماعية في الأمة الفارسية لأسباب أشرنا إليها في غير موضع من هذا الكتاب فأدى هذا الانحلال إلى تداعي قوتها المعنوية، فقد كان طبيعيا أن يغلبها الروم وأن يغلبها العرب؛ إذ كان أبناؤها لا يلبثون حين يرون الدائرة تدور عليهم أن يدلوا عدوها على عورتها، وأن يكونوا إلبا عليها معه ليجتنوا لأنفسهم أمن الحياة وإن جنوا بأنفسهم على أمن الوطن، وقد رأيت على ذلك أكثر من مثل: رأيت اضطراب البلاط ودسائسه، ورأيت فرار القواد والجنود، ثم رأيت فرار يزدجرد نفسه من المدائن وحلوان، فلا عجب وذلك شأن الحياة المعنوية في أمة أن يغدر بها من أبنائها من ينسى أنه ابنها وأن فضلها عليه عظيم، ثم لا عجب أن يلتمس كل واحد الحياة لنفسه، والمجد لنفسه، والجاه لنفسه، ما دامت الروابط القوية قد عراها التفكك والانحلال.
تقع تستر على نهر كارون شمال الأهواز، على نحو خمسين فرسخا منها، وتقع سوس على بضعة فراسخ إلى الغرب من تستر؛ لذلك كانت المناوشات مستمرة بين أهل سوس والمسلمين في أثناء حصارهم تستر، فلما فرغوا منها كان طبيعيا أن يتجهوا إلى سوس ويحاصروها ويقاتلوا أهلها، وقد فعلوا، ولقي المسلمون جهدا في قتالهم الذي طال حتى نفد ما في المدينة من طعام، ولم يجد أهلها مفزعا من الموت إلا إلى الصلح، فسألوا دهقانها أن يفاوض المسلمين فيه، وطلب الدهقان إلى أبي موسى أن يؤمنه على حياة مائة من أهله ففعل، وسمى الدهقان المائة ونسي نفسه فأمر به أبو موسى أن يقتل، فنادى: «رويدك! أعطك مالا كثيرا.» وأبى أبو موسى وضرب عنقه، ولو أنه ذكر حكم أبي بكر، يوم عفا عن الأشعث بن قيس حين نسي نفسه في مثل هذا الموقف، لما قتل رجلا أسلمه مفاتح مدينته.
أورد الطبري في الروايات التي جرت عن فتح السوس أن سياه الأسواري كان قد خرج من أصبهان بأمر يزدجرد لقتال المسلمين، فلما رآهم غلبوا على تستر بعد أن احتلوا بلاد الأهواز، دعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه وذكر لهم فعال المسلمين وأنهم لا يلقون جندا إلا فلوه، ولا ينزلون حصنا إلى فتحوه؛ فانظروا لأنفسكم، وأنه اتفق معهم فبعث إلى أبى موسى يقول: «إنا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم ولا نقاتل معك العرب وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك.» وأجابهم أبو موسى: بل لنا ما لكم وعلينا ما عليكم، فلم يرضوا، وكتب أبو موسى إلى عمر بما حدث، فأجابه: «أعطهم ما سألوك.» فأسلموا، وفرض لهم أبو موسى، وجعل لمائة منهم ألفين ألفين، ولستة هم زعماؤهم ألفين وخمسمائة.
وكتب أبو موسى إلى عمر يذكر له أن بالسوس قبر النبي «دانيال» وأن جسده مكشوف يستسقي به الناس، فأمره عمر أن يكفنه وأن يدفنه، ولا يزال قبر دانيال حتى اليوم بهذه المدينة موضع الإجلال والاحترام، وقد أقيم حوله في القرن التاسع عشر المسيحي معبد يزار ويتبرك به.
فرغ المسلمون من السوس فخرجوا إلى جندي سابور الواقعة على مقربة منها إلى الشمال الشرقي، فأقاموا على حصارها زمنا، ثم إذا أبوابها تفتح لهم فجأة، كأن الصلح بينهم وبين أهلها قد تم، وبعث المسلمون يسألونهم في ذلك مخافة أن تكون مكيدة، فذكروا أنهم قبلوا الأمان الذي بعثه المسلمون إليهم، وأقروا لهم بالجزية على أن يمنعوهم، وعجب المسلمون، ثم تبينوا أن عبدا من عبيدهم هو الذي كتب لأهل المدينة بالأمان، وكتبوا إلى عمر بما حدث، فأمر بإجازة الصلح والوفاء به.
كانت أنباء هذه الفتوح تبلغ عمر في مواقيتها، فلا يسعه كلما بلغه نبأ منها إلا أن يسجد شكرا لله على توفيقه المسلمين وتسديد خطاهم، وكان يزيده شكرا ما يعرفه من أمر هذه المدن التي تفتح، وما يذكره له الرسل من صفة ما لم يره منها، فالأهواز، أو هرمزشير على لغة الفرس كانت مدينة عظيمة تضم سبع كور على طراز المدائن، وكانت آهلة بالتجارة والسكان، وكان الفرس يعظمونها في مختلف الأرجاء من مملكتهم، وتستر عاصمة خوزستان ذات الصيت الذائع في عالم يومئذ، ومعقل الفرس الأمنع في الجنوب الغربي من سهل إيران، والسوس، وهي شوشان القديمة التي ظلت عاصمة ميديا زمنا طويلا، كانت فتنة الناس جميعا بجمالها وروعتها. وخوزستان كلها، المملكة الفسيحة الأرجاء، الممتدة ما بين العراق العربي والعراق العجمي، كانت درة من أغلى الدرر في تاج الأكاسرة، لقد نصر الله المسلمين وأعزهم في كل مواقفهم بهذه البلاد، أفيتابع عمر الفتح فيأمر باقتحام فارس إلى أقصى الشرق، أم يقف من هذه الفتوح عند ما استولى عليه، ويدع الفرس فيما وراء ذلك لا يزعجهم ولا يحرك الثارات في نفوسهم، فيدفعهم إلى مقاومة جيوشه مقاومة لا يعلم إلا الله ما تكون نتائجها؟
بينا يفكر عمر في هذا الأمر، ويستخير الله فيما يصنع، كان أنس بن مالك والأحنف بن قيس يسيران من تستر في رجالهما يحملون خمس الفيء والهرمزان معه إلى أمير المؤمنين، فلما اقتربوا من المدينة ألبسوا الهرمزان لباسه من الديباج الموشى بالذهب ووضعوا على رأسه تاجه «الآزين» المرصع بالدر والجوهر، وأمسك بيده صولجانا من الذهب الخالص المكلل بالياقوت واللآلئ، ليرى عمر وأهل العاصمة الإسلامية صورة البهرج العظيم الذي يتزين أمراء الفرس به، وبلغوا المدينة وقصدوا دار عمر، فعلموا أنه ذهب إلى المسجد يلقى وفدا من أهل الكوفة، فانطلقوا يطلبونه هناك فلم يروه وبصر بهم غلمان من أبناء المدينة عرفوا ما يريدون، فذكروا لهم أن أمير المؤمنين نائم في ميمنة المسجد متوسد برنسه، وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس له، فلما خرجوا عنه نزع برنسه ثم توسده فنام، وعاد الأحنف وأنس والهرمزان واتبعهم الغلمان والنظارة الذين أخذوا بمنظر الأمير الفارسي في حلة إمارته فساروا في أثره يملئون أنظارهم منه، حتى دخلوا المسجد وأجالوا نظرهم في أرجائه، ورأوا عمر وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، فجلسوا سكوتا مخافة إزعاجه، ولم يفطن الهرمزان إلى قصد القوم من هذه الحركات المتعاقبة ذهابا وجيئة؛ لأنه لم يفهم شيئا مما يقولون، فلما رآهم اطمأنوا بالمسجد وليس فيه إلا ذلك الرجل النائم في يده درة معلقة خيل إليه أنهم سيصلون قبل أن يلقوا مليكهم، فلم يدر بخاطره إلا أن يكون عمر الساعة في إيوانه دونه حجابه، فهذا الملك القادر الذي قهرت جيوشه فارس والروم لا بد أن يكون له إيوان على بابه حجاب، ومهما يكن من حديث الناس عن بساطة عيشه، فلن تبلغ البساطة منه أن يستغني هذا الملك الواسع عن دواوين ترعى نظامه، ولا بد لأمير المؤمنين من إيوان وحجاب ينتظم بهم وقته وعمله! ورأى الأحنف بن قيس يشير إلى كل هامس أن يمسك فلا يزعج الخليفة عن نومه، فسأل بعض ممن يعرفون لغته: فأين عمر؟ قالوا وأشاروا إلى النائم: هو ذا، وأخذ الأمير الفارسي بما رأى مما لم يكن يجري له بخاطر، فوجم هنيهة ثم سأل: وأين حرسه وأين حجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب ولا إيوان، وزاد عجب الهرمزان فقال لمن حوله أو قال في نفسه: «ينبغي أن يكون هذا الرجل نبيا فإلا يكن فإنه يعمل عمل الأنبياء!»
وأيقظ الهمس عمر فاستوى جالسا، فرأى الأمير على مقربة منه عليه حلته وفي يده صولجانه يشع منهما لألاء الجوهر فقال: الهرمزان! قال القوم: نعم، فتأمله وتأمل ما عليه وقال: «أعوذ بالله من النار وأستعين الله! الحمد لله الذي أذل للإسلام هذا وأشياعه! يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة!» قال الوفد الذين جاءوا من تستر: «هذا ملك الأهواز فكلمه.» وأجاب عمر: «لا! حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.» وكيف يكلم أمير المؤمنين رجلا قتل من أبطال المسلمين وشجعانهم من قتل وهو في حلة الملك وزيه، وقد ينتهي أمره إلى التنكيل به وقتله!
ونزع القوم كل ما على الهرمزان إلا ما يستره، وألبسوه ثوبا صفيقا، فلما رآه عمر على هذه الحال قال له: «هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟!» وأجاب الهرمزان: «يا عمر! كنا وإياكم في الجاهلية وقد خلى الله بيننا وبينكم فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلما كان معكم غلبتمونا.» قال عمر : «إنما غلبتمونا بالجاهلية باجتماعكم وتفرقنا، والآن فما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟» ورأى الهرمزان الغضب في عين عمر وهو يلقي عليه هذا السؤال فقال: «أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك!» قال عمر: «لا تخف ذلك!» واستسقى الهرمزان ماء فأتي به في قدح غليظ فقال: «لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا؟» فأتي به في إناء يرضاه، فلما أخذه جعلت يده ترتجف وقال: «إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء.» قال عمر: «لا بأس عليك حتى تشربه.» فأكفأ الهرمزان الإناء وأراق ما فيه من ماء، فقال عمر: «أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.» قال الهرمزان: «لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به.»
عند ذلك جرى بين الرجلين حوار تدخل فيه الأحنف بن قيس وأنس بن مالك، وكان فيه من جانب عمر عنف وشدة، وقد أورد الطبري وابن كثير هذا الحوار كما يلي:
عمر :
إني قاتلك؟
الهرمزان :
قد آمنتني!
عمر :
كذبت؟
أنس بن مالك :
صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته!
عمر :
ويحك يا أنس؟ أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء؟ والله لتأتيني بمخرج أو لأعاقبنك!
أنس :
قلت له: لا بأس حتى تخبرني، وقلت له: لا بأس حتى تشربه.
وأقر الأحنف بن قيس ومن حوله كلام أنس، وذكروا جميعا أن أمير المؤمنين أمن الهرمزان، فنظر إليه عمر مغضبا وقال: «خدعتني! والله لا أنخدع إلا لمسلم!» وأسلم الهرمزان، وفرض له عمر ألفين، وأنزله المدينة.
ويروي البلاذري عن أنس بن مالك حديثا مسندا إلى مروان بن معاوية عن حميد عن أنس أنه قال: «حاصرنا تستر فنزل الهرمزان فكنت الذي أتيت به إلى عمر، بعث بي أبو موسى، فقال له عمر: تكلم، فقال: أكلام حي أم كلام ميت، فقال: تكلم لا بأس، فقال الهرمزان: كنا معشر العجم ما خلى الله بيننا وبينكم نقضيكم ونقتلكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: ما تقول يا أنس؟ قلت: تركت خلفي شوكة شديدة وعدوا كلبا؛ فإن قتلته يئس القوم من الحياة فكان أشد لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم في الحياة، قال عمر: يا أنس، سبحان الله؟ قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور السدوسي؟ قلت: فليس لك إلى قتله سبيل، قال: ولم؟ أعطاك؟ أصبت منه؟ قلت: لا! ولكنك قلت له: لا بأس، فقال: متى؟ لتجيئن معك بمن شهد وإلا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده فإذا الزبير بن العوام قد حفظ الذي حفظت فشهد لي فخلى سبيل الهرمزان فأسلم ففرض له عمر.»
كان المغيرة بن شعبة يتولى ترجمة كلام الهرمزان إلى عمر وكلام عمر إلى الهرمزان، وكان لا يحذق الفارسية ما يحذقها زيد بن ثابت، فدعا عمر بزيد فجاء فتولى الترجمة، فلم يجد عمر في كلام الهرمزان جوابا على نقضه عهد المسلمين مرة بعد مرة، عند ذلك وجه عمر القول إلى الوفد الذين جاءوا من تستر فسألهم: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى فلهذا ينتقضون بكم، قال رجال الوفد: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة، قال عمر: فما بالهم ينتقضون؟ وتتابع رجال الوفد يحاول كل منهم أن يجد لهذا الانتقاض علة مع وفاء المسلمين لهم، فلم يجد عمر في كلام أحد منهم شيئا يشفيه ويبصره، عند ذلك قال الأحنف بن قيس «يا أمير المؤمنين أخبرك، إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وملكهم هو الذي يحرضهم ويبعثهم ولم يزل هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم ونخرجه من مملكته وعز أمته، هنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويسكن جأشهم.»
استمع عمر إلى الأحنف مليا، وأطرق إطراقة طويلة، ثم قال له: «صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.» وعرف الهرمزان حديث الأحنف فأقره، فازداد عمر ثقة به واطمئنانا له، ثم إن الأنباء جاءت باجتماع أهل نهاوند لقتال المسلمين، فلم يبق لدى أمير المؤمنين في صدق هذا الحديث ريب، فخرج من تردده، ورأى أن الوقوف بالفتح في حدود العراق لم يعد مستطاعا، وأن الحوادث تحمله طائعا أو كارها على العدول عن هذه السياسة، وتدفعه للتوسع في بلاد الفرس حتى يجلي يزدجرد عن أرضها جميعا؛ لذلك أذن أن ينساح المسلمون في بلاد فارس وعبأ الألوية لقتال أهلها.
وأقام الهرمزان بالمدينة وحسن إسلامه، وصار لا يفارق عمر ولا يضن عليه بالمشورة، فلما قتل عمر اتهم الهرمزان بالممالأة عليه وتدبير المؤامرة لاغتياله، وقد اقتنع عبيد الله بن عمر بذلك، فقتله وقتل جفينة معه، وسنفصل ذلك من بعد ونتحدث عن آثاره.
والآن، فلنعد إلى فارس لنرى ما حدث بها، وكيف اجتمع أهل نهاوند لمقاومة المسلمين فيها، ولننظر كيف نظم عمر سياسته الجديدة، وسياسة التوسع في الفتح فاستولى على فارس كلها، وعلى مصر كلها.
هوامش
الفصل السادس عشر
غزوة نهاوند
سمع عمر إلى الأحنف بن قيس ثم قال له: «صدقتني والله وشرحت لي الأمر عن حقه.» فلما جاءته أنباء نهاوند لم يبق للتردد في نفسه موضع.
وكان طبيعيا أن تزيل هذه الأنباء كل أثر للتردد من نفسه؛ فإن أمراء الفرس في شتى الولايات لم يلبثوا، حين عرفوا ما أصاب الهرمزان وجنوده، أن ألقي في روعهم أنه مصيبهم ما أصابه إذا ظلوا فيما هم فيه من تخاذل وانحلال، فتكاتبوا وأرسل بعضهم إلى بعض الرسل أن يجتمعوا كلمة واحدة لدفع هؤلاء الغزاة الذين كانوا، إلى سنوات قلائل، يدينون ببأس فارس وسلطانها، ولا يستطيع أحدهم أن يرفع رأسه من هيبتها، فأصبحوا اليوم يغزونها في عقر دارها، ويمدون سلطانهم على ولايات واسعة منها، ثم لا يفتئون يتقدمون فيها، وكأن ليس لأحد على وجه الأرض ببأسهم قبل.
وكان أول ما اتفق هؤلاء الأمراء عليه أن كتبوا إلى يزدجرد ليكون على رأس حركتهم، حتى يجتمع الناس حولها وينضموا إلى لوائها؛ فهو كسرى عنوان فارس ووارث مجدها وصاحب نظامها، يدين له الناس بالطاعة في شتى أرجائها، ولا يختلف عن أمره كبير ولا صغير من أبنائها، وكان يزدجرد قد اضطرب في أرجاء فارس بين مختلف العواصم منذ فر من المدائن، فكانت الحوادث تدفعه من حلوان إلى الري إلى أصبهان إلى إصطخر إلى مرو، ثم تزيده أنباء المسلمين على السنين اضطرابا، فلما جاءته كتب الأمراء ورأى ما فيها من اجتماع كلمتهم وشدة حماستهم لدفع عدوه وعدوهم، عاودته من شبابه نفحة بدلت بأسه أملا واضطرابه طمأنينة، فكتب إلى أهل إيران كلها، سهلها وجبلها، يحثهم ويحرك حماستهم، كتب إلى الباب وإلى خراسان وحلوان وسجستان وطبرستان وجرجان ودماوند والري وأصفهان وهمذان وسائر الولايات والبلاد في مملكته، يشجع أهل فارس ويذكر لهم أن غزو العرب ليس إلا عاصفة ثائرة لا تلبث أن تمر، وسحابة عارضة لا تلبث أن تنقشع، وأن الأمر في انقشاع السحابة ومرور العاصفة إلى تكاتفهم وتضامنهم وثباتهم في وجه عدوهم، فإذا ثبتوا طردوه من ديارهم وردوه على أعقابه خائب الظن كاسف البال يتحدث بفعالهم.
انتشرت أنباء خوزستان والهرمزان في فارس كلها، فانزعج الناس كبارا وصغارا لها، فلما جاءهم كتاب كسرى أسرعوا إلى تلبية ندائه، فبعث كل أمير من جنده إلى نهاوند حتى بلغ عددهم مائة وخمسين ألفا اجتمعوا بإمرة الفيرزان، فلما اجتمعوا عنده وجلس إليه أمراء هذا الجند المقبل من شتى الأرجاء قال لهم: «إن محمدا الذي جاء العرب بهذا الدين لم يتعرض لبلادنا، وقام أبو بكر من بعده فلم يتعرض لنا في دار ملكنا، ولم يثر بنا إلا فيما يلي بلاد العرب من السواد، وهذا عمر بن الخطاب لما طال ملكه انتهك حرمتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى غزانا في عقر دارنا فأخذ بيت المملكة وانتقصكم السواد والأهواز، وهو آتيكم إن لم تأتوه، وليس بمنته حتى تخرجوا من في بلادكم من جنده وتقلعوا هذين المصرين، البصرة والكوفة، ثم تشغلوه في بلاده وقراره.»
نقل الأمراء هذا الحديث إلى الجند فاشتعلت حماستهم، فأقاموا ينتظرون اليوم الذي يواجهون فيه عدوهم ويقسم كل منهم أن لن يرجع إلى موطنه حتى يتم النصر لكسرى وجنوده ، وبلغت هذه الأنباء عمر بن الخطاب نبأ إثر نبأ، فأيقن أن الأحنف بن قيس صدقه الرأي، ولم يبق لديه ريب في أنه إن لم يوجه للفرس الضربة القاضية القاصمة فلن يزالوا يناوئونه، وقد يبسم لهم الحظ يوما فإذا خيولهم تغير على العراق العربي من جديد، وإذا هذه الدولة العربية التي اطمأن عمر إلى قيامها تتعرض للاضطراب، بل للضياع.
وزاد في شغل عمر بأمر العراق ومصيره ما أبدى بعض العرب الذين استقروا به من ميل إلى الخصومة والشغب، أغراهم به ما استراحوا إليه من رخاء جعلهم يتنافسون وينفس بعضهم على بعض، ثم لم يصرفهم عنه تهيؤ الفرس لحربهم وإعدادهم لقتالهم، فبينما يرسل سعد بن أبي وقاس أنباء يزدجرد والفيرزان والجند الذين اجتمعوا بنهاوند إلى أمير المؤمنين إذا جماعة من أهل الكوفة، على رأسهم الجراح بن سنان الأسدي يؤلبون على سعد ويثورون به ويشكونه إلى عمر في كل شيء حتى يقولوا: إنه لا يحسن الصلاة، ولقيهم عمر بالمدينة وسمع شكاتهم، ثم قال لهم: «إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في الأمر وقد استعد لقتالكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم!» وكان عمر قد أقام محمد بن مسلمة على تحقيق ما ينسب من الشكايات إلى عماله، فأوفده إلى الكوفة، فجعل يسأل الناس عما نسب إلى سعد، فيقولون: لا نعلم إلا خيرا ولا نشتهي به بدلا؛ لم يخالف عن ذلك إلا الذين اتهموه، وعاد ابن مسلمة إلى المدينة ومعه سعد والجراح بن سنان وأصحابه، فاستمع إليهم عمر فلم يجد ما يؤاخذ به سعدا، لكنه آثر مع ذلك ألا يدعه في هذا الموقف الدقيق على عمله، وبالكوفة من يثيرون الناس به، فسأله من استخلفت على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وكان ابن عتبان شيخا كبيرا من أشراف الصحابة، فأقر عمر نيابته على الكوفة واستبقى سعدا بالمدينة معزولا من غير عجز ولا خيانة، ولولا ما كان سعد قد أبلغه إلى عمر عن اجتماع الفرس بنهاوند وما كان قد شافهه به، بعد قدومه المدينة، من تهيئتهم للقتال وتعاهدهم عليه، لرده إلى عمله ولما سمع فيه لشكايات لم يثبت شيء منها عنده.
وأرسل ابن عتبان إلى عمر من أنباء الفرس ما أيد أقوال سعد عن تأهبهم، وما زاد الخليفة إشفاقا من تدبيرهم، وتواترت الأنباء بعد ذلك مروعة تهز القلوب رعبا، فهذه قوات فارس التي اجتمعت بإمرة الفيرزان قد سارت إلى همذان، وهي الآن قد تابعت مسيرتها تقصد حلوان، بل ها هي ذي في طريقها إلى الكوفة وعما قريب تبلغها، ترى ماذا يصنع أمير المؤمنين؟! لقد أدرك بفراسته ما في هذه الأنباء من مبالغة يصورها الفزع؛ إذ يدفع إلى النفوس من خوف الخطر ومن توقعه ما يجعلها تتوهم الأشياء وتجسمها إلى أضعاف الواقع من حقيقتها، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن الفرس قد جمعوا وأعدوا، وأنه إلا يواجههم ويبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وقد تنتهي بهم جرأتهم إلى تهديد ما استولى عليه جنده في خوزستان والعراق العربي، الخطر إذن جسيم، والتأهب لملاقاته واجب مقدس.
وأراد عمر أن يستشير الناس، كدأبه في مثل هذه الأمور، فنادى مناديه فيهم: الصلاة جامعة، فلما التأم عقدهم بالمسجد صعد المنبر وذكر للناس ما أنهاه إليه عماله عن تهيؤ الفرس واجتماعهم وكثرة عدوهم، ثم قال: «إن هذا اليوم له ما بعده، ألا وإني قد هممت بأمر فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه حتى أنزل وسطا بين هذين المصرين فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب؟» وتكلم القوم، فأشار بعضهم بأن يسير أمير المؤمنين بالجيوش إلى العراق، وأن يدعو جنده بالشام وباليمن، ليواجه الفرس ويغزو بلادهم، وأشار آخرون أن يقيم بالمدينة وأن يبعث كل من قدر عليه من الجند لغزو الفرس، وكان قوم أكثر من هؤلاء ومن أولئك حذرا، وكان بينهم علي بن أبي طالب إذ قام فكان مما قاله: «يا أمير المؤمنين! إنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم صارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، وإنما مكانك من العرب مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، وإن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم فتألبوا عليك، أما ما ذكرت من عدد القوم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكنا كنا نقاتل بالنصر، فأقم مكانك واكتب إلى أهل الكوفة؛ فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان وليقم الثلث واكتب إلى أهل البصرة يمدونهم.»
اقتنع عمر برأي علي وسر به فأعلن في الناس أنه مقيم بالمدينة ومرسل الجيوش تلو الجيوش أمدادا لقتال الفرس، ثم قال: «أشيروا علي برجل أوله أمر هذه الحرب وليكن عراقيا.» قالوا: أنت أفضل رأيا، وأحسن مقدرة، وأبصر بجندك، وقد وفد عليك أهل العراق وجنده فرأيتهم وخبرتهم، قال: «أما والله لأولين أمرهم رجلا يكون أول الأسنة إذا لقيها غدا، النعمان بن مقرن!» قال الناس: هو لها!
وكان النعمان لها حقا، عرفه المسلمون فارسا مقداما لا يعرف التردد ولا الفرار، مكيثا غير متسرع إلا لفرصة، وكان على ميمنة أبي بكر حين خرج يقاتل الذين منعوا الزكاة فهزمهم بذي القصة، وكان في غزوات العراق كلها إلى جانب خالد بن الوليد من يوم ذهب خالد إليه، وكان النصر يسير في ركابه سيره في ركاب خالد، فلما ولى عمر سعد بن أبي وقاص جند العراق كان النعمان معه في الطليعة؛ برز في القادسية وفي فتح العراق العربي، ثم أبلى في حروب خوزستان أعظم بلاء، روي أنه كان عاملا على كسكر، فكتب إلى عمر يشكو إليه أن سعد بن أبي وقاص استعمله على جباية الخراج وهو يحب الجهاد فكتب عمر إلى سعد: «إن النعمان كتب إلي يذكر أنك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهم وجوهك.» فلما استقر رأي عمر على توليته حرب الفرس الذين اجتمعوا بإمرة الفيرزان كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغني أن جموعا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتكفرهم ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلا من المسلمين أحب إلي من مائة ألف دينار، فسر في وجهك هذا حتى تأتي ماه؛ فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فسر إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، والسلام عليك.
وكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان والي الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان بن مقرن كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمرت عليهم حذيفة بن اليمان حتى ينتهي بهم إلى النعمان، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، وإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن. ودفع عمر هذا الكتاب إلى السائب بن الأقرع ليسير به إلى الكوفة، وجعل السائب أمينا على الفيء وقال له: «إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تريني ولا أرينك.»
وكتب في اليوم نفسه إلى أبي موسى الأشعري أن سر بأهل البصرة إلى ماه والأمير النعمان بن مقرن، وكتب إلى سلمى بن القين وحرملة بن ريطة وأمراء الجند الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري، وإنما أراد عمر بأمره هذا أن يقطع عن أهل نهاوند أمداد فارس فلا يزيدوا الفيرزان قوة على قوته.
بهذا كله تجهز عمر لمواجهة الخطر الذي تواترت لديه أنباؤه، وهيأ الجو حوله ليقوم المسلمون في وجه الفرس غير وانين ولا مترددين، وسارت الجيوش إلى ماه فانتهت إلى النعمان بن مقرن، وفيها الفرسان والأبطال أولو البأس والخطر، ومنهم من حضر القادسية والمدائن وغيرهما من الوقائع فأراد أن يضيف إلى فخاره فخارا جديدا، ومنهم من لم يحضر القادسية فخف يريد نهاوند لكي لا يفاخره غيره ويستعلي عليه بحسن بلائه.
وبلغوا حلوان، فأراد النعمان أن يتنطس أخبار الفرس ليعرف أبثوا من العيون والأرصاد على الطريق ما يجب الاحتياط له، فبعث طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وعمرو بن أبي سلمى المزني طليعة يرتادون ويتبينون، وسار ثلاثتهم يوما إلى الليل، ثم رجع عمرو بن أبي سلمى فأخبر القوم أنه لم ير شيئا، وسرى طليحة وعمرو بن معدي كرب طول الليل ثم رجع عمرو فسأله الناس: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق، ومضى طليحة ولم يحفل بصاحبيه حتى انتهى إلى نهاوند، فعلم علم القوم وعرف أنباءهم، ثم عاد فدخل على النعمان فأخبره أن ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، عند ذلك نادى النعمان بالرحيل، وسار في جنوده على تعبئة حتى نزل قريبا من حصون أعدائه، وهناك كبر المسلمون ثلاث تكبيرات زلزلت الأعاجم وملأت قلوبهم رعبا.
عرف الفيرزان أنباء المسلمين وأنهم جاءوا ثلاثين ألفا يقاتلونه فلم يستهن بهم، ولم يخدعه أنه قبالتهم في خمسين ومائة ألف متعاهدين على القتال إلى الموت، متحصنين في بروج ذات منعة؛ فقد حضر القادسية ورأى من بأس هؤلاء العرب ما راعه، ثم انتهت به الهزيمة كما انتهت بالهرمزان إلى الفرار؛ لذا بعث إلى عسكر المسلمين أن أرسلوا إلينا رجلا نكلمه، وسار إليه المغيرة بن شعبة فاجتاز الميادين المحيطة بنهاوند وتخطى أسوارها وانتهى إلى مقر الفيرزان فيها، وكانت نهاوند مدينة عظيمة تقع في العراق العجمي بين حلوان وهمذان على ثلاثين فرسخا إلى الشرق من حلوان وعشرة فراسخ غرب همذان، وبها مراع فسيحة وأنهار وبساتين تدر على أهلها الرخاء ورفاهة العيش، وفي وسطها حصن متين البناء قوي الجدران يحمي أسوارها الرفيعة المنيعة، وأدخل المغيرة على الفيرزان فإذا هو جالس فوق سرير من ذهب وعلى رأسه التاج ومن حوله حراسه كأنهم الشياطين يكاد التماع حرابهم ونيازكهم يخطف البصر، ودار بين الرجلين حديث ما أشبهه بما دار بين يزدجرد ووفد المسلمين بالمدائن، انتهى منه الفيرزان إلى قوله: «وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشاب إلا تنجسا لجيفكم، فإن تذهبوا نخل عنكم، وإن تأبوا نركم مصارعكم.» وانتهى منه المغيرة بعد موافقته على الذي كان من شقاء العرب إلى قوله: «والله ما زلنا مذ جاءنا رسول الله نتعرف من ربنا الفتح والنصر حتى أتيناكم، وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدا حتى نغلبكم على ما بأيديكم أو نقتل بأرضكم.»
عاد المغيرة بن شعبة إلى المسلمين بعد ما أخفقت سفارته، فلقي النعمان في فسطاط عظيم كان قد ضرب له لم ير فسطاطا بالعراق مثله جلالا وعظمة، فلما عرف النعمان إخفاق سفارته أنشب القتال وحصر المدينة، فكانت الحرب سجالا بين العرب والفرس يومين كاملين، وكان الفرس لا يخرجون من حصونهم إلا إذا أرادوا ورأوا في الخروج مغنما لهم، ذلك أنهم أحاطوا أسوارهم بحسك الحديد، ولم يتركوا إلا فرجا يخرجون منها كلما عزموا الخروج، فلم تكن خيول المسلمين لتقوى على اجتياز هذا الحسك، وقد اشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول وأن تسوء عاقبته، فاجتمع أهل الرأي منهم فذهبوا إلى النعمان فأفضوا إليه بمخاوفهم، وكان النعمان يروي في الذي رووا فيه، فلما سمع منهم قال لهم: على رسلكم لا تبرحوا، وبعث إلى أهل الرأي والنجدات في الحروب، فلما توافوا إليه قال لهم: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق من هذا الموقف، فما الرأي الذي نستخرجهم به إلى المنابذة وترك التطويل؟ وتكلم القوم، فأشار بعض بتضييق الحصار، فالتحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، وقال عمرو بن معدي كرب: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم، فرد الحاضرون جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا، وتكلم طليحة بن خويلد فقال: «... وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية
1
فيحدقوا بهم ثم يرموهم لينشبوا القتال ويحمشوهم،
2
فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج، أرزوا
3
إلينا استطرادا،
4
فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قابلناهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منا طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم حتى يقضي الله فينا وفيهم ما أحب.»
استراح الحاضرون جميعا إلى هذا الرأي واستجادوه، فأمر النعمان القعقاع بن عمرو أن يذهب صبح الغد فيهاجم المدينة بالقوة التي في إمرته، فإذا برز الفرس له أظهر الفرار بين أيديهم، وتقدم القعقاع في الجند فرمى المدينة بالنبل، وأظهر العزم على اقتحام الأسوار، وأبدى من ضروب البأس ما جعل الفرس ينهدون إليه في حذر يصدون هجومه، وأعجل المسلمون كل من برز إليهم فأثاروا حماسة عدوهم، فخرجوا إليهم فرأوهم قلة يمكن التغلب عليها، فاجتازوا الأسوار والحسك إليهم يقاتلونهم وثبت لهم القعقاع زمنا حتى لا تنكشف حيلته، ثم ولى بجنده مدبرا أمامهم، فلما رأوا فراره خرجوا في أثره يريدون القضاء عليه، وكان النعمان قد أمر جنده بالتقهقر إلى ما وراء مرمى النبل من حصون المدينة وأسوارها، فتراجعت القوات في بكرة الصبح إلى حيث استطاع أكثرها الاختفاء عن أعين العدو بمرتفع توارت وراءه، وتابع القعقاع فراره، وتابع الفرس مطاردته، ملتزمين أول الأمر من الحذر ما جعلهم ينقلون أمامهم حسك الحديد يحتمون به من كرة العدو إذا حاول الرجعة لمهاجمتهم، وكان القعقاع قد أيقن ابتعاد جند المسلمين في تراجعهم فأمعن في الفرار، وأمعن الفرس في تعقبه وقد ثبت عندهم أن هزيمة المسلمين تمت فلا حاجة للحذر منهم والاحتياط لهم، وتركوا حسك الحديد وراءهم وأسرعوا يطلبون هؤلاء الفارين ليستأصلوا شأفتهم، واندفع الجيش كله والفيرزان على رأسه يريد أن يطهر أرض فارس من هؤلاء الغزاة الأجلاف، فخلت نهاوند من حماتها ولم يبق بها إلا حراس أبوابها، فلما بعدوا عن المدينة ولم يبق لهم مطمع في حماية حصونها وأسوارها ريعوا، فقد رأوا المسلمين يقفون، ورأوا القعقاع ومن معه كأنما يريدون أن يثبتوا لهم، لكن روعهم لم يلبث أن سكن، وحسبوها مكيدة أراد القعقاع بها أن يحمي ظهر الجيش المتقهقر في هزيمته، حتى لا يفنيه الفرس ويقضوا بذلك على سلطان المسلمين القضاء الأخير.
وانضم القعقاع بقواته إلى سائر الجند، وأقام مع الناس ينتظر أمر النعمان بالهجوم، وكان اليوم يوم جمعة، وكان النعمان قد أمر الناس ألا يقاتلوا الفرس حتى تزول الشمس ثم يأذن لهم، وأدرك الفرس المسلمين قبيل الزوال، فرموهم بالنشاب فأفشوا فيهم الجراحات، فأشار قوم على النعمان في الحملة فلم يفعل، وقال له المغيرة بن شعبة: لو أن الأمر إلي علمت ما أصنع، وأجابه النعمان في سكون وتؤدة: «رويدا تر أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك! ونحن نرجو في المكث مثل الذي ترجو في الحث.»
وحان للشمس أن تزول، فركب النعمان برذونا له أحوى قريبا من الأرض؛ وجعل يمر على الرايات راية راية يشجعهم ويحرضهم ويحركهم بأحسن ما فيهم، يذكر أن الله أنجز لهم صدور وعده بنصرهم، فلم تبق إلا أعجازه وأكارعه، ويذكرهم ما مضى إذ كانوا أذلة، وما استقبلوا من هذا الأمر وهم أعزة، وأن عدوهم إنما يخاطر بأرضه في حين يخاطرون هم بدين الله ودينهم فلا يكن الفرس على دنياهم أحمى من المسلمين على دينهم، «فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، وإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض، وإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معي، اللهم أعز دينك وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.»
جعل النعمان يقول هذه العبارات ومثلها لكل راية مر بها، فلما فرغ من حث الناس وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه وأعين الجند مشدودة إليه وهو معلم ببياض القباء والقلنسوة، فكبر الأولى والثانية والثالثة والمسلمون عطاش للحرب يريدون أن يطيروا إليها وأن يفنوا عدوهم فيها، وليس منهم أحد يريد أن يرجع إلى أهله حتى يقتل أو يظفر، وما لبث النعمان حين أتم تكبيراته أن اندفع واللواء في يده، فانقض على الفرس انقضاض العقاب على فريستها، وجعل يطيح بالرءوس ويجدل الفرسان، فإذا هم حوله صرعى يتخبطون في دمائهم، وشد المسلمون حوله، فكان كل منهم النعمان بطشا وبأسا، ورأى الفرس صدق المسلمين في حملتهم فشدوا كذلك عليهم، فالتقى الفريقان متصافحين بالسيوف، فلم يكن يسمع إلا وقع الحديد على الحديد، وإلا صيحات الأبطال وكلهم الحماسة المتقدة والشجاعة التي لا تعرف من الموت فرارا، وبلغ القتال من الشدة مبلغا لم يسمع السامعون بمثله في غير هذه الموقعة، وكثر القتل في الفرس لكثرة عددهم ولاستماتة المسلمين في قتالهم حتى تخضبت الأرض بدمائهم، واستحرت الحرب وانهمرت الدماء، فكان الناس والدواب تزلق عليها لكثرة ما تلطخ به أديم الأرض منها، وتحدرت الشمس إلى ناحية المغيب والنعمان على جواده واللواء في يده يهزه يمنة فتهوي بسيوف المسلمين رءوس الفرس يمينا، ويهزه يسرة فتهوي رءوسهم يسارا.
وبينا يشق طريقه في قلب العدو زلق جواده في الدماء فصرعه، وأراد الله أن يستجيب في هذه الساعة لدعائه، فيستشهد في سبيله، فأصابه سهم في خاصرته، ورآه أخوه نعيم هوى فسجاه بثوبه، وأخذ اللواء من يده ودفعه إلى حذيفة بن اليمان، فأقامه حذيفة مكان أخيه وأمره بإخفاء ما حدث حتى لا يتزعزع الناس، وسار باللواء إلى حيث كان النعمان فأقامه، وأقبل الليل والوطيس حام والمسلمون يدفعون عدوهم أمامهم ويندفعون في صدره يضعضعون روحه، وانتشر الظلام وقد أصاب الفرس الإعياء فانكشفوا وتراجعوا منهزمين، فإذا حسك الحديد وراءهم يقف تراجعهم، فيمعن المسلمون فيهم قتلا، فيردي ألوفهم وكأنهم غنم مصرعة، وأراد الناجون اتقاء الحسك فانحرفوا، فإذا من خلفهم خندق عميق أعماهم الخوف عنه وستره الظلام عنهم، فهووا فيه بخيولهم، فهلك منهم فيه خلق كثير قدره بعض المؤرخين بثمانين ألفا غير الذين قتلوا في المعركة وكانوا ثلاثين ألفا، وكذلك قضي على هذا الجيش اللجب الذي اجتمع من كل أرجاء فارس يريد أن يجلي المسلمين عنها، فإذا المسلمون يذيقونه الموت نكالا فلا يفلت منه إلا الشريد.
وكان الفيرزان فيمن فر يطلب النجاة بنفسه، فاندفع وحيدا شريدا يركض جواده نحو همذان يرجو الاحتماء بها، ورآه نعيم بن مقرن فدفع القعقاع بن عمرو في أثره، فأدركه القعقاع حين انتهى إلى ثنية همذان، إذ كانت دواب من الحمير والبغال تحمل العسل سائرة في الثنية بين الجبال، فسدت على القائد الهارب طريقه، فترجل يريد النجاة في الجبل، فاتبعه القعقاع وأدركه وقتله، وعرف المسلمون يومئذ ما حدث فقالوا: «إن لله جنودا من عسل.» فصارت مثلا، وسميت تلك الثنية من بعد: «ثنية العسل».
ومضى الفلال من جيش الفرس مشردين حتى بلغوا همذان، ولم يدعهم المسلمون يدخلونها آمنين، بل طاردوهم إليها وحصروهم فيها، وأقسموا لا يبرحونها حتى تفتح أبوابها، وعرف أميرها ما أصاب الفيرزان وجنوده: فبعث إلى المسلمين يستأمنهم ويصالحهم عليها، وصالحه القعقاع على أن يضمن لهم همذان ودستبى، وألا يؤتى المسلمون منهم، وأن يؤمنهم المسلمون فلا يغير عليهم مغير، بذلك أمن الناس وعاد كل هارب، وسكنوا إلى طمأنينة الحياة.
رجع القعقاع ومن معه من المسلمين فألقوا حذيفة دخل نهاوند بعد المعركة بجيشه واستولى على ما فيها من الأسلاب والغنائم، ودفعها إلى السائب بن الأقرع الذي عينه عمر على الأقباض، وقد بلغت الأنفال يومئذ مبلغا فاق كل ما توقعه المسلمون، فقد قسمها حذيفة بن اليمان في الفاتحين، ونقل ذوي النجدات، وأعطى من أرصدهم من الجند ليحفظوا ظهر المقاتلين حتى لا يؤتوا من خلفهم، كما أعطى من كان ردءا للمسلمين ومنسوبا إليهم مثل الذي أعطى لأهل المعركة، مع ذلك بلغ نفل الفارس من هؤلاء جميعا ستة آلاف ونقل الراجل ألفين.
هذا، ثم إن كسرى كان قد استودع صاحب المعبد الذي به بيت النار جواهر أعدها لنوائب الزمان ولم يكن المسلمون قد عثروا بها، وإنهم لفي جذلهم بما أفاء الله عليهم إذ أقبل صاحب بيت النار مستأمنا لنفسه ولمن شاء على أن يدل حذيفة على الذخيرة الثمينة، وأمنه حذيفة؛ فأخرج له سفطين مملوءين جوهرا ثمينا لا يقوم، ورآهما المسلمون وكانوا قد أترعوا مما نالهم من الفيء، فعفوا عنهما، ورأوا أن يجعلوهما لعمر خاصة، فلما اطمأن الناس إلى مقامهم وإلى فيئهم، حمل السائب بن الأقرع السفطين وخمس الفيء وسار إلى المدينة يبلغ عمر أنباء النصر ويدفع إليه هذه المغانم العظيمة.
بينا يجري كل ذلك بنهاوند كان عمر بالمدينة يتسقط أنباء المسلمين، وهو أشد ما يكون إشفاقا أن يبلغه منها ما لا يحب؛ لذلك لم يكن يذوق النوم إلا غرارا، ثم يقضي سائر ليله يستنصر الله لجنده، فلما كانت تلك الليلة التي قدر للقائهم، جعل يخرج ويتلمس الخبر، وقد ألقي في روعه أن الله نصر جنده وأنجز وعده، وكان حذيفة قد بعث طريف بن سهم ليسرع بالخبر إلى المدينة، فلما بلغها وسأله عمر ذكر له ما أنعم الله به على المسلمين من نصر وفتح وكتم عنه إلا ما سره، واغتبط عمر والمسلمون بما سمعوا، فرفعوا أكفهم إلى الله تضرعا وخشية، وهرعوا إلى المسجد فصلوا شكرا لله، ثم خرج عمر في جماعة من أصحابه وكله الشوق أن يقف على الجلية من الأمر، وأمعنوا في الطريق الذي يؤدي إلى فارس، فبصروا عن بعد براكب توسم فيه عثمان بن عفان أنه السائب بن الأقرع، فلما دنا منهم وسلم عليهم قال له عمر: ما وراءك! قال: البشرى والفتح، وسأل عمر: فما فعل النعمان؟ قال: زلت فرسه في دماء القوم فصرع فاستشهد، قال عمر وقد أفزعه النبأ وهزه: إنا لله وإنا إليه راجعون! ولم يتمالك أن بكى حتى نشج كأنما أصيب في بعض ولده أو في أعز عزيز لديه، فلما سكنت عنه ثورة الحزن سأل السائب عمن قتل من المسلمين فذكر له أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال : وآخرون من أفناء الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين، قال عمر، والحزن لا يزال آخذا بخناقه: وما ضرهم ألا يعرفهم عمر! لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم بالشهادة! وما يصنعون بمعرفة عمر!
وانطلق القوم والسائب معهم، حتى إذا دخلوا المدينة أدخلوا خمس الفيء إلى المسجد وأمر عمر نفرا من أصحابه، منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم، بالمبيت فيه، ليقسمه بين المسلمين متى أصبح.
وقام عمر فدخل منزله، فاتبعه السائب فأخبره خبر السفطين وما فيهما من جواهر لا تقوم، وذكر له أن أهل الغزاة جعلوهما لأمير المؤمنين خاصة، روى الطبري عن السائب بن الأقرع أنه قال: «فأخبرته خبر السفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك، فأدخلتهما بيت المال وخرجت سريعا إلى الكوفة، وبات عمر تلك الليلة التي خرجت فيها، فلما أصبح بعث في أثري رسولا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة وأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن، قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله فركبت معه حتى قدمت على عمر، فلما رآني قال: ما لي ولابن أم السائب، بل ما لابن أم السائب وما لي! قلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارا يقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين، فخذهما عني لا أبا لك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالا بعد.»
وفي رواية أخرى أوردها الطبري كذلك أن السائب اتبع عمر بذينك السفطين حين دخل منزله وأخبره خبرهما، فقال له عمر: يا بن مليكة! والله ما دروا هذا ولا أنت معهم، فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تأتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليهم! فانطلق السائب راجعا حتى انتهى إلى حذيفة فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف قسمها بين من أفاءها الله عليهم، فنال كل فارس منها أربعة آلاف درهم غير ستة الآلاف التي أصابها من قبل.
كان اغتباط أهل المدينة لفتح نهاوند عظيما، لكنه لم يغتبط أحد بهذا الفتح اغتباط أهل الكوفة، حتى لقد سموه فتح الفتوح، ولعلهم كذلك فعلوا؛ لأن زهرة المقاتلة في المعركة كانوا من الكوفيين، أو لأن الكوفة كانت أقرب إلى مكان المعركة من المدينة، فكان أهلها أشد إشفاقا منها وأدق تقديرا لنتائجها؛ فلما تم النصر فيها دعوها بهذا الاسم تيمنا وتعبيرا عما بعثته إلى نفوسهم من الطمأنينة على موطنهم، وأيا ما كان السبب فقد كانت نهاوند فتح الفتوح بالفعل؛ إذ لم تقم للفرس بعدها قائمة، بل غزاهم المسلمون في عقر دارهم، وأزالوا سلطانهم عن كل ولاياتهم، ثم لم يغن عنهم تجمعهم لصد تيار المسلمين المتدفق في أرضهم، بل انتهى الأمر إلى إخراج كسرى من فارس شريدا يلتمس العون من غير أهله والنجاة في غير بلاده، ثم يموت بعيدا عن مواطن ملكه، كأن لم يستقر بها يوما ولم يكن بها صاحب السلطان.
وكان عمر أشد من أهل الكوفة بنهاوند اغتباطا، وأكثر لغزاتها تقديرا وبهم إعجابا، حتى لقد زاد عطاء الذين أحسنوا البلاء فيها، فمنح كل واحد منهم ألف درهم فوق فيئه تشريفا لهم وإظهارا لشأنهم، وكيف لا تبلغ منه الغبطة هذا المبلغ وكان يعلم أن جيش الفرس بنهاوند قد جمع كل الأبطال من شتى أرجاء المملكة، وأن أشراف فارس وأمراءها جميعا تعاهدوا على إخراج العرب من أراضيهم، وردهم مهيضي الأجنحة إلى شبه جزيرتهم! وها هم أولاء الأبطال يفرون منهزمين، والأشراف والأمراء يلتمسون ملجأ من خزي هزيمتهم فلا يجدونه، بل لا يجدون أمامهم إلا العرب ينتشر سلطانهم، وتعلو كلمتهم، ويهز اسمهم الأسماع والقلوب في ولايات كسرى جميعا، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشرق.
رأيت همذان وإسراع أهلها إلى طلب الصلح التماسا للأمن حين عرفوا مصير نهاوند والفيرزان، وكان أبو موسى الأشعري أميرا على جند البصرة الذين قاتلوا بنهاوند، فلما سار منصرفا عنها مر بالدينور، فأقام عليها خمسة أيام لم يقع قتال إلا في اليوم الأخير منها، ولم يكد هذا اليوم ينتهي حتى طلب أهلها الصلح، وأقروا بالخراج والجزية، وسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فصولحوا على ما طلبوا، وصالح أبو موسى أهل السيروان على مثل صلح الدينور، وصالح عامله أهل الصيمرة على حقن الدماء وترك السباء والصفح عن البيضاء والصفراء، وعلى أداء الجزية وخراج الأرض وفتح جميع الكور بمهرجان قذق، وصالح حذيفة بن اليمان دنبارا الفارسي على بلدة ماه، وأعطى أهلها عهدا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، لهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، وعلى كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل وأصلحوا الطرق وقروا جنود المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة.
أما وقد أصاب الفرس كل هذا الفزع بهزيمة نهاوند فازدادوا اضطرابا وازدادت معنوياتهم انحلالا فليس إلا أن يأخذهم عمر وهم فيما هم فيه، وأن يدفع قواته في سائر ولاياتهم حتى تذعن كلها لسلطانه ولا يبقى فيها لمقاومة أثر، ولا تحدث أميرا من أمرائها نفسه بمثل ما كانت تحدثه به من قبل؛ لذلك عقد بنفسه ألوية عهد إلى أصحابها بالانسياح في أرض فارس جميعا، فجعل لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء درابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو، ولواء مكران إلى الحكم بن عمرو التغلبي، وأمرهم أن يكونوا على أهبة المسير إلى هذه الأمصار والولايات.
وكذلك كانت نهاوند من فتح فارس ما كانت القادسية من فتح العراق العربي ، وقد حاول يزدجرد بعدها أن يقاوم بالري وبمرو وبإصطخر كما حاول أن يقاوم بالمدائن، وقد أمده أمراء الولايات بأذربيجان وخراسان وفارس ومكران، وحاولوا الوقوف إلى جانبه لصد تيار المسلمين عنهم والاحتفاظ لوطنهم بعزته وكرامته، وسنرى من محاولاتهم، ومن اضطراب يزدجرد بين ولاياتهم، ومن أمر المسلمين معه ما نجمله في الفصل التالي.
هوامش
الفصل السابع عشر
القضاء على سلطان الأكاسرة
تقع نهاوند وهمذان في صميم العراق العجمي، وهما لذلك من صلب المملكة الفارسية؛ فأهلهما من الفرس جنسا ولغة ودينا، لا يمتون إلى العراق العربي وأهله بنسب، ولا يعرفون من لغة العرب كلمة؛ لذلك كانت نكبة الفرس في نهاوند نكبة في صميم ملك كسرى، فلم يكن له ولا لبني وطنه بعدها إلا الإذعان والنزول على حكم المسلمين، أو الحرب الضروس تنتهي بهم إما إلى نصر يخرج العرب من بلادهم، أو هزيمة تزيل الأكاسرة عن عرشهم، وتقضي القضاء الأخير على دولتهم وسلطانهم!
وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن العراق العجمي يتوسط ولايات المملكة كلها: تقع إلى شماله أذربيجان وطبرستان وجيلان، وإلى شرقه سمان وصحراء إيران، وإلى جنوبه فارس وكرمان، وإلى غربه وجنوبه الغربي يقع العراق العربي وتقع خوزستان، وبالعراق العجمي مدن كبيرة تعد في حكم العواصم، منها أصفهان وهمذان والري، فإذا توغل المسلمون فيه واستولوا على هذه المدن فتح ذلك أمامهم أبواب إيران كلها فانساحوا فيها، وهيهات لقوة بعد ذلك أن تقف في طريقهم!
ولكن! كيف ليزدجرد أن يقف تيار الغزاة الجارف؟ لقد رآهم منذ نصرهم بالقادسية يندفعون خلال العراق العربي إلى المدائن وجلولاء، ويقيمون البصرة والكوفة، ويحطمون مقاومة الهرمزان في خوزستان، ويواجهون قوات فارس مجتمعة بنهاوند فيقضون عليها أيما قضاء، ألا يدل ذلك على أن الأقدار حالفتهم ووقفت في صفهم فلن يستطيع أحد صدهم! ومحالفة الأقدار هي التي طوعت لهم غزو هرقل بالشام وطرده إلى بزنطية والاستيلاء على بيت المقدس مهد النصرانية ومستقر هيكل سليمان، أليس خيرا ليزدجرد أن يصالح غزاة ذلك شأنهم، فيدع لهم ما فتحوا ويكتفي بما بقي له من ملك أجداده؟! ولعل القدر الذي تجهم له اليوم يكون أبر به غدا! أم ترى تصده كبرياء الملك تأثل في فارس عشرات الأجيال والقرون عن أن يطلب الصلح مقهورا، وتدفعه حماسة الشباب إلى مغامرة جديدة؟! الحق أنه اضطرب بين الأمرين أشد الاضطراب، فمن ذا يكفل له إذا طلب الصلح ألا يرفض خليفة المسلمين مطلبه، فيكون الرفض مذلة له شر مذلة؟! ومن ذا يكفل له إذا دعا قومه إلى مغامرة جديدة أن يجيب مرازبة فارس وأمراؤها نداءه، فإذا لم يجيبوه أقام في ملكه كأنه مخلوع عن عرشه، لا يسمع له أمر، ولا ينضوي أحد إلى لوائه؟! لذا ترك الأمر للقدر يجري به كما يشاء، من غير أن يكون له في رحمة القدر كبير رجاء.
وأضعف رجاءه انصراف الأمراء والمرازبة كل إلى شأنه، لقد تعاهدوا على نصرته يوم تولى العرش وجلس بالمدائن في إيوان كسرى؛ لأن المملكة كان لها يومئذ جيش تعتز به، ويحمل الناس على طاعته، وقد انضووا إلى لوائه وبعثوا بالجيوش إلى نهاوند لمقاتلة عدوه يوم كان الرجاء في صد الغزاة لا يزال قويا في نفوسهم، أما وقد تضعضع جيش الدولة، وضعف الرجاء في جلاء الغزاة، فقد اضطربوا وانصرف أكثرهم يفكر كل أمير في إمارته وفي مصير ولايته: أيدافع المسلمين عنها، أم يصالحهم على أن يظل واليا باسمهم عليها، لم تبق صلة هؤلاء الأمراء بيزدجرد صلة ولاء ونظام، بل صلة مجاملة لمليك أوهن القدر سلطانه، فجعل يتنقل تنقل الشريد بين بلاد مملكته، فإن يكن القدر قد كتب في لوحه قرب خاتمته فلهم العذر أمام أنفسهم عما صنعوا، وإن تكن الأخرى فلهم إلى يزدجرد عودة، وهو لا ريب يقدر يومئذ حكم الضرورة عليهم.
أنت في حل من التثريب على هؤلاء الأمراء لهذا التفكير؛ فالدول لا تقوم ولا يرتفع شأنها بمثله، لكن هذا التفكير كان طبيعيا بحكم الأحداث التي أصابت فارس في العهد الأخير، وكان طبيعيا؛ لأنه كان وليد التاريخ الفارسي منذ أقدم الحقب، فقد استقر الفرس في الأرض التي أطلق عليها اسمهم قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، وكانوا يوم استقروا بها شعبا شديد الحرص على بساطة العيش، صعب المراس، صلب القناة في الحرب، شديد الطموح إلى التوسع والفتح، وقد التقوا هم والميديون في العراق العجمي، ودارت بين الفريقين حرب طاحنة انتهت إلى صلح أذعن به أهل ميديا لسلطان الفرس وانخرطوا في سلكهم، واندفعوا وإياهم يقاتلون عدوهم، وتخطى الفرس بلاد إيران إلى ما بين النهرين، وساروا منها إلى مصر وإلى بلاد الإغريق، فكانت بينهم وبين مدن اليونان وقائع ردهم بها الإغريق عن أوروبا، وكانت فارس يومئذ ولايات استقر في كل ولاية منها أمير من أمرائها المحاربين، فنصب نفسه ملكا عليها، واستقل بإدارة شئونها، ثم اجتمعت هذه الولايات في اتحاد قام كسرى على رأسه، وتولى توجيه شئونه العامة، واتخذ «الملك الأعظم» لقبا له، وقاتل الفرس الدول المجاورة لهم في الشرق والغرب فانفسح سلطانهم، حتى دهمهم الإسكندر المقدوني، فغلبهم على أمرهم ومد سلطانه في أرجاء بلادهم، وكانت سياسة الإسكندر تدع شئون الحكم الداخلي لأهل البلاد؛ لذا بقي أمراء فارس ولهم ما كان لهم من سلطان مطلق في الولايات التي أقاموا أنفسهم ملوكا عليها، فزاد ذلك في استمساكهم بهذا الملك وحرصهم عليه، واستردت فارس استقلالها بعد الإسكندر، وقام بنو ساسان بأمرها فكانوا أكاسرتها، وكانت المدائن عاصمتها، وإن احتفظ أمراؤها ومرازبتها بسلطانهم في مختلف ولاياتها، وعاد بنو ساسان بفارس سيرتها الأولى تقاتل وتمد سلطانها، وتدفقت إليها الأموال من مختلف الأرجاء في البلاد المفتوحة تدفقا نزع بأهلها إلى الترف، فأخذوا من أسبابه بأعظم حظ وأوفر نصيب، واطمأن الفرس إلى هذا الترف عهودا طوالا تفننوا في أثنائها في أسبابه، فتحدر بهم شيئا فشيئا إلى الشهوات الدنيا، فأورثهم رخاوة أضعفت فيهم صفات البطولة والإقدام التي كانت لآبائهم وأجدادهم، ثم لم يستعيضوا عن هذه الصفات صدق العزم وقوة الجلد مما تبعثه الحضارة السليمة إلى نفوس الآخذين بها، فانكمش بذلك سلطانهم شيئا فشيئا، وقد حاولوا استعادة هذا السلطان في أوائل القرن السابع المسيحي، فحاربوا الروم وظفروا بهم واستولوا على بيت المقدس وعلى مصر ، وانهزم الروم أمامهم بسبب ما فشا فيهم من سوء الحكم وفساد النظام، فلما تولى هرقل أمر الروم رد الفرس على أعقابهم، واسترد الصليب الأعظم منهم، ولم يقف أثر الهزيمة بالفرس عند ارتدادهم إلى تخومهم، بل ضعفت نفوسهم، وفشت الفوضى في بلاطهم، وتزعزعت ثقتهم بأنفسهم، فلما فاجأهم العرب زادتهم هذه العوامل رخاوة، فلم يستطيعوا الثبات في وجه غزاتهم، فجعل كل منهم يتلمس النجاة لنفسه، وجعل أمراؤهم يلتمسون السلطان الزائف في كنف الفاتح يستمتعون به ولو إلى حين، تاركين كسرى رمز وحدتهم وعزتهم تجري الأقدار في أمره بما تشاء.
كان ذلك شأن عاهل الفرس وشأن كثيرين من المرازبة والأمراء في دولته، أما عمر فلم يلبث حين اطمأن إلى انتصار جنده بنهاوند ومصالحتهم أهل همذان أن ذكر قول الأحنف بن قيس: إن الفرس لن يزالوا يقاومون المسلمين ما دام يزدجرد بين أظهرهم، فلم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، لا مفر إذن من تعقب الفرس في أرجاء ملكهم حتى يجلو عنه كسرى فيصير خالصا للمسلمين، فأي الخطط أنجع لبلوغ هذه الغاية؟
لم يكن لعمر أن يسير الألوية التي عقدها لتنساح في أرض فارس قبل أن يفتح العراق العجمي كله، فيحمي بذلك ظهره، ويأمن خط رجعته، ويسيطر على الطرق التي تسير خلالها الأمداد من العراق العربي ومن شبه الجزيرة لتعزيز جنده، ولكن! هل تسير القوات في هذا العراق العجمي من همذان إلى الري تفتحها، أم تنحدر من نهاوند إلى أصبهان لتخضع من هذه الولاية المترامية الأطراف أفسح أرضها رقعة، وأكثرها بخوزستان وبالعراق العربي اتصالا؟
فقد كان يزدجرد مقيما بالري حين دخل العرب نهاوند وهمذان، فلما رآهم اقتربوا من مقره خف إلى أصبهان يحرض أهلها على المقاومة، وبلغ ذلك عمر فأمر بالسير إلى أصبهان وكان رجاؤه أن يتولى يزدجرد الدفاع عنها فيقع أسيرا، فتتحطم بأسره مقاومة الفرس كلها؛ لذلك أمر عبد الله بن عبد الله بن عتبان فسار إليها فيمن كان معه من جند الكوفة ومن تبعه من جند النعمان بن مقرن بنهاوند .
وفي رواية أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان فقال له: ما ترى؟ أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بأصبهان؟ وأجابه الهرمزان: إن فارس وأذربيجان الجناحان وأصبهان الرأس، فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس، واطمأن عمر إلى هذا الرأي فأمر بالسير لفتح أصبهان.
وأصبهان، أو أصفهان، مدينة عظيمة كانت عاصمة إقليم من أقاليم العراق العجمي يطلق عليه اسمها، وكانت تتألف من مدينتين متجاورتين: جي واليهودية، وهذه الأخيرة كانت مستعمرة يهودية الأصل، أنشأها يزدجرد الأول إجابة لرغبة زوجه اليهودية شوشن دخت، أما جي فهي القصبة، وهي من أصح المواضع تربة وأطيبها هواء وأعذبها ماء، ولذلك اختارها الملوك مسكنا لهم، وتقع أصبهان في نهاية المنطقة الجبلية من جهة الجنوب، وهي خصبة الأرض واسعة الرقعة، تصل الطرق المعبدة بينها وبين شتى أرجاء المملكة، فالطريق منها إلى الري يمر بقاشان ثم بقم.
سار ابن عتبان في جنده، فلقيه جيش عظيم من الفرس بظاهر أصبهان، ولم يمهله أمير
1
هذا الجيش أن أنشب القتال معه، واشتد القتال وحمي وطيسه وكان على مقدمة الفرس شيخ كبير هو شهريار بن جاذويه،
2
وكان من أبطال الفرس المعدودين ومن المبارزين الذين لا يثبت لهم في الميدان خصم، وقد رأى المعركة تترجح ورأى القتلى من الفرس يكثرون كثرة خشي أن تدخل الضعف إلى نفوس سائرهم، فبرز إلى الصف الأول ودعا من جنود المسلمين من ينازله، وبرز له عبد الله بن ورقاء الرياحي فصاوله فقتله.
ورأى الفرس فارسهم المعلم صريعا فاضطربوا، ثم جلوا عن هذا الرستاق فنزله المسلمون وسموه لذلك رستاق الشيخ، وتراجع الفرس إلى جي، يحتمون بأسوار أصبهان، على حين أقام المسلمون في خطوطهم الجديدة ينظمون خطتهم لمهاجمة المدينة العظيمة الحصينة.
عرف يزدجرد ما أصاب الفرس برستاق الشيخ، ففر من أصبهان ناجيا إلى كرمان، وتقدم عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى جي فحاصر أصبهان فتحصن جندها بقلاعها وجعلوا يزاحفون المسلمين ويقاتلونهم ثم يعودون إلى حصونهم، فلما طال ذلك بهم وضاقوا به خرجوا يريدونها موقعة حاسمة، واصطف الجيشان للقتال وكان موشكا أن يبدأ غير أن الفاذوستان
3
أمير أصبهان بعث إلى عبد الله بن عتبان يقول له: لا تقتل أصحابي ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي، فإن قتلتك رجع أصحابك، وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا تقع لهم نشابة، وتصاول الرجلان زمنا، ثم قال الفاذوستان لعبد الله: «ما أحب أن أقاتلك فإني قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن ارجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تجري من أخذتم أرضه عنوة مجراهم ويرجعون، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه.» وأقر عبد الله هذا الصلح، ودخل أهل أصبهان في الذمة إلا ثلاثين رجلا خالفوا قومهم ولحقوا بكرمان في حاشيتهم.
بينا يقاتل المسلمون ليفتحوا أصبهان كانت بلاد الشمال الواقعة جنوب بحر قزوين تجتمع إلى إسفنديار الرازي أخي رستم الذي هزم وقتل بالقادسية، تعد العدة معه لدفع المسلمين عن الري، وعرف أهل همذان اجتماعهم فتشجعوا ونقضوا الصلح الذي عقدوه مع المسلمين بعد نهاوند، وبلغت عمر أنباء الانتقاض في همذان، فأمر نعيم بن مقرن أن يطير إليها وأن يدخلها عنوة عقابا لأهلها حتى لا يعودوا لمثل فعلتهم، ولكي يعتبر غيرهم بهم فلا يجرؤ قوم من بعدها على نقض عهدهم مع المسلمين، وسمع أهل همذان اسم نعيم وعرفوا سيره إليهم، فذكروا نهاوند وذكروا الفيرزان ومصيره بثنية العسل فسقط في أيديهم وتولاهم الرعب، وأيقنوا أنهم محصورون مقهورون لا محالة، وزاد بهم الجزع حين ترامى إليهم استيلاء نعيم على ما حول همذان من البلاد، ولم يبق لديهم ريب فيما قدر لهم من سوء المصير، فلما انتهى نعيم إليهم وحاصر مدينتهم بعثوا إليه يطلبون الصلح وهم في ريب من قبوله ما طلبوا، وكيف يطمئن إليهم وقد نكثوا من قبل عهدهم؟ وما كان أشد اغتباطهم حين رأوه يقبل منهم الجزية على أن تقيم بهمذان قوة من المسلمين يذكر وجودها أهل المدينة بالعهد ويقبض أميرها منهم الجزية ، ترى أقبل نعيم منهم ولم يفتض مدينتهم ضنا بأرواح رجاله أن يصاب منهم أحد؟ أم ترامت إليه أنباء إسفنديار والذين اجتمعوا إليه فآثر أن يحتفظ بقوته كاملة يواجه بها هذه الجموع المتزايدة تريد مهاجمته طمعا في أن تدفعه عن الري، وأن تجليه عن همذان، وأن تسترد ما كسبه هو وما كسبه أخوه النعمان من قبل؟
أيا كان السبب الذي أدى بنعيم إلى مصالحة أهل همذان فإن الجموع التي انضمت إلى إسفنديار كانت تزداد على الأيام عددا وقوة، وبلغ نعيما، وهو على رأس اثني عشر ألفا من المسلمين بهمذان، أن هذه الجموع تتحرك نحوه من جهات مختلفة: تحرك الديلم وعلى رأسهم أميرهم موتا، وتحرك أهل الري وعليهم الزينبي
4
أبو الفرخان، وتحرك أهل أذربيجان بإمرة إسفنديار، وجعلوا واج روذ وجهتهم وملتقاهم، وكانت دستى أقرب محلة من واج روذ؛ لذلك جعل نعيم عيونه بها يتنطسون الأخبار ويبعثونها إليه، وسبقت الديلم إلى الملتقى، فبعث العيون بأنبائهم إلى همذان، فخرج نعيم منها واستخلف يزيد بن قيس عليها، وسار في جنده حتى نزل قبالة القوات المتحالفة التي اجتمعت لقتاله، وكانت هذه القوات قد كمل عددها، فلم تمهل المسلمين أول ما نزلوا الميدان أن شدت عليهم، وفي ظنها القدرة على الظفر بهم، بل على استئصالهم، واشتد القتال بين الفريقين شدة ذكر بها الناس يوم نهاوند، وكان المسلمون قد ألفوا النصر فلم يكن التغلب عليهم يسيرا، أما هذه القوات من الديلم والفرس فلم تعرف لواء يجمعها فهي تدافع عنه وتموت دونه؛ لذلك انكشفت منهزمة حين أقبل المساء بعد أن قتل المسلمون منهم عددا غفيرا.
كان نعيم قد بعث إلى عمر بإخضاع همذان ومصالحته أهلها، وذكر له ما ترامى إليه من اجتماع الديلم وأهل الري وأذربيجان لقتاله، وفزع عمر لهذا النبأ وجعل يدعو الله أن يؤازر جنده وأن يؤيدهم بنصره، وأقام بالمدينة ينتظر أنباء هذا الجند وهو أشد ما يكون إشفاقا عليهم، وإنه لكذلك إذ قدم عليه عروة بن زيد الخيل، وكان قدم عليه من قبل بنبأ غزوة الجسر حيث قتل أبو عبيد الثقفي وانهزم المسلمون، فلما رآه عمر قال: بشير! وأجاب الرجل: بل عروة، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! عند ذلك فطن عروة فقال: بل أحمد الله فقد نصرنا وأظهرنا، وحدثه بما كان، فلما أتم حديثه قال عمر: هلا أقمت وأرسلت؟ وأجاب عروة: قد استخلف أخي وأحببت أن آتيك بنفسي، ومن يومئذ سماه عمر البشير، وأمر عمر فقرئ الكتاب الذي حمله عروة من نعيم بالفتح والنصر، فحمد الناس الله وصلوا شكرا لأنعمه.
وعاد عروة إلى همذان يحمل من عمر إلى نعيم كتابا فيه: «أما بعد فاستخلف على همذان وسر حتى تقدم للري وتلقى جمعهم، ثم أقم بها فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.» ولم يلبث نعيم حين قرأ هذا الكتاب أن أقر يزيد بن قيس على همذان وسار بالناس إلى الري وهو لا يشك في أن الله سيفتحها عليه، وكيف يخامره في ذلك شك أو تخالط نفسه فيه ريبة، وقد لقي جموع الري مع الديلم وأهل أذربيجان، فهزمت وقتل منهم موتا ملك الديلم! ولعله أفرط في تفاؤله؛ فقد كان الملك بالري يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين، وكان قد أيقن بعد واج روذ أن المسلمين لن يصيروا حتى يهاجموه ليفضوا عليه عاصمته؛ لذلك استمد أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان وقال لهم: قد علمتم إن هؤلاء حلوا بالري أنه لا مقام لكم، فأمدوه بقوات اجتمعت فكانت أضعاف القوات التي سار بها نعيم عددا وعدة، وتحصنت هذه القوات كلها بالري، وكان سياوخش قد زاد معاقلها مناعة وقوة؛ فلما رأى ما اجتمع في هذه المعاقل أيقن أن المسلمين لن يظفروا به، ولن يستطيعوا أن يفضوا عليه حصونه.
لم يكن عجبا أن يجتمع أهل الشمال للدفاع عن الرى؛ فقد كانت العاصمة الكبيرة لهذه الأرجاء، والحصن الحصين تلوذ به وتلجأ إليه، وكان بها من المعابد القائمة حول بيوت النار ما جعل نفوس كثيرين تهوي إلى زيارتها في المواسم الدينية، وترى في الاعتداء عليها اعتداء على قدس يجب الدفاع عنه ، ثم إنها كانت بموقعها من الأقاليم المحيطة بها، ملتقى تجارة واسعة تجلب إليها من الشرق ومن الغرب، وتجعل أهلها في رخاء ورفه عيش، وكان أهلها وأهل الأقاليم المحيطة بها مطمئنين لمناعتها، مطمئنين بذلك إلى مقامهم بها أو في جوارها، فلما رأوها تتعرض للغزو تعاهدوا للدفاع عنها وذهبوا بجموعهم إلى واج روذ يصدون غزاتها، ثم لم تثنهم الهزيمة عن الاجتماع كرة أخرى والتحصن بالمدينة والدفاع عنها.
ولعل حماستهم في الدفاع عنها كانت تكلف المسلمين الضحايا الكثيرة لفتحها، لولا أن أرادت الأقدار أن يتم هذا الفتح بأيسر مما قدر له نعيم وأصحابه؛ فقد أساء سياوخش ملك الري لقاء الزينبي أبو الفرخان بعد وقعة واج روذ، وعنفه على ارتداده أمام المسلمين وعزله عن عمله، وأحفظ الزينبي ما حدث، فخرج من الري حين عرف مقدم نعيم لفتحها، فلقيه بظاهرها فتحدث إليه مسالما وحالفه على سياوخش، ونزل المسلمون في سفح جبل الري، فلقيهم حماتها وأنشبوا معهم قتالا لم ينته آخر النهار إلى ظفر أي الفريقين، فلما كان الليل قال الزينبي لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فابعث معي خيلا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا إليك لم يثبتوا لك، واطمأن نعيم لقوله، فبعث معه من الليل خيلا عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة دون أن يشعر بهم أحد، وبات نعيم يشاغل حماة الري يرميهم بالنبل والنشاب فشغلهم عما يدور داخل مدينتهم، فلما كان الفجر برزت خيل المسلمين بالمدينة وعلت أصوات الفرسان بالتكبير، فأيقن الفرس حين سمعوه أنهم أخذوا على غرة من ورائهم فانهزموا، فاتبعهم المسلمون يمعنون فيهم قتلا، ودخل نعيم المدينة، وانهزم سياوخش فلم يقف له أحد على أثر، واستفاء المسلمون من الري نحوا من فيء المدائن، وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بأخماس الفيء.
ما عسى أن يكون مصير الري بعد أن تم فتحها؟ أليس من أبنائها من يصالح المسلمين عليها؟ نعم! صالح نعيم الزينبي على أهل الري ونصبه مكان سياوخش مرزبانا عليهم بعد أن هدم قلاعهم وخرب حصونهم، وأمر ببناء مدينة جديدة بجوار مدينتهم العتيقة، بذلك سقط آل بهرام، وآل شرف الملك من قبل المسلمين إلى الزينبي الأمير وأبنائه، وبقيت الري مع ما أصابها مدينة عظيمة وثغرا من ثغور المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس، على أن نجمها هوى من بعد ومنذ بنيت طهران على مقربة منها إلى شمالها الغربي، وإن بقيت أطلالها إلى اليوم بارزة للعيان تحدث عما كان لها حين عزها من جلال وعظمة.
وكان نصر المسلمين بالري حاسما؛ لذلك أسرعت المدن والأقاليم القريبة منها تطلب الصلح وتؤدي الجزية، فلما سار سويد بن مقرن بأمر عمر إلى قومس لم يقم له أحد فأخذها سلما، وعسكر بها وصالح أهلها، وكان أهل دنباوند قد صالحوا أخاه نعيما بعد انهزام الحلفاء عن الري وعود كل منهم إلى مقره.
ودنباوند مدينة قائمة على جبل قريب من الري، وكان أهلها قد دخلوا حصون الري للدفاع عنها، فلما فتحت المدينة أبوابها، وجلا حلفاؤها ومنهم أهل دنباوند مرتدين إلى منازلهم لم يكن أمام أهل دنباوند غير الصلح عقدوه على جزية مائتي ألف درهم يدفعونها كل سنة، على ألا يغار على أرضهم وألا يدخل عليهم بغير إذنهم ما وفوا بعهدهم، أما قومس فكورة كبيرة واسعة بها مدن وقرى ومزارع، تقع إلى الجنوب من جبل طبرستان ممتدة بين الري ونيسابور، وتفصل طبرستان بينها وبين بحر قزوين.
بفتح الري وصلح قومس ودنباوند لم يبق بين المسلمين وشواطئ قزوين
5
من أرض فارس غير جرجان وطبرستان وأذربيجان، فلو أنهم فتحوها وصالحوا أهلها لبلغوا أقصى الشمال في هذه المنطقة من ملك كسرى، وقد عسكر سويد بن مقرن بعد صلح قومس ببسطام، وكاتب ملك جرجان يدعوه إلى الصلح أو يسير إليه بجنوده، وبادر الملك الفارسي فصالحه عن دهستان وجرجان على الجزية يؤديها أهلها ولهم الذمة والمنعة والأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، وأدمج في هذا الصلح نص لم يؤلف من قبل مثيل له: «ومن استعنا به منكم فله جزاؤه على معونته عوضا عن جزيته.» ولا أدل من هذا النص على أن الجزية إنما كانت تفرض مقابل منع المسلمين من تغلبوا عليهم، فإذا دفع هؤلاء عن أنفسهم أو أعانوا المسلمين كان لهم جزاؤهم.
تقع جرجان إلى الجنوب الشرقي من شاطئ قزوين، وتقع طبرستان إلى الجنوب من هذا الشاطئ مجاورة جرجان، وتقع أذربيجان إلى جنوبه الغربي مجاورة طبرستان، وإذ رأى ملك طبرستان أن المسلمين أحاطوا به من الجنوب باستيلائهم على الري ومصالحتهم أهل قومس، ومن الشرق بصلحهم مع أهل جرجان؛ وأنه لم يبق له منفذ إلى أرض فارس إلا من طريق أذربيجان المهددة بالغزو هي كذلك، فقد آثر الصلح وراسل سويدا فيه، فتوادعا وتصالحا على طبرستان وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم.
تجاور أذربيجان طبرستان من الغرب، ويتاخم شمالها بلاد الديلم، كما يتاخم جنوبها بلاد العراق الغربي وبلاد الجزيرة، وكانت أردبيل الواقعة على مقربة من مكان تبريز اليوم أجل مدنها، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار، وكلمة أذربيجان بالفارسية معناها أرض النار أو معابد النار، وإنما أطلق على هذا الإقليم هذا الاسم لكثرة معابد النار التي كانت قائمة في ذلك الحين به، فلما خمدت في الفرس عبادة النار ودان أهلها بالإسلام أبدل اسم أذربيجان باسم مازندجران.
بينما كان سويد بن مقرن يسير في جرجان وفي طبرستان ويعقد الصلح مع أهلهما كان أخوه نعيم ينظم شئونها مستعينا بالزينبي الذي أقامه واليا عليها، فلما اطمأن إلى أمرها أمد عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله اللذين سارا بأمر عمر لإخضاع أذربيجان بسماك بن خرشة الأنصاري في قوة من غزاة الري، وإن بكيرا ليتقدم في قواته إذ لقيه إسفنديار بن الفرخزاد عائدا في جنوده من هزيمة واج روذ، فالتحم الفريقان في قتال عنيف انتهى بإسفنديار إلى الهزيمة والأسر، ولم يقتله بكير بل أمسكه عنده، ذلك أن إسفنديار قال له: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ وأجاب بكير: بل الصلح، فاستطرد القائد الفارسي قائلا: فأمسكني عندك، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجئ إليهم لم يقيموا لك وجلوا إلى الجبال فتحصنوا إلى يوم ما. وتحطمت مقاومة أذربيجان حين تقدم عتبة بن فرقد إلى حيث عسكر بهرام أخو إسفنديار فهزمه وألجأه إلى الفرار، عند ذلك صالح عتبة إسفنديار عليها وأعطاه كتابا بالأمان لأهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.
كان طبيعيا أن يتابع المسلمون مسيرتهم في شمال فارس حتى لا يبقى به لمقاومة أثر، وكان على بحر قزوين إلى جانب أذربيجان فرضة يقال لها الباب أو باب الأبواب، وكانت محصنة، قد وضعت على أفواهها سلاسل فلا مخرج لسفينة منها ولا مدخل لسفينة إليها إلا بإذن، وكان أمير الباب يدعى شهربراز، فلما عرف مقدم المسلمين كتب إلى أميرهم عبد الرحمن بن ربيعة واستأمنه، ثم لقيه وقال: «إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة، ولست أنا من القبج ولا من الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا منكم، ويدي مع أيديكم، وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون، فلا تذلونا بالجزية فتوهنونا بعدوكم.» فبعث به عبد الرحمن إلى سراقة بن عمرو، وكان الأمير على الجيش، فأعاد عليه شهربراز حديثه، وقبل منه عبد الرحمن فأعفى من يقوم مع المسلمين في حرب العدو، أما من أقام ولم ينهض فعليه الجزاء، وصار ذلك سنة فيمن يحارب العدو من المشركين، وقد كتب به سراقة إلى عمر بن الخطاب فأجازه وحسنه.
فرغ سراقة من الباب فوجه قواده إلى الجبال المحيطة بها، فرضي أهلها الجزية دون قتال؛ إلا موقان، فإنها تحصنت من بكير ففضها على أهلها، ثم تراجعوا على الجزية، وفي هذه الأثناء مات سراقة واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج عبد الرحمن يريد غزو الترك، فقال له شهربراز: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب، وأجابه عبد الرحمن : لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم! وسأله الأمير الفارسي عن هؤلاء الأقوام من هم؟ فأجابه: أقوام صحبوا رسول الله ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية؛ فازداد حياؤهم وتكرمهم، فلا يزال هذا الأمر لهم دائما، ولا يزال النصر معهم، حتى يغيرهم من يليهم، وحتى يلفتوا عن حالهم، على أنه لم يمض في فتح الترك إذ جاءته الأنباء بوفاة عمر، وكان أهل هذه المنطقة قد اعتصموا من المسلمين بالجبال، فعاد عنهم زمنا ثم عاد إلى غزوهم في عهد عثمان.
ها قد رأيت كيف تحطمت مقاومة الشمال الفارسي كله بعد همذان والري، وكيف كان ملوكه ومرازبته يسارعون فيطلبون الصلح فتقبل طائفة منهم الجزية، وتؤثر طائفة أن يقف القادرون من أبنائها محاربين في صف المسلمين لتعفى من ذل هذه الجزية؛ ثم رأيت سائر الولايات الفارسية، فيما وراء العراق العجمي إلى الشرق وإلى الجنوب، لا تمد إلى هذا الشمال يد معونة، أفكان ذلك غدرا بالشمال وتخليا عنه؟ أم شغلت هذه الولايات بنفسها فلم تفكر فيه؟ من حقك أن تلتمس لهذه الولايات عن قعودها عذرا؛ فقد روعها المسلمون بانتصارهم في شتى الأرجاء من مملكتهم، فشل الروع تفكيرهم في إمداد غيرهم لمقاومة قوة حالفتها الأقدار فلا تقف قوة في وجهها، ثم إن الولايات جميعها كانت تتوقع أن يغير المسلمون عليها، وتفزع إذ تتخيلهم يجتاحون أرضها، فكانت منهم في موقف الخائف الوجل يريد أن يدفع عن نفسه خطرا ما أضعف رجاءه في القدرة على دفعه، ولن يطلب أحد إلى مذعور أن يمد لغيره يد معونة وهو عاجز عن عون نفسه.
بل لم يكن توقعهم غزو المسلمين مجرد وهم يجسمه خيالهم؛ فقد كانت الأحوال كلها تؤيده وتجعله حقيقة تراها أعينهم ولا ينقصها إلا الزمن لتدهمهم بكل آثارها، وكيف كان لهم أن يتناسوها وقد أصبح المسلمون في خوزستان وفي العراق العجمي يجاورون ولاية فارس من شمالها، ويجاورون خراسان من غربها، فإذا تخطوا إلى فارس وإلى خراسان انفسحت أمامهم كرمان ومكران في الجنوب، وأصبح ما وراء خراسان إلى أقصى الحدود من أرض الفرس ميدانا لانسياحهم، وقد اعتاد الفرس أن يروا غزاتهم ينحدرون إليهم ويجتاحون أرضهم كأنهم القدر النازل لا محيص منه ولا سبيل لاتقائه، بل لقد ذكر أهل ولاية فارس ما أصابهم منذ سنين حين تخطى العلاء بن الحضرمي خليج فارس على السفن إليهم، وما كان بينه وبينهم من قتال أعانتهم الأقدار يومئذ فيه، ترى أتعينهم الأقدار اليوم كما أعانتهم بالأمس؟ أم ينحدر المسلمون إليهم من البصرة ويتخطون إليهم الخليج الفارسي من البحرين، ثم يجتاحون أرضهم كما اجتاحوا العراق وخوزستان وأصفهان والري وغيرها من أراضي الملك الأعظم؟
لم يكد نعيم بن مقرن يفتح الري حتى أذن عمر للأمراء الذين عقد لهم الألوية أن ينساحوا في أرض الفرس كلها، فاندفعت القوات المعسكرة بأصفهان إلى خراسان وتدفقت قوات من البصرة ومن البحرين إلى فارس وكرمان، وسارت الأمداد من بلاد العرب تعزز الجيوش المنتشرة في مختلف الأرجاء من أرض كسرى، ولا يشك عمر في أن الله سيفتح عليه هذه الأرض جميعا ويورثها المسلمين، فهو لا يريد أن يدع للفرس متنفسا تجتمع في أثنائه كلمتهم أو تفكر في أثنائه ولاية في أمر غيرها، وكذلك أصبحت بلاد كسرى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مسرحا لحرب عوان كانت جيوش المسلمين في كل غزواتها قلة أبدا، ثم كانت مع ذلك منتصرة فيها جميعا، وكان الملك الشريد كسرى يزدجرد يتتبع أخبار هذا القتال حيثما كان من منازل فراره فلا يرى لنفسه ملجأ يأوي إليه ليستقر فيه، بل يضطر إلى النقلة من ملجأ إلى ملجأ، والاعتصام بمدينة بعد مدينة، فتنفضه الملاجئ كلها فلا يجد في مدينة عاصما، فيستأنف الفرار والنقلة حتى يخرج من بلاده كشر ما يخرج مليك طريد يلتمس النصرة من قوم غير قومه، وناس غير أهله.
اندفع المسلمون من البحرين ومن البصرة لغزو ولاية فارس، فركب عثمان بن أبي العاص الثقفي السفن عابرا الخليج الفارسي إلى جزيرة أيزكاوان فاستولى عليها، ثم تخطاها إلى أرض فارس، فسار بجنوده إلى مدينة توج الحصينة يحاصرها، هناك ألفى مجاشع بن مسعود وقد انحدر من البصرة فاستوقفه الفرس عند توج، وقاومت المدينة الحصينة هذه القوات المتدفقة إليها من الشمال ومن الغرب ما استطاعت فلما طال بها الحصار وهنت مقاومتها، ففتحها المسلمون وقتلوا من المدافعين عنها مقتلة عظيمة، واحتووا ما فيها وفرضوا عليها الجزية، وكذلك أذعنت توج منكسة الرأس، ولقد طالما فاخرت من قبل بأنها ردت العلاء بن الحضرمي على أعقابه.
وسار مجاشع إلى سابور وأردشير ففتحهما بعد قتال، أما عثمان بن أبي العاص فسار يريد إصطخر عاصمة هذا الإقليم ومدينته الكبرى، وجمع الهربز كل قواته للدفاع عن العاصمة العتيدة وقد عزم أن يرد غزاتها أو يموت دونها، ذلك أن إصطخر كان لها في نفوس الفرس مكانة سامية بلغت حد القدسية؛ فقد كانت أول عاصمة للفرس حين نزلوا هذا الإقليم من أرض إيران، كما كانت موطن الساسانيين أكاسرة الفرس في الزمن الذي نتحدث عنه، فساسان جد الملك أردشير الأول كان قيما على بيت نار في إصطخر يقال له: بيت نار الإلهة أناهيذ، وكانت المدينة بعد قيام الساسانيين تعد مركزا دينيا للدولة؟ ثم ظلت عاصمتها زمنا غير قصير، وبها لذلك مقابر الكثيرين من ملوكها، لا عجب وذلك شأنها أن يجمع الفرس جموعهم لصد غزاتها، وأن يعقدوا العزم على الاستماتة في الدفاع عنها.
وتجاور إصطخر موقع برسوبوليس القديمة عاصمة هذا الإقليم في عهد الأكمينيين الذين سبقوا بني ساسان، فالصخور التي دفن بها بعض الملوك الساسانيين بإصطخر تجاور مقابر من قبلهم من ملوك الأكمينيين ببرسوبوليس، والراجح أن إصطخر أنشئت عقب اضمحلال برسوبوليس في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر؛ ولذلك استخدمت أطلالها في بناء كثير من عمائر المدينة الجديدة، وأسرعت إصطخر بعد بنائها إلى النماء والازدهار إذ أصبحت العاصمة الرسمية لدولة بني ساسان، ثم أدى مركزها الديني إلى أن تقام بها أفخم العمائر، وصف المقدسي مسجدها الكبير وذكر عمده الكثيرة الهائلة ورءوسها الضخمة المنقوشة على صورة رأس الثور، وروى أن هذا المسجد كان بيت نار في العهد الغابر، استعملت في بنائه مواد أخذت من برسوبوليس، وقد أشاد المقدسي بعظمة الجسر المقام على النهر في إصطخر كما اشاد بجمال حدائقها الغناء، وكانت الجبال التي تجاورها غنية بالمعادن المختلفة، فكان ذلك سببا في زيادة نمائها وازدهارها.
جمع الهربز كل قواته للدفاع عن المدينة العتيدة، وخرج إلى ظاهرها بضاحية جور، وهناك لقيه عثمان بن أبي العاص فانتصر عليه ورده إلى أسوار إصطخر، وتحصنت القوات بالمدينة وقاومت المسلمين مقاومة عنيفة، لكن الأمداد كانت تصل تباعا إلى المسلمين فتزيد الحصار على الفرس ضيقا، وطال بالهربز وجنوده ما يلاقون من شدة هذا الحصار فوهنت عزائمهم، وفتحت المدينة أبوابها، ودخلها المسلمون فقتلوا حماتها وأصابوا منها ما شاءوا وفر من أهلها من فر، ثم دعا ابن أبي العاص الناس إلى الجزاء والذمة فعادوا وعاد الهربز، ونزلوا جميعا على حكم الغزاة.
وبلغ عثمان أن بعض المسلمين أخذ من المغنم لنفسه قبل قسمة الفيء، فقام في الناس فقال: «إن الله إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم، فاحفظوها؛ فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، فإذا فقدتموها جدد لكم كل يوم فقدان شيء من أموركم.» وجمع عثمان الفيء وكان عظيما، فخمسه وبعث إلى الخليفة بخمسه، وأكبر عمر فعال عثمان فأقامه واليا على البحرين.
ترى أأذعنت إصطخر لما أصابها عن رضا ونزلت على حكم القدر؟ كلا! بل بقي ماضيها المجيد يصور لها هول ما أصابها ويحرك دخيلتها فلا تفتأ الحين بعد الحين تضطرب بنذر الثورة والانتقاض، وقد انتقضت بعد قليل من صلح الهربز مع ابن أبي العاص ثم انتقضت كرة أخرى في عهد عثمان بن عفان، فكان نصيبها في المرتين أن ردت إلى الطاعة وأكرهت على احترام العهد،
ومما ساعد انتقاضها في المرة الأولى أن شهرك ملك فارس كان قريبا من كسرى في مقره بكرمان، فلما عرف ما أصاب إصطخر بعث يحرض أهلها ويبذر بذور الثورة في الإقليم كله، ويذكر الناس بمواقفهم المجيدة قبل سنين قليلة حين جاء العلاء بن الحضرمي من البحرين يحاول غزوهم، وانتقضت إصطخر، وانتقض في فارس كل مكان استطاع الانتقاض، وتابعوا شهرك وانضموا إلى لوائه، وسار الحكم بن أبي العاص أخو عثمان للقاء شهرك، فنزل في توج وحصنها واتخذها مقر قيادته، وجعل يغير منها على ما حوله من المدن ثم يعود إليها يسوق أمامه مغانمه، ولم تسلم أقاليم سابور وأردشير وأرجان وإصطخر من هذه الغارات، وأثارت فعال المسلمين شهرك فسار بقواته يلقى الحكم بتوج، واستبقى في مؤخرته كتيبة أمر رجالها بقتل كل فارسي يرتد عن الميدان، والتقى هو والحكم في موقعة حامية ظلت متأججة الوطيس زمنا غير قليل، ولا يعرف أحد لمن يكون النصر فيها، على أن غبارها ما لبث أن تكشف عن انتصار المسلمين وفرار الفرس ومقتل شهرك وابنه، وكان لهذه المعركة من الأثر أن حطمت ما بقي من قوة معنوية في نفوس الناس، حتى لقد انتقل عثمان بن أبي العاص من البحرين لنجدة أخيه فكان يسير من هذا الإقليم الفسيح حيث شاء فلا يلقى مقاومة تذكر.
ويذكر البلاذري أن أبا موسى الأشعري سار بأمر عمر من البصرة، وأنه انضم إلى عثمان بن أبي العاص في هذه المرحلة من قتال فارس، ففتح معه أرجان صلحا على الجزية والخراج، ثم فتحا شيراز على أن يكون أهلها أهل ذمة يؤدون الخراج إلا من أحب منهم الجلاء، وألا يقتلوا ولا يستعبدوا، كما فتحا سينير من إقليم أردشير وتركا أهلها عمارا للأرض، وأتى عثمان بن أبي العاص درابجرد، وكانت منزل علم ودين لأهل فارس، فصالحه الهربز عنها على مال أعطاه إياه، وعلى مساواة أهلها بغيرهم ممن فتحت بلادهم بفارس، ثم صالحه مثل هذا الصلح على مدينة فسا القريبة من درابجرد.
يخالف الطبري ومن أخذ عنه، رواية البلاذري في فتح فسا ودرابجرد، ويذكرون أن سارية بن زنيم هو الذي قصد إلى هذين البلدين، فلما انتهى إلى عسكر الفرس بهما نزل عليهم وحاصرهم وأطال حصارهم، فاستمدوا فاجتمع إليهم أكراد فارس وأتاهم الفرس من كل جانب، فلما صاروا في قوة لا قبل للمسلمين بها عزموا مهاجمتهم في غدهم، ورأى عمر بن الخطاب تلك الليلة فيما يرى النائم انبلاج الصبح وابتداء المعركة وموقف الفريقين وعددهم، وأن المسلمين بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن لجئوا منها إلى جبل هناك جعلوه خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد فكان ذلك أكفل لنصرهم، فلما أصبح وكان في الساعة التي رأى فيها ما رأى أمر مناديه فنادى، الصلاة جامعة، ثم قام في الناس فقال: أيها الناس: إني رأيت هذين الجمعين وأخبرهم بما رأى، ثم صاح وهو يخطب: يا سارية بن زنيم! الجبل، الجبل، ثم أقبل على الناس وقال: إن لله جنودا، ولعل بعضها أن يبلغهم!
في تلك الساعة أجمع سارية ومن معه على الاستناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا الفرس من وجه واحد فظفروا بهم وقتلوا منهم، واستولوا في المغانم على سفط فيه جواهر استوهبه سارية من الجند وبعث به وبالفتح إلى عمر، وبلغ رسول سارية المدينة، فألفى عمر يطعم الناس فأكل معهم فلما انصرف تبعه الرجل إلى داره، فظن عمر أنه لم يشبع فأدخله معه، وجيء بغذاء الخليفة، خبز وزيت وملح جريش، فنظر عمر إليه ونادى امرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ فقالت: إني لأسمع حس رجل، فقال عمر: أجل! فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غير هذه الكسوة! ورد عليها عمر: أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت علي وامرأة عمر؟! وأجابته أم كلثوم من خدرها إجابة عتب بل سخط: ما أقل غناء ذلك عني! فالتفت عمر للرجل فقال: ادن فكل، فلو كانت راضية لكان غداؤنا أطيب مما ترى!
فرغ عمر من طعامه، فذكر له الرجل أنباء سارية فسري عنه، ثم ذكر له نبأ السفط وأن سارية استوهبه من المسلمين وجعله لأمير المؤمنين، فتجهم وصاح به؛ لا ولا كرامة، حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم؛ وفتح الباب يطرد الرجل من بيته واعتذر الرجل وذكر أنه أنضى بعيره، فأبدله عمر بعيرا من إبل الصدقة، وجعل بعيره مكانه، ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما.
هذه رواية الطبري ومن أخذ عنه في فتح فسا ودرابجرد، وهي الرواية المشهورة فإن تكن هي الصحيحة فمن حقك أن تسأل: أثم صلة بين صيحة عمر يا سارية الجبل، وبين استناد سارية وأصحابه إلى الجبل في تلك اللحظة؟ أم هي مصادفة بحتة، فعمر في شغله بشئون المسلمين الذين يقاتلون في فارس قد رأى في نومه ما رأى، وسارية في موقفه الحربي، قد استند بجنده إلى الجبل؟ تجرى رواية بأن أهل المدينة سألوا رسول سارية إذ كان بين أظهرهم: هل سمعوا بفارس شيئا يوم الوقعة، فقال: نعم! سمعنا: «يا سارية الجبل الجبل.» وقد كدنا نهلك: فلجأنا إليه ففتح الله علينا، ولا أراني أجد تفسيرا علميا يقنعني بهذه الرواية، فالوحي قد انتهى بوفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والإذاعة اللاسلكية لم تكن معروفة، بل لم تكن تجري في خيال أحد ذلك العهد، ولست أستطيع أن أقطع بأن الأمر جاء من طريق انتقال الأفكار، وأن نفحة من روح عمر تسلطت على نفس سارية، فكان ينفذ أمر الخليفة كما ينفذ النائم في التنويم المغناطيسي أمر منومه، ومع ذلك فهذا التأويل الأخير، على تعذر تصوره، أدنى إلى تفسير هذه الرواية إن صحت، وفي هذه الحالة يكون سارية، إذ أمر أصحابه أن يستندوا إلى الجبل، قد ذكر لهم أنه سمع هذا الأمر في صوت من السماء.
بينما كانت جنود ابن أبي العاص تسير في إقليم فارس كان سهيل بن عدي يغزو كرمان، وكان الحكم بن عمرو التغلبي يغزو مكران، ولم يثبت أهل كرمان للمسلمين ففتحوا بلادهم وغنموا منهم من الإبل والشاء ما شاء الله أن يغنموا
6
أما أهل مكران فتحصنوا بنهر مكران، ودارت بينهم وبين غزاتهم معركة عظيمة انتهت بظفر المسلمين الذين أمعنوا في عدوهم قتلا ثم اتبعوهم يقتلونهم أياما حتى انتهوا إلى النهر، ثم رجعوا فأقاموا بمكران، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث إليه بالأخماس وفيها فيلة مع صحار العبدي،
7
فأمر عمر ببيع الفيلة وقسم أثمانها على الفاتحين.
كان يزدجرد بكرمان حين سار المسلمون إليها يفتحونها، فلما رآها لا تقاوم أكثر مما قاوم غيرها، فر منها إلى خراسان وأكبر رجائه أن يثبت أهلها وأهل سجستان للمسلمين، وإنما بعث إلى نفسه هذا الرجاء أن خراسان وسجستان كان بينهما وبين البصرة والكوفة وغيرهما من مسالح المسلمين آماد غير قليلة؛ فليس إرسال الجنود لغزوهما يسيرا كإرسالها إلى العراق العجمي، أو إلى فارس وكرمان.
تقع سجستان إلى الشمال من مكران، وكان عمر بن الخطاب قد عقد لواءها لعاصم بن عمرو، فقصد إليه ولحقه عبد الله بن عمير بها، ولقي أهل سجستان غزاتهم على تخوم بلادهم، فلم يثبتوا لهم بل انسحبوا إلى الداخل وتحصنوا بزرنج عاصمتهم، وحصرهم المسلمون بزرنج، ثم بثوا كتائبهم تغير على ما حول العاصمة وتغنم وتسبي، وأيقن المدافعون عن زرنج أن طول الحصار أضر بإقليمهم، فطلبوا الصلح على أن تكون مزارع سجستان حمى لا يطؤها المسلمون، وقبل المسلمون ما طلبوا، ثم كانوا إذا ساروا تحاموا الأرض خشية أن يصيبوا منها شيئا فينقضوا العهد، فتقوم لأهل سجستان الحجة عليهم فلا يدفعوا الخراج، وبذلك حفظ كل من الفريقين عهده وقام بواجبه.
كيف أسرعت سجستان إلى التسليم وهي فيما يقول المؤرخون: «أعظم من خراسان وأبعد فروجا، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة»؟ أيسر التعليل أنهم رأوا كسرى يسرع إلى الفرار كلما رأى جيوش المسلمين مقبلة على مكان يقيم به، فكان طبيعيا أن يقتدوا به وألا يقاوموا مقاومة تجر عليهم النكال، فلم يقاومون والملك الأعظم لا يقاوم! ثم لم يضحون بأرواحهم، والملك الأعظم لا يضحي براحته!
ترى أيقاوم الملك الأعظم في مقره الأخير بخراسان؟ لم يكن له إلا أن يفعل! فلو أنه فر من خراسان كما فر من حلوان ومن الري ومن أصبهان ومن كرمان لما بقي له في أرض فارس ملجأ، ولكان بين أن يسلم نفسه لأعدائه وينزل على حكمهم كما فعل الهرمزان، أو يتخطى تخوم بلاده إلى بلاد التتار أو بلاد الصين، فيقيم في حماية عاهلها يلتمس منه العون، فإما أعانه فنصره على عدوه فرده إلى ملكه ، وإما تباطأ عنه فقضى في مقره حياة عار ومذلة لا نجاة له منها إلا أن يموت بائسا حزينا.
كان يزدجرد مقيما بمرو حين تخطى الأحنف بن قيس تخوم خراسان على رأس القوات التي عقد له عمر بن الخطاب لواءها، وخراسان بلاد واسعة؛ تتاخم العراق العجمي من الغرب، وأفغانستان والهند من الشرق، وتقع كرمان وسجستان إلى جنوبها وتمتد في الشمال إلى أقصى تخوم إيران، ومن أمهات مدنها نيسابور وهراة ومرو وبلخ، وكانت خراسان في ذلك العهد ذات ثروة زراعية، كما كانت تصنع بها المنسوجات القطنية والحريرية النفيسة، وقد طمع يزدجرد حين أقام بها يحرض أهلها، في أن تصد الغزاة عما بقي له من أرض آبائه وأجداده، ونسي أو تناسى أنه جمع قوات فارس كلها وقذف بها إلى نهاوند، فدارت الدائرة عليها، وحطمها المسلمون هناك كل محطم.
والواقع أن المؤرخين المسلمين لم يبالغوا حين سمو غزوة نهاوند فتح الفتوح؛ فلم يكن الفرس يثبتون بعدها للمسلمين في الوقائع الكثيرة التي دارت في شمال فارس وفي جنوبها، ولم تكن خراسان أكثر من غيرها ثباتا، دخلها الأحنف بن قيس من الطبسين، فلم يلق مقاومة تذكر حتى بلغ هراة، وهراة مدينة عظيمة قائمة في قلب خراسان، تحف بها الجبال من كل جانب، وتتشعب المياه في دورها وطرقاتها، ولها تجارة واسعة جعلتها من أكثر المدن رخاء وثروة، وأتاحت لها أن تحتفظ داخلها بأقوات تكفيها الشهور الطوال، ثم إنها كانت إلى مناعة موقعها الطبيعي، محصنة تحصينا زادها منعة، فكان بها حصون كثيرة تحيط بها، وسور يرد غائلة المعتدين عليها، مع هذا كله لم يطل وقوف الأحنف بن قيس أمامها، بل فتحها عنوة فدانت له وصالحته.
كان سقراط هراة نذيرا بسقوط خراسان كلها، وقد خلف الأحنف فيها كتيبة من جنده، وبعث بقوات إلى نيسابور وإلى سرخس، وسار بنفسه على رأس الجيش يريد مرو الشاهجان حيث يقيم يزدجرد، ومرو هذه تقع إلى شمال هراة وتقع نيسابور بينهما، وكانت مرو عاصمة خراسان ومدينتها الكبرى، لكن موقعها الطبيعي لم يكن في مناعة موقع هراة؛ فقد كانت في أرض مستوية بعيدة عن الجبال، وكانت المياه والأقوات حولها وفيرة ميسورة؛ لذلك لم يلبث يزدجرد حين سمع بمسيرة الأحنف إلى مرو أن خرج إلى مرو الروذ، وهي مدينة قريبة منها، تقوم على نهر عظيم يمكن التحصن به، لكن الأحنف لم يمهله حتى يتحصن، فقد جاءته أمداد من الكوفة استطاع بها أن يتابع مسيرته، وأن يزعج كسرى مرة أخرى، فيخرج من مرو الروذ إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ثم اتبعهم الأحنف حين حاصروا المدينة القائمة على تخوم فارس وطخرستان، وكان طبيعيا ألا تقاوم بلخ أكثر مما قاومت هراة أو مرو، وكان طبيعيا أن يفر يزدجرد منها، فهو قد جعل الفرار أمام المسلمين دأبه وديدنه، ودخل الأحنف بلخ على رأس جند الكوفة، فلما اطمأن إلى إذعانها أقام ربعي بن عامر عليها وعلى ما حولها، وعاد هو فنزل مرو الروذ واتخذها معسكرا لجنده ومقرا لقيادته.
لم يبق ليزدجرد في أرض مملكته موضع يقر فيه أو يفر إليه؛ لذلك فر هذه المرة مجتازا النهر الذي يفصل بين فارس وأرض التتار، فنزل بسمرقند على خاقان الترك لائذا به لاجئا إليه، وكان قد كتب إلى خاقان الترك وإلى إمبراطور الصين، منذ كان بمرو الشاهجان يستمدهما ويستعديهما على المسلمين، فأبطأ رسله إليهما ولم يعودوا إليه من عندهما بجواب، فلما دفعه المسلمون فلجأ إلى خاقان الترك، دفعت النخوة هذا الأخير لنجدته، ولعل خاقان الترك رأى في تقدم المسلمين ما يهدد ملكه، فآثر أن يصدهم قبل أن يجتازوا إليه أرضه، واتخذ من لجوء كسرى إليه حجة يحرك بها نخوة قومه، وحشد خاقان جنده وحشد معهم أهل فرغانة والصفد، وسار بهم وبيزدجرد يلقى المسلمين بخراسان.
كان الأحنف بن قيس قد كتب في هذه الأثناء إلى عمر بفتح خراسان وغلبته على المروين وبلخ، فلما قرأ عمر كتابه تهلل وجهه وصاح: هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق! لكنه ما لبث، بعد هذا الإعجاب بقائده الظافر، أن عاد إلى التفكير فيما يجب أن يعقب هذه الخطوة، فعاوده حذره فقال: «لوددت لو أني لم أكن بعثت إلى خراسان جندا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار!» وخشي أن يتقدم الأحنف بجنوده إلى ما وراء خراسان من أرض المشرق، كما خشي أن تأخذ المسلمين نشوة الظفر فتطغيهم فيعيثوا في الأرض فسادا، فكتب إلى الأحنف يقول له: «أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر، وإياكم أن تعبروا فتنفضوا!»
وقد كان لهذا الحذر من جانب عمر ما يسوغه؛ فقد اتسعت رقعة الفتح في الشرق فتناولت أرض فارس كلها؛ وقد طالت خطوط المسلمين وتوزعت قواتهم في أرجاء الشام والعراق وفارس، ولا يأمن الخليفة انتفاض بعض هذه البلاد على نحو ما حدث إذ حصر أبو عبيدة بحمص، هذا إلى أن التقدم فيما وراء فارس قمين أن يثير به التتار والمغول دفاعا عن أنفسهم وعن بلادهم، فمن الخير ومن حسن الرأي أن يقف الفتح زمنا حتى يستتب الأمر ويطمئن أهل البلاد المفتوحة إلى حكم المسلمين، ومن الخير لذلك ألا يتقدم الأحنف أو غير الأحنف من أمراء الجند إلى ما وراء تخوم فارس.
دلت الحوادث من بعد على أن عمر كان حصيف الرأي، بعيد النظر في حذره؛ فقد سار خاقان الترك في جنده ويزدجرد إلى جانبه فعبروا النهر إلى بلخ، واضطروا جند الكوفة أن يتراجعوا إلى مرو الروذ، وأن ينضموا إلى الأحنف وجنده، وتعقبهم خاقان في تراجعهم وقد زاد عدد جنده بمن انضم إليهم من الفرس، وبلغ مرو الروذ في جمع عظيم مزعج، ورأى الأحنف دقة الموقف لكثرة عدوه، كما رأى أنه إن تم له النصر فردهم إلى بلخ وإلى ما وراء النهر لم يكن له أن يعبره، فذلك رأي أمير المؤمنين، لهذا رأى أن ينسحب بجنوده إلى موضع يجري نهر مرو الروذ أمامه، ويقوم جبل خلفه، حتى يكون النهر خندقا بينه وبين عدوه، ويكون الجبل حصينا يكفل له ألا يؤتى من خلفه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: «إنكم قليل وإن عدوكم كثير فلا يهولنكم، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم وقاتلوهم من وجه واحد.» وانسحب الجند إلى هذا المكان، وأقبل الترك فوقفوا قبالتهم.
لم يكتف الأحنف بما صنع من ذلك، بل حرص على أن يعرف الترك وخاقانهم أمر عمر ألا يجتاز المسلمون النهر إلى بلادهم، فبعث دسيسا أذاعوا هذا النبأ فيهم، واطمأن خاقان إلى صحة النبأ حين رأى المسلمين لا يحاولون اجتياز النهر إليهم ولا يدعونهم لقتالهم، فقد أقام الجيشان أياما والترك يغادون المسلمين ويراوحونهم، فإذا جاء الليل تنحوا عنهم، ثم لا يخرج المسلمون إليهم، وبعث الأحنف عيونه فدلوه على مكان القوم بالليل، ثم خرج ليلته طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من معسكر خاقان، فلما تنفس الصبح خرج فارس ثان من طليعة الترك كأنما كان يتحدى المسلمين، فبارزه الأحنف فقتله، وخرج فارس ثان من الطليعة فأورده الأحنف حتفه، وخرج ثالث فكان مصيره مصير صاحبيه.
رجع الأحنف بعد ذلك إلى عسكره وهو على تعبئة، وخرج خاقان الترك من قبته فرأى الفرسان الثلاثة الذين قتلوا، ورأى النهر بينه وبين المسلمين، ورأى الأحنف ورجاله لا يدعون لقتال، وأيقن صحة ما نمي إليه من أمر عمر فقال لرجاله: قد طال مقامنا وما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا، وارتد بالجيش حتى بلغ بلخ، وقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فأجابهم: أقيموا بمكانكم ودعوهم، بذلك ثبت في نفس خاقان الترك اليقين بأن المسلمين لا يريدون قتاله، وأنهم لن يجتازوا النهر عند بلخ إلى أرضه فازداد حرصا على ترك فارس إلى عاصمة ملكه، وترك المسلمين يصفي يزدجرد معهم حسابه.
وكان يزدجرد حين انسحب جند الكوفة من بلخ وانضموا إلى الأحنف بمرو الروذ قد فصل في قوة فارسية من بلخ إلى مرو الشاهجان، فحصر حارثة بن النعمان ومن معه من المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها، وعهد إلى أمنائه في السهر عليها فلما انسحب خاقان من مرو إلى بلخ وبلغت يزدجرد أنباء عن عزم هذا الحليف على الانسحاب من فارس كلها إلى بلاده، أراد أن يحمل الخزائن وأن يلحق بحليفه، وكانت هذه الخزائن عظيمة تحوي جواهر كسرى وكل ما جمعه من خزائن فارس في أثناء فراره، وكانت من ثم ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء، وعرف أهل فارس عزم يزدجرد على حملها والفرار بها، فسألوه: أي شيء تريد أن تصنع؟ وأجابهم، أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلا! إن هذا رأي سوء؛ فإنك إنما تأتي قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم يلون بلادنا، وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في غير بلادنا، فأبى عليهم وأبوا عليه، قالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا نخرجها من بلادنا إلى غيرها، فخالفهم يزدجرد وأصر على رأيه، فخرجوا إليه وثاروا به وقاتلوه وحاشيته، واستولوا على خزائنه، ففر فيمن معه إلى بلخ، فإذا خاقان سبقه إلى الانسحاب منها، فتابع فراره حتى بلغ فرغانة عاصمة الترك بسمرقند.
وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاهدوه، ودفعوا إليه خزائن كسرى وأمواله، ورجعوا إلى بلادهم فاطمأنوا بها، فسار الأحنف بجند الكوفة من مرو الروذ إلى بلخ فأنزلهم بها، ثم عاد إلى مقر قيادته، وقد كان ما استفاءه المسلمون في هذه المواقع عظيما، حتى بلغ نفل المحارب مثله يوم القادسية.
وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس، فأمر بالكتاب فقرئ ثم خطب الناس، فكان مما قاله:
ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا من أمره على رجل يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تبدلوا ولا تغيروا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
فر يزدجرد من أرض فارس إلى أرض الترك؛ فتم بفراره القضاء على دولة الأكاسرة من بني ساسان، مع هذا أقام في مقره سنين يداعب الأمل والغرور خياله أن يعود يوما إلى ملك آبائه وأجداده، لذا كان يكاتب من يطمئن إلى مكاتبتهم من أهل خراسان، طامعا أن تثور الأرض بالمسلمين يوما فتتاح له فرصة الثأر منهم، وقد ثارت خراسان في زمن عثمان بن عفان، فخيل إلى يزدجرد أن الفرصة تاحت، فسار من بلاد الترك حتى نزل مرو واجتمع بمن كان يكاتبهم، لكن المسلمين ما لبثوا أن قضوا على الثورة وأخذوا بيدهم زمام الأمر في الأرض التي كفرت بسلطانهم، عند ذلك رأى أصحاب يزدجرد أنه لا طاقة لهم بما يريد، فاختلفوا معه وانفضوا من حوله، فعاد يحاول الفرار والرجعة من حيث أتى، لكن الفرار لم يكن هذه المرة يسيرا؛ فقد تخلت عنه الأرض كلها، وقد بث المسلمون عيونهم من الفرس ليحيطوا به ويقتادوه إليهم أسيرا، وعرف الملك الشريد ما دبر له، فأوى إلى طاحونة على شاطئ النهر، وهناك قتل شر قتلة، قيل: إن أهل خراسان أحاطوا به في ملجئه: ثم دخلوا عليه فقتلوه وألقوا بجثته في النهر، وقيل: إن صاحب الطاحونة رأى عليه حلته فلما نام قتله، وإن الترك خفوا لنجدته فوجدوه قتل، فانتقموا له من صاحب الطاحونة وأهله فقتلوهم جميعا، ثم وضعوا جثته في تابوت وحملها بعضهم إلى إصطخر، وقيل: إن صاحب الطاحونة ذهب إلى أمير مرو فأخبره خبره، فعرفه وقال لجنده: اذهبوا فجيئوني برأسه، فدخل عليه الطحان فقتله وحز رأسه ودفع بها إلى الجند ورمى بجثته في النهر، وأيا ما صح من هذه الروايات فكلها تتفق على أن سليل الأكاسرة العظام قتل وهو في ملجئه عند ذلك الطحان، وبمقتله انتهت دولة الأكاسرة من بني ساسان.
تم فتح فارس وفرار يزدجرد في عهد عمر، فهل ترى أذعن الفرس لحكم المسلمين من أول الأمر عن طواعية ورضا؟ لا ريب في أنهم رأوا هذا الحكم أكثر إنصافا ومعدلة وأقل إرهاقا لهم من حكم الأكاسرة؛ فقد تركهم العرب لم يزعجوهم عن دينهم ولم يتدخلوا في شئونهم، ثم جعلوا لأمراء الولايات من الاستقلال أكثر مما كان لهم في عهد يزدجرد وأسلافه، كما تركوا المناصب العامة للفرس لم يحاولوا استغلالها لأنفسهم مكتفين بالجزية يقتضونها وفاقا للمعاهدات المعقودة بينهم وبين مختلف الولايات، لكن أبناء فارس لم يلبثوا أن شعروا بما في حكم الأجنبي من مذلة لهم وعار عليهم، وأن أدركوا ما يحتويه نص ورد في المعاهدات كلها من جرح لشعورهم وإذلال لكرامتهم؛ فقد جاء في الفقرة الأخيرة من صلح أصبهان: «ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه.» وكان صلح الري يلزم أهلها بأن «يقروا المسلمين يوما وليلة، وأن يفخموا المسلم، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل.» ونص صلح جرجان على أن «من سب مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه.» أفيغني ترك الفرس أحرارا في دينهم، وعدم التعرض لهم في التمتع بأموالهم عن الكرامة المهدورة والدم المباح كلما استخف فارسي بمسلم أو سبه أو ضربه؟! لذلك بدأ الفرس ينتقضون بعد قليل من استقرار المسلمين بينهم، مما اضطر عثمان إلى إرسال القوات المسلحة الحين بعد الحين لتأديبهم.
ولم يكن تأديبهم وردهم إلى الطاعة عسيرا؛ فلم يكن عمر قد فاته أن أمة عريقة في الحضارة والمجد كأمة الفرس لن تذعن من بادئ الأمر لسلطان الأجانب عنها، فأقام المسالح في شتى أرجائها، واحتاط بذلك لكل انتقاض يمكن أن تقوم به طائفة من أبنائها، وقد كان عمر في هذا الأمر كما كان في كثير غيره حصيفا بعيد النظر، فالشعور بالكرامة أقوى أثرا في النفس من كل شعور، ولن يستطيع كبحه إلا قوة تضطر الثائر، لمهانة نزلت به، أن يختار بين كرامته وحياته، وتجعل الشعور بالكرامة وغريزة الاحتفاظ بالحياة يقفان وجها لوجه، وقد كان لهذه الوقفة أثر بعيد في حياة الشعب الفارسي أدت به إلى أن يدين بالإسلام، ثم كان له من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.
فقد رأى العقلاء من أبناء فارس سمو الإسلام، ثم رأوا أن لا نجاة لكرامتهم مما نصت عليه المعاهدات إلا أن يدينوا بدين الحاكمين، وأن يندمجوا فيهم جهد طاقتهم، وأن يستردوا بذلك سلطانا لم تمكنهم الأسلحة في حمى يزدجرد من الاحتفاظ به، ولم يبلغ تعصبهم لدينهم أن يمنعهم من أن ينعموا بمزايا الإسلام، وأولها أن يصيروا بمجرد إسلامهم أندادا للحاكمين يساوونهم ويصاهرونهم، ثم إنهم حرصوا بعد إسلامهم على أن تسود عقيدتهم القديمة في أمر السلطان، فبلغوا من ذلك ما أرادوا أو نحوا منه، جاء في كتاب «تاريخ المؤرخ» الذي نشرته «الإنسيكلوبيديا بريتانيكا» في هذا الموضوع ما خلاصته:
دخل الفرس في الإسلام أفواجا عقب الفتح، ولذلك أسباب كثيرة يمكن ردها جميعا إلى سببين اثنين؛ أولهما: أن الإسلام كان دين الحاكمين، والثاني: أن الفرس لم يكونوا يعنون إلا قليلا بالدين الرسمي للدولة السابقة، هذا إلى أن العقيدتين كانتا تلتقيان في مواضع كثيرة، فلم يكن الانتقال من إحداهما إلى الأخرى ليثير نفوسا تزعزع إيمانها بعقيدتها الأولى؛ فقد ضعف إيمان الفرس بتعدد الآلهة، وأصبح تصورهم أرمزد قريبا من فكرة الألوهية الإسلامية، ثم إن بساطة العقيدة العربية كانت منجاة للفرس من تعقيد الشعائر المزدية، وكانت الزكاة المفروضة في القرآن تقابل بل تسمو على ما تدعو إليه «الأفيستا» من الصدقة والإحسان، أما ما جاء في القرآن عن الجنة والنار وعن الآخرة فكان مذكورا في كتبهم، بذلك لم يغير الإسلام في نظر الشعب الفارسي شيئا من عقائده الأساسية إلا أن جاءه باسمين جديدين: الله ومحمد، وأن أحل الكلمات الثمان التي تعتبر قواعد الإسلام محل الكلمات الإحدى والعشرين التي تقوم عليها عقيدة الفرس.
كان لهذا الانتقال الديني أثره في الناحية السياسية، فالعقيدة الفارسية تجعل السلطان للملك على أنه ابن الله، فله المجد والقدسية بحكم مولده الأسمى، وقد أدت ثورة الفرس وانتقاضهم على سلطان المدينة وسلطان دمشق إلى اجتماعهم حول الوارث الشرعي لمحمد: ابن عمه علي العربي الذي أقصي عن الخلافة، وإلى أن يحيطوه بهالة من الجلال والقدسية ألف أسلافهم أن يحيطوا بها ملكهم القومي، وكما ألف أسلافهم أن يلقبوا كسرى: «الملك المقدس ابن السماء.» وأن تصفه كتبهم بأنه «السيد والمرشد.» كذلك فعلوا في عهدهم الإسلامي فدعوه الإمام، وكان هذا اللقب على بساطته جليل المعنى إذ جمع صاحبه السلطان الدنيوي والتوجيه العقلي.
فلما قبض علي اجتمع الفرس حول ولديه الحسن والحسين، ثم اجتمعوا من بعدهما حول عقبهما، وقد قيل: إن الحسين تزوج بنت آخر الأكاسرة الساسانيين، فتركزت الإمامة بذلك في عقبه بازدواج الحق المقدس، ثم بارك دم الحسين بسهول كربلاء على هذه الوحدة التي جمعت بين الإسلام وفارس القديمة.
وكانت الثورة التي خلعت بني أمية وأجلست العباسيين ذوي قرابة رسول الله على العرش من صنع الفرس، بذلك حققوا مبدأهم في الإمامة، وإن لم يتوجوا بالسلطان من بذلوا كل جهدهم في سبيل تتويجه ... إلخ.
هذه الحوادث التي يذكرها «تاريخ المؤرخ» ويذكرها المؤرخون جميعا، تتخطى عهد عمر، وإنما سقناها هنا لنلفت القارئ إلى أن الفرس لم تطمئن نفوسهم لحكم العرب، بل برموا به وحاولوا الانتقاض عليه جهرة من أول الأمر، فلما غلبوا على أمرهم جعلوا كل همهم أن يكون السلطان لهم، فبلغوا من ذلك الشيء الكثير في ميادين الحياة العامة جميعا، وقد بلغ من برمهم بفتح المسلمين بلادهم أن ثارت نفوس طائفة منهم بعمر، حتى قيل: إن مقتله بعد قليل من فتح خراسان كان ثمرة لمؤامرة فارسية، وسنفصل ذلك من بعد، وحسبنا أن نقول ها هنا إن عمر كان صادقا كل الصدق حين قال يوم كتب إليه الأحنف بن قيس بفتح خراسان: «إن الله قد أهلك ملك المجوسية وأورث الإسلام أرضهم وديارهم وأبناءهم.» وأن هذا الفتح كان النذير الصادق بانتهاء دولة الأكاسرة من بني ساسان.
8
أما وقد فرغنا من فتح فارس فلننتقل إلى ميدان آخر كانت أسلحة المسلمين مشهورة فيه حين كانت أسلحتهم مشهورة في أرض كسرى، وكان لها من مجيد الفعال هناك ما كان لها من مجيد الفعال هنا، ثم كان قائدهم عمرو بن العاص أوسع قواد المسلمين حيلة وأشدهم ذكاء.
هذا الميدان الآخر هو مصر.
هوامش
الفصل الثامن عشر
التفكير في فتح مصر
بينما كانت أسلحة المسلمين تنساح في بلاد الفرس، بإمرة الأحنف بن قيس ونعيم بن مقرن وسويد أخيه وعبد الله بن عبد الله بن عتبان وغيرهم من أمراء الجند ذوي المكانة والبأس، كان عمرو بن العاص يتقدم بجنوده في مصر؛ يفتح مدنها، ويجلي الروم عنها ويديل دولتهم فيها، وقد بدأ عمرو مسيرته إلى مصر في شهر ذي الحجة للسنة الثامنة عشرة من الهجرة، وتخطى إلى أرضها في مستهل السنة التاسعة عشرة، ثم سار في قتال أهلها وقتال الروم بها حذرا أول الأمر، فلما جاءته الأمداد من الخليفة طوعت له سرعة السير وكفلت له الغلبة والنصر.
وكانت مسيرة عمرو إلى مصر بإذن من عمر بن الخطاب، لكن عمر لم يأذن بهذا السير إلا بعد تردد طويل، فالمتواتر أن ابن العاص خاطب الخليفة في غزو مصر حين فتحت بيت المقدس أبوابها، وبعد أن صالح أمير المؤمنين أهلها في السنة السادسة عشرة من الهجرة، ولعل عمرا قد ذكر في حديثه يومئذ أن قائد الروم الأطربون انسحب بقوات الروم من فلسطين إلى وادي النيل، فمن الخير تعقبه وهو منهزم قبل أن تتاح له فرصة التحصن في بلاد وافرة الخصب عظيمة الثروة؛ يستطيع أن يجد في حصونها المنيعة وفي ميرتها الوفيرة، من وسائل الدفاع وأسباب المقاومة، ما ينسي هرقل هزيمته وفراره من المدينة المقدسة، ولعل عمرا ذكر كذلك في حديثه ما تعج به مصر من خيرات ينال الروم أكثرها ولا يبقى للمصريين منها إلا القليل الذي يقيم أودهم ليعملوا في أرضها المعطاء، ولعله أعاد هذه الأحاديث غير مرة على الخليفة، وعززها بأن علاقات مصر بحكامها من الروم ليست خيرا مما كانت علاقة العراق بحكامها من الفرس؛ وأن النزاع المذهبي قد أثار على ضفاف النيل حفائظ المصريين وأضعف من حماستهم لحكامهم، إن لم يدعهم للتمرد عليهم، وهذه كلها عوامل تكفل للعرب الظفر بأعدائهم في الوادي الخصيب ، فإذا أضيف إليها ما استقر في نفوس الناس لذلك العهد من بأس المسلمين ومن أن الله معهم فلا غالب لهم، لم يبق موضع للتردد في غزو مصر ونشر لواء الإسلام فيها، ثم كان للمسلمين من ثراء مصر ومن خيراتها الوفيرة ما يضاعف حظهم من نعيم الدنيا، بقدر ما يضاعف الاستشهاد حين الجهاد حظهم من نعيم الآخرة.
سمع عمر هذه الأحاديث ومثلها غير مرة، وكان ينصت لها ويطيل التفكير فيها، فالإغراء بغزو مصر لمن استطاع غزوها قوي شديد، وأين منها العراق والشام ثروة ونضرة! وهل يحدث تاريخ في بقاع الأرض بمثل ما يحدث تاريخها، أو تنهض في المشرقين آثار في جلال آثارها! لكن عمر كان يتردد كلما حدث في أمرها، فلا يأذن لابن العاص في غزوها، فلما انتهى بعد سنتين إلى الإذن بهذا الغزو وجد جماعة من كبار الصحابة بالمدينة راغبة عنه، خاشية سوء مغبته، تحاول حمله على الرجوع عنه، ورد ابن العاص عن السير إليه.
وقد تداولت عمر أسباب متلاحقة حملته على هذا التردد، وأول هذه الأسباب أن سياسته في الفتح كانت إلى آخر السنة السابعة عشرة من الهجرة سياسة عربية بحتة؛ فهو لم يكن يريد أن يتعدى العراق والشام بعد أن ضمهما إلى شبه الجزيرة، وكان يرى أن يضمهما إليها؛ لأن القبائل العربية التي نزحت إليها طوعت للخميين والغسانيين أن يقيموا ملكا عربيا خضع لنفوذ كسرى ولنفوذ قيصر، ومن الحق أن يكون هذا الملك للعرب وحدهم، يستقلون به ويكونون أصحاب السلطان فيه، حتى يجتمع العرب في وحدة تمتد من خليج عدن والمحيط الهندي إلى أقصى الشمال من بادية السماوة، ولذلك أبى على سعد بن أبي وقاص أن يتخطى سهول العراق إلى جبل فارس، وود لو أن بين السواد والجبل سدا من نار، فلا يخلص الفرس إليه ولا يخلص هو إليهم، وقد ظل حريصا على هذه السياسة حتى لم يكن للمسلمين من قتال الهرمزان مفر، فلما جمع الفرس لهم بعد ذلك بنهاوند وأظفر الله المسلمين بهم، أمر عمر بالانسياح في بلادهم ليخرج يزدجرد منها، وليقضي على كل خارج عليه فيها.
وسبب آخر حمل عمر على التردد في فتح مصر، ذلك أن الشام لم تكن خضعت كلها لسلطان المسلمين إلى آخر السنة السادسة عشرة، وقد بقي شمالها يناوئهم ولا يستقر لهم فيه أمر حتى قضى أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد على مقاومتهم، وذلك حين بعث هرقل قواته تحملها السفن من الإسكندرية إلى أنطاكية، وحين خرج أهل الجزيرة يمدونه، ثم انتهى الأمر بهؤلاء وأولئك إلى الفرار، هذا، ثم إن قيسارية ظلت في موقعها الحصين على شاطئ البحر تقاوم قوات المسلمين وتهدد مراكزهم بفلسطين إلى أن افتضها معاوية بن أبي سفيان. لم يكن لعمر، وذلك كان شأن سورية وفلسطين إلى أخريات السنة السابعة عشرة من الهجرة أن يغامر بإرسال قواته من الشام لمواجهة الروم بمصر، أتراه يقدم على هذه المغامرة إذا فتح الله عليه الشام؟ كان يتردد في هذا، وكان يجد من عثمان بن عفان ومن غيره من الصحابة المقيمين بالمدينة من يزيده دون الإقدام والمغامرة ترددا.
فلما خضعت الشام كلها طرأ سبب جديد أبقاه في تردده؛ فقد فشت المجاعة في شبه الجزيرة وهددت أهلها بالفناء، فشغلت عمر عن التفكير فيما سواها، وكيف يفكر في غزو الروم بمصر والناس في شبه الجزيرة جياع لا يصلحون مددا لأي جند يواجه الروم أو يواجه الفرس! ولم تكد المجاعة تنقضي حتى فشا طاعون عمواس بفلسطين وامتد منها إلى الشام والبصرة، فأزعج عمر والمسلمين جميعا، حتى لقد ساورتهم الخشية من انتقاض العراق والشام بهم؛ ورجعة الفرس والروم للقضاء ثم على سلطانهم، وكان طبيعيا أن ينسى عمر في أثناء المجاعة والطاعون كل ما حدثه به عمرو بن العاص عن مصر وأن ينصرف كل الانصراف عن التفكير في غزوها.
ولزم ابن العاص الصمت في أثناء هذه الحوادث فلم يخاطب عمر في غزو مصر، لكن الأمل في إقناع الخليفة عند سنوح الفرصة لهذا الفتح العظيم ظل مع ذلك ماثلا أمامه، ولما عادت شبه الجزيرة إلى مألوف حياتها، وبرئت الشام من الوباء وجاء الخليفة إليها يصلح شئونها وينظم جندها، لقيه عمرو بالجابية وسار معه في أرجاء البلاد وعاد يحدثه في فتح مصر ويدلي إليه بحجج جديدة حسبها تزيل تردده، فلو أن المسلمين قنعوا، بعد الذي أصابهم من هول المجاعة والطاعون، بالاستقرار في البلاد التي فتحوها لظن أعداؤهم بهم الضعف، ولأغراهم هذا الظن بمهاجمتهم، وهذا الأطربون بمصر قد جمع إليه الجند وأعد للقتاء العدة، فإذا لم يجد من يهاجمه خرج في قواته إلى فلسطين يقاتل المسلمين، أليس الخير أن يفاجئه المسلمون في مأمنه؛ فالهجوم خير وسائل الدفاع؟! وإذا تقدمت قوات العرب لغزو مصر أيقن الروم أن المسلمين لا يزال بأسهم شديدا كما كان، فهابوهم ووقفوا منهم موقف المدافع، بذلك تأمن الشام رجعتهم لغزوها، وكيف لهرقل أن ينقل الجند على السفن من مصر إلى أنطاكية أو غير أنطاكية والمسلمون يهاجمونه في مصر نفسها! فإذا فتح الله مصر يوما للمسلمين وأورثهم إياها، وذلك ما يؤمن ابن العاص به، فذلك الفوز الذي لا فوز يعدله؛ وإن تكافأت القوتان فطلب الروم الصلح، أمن المسلمون جانبهم في الشام وفي جزيرة العراق، وفي سائر الأرجاء التي دانت من قبل بأسلحة أمير المؤمنين، ولا خوف من أن يهزم المسلمون في مصر وأن تؤدي هزيمتهم إلى كارثة تضيع ما كسبوا من ملك قيصر، فقد أصبحت الشام كلها حصينة بقوات المسلمين المنتشرة فيها، وبانضمام العرب من أهلها إلى بني عمومتهم في الدفاع عنها، وباطمئنان غير العرب من أهلها إلى أن المسلمين خير من الروم حكما، وأكثر منهم عدلا وإنصافا.
سمع عمر إلى هذه الحجج وقلبها في نفسه فمالت به إلى مشاركة ابن العاص في رأيه، وزاده ميلا إلى هذه المشاركة ما رآه من إيمان عمرو بالقدرة على فتح مصر إيمانا مستندا إلى منطق تتعذر معارضته، هذا إلى أن الإغراء بفتح مصر شديد؛ فقد كان عمر وكان كثيرون من العرب في عهده يعرفون الشيء الكثير عن مصر وثروتها، وعن برم أهلها بسلطان الروم وأساليب حكمهم؛ لذلك لم يرفض طلب عمرو ولكنه استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، وأقام ابن العاص ينتظر هذا الكتاب ويدبر في أثناء انتظاره خطة السير إلى مصر.
كان عمر وكان كثيرون من العرب يعرفون الشيء الكثير عن مصر، ولم يكن علمهم بها مقصورا على ما ينقله عنها من يذهبون في تجارتهم إليها من أمثال عمرو بن العاص، بل كان أوسع من ذلك مدى وأكثر دقة وإحاطة، فبين مصر وبلاد العرب صلات ترجع إلى أقدم الحقب، ذلك أن مصر كانت دولة بحرية منذ عهد الفراعنة، فكانت أساطيلها الحربية والتجارية تشق عباب البحرين الأبيض والأحمر من أقدم عصور التاريخ، وكانت سفن من هذه الأساطيل تذهب إلى الجنوب من بلاد العرب تحمل إليه التجارة وتجيء منه بمختلف السلع، وفي مقدمتها العطور والروائح التي توضع في حنوط الموميات، وكانت هذه السفن تسير وترسو من حيث تقع القصير اليوم، ثم ينقل ما تجيء به إلى مصر في طريق امتد في عهد الأسر الفرعونية الأولى بين القصير على البحر الأحمر وقفط على ضفة النيل، وقد أثبت الأثريون ما سجلته نقوش الكرنك وطائفة من المعابد المصرية من صور لهذه السفن المصرية وما تحمل من تجارة، كما أثبتوا ما سجلته نقوش الدير البحري من قيام الملكة الفرعونية «هاناسو» بشق طريق ملاحي يصل النيل بالبحر الأحمر عند خليج السويس مارا بالبحيرات المرة، وفي هذا الطريق الملاحي كانت السفن تنتقل بين البحرين الأبيض والأحمر، تحمل تجارة مصر والمغرب إلى الشرق، وتحمل تجارة مصر والشرق إلى الغرب، فكانت مصر يومئذ، أكثر مما هي اليوم، مركز التجارة للعالم المعروف كله، وكان تيسير الانتقال لهذه التجارة بعض ما يوليه ملوكها أعظم العناية.
ولم تكن الأساطيل البحرية وحدها أداة هذه الصلات القديمة المتصلة على القرون بين مصر وبلاد العرب، بل كان برزخ السويس أداة اتصال بينهما لم تنقطع في عصر من العصور، وكان في شبه جزيرة سيناء طريق عبده المصريون القدماء إلى مناجم النحاس الواقعة بها، وكان هذا الطريق يجري في شمال الحجاز حتى يتصل عند تيماء بالطريق المؤدي إلى بابل على شاطئ الفرات، وكانت بابل وكان العراق كله تابعا لمصر في عصور مختلفة؛ فكان هذا الطريق وسيلة الصلة بين البلدين في التجارة كما كان سببا لنشوب الحرب بينهما في بعض العصور.
وكان هذا الطريق الممتد من سيناء في شمال الحجاز يتصل كذلك بطريق القوافل المنحدر إلى مكة وإلى اليمن، وفي هذا الطريق كان جانب كبير من تجارة مصر وبلاد البحر الأحمر ينقل إلى اليمن وفارس، وإلى الهند وبلاد الشرق الأقصى، كما كان جانب عظيم من تجارة اليمن وفارس والهند والشرق الأقصى ينقل إلى مصر وبلاد البحر الأبيض في الطريق عينه، فكان المصريون الذين يصحبون تجارتهم يجتازون بلاد العرب أثناء سير القوافل بها، وكان العرب الذين ينقلون متاجر الشرق إلى مصر يدخلونها بقوافلهم ويقيمون بها ريثما يعودون منها بتجارة جديدة، وكان ذلك يحدث من أقدم العصور، ثم ظل متصلا مع إلف الناس البحر ونقلهم التجارة في السفن على متنه.
ومؤرخو العصور القديمة يذكرون أن هذا الاتصال أدى إلى استقرار عدد غير قليل من العرب ببوادي مصر منذ عهد الفراعنة، وإلى استقرار جالية من المصريين عند واحة على طريق القوافل، وأن هذه الجالية كانت النواة التي نشأت حولها مدينة يثرب، مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
لم تكن صلة التجارة وحماية القوافل هي وحدها التي ربطت بين العرب والمصريين في العصور القديمة، بل ربطت بينهما كذلك صلة رحم إن نسيها أهل اليمن لم ينسها أهل الحجاز، وما كان لأهل مكة بخاصة أن ينسوها، فإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أبو العرب، و«هاجر» أم إسماعيل مصرية صميمة، فقد ارتحل إبراهيم مع زوجه «سارة» من العراق إلى فلسطين ثم إلى مصر، فأهدى إليه ملكها هاجر، فولدت له إسماعيل، وغضبت سارة حين رأت إبراهيم يسوي بينها وبين هاجر، فأقسمت لا تساكنها، فذهب إبراهيم بهاجر وابنها إلى بلاد العرب وأنزلهما بالوادي الذي تقوم مكة اليوم به، وتزوج إسماعيل فتاة ولودا من جرهم أعقبت له اثني عشر ولدا هم آباء العرب المستعربة، فهؤلاء العرب ينتمون من ناحية خئولتهم في جرهم إلى العرب أبناء يعرب بن قحطان، وينتمي أبوهم إسماعيل من ناحية خئولته إلى مصر.
نزل إبراهيم مصر وانتقل بهاجر إلى بلاد العرب، فربط بين الجنسين برابطة النسب لمائة وألفي سنة قبل مولد المسيح، وأضاف بذلك صلة جديدة إلى صلة التجارة القائمة بين الشعبين من أقدم الحقب، وبعد قرنين اثنين من هذا النسب نشأت بين الشعبين صلة سياسية تركت أثرا باقيا على التاريخ؛ فملوك مصر الرعاة «الهكسوس» عرب نزحوا إلى فلسطين واستقروا بها، ثم ساروا منها إلى مصر فغزوها وأقاموا بها ملكا دام خمسة قرون متعاقبة، من أوائل القرن المتمم العشرين إلى أواخر القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقد ظل ملكهم ممتدا في وادي النيل كل هذه القرون، ثم أجلاهم المصريون عنه، فخرجوا من مصر وقد بلغ عددهم قرابة ربع المليون، ويذكر بعض المؤرخين أن هؤلاء الهكسوس هم بنو إسرائيل، وأن قصة يوسف الصديق حدثت في عهدهم.
ظلت هذه الصلات في التجارة والسياسة والنسب متصلة بين مصر وبلاد العرب، تضعف حينا وتقوى حينا آخر، وقد أضعفها استيلاء الروم على مصر زمنا، ثم عادت إلى مثل ما كانت عليه، ذلك أن العرب ظلوا يقومون برحلة الصيف إلى الشام، ثم كان منهم من ينحدر من طريق القوافل عند أيلة - العقبة - إلى مصر، وكان أكثرهم يسيرون إلى الشام، فإذا بلغوها وقضوا وطرا من تجارتهم فيها توجهوا إلى مصر، وذلك ما كان عمرو بن العاص يصنعه في الجاهلية وفي الإسلام.
ولم يكن طريق البحر أقل إدامة للصلة بين مصر وبلاد العرب من طريق القوافل، فقد كانت السفن عليها الملاحون المصريون ترسو بجدة وغيرها من فرضات بلاد العرب، تبادلها التجارة ويأخذ الملاحون منها ما يحتاجون إليه من أقوات، وأدت هذه الصلات إلى نزول بعض المصريين بلاد العرب وإقامتهم بها، كما كان بعض العرب الذين يذهبون في رحلة الصيف ينزلون مصر ويقيمون بواديها، وكتب السيرة تذكر أن السيل طغى على بناء الكعبة فتهدم لسنوات قبل مبعث النبي العربي، وأن البحر رمى إذ ذاك بسفينة قادمة من مصر مملوكة لتاجر رومي اسمه «باقوم» فحطمها فابتاع أهل مكة أخشابها لإدخالها في بناء الكعبة، واستعانوا بقبطي يقيم بمكة ويعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم وأن يعاونه «باقوم» ولم يكن هذا القبطي المصري الوحيد المقيم بالبلد الحرام.
كان العرب بحكم هذه الصلات يعرفون الشيء الكثير عن مصر، وقد تحدث القرآن عنها في مواضع كثيرة منه، فزاد المسلمون بها علما، لقد كانوا يعرفون عن نهرها العظيم، وأرضها المعطاء وزروعها الناضرة، وخيراتها الوفيرة ما يذكره لهم أهلوهم الذين يتجرون بها، فلما أورد القرآن قصص يوسف وموسى زادهم بحديث أهلهم علما وتثبيتا، يقول تعالى في سورة الدخان تعقيبا على ما كان من غرق فرعون وقومه:
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين ، ويقول في سورة الدخان:
ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون
ويقول على لسان بني إسرائيل:
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ، ويذكر في غير موضع صروح مصر وآثارها ويشير إلى تاريخها وعبادات أهلها، وهذه الآيات ومثلها مما ورد في وصف مصر إنما ورد حين قص القرآن حديث إبراهيم ويوسف وموسى والأنبياء، فأثار في نفوس المسلمين صورة مصر الطبيعية، كما أثار في نفوسهم صورة من تاريخها منذ أقدم العهود إلى عهدهم.
أعاد حديث موسى إلى ذاكرتهم صورة من حياة ابن عمران منذ مولده، وبعد أن أمر فرعون بقتل كل مولود ذكر في مملكته استجابة لمن فسروا له أضغاث أحلامه، فقد ألقت أم موسى رضيعها في النيل، فالتقطه آل فرعون وعنوا به، فلما شب موسى نصر رجلا من قومه بني إسرائيل على مصري، فوكز المصري فقضى عليه، فقتل نفسا بغير حق، وفر موسى مخافة المصريين ونزل مدين فتزوج ابنة شيخها وآجره عشرة حجج عاد بعدها من طريق الطور يريد مصر، فناداه ربه من جانب الوادي الأيمن وألقى عليه رسالته، وذهب موسى وأخوه هارون إلى فرعون وملئه يدعوانهم إلى الله، فاستكبر فرعون ونادى في قومه:
أنا ربكم الأعلى ، وقال لوزيره:
يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، وأظهر موسى معجزاته، فدعا فرعون السحرة، فلما رأوا عصا موسى تلقف ما صنعوا آمنوا به، واتبع بنو إسرائيل موسى، فرأى فرعون في بقائهم إثارة للفساد في الأرض، فأراد القضاء عليهم، وفر موسى وبنو إسرائيل يريدون أرض المعاد، فأتبعهم فرعون وجنوده فأغرقه الله في اليم، فهلك تاركا وراءه جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعمة كان هو وقومه فيها فاكهين.
وذكر العرب بحديث يوسف بما بمصر من نعمة وترف كان لحكامها منهما الحظ الأوفى، فقد ابتاع عزيز مصر يوسف، فأنزلته امرأته منزلة الكرامة عسى أن ينفعهم أو يتخذوه ولدا، فلما ترعرع وبدت فتنة جماله جنت به امرأة العزيز غراما،
وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ، وأصر يوسف على إبائه فسجن، فلم ير النسوة اللاتي قطعن أيديهن ما يدفعهن إلى لوم المرأة المفتونة به على ما فعلت، ولبث في السجن بضع سنين، ثم خرج بعد أن فسر رؤيا الملك: سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فقال:
تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ، وجعله الملك على خزائن الأرض، فأحسن تدبيرها حتى عاد إليها النماء والخصب كأحسن ما كانت، وحتى عادت جنة ناضرة تنبت أرضها من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ما شاء الله أن تنبت.
في هذا الحديث عن يوسف وعن موسى صورة من طبيعة مصر وثروتها، ومن عبادات أهلها وعقائدهم، ومن عاداتهم وأخلاقهم، ومن تاريخهم وصورة الحكم فيهم في العصور الأولى، وإنما أوجزنا فيما تقدم بعض ما ذكره القرآن عن مصر، وطبيعي أن يتتبع المسلمون الأولون كل ما جاء فيه عنها، وأن يثير تتبعه في نفوسهم كل ما يذكرونه من أمرها، وكان اليهود والنصارى يجادلونهم في أمر موسى وعيسى والأنبياء وما ورد في القرآن عنهم، فيزيدهم الجدال علما، ويزيد علمهم بمصر فسحة وعمقا.
ولم تكن معرفة المسلمين مصر مقصورة على ما كان من أمرها في العصور الأولى، بل كانوا يعرفون من أمرها في زمانهم أكثر مما يعرفونه من تاريخها، ذلك أن العرب كانوا يتابعون ما يجري بين فارس والروم بعناية بالغة، حتى لقد انقسموا في ذلك أحزابا يتشيع فريق منهم لفارس وفريق للروم، فلما كان العقد الثاني من القرن السابع وانتصر الفرس على الروم وفتحوا مصر والشام، كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد بعث، وكان خصومه يتشيعون للفرس ويذكرون أن الروم هزموا؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين.
وتشيع المسلمون للروم، واشتد تشيعهم لهم حين نزل قوله تعالى:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، وأقام الفريقان يتابعان ما يجري بين الدولتين العظيمتين، ويعلقان بما يعن لهما على ما يبلغهما من أنباء الوقائع التي تشتبكان فيها.
وقد اتصل القتال بين الدولتين في مصر زمنا غير قليل ذلك لأن الفرس دخلوها في سنة 616 لميلاد المسيح، وأقاموا بها تسع سنوات حتى أجلاهم هرقل عنها وعن الشام، وفي أثناء هذه السنوات كان المسلمون يمدون أبصارهم إلى تلك الأرجاء، مؤمنين بأن الروم سيغلبون الفرس لا محالة، كما أوحى الله إلى نبيه، فلما تمت كلمة ربك وارتد الفرس إلى بلادهم كان رسول الله قد هاجر إلى المدينة، وكانت سراياه تسير منها إلى ما حولها، فلما استتب له الأمر، بعث رسله إلى كسرى وإلى قيصر وإلى ملوك الحيرة وغسان وإلى أمراء الجنوب من شبه الجزيرة وإلى حاكم مصر يدعوهم جميعا إلى الإسلام.
وقد يلفت النظر أن المقوقس حاكم مصر كان أجمل الملوك والأمراء ردا على رسالة النبي وأكثرهم مجاملة له، وقد بعث مع حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي إليه بكتاب يشير فيه إلى أنه يعتقد أن نبيا سيظهر، ولكنه ظن أنه سيظهر في الشام، ويذكر أنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث بهدية: جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض خيرات مصر،
1
وقد اصطفى محمد مارية القبطية إحدى الجاريتين لنفسه، فولدت له إبراهيم، فرفعها إلى مقام زوجاته، ثم كان يقول: «استوصوا بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما.»
واختيار النبي حاطب بن أبي بلتعة لأداء رسالته إلى المقوقس، واختياره عمرو بن العاص في الوقت نفسه رسولا إلى ملكي عمان، يشهد بأن حاطبا كان كثير التردد على مصر في التجارة، ويبعث على الظن بأنه كان يعرف لغة المصريين، ولو أن عمرو بن العاص كان أهدى بهذه البلاد وأكثر علما بلغة أهلها لآثره النبي على حاطب ولاختاره رسولا إلى المقوقس.
ولا ريب في أن المسلمين قد ازدادوا معرفة بمصر وعلما بما فيها بعد أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وبعد أن فتحوا العراق والشام واستقروا بهما واتصلوا بأهلهما مدى السنوات التي انقضت قبل أن يفاتح عمرو بن العاص أمير المؤمنين في فتح مصر، فقد ظل الفرس حكاما لمصر عشر سنوات قبل أن يجليهم هرقل عنها، فعرفوا من مواقعها وحصونها وثروتها وحضارتها ما أفضوا به إلى العرب الذين اتصلوا بهم من بعد، وكانت الصلة بين مصر والشام وثيقة؛ إذ كانتا جميعا في حكم الروم، وإذ كان أهل الشام يذهبون إلى مصر يبادلون أهلها التجارة، وقد عرف المسلمون منهم ما يعرفونه هم عن مصر؛ لذلك كانت صورة مصر واضحة في ذهن عمر، وفي ذهن ابن العاص، وفي ذهن كثيرين حتى بدأ عمرو يفاتح الخليفة في فتحها.
وكانت هذه الصورة مغرية أيما إغراء؛ فقد كان خصب مصر ووفرة إنتاجها مضرب المثل في العالم كله؛ وكان ما يفيض عن حاجات أهلها من القمح والشعير وغيرهما من أنواع الغلال يغذي الإمبراطورية الرومية، ثم إنها كان بها غير الغلال أرزاق لا تحصى، وكانت ثروتها من الأحجار والمعادن فوق الحصر، وقد كانت، مع خضوعها لسلطان الروم وما كان من اجتياح الفرس أرضها في قتالهم قيصر أعظم مركز في العالم اجتمع فيه العلم والفن والصناعة والزراعة والتجارة اجتماع نماء وازدهار يأخذ بالنظر، ويستهوي اللب، وكانت عاصمتها الإسكندرية قد احتفظت بكل ما كان لها يوم أنشأها الإسكندر المقدوني من بهاء وجمال، وأضافت إليه في أثناء القرون العشرة التي انقضت منذ إنشائها ما زادها جلالا وعظمة، وما جذب الناس من أقطار الأرض للمقام بها، فكان سكانها يزيدون على المليون، وكانوا يمثلون الأجناس والعقائد المختلفة المعروفة لذلك العهد، فلم يكن المصريون الخلص منهم يزيدون على نصفهم، وكان النصف الآخر من الروم واليونان والفينيقيين والعرب وغيرهم؛ ومن هؤلاء من كانوا يدينون باليهودية، ومنهم من كانوا يدينون بالمسيحية، وكلهم يعيشون في جو المدينة الساحر مطمئنين إلى رخائها وجلال عظمتها، وأية عظمة وأي جلال! كانت منارتها الكبرى، منارة فاروس إحدى عجائب الدنيا السبع، وكان بها من المعابد الضخمة وساحات الفن الفسيحة والقصور الفخمة والمسارح والحمامات العامة ما لا يقع تحت حصر، وكان ذلك كله يبهر السائح القادم إليها من أعظم المدن رقيا وحضارة، وكانت أكبر أسواق العالم وأكثر ثغوره ازدحاما بالحركة، وكانت بها تجارة عظيمة في القمح والكتان والورق والزجاج، وغير ذلك من مزروعات مصر ومصنوعاتها، ثم كانت تحمل إليها مقادير كبيرة من الذهب والعاج مجلوبة من بلاد النوبة وإثيوبيا، ومن أنواع البهار والحرير والفضة والجواهر وغيرها آتية من بحار الهند والصين إلى البحر الأحمر منتقلة إلى النيل في القناة التي تصل ما بين البحرين، جارية بعد ذلك فوق النهر العظيم إلى الإسكندرية.
لم يكن عجبا وتجارة الإسكندرية بهذه الضخامة، أن تكون ميناؤها أكبر موانئ العالم، وأن تكون صناعة السفن أكبر صناعاتها، كانت ميناؤها تتسع لاثني عشر ألف سفينة من مختلف الأحجام، وكان بناء السفن فيها متصلا لا ينقطع في يوم من أيام العام، وكان الخشب اللازم لبناء السفن يحمل إليها من الشام، وكانت مصر تنبت نوعا متينا من الكتان اسمه «الدقس» تصنع منه حبال السفن وتنسج قلاعها، وكانت السفن الحربية تصنع بالإسكندرية كما كانت تبنى بها السفن التجارية.
وكان يبنى بها من السفن الحربية نوعان: أحدهما ضخم تحمل السفينة منه ألف رجل، والآخر خفيف تحمل السفينة منه مائة رجل، وكان النوعان يجهزان بآلات تقذف «النار الإغريقية» المهلكة المؤلفة من مواد سريعة الالتهاب شديدة الاشتعال لا يمكن إطفاؤها، ذات قوة على النسف والتحريق، تحدث تخريبا كبيرا، وتلقي في النفوس الرعب، وكان في بعض السفن الضخمة صروح عالية فوق ظهرها، فإذا حاذت إحداها أسوار مدينة محصنة كان جند السفينة مع المدافعين عن المدينة على علو سواء، فأمكنهم أن يثبوا من الصروح إلى الأسوار، أو يقيموا جسرا بين الصرح والأسوار يعبرون عليه.
أما السفن التجارية التي كانت تصنع بالإسكندرية فكان بعضها يبلغ من الضخامة أن يحمل أربعة آلاف إردب من القمح وكان الكثير منها يسير بالتجارة في البحر الأحمر، ويرسو في فرضات شبه الجزيرة، فينقل بما يحمل من التجارة الناتجة في مصر أو المجلوبة إليها صورة من حياة هذا الشعب المصري الدائم الدأب والجد إلى عرب الحجاز وعرب اليمن حضرهم وبدوهم.
لم يكن النشاط التجاري والصناعي كل ما امتازت به الإسكندرية على غيرها من مدن العالم! فقد كانت، منذ أنشأها الإسكندر الأكبر واستقر بها البطالسة إلى أن فتحها العرب، مركز النشاط العقلي والعلمي في العالم كله، صحيح أن هذا النشاط كان يخبو أحيانا ويضطرم أحيانا أخرى، وأن بعض المدن كانت تشارك فيه الإسكندرية في بعض الحقب، وبخاصة أيام حكم الرومان مصر، لكن العاصمة المصرية ظلت دائما مرجع هذا النشاط، وظل أبناؤها من العلماء والشعراء والكتاب وأرباب الفن يوجهون الحياة العقلية في العالم عشرة قرون كاملة، إليهم يرجع الفضل في نشر الثقافة الإغريقية التي سبقت إنشاء مدينتهم، وفي إقامة مذاهب جديدة يمت بعضها بأوثق الصلة إلى مذاهب الإغريق، ويخالف بعضها هذه المذاهب، ويستقل بعضها بنفسه كل الاستقلال، ولم يكن ذلك عجبا وقد كانت الإسكندرية ملجأ العلماء ورجال الفن والأدب من كل أمة وملة، وكان بها من المكتبات العامة ومن مناهل العلم ومدارسه ما لم يكن لغيرها.
وقد سمت مدرسة الطب في الإسكندرية إلى مكانة لم تسم إليها مدرسة أخرى في العالم كله؛ فكان الأطباء الذين يتخرجون فيها مشهودا لهم، وكانوا موضع الإكبار حيثما نزلوا من بقاع الأرض، كذلك ازدهرت فيها دراسات الفقه والإلهيات ازدهارا بدا واضحا في المذاهب الفلسفية التي اختصت بها مدرسة الإسكندرية، والتي حاولت التوفيق بين المسيحية في أساسها الروحي ومذاهب الإغريق الفلسفية المستندة إلى منطق العقل وحده، وكان ازدهار الفقه لذلك العهد بعض ما قويت به النزعة الدينية التي أقامت مصر وأقعدتها، ووقفتها في وجه الروم وقفة بلغت قبيل الفتح العربي حد العنف، وكان الفلك والرياضة وتقويم البلدان والهندسة من فروع العلم التي تدرس في معاهدها، وقد وضع علماؤها مؤلفات لم يبق منها إلا ما ذكره المؤرخون من بعد عنها، هذا إلى تعلق الكتاب والأدباء بالشعر تعلقا جعلهم يفتنون فيه، وجعل العلماء أنفسهم ينظمون العلم شعرا.
لا عجب، وذلك شأن العلوم والآداب، أن تزدهر الفنون وأن يزداد أهلها براعة، وأن تظهر آثارها في نشاط أهل الإسكندرية وفي حياة مدينتهم، وقد اشتهرت مصر منذ عهود الفراعنة الأولين ببراعة بنيها في هندسة العمارة، فكان طبيعيا أن تجمع عمارة هذا العهد المسيحي بين جلال المعابد القديمة وزخرف العمار الإغريقية، وأن تجمل مباني الإسكندرية بالمرمر المصري البديع ونقوش الفسيفساء ذات الألوان، والفسيفساء الزجاجية، والحق أن تنظيم الإسكندرية وعمارتها كانا من الروعة بما يقف النظر ويبهر الفؤاد؛ فقد خطت على صورة رقعة الشطرنج: ثمانية طرق تجري بين الغرب والشرق، تقاطعها ثمانية أخرى تجري من الشمال إلى الجنوب، والطريقان المتوسطان منها فسيحان تقوم على جانبيهما أفخم مباني المدينة، وكانت أسوار المدينة وحصونها وقصورها وكنائسها مشيدة من مرمر ناصع البياض يغشى النظر دونه، فكان ظاهر أكثرها يغطى نهارا بنسيج أخضر من صناعة مصر.
هذه صورة من عاصمة مصر لذلك العهد، وهي تشهد بترف أهلها وسمو مكانتهم في الحضارة، وبأنها اجتمع لها من ألوان الثقافة ومتاع العقل ما لم يجتمع لغيرها من عواصم العالم يومئذ، فقد كانت تتجاور فيها المذاهب الفلسفية والدينية المتناقضة جوار كفاح كلامي لم يبلغ حد العنف في غير العهود التي حاول الأباطرة فيها أن يفرضوا مذهبهم على أهل مصر، أما في غير هذه العهود فكان التراشق الجدلي أقصى ما بلغه النضال بين أصحاب هذه المذاهب، كان الأبيقوريون يدعون إلى المتاع بالحياة والنهل من موردها السائغ، لا ينسيهم المتاع أن الحياة سخرية مستطابة ونعيم قتال، وكان الرواقيون يسخرون من الأبيقوريين ويدعون للزهد في المتاع؛ لأنه يتلف العقل ويفسد طهارة النفس، وكان المتطهرون من المسيحيين ينأون بجانبهم عن مغريات المدينة، ويلتمسون في عزلة الصحراء القريبة منها سكينة نفوسهم وطمأنينة قلوبهم، أما في عهود الاضطهاد الديني فكان الأمر يختلف، وكثيرا ما كانت تصبح الإسكندرية الرافلة في حلل النعيم مسرحا لاضطرابات تفسد جوها المرح، وتشيع فيها القلق والفوضى.
وكان الاضطهاد الديني منتشرا في مصر وفي عاصمتها حين كان ابن العاص يحاول إقناع الخليفة بفتحها، ذلك أن هرقل لم يلبث، حين انتصر على الفرس وأعلى الصليب في بيت المقدس، وحين رأى الأنظار تشد إليه من أرجاء العالم المسيحي كله لينقذ المسيحية مما ألم بها، أن فكر في توحيد المذاهب المسيحية وصوغها مذهبا واحدا، وقد تحدث في هذا الأمر إلى بطارقة الشام وبزنطية ممن يمثلون شتى المذاهب المسيحية، ثم دعاهم إلى مجمع «خلقدونية» فأقروا مذهبا مسيحيا موحدا، عند ذلك جعل بطركة الدين في الإسكندرية لقيرس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب إليه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الرسمي «الموحد» غير أنه لم يفطن إلى أن مذهبه الذي حاول به التوفيق قد تأباه كنيسة مصر، ولم يعرف أن أهل مصر إذا أبوا ذلك المذهب كان شر الطرق إلى ضمهم للجماعة أن يرغمهم عليه ويقذف به في حلوقهم، إذ قد كرهوا مرارة مذاقه منذ ذاقوه، وعلى أي حال كانت هذه خطته في مصر والشام، وكان من رأي ذلك العصر أن أمور الدين والعقيدة مما ينبغي للدولة أن تقوم عليه ويصدر الناس فيه عن أمرها.
2
كان بنيامين
3
كبير أساقفة القبط بمصر إذ ذاك، وكان حبيبا للناس عزيزا عليهم، وكان رجلا ذكيا محبا للخير والفضل قاسيا على القسوس والشمامسة من أهل العناد والكبر، شديد التعصب للمذهب المسيحي الذي يؤمن المصريون به، مذهب اليعاقبة الذي يقول: «إن الطبيعة الإلهية والبشرية امتزجتا في المسيح فصارتا فيه طبيعة واحدة؛ فكان عند التجسد ذا طبيعتين، أما بعده فصار ذا طبيعة واحدة.» وهذا المذهب يخالف مذهب الملكانية الذي يقول: «إن الابن مولود من الأب قبل الدهور غير مخلوق، وهو جوهره ونوره، والابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم، فصارا واحدا وهو المسيح.» فلما قدم قيرس الإسكندرية في خريف سنة 631، ليحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الرسمي، فر بنيامين من الإسكندرية، وسار متخذا من الأديار المنتشرة بالصحراء ملجأه حتى بلغ قوص، وهناك أقام بدير صغير قريب منها قائم في الصحراء تحميه الجبال فلا يسهل الوصول إليه.
كان فرار بنيامين نذيرا أزعج القبط وأفزع أهل الدين منهم، فرأوا في دعوة قيرس إلى المذهب الجديد كفرا لا كفر بعده، ولم يغن عن قيرس تظاهره أول ما نزل مصر بأنه جاء مسالما، وأنه لا يفرض المذهب بالقوة بل يدعو إليه ويحاول الإقناع به؛ فقد تنكر له القبط اليعاقبة وتنكر له الملكانيون على سواء، ورأوا جميعا في دعوته بدعة هي الضلالة بعينها، وازداد الناس نفورا من هذه البدعة حين جاء صفرنيوس من بيت المقدس إلى مصر، وقام على رأس الملكانيين فيها، فلما جمع قيرس مجلسا دينيا بالإسكندرية ودعا أعضاءه لبحث ما يدعوهم إليه أظهر صفرنيوس أنه يحاول أن يثني قيرس عن عزمه ، بالحجة تارة وبالتوسل أخرى، ورأى قيرس نفور الشعب من دعوته وعداوته لها، فلجأ إلى البطش والتعذيب يكره الناس بهما على الدخول فيما يريدهم عليه.
لجأ قيرس إلى البطش والتعذيب، ولج في «الاضطهاد الأعظم» عشر سنوات حسوما، وكان التعذيب وحشيا لم يعرف عصر من العصور مثله، عذب أخو الأسقف بنيامين بأن أوقدت له المشاعل وسلطت على جسمه، فأخذ يحترق حتى سال دهنه من جانبيه إلى الأرض، فلما لم يتزعزع إيمانه خلعت أسنانه ووضع في كيس مملوء بالرمل وحمل إلى الشاطئ، ثم عرضت عليه الحياة إذا آمن بالمذهب الجديد فأبى، وتكرر العرض وتكرر الإباء ثلاث مرات ألقي العابد بعدها في البحر فمات غرقا، وتلقى الأب صمويل في ديره بالصحراء كتابا يحمله إليه أمير فرقة عدتها مائة جندي يدعوه إلى المذهب الجديد، فطوى صمويل الكتاب وقال: «ليس لنا من رئيس إلا بنيامين، ولعنة الله على ذلك الكتاب الكفار الذي جاء من الإمبراطور الروماني، ولعنة الله على مجمع خلقدونية وكل من آمن بما أقره.» وضرب صمويل حتى ظن أنه مات، لكنه عاد إلى نفسه وإلى محاربة قيرس، وأمر قيرس فجيء به مكتوف اليدين من خلاف وفي عنقه طوق من الحديد، فسار مستبشرا وهو يقول: «سأمنح إن شاء الله اليوم الشهادة بأن يسفك دمي في سبيل المسيح.» ثم جعل يسب قيرس لا يخشى شيئا، ودخل قيرس فأمر جنده أن يضربوه حتى سال دمه، ثم قال له: «صمويل أيها الزاهد الشقي، من ذا أقامك رئيسا للدير، وأمرك أن تعلم الرهبان أن يسبوني ومذهبي؟ وأجابه العابد: إن البر في طاعة الله وطاعة وليه البطريق بنيامين لا في طاعتك والدخول في مذهبك الشيطاني، يا سلالة الطاغوت! ويا أيها المسيح الدجال!» وأمر قيرس جنده بضرب صمويل على فمه وقال له: «لقد غرك يا صمويل أن رهبانك يجلونك ويعلون من شأن زهدك: ولهذا تجرأت وقويت نفسك ولكني سأشعرك أثر سبابك للعظماء إذ سولت لك نفسك ألا تؤدي ما ينبغي عليك أن تؤديه لعظيم رجال الدين وكبير جباة المال في أرض مصر .»
وأجاب العابد: «لقد كان إبليس من قبل كبيرا على الملائكة، ولكن كبره وكفره فسقا به عن أمر ربه، وهكذا أنت أيها الخادع الخلقيدوني؛ فإن مذهبك مذموم، وإنك أشد لعنة من الشيطان وجنوده.» وضاق قيرس بكلام العابد ذرعا فأومأ إلى الجند أن يقتلوه؛ واستنقذه حاكم الفيوم من يديه فأمر به أن ينفى من الأرض.
هاتان الصورتان من تعذيب أخي بنيامين وتعذيب صمويل تصفان بطش قيرس في الاضطهاد الأعظم، كان الذين يأبون الدخول في المذهب الجديد يجلدون ويعذبون ويلقون في غيابات السجون ويلاقون الموت، وكان أثر هذا الاضطهاد أن ازداد الناس كراهية لهرقل ولقيرس، حتى لقد هاجر كثيرون من مصر إلى بلاد النوبة وإلى إثيوبيا فرارا إلى الله بدينهم، أما الذين لم يستطيعوا الفرار ولم يطيقوا العذاب ففتنوا عن دينهم كارهين، فأظهر كثيرون منهم غير ما يبطنون، وقد خدع غير هؤلاء وأولئك بسلطان المال والجاه، فارتضوا المذهب الجديد، لا حبا فيه ولا إيمانا به، بل حرصا على ما ييسره لهم من مطامع هذه الحياة الدنيا، على أن ما لقيه الشعب في هذه السنوات العشر قد زرع في قلبه لبزنطية ولقيصر ولقيرس كراهية امتزجت بحياته وجرت مجرى الدم في شرايينه.
أفكان التعصب الديني هو وحده الذي دفع شعب مصر للنفور من المذهب الجديد كل هذا النفور، ولمحاربته هذه الحرب العوان؟ قد لا يخطئ من لا يجيب عن هذا السؤال بالإيجاب؟ فالتوجه الديني أصيل في الشعب المصري بحكم طبيعته، كذلك كان شأنه في عهود الفراعنة، وكذلك ظل شأنه على القرون، ولعل بساطة عقيدته، مع تغير الأديان التي دان بها، كانت ذات أثر في تمسكه بمذهبه: فهو موحد من أقدم العصور، وهو على توحيده يشعر بأن الإله الخالق المنعم جل شأنه أعظم من أن يسمو سواد الناس إلى الاتصال بذاته وإن تطهرت قلوبهم، فلا بد من زلفى تقربهم إلى الله، وتحلهم منه محل الرضا.
لكن هذا التوجه الديني لم يكن وحده هو الذي دفع المصريين ليقاوموا في سبيل مذهبم ما قاوموا سني الاضطهاد الأعظم ؛ فقد دانوا بالمسيحية بعد وثنيتهم الفرعونية، ثم كان لهم في فقه مذهبهم القبطي بحوث تبحر رجال الدين فيها ما تبحر أسلافهم في العهود الفرعونية في فقه مذهبهم، ثم دانوا بعد ذلك بالإسلام، فكان الفقه الإسلامي موضع عنايتهم به وتبحرهم فيه، ولم يحملوا على المسيحية وعلى الإسلام بالاضطهاد والإكراه، بل دعوا إليهما بالحجة فرأوا الخير في قبولهما فقبلوهما، فما لهم نفروا من مذهب هرقل الرسمي لأول ما عرض عليهم بل أبوا أن ينظروا فيه؟ ثم ما لهم قاوموه من بعد هذه المقاومة التي اضطرت قيرس إلى اضطهادهم وفتنتهم على النحو البشع الذي رأيناه؟
لا ريب أنه كان للعامل السياسي في هذا الأمر أثر عظيم، فقد ضاق الشعب المصري بحكم الرومان ضيقا أثاره برومية ثم بيزنطية ثورات عنيفة غير مرة، وهو لم يكن أقل ضيقا بهذا الحكم قبل تغلب الفرس على فوكاس واستئثارهم بأرض مصر ولا بعد تغلب هرقل على الفرس وإجلائهم عن مصر، فقد كان حكم فوكاس حكم بطش وإرهاق ثارت مصر به فآزرت هرقل في ثورته على القيصر الطاغية، وقد شعر المصريون في السنوات العشر التي استقر الفرس فيها بينهم بحرية لم يكن لهم بمثلها في عهد فوكاس عهد، ذلك أن الفرس تركوا لهم أمر الحكم على نحو من اللامركزية المألوفة في بلادهم، وأعفوهم من كثير من الأعباء التي كانت ترهقهم، وإن أقاموا بينهم سادة متعالين، فلما انتصر هرقل على الفرس، واسترد مصر، فرح المصريون؛ لأنهم مسيحيون مثله، ولأنهم طمعوا في أن يذكر لهم يدهم عنده أيام ثورته بفوكاس، وعظم رجاؤهم ألا يرهقهم حكمه، لكنهم سرعان ما رأوا الحكم الروماني القديم عاد كما كان، ورأوه شرا من حكم الفرس بمراحل.
لم يكتف صاحب السلطان من قبل قيصر بأن يأخذ منهم غلاتهم ومصنوعاتهم ليرسلها إلى بيزنطية مقابل الضرائب المفروضة عليهم، بل اعتبرت الأرض ملكا تفرض على أصحابها جزية، وإن شئت فقل تكليفا، يدفعونها أجرا للأرض التي يزرعونها ... وربما احتمل الناس الضريبة والجزية بشيء من الصبر أيام الرخاء، لكن مصر عادت إلى هرقل في سني شدة وبأساء، فقد انتهى الإضراب في عهد فوكاس إلى تعطيل القناة التي كانت تصل البحر الأحمر بالنيل فالبحر الأبيض، ثم لم يعدها الفرس ولم يعدها عمال هرقل، فتدهورت التجارة تدهورا أفلس بسببه كثير من اليهود واليونان المشتغلين في أسواق الإسكندرية وتدهورت أسعار الحاصلات والمصنوعات في داخل البلاد تدهورا أدى إلى أزمة انزعج لها الناس أيما انزعاج، وما قيمة صناعة الزجاج أو صناعة المنسوجات أو صناعة الورق من البردي أو غيرها من الصناعات المصرية التي كانت زاهرة في مصر السفلى وفي مصر الوسطى، إذا لم تجد أسواقا في الخارج لتصريفها، واقتصر أمرها على أن تؤخذ جزية لقيصر! لذا كره الناس حكم الروم، وودوا لو استطاعت مصر أن تتخلص منه وأن تستقل بنفسها، لكن الروم كانوا قد حرموا على مصر صناعة الأسلحة واستعمالها، وكانت الطبقة المستنيرة من المصريين الموظفين في الدولة قد ذلت لوظائفها، فلم يكن بد من التذرع بوسيلة ينفس بها الشعب عن نفسه، وذلك بأن ينزع للثورة، وسرعان ما جاء قيرس بالمذهب المسيحي الجديد يحاول فرضه على مصر حتى هب رجال الدين في وجهه يلعنونه، بذلك فتحوا للشعب بابا يروي ظمأه للانتقاض، فكان الاضطهاد الأعظم الذي رأيت، والذي زاد المصريين كراهية لقيصر ولقيرس ولحكمهما ولمذهبهما الجديد.
لم يكن علم ذلك كله ليخفى على أمير المؤمنين ولا على المستنيرين حوله من المسلمين، فقد دام الاضطهاد والتعذيب في مصر عشر سنوات، بدأت قبيل وفاة النبي واستمرت طيلة خلافة الصديق، وظلت متصلة في عهد عمر إلى أن دخل العرب مصر، وفي هذه السنوات العشر كان المصريون والعرب يتبادلون التجارة كما كانوا يفعلون من قبل، فكانت أنباء العرب البارزة تبلغ المصريين، وكانت أنباء المصريين البارزة تبلغ العرب، وزاد العرب علما بأنباء مصر متاخمتهم لها بالشام، ولا جرم قد كان عمرو بن العاص من أكثر الناس بها علما؛ إذ كان بفلسطين، أدنى الأرض من ميدان الاضطهاد والتعذيب، ومن ثورة المصريين بقيصر وبعماله؛ لذلك لم يغب عنه أن شعب مصر المضطهد لن تأخذ منه الحماسة فيعاون الروم إذا قاتلهم العرب في أرض مصر، وإن أيقن أن هذا الشعب لن يقاتل الروم في صف العرب من خشية أن تدور على العرب الدائرة، ولأنه ليس بينه وبين العرب صلة تثير الحماسة في قلبه، فهو ليس من جنسهم، وليست لغته لغتهم ولا عقيدته عقيدتهم.
وزاد ابن العاص اقتناعا بما ظنه من فتور المصريين عن نصرة الروم ما كان الناس في مصر وفي غير مصر يعرفونه يومئذ عن سياسة المسلمين، وأنها كانت تدع الناس أحرارا في دينهم، لا تحاول صرفهم عنه أو حملهم على تغييره، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن استمسك بدينه ورضي الجزية فله ما اختار، أما وقد كان الاضطهاد الديني دعامة الثورة بالروم، ثورة تتلظى بها نفوس المصريين جميعا، فلا عجب أن يلقوا تسامح المسلمين الديني بالغبطة، وأن يقفوا من قتالهم الروم موقف المتفرج: لا يغضبون الروم بمظاهرة المسلمين عليهم، ولا تدفعهم لقتال المسلمين حماسة لعقيدة مشتركة بينهم وبين حكامهم، أو طمأنينة إلى عدل يسوي بينهم وبين هؤلاء الحكام.
لقي ابن العاص أمير المؤمنين حين جاء إلى الشام بعد طاعون عمواس، وسار معه من الجابية في أرجاء فلسطين وسورية، وجعل يعيد على سمعه ما كان قد فاتحه فيه من أمر مصر، ويذكر له ما سبق إلى ذكره من حجج تؤيد رأيه، ويدلي إليه بحجج جديدة، حين انتهى عمر إلى الاقتناع برأيه، وإن استمهله في تنفيذه حتى يكتب إليه من المدينة بعد عوده إليها.
وزاد عمر ميلا إلى الاقتناع بهذا الرأي ما يعرفه من جرأة ابن العاص في الحرب، ودهائه في السياسة، واقتداره لذلك على أن يسير بإذن الله في ذلك الفتح سيرا موفقا، وقد دلت الحوادث على أن أمير المؤمنين لم يخطئ في تقديره، وأن شخصية عمرو وما اجتمع فيها من الدهاء والإقدام قد جعلته الرجل المختار في فتح مصر، فلم تكن جرأته في الحرب جرأة مغامرة كجرأة خالد بن الوليد، بل كانت جرأة الداهية الذي يرى النجاح في المكث أكثر مما يراه في الحث ، ويرى المطاولة والصبر حتى تحين فرصة الإقدام، وحين يثق بأن النجاح حليف هذا الإقدام، هذا إلى أن دهاءه كان يجنبه إثارة غير المحاربين به، فكان يؤثر ملاينتهم في حزم على البطش بهم إلا أن يضطر إلى البطش اضطرارا فإذا اضطر إليه لم يتردد دونه، على ألا يتجاوز به قدر الحاجة إليه، ثم إنه كان أكثر أمراء الجند إيمانا بأن الحرب خدعة، فليس للمعايير المعروفة للفضل والنبل وزن في أثنائها، قائد ذلك شأنه جدير بتوفيق الله إذا سار لفتح مصر.
وكان عمرو بن العاص في العقد الخامس من عمره، أو كان قد تجاوزه، حين فكر في فتح مصر،
4
وكان قصير القامة، عظيم الهامة، ناتئ الجبهة له عينان سوداوان ثاقبتان تنمان عما يتأثر به في حالي سروره وغضبه، يعلوهما حاجبان غزيران، ومن دون ذلك فم واسع ولحية عظيمة ترسم من حولهما سيما البشر والأنس، وكان عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الكفين والقدمين؛ لذلك كان مظهره ينم عن القوة في غير شدة، وكان فارسا متفوقا في فنون الفروسية والضرب بالسيف، قوي البنية مرن الأعضاء، مرونة وقوة عودتاه احتمال المشقات، وكان إلى ذلك راجح العقل، كثير الأناة واسع الحيلة، فصيح اللسان مفتنا في أساليب الكلام؛ لذلك بعثت به قريش إلى الحبشة أول ما هاجر المسلمون إليها ليحمل النجاشي بقوة حجته على ردهم إلى مكة، وقد أبدى من حسن الحيلة في محاولته ما يشهد بمقدرته، وإن لم يوفق لتحقيق الغاية من سفارته.
وقد هداه رجحان عقله من بعد إلى الإسلام، ذلك أنه رأى رسول الله هاجر إلى المدينة، ورأى كلمته تعلو بين العرب، فساوره الشك في مقدرة قريش على النيل منه فآثر أن ينصرف إلى تجارته ينميها، وعاد سيرته الأولى يسافر في هذه التجارة إلى الشام واليمن والحبشة ومصر، فلما كانت غزوة الأحزاب واشترك مع أهل مكة فيها فآبت قريش بالهزيمة، أيقن أن قريشا لم يبق لها بمحمد قبل، عند ذلك جمع رجالا من قريش وقال لهم: «والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير.» وأقر سامعوه رأيه وساروا معه إلى الحبشة وقد قر رأيهم على المقام بها حتى ينتهي ما بين قريش ومحمد إلى وضع ثابت، فلما عقد محمد عهد الحديبية مع قريش فتهادنا عشر سنين، واتفقا على ألا يدخل محمد مكة عام العهد وأن يدخلها للعمرة العام الذي يليه، أيقن عمرو أن أمر محمد يزداد علوا، وأن مقامه بالحبشة سيطول، فلما استدار العام، وعرف أنباء عمرة القضاء وما كان من دخول المسلمين مكة وطوافهم بالكعبة وسعيهم بين الصفا والمروة، أيقن أن محمدا على الحق، فخرج إلى مكة فلقي خالد بن الوليد متأهبا للسير إلى المدينة ليسلم، فذهب الرجلان فأسلم ابن الوليد وبايع، ودنا ابن العاص من محمد فقال: «يا رسول الله! إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر.» وأجابه محمد: «يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.» فبايع عمرو وانصرف.
ترى هل اندفع عمرو إلى الإسلام بعد ما أيقن أن محمدا منتصر على قريش لا محالة فآثر أن يسبق قومه إلى صف المنتصر؛ أم أنه تدبر رسالة محمد حين طال مقامه بالحبشة فآمن بها فدعاه إيمانه إلى أن يسلم؟ روي أن فتى من قريش ذهب إليه فقال له: يا أبا عبد الله! إن القوم قد ظنوا بك الميل إلى محمد؛ فواعده عمرو ميقات الظل من جبل حراء، فلما التقيا سأل عمرو الفتى: أنشدك الله، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ وأجابه الفتى في غير تردد: بل نحن، فاستطرد عمرو: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن لنا هذه الدنيا وهم فيها أكثر أمرا! قد وقع في نفسي أن ما يقول محمد من البعث حق ليجزى المحسن في الأخرى بإحسانه والمسيء بإساءته.
ولئن صحت هذه الرواية لتكونن بالغة في الدلالة على اتجاه عمرو في تفكيره، وعلى أنه كان يؤمن بنظرية المنفعة إيمانا قويا، فهو قد أنكر على محمد مع قومه، فلما ذهبت ريح قريش راجع نفسه ونظر في أمر النبي وفيما يدعو إليه من الإيمان بالله إيمانا يدخل صاحبه الجنة، وقد يجعل له هذه الدنيا، فبادر إلى الإسلام عن بينة وإيمان، لا عن خوف ولا عن إذعان؛ وذلك قد يفسر ما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «أسلم الناس وآمن الناس عمرو بن العاص.»
وأسرع عمرو إلى كسب ثقة النبي حتى لقد كان يقول: «ما عدل بي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمنا.» ولا عجب أن تعظم ثقة رسول الله بالرجلين وقد عرفهما بمكة، وعرف مكانهما من قومهما، ورأى موقفهما في خصومته حين الغزوات التي كانت بينه وبين قريش وخبر بأسهما، ثم إنه عرف من دهاء عمرو وحزمه ما زاده ثقة به، كان عمرو على إمارة المسلمين في غزاة ذات السلاسل في الشمال من أرض الحجاز، فلما انتصر على القبائل من أعدائه أبى على أصحابه أن يتعقبوهم! وأمر الجند ألا يوقدوا نارا يصطلون عليها، وتوعد المخالف أن يلقيه فيما يوقد، وعاد إلى المدينة، فشكا أصحابه، فسأله رسول الله في الأمر، فكان جوابه: «كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون للعدو مدد.»
عظمت ثقة النبي بعمرو على حداثة عهده بالإسلام، فكان فيمن بعثهم رسلا للملوك والأمراء يدعونهم لدين الله، بعثه إلى عمان على الخليج الفارسي يدعو أميريها جيفرا وعبادا ابني الخلندى للدخول في الإسلام، وكانت عمان في ذلك العهد خاضعة لنفوذ فارس، مع ذلك لم يتردد عمرو في الذهاب إليها وأداء الرسالة التي عهد النبي إليه في أدائها، وقد تحدث إلى عباد فجعل يقنعه بالحجة تارة، ويعده تارة، ويتوعده وأخاه تارة، ويذكر له أن رسول الله يقيم جيفرا إذا أسلم أميرا على عمان، كما أقام باذان من قبله أميرا على اليمن، وعند ذلك يأخذ جيفر الصدقات من أغنياء عمان ليردها على فقرائها، وأقام الأخوان أياما يتشاوران، ورأى جيفر أمر المسلمين يعظم، وخشي ما توعدهم به عمرو أن يوطئ محمد خيله أرضهم، فدخل في الإسلام وبقي أميرا على عمان، وأقام ابن العاص إلى جانبه يبث الدعوة لدين الله ويفقه الناس فيه، وظل كذلك حتى قبض رسول الله وتولى أبو بكر خلافة المسلمين، فلما فشت الردة في العرب عاد عمرو إلى المدينة يتلقى أوامر أبي بكر في مقاومة المرتدين.
هذه المقدرة التي أبداها عمرو في السياسة وفي الحرب جعلته شديد الاعتداد بنفسه، ولوعا بالإمارة، حتى لا يرضى أن يتأمر عليه أحد إلا كارها. لما أرسله النبي إلى شمال الحجاز يقاتل القبائل في ذات السلاسل، خاف هو أن يدهمه العدو بجند عظيم، فاستمد النبي فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين ومنهم أبو بكر وعمر، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: «لا تختلفا». وحان وقت الصلاة وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فأبى عليه عمرو وقال: إنما جئت مددا لي، قال أبو عبيدة: لا! ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وأجابه عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو! إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لي: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك، قال عمرو: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي، قال أبو عبيدة: فدونك؛ وصلى عمرو بالناس.
هذا الحديث بين الرجلين يكشف عن جانب من نفس عمرو، ويشهد بحبه الإمارة حبا ملك عليه نفسه، فلأبى عبيدة سابقة في الإسلام ليست لعمرو بن العاص، بل ليست لعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة أمين الأمة على لسان رسول الله، وقد أمره رسول الله في هذا المدد على أبي بكر وعمر، مع ذلك أصر عمرو على أنه جاء مددا له، ويجب لذلك أن يكون مرءوسا له، وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا، وكان إلى ذلك يؤمن بأمر رسول الله الإيمان كله، فلما رأى تشبث عمرو بالإمارة نزل على إرادته وقاتل مرءوسا له.
وكان عمرو أميرا على اللواء الذي بعثه أبو بكر في قتال المرتدين بقضاعة، فلما قضى على ردتهم، وقضى على الردة في بلاد العرب كلها، وعزم الصديق فتح الشام، وأرسل إليه الجيوش على أحدها أبو عبيدة وعلى آخر عمرو بن العاص، وجعل لأبي عبيدة القيادة العامة إذا اجتمعت جيوش المسلمين بالشام في غزاة، توجه ابن العاص إلى عمر بن الخطاب وسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرا على المسلمين بالشام، فقال له عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدا، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه.» فكان جواب ابن الخطاب على إلحاحه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة! والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تفعل بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش، فإنك إن لم تكن أميرا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد.» وخرج ابن العاص مذعنا لإمارة أبي عبيدة لا عن رضا، لكن إذعانه لم ينقص من قدره عند أبي عبيدة ولا عند غيره من أمراء الجند، بل كانوا جميعا يعرفون له ذكاءه ودهاءه ورجحان عقله وبعد نظره، وكانوا لذلك يلتمسون عنده الرأي كلما حزب الأمر، فيجدون في مشورته خير ما يدفع الخطر، ويضيء السبيل إلى الظفر.
ولعل حبه الإمارة وحرصه عليها لم يكن مرجعهما إلى اعتداده بنفسه وكفى، بل كانا يرجعان كذلك إلى حسبه ونسبه ومكانه من قريش؛ فقد كان من قبيلة بني سهم القرشية صاحبة الرياسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، فكان زعيمها يتصرف في هذه الأوقاف بما تقضي به سنة القوم لذلك العهد، وكان أبناؤها لذلك يحسنون القيام على الأموال إحسانا ظهرت آثاره في مقدرة عمرو بن العاص على جمع المال وتثميره ، سواء في حياته الخاصة أو فيما تولاه من المناصب العامة، وقد كان لبني سهم إلى ذلك منصب الفصل في المنازعات، وهو منصب أفاد أفرادها منه حسن الرأي والأناة ودقة التقدير، لهذا ولذاك زاد ثراء بني سهم وارتفعت مكانتها، واجتمعت لها أسباب القوة، فاستطاعت أن تجير قبيلة بني عدي قوم عمر بن الخطاب حين أجلاها بنو عبد شمس عن منازلها القائمة عند الصفا، كما استطاع العاص بن وائل السهمي أبو عمرو أن يجير عمر بن الخطاب حين أعلن في الناس إسلامه فأراد بنو سهم قتله، وكان العاص بن وائل وافر الثراء، حين كان يلبس الديباج مزررا بالذهب، لا عجب، وذلك نسب عمرو وتلك قبيلته، أن يزداد اعتزازا بنفسه وأن يطمح إلى الإمارة ويحرص عليها.
وجعله حبه الرياسة يتوسم سيماها في غيره. سمع وهو بالمدينة يوما خطبة من خطب زياد فأعجب ببلاغتها وقال: «لله در هذا الغلام! لو كان من قريش لساق العرب بعصاه.» وهذا الطموح إلى الإمارة هو الذي دعاه لمناصرة معاوية على علي، فقد رأى المسلمين لذلك العهد مقبلين على الدنيا راغبين عما يدعو علي له من التقشف والزهد، ورأى معاوية يتألفهم بالمثوبة والعطاء، ويظهر لهم المحبة والود، فأيقن أن الدنيا مقبلة عليه مدبرة عن علي، لكنه، فيما يروى، لم يخف على معاوية رأيه الحق في أمره، والمطامع التي دفعته إلى مناصرته، سمع معاوية يوما يكثر من الحديث في رغبته عن الدنيا وعن إمارة المؤمنين لولا حرصه على خير المسلمين، فغص عمرو بما سمع من ذلك، فلما خلا إليه قال له: «يا معاوية أحرقت قلبي بقصصك! أترى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه؟ لا والله! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنابذنك!»
لم يكن تطلع عمرو للإمارة وحبه المال وإقباله على الدنيا ليصرفه عن التفقه في الدين والعلم بكلام الله، فكان من أكثر المسلمين علما به وفقا فيه، كما كان من أغزر العرب ثقافة وأكثرهم علما بمعارف عصره، ثم إنه كان كريم النفس رضي الخلق، رقيق القلب، ذواقا للجمال، يطرب للشعر، ويقبل على الغناء ويحبه حبا جما، وقد ملك بصفاته هذه أفئدة الناس، كما فرض ذكاؤه عليهم احترامه، وكان جواب آفاق كبني قومه، وجوبه الآفاق في تجارته وفي سفارته هو الذي ذهب به إلى اليمن وإلى الحبشة وإلى الشام ومصر، ولسنا نشك في أنه تردد على مصر غير مرة، وإن ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لم يذهب إليها إلا مرة واحدة هي التي دفعته في ظنهم إلى التفكير في فتحها.
وقصة ذهابه إلى مصر هذه المرة الواحدة طريفة في روايتهم، طرافة تدعونا لذكرها وإن رأيناها أدنى إلى الأساطير، فقد زعموا أن عمرا قدم بيت المقدس لتجارته في نفر من قريش، وإن شماسا روميا من أهل الإسكندرية جاء بيت المقدس حاجا وكان نازلا من الجبال، فمر بعمرو وهو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكان الشماس قد أجهده العطش لشدة الحر في ذلك اليوم، فاستسقى عمرا فسقاه حتى روي، ثم إن الشماس نام مكانه إلى جانب حفرة خرجت منها حية عظيمة بصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، واستيقظ الشماس ورأى الحية، وقص عليه عمرو نبأها، فأقبل الشماس فقبل رأس عمرو وقال له: قد أحياني الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية؛ فما أقدمك هذه البلاد؟ وذكر له عمرو أنه جاء في تجارته، وأنه يرجو أن يصيب ما يشتري به بعيرا، وعرف الشماس أن دية الرجل في العرب مائة من الإبل قيمتها ألف دينار، فقال لعمرو: هل لك أن تتبعني إلى بلادي ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين؛ فإن الله عز وجل أحياني بك مرتين، وعرف عمرو أن الشماس من الإسكندرية، وأنها بلد لم يدخل قط مثلها، فاستشار أصحابه واستصحب أحدهم يأنس به، وسار مع الشماس حتى بلغوا الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وجودة بنائها وكثرة أهلها وما بها من الأموال، فأعجب بها وقال: ما رأيت مثل مصر قط وكثرة ما فيها من الأموال، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع له الأمراء والأشراف وأهل المدينة، فألبس الشماس عمرا ثوبا من ديباج وذهب به إلى هذا العيد، وكان الملوك والأمراء يترامون في هذا العيد بكرة لهم من ذهب مكللة، فمن وقعت الكرة في كمه واستقرت به لم يمت حتى يملكهم، وإنهم ليترامون بالكرة في ذلك اليوم إذ أقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو بن العاص، وعجب الناس لذلك وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابي يملكنا! هذا ما لا يكون أبدا! ثم إن الشماس جمع لعمرو ألفي دينار من أهل الإسكندرية ودفعها له، وبعث معه دليلا رده هو وصاحبه إلى بيت المقدس، يقول ابن عبد الحكم: «فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد وأكثرها مالا.»
أحسب القارئ يوافقني على أن هذه القصة مع طرافتها أدنى إلى الأساطير، وأنها لا يمكن بحال أن تكون سبب التفكير في فتح مصر، ولعل رواية الرواة لها هي التي جعلت البلاذري والمقريزي وابن عبد الحكم وغيرهم من المؤرخين يروون ما قيل من أن عمرو بن العاص سار إلى فتح مصر من تلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي وأن عمر غضب لذلك وكتب إليه يوبخه ويعنفه على افتتانه برأيه، وهذا القول لا يزيد عندنا على أنه حديث خرافة، فلو أن عمرا سار إلى غزو مصر من تلقاء نفسه لكان أيسر جزائه عند عمر أن يعزله، وإنما دعا للتفكير في فتح مصر ما سقناه مما أدى بعمر إلى الميل لمشاركة ابن العاص في رأيه، مع ذلك استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، فلما نزلها جمع أولي الرأي فيها وذكر لهم حجج عمرو وشاورهم في الأمر فانقسم رأيهم، وإذ كان عمر يرى الفتح، فقد كتب إلى عمرو يأمره بالشخوص إلى مصر، وبعث بالكتاب مع شريك بن عبدة، وفيه يقول: «اندب الناس إلى السير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به.» وكان عمرو محاصرا قيسارية حين جاءه كتاب أمير المؤمنين، فاستخلف معاوية بن أبي سفيان على حصارها، وفصل في قوة صغيرة اختلف أكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة أم أربعة آلاف، ثم إنه رد شريك بن عبدة رسول الخليفة يطلب المدد حتى لا تضعف مسالح الشام، وسار متمهلا بساحل البحر، جاعلا وجهته إلى العريش، آملا أن يلحقه المدد حتى يدخل أرض مصر، وإنه لفي مسيرته وتمهله إذ جاء النبأ بأن الذين يرون في فتح مصر خطرا على المملكة الناشئة وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، قد ازداد نشاطهم بالمدينة، فخشي أن يضطر عمر آخر الأمر إلى النزول على رأيهم فلا يبعث إليه بمدد بل يرده عن مسيرته.
ولم يخطئ عمرو في تقديره؛ فقد كان عثمان والذين معه يرون تلك الغزاة عظيمة الخطر ولا يفتئون يكررون ذلك على مسامع عمر، بل لقد زاد عثمان فقال: «يا أمير المؤمنين، إن عمرا لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا.» ترى ماذا يفعل عمر وقد سمع ما سمع؟ أيرد قائده عن السير بعد أن أمره به، وبعد أن مال إلى رأيه؟ وإن فعل وكان ابن العاص قد تخطى حدود مصر، أفلا يكون ارتداده خذلانا للمسلمين قد يجرئ عليهم عدوهم؟! لكنه خشي كذلك أن تثور ثائرة عثمان والذين معه، إن أعرض عن رأيهم ولم يظهر الرضا عما يقولونه، ثم إن مخاوفهم قد تبطل إذا هو أمد عمرا بقوات تجعل ظفره بجيوش الروم في مصر أمرا محققا! لذلك كتب إلى عمرو يقول: «إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر فارجع إلى موضعك، وإن كنت قد دخلت فامض لوجهك واعلم أني ممدك.» ودفع بالكتاب إلى رسول يحمله إلى القائد السائر إلى مصر.
أدرك الرسول عمرا وهو برفح، فلم يذكر له شيئا عن المدد الذي كان ينتظره، بل حاول أن يدفع إليه كتاب الخليفة، وذكر عمرو نشاط عثمان والذين يتهيبون الإقدام على هذا الفتح، وقدر أن الكتاب قد ينطوي على أمر بالعدول عنه، فأخذ يستدرج الرسول وهو يسايره وجعل يسأله عن المدينة وأبنائها، وظل على ذلك حتى نزلوا قرية بين رفح والعريش، وسأل عمرو عن هذه القرية من أي أرض هي؟ فقيل: إنها أرض مصر، فنزلها ونزل الرسول معه ودفع إليه الكتاب، فلما قرأه ابن العاص قال لمن حوله: «إن أمير المؤمنين عهد إلي وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا على بركة الله وعونه.» كذلك قال، فكانت كلماته هذه أول الفتح.
5
وإنما دفع عمرو رجاله للسير في أرض مصر؛ لأنه خشي إن هو أقام بالقرية التي نزلها حتى يجيئه المدد أن يزداد عثمان بن عفان والذين يرون رأيه نشاطا، فيحبس الخليفة المدد عنه ثم يرده إلى أرض فلسطين، فتفوت المسلمين بذلك فرصة يؤمن ابن العاص بقدرته على انتهازها، فقد كان يرى الروم بمصر أشد عجزا عن القتال منهم بالشام، ومصر أكثر الأرض أموالا، فإذا فتحت كانت قوة للمسلمين ليس كمثلها قوة.
وسار عمرو في أربعة الآلاف الذين معه إلى العريش، فألفوها خلاء ليس بها للروم قوة، وشد ذلك من عزم عمرو ودفعه لمتابعة سيره، ورجع رسول الخليفة إلى المدينة وذكر له أن عمرا دخل أرض مصر وسار يطلب الروم فيها، فلن يرتد عنها إلا إذا اضطرته الهزيمة إلى الارتداد، عند ذلك لم يبق في وسع الذين رأوا في إقدامه مخاطرة تعرض المسلمين للخطر إلا أن يمسكوا حتى يتبين لهم أمره، فإما خذل فكان خذلانه دليلا على حسن رأيهم وبعد نظرهم، وإما ظفر فكانوا أول المعجبين به والمهنئين له!
وقد كتب القدر لعمرو أن يكون الظفر نصيبه، وأراد الله أن تدخل مصر في حمى الإسلام، وأن تصبح الدرة الغالية في تاج الإمبراطورية الإسلامية.
هوامش
الفصل التاسع عشر
فتح مدينة مصر وحصونها
عاد رسول عمر يطوي الطريق إلى المدينة، حاملا إلى أمير المؤمنين النبأ بأن عمرو بن العاص دخل أرض مصر أشد ما يكون عزما على فتحها، وأكثر ما يكون حاجة إلى المدد، وسار ابن العاص إلى العريش فلم يجد بها من يدافع عنها، فتخطاها منحدرا إلى الجنوب من بحيرة سربونة سائرا في الطريق الذي سار فيه الفرس لفتح مصر قبل خمس وعشرين سنة من ذلك التاريخ، ولم يلق عمرو من يقف سيره حتى بلغ مدينة الفرما، وهناك لقيه الروم في قوة وقفت في وجهه وحاولت صده عن الغزو.
والطريق من العريش إلى الفرما طويل يبلغ نحو سبعين ميلا، وهو يجري خلال الصحراء، تتخلله عيون وقرى تهون على السائر شقته؛ لذلك كان الطريق المعبد بين فلسطين ومصر من أقدم الحقب، حتى لقد شهد «مقدم إبراهيم ويعقوب ويوسف وقمبيز والإسكندر وكليوبترا وأسرة المسيح»
1
إلى هذه البلاد، وكان هذا الطريق طريق الحاج بين مصر وبيت المقدس، كما كان طريق التجارة والأسفار بين آسيا وأفريقيا، وقد سار عمرو بن العاص فيه غير مرة من قبل في تجارته، كما سار فيه مع ذلك الشماس الذي روينا قصته، والذي قيل: إنه سار بعمرو إلى الإسكندرية ليجزيه عن إحيائه إياه مرتين.
والفرما هي «برمون» القبطية، و«بلوز» الفرعونية، وهي تقع على هضبة من الأرض قريبة من البحر الأبيض ومن مصب الفرع «البلوزى» من أفرع النيل السبعة؛ فقد كان النيل في ذلك العهد والعهود التي سبقته يتفرع في مصر السفلى - الوجه البحري - سبعة أفرع: اثنان منهما هما المعروفان في وقتنا الحاضر باسم فرع دمياط وفرع رشيد، وكان أولهما يسمى في ذلك الزمن الفرع الفتنتي والثاني يسمى الفرع البلبيتي؛ أما الفرع الثالث فكان مستقلا عنهما يبتدئ جنوبهما بنحو ستة أميال ويتجه إلى الشرق خلال ما نعرفه اليوم باسم مديرية الشرقية حتى يصب في البحر الأبيض على مسافة تزيد على أربعة وعشرين ميلا شرقي الموقع الذي تقوم فيه بورسعيد، وهذا الفرع الثالث هو الفرع البلوزي، أما الأفرع الأربعة الأخرى فكانت تتشعب من فرعي النيل الباقيين في عهدنا الحاضر، وكان اثنان منها يجريان في مديريتي الشرقية والدقهلية أو يصبان في البحر الأبيض خلال بحيرة المنزلة؛ الشرقي منهما هو الفرع التانيتي الذي يمر بتانيس، وهي «صان الحجر » المدينة الأثرية المعروفة في عهدنا الحاضر، والآخر هو الفرع المنديزي الذي يخترق مديرية الدقهلية متشعبا من النيل عند نقطة قريبة من موقع ميت غمر ليصب في أثناء بحيرة المنزلة في موضع بين بورسعيد ودمياط، وكان الفرع السبنتي يخترق مديرتي المنوفية والغربية مبتدئا من فرع دمياط على مقربة من موقع القناطر الخيرية ليصب في بحيرة البرلس، ثم كان الفرع الكانوبي يتشعب من أوسط فرع رشيد ليتجه شمالا بغرب حتى يصب على مقربة من الإسكندرية إلى شرقيها.
وكانت هذه الشبكة المائية الرئيسية تمد ترعا كثيرة تروي هذا المثلث العظيم من أرض مصر الخصبة المعطاء، وكان هذا المثلث يمتد غربا فيما وراء الإسكندرية حتى يبلغ برقة، فكانت منطقة مريوط آهلة ألف ناسها الترف، يقيمون في منازل جميلة تحيط بها حدائق زاهرة غناء، وكانت هذه المنطقة الكثيرة الفاكهة تمتد إلى تخوم برقة وتنتج من شهي الثمار ما يرسل الكثير منه إلى بلاد الروم، وكانت أعنابها ذات شهرة واسعة جعلت «فرجيل» و«سترابو» يتحدثان عن جودة خمرها ما تحدث أبو نواس وأصحابه عن خمر هيت وعانات.
كان ابن العاص على رأس الزاوية الشمالية الشرقية من هذا المثلث حين نزل الفرما، وكانت أنباء سيره قد سبقت إلى الروم منذ تخطي تخوم مصر، فماذا تراهم يصنعون؟ لم يدر بخواطرهم أن يواجهوه أثناء سيره في الصحراء بين العريش والفرما؛ لأنهم كانوا يعلمون أن العرب أقدر الناس على حرب الصحراء، ولأن قرب العريش وما جاورها من فلسطين يجعل إمداد عمرو بالجنود من بيت المقدس وما جاورها أمرا يسيرا؛ لذلك آثر المقوقس حاكم مصر أن يدع عمرا يمضي في طريقه حتى يبعد عنه المدد أو الأمل فيه، وأن يتخذ من حصون الفرما القوية أول موضع للقاء المسلمين، دون أن يخاطر فيذهب إلى هذا الموقع بنفسه، أو يبعث إليه الأطربون كبير القواد.
وتحصن الروم بالمدينة لمواجهة العرب، مؤمنين بقدرتهم على الذود عنها ورد العدو على أعقابه دونها؛ فقد علموا أن العرب الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد، وأنهم ليس معهم من عدة الحصار ما كان مع الفرس حين هاجموا الفرما من قبل ففتحوها دون أن يلقوا كبير مشقة، وعرف عمرو عدتهم وقوتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافا، مع ذلك لم يتردد في النزول وفي إنشاب الحرب، بعد ما خطب أصحابه وذكرهم بأن المسلمين كانوا قلة دائما حيثما واجهوا الروم والفرس، وأنهم قهروا عدوهم في المواقع كلها؛ لأن الله وعدهم النصر وكان معهم، ولم يكذب عمرو أصحابه؛ فقد حاصروا الفرما شهرا ثم اقتحموها واتخذوها معقلا بعد أن هزموا الروم فيها شر هزيمة.
كيف حدث هذا؟ كيف استطاع أربعة آلاف أن يحاصروا مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون، فيقهروا جندها ويقتحموا أسوارها ويفتضوا حصونها؟ يرى بعض المؤرخين الأمر عجبا، فيلتمسون له العلة ويزعمون أن قبط الفرما أمدوا العرب بالمعونة في أثناء الحصار، فكان ذلك سبب قهرهم عدوهم، كذلك يقول المقريزي وأبو المحاسن، ويذكر ابن عبد الحكم «أنه كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.» وهذا الذي يذكره ابن عبد الحكم لا يستقيم أكثر مما تستقيم رواية المقريزي ورواية أبي المحاسن، فأبو ميامين هذا هو الأسقف بنيامين، وهو لم يكن بالإسكندرية حين مجيء العرب إلى مصر، بل كان قد فر منها منذ سنوات إلى قوص، كما ذكرنا في الفصل السابق.
ولعل ابن عبد الحكم وغيره من المؤرخين المتأخرين إنما أثبتوا هذه القصة؛ لأنهم لم يجدوا تأويلا لانتصار عمرو على الروم إلا أن يكون قد لقي العون من أهل مصر، فأثبتوا القصة وصدقوها استنادا إلى ما كان من كراهية القبط لحكم الروم وقيامهم في وجه الاضطهاد الديني الذي فرض عليهم، والواقع أن القبط لم يعاونوا المسلمين ولم يعاونوا الروم، وأنهم لا أثر لهم في ظفر المسلمين بعدوهم واستيلائهم على مواقعه وحصونه.
لا شك في أن القبط لم يعاونوا الروم في قتال العرب إلا بالقدر الذي يضطرهم إليه خضوعهم، كارهين لسلطان قيصر وعماله، ولكن لا شك كذلك في أنهم لم يعاونوا العرب، إلا أن تكون معاونات فردية يتبرع بها خفية من بلغت ثورة نفوسهم بالروم وحكمهم مبلغا جعلهم يغامرون بحريتهم وبحياتهم، ليدلوا العرب على عورات الروم، وليكشفوا لهم عن أسرارهم، أما فيما وراء ذلك فقد وقف شعب مصر من الفريقين المتحاربين موقف المتفرج شديد التطلع، لقد أصابه الروم من ألوان الظلم والاستغلال والاضطهاد بما أزال من نفسه كل حماسة لنصرهم، وهو لا يعرف من أمر العرب ما بدعوه إلى كراهيتهم ولا إلى الترحيب بهم، هذا إلى أن قوة الروم وبأسهم في مصر جعلاه يشك في الغلب، لمن يكون آخر الأمر، صحيح أن أنباء العرب وانتصارهم في الشام والعراق كانت تبلغه، لكنه لما يكن قد نسي تغلب هرقل على الفرس في مصر وإجلاءه إياهم عنها، فلو أن هذا الشعب ناصر العرب جهرة فانتصر الروم فالويل ثم الويل له، وسيلقى من ألوان الاضطهاد أضعاف ما كان يلقى من قبل، وليس طبيعيا أن يناصر الروم وفي نفسه من كراهيتهم ما فيها، أما والحرب لا تزال في بداءتها، وليس يعلم أحد مصيرها، فالحكمة تقتضيه أن ينتظر ليرى، وأن يكيف موقفه من بعد تكييفا يجنبه الظلم والضرر، ويحقق له ما يستطاع تحقيقه من منفعة.
وموقف الشعب المصري هذا هو الموقف الطبيعي لكل شعب في مثل حاله يومئذ، لقد ود أن يخرج الروم من بلاده حتى تخلص له خيراتها فيستأثر بحقه الطبيعي فيها، وحتى تتم له حريته وكرامته وعزته كاملة في كل أرجائها، لكنه غلب على أمره منذ عصف الإسكندر المقدوني بحريته واستقلاله، كما عصف بحرية غيره من الأمم واستقلالها، فلما مات الإسكندر وآل أمر مصر إلى البطالسة الإغريق، فانفصلوا عن أمتهم وانفصلوا عن رومية واستقلوا بمصر وأصبحوا مصريين، لم ير الشعب المصري فيهم عنصرا أجنبيا يثور به أو ينتقض عليه، فالأسر المالكة كانت يومئذ في مصر وفي غير مصر من أصل أجنبي، ولا يزال ذلك شأنها إلى اليوم ، وقد جاءت هذه الأسر إلى البلاد التي استقرت على عرشها غازية في عهد من العهود، مستعينة بقوات من الجنود الأجراء الذين اتخذوا الحرب والفتح صناعتهم، فلما سكنت الحرب وضوى الناس إلى السلام اطمأنت هذه الأسر إلى البلاد التي تربعت على عرشها واتخذت منها وطنها، فرحب بهم أهلوها واتخذوهم حصنا يقيهم المنازعات بينهم، وكان ذلك شأن البطالسة؛ أووا إلى مصر وأصبحوا مصريين، واستقلوا بمصر واستقلت بهم مصر، وظل الأمر على ذلك حتى جاء «يوليوس قيصر» ثم جاء «أنطونيو» فنزلا مصر في عهد «كليوباترا» وبنزولهما مصر انضمت إلى الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف الممتدة إلى أقصى الغرب وأقصى الشمال من أوروبا، وإلى بادية السماوة من أرض آسيا.
ولم يمض غير قليل على هذا الانضمام حتى جد عنصر نقل العالم من فكرة التوسع في الفتح ابتغاء المجد إلى ميدان أكثر سموا في اتجاهه، وأجدر بالإنسان يوم يتم النضج لضمير الإنسان، ذلك العنصر كان المسيحية، فقد دعت الناس إلى المحبة والإخاء، وإلى احتقار متع الحياة الدنيا، وللتنزه عن التقاتل بسببها، وما لبثت المسيحية حين انتشرت في رومية وفي مصر، أن أنست الناس ما بينهم من عداوة وبغضاء، وأن صورت أمامهم فكرة الإمبراطورية المقدسة يعيشون تحت سمائها إخوانا متحابين في ظل الله، على أن هذه الصورة سرعان ما غشيتها سحب أضعفت إيمان الناس بها، وذلك حين بدأت المذاهب المسيحية تتعدد، فبدأ أصحاب كل مذهب ينظرون إلى أصحاب المذاهب الأخرى نظرة كراهية وحقد، بذلك عاد الناس إلى ما كانوا من قبل فيه، فعاد المصريون يمقتون الرومان المتحكمين في بلادهم، ثم ازدادوا لهم مقتا بسبب الاضطهاد الأعظم الذي أخضعهم الروم له.
لم يعاون المصريون عمرو بن العاص في الفرما، فكيف استطاع بقوته الصغيرة أن يحاصر مدينة منيعة قوية الأسوار والحصون فيقهر جندها ويقتحم أسوارها ويفتض حصونها، لقد أقام أمامها شهرا في الرواية المشهورة، وشهرين في رواية أخرى، فكان جنودها يخرجون إليه من حين إلى حين يقاتلونه ثم يرتدون إلى مدينتهم يتحصنون بها، وكان عمرو يغير في هذه الأثناء بكتائب صغيرة على ما حوله من البلاد، يجيء منها بالأقوات التي يحتاج إليها جيشه، وكانت حامية المدينة تتوقع، بعد أن طال حصارها، أن تبعث الحكومة المركزية إليها مددا يعاونها على رد العرب وإجلائهم عن مصر، لكن المدد لم يجئ، ولم يبلغ الحامية نبأ يبشر بقرب قدومه، عند ذلك رأى أميرها أن يغامر فيخرج بها إلى ما وراء الأسوار يلقى العدو وجها لوجه، طامعا في التغلب عليه والظفر به، لكنه ما لبث حين اشتد القتال أن ألفى المسلمين ليوثا ضارية لا تهاب الموت، فأمر أصحابه بالارتداد إلى الحصون والاحتماء بها ورآهم المسلمون يرتدون فتعقبوهم، وأمعنوا فيهم قتلا وأفشوا الاضطراب في صفوفهم، وسبقوهم إلى باب المدينة وملكوه عليهم، وتجاوزوا الأسوار إلى الحصون فاحتلوها، لم يبق للروم إلا التسليم، واستولى عمرو على المدينة، فهدم أقوى حصونها، وأحرق السفن الراسية في المرفأ القريب منها، وخرب كل كنيسة أو دير يمكن التحصن به فيها، ثم اتخذها معقلا يؤمن الطريق إلى فلسطين وإلى بلاد العرب، وأقام يفكر في الخطوة التي يجب عليه أن يخطوها بعد أن كسب الموقعة الأولى في الصميم من أرض مصر.
ما السبب في قعود المقوقس عن إمداد حامية الفرما؟ هذا سؤال يرد بخاطر كل مؤرخ، ويذهب بتلر إلى أنه لا يجد ما يفسر به هذا القعود إلا خيانة قيرس لقيصر، طمعا منه في فصل بطرقة الإسكندرية وشقها عن القسطنطينية، بالاتفاق مع العرب وإعانتهم على دولته، وبتلر لا يدعم هذا الرأي بأي سند، من الواقع، بل يستنبطه من الحوادث استنباطا، وفي رأينا أنه مذهب أملته عاطفة مسيحية، ولم تمله حقيقة تاريخية، إذ لما يكن قيرس قد رأى أحدا من العرب ليتفق معه، وهو قد ثبت من بعد لقتال عمرو والمسلمين في بابليون وفي الإسكندرية، فالقول بأنه خان دولة الروم لغاية في نفسه استنباط مصدره العاطفة وليس له من منطق التاريخ سند.
ونحن نرى أن القعود عن إمداد حامية الفرما يرجع إلى أكثر من سبب وأول هذه الأسباب شعور الروم في مصر بعداوة الشعب المصري لهم عداوة لا يسهل التكهن بما يمكن أن تتنفس عنه، فلو أنهم بعثوا بقواتهم المعسكرة في مصر أو في الإسكندرية للقتال في الفرما ثم ثار المصريون بهم لفت ذلك في أعضادهم، ولما كان إمداد الفرما لينقذهم من شر هذه الثورة في المدن الكبرى، ثم إنهم كانوا يذكرون هزائمهم أمام المسلمين في سورية وفي فلسطين، وكانوا لذلك لا يريدون المغامرة بمقاومة هؤلاء الجبابرة في ميدان لا يثقون بقدرتهم على المقاومة فيه، لهذا آثروا أن يتحصنوا ببابليون على مقربة من مصر ومن منف ليكون النيل خندقا بينهم وبين عدوهم، وأن يقتصر أمرهم في الفرما وفي غيرها من البلاد الصغيرة الحصينة على وقف العرب أطول زمن حتى تتاح لهم الفرصة لتقوية حصونهم في المراكز الرئيسية، فإذا غامر العرب من بعد وبلغوا مدينة مصر صدتهم حصونها عن التقدم، وربما أمكن القضاء عليهم، فكان ذلك كافيا لصرفهم عن مصر وصدهم عن التفكير في العودة إليها.
قد يكون هذا التفكير خاطئا من الناحية الحربية، لكن الحوادث التي وقعت من بعد تدل على أنه كان تفكير المقوقس وأصحابه في الفترة الأولى من دخول العرب مصر، فقد انضم إلى عمرو بعد فتح الفرما جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية طمعوا في مغانم القتال، فعوضوا المسلمين عمن فقدوا في أول حصار ضربوه بمصر، ثم إن عمرا سار منحدرا إلى الجنوب ملازما هذه التخوم فتخطى مدينة مجدل القديمة إلى موضع «القنطرة» اليوم، ومن ثم اتجه غربا إلى القصاصين، وتابع مسيرته جنوبا بغرب حتى بلغ بلبيس، وفي الطريق الطويل الذي قطعه فرسان المسلمين في أرض مصر لم يكن عمرو «يدافع إلا بالأمر الخفيف» على تعبير ابن عبد الحكم ومن أخذ عنه من مؤرخي العرب، وهؤلاء المؤرخون يروون أن راعيا من البدو الموالين للمسلمين دنا من منازل قرية في طريق عمرو، فسمع نفرا من القبط يقول أحدهم: ألا تعجبون من هؤلاء القوم يقدمون على جموع الروم وهم في قلة من الناس! ويجيب آخر: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، وهذا السير الطويل وهذا الحديث الذي يتناقله المصريون صريح في الدلالة على أن المقوقس وأصحابه لم يكونوا مطمئنين لولاء المصريين، وأنهم لذلك آثروا التحصن عند مدينة مصر على مواجهة الغزاة في هذه الأرض المكشوفة المتاخمة للصحراء، فلم يلق المسلمون من يعترض طريقهم أو يدافعهم «إلا بالأمر الخفيف» حتى بلغوا بلبيس وصاروا على ثلاثة وثلاثين ميلا من مدينة مصر وحصونها.
يتفق المؤرخون على أن المسلمين أقاموا ببلبيس شهرا قاتلوا في أثنائه عدوهم وظفروا به، لكنهم يختلفون: أكان القتال بين الفريقين عنيفا أم أن المسلمين لم يلقوا فيه من بأس الروم أكثر مما لقوا مذ غادروا الفرما، وتذهب بعض الروايات إلى أن المقوقس بعث إلى عمرو، أول ما نزل بلبيس، من يفاوضه ليرجع عن مصر، وأن عمرا تحدث إلى الأساقفة المفاوضين عن بعث الله رسوله بالحق، وأنه
صلى الله عليه وسلم
أمر أصحابه بالإعذار إلى الناس، «فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة.» وفطن الأساقفة إلى أن عمرا يشير بصلة الرحم إلى هاجر أم إسماعيل، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء! ثم أضافوا: آمنا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكم ثلاثة أيام لتنظروا وتناظروا قومكم وإلا ناجزتكم فاستزادوه فزادهم يوما ثم يوما خامسا، ورجع الملأ إلى المقوقس فحدثوه بحديث عمرو فأبى القائد الأطربون إلا مناجزة المسلمين، وقال الأساقفة المفاوضون للناس وقد رأوا مخاوفهم: «أما نحن فنسجهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام فلا تصابون فيها بشيء إلا رجونا أن يكون له أمان.»
سار الأطربون عقب هذا الحديث في اثني عشر ألفا كاملي العدة حتى يأخذ المسلمين ببلبيس على غرة، ولقد فجاهم وبيتهم بياتا شديدا، لكن عمرا كان الحذر كل الحذر، وكان كل جيشه فرسانا في عدة القتال؛ لذلك حميت المعركة بين الفريقين، فيما يذكر أصحاب هذه الرواية، فقتل فيها من العرب عدد ليس بالقليل، وخسر الروم ألف قتيل وثلاثة آلاف أسير، ثم انهزم الأطربون وتمزق جيشه، ويقال إنه قتل.
لماذا أقام عمرو شهرا كاملا ببلبيس؟ وهل أقام هذا الشهر قبل لقائه جند الروم وظفره بهم، فلما تم له النصر سار يريد مدينة مصر؛ أم أنه أقام هذا الشهر بعد انتصاره يدبر خطته ويفكر في موقفه، فلما اطمأن إلى تدبيره تابع مسيرته؟ ليس في المراجع التي وقفت عليها ما يكشف عن ذلك، وكل ما استطاع بتلر أن يستنبطه من بحوثه في تواريخ الفتح العربي أن جيش عمرو كان بالعريش في عيد الأضحى من السنة الثامنة عشرة للهجرة، وهذا التاريخ يوافق 12 ديسمبر سنة 639، وأنه فتح الفرما حول 20 يناير سنة 640 بعد حصار دام شهرا، وأنه بلغ هليوبوليس في الأيام الأخيرة من شهر أبريل لتلك السنة، فهو إذن قد بلغ بلبيس في شهر فبراير، ثم أقام بها معظم شهر مارس، لكن إيراد هذه التواريخ لا جواب فيه عما تسأل عنه، وأنت تستطيع أن تجيب استنباطا أن المفاوضين المصريين جاءوا عمرا أول ما نزل ببلبيس، وأن الموقعة بينه وبين الأطربون كانت في الأيام الأولى من مقامه بها، فلما تم له النصر لم يسارع إلى السير، بل أقام حتى يطمئن إلى ولاء البلاد المحيطة به، وأنه بقي لذلك شهرا اتصل فيه بالمصريين وكسب ولاءهم، لكنك تستطيع أن تجيب استنباطا كذلك بأنه أقام ببلبيس هذا الشهر قبل أن يجيئه المفاوضون المصريون، وأنه كان ينتظر أن يجيئه المدد الذي وعده الخليفة به في أثناء هذا الشهر، فلما سار الأطربون إليه فقدر عليه وظفر به، أراد أن يستفيد مما بعثه النصر إلى نفوس جنده من حماسة، وإلى نفوس عدوه من اليقين بأن المسلمين لن يغلبهم غالب، فسار يريد مدينة مصر راجيا أن يفتحها الله عليه ويوطئه أكنافها.
أفجاءه المدد الذي كان ينتظره قبل أن يلقى الأطربون فتغلب عليه وهذا المدد معه، أم أنه ظفر به وليس معه إلا الجند القليل الذي بقي له بعد الفرما والبدو الذين انضموا له وعوضوه عمن فقدهم في حصارها؟ الظاهر من الروايات أن المدد لم يجئه إلا بعد انتصاره ببلبيس ومسيرته منها، يقول ابن عبد الحكم ويتابعه السيوطي وابن تغري بردي: «فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى أم دنين، فقاتلوه بها قتالا شديدا وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف.» وظاهر هذا النص صريح في أن عمرا غادر بلبيس بعد انتصاره على الأطربون قبل أن يصله المدد، وأنه هزم الأطربون وعدة جيشه اثنا عشر ألفا بأربعة آلاف من الذين كانوا معه من العرب ومن بدو مصر.
سار عمرو من بلبيس متاخما الصحراء حتى نزل قريبا من قرية «أم دنين» على النيل عند مأخذ خليج تراجان الذي يصل مدينة مصر بالبحر الأحمر عند السويس، وكانت أم دنين تقع في موضع حي الأزبكية من أحياء القاهرة اليوم، وكانت حصينة يجاورها مرفأ على النيل فيه السفن كثيرة، وكانت تقع إلى الشمال من بابليون، حصن مدينة مصر الأعظم، فكانت مسلحتها لذلك طليعة الدفاع عن هذه المنطقة العزيزة على المصريين ومقر ملكهم في عهد الفراعنة الأقدمين، وكان حصن بابليون حصنا رومانيا منيعا يقع موقع مصر القديمة اليوم، وكان متين البنيان قوي الأسوار، قاومت متانته أحداث الزمن فلم ينقض بنيانه إلا في العشرين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر المسيحي، ثم بقيت مع ذلك منه أطلال لا تزال تشهدها أعيننا، وعلى أميال قليلة إلى الجنوب من هذا الحصن كانت تقع مدينة منف الخالدة الذكر الباقية الأثر، منف عاصمة مصر حين كان العالم كله يتطلع إلى مصر على أنها مهبط الوحي ومستقر الحضارة فيه، وقد بقي لمنف كل جلالها حتى نافستها الإسكندرية بهاء وجلالا، وظلت تفاخر الإسكندرية بما حولها من تراث ضخم خلفه زوسر ورمسيس وفراعنة مصر أيام أظلت العالم حضارة مصر، كما كانت تفاخرها بالأهرام وبالمقابر العظيمة القائمة حولها، وكان اسم مصر يطلق على مدينة منف أو على مدينة تقابلها على الجانب الآخر من النيل نما أمرها وزاد سكانها حتى كانت تسمى باسم منف في بعض الأحايين، وفي الصحراء الغربية الذاهبة بين منف والجيزة كانت تتصل سلسلة من الأهرام ذات العظمة والجلال، تتلاحق حتى تنتهي إلى هرم خوفو والهرمين المجاورين وأبي الهول الرابض تحت سفوحها يرقب بعيون ثابتة مطلع كل شمس، وقد قامت كلها قبالة حصون الروضة وبابليون وأم دنين.
أفتصور المسلمون الذين ساروا مع عمرو هذا المشهد الباهر لا نظير له في العالم كله؟ وهل حدثهم عنه أحد من البدو الذين ساروا معهم بعد ما فصلوا من الفرما، وحين ساروا من بلبيس بعد ظفرهم بجند الروم؟ وهل كان منهم من أحد شهد فتح المدائن وشهد أبيض كسرى ليرى عجائب الدنيا مجتمعة في هذا المكان الذي أقبلوا عليه من أرض مصر؟ أم تراهم كانوا في شغل بقلة عددهم وما يريدهم عليه عمرو من مواجهة الروم في حصون عزيزة المنال؟ لقد نزلوا قريبا من أم دنين؛ فبهرهم منظر النيل بسعة مجراه وبالخصب الممرع حوله وبأشجار الربيع ونباته يتثنى ريان ضاحك الخضرة، فوق أرض أخذت زخرفها وازينت فهي جنة للناظرين، لكنهم سرعان ما شغلوا عن هذا المنظر بالحصون القائمة أمامهم، وبما عرفوا من أن الروم أعدوا لهم بعد ما أيقنوا أن هذه الحصون ملاذهم، فإن تفتض عليهم فلا بقاء من بعد ذلك لهم، فقد جاء الروم إلى حصن بابليون بجل قوتهم، وأمدوا حصن أم دنين بمسلحة قوية، وتهيئوا لقتال لم يبق لديهم شك في أنه قتال حياة أو موت، فإما ردوا العرب بعده على أعقابهم، وإما قالوا في أعقابه ما قاله هرقل يوم ودع سورية الوداع الأخير: عليك السلام يا سورية سلاما لا اجتماع بعده!
وأدرك عمرو بن العاص دقة الموقف وخطره؛ فقد جاءته عيونه بأنباء عرف منها أنه لن يستطيع أن يفتح حصن بابليون أو يحاصره بمن معه من الجند، ولن يستطيع أن يفتح مدينة مصر، وهي في جوار الحصن وفي حمايته، لكنه أدرك كذلك أنه إن يرجع عن مهاجمة الروم يضعف شوكة رجاله ويذهب عزمهم، فيقوى عليهم عدوهم فيردهم ناكصين على أعقابهم، وما كان له أن يأتي أمرا ذلك أثره، وهو الذي أصر على فتح مصر، وهو موقن أن أمير المؤمنين لا ريب ممده عما قليل، لا بد له إذن من مغامرة يكتب له فيها النصر، وله من بعدها أن يداور ليكسب من الوقت ما يشاء حتى يجيء المدد، أما وحصن بابليون لا سبيل إليه فليحاصر حصن أم دنين، وليبذل في سبيل فتحه كل ما يستطيع بذله، فإذا استولى عليه أصبحت السفن الراسية في مرفئه رهن أمره، وأصبح في مقدوره أن يدبر خطته وأن يحكم مداورته.
وكان الحذر يقتضي عمرا ألا يفرط في رجاله أو يدفعهم إلى هلكة، وأن يستعجل أمير المؤمنين المدد ليضاعف الأمل في قرب مجيئه قوة الجند الذين معه؛ لذلك بعث رسولا إلى المدينة بكتاب يصف فيه مسيره إلى مصر وموقفه من حصونها وحاجته إلى المدد لاقتحامها، وأذاع في الجند أن المدد موشك أن يجيء، ثم إنه تقدم إلى أم دنين فحاصرها ووقف قبالتها يمنع عنها العتاد والميرة، ولم يفكر الروم المقيمون في حصن بابليون أن يخرجوا إليه وقد علمهم مصير الأطربون أنه لا طاقة لهم بالقتال المكشوف، أما مسلحة أم دنين فكانت تخرج إلى القتال أحيانا ثم ترتد إلى الحصن إن لم تظفر بالمسلمين، ومضت أسابيع لم يتغير الموقف فيها، وإن لم يشعر المسلمون أثناءها بشيء من القلق أن كانت الميرة في متناول أيديهم.
وإنهم لكذلك أن جاءتهم الأنباء بمقدم أول مدد لهم، وبأن هذا المدد موشك أن يبلغهم فقوى بأسهم، واشتدت سطوتهم، وأقبل المدد، ورآه حماة الحصن من جنود هرقل، فسقط في أيديهم وقل خروجهم للقاء المسلمين، فلما رأى عمرو ذلك منهم، وكان قد عرف مداخل الحصن ومخارجه، تخير وقتا أمر فيه أصحابه أن يشدوا كلهم على الحصن شدة رجل واحد ليأخذوه عنوة، وسار هو في طليعتهم إلى بابه، ففتحه الله عليهم فاستولوا عليه بعد مقتلة عظيمة، وبعد أن أسروا من بقي فيه حيا.
لم يذكر المؤرخون تفصيل ما وقع في اليوم الحاسم لهذه المعركة، ويذهب بتلر إلى أن عمرا شق على رجاله في ذلك اليوم، مستندا إلى قصة رواها مؤرخو العرب أن عمرا رأى جماعة يترددون في القتال فصاح بهم يحثهم عليه ويدفعهم إليه، فقال له أحدهم: إنا لم نخلق من حديد، فانتهره عمرو بقوله: اسكت! إنما أنت كلب! وأجابه الرجل: فأنت أمير الكلاب! فأعرض عمرو عنه ونادى بأصحاب رسول الله وقال لهم: تقدموا فبكم ينصر الله، فاندفعوا في الوطيس وتبعهم الناس، ففتح الله على المسلمين، وابن الأثير يذكر هذه القصة حين يذكر وقعة عين شمس، وأيا ما كانت الموقعة التي حدثت القصة فيها فلا ريب في أن إقبال المدد قد كان له أثر كبير في استيلاء المسلمين على أم دنين بعد أن أبطأ عليهم فتحها، وأن عمرا نزلها ثم عبر مع جنده النيل في السفن التي كانت بمرفئها، وسار على رأسهم يتخطون الصحراء مجتازين أهرام الجيزة.
أخذ الروم اللاجئون إلى بابليون حين عرفوا مصير أصحابهم بأم دنين، وتولتهم الدهشة حين قيل لهم: إن جيش المسلمين تخطى النيل ضاربا في الصحراء، فما مقصد عمرو من عبور النهر؟ وما عسى أن تكون وجهته؟ أتراه أزمع السير على الفرع الكانوبي يريد الإسكندرية محاولا فتحها بمن معه من الجند؟ إنه إذن لمردود دون غايته، ولن يبوء إلا بالهزيمة النكراء، لكنهم عرفوا من أنبائه في أثناء سيره بمصر، وجربوا من دهائه وبعد نظره ما أورثهم الريبة من مقصده، وأعماهم عن غرضه، وهو لم يفكر بالفعل في السير إلى الإسكندرية، وكيف يسير إليها وهو يعلم أنها مفتوحة لمدد الروم من البحر! بل كيف يسير إليها تاركا وراءه حصن بابليون سليما زاخرا بالرجال والعتاد! إنما فكر في أن يسير إلى الفيوم يشيع الفزع في نفوس أهلها، ويقيم الدليل للمصريين على أن دولة الروم لا محالة زائلة، وليس في طريق الصحراء بين الفيوم وبابليون عقبة واجتياز هذا الطريق هين على أبناء البادية من أهل شبه الجزيرة، وهو بعد طريق قريب يقطعه الفارس في ساعات معدودة، فإذا استطاع عمرو إشاعة الفزع في هذا الإقليم بلغ مقصده، وكسب من الوقت ما يكفي الخليفة لإرسال مدد جديد يستطيع به عمرو أن ينفذ خطته في الفتح، وأن يدخل به مصر في حكم المسلمين.
لكن عمرا لم يلبث حين بلغ تخوم الفيوم أن علم أن الروم أعدوا للدفاع عن الإقليم ووضعوا الجنود على مداخله؛ لذلك لزم الصحراء وجعل يغير بكتائب قليلة على البلاد القريبة منه، يسوق النعم طعاما لجيشه، وجاء البدو المقيمون بهذه المنطقة بأنباء عرف منها أن كتيبة من الروم بإمرة رجل اسمه حنا تسير مختفية في النخيل والآجام قبالته متنطسة أخباره فإذا حاول اقتحام البلاد الآهلة دعت الجيش المرابط في ثغور الفيوم لمواجهته، عند ذلك أغذ السير حتى بعد بحنا وكتيبته عن الجيش، ثم ارتد إليه وحاصره ومن معه وقتلهم عن آخرهم.
أذاعت هذه الفعلة الرعب في قلوب أهل الإقليم جميعا، وقد حزن قائد الروم بالفيوم لمقتل حنا أشد الحزن وأمر بالبحث عن جثته، فلما انتشلت من النهر حنطت ووضعت على سرير وحملت إلى حصن بابليون، وبعث بها إلى هرقل في القسطنطينية، وحزن هرقل لمرآها وأقسم ليدافعن عن مصر بكل قوته، واندفعت قوة من الفيوم تلقى جيش المسلمين وتنشب القتال معه، لكن عمرا اكتفى بالظفر بحنا وأصحابه وبما أنزله من الرعب في أهل الإقليم، وظل متحصنا بالصحراء راغبا عن لقاء عدو يخشى الصحراء ويرى الموت كامنا فيها، ولشد ما اغتبط الروم حين رأوه ينسحب بقواته ممعنا في الفيافي؛ فقد خيل إليهم أنه خشي لقاءهم ففر منهم، فعادوا إلى قومهم وعلى ثغورهم ابتسامة الرضا بأن كفاهم الله شر القتال!
والواقع أن عمرا لم ينسحب؛ لأنه خافهم، بل انسحب عائدا إلى أم دنين يسرع السير جهد طاقته؛ لأن رسولا من المسلمين جاءه فذكر له أن أمير المؤمنين بعث إليه بمدد جديد، وأن هذا المدد سار من الفرما إلى بلبيس في الطريق الذي سار فيه عمرو وأنه يوشك أن يصل إلى حصون الروم، فلم يكن لعمرو بد من أن يرجع للقاء المدد خشية أن يقطعه الروم عنه وأن يردوه عن عبور النهر إليه، والمحقق أنه أبدى في ذلك مهارة فائقة؛ فقد كانت جيوش الروم مشرفة على النيل من حصن بابليون، وكان في مقدورها أن تخرج من الحصن وأن تعبر النهر، وأن تحول بين قائد المسلمين والمدد المقبل إليه، لكنها لم تفعل واستطاع عمرو أن يعبر الشاطئ الشرقي وجيشه معه، وأن يتصل بالمدد الذي نزل هليوبوليس على مقربة من الحصن الروماني.
كيف أتم القائد البارع هذه المعجزة من معجزات الحرب؟ أتراه اتخذ الليل لباسا له ولجيشه ثم عبر النهر محتميا في ظلمته؟ وهل بقي الروم في غفلة عنه في أثناء سيره وأثناء عبوره فلم يواجهوه ولم يحاولوا رده؟ أم هم عرفوا مجيء المدد وسيره للقائهم فخافوا أن يتخلوا عن الحصن فيهاجمه المدد ويفتضه على من فيه؟ لم يذكر المؤرخون ما يلقي شيئا من النور على هذه المداورة البارعة، وهذا الانسحاب الدقيق من الفيوم إلى هليوبوليس، وكل ما يذكره بتلر استنادا إلى مراجعه الكثيرة أن عمرا استطاع أن يعبر النهر، إما عنوة وإما غرة من الروم «وأغلب الظن أنه عبر النهر في موضع أسفل من موضع أم دنين إلى الشمال منها، فقد علم بأن أمداد المسلمين سائرة في طائفتين ميممة شطر «عين شمس» وهي «هليوبوليس» وعلم أن مقامه في الجانب الغربي مخطر، والحق أنه فزع خوفا من أن يفطن الروم إلى الأمر، فيحولوا بينه وبين الاتصال بالمدد الذي جاء به الزبير، ولكن «تيودور» (قائد الروم) ضيع الفرصة على عادته، فلم يضرب الضربة القاضية، واستطاع عمرو أن يسير للقاء المدد ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس وقد امتلأت قلوب أصحابه عزة وبشرا بما وفقوا له من الفوز في غزوتهم.»
كانت عدة المدد الذي أقبل ثمانية آلاف، عليهم الزبير بن العوام ومعه عبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد، وقد اغتبط عمرو بمقدمهم أيما اغتباط، فلو أنهم أبطئوا عليه أكثر مما أبطئوا لبلغ موقفه من الدقة ما يتعذر معه على أكثر القواد مهارة أن يغالبه ويغلبه، والحق أن المغامرة التي أقدم عمرو عليها، منذ قدم مصر إلى أن جاءه المدد، جديرة أن تعقد تاج الفخر على هامة أشد القواد مخاطرة وأعظمهم براعة، فقد ظل يواجه الأخطار ويقتحمها، ويدفع إلى النفوس اليقين بأن الروم لا حيلة لهم في قوم هزموا كسرى وقهروا قيصر، ألم يواجه جموع الروم في الفرما وفي بلبيس وفي أم دنين وفي الفيوم، فلم يظفروا به مرة واحدة على حين ظفر هو بهم مرات! وفي هذه الأثناء كانت كتبه إلى عمر باستعجال المدد لا تنقطع، وكان المدد الأول إليه قليلا فلم يضعضع ذلك من عزمه، ولم يبعث اليأس إلى نفسه، بل كان يلتمس وجوه الحيلة للإبقاء على القوة المعنوية سامية بروح جيشه، واثقا من مضاعفة أمير المؤمنين المدد له، ومن إنفاذ خطته كاملة متى حانت الفرصة لإنفاذها.
وقد يتولانا العجب لإبطاء المدد عن عمرو كل هذا الزمن؛ فقد كان انتصاره في الفرما وفي بلبيس قمينا أن يعجل أمير المؤمنين بإمداده، حتى لا يتعرض لمواجهة الروم في حصونهم المنيعة على النيل بجنده القليل، أتراه ظن أن قائده يقيم بالعريش أو بالفرما حتى يأتيه المدد، وأنه لن يغامر بقتال عدوه وهو فيمن هو فيهم من الجند، فلما جاءته الأنباء بانتصاره في الفرما وبمسيرته إلى بلبيس، وبأنه يوشك أن يواجه الروم في عاصمة الفراعنة، ندب الناس مددا له، ثم ضاعف هذا المدد من بعد وجعل على رأسه الزبير بن العوام حين جاءته أنباء أم دنين وانتصار عمرو فيها؟
2
أيا ما يكن الأمر فقد كان الزبير يومئذ قد هم بالغزو وأراد أن يأتي أنطاكية، والزبير ابن عمة النبي وصاحبه، وكان من أبطال العرب المعدودين، فلما عرف عمر ما هم به دعاه وقال له: «يا أبا عبد الله! هل لك في ولاية مصر؟» فأجابه الزبير: «لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهدا وللمسلمين معاونا، فإن وجدت عمرا قد فتحها لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطت به، وإن وجدته في جهاد كنت معه.» ودعا له عمر وودعه، فسار على رأس الجيش حتى دخل مصر وجعل وجهته عين شمس.
وكان اختيار عمر للزبير توفيقا من الله أعظم التوفيق؛ فقد عرف هذا البطل بشدة المراس وقوة الشكيمة منذ نشأته، وكان إلى ذلك كريما في الناس عزيزا عليهم، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا، فلما سار إلى المدينة لم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله، وقد بايع رسول الله على الموت في أحد، وندب النبي الناس يوم الخندق من يأتيه بخبر الأحزاب وبني قريظة، فانتدب الزبير، وندبهم الثانية فانتدب الزبير، وندبهم الثالثة فانتدب الزبير، فقال رسول الله: «إن لكل نبي حواريا وحواريي الزبير بن العوام.» وكانت مع الزبير إحدى رايات المهاجرين الثلاث يوم فتح مكة، لهذا كله أدناه النبي ومحضه الحب، فلما خط الدور بالمدينة جعل له بقيعا واسعا وأقطعه نخلا كانت من أموال بني النضير، ورخص له في لبس الحرير، وقد أحبه أبو بكر وعمر كما أحبه رسول الله، فأقطعه الصديق الجرف وأقطعه عمر العقيق أجمع؛ بل لقد أحبه كل من عرفه، وكان الجنود الذين يسيرون في إمرته أشد الناس حبا له.
تخطى عمرو بن العاص النيل وسار إلى عين شمس، واتصل بالزبير وبالمدد العظيم الذي جاء معه، وكان الزمن قد جر على عين شمس يومئذ ذيل العفاء، فلم تبق «أون» مدينة الشمس الفرعونية العظيمة التي كانت كعبة العلوم والدراسات، والتي عرفها أفلاطون وعرفها غيره من فلاسفة اليونان، وتلقوا فيها المعرفة والحكمة، ودرسوا بها الفلسفة والفلك ورأوا من سعة عمرانها وعظمة عمارتها وجلال معابدها ومسلاتها وتماثيلها ما ذكره «هيرودوتس» كما ذكر تبحر رجال الدين بها في التاريخ المصري كله، فقد جرت الإسكندرية وفلسفتها على عين شمس ما هوى بها وبمنف من ذروتهما الرفيعة، فلما حكم الرومان مصر ثم دان أهلها بالمسيحية، هجر العلم وهجر الفقه عين شمس إلى غير عودة ، ونقلت منها المسلات والتماثيل إلى طائفة من مدن الدلتا، بل نقل بعضها عابرا البحر الأبيض إلى رومية، وكذلك تدهور كل ما في مدينة الشمس بعد أن أضاءها العلم وأضاءتها الحكمة بنورهما قرونا طويلة، فلم يبق بها حين نزلها العرب من مجدها القديم إلا اسمها اليوناني «هليوبوليس» وإلا أسوار مهدمة وتماثيل مطمورة تحت الثرى، ومسلة لا تزال قائمة ببلدة المطرية إلى يومنا الحاضر، تدل شاهدها على موقع مدينة الشمس القديمة، ويروي صمتها حديث ذلك العهد المجيد العظيم.
وقد اختار عمرو بن العاص أطلال عين شمس، فعسكر بها وعسكر معه المدد الذي جاء مع الزبير بن العوام؛ لأن هذا المكان كان نهدا من الأرض يسهل الدفاع عنه، ولأنه كان فيه ماء كثير، ومن حوله ميرة وفيرة تصلح لإمداد الجيش بالمئونة، فلما اطمأن إلى منازله فيها ورأى من حوله خمسة عشر ألفا وخمسمائة جندي أيقن أن ساعة الفصل بينه وبين الروم اقتربت، فجمع أصحابه من أولي الرأي في الحرب وتداول معهم في خطة القتال، وكان أكبر همه أن يستخرج الروم من حصن بابليون ليقاتلهم في السهل، وسرعان ما جاءته عيونه بأن الله محقق عما قليل رجاءه، فقد تداول تيودور أمير جند الروم مع أصحابه، فرأوا أن مقامهم بالحصن يظهرهم أمام المصريين مظهر الجبن والضعف، ويغري الناس بالانضمام إلى المسلمين ومعاونتهم، وقد كانت أعدادهم تفوق أعداد المسلمين، وكانوا خيرا منهم عدة؛ لذلك عزموا على الخروج إلى العرب لمناجزتهم، وأزمعوا السير إلى عين شمس لإجلائهم عنها، فلما عرف عمرو خطتهم دبر للقائهم والقضاء عليهم، فأخرج خمسمائة رجل ساروا تحت الليل من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بني وائل عند قلعة الجبل، وأخرج خمسمائة آخرين جعل عليهم خارجة بن حذافة فساروا قبيل الصبح إلى أم دنين - في حي الأزبكية الحالي - وزود هؤلاء وهؤلاء بأوامره، فلما تنفس الصبح سار من عين شمس على رأس قواته كلها حتى بلغ موضع العباسية في وقتنا الحاضر، وهناك أقام ينتظر جموع الروم القادمة من حصن بابليون عند مصر القديمة.
وخرج الروم من حصنهم في الصباح الباكر، وساروا بين الأديار والبساتين المحيطة بالحصن من شماله الشرقي، وإنهم ليتقدمون إلى عين شمس إذا بلغهم أن عمرا انحدر منها في صحبه يريد لقاءهم، وقد استخفهم الطرب لذلك، وأيقنوا الظفر به وتعاهدوا فيما بينهم على القتال حتى الموت، فلم يكن عندهم من شبهة في أنهم إن يفتهم النصر ذلك اليوم فقد اندك صرحهم ودالت دولتهم في هذه البلاد الغنية المعطاء، والتقى الفريقان فأنشبوا القتال وعضوا على النواجذ والتحموا وعلاهم غبار المعركة، ولا يريد أيهم أن ينفصلوا حتى تفصل الحرب بينهم، وإنهم لكذلك إذ انحدرت الكتيبة المختبئة في مغار بني وائل تهوي من الجبل فتعصف بمؤخرة الروم عصفا، ولم يكن الروم على علم بهذه المكيدة؛ لذا تولاهم الفزع لما أصابهم، فاضطربت صفوفهم وتقهقروا متياسرين نحو أم دنين، عند ذلك خرج الكمين الآخر إليهم فأمعن فيهم قتلا، فخيل إليهم أن ثلاثة جيوش من العرب تقاتلهم من ثلاث نواح مختلفة، وأنهم لا أمل لهم في المقاومة، فانحل نظامهم ولاذ أكثرهم بالهرب يطلبون النجاة من سيوف العرب، وبلغت طائفة من الفارين الحصن فلاذت به، وساق الفزع طائفة إلى النهر فنزلت السفن تلتمس النجاة في حمى الماء حتى تبلغ الحصن على ظهره، وكان عدد الذين هلكوا في الموقعة وفي الطلب أجل من أن يحصى، ورأى العرب ما أصاب عدوهم من الفزع، فمالوا إلى حصن أم دنين فاستولوا عليه كرة أخرى، وكذلك انتصر المسلمون في هذه الموقعة التي يسميها المؤرخون موقعة عين شمس نصرا حاسما وطد أقدامهم على ضفاف النيل، وأراهم مصر كلها في قبضة أيديهم.
وكيف لا يرونها في قبضة أيديهم وقد علموا أن الذين هربوا إلى حصن بابليون لائذين به لم يلبثوا حين سمعوا بهلاك من هلك من جيش الروم أن فروا من ملجئهم وركبو السفن، وساروا في الفرع الغربي للنيل - فرع رشيد - حتى بلغوا حصن نقيوس إلى الشمال من منوف، ولئن بقيت مع ذلك مسلحة قوية وكل إليها الدفاع عنه، لقد أشاع انتصار المسلمين من الفزع في الناس جميعا ما دفع إلى نفوسهم اليقين بأن النصر كتب لهؤلاء الغزاة لا محالة، وكان تصرف عمرو بعد الموقعة مما زاد الناس بهذا الأمر إيمانا، فقد سار إلى مدينة مصر فاستولى عليها بغير قتال، ولم يستطع الجيش الذي بالحصن أن يمد لها يد المعونة كما كان يفعل من قبل، ثم نقل عسكره من عين شمس فأنزله في شمال الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، في المكان الذي أقام فيه الفسطاط من بعد.
وجاءته الأنباء بأن حامية الروم بالفيوم فرت إلى «نقيوس» حين علمت بنصر المسلمين فجهز كتيبة عبرت النهر وسارت في طريق الصحراء، فاستولت على إقليم الفيوم كله، ولم يكتف بهذا، بل أرسل قوة أخرى إلى جنوب الدلتا، فاستولت في إقليم المنوفية على أثريب ومنوف، لهذا كله آمن الناس بأن النصر قد حالف الغزاة، فخشعت نفوسهم وخضعوا طوعا أو كرها لما فرضه عليهم عمرو من الأموال والميرة، وبخاصة بعد أن رأوا الحكام من الروم يؤتى بهم بأمره مجموعة أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، واستولى الروع على كثيرين وأفزعتهم رهبة الغزاة الفاتحين، ففروا إلى الإسكندرية زرافات يخطئها العد، يرجون أن يجدوا في حصونها وأسوارها ملجأ، ويطمعون في أن يمدها قيصر من البحر بقوات تمكنها من دفع الغزاة القاهرين.
لم يبطر الظفر عمرا، ولم يغره بالسير إلى الإسكندرية ليفتحها قبل أن يفتض حصن بابليون على من فيه، فلو أنه فعل لاضطر إلى توزيع قواته ليذر جانبا منها على حصار الحصن وليسير بسائرها إلى الشمال على فرع النيل يقاتل حتى يبلغ العاصمة، وفي هذا التوزيع من الخطر ما لم يغب عنه؛ فقد كثرت القوات اللائذة بالحصن، وأصبح في مقدورها الذود عنه، لا سيما أنها كانت مهددة بالفناء إذا فتح العرب أبواب الحصن ودخلوه عليها عنوة، فلم يكن لها بد من أن تقاتل قتال المستميت، ولئن كانت روحها المعنوية قد تضعضعت، لقد كانت ترجو أن يفتق طول الحصار الحيلة لهرقل أو لقواد الروم بالإسكندرية فيمدوا الحصن وينقذوا من فيه، ولم تكن هذه القوات في ريب من أن الحصار سيطول؛ فقد تقدم الصيف وبدأ فيضان النيل وارتفاع مياهه، فلم يكن في مقدور المسلمين أن يجتازوه أو يهاجموا الحصن على متنه، ولم يكن لهم بد من انتظار هبوط الفيضان، فليصبر حماة الحصن وليصابروا؛ فكثيرا ما غيرت المفاجآت سير الحرب، والظفر في كل حرب لأطول الجند صبرا وأكثرهم احتمالا.
عزم عمرو على محاصرة الحصن، وعزم اللاجئون إليه على الدفاع عنه أو يبيدوا دونه، وقوى عزمهم على الاستماتة في الدفاع ما كانت عليه أسوار الحصن وأبراجه من منعة لا تنال، فهذا الأثر الذي لا تشهد أعيننا منه اليوم في مصر القديمة إلا أطلالا دوارس لأسواء متهدمة وبقايا محطمة لبرجين بينهما باب قديم قد كان حين الفتح العربي قلعة رومانية من أمنع القلاع وأقواها، كانت أسواره ترتفع نحو ستين قدما، وكان سمك هذه الأسوار ثماني عشرة قدما، وكانت صروحه تزيد على الأسوار ارتفاعا، وكان في كل صرح سلم صاعد إلى أعلى البناء يشرف الناظر منه على جبل المقطم من الشرق، وعلى الجيزة والأهرام وصحراء لوبيا من الغرب، ويرى منه مجرى النيل إلى مسافات بعيدة من الشمال ومن الجنوب، وكان النيل يبلغ باب الحصن الأكبر، فكانت السفن الرومانية ترسو عنده إلى جانب درج يهبط منه إليها، وكان هذا الباب الأكبر مصنوعا من الحديد أو مصفحا به فكان اقتحامه مستحيلا لمتانته ولحماية السفن له، هذا إلى أن جزيرة الروضة القائمة وسط النهر كانت بها حصون قوية تزيد حصن بابليون منعة وقوة، وكان في داخل الحصن آبار يستسقى منها حماته، كما كانت المزارع والحدائق الممتدة من حوله تمده بالميرة، وكان يحيط بالحصن خندق عليه قنطرة متحركة لا يستطيع فتحها أو تحريكها إلا من داخله، لهذا كله أمنت القوات المتحصنة به جانب العدو، واطمأنت إلى مقدرتها على الدفاع عنه حتى يأتيها المدد أو تحدث مفاجأة من مفاجآت الحرب ترد العرب على أعقابهم.
حاصر عمرو الحصن ومن فيه، وكان يعلم أن الحصار قد يطول بسبب ارتفاع النهر وتدفع تياره، ولمناعة الحصن وقوة أسواره، لكنه كان يعلم كذلك أن الفيضان لن يدوم إلا شهرا أو شهرين، فمناجزة القوم في أثنائهما كفيلة بأن تزيد روحهم ضعفا، ثم إن تدفع التيار بسبب الفيضان يجعل مجيء المدد على النيل من نقيوس أو من الإسكندرية إلى الحصن أمرا عسيرا، فإذا تعاقبت الأيام والأسابيع ويئس حماة الحصن من المدد ازدادت روحهم ضعفا فذهب ريحهم، فإذا ثبتوا مع ذلك حتى ينزل الفيضان أصبح اقتحام الحصن عليهم أمرا مستطاعا.
كان المقوقس بالحصن
3
منذ ابتدأ الحصار، وكان على إمرة جنود الحصن قائد رومي يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج» ويحسب بتلر أن هذه التسمية تحريف منهم لاسم «جورج» وكان جند الحصن كلهم من الروم إلا قليلا من القبط لعلهم كانوا في خدمتهم، وكان الروم بالحصن يرمون العرب بالمجانيق، فيجيبهم العرب بالحجارة والسهام، ودام الحصار على ذلك شهرا والعرب لا تهن لهم عزيمة ولا ينفد لهم صبر، ورأى المقوقس وأصحابه أن النيل قد بدأ فيضانه ينزل، إذ كان شهر أكتوبر سنة 640 قد بدأ، فاجتمعوا في سر ممن معهم وتشاوروا في الأمر وبسط لهم المقوقس رأيه، وكان يرى أن المدد لن يأتي ليرفع عنهم الحصار قبل أشهر، وأن العرب سيضيقون عليهم الخناق في هذه الأثناء ويرهقونهم بألوان البأساء، وكيف لا يفعلون وقد قضوا من قبل على جيوشهم في الفرما وبلبيس وأم دنين والفيوم وعين شمس! وها هم أولاء يحاصرونهم بما لا قبل لهم به، أليس خيرا أن يفتدوا أنفسهم بالمال ليرحل هؤلاء العرب ولتعود مصر إلى ملك الروم؟! وما زال المقوقس يسوق الحجج في بيان ساحر حتى انضم الحاضرون جميعا إلى رأيه، لكنهم رأوا أن من الخير أن تجري المفاوضة مع العرب سرا حتى لا يقف أحد من المدافعين عن الحصن على شيء من أمرها، وأن يتولاها المقوقس بنفسه، وتسلل المقوقس وجماعة من أصحابه من الحصن بعد جنح الليل، وركبوا السفن إلى جزيرة الروضة فلما بلغها أرسل إلى عمرو بن العاص برسالة مع أسقف بابليون وجماعة معه يقول فيها:
إنكم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، ويقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم، فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالا من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء.
وانتظر المقوقس أن يعود إليه رسله في اليوم نفسه برد عمرو، فما كان هذا الرد ليزيد على قبول المفاوضة أو رفضها، فإن رفضت عاد كل إلى موقفه وعاد القتال كما كان، وإن قبلت اختار كل فريق مفاوضيه ابتغاء الوصول إلى صلح إن أمكن، لكن رسل المقوقس حبسوا عنه يومين كاملين، فخاف عليهم وقال لأصحابه: أترون القوم يحبسون الرسل أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يريهم حال المسلمين، ولقد عادوا بعد يومين يحمل رئيسهم رسالة عمرو إلى المقوقس يقول فيها:
إنه ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.
دهش المقوقس لما سمع؛ فليس هذا جواب من يريد المفاوضة، بل هو جواب المنتصر يريد أن يفرض حكمه، أترى بلغ من هؤلاء القوم الغرور أو بلغت منهم الثقة بالنفس فليس إلى إغرائهم بالمال أو بغير المال سبيل! وسأل رسله كيف رأوهم؟ فأجابه رئيسهم: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما كان جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كأنه واحد منهم؛ ما يعرف رفيعهم من وضيعهم؛ ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد؛ يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.»
أطرق المقوقس حين سمع هذا الوصف، ثم رفع رأسه وقال لأصحابه: «والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقدر على قتال هؤلاء أحد! ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.»
أترى هوى الضعف بنفس المقوقس فأملى عليه هذا الجواب؟ أم كان يطمع في إغراء العرب بعرض سخي يستهويهم فيرضونه ويرحلون عن أرض مصر؟ الجواب عن هذا وذاك تنطق به الحوادث من بعد؛ فقد رد المقوقس رسله إلى المسلمين يقول لهم: «ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم على ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم.»
ولم يرفض عمرو ما طلب إليه، فبعث عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان أسود اللون ضخما طويلا، وأمره أن يكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث، ودخل القوم على المقوقس وأراد عبادة مخاطبته، فلما رآه قال: «نحوا عني هذا الاسود وقدموا غيره يكلمني.» ولعله أراد بهذا أن يوقع بينهم، لكنهم أجابوه جميعا بأنهم يرجعون إلى قول عبادة ورأيه، وتكلم عبادة وذكر ما أمر الله ورسوله المسلمين به من الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجهاد في الله، وحب الاستشهاد في سبيله، وأعجب المقوقس بكلامه، وأبدى إعجابه لأصحابه، ثم قال لعبادة: «لقد توجه إلينا لقتالكم من جميع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا شهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، وتطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.»
هذا الكلام يجمع إلى الوعد الوعيد، وإلى الإغراء التهديد؛ فهذه ثلاثون ألف دينار تعرض على عبادة ثمنا للانصراف عن الحرب، فإن أباها كان مهددا بمدد الروم الذي يتكلم المقوقس عنه، ولكن أوامر عمرو إلى عبادة كانت صريحة، وكان عبادة شجاعا لا يهاب الموت؛ لذلك أجاب المقوقس مزدريا جمع الروم وعددهم، ذاكرا قوله تعالى:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وأن كل رجل من المسلمين يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وأنهم إلى ذلك في أوسع السعة من معاشهم وحالهم، «فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك أو نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من قبل إلينا.» ثم ذكر له أنهم إن أسلموا انصرف العرب عنهم، وإن أبو الإسلام وأدوا الجزية أدخلهم المسلمون في حمايتهم ودافعوا عنهم، وإن أبو الإسلام والجزية جميعا فليس إلا الحرب تفصل بين الفريقين.
حاول المقوقس عبثا أن يصرف عبادة إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث، والتفت إلى من معه يستطلع رأيهم فأبوا إجابة المسلمين إلى شيء مما طلبوا؛ فانصرف عبادة وأصحابه لم يغيروا مما قالوه حرفا، وعاد المقوقس ينصح أصحابه بمصالحة المسلمين، فسألوه: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: «إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.» قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا! قال: «نعم! تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم أو تكونوا عبيدا تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.» قالوا: الموت أهون من هذا! وعادوا إلى الحصن وقطعوا الجسر من الجزيرة، وعادت الحرب بينهم وبين المسلمين.
ماذا حدث بعد ذلك؟ يقول مؤرخو العرب: «فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر منهم، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة .» ويقول بتلر: «ويظهر لنا أن كبار الروم طلبوا أن يهادنهم العرب شهورا ليروا رأيهم، فأجابهم عمرو جوابا قاطعا أنه لن يمهلهم أكثر من أيام ثلاثة، غير أن عمل المقوقس لم يلبث أن ذاع في الناس، فثار ثائرهم وأبى جند الإمبراطور إلا القتال، فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهزون للخروج إلى المحاصرين يناجزونهم، ولم يبعثوا ردا إلى عمرو، وخرجوا إليه بغتة فوق قناطرهم فأخذوا جنود المسلمين على غرة، ولم تذهل تلك البغتة العرب، فأسرعوا إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالا شديدا، وقاتلهم الروم يومئذ مستبسلين، غير أن العرب تواردوا إليهم منذ نذروا بهم فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة.»
ليس بين الروايتين فيما نرى خلاف، وكلاهما متفق على أن العرب أحرزوا هذا النصر بعد أيام معدودة من مفاوضة عبادة بن الصامت والمقوقس، ولم يرد المقوقس أن يضيع الفرصة فعاد إلى قومه يحدثهم في ضرورة الإذعان لما طلبه العرب من الجزية، وأقره القوم كارهين، فبعث إلى عمرو يذكر له أنه لا يزال على رأيه في مصالحته، «فأعطني أمانا اجتمع أنا وأنت، وأنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم لنا ذلك جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.» وأبى أصحاب عمرو ما عرضه المقوقس، وآثروا الحرب حتى تصير الأرض كلها لهم فيئا وغنيمة، فقال لهم عمرو: قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده؛ فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم، ومع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم، وقد كان هذا الرأي من عمرو رأي السياسي المحنك والقائد البارع، فقد أحدق الماء بالمسلمين من كل وجه، وصاروا لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، فدفعهم إلى القتال خطأ في التقدير، وانتظارهم هبوط الماء قد يتيح للعدو فرصة وقد يهيئ للإسكندرية إمداده، ثم إن الروم في الحصن قد تضعضعت قواهم وخارت عزائمهم فمن حسن الرأي مفاوضتهم وهم فيما هم فيه من هذه الحالة النفسية، حتى لا يبعث اليأس إلى نفوسهم قوة التجلد والاستماتة، ولهم من مناعة الحصن ملجأ يستطيعون المقام فيه زمنا طويلا.
وتصالح عمرو والمقوقس على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها وأسفلها من القبط دينارين على كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعلى أن للمسلمين منهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، وألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
عقد هذا الصلح وعلق نفاذه على رضا الإمبراطور به، وأخذ المقوقس على نفسه أن يبعث به إلى هرقل، واتفق الفريقان على أن تبقى جيوشهما حيث هي حتى يجيء رد قيصر، وأن يبقى الحصن مع الروم إلى ذلك الحين، وركب المقوقس النهر إلى الإسكندرية، ومنها بعث بتفصيل ما حدث إلى القسطنطينية مصحوبا بمذكرة إضافية طلب في ختامها إلى هرقل إقرار الصلح حتى يكفي مصر شر الحرب وويلاتها، وحار هرقل حين اطلع على المذكرة وعلى الوثائق، فلم يعلم منها أكان الصلح خاصا بحصن بابليون، أم كان مداه ترك مصر كلها للعرب؟ وهل يبقى العرب في البلاد بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها؟ لذلك استدعى المقوقس إليه يجلو له ما اشتبه عليه، وحاول المقوقس حين لقيه أن يهون الأمر، فذكر له أن العرب قد يحملون على الخروج بعد من مصر، فلما أحرجه الإمبراطور بالسؤال لم يجد خيرا من الحقيقة يصارحه بها، فقال له: «لو رأيت هؤلاء العرب وبلاءهم في القتال لعرفت أنهم قوم لا يغلبون، فليس لنا من سبيل خير من الصلح مع عمرو قبل أن يفتح حصن بابليون عنوة وتصبح البلاد غنيمة لهم.»
لم يكن هرقل بالذي يجهل قوة العرب وبأسهم؛ فقد بلا من ذلك في الشام من سنوات عدة ما لم ينسه وما لا يمكن أن ينساه، لكنه لم يتوقع قط أن تدور الدائرة على جيوشه في مصر، وأن تدور عليهم بهذه السرعة، فالعوامل الجنسية والجغرافية التي أعانت العرب في الشام لا شيء من مثلها في وادي النيل، وهو أعرف الناس بحصن بابليون، وأنه أمنع من أن ينال منه محاصر ما حسنت قيادة المدافعين عنه، وقد كان له بمصر مائة ألف من الجند يقاتلهم اثنا عشر ألفا، فكيف يغلب هذا العدد القليل الذي يسير في الصحراء تلك القوات الضخمة المتحصنة في أسوار متينة وقلاع مملوءة عتادا؟ لا بد في الأمر من سر هو الذي أدى إلى النكبة النكراء التي أصابته في صميم ملكه، لهذا ثار ثائره، فاتهم المقوقس بأنه خان الدولة وتخلى للعرب عن مصر، وحكم عليه بأنه مرتكب مجرم ووصفه بالجبن والكفر، وأسلمه إلى حاكم المدينة فشهره وأوقع به المهانة، ثم نفاه من بلاده طريدا.
لم يكن هرقل غاليا حين ثارت بنفسه الهواجس وتولاه الريب في الأسباب التي أدت إلى هزيمة جنده، ولسنا نقصد من هذا القول إلى الحكم على المقوقس بأنه تعمد خيانة الدولة، وإنما نقصد إلى أن الحصن كان يستطيع أن يقاوم، وألا تنزل بحماته أية هزيمة لو أن قائده كان قادرا فلم يعرض من فيه للقاء العرب في ميدان مكشوف، واكتفى بأن يسدد إليهم النبل والمجانيق، ولا أدل على ذلك مما حدث بعد نفي المقوقس، فقد رفض هرقل إقرار الصلح مع عمرو وعرف المسلمون بمصر هذا الرفض في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة 640، فانتهت الهدنة وعاد القتال بين الفريقين، وكان حماة الحصن قد قل عددهم، ولم يأتهم مدد من أية ناحية، وكانت الأحوال كلها مواتية للعرب؛ وقد انتهى الفيضان وهبط ماء النيل، وغاض الماء من الخندق الذي حول الحصن، وأصبح في مقدورهم مهاجمته، غير أن الروم ألقوا في الخندق حسك الحديد عوضا عن مائه، وجعلوا هذا الحسك كثيفا عند مدخل أبوابه، فصد هذا العمل العرب عن التقدم لمهاجمة الحصن وأخذه عنوة وأبقاهم حوله شهورا عدة اقتصر الأمر في أثنائها على ترامي الفريقين بالمجانيق والسهام، ولم يكن في مقدور حماة الحصن غير هذا؛ ولذا ردهم العرب إلى الحصن كل مرة خرجوا فيها منه يحاولون لقاءهم، وكذلك تصرمت أشهر الشتاء والحصن يقاوم، فلو أنه جاء المدد من نقيوس أو من الإسكندرية، ولو أن هرقل بعث من لدنه بقائد من مهرة قواده على قوة من الجند للدفاع عنه، لتغير وجه الموقف، وللقي المسلمون في الاستيلاء على هذه المنطقة المنيعة مشقة كبيرة، لكن المرض فتك بأهل الحصن ولم يأتهم المدد، وكانت عيونهم تصعد كل يوم فوق أبراجه فلا ترى إلى أبعد حدود الأفق لهذا المدد أثرا، ثم إنهم كانت تبلغهم الأنباء كل يوم بأن العرب يشنون الغارات على ما حولهم من الأراضي، وأقبل شهر مارس من سنة 641 وجف ماء النيل أو كاد، وفي هذه الأثناء جاءت الأنباء بموت هرقل في النصف الأول من فبراير سنة 641
4
فاضطرب الروم لموته أي اضطراب، مع ذلك بقي الحصن يقاوم، وبقي الأمل يداعب نفوس حماته بمجيء المدد لإنقاذه.
وكانت نكبة هرقل في مصر من الأسباب التي عجلت منيته؛ فقد حم بعد لقائه المقوقس وأعجزه الاضطراب عن التفكير في إمداد بابليون أو تنظيم الدفاع عنها، ولم يفكر أحد غيره في هذا الأمر؛ لأن الدولة كانت كلها ترزح تحت عبء ثقيل من عار هزيمتها منذ استولى العرب على دمشق وعلى بيت المقدس، وطردوا الروم من الشام وساروا ينشرون الفزع في أرجاء مصر، على أن متانة أسوار الحصن وأبراجه طوعت للذين ظلوا على قيد الحياة من حماته أن يثبتوا للغزاة إلى آخر شهر مارس والأيام الأولى من شهر أبريل.
ولقد ضاق العرب ذرعا بالشهور السبعة التي انقضت منذ حاصروا الحصن، فهانت عليهم الحياة وهانت عليهم أنفسهم، وذكروا فعال خالد بن الوليد بدمشق، وسعد بن أبي وقاص بالمدائن، ونعيم بن مقرن بنهاوند، فلم يروا أن يكونوا دون هؤلاء الأبطال إقداما وجرأة، وكان الزبير بن العوام أشدهم حماسة وأكثرهم على الموت في سبيل الله إقبالا، فقام في الناس فقال: «إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين.» ثم أقبل بعد أيام تحت جنح الليل مع كتيبة آزرته فطمموا الخندق المحيط بالحصن في موضع اختاروه ووضعوا سلما على السور علاه الزبير بعد أن أمر أصحابه إذا سمعوا تكبيره أن يرقوا إليه وأن يجيبوه جميعا، واستوى الزبير بأعلى الحصن وانطلق يكبر وسيفه يلمع في يده، فتبعه أصحابه وصعدوا السلم وساروا إلى جانبه وكبروا معه؛ وأجاب المسلمون من خارج الحصن تكبيرهم، فلم يشك الروم أن العرب قد اقتحموا الحصن فهربوا، وعمد الزبير إلى باب الحصن ففتحه ودخل المسلمون واستولوا على ما فيه.
هذه رواية، وتذهب رواية أوردها بتلر عن الطبري إلى أن الزبير علا الحصن مع أصحابه، وأناموا من كان هناك من حرسه، وملكوا رأسه، وأرادوا الهبوط إليه، فألفوا حماته بنوا حائطا تعترض الممشى التي فوق السور من تلك الناحية فأقاموا حيث كانوا، فلما بكر الصبح عرض قائد الجند في الحصن على عمرو أن يسلمه إليه على أمان من فيه من الجند، واعترض الزبير على الصلح وقال لعمرو: لو صبرت قليلا لنزلت من السور إلى داخل الحصن، ولكان الأمر على ما نشتهي، ولم يقف عمرو عند قوله، بل كتب عهد الصلح مع قائد الحصن، على أن يخرج الجند منه في ثلاثة أيام فيركبوا النهر ومعهم قوتهم لبضعة أيام تاركين الحصن وما فيه من الذخائر وآلات الحرب للمسلمين، والطبري لا يورد مثل هذا التفصيل، على أن المؤرخين المسلمين جميعا يذكرون أن عمرا أجاب المقوقس إلى الصلح على الجزية بعد أن اقتحم المسلمون الحصن، فإذا صح أن المقوقس لم يكن بالحصن وكان قد نفي بعد ذهابه إلى هرقل، فلعل قائد الحامية هو الذي صالح عمرا على ما جاء في رواية بتلر.
خرج جند الروم من الحصن في اليوم السادس من شهر أبريل سنة 641 من ميلاد المسيح؛ لكنهم أبوا، في هذا اليوم الذي انسحبوا فيه يجلل هامهم الخزي والعار ، إلا أن يجعلوا منه للمصريين يوم نواح وحسرة؛ فقد سحبوا القبط الذين سجنوهم داخل الحصن في أثناء الحصار، وقطعوا أيديهم، ونكلوا بهم تنكيلا أثار الأسقف المصري حنا النقيوسى مؤرخ ذلك العهد، وحمله على أن يسبهم في ديوانه وأن يسميهم: «أعداء المسيح الذين دنسوا الدين برجس بدعهم، وفتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة لم يأت بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج، وعصوا المسيح وأذلوا أتباعه، فلم يكن في الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان.»
خلص الحصن للمسلمين بعد خروج الروم منه، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من مراحل الفتح العربي لمصر، ولقد كان لهذه المرحلة من الخطر ما تشهد به الحوادث التي وردت في هذا الفصل وقد استطاع عمرو بأناته وحكمته وحسن رأيه أن يدور حول هذا الخطر حينا، وأن يقتحمه حينا آخر، حتى اجتازه آخر الأمر رافعا لواء النصر والظفر، فلندعه الآن يجلس بين جنده يجمون جميعا، ثم يدبر هو لتنظيم ما فتحه من الأقاليم، ليكتب بعد ذلك إلى عمر يستأذنه في السير إلى الإسكندرية.
ولم يكن لديه ريب، يوم بعث يطلب هذا الإذن، في أن الله قد مهد له السبيل لإدراك بغيته، فقد رأى من كراهية القبط للروم، ورأى من تخاذل الروم وضعفهم، ما ثبت في نفسه اليقين بأن عاصمة الإسكندر الأكبر ستفتح أبوابها أمامه، وستتلقاه كما تلقت يليوس قيصر وأنطونيو من قبل، وأنه سيجلس بها على عرش البطالسة والرومان، كما جلس سعد بن أبي وقاص بالمدائن في إيوان الأكاسرة من بني ساسان.
ولعله كان يستعجل إذن أمير المؤمنين بالسير بعد أن رأى جيشه قد جم، ورأى الأرض من حوله دانت له، فقد أمر بعد ما استتب له الأمر، فأقيم جسر من السفن بين الحصن وجزيرة الروضة، وبين الجزيرة والجيزة، فوصل بذلك بين شاطئي النهر، وتيسر له الإشراف على ما يجري فيه من السفن والبضائع، ثم إنه نشر جنوده فيما استولى عليه من الأقاليم، فرأى القبط من جنود الحرس الوطني ينظرون إليهم شزرا ويقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم؛ فخاف أن يثير هذا الأمر القبط بهم فأمر بجزر فذبحت وطبخت بالماء والملح، ودعا القبط فأجلسهم إلى جانب جنده من العرب، فجعل العرب يحتسون المرق وينهشون اللحم على نحو زاد زراية القبط عليهم، وزادهم طمعا فيهم، فلما كان الغد أمر بطعام من ألوان مصر فصنع، وأمر جنده أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ودعا القبط كما دعاهم أمس، فأكل العرب أكل أهل مصر ونحوا نحوهم، فتفرق القبط بعد الطعام وقد رابهم ما رأوا، ثم أمر عمرو جنوده بكرة الغداة فتسلحوا للعرض فعرضهم على أعين القبط، ثم قال لهؤلاء: إني قد علمت أنكم قد رأيتم في أنفسكم أنكم في شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأردت أن أريكم حالهم وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فتفرق القبط وهم يقولون، لقد رمتكم العرب برجلهم، وفي رواية أنهم قالوا: إن العرب قوم لا يغلبون وقد وطئونا تحت أقدامهم، وبلغ عمر ما صنع عمرو فقال لجلسائه: إن عمرا يقاتل بالقول، وغيره يقاتل بالسيف، أو قال: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا ثورة كثورات الحروب من غيره.
خشع القبط حين رأوا بأس العرب ودانوا لهم؛ بل لقد اختار جماعة منهم الإسلام فدخلوا فيه، فساواهم ذلك بالمسلمين وأعفاهم من دفع الجزية، وإن عرضهم للعنة بني قومهم، وأخذ هؤلاء القبط الذين أسلموا يساعدون إخوانهم العرب في اقتضاء الجزية واستصفاء أموال المسيحيين الذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، بذلك كله توطد سلطان عمرو على ما كان تحت يده من الأرض وازداد بسطة، وأصبح في مقدوره أن يسير إلى الإسكندرية مطمئنا متى أذن له أمير المؤمنين في السير إليها.
لم يكن جند عمرو دونه رغبة في السير للقتال، فقد سما النصر على حصن بابليون ومن فيه بقوتهم المعنوية سموا كبيرا، وثبت في نفوسهم ما ثبت في نفس عمرو من اليقين بأن الله معهم، وأنهم لا غالب لهم، وبهذا الروح كله العزة والأنفة كانوا يجوسون خلال الديار، ويتنقلون حيثما شاءوا من الأرض، ويغشون ما شاءوا أن يغشوه من مدن الفراعنة وآثارهم الباقية في هذه البقعة الناطقة في صمتها بحديث التاريخ كله، والتي شهدت فجر الحضارة، ورأت مولد الضمير الإنساني وتفتح عينيه، فإذا عادوا إلى عسكرهم آخر النهار عادوا وقد ملأ الإعجاب أفئدتهم وملك عليهم حواسهم، فلم يتناول حديثهم إلا ما شهدت أعينهم من هذه الآثار الخالدة ليس من آثار العالم ما يدانيها عظمة وجلالا، ومن هذه الحياة الزاخرة في مدينة منف وفي صرتها مصر القائمة قبالتها على النيل تنافسها في عظمة الحياة ثم تقصر دونها حين ينطق التاريخ بما لمنف على الأجيال من مجد وسلطان.
وكان ما أثارته منف بجلال آثارها أعمق أثرا في نفوسهم من الخضرة الزاهية والنعيم المقيم الذي تراه أعينهم في كل ما حولهم من الأرض الخصبة المعطاء، لقد رأوا مثل هذه الخضرة في العراق والشام، وقد ملئوا منها أعينهم مذ نزلوا مصر فزادتهم إيمانا بقدرة الخالق الباري جل شأنه، لكنهم رأوا بمنف ما لم يجن عليه قيام الإسكندرية، وما لم يروا له في غير منف من مدن العالم نظيرا، رأوا آثارا تحدث عن حضارة الفراعنة الأقدمين وعبادتهم حديثا عجبا، كان فيها معبد «فتاح» الضخم الفسيح، تعبد فيه الشمس كما كانت تعبد بالكرنك في طيبة، وكان بظاهرها معبد السرابيوم، مقام العجل أبيس، محاطا بكل مجالي الإجلال والإكبار، وكان أمام هذا المعبد صفان طويلان من آباء الهول يلقيان في روع الداخل إليه الهيبة، وكانت قبور العجول المقدسة قائمة وراء المعبد تأخذ عظمتها بالنظر، ثم لا تحول هذه العظمة دون العجب من قوم يحدث ما تركوا من صور وتماثيل وملاعب وعمائر كلها العظمة عن سمو مكانتهم من الحضارة، ذلك كان شأنهم في تصوير معبوداتهم، وفي إقامة ما أقاموا لهذه المعبودات ورموزها من تماثيل بارعة يخطئها العد فكيف أنساهم رهبانهم وفراعنتهم عبادة الله الواحد الأحد تؤمن به القلوب المضيئة بنور الحق! صدق تعالى:
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ، ولذلك محت المسيحية هذه الألوان والطقوس من العبادة، وها هو ذا الإسلام يسير جنده في أرض الفراعنة، وتخفق أعلامه فوق ربوعها ليقر فيها دين الحق إلى يوم الدين.
وأين يستقر الحق إن لم يستقر في جنة الله على الأرض! ومن ذا يقره فيها إلا جنود الله الذين وهبوا أنفسهم لله مخلصين له الدين حنفاء! لذلك لم تجذب منف بجمالها هؤلاء الجنود للبقاء حولها، بل كان الشوق إلى الإسكندرية يحرك نفوسهم بالقوة التي كان يحرك بها نفس قائدهم، ويدعوه إلى استعجال الإذن من أمير المؤمنين بهذا السير.
ولم يبطئ هذا الإذن، فقد عرف عمر أن النيل يعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأن الخير في أن يسير جيش مصر يفتح عاصمتها قبل أوان هذا الفيضان، وما لبث ابن العاص حين تسلم الإذن بالسير أن خلف في حصن بابليون مسلحة من المسلمين جعل عليها خارجة بن حذافة السهمي، ثم سار على رأس جيشه يريد المدينة العظيمة، مستقر الجمال والعلم والفن في العالم كله.
هوامش
الفصل العشرون
فتح الإسكندرية
يجمل بنا قبل أن نتابع مسيرة الغزاة العرب إلى مدينة الإسكندر أن نتخطى مياه بحر الروم إلى البسفور، لنرى من حوله ما تضطرب به أحشاء الإمبراطورية الرومية، وما يبدو من أثر هذا الاضطراب في عاصمة قسطنطين.
فقد مات هرقل بالقسطنطينية والاضطراب يسود بلاطه بسبب ما أصاب الإمبراطورية من النكبات في الشام وفي مصر، وازداد البلاط بموته اضطرابا، وفشت فيه دسائس الطامعين وذوي المآرب من الأشراف ومن رجال القصر، ولقد عظم أمر هذه الدسائس في شئون الدولة؛ لأن الأمر لم يؤل بعد هرقل إلى عاهل ذي حزم وقوة، بل آل إلى ولديه «قسطنطين» و«هرقليوناس» وهما أخوان لأب، وإلى «مرتينا» زوج هرقل وأم هرقليوناس التي شاركتهما في الحكم، وقد حاولت مرتينا أن تستأثر بالأمر كاستئثارها به في العهد الأخير من حياة زوجها، في حين كان قسطنطين أكبر الأخوين وآثرهما عند الناس، وكان له بسبب ذلك حزب قوي يؤيده ، ونشأ عن ذلك ما كان لا بد أن ينشأ عنه؛ جعل كل شريف وكل عظيم غاية همه أن يكسب لنفسه الجاه والسلطان بالزلفى إلى الإمبراطورة أو إلى قسطنطين، أو الائتمار مع مرتينا على ابن زوجها ومع قسطنطين على زوج أبيه، بذلك سادت بلاط بزنطية حال كالتي سادت بلاط فارس قبل أن يعتلي يزدجرد عرش الأكاسرة، فكان ذلك مما أعان المسلمين على الأسدين، فارس والروم، ومكنهم من الظفر بهم.
مع ذلك كان الناس يتطلعون إلى هذا الثالوث الذي جلس على عرش هرقل؛ يرجون في حكمته ما ينقذ الإمبراطورية مما هوت إليه في السنوات الأخيرة من عهد العاهل الشيخ العظيم الذي سما به الحظ في أول حكمه إلى ذروة رفعت اسم هرقل فوق السماك، ثم قذف به في آخر أعوامه من هذه الذروة الشاهقة إلى حمأة الهزيمة والعار، وكانت مصر وما يجري فيها وما يمكن عمله لإنقاذها، أول ما يشغل رجال الدولة وأهل بزنطية جميعا، فضياع مصر وغلاتها معناه نقص الأقوات في أرجاء الإمبراطورية كلها؛ لذلك أسرع قسطنطين فبعث إلى قيرس فجاء به من منفاه، كما دعا أحد قادة الروم في مصر ليشير عليه بما يجب للدفاع عنها، واغتبطت مرتينا بدعوة قيرس لعلمها بميله إليها وثقتها بدهاء البطريق وقوة مكره، وكان قيرس لا يزال على رأيه الذي صارح هرقل به، لكنه أظهر الاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل الروم في صلح مع العرب، ووعد قسطنطين بإرسال الأمداد الكبيرة إلى مصر، وأمر بتجهيز السفن التي تحمل تلك الأمداد، وأبدت الإمبراطورة مرتينا من الحماسة لهذا كله ما ضاعف حماسة الشعب واغتباطه، لكن هذا الشعب لم يلبث أن فوجئ باعتلال قسطنطين ووفاته بعد مائة يوم من وفاة أبيه؛ لذلك أسرع الناس إلى اتهام مرتينا بأنها دبرت موته، وعمل جانب من البلاط والنبلاء على ترويج هذا الاتهام، وكان كونستانس بن قسطنطين ممن أعلنوا هذه التهمة وأذاعوها؛ فأدى ذلك إلى ثورة الناس بمرتينا وانتقاضهم عليها، وإلى وقوف الأمداد دون السير إلى مصر.
وعبثا حاولت مرتينا أن تكذب ما ينسب إليها، وأن تستخلص العرش لابنها هرقليوناس، فقد اتخذت محاولتها استخلاص العرش لابنها حجة عليها، فثار الجند كما ثار الشعب بها، وظلت هذه الثورة وارية الضرام أشهرا، ثم انتهت إلى مبايعة كونستانس بن قسطنطين شريكا لهرقليوناس في ولاية الأمر.
رأى قيرس أن الثورة موشكة على نهايتها، وأن كونستانس سيرث مكان أبيه من العرش، فأسرع بالسفر إلى مصر، متفقا مع مرتينا وابنها، وسافر معه عدد كبير من القسوس وجيش أعد مددا لقوات الروم المدافعة عن مصر، ولعله أدخل في روع الإمبراطورة أن هذا الجيش سيكون قوة لها في أرض الفراعنة، وأنها تستطيع أن تلجأ هي وابنها إليه إذا عادت دسائس خصومها في بزنطية فأثارت الشعب بها كرة أخرى، وبلغ الأسطول الذي أقل قيرس ومن معه عاصمة مصر في شهر سبتمبر سنة 641، فاستقبل أهلها البطريق الشيخ استقبال البطل الفاتح الذي جاء من قبل قيصر ينقذ مدينتهم، وينقذ دينهم، وينقذ الإمبراطورية.
1
أفكان لقيرس خطة مرسومة وسياسة ذاتية جاء بها إلى مصر؟ يذهب بتلر إلى أنه جاء وطيد العزم على مصالحة العرب، وأنه «من غير شك حمل الإمبراطور - وهو غرير لا رأي له - على الإذعان للعرب والتسليم لهم، كما حمل على رأيه هذا مجلس الشيوخ المستضعف، ورجال البلاط وهم من أهل العجز والخور ... ومن الجلي فوق ذلك أنه استمال الإمبراطورة مرتينا إلى رأيه الضعيف، لا سيما وقد كان أنصارها ممن يرون مصالحة العرب، وإن كلفهم ذلك ما كلفهم، وكانت هي دائما ترمي في سياستها إلى التسليم والإذعان وذلك كان رأي قيرس الذي ظل يجاهر به في كل حين.» ويفسر بتلر رأيه هذا بأن قيرس كان «يريد أن يزيد في سلطانه الديني بالإسكندرية، وأن يقيمه على أطلال الدولة بعد خرابها، ولسنا نجد رأيا آخر أكثر ملاءمة لما بدا منه، فهو خير رأي نستطيع به أن ندرك ما كان بينه وبين عمرو من صلات خفية، وما قارفه من خيانة دولته الرومانية فلنصفه بأنه كان خائنا للدولة في سبيل ما توهمه صلاحا للكنيسة.»
أراني في حل من مخالفة بتلر في مذهبه هذا، ومن القول كرة أخرى بأنه متأثر فيه بنزعته المسيحية أكثر من تأثره بوقائع التاريخ، فقد كان قيرس يعلم تمام العلم أن المسلمين يكفلون حرية العقيدة لأهل البلاد التي يفتحونها، وينصون على ذلك نصا صريحا في المعاهدات التي يعقدونها معهم، كذلك فعلوا في الشام وفي العراق في عهد أبي بكر وفي عهد عمر، وما كانوا ليخالفوا سنتهم هذه في مصر، وهم إذ يفرضون الجزية على أهل البلاد المفتوحة إنما يفرضونها لقاء تأمين دافعيها على أنفسهم وذراريهم وأموالهم وعقائدهم ومعابدهم، لا يفرقون في هذا التأمين بين الملكانيين والمينوفيسيين، ولا بين الروم الحاكمين والقبط المحكومين، ولا نحسب قيرس غرته نفسه فظن بها القدرة على أن يلعب بعمرو بن العاص داهية العرب أو أن يخدعه، فيسترد لنفسه ما كان له من قبل من حرية الاضطهاد والعسف، فإذا صح ما ظنه بتلر من أن قيرس جاء إلى مصر معتزما مصالحة العرب، فلم يكن ذلك لغرض ديني أو لغرض سياسي، بل لأنه رأى قتالهم غير مؤد إلى نتيجة إلا هزيمة الروم واندحارهم، وبخاصة بعد أن فشت الدسائس في بلاطهم فزادتهم ضعفا وآذنت دولتهم بالتدهور والانحلال.
وما لنا نسبق الحوادث فنتحدث عن مقاصد قيرس وسياسته، مع أن الحوادث ستحدد هذه السياسة تحديدا لا يبقى معه مجال للأخذ بالظن، فلندع قيرس بالإسكندرية ولنعد إلى بابليون لنتابع المسلمين في مسيرتهم إلى غايتهم.
فقد فصل عمرو بجنده من بابليون في شهر مايو من تلك السنة؛ أي حين كان الاضطراب لمقتل قسطنطين قد بلغ أشده في عاصمة الإمبراطورية الرومية، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تقف الترع التي تشق جنوب الدلتا بمديرية المنوفية في طريق جيشه، وقد استطاع في أثناء مقامه ببابليون أن يستعين بالقبط الذين دخلوا في سلطانه على إصلاح الطرق وإقامة الجسور، فكان ذلك مما أعانه على سرعة السير، واستصحب عمرو في مسيرته جماعة من رؤساء القبط اصطفاهم وأحسن معاملتهم ليكونوا أداة اتصال بينه وبين من يلقاهم من أهل البلاد.
كان الاستيلاء على «نقيوس» وحصنها المنيع أول ما فكر عمرو فيه، وكانت نقيوس تقع على ضفة النهر اليمنى على فراسخ إلى الشمال من منوف، وكانت منوف في سلطان المسلمين كما قدمنا، وقد آثر الروم أن يلقوا عمرا قبل أن يبلغ نقيوس ليصدوه عن عبور النهر إليها، وأن يلقوه لذلك في أثناء مسيرته على الضفة اليسرى، فرابطوا له عند «طرنوط» أو «الطرانة» كما يسميها بعض المؤرخين، وهي تقع على النيل قبالة زاوية رزين إلى الجنوب من منوف، ولقيهم عمرو بها وأنشب القتال معهم، فلم يجد مشقة في التغلب عليهم برغم استبسالهم في القتال.
تابع عمرو مسيرته حتى كان قبالة نقيوس وحصنها المنيع، وكان أكبر ظنه أن يعتصم أهل الحصن به وأن يجعلوا النهر بينهم وبين الغزاة؛ لذلك اتجه إلى تدبير الوسيلة التي يعبر بها إليهم، وشاور الرؤساء القبط الذين ساروا معه في هذا الأمر ولم يدر بخلده أن يذر نقيوس وحصنها وراءه، وأن يتخطاها ممعنا في السير نحو العاصمة؛ فقد خشي أن تخرج مسلحة الحصن منه وأن تدهم مؤخرته فتفسد عليه خطته، ولم يكن عبور النهر في هذه الأيام من شهر مايو بالأمر العسير؛ فقد انخفض ماء النيل وركد تياره، فأصبح اجتيازه في السفن أو فوق جسر منها في متناول الجيش الفاتح.
لكن الروم فكروا في الأمر غير تفكير ابن العاص؛ فقد ألقي في روعهم أنهم إن يتركوه متابعا طريقه إلى العاصمة دون مقاومة، وبخاصة بعد أن انهزمت أمامه حامية طرنوط، فت ذلك في أعضاد الناس فأسرعوا إلى التسليم والإذعان لهؤلاء الذين لا يقاومهم أحد؛ لذا خرج أمير الحصن في جنده جميعا، فركبوا سفنا أعدت للدفاع عن المدينة، وحاولوا صد العرب دون غايتهم، ورآهم عمرو في السفن ورأى منهم من حاول الخروج للوقوف في طريقه، فأمر رجاله فرموهم بالنبل، فارتد الذين تركوا السفن إليها وحسبوها ملجأ يقيهم الالتحام بعدوهم، ولم يدعهم فرسان المسلمين يفرون، بل طاردوهم إلى الماء وجعلوا يرمون من فيه بالسهام، وخيل إلى القائد الرومي أن المسلمين سيقتحمون النهر إليه، ولعله كان قد سمع بصنيعهم حين عبروا دجلة إلى المدائن على خيولهم ودجلة في فيضه وتدفع تياره، فأمر ملاح السفينة التي كان بها فانطلقت مسرعة تولى به فرارا إلى الإسكندرية، ورأى جنده صنيعه، فوضعوا سلاحهم وألقوا بأيديهم وجعلوا النجاة من الموت غاية همهم، ولم ينلهم العرب بغيتهم، بل حصروهم وقتلوهم عن آخرهم، ثم دخلوا المدينة من غير مقاومة بعد أن خلت من المدافعين عنها.
يقول حنا النقيوسي مؤرخ ذلك العصر:
إنهم دخلوا المدينة فقتلوا كل من وجدوه في الطريق من أهلها، ولم ينج من دخل الكنائس لائذا، ولم يدعوا رجلا ولا امرأة ولا طفلا، ثم انتشروا فيما حول نقيوس من البلاد، فنهبوا فيها وقتلوا كل من وجدوه بها، فلما دخلوا مدينة «صوونا» وجدوا بها «اسكوتاوس» وعيلته، وكان يمت بالقرابة للقائد تيودور، وكان مختبئا في حائط كرم مع أهله، فوضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على أحد منهم، ولكن يجدر بنا أن نسدل الستار على ما كان؛ فإنه لا يتيسر لنا أن نسرد كل ما كان من المسلمين من المظالم بعد أن أخذوا جزيرة نقيوس.
2
وهذه العبارة التي أوردها بتلر من كتاب حنا لا تخلو من مبالغة؛ ولذا علق عليها مترجم بتلر الأستاذ محمد فريد أبو حديد بقوله: «أغلب الظن أن هذه مبالغة من الكاتب (حنا النقيوسي) دفعته إليها غيرته وحقده على الغالبين من العرب، إذ كان من أول أصول العرب في الحرب ألا يقتلوا من استسلم، وألا يقتلوا امرأة ولا شيخا ولا طفلا، يأمرهم بذلك دينهم، ويحضهم عليه أمر خلفائهم الأولين إلى القواد والجنود.»
أقام عمرو بنقيوس يستبرئ ما حولها من الأرض ويطهرها من كل أثر للروم، وبعث شريك بن سمي على كتيبة لتعقب الروم الذين فروا من نقيوس يريدون الإسكندرية، وأدرك شريك الروم الفارين، فرأوه ومن معه قلة لا تستطيع ثباتا، فارتدوا إليهم وأحاطوا بهم، ورأى شريك كثرتهم، ورأى نهدا من الأرض قريبا منه فاعتصم به وحاربهم من فوقه لكنه أدرك منذ اللحظة الأولى أنه مخذول إذا لم يسعفه مدد، فأمر مالك بن ناعمة الصدفي، وكان صاحب فرس لا يشق في الجري غباره، فانحط من ذلك النهد على الروم فاقتحم صفوفهم، وطار عدوا إلى عمرو بنقيوس ولم يدركه أحد، وأمد عمرو شريكا لأول ما بلغه حرج موقفه، وعرف الروم مسير المدد فلاذوا بالفرار من قبل أن يلقوه، من ذلك اليوم أطلق على النهد الذي وقع القتال حوله اسم القائد العربي الذي اعتصم به، فهو يعرف إلى يومنا باسم «كوم شريك».
وأدرك عمرو شريكا والذين معه، وسار في قوته الكاملة تاركا فرع رشيد عن يمينه، متابعا الفرع الكانوبي المؤدي إلى الإسكندرية، وعلم أن الروم أعدوا للقائه عند سلطيس على ستة أميال إلى الجنوب من دمنهور، فقصد إليهم واشتبك معهم، ودار بين الفريقين قتال شديد انتهى بهزيمة الروم، وما كان لهم ألا ينهزموا وليس ثم حصون يمتنعون بها! ولقد فروا بعد هزيمتهم فلم يقفوا بدمنهور، بل لم يقفوا دون حصون كريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية، وهناك انضموا إلى سائر جيش الروم، وتأهب الجميع للقتال يقودهم تيودور.
وقدر تيودور قائد الروم الأكبر في مصر أنهم إن ينهزموا بكريون تنكشف العاصمة أمام العرب، فيغريهم ذلك بحصارها والتضييق عليها، ولئن كانت حاميتها قوية والدفاع عنها يسيرا، فإن الخير كل الخير في الحيلولة بين الغزاة وبلوغ أسوارها ما كان إلى هذه الحيلولة سبيل؛ لذلك خرج بنفسه إلى كريون في جند عظيم اطمأن به إلى قدرته على الوقوف عندها وصد الغزاة دونها، وزاد في اطمئنانه أن الروم كانوا قد رمموا حصون كريون وزادوها قوة، وأن ترعة الثعبان أمامها كانت تحمي المدافعين عنها، وأن الطريق بينها وبين الإسكندرية كان معبدا يحمل المدد الكثير إذا أحوج الأمر إلى مدد، وإذ عرف الروم في الموقع المحيطة بكريون أن الموقعة حاسمة، وأن لها لذلك ما بعدها، فقد أقبلوا من كل حدب ينسلون يعززون تيودور وجنوده، أقبلوا من خيس ومن سخا ومن بلهيب ومن غيرها من البلاد، وانضموا إلى صفوف الإمبراطورية يؤيدونها ويزيدونها بأسا وقوة .
كم كان عدد الجند الذين بلغ بهم عمرو كريون؟ لم يذكر المؤرخون ما يفيد أن أمير المؤمنين بعث إلى مصر غير الاثني عشر ألفا الذين سبق أن ذكرناهم وقد خاض هؤلاء معارك عدة قتل منهم فيها لا ريب عدد غير قليل، وقد ترك عمرو منهم مسالح في البلاد التي فتحها ليحفظوا الأمن والنظام فيها، وليكفلوا السكينة في ربوعها، أتراه استعان بالبدو الضاربين في صحاري مصر شرقا وغربا على نحو ما فعل بعد انتصاره في الفرما؟ يتعذر القول بأي من هذين الاحتمالين، وأغلب الظن أن أمير المؤمنين أمد عمرا بمدد جديد بعد ظفره بحصن بابليون وحين أذن له في السير إلى الإسكندرية، ولم يكن إمداده في ذلك الوقت متعذرا؛ فقد كانت مسالح البصرة والكوفة هي التي تمد جيوش المسلمين في فارس، وكانت الشام قد سكنت إلى حال من الطمأنينة لم يبق معها خوف من انتقاض أهلها بحكامهم، وكان الروم في شغل بمصر عن محاولة الرجعة إلى الشام أو مهاجمة ثغوره، فضلا عن اشتغالهم بما فشا من الدسائس في بلاطهم، فإذا ذكرنا مع ذلك كله أن عمر لم يضن يوما على أمراء جنده في مختلف الميادين بمدد، وأنه وعد ابن العاص أن يمده إذا دخل مصر، كنا في حل من القول بأنه أرسل إليه الجند تلو الجند بعد الذي صادفه من نجاح في فتح مصر، وأن عمرا سار إلى الإسكندرية وفي إمرته ما يزيد على خمسة عشر ألفا إن لم يزد على عشرين ألفا.
ولعله قد استعان بالمصريين وبالبدو في تعبيد الطرق وحراستها، وفي المجيء بالميرة إلى جيشه، بل لعله قد استعان بمن اطمأن إليه منهم، وجعله في المسالح التي تشرف على الأمن وتحفظ النظام، أما الجند المقاتلون الذين كانوا يلقون الروم في المعارك فكانوا جميعا من العرب المسلمين.
التقى عمرو والروم في كريون، واشتد القتال بين الفريقين شدة لم تؤلف فيما سبقها من المعارك، وظلوا كذلك حتى فصل بينهم الظلام ولم يظفر أي الفريقين بخصمه، بل لعل الروم كانوا أرجح في ذلك اليوم كفة لكثرة عددهم، ولاستماتتهم في الدفاع عن مواقعهم، ولأن حصون كريون كانت تحمي ظهورهم وتشد أزرهم، واستحر القتال منذ الصباح إلى اليوم التالي ثم انفصل الفريقان في آخره كما انفصلا في اليوم الأول، وظل القتال دائرا على هذا النحو بضعة عشر يوما، ترجح فيه كفة المسلمين تارة، وترجح كفة الروم تارات، وقد أظهر الروم فيه من ضروب البراعة ومن شدة البأس وصلابة العود ما أدخل الروع إلى نفوس المسلمين، حتى لقد صلى عمرو يوما صلاة الخوف ركعة وسجدتين مع كل طائفة من جنده، على أن بأس الروم لم يذهب عزم المسلمين ولم يضعف روحهم، بل زادهم حماسة وإقبالا على الموت، كان وردان مولى عمرو بن العاص يحمل اللواء في مقدمة المسلمين، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقاتل إلى جانبه، وأصابت عبد الله في أحد أيام المعركة جراحات بالغة هاضته وأجهدته، فالتفت إلى جاره وقال له: «يا وردان! لو تأخرت قليلا نصيب الروح!» يريد فترة يتنفس فيها وينفس بها عن نفسه، فأجابه وردان، وهو يندفع أمامه واللواء في يده والحماسة آخذة منه «الروح تريد، الروح أمامك وليس خلفك.» واندفع عبد الله لسماع هذا الجواب يقاتل متقدما غير عابئ بجراحه، وعرف أبوه ما أصابه، فبعث رسولا يسأل عن حاله، فكان جواب عبد الله أن تمثل بقول ابن الإطنابة:
أقول لها إذا جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
ورجع الرسول إلى عمرو بجواب عبد الله، فرضي عنه وقال: هو ابني حقا، وبهذا الصبر، وبهذه الحماسة، وبهذا الإقبال على الموت لا يهابونه، فتح المسلمون مدينة كريون وحصنها وهزموا الروم عنها.
كيف كان انتصارهم؟ وماذا كانت فعالهم؟ وكيف انهزم الروم بعد الذي أبدوه من براعة وأظهروه من بأس وقوة احتمال؟ ذلك ما لا يذكر المؤرخون عنه شيئا، مع اتفاقهم على أن معركة كريون دامت عشرة أيام أو بضعة عشر يوما، وأن الفريقين كانا يريانها حاسمة بينهما، وكل ما يذكره ابن عبد الحكم، بعد الذي قدمنا من صلاة الخوف ومن جراحات عبد الله بن عمرو، قوله: «تم فتح الله للمسلمين وقتل منهم المسلمون مقتله عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية.» وتلك هي بعينها عبارة السيوطي ومن أخذوا عن ابن عبد الحكم، وهذا القول على إيجازه، وعلى أنه لا يصف فعال المسلمين وكيف كان انتصارهم، صريح في أن هزيمة الروم كانت تامة منكرة، أما بتلر فيشتم من رواية حنا النقيوسي أن تقهقر الروم إلى الإسكندرية كان وئيدا مع أن رواية حنا كما أوردها بتلر لا تزيد على أن عمرا أرسل جيشا عظيما من المسلمين إلى الإسكندرية فملكوا كريون، فسار من فيها مع قائدهم تيودور إلى الإسكندرية.
وهذا الإيجاز في تصوير معركة حاسمة دامت عشرة أيام أو أكثر، يوجب الشيء الكثير من الأسف، فمعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم لها من غير شك قيمتها في الدلالة على الحالة النفسية للفريقين من ناحية، وعلى الحالة النفسية للشعب المصري بإزاء الفريقين من ناحية أخرى، لقد استأسد الروم في أول الأمر وكانت الإسكندرية تمدهم كلما احتاجوا إلى المدد، فما بالهم تقاعسوا في نهايته مع أنهم كانوا أضعاف المسلمين في العدد، وكانوا في منعة بحصونهم وبالمدد الذي تبعثه العاصمة لهم؟ أفكان ذلك الضعف في قيادتهم ومهارة في قيادة عدوهم؟ أم كان سببه وصول أنباء إلى الإسكندرية بتفاقم الاضطراب في عاصمة الإمبراطورية، وأن هذه الأنباء بلغت الجند في كريون فأضعفت معنوياتهم؟ أم أن العرب وصلتهم أمداد قووا بها فاقتحموا على عدوهم حصونه؟ أم شعر المسلمون بحرج موقفهم فتعاهدوا على النصر أو الموت، كما فعلوا باليمامة وباليرموك، فلم يستطع الروم في حرصهم على الحياة أن يصدوا هجمة المسلمين؟ أم كان للشعب المصري أثر في موقف الفريقين بأن عاون العرب على الروم، فكان لهذه المعاونة أثرها؟ قد يكون لبعض هذه العوامل، وقد يكون لها جميعا أثر في النتيجة التي انتهت المعركة إليها، وقد يكون ثم عوامل أخرى، لا اتصال لها بها، هي التي أدت إلى هذه النتيجة، نحن لا نستطيع على كل حال أن نثبت أن عاملا بذاته كان سبب النصر؛ لأن المؤرخين الذين أسهبوا ما أسهبوا في تصوير القادسية، وفي تصوير اليرموك، وفي تصوير نهاوند، لم يذكروا شيئا فيه غناء يمكن الاطمئنان إليه في بيان العوامل والأسباب التي أدت إلى انتصار المسلمين وهزيمة الروم في كريون.
على أننا مع ذلك نستطيع أن نستنبط من سياق الحوادث أن موقف المصريين لم يكن له أثر يذكر في نتيجة المعركة؛ فهم كانوا يمقتون الروم في أعماق قلوبهم أشد المقت، فلم يكونوا يبذلون لهم أي عون إلا مكرهين، وهم كانوا مع ذلك في ريب من مقاصد المسلمين بإزائهم، وبخاصة أن هؤلاء المسلمين كانوا بحكم الحرب، يأخذون لأنفسهم من أموال المصريين كل ما يحتاجون إليه لميرتهم وذخيرتهم، وكانوا يعاملون من لا يذعنون لهم من أهل البلاد معاملة بطش وقسوة، هذا إلى أن أهل البلاد كانوا قبل مجيء العرب في ثورة دائمة بالروم، وكانوا يرجون أن تتيح لهم هزائم هرقل بالشام فرصة التخلص من حكمه وحكم عماله ليستقل المصريون بأمر بلادهم، فيرتفع الظلم والعسف عنهم وتخلص لهم خيرات أرضهم، أترى العرب إذا غلبوا الروم على مصر ألا يحلون محلهم فيها، ويستأثرون بالسلطان على أهلها، ويختصون أنفسهم بما كان الروم يختصون أنفسهم به من خيراتها! ألم يفرض هؤلاء المسلمون الجزية عليهم في صلح بابليون؟ والمسلمون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة والعادات؛ وقد يحاولون غدا أن يحملوهم على تغيير دينهم، كما حاول الروم أن يحملوهم على تغيير مذهبهم! لهذا كله كان المصريون يمقتون حكم الروم ويخافون حكم العرب، فلم يكونوا يعاونون هؤلاء إلا كارهين، أو يعانون أولئك إلا مكرهين، قوم ذلك شأنهم لا يخطئ من يستنبط أنهم لم يكن لهم أثر فيما أصاب العرب من نصر، وما أصاب الروم من هزيمة في موقعة كريون.
لا ينصرف هذا الرأي بطبيعة الحال إلى فئة قليلة من المصريين انضموا إلى الروم بدافع من مصلحتهم أو من حماستهم للمسيحية وخشيتهم أن يحملهم المسلمون على تغييرها، وهو لا ينصرف كذلك إلى فئة قليلة انضمت إلى المسلمين ودان بعض أفرادها بالإسلام بدافع من مصلحتهم كذلك، أو حقدا منهم على الروم بسبب عسفهم بالمصريين واضطهادهم لهم، فمثل هذه الفئات القليلة توجد في كل أمة وعصر، وإنما ينسحب هذا الرأي على كثرة المصريين في أداني البلاد وأقاصيها؛ فهذه الكثرة التي تصور اتجاه المجموع أصدق تصوير، كانت حانقة على الروم غير راغبة في العرب، وكان أكبر همها ألا يشارك أبناء مصر مشارك في حكمها وفيما تنتجه أذرع بنيها من ثمرات أرضها.
انتصر العرب على الروم بكريون وردوهم على أعقابهم، ولم يقم عمرو بكريون إلا ريثما جم جنده، ثم سار على رأس هذا الجند الباسل حتى بلغ الإسكندرية دون أن يلقى في طريقه ما يصده، فلما اقترب من أسوارها وقف الجند كله أمامها وقد أخذه البهر من كل مكان لمرآها، فأين منها دمشق! وأين منها بيت المقدس، بل أين منها أنطاكية! بل أين منها المدائن وفيها أبيض كسرى! فتح هؤلاء العرب أبناء البادية عيونهم واسعة على منظر رائع تسحر روعته العقول والقلوب، وظلوا وقوفا يجيلون أعينهم يمنة ويسرة فلا تقع إلا على ما يزيدهم سحرا وبهرا، فهم يرون من شرق المدينة العظيمة ومن غربها هذا البحر الأبيض يترامى أمام النظر إلى حدود الأفق، وقد كست السماء الصفو ماءه زرقة جعلت الماء في لون السماء وفي صفائها ورقتها، والماء مع ذلك دائم التقلب مع الموج المتدافع يأخذ بعضه برقاب بعض حتى يتفانى عند الشاطئ على رمال ناعمة ملساء، وترتد هذه الأعين من البحر إلى المدينة العظيمة، فما أسرع ما تنسى البحر وموجه فيما ترى من عجب دونه كل عجب! فهذه ضواحي المدينة أمامهم نثرت فيها الحدائق نثرا، وقامت فيها القصور والأديار خلال غابات من أشجار ضخمة، بعضها مثمر وبعضها لا ثمر له، ومن بعد الضواحي تقوم أسوار وحصون يصغر أمامها كل ما رأوا من أسوار وحصون، ولا يزيد حصن بابليون الذي وقفهم أمامه ما وقفهم على أنه واحد من هذه المجموعة الضخمة القائمة حول العاصمة الفاتنة تحدث عن مناعتها وقوة دفاعها، وتحمي هذه الأسوار والحصون بدائع من العمارة لا تشهد الأعين منها إلا أعاليها وقد زينت بقباب دقيقة النقش وعمد ترتفع فوقها بعض هذه القباب فتزيد الناظر إليها عجبا منها وإعجابا بها، وبين هذه القباب تندلع في الجو مسلات أكثر ارتفاعا مما رأوا في عين شمس، ولم يكونوا قد رأوا له في غير مصر نظيرا، ويقع النظر في أثناء ذلك على كنيسة سان مارك «القديس مرقس» القائمة بين هذه المسلات في حراسة الطلسمات المنقوشة على جوانبها الأربعة، فإذا الكنيسة درة في العمارة، صاغها البناء الصناع فلم يترك لونا من ألوان الجمال إلا أسبغه عليها، وينتقل النظر في الناحية الأخرى من المدينة، فإذا معبد السرابيوم بسقفه المذهب يأخذ وهجه باللب، وإذا عمود «دقلديانوس» الفارع يشرف على القلعة التي تحرس المعبد وما حوله، ويتخطى النظر متجها إلى ناحية البحر، فإذا منارة فاروس تنبعث خلال الجو معلنة للشاهدين أنها من عجائب الدنيا السبع، ويتردد نظر الجند بين هذه العجائب، من عمائر وتماثيل ومسلات وكنائس وحصون وأسوار، فلا يزدادون إلا سحرا وبهرا، ولا عجب، فقد كانت إسكندرية ذلك العهد أجمل مدائن العالم وأبهاها، أفيضن هذا الجيش الباسل ببذل في سبيل اقتحامها وفتحها؟! كلا! لقد عوده الله النصر، فلم تخذله أسوار ولا حصون أيا كانت قوتها ومناعتها.
ورأى عمرو فتنة الجند وحماستهم، فلم يتردد، مع ما اشتهر به من حرص وحذر، فأمرهم أول مقدمهم باقتحام أسوار المدينة وأبراجها، وكان تقديره أن هزيمة الروم بكريون لا بد أن تكون قد أدخلت الروع إلى نفوس المدافعين عن الإسكندرية، وأقنعتهم بأن مصيرهم لن يكون خيرا من مصير أصحابهم الذين ولوا مدبرين إليهم، ولم يخالج المسلمين ريب في أن المدينة البارعة ستفتح أبوابها لقاء هجمتهم، فاندفعوا ينفذون الأمر مهللين مكبرين، فلم يرعهم إلا الحجارة العظيمة تتساقط عليهم مقذوفة من المجانيق المنصوبة فوق أسوار المدينة، ذلك أن الروم أيقنوا حين انسحبوا من كريون أن العرب سيلحقون بهم، وأن نشوة الظفر ستنسيهم الحيطة، وستدفعهم إلى مهاجمة المدينة، ولذا أدخل تيودور الجيش في حصونها وأمر بإخلاء ضواحيها ، وأقام القاذفين بالمجانيق على أسوارها ليرموا الحجارة الضخمة منها في وجه العدو المقبل عليها، وأيقن عمرو حين رأى وابل القذائف أن الروم أعدوا واستعدوا، فعاده حذره، وأمر رجاله بالارتداء إلى ما وراء مرمى المجانيق، وهناك ضرب عسكره وأقام يدبر أمره.
عسكر عمرو شرق المدينة فيما بين الحلوة وقصر فاروس، وسرعان ما أدرك أن مهاجمة المدينة ليست بالأمر الميسور، فقد كان البحر يحميها من شمالها، وكان الروم وحدهم هم المتسلطين عليه، فلم يكن للعرب فيه شراع واحد، وكانت بحيرة مريوط تحميها من الجنوب، وكان اجتيازها عسيرا بل غير مستطاع، وكانت ترعة الثعبان تدور حولها من الغرب، بذلك لم يبق إليها طريق إلا من الشرق، وهو الطريق الجاري بينها وبين كريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية بأسوارها وحصونها، كما كانت حصينة بهما من سائر نواحيها، وكان تموين الإسكندرية من البحر يسيرا، إذ كانت مدن الساحل المصري كلها في يد الروم، فكان في مقدورها أن تبعث السفن محملة بالميرة إلى سكان العاصمة وحماتها، وكان هؤلاء الحماة، ويبلغ عددهم خمسين ألفا، موقنين أنهم إن يهزموا لم يبق للروم في مصر دولة، بل لقد بلغتهم كلمة قيصر: «لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية.» فزادتهم هذه الكلمة حماسة في الدفاع عن المدينة والاستماتة دونها، لا أمل إذن في مهاجمة المدينة ما دام حماتها متحصنين بأسوارها وبروجها ولا رجاء في مناجزة هؤلاء الحماة والظفر بهم إلا أن يخرجوا منها للقاء العرب في ميدان مكشوف! أتراهم يفعلون؟ فإن لم يفعلوا فماذا عسى أن يصنع القائد الداهية؟ أفقدر للإسكندرية وحدها أن تنقذ مصر كلها من يده؟
لم ييأس عمرو مع ذلك من التغلب على عدوه، وكان أول رأيه أن يقف حياله بعيدا عن مرمى مجانيقه، فإذا طال بالروم الحصار شعروا بما في ذلك من مذلة لهم، فغامروا بالخروج فتمكن المسلمون منهم؛ لذلك أقام بعسكره بين الحلوة وقصر فاروس شهرين كاملين، لم يخرج له الروم في أثنائها ولم يحاولوا مناجزته ، ونقل عمرو عسكره بعد ذلك إلى المقس، فخرجت عليه الجند من ناحية البحيرة مستترة بحصن هناك، فواقعوه فقتل من المسلمين بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا، ثم ارتدت الروم إلى الحصون حين رأوا المسلمين يجتمعون ليلقوهم، ولم يغير ذلك من عزم عمرو المقام بإزاء المدينة، وإن دعاه لمضاعفة الحذر والحيطة، وكذلك بقي الروم محصورين قلما يخرجون، وبقي المسلمون قبالتهم تأتيهم أرزاقهم من البلاد المجاورة لهم، ولم يدر بخاطر عمرو أن يغامر بهم لمهاجمة حصون يعلم علم اليقين أنها لا تنال.
لكنه رأي بعد قليل من حصار المدينة أن بقاءه أمامها، يرصد خروج حاميتها من غير أن يقوم جيشه بعمل حربي يقوي به عزم جنده قمين أن يدفع إلى نفوس الجند السأم، وأن يشعرهم بالعجز عن مناجزة عدوهم؛ وفي ذلك ما يزعزع من ثقتهم بأنفسهم، وطمأنينتهم إلى غدهم، وقد هداه تفكيره إلى ما يحقق غرضين في وقت معا، فيزيل سأم جنده ويضعف من عزم الروم المحتمين بالعاصمة؛ فبعث كتائب تجوس خلال بلاد الدلتا تطارد الروم فيها، ثم أبقى معظم الجند على حصار الإسكندرية.
هل سار عمرو على رأس هذه الكتائب بنفسه أم جعل الإمارة عليها لغيره من أمراء جنده؟ تختلف الروايات في هذا الأمر، وتذهب طائفة منها إلى أن بعض هذه الكتائب كان يجوس خلال صعيد مصر حين كان بعضها الآخر يجوس خلال الدلتا، وأن عمرا بدأ ينفذ الخطة مذ كان محاصرا حصن بابليون وقبل أن يسير إلى الإسكندرية، والقارئ يذكر ما قدمنا من أنه بعث، وهو على حصار بابليون، كتائب استولت على أثريب ومنوف، كما استولت كتائب أخرى على إقليم الفيوم كله، أفظلت هذه الكتائب تتقدم في الدلتا وفي الصعيد حين كان عمرو يسير بمعظم الجيش إلى كريون وإلى الإسكندرية؟ أم جمع عمرو كل قواته حين أزمع السير إلى العاصمة الحصينة، فلم يتخلف منها عن السير معه إلا ما تركه في بابليون وفي البلاد التي تم فتحها لحفظ النظام، وللقضاء على كل سبب للانتقاض يمكن أن يظهر فيها؟
يذهب بتلر معتمدا على رواية حنا النقيوسي، إلى أن عمرا سار بنفسه، بعد ما رأى منعة الإسكندرية، على رأس كتائب فصلت من الإسكندرية إلى كريون فدمنهور ثم اتجه بها إلى الشرق حتى بلغ سخا من إقليم الغربية، فوقف دونه ما يحيط بها من أسوار وما يكتنفها من مياه؛ ولم يقدر عليها، ولذلك تركها وسار جنوبا إلى طوخ الواقعة على نحو ثلاثين ميلا منها فصده أهلها، فسار إلى دمسيس فعجز عن فتحها، ولم يكسب عمرو من مسيرته هذه، وقد استغرقت اثني عشر شهرا، إلا أن أشعر أهل الدلتا بشوكته، وأن أوقع بالبلاد غير المحصنة وغنم منها، ثم عاد إلى بابليون، ويضيف بتلر في موضع آخر من كتابه، مستندا دائما إلى رواية حنا النقيوسي، أن عمرا ذهب على رأس قوات إلى الصعيد، وأنه فتحها أو فتح على الأقل بلاد مصر الوسطى، ثم عاد بعد ذلك إلى بابليون فأقام بها وهناك جاء إليه المقوقس من الإسكندرية وصالحه.
ويروي البلاذري عن يزيد بن أبي حبيب عن الجيشاني أنه قال: «سمعت جماعة ممن شهدوا فتح مصر يخبرون أن عمرو بن العاص لما فتح الفسطاط وجه عبد الله بن حذافة السهمي إلى عين شمس، فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل حكم الفسطاط، ووجه خارجة بن حذافة العدوي إلى الفيوم والأشمونين وإخميم والبشرودات وقرى الصعيد ففعل مثل ذلك، ووجه عمير بن وهب الجمحي إلى تنيس ودمياط وتونة ودميرة وشطا ودقهلة وبنا وبوصير ففعل مثل ذلك، ووجه عقبة بن عامر الجهني - ويقال وردان مولاه صاحب سوق وردان بمصر - إلى سائر قرى أسفل الأرض ففعل مثل ذلك، فاستجمع عمرو بن العاص فتح مصر فصارت أرضها أرض خراج.»
ونحن نميل إلى الأخذ برواية البلاذري، وإن لم تذكر بها تواريخ معينة، ونميل لذلك بخاصة؛ لأن ابن عبد الحكم وغيره ممن أرخوا لفتح مصر يقررون أن عمرا بقي على حصار الإسكندرية مذ سار إليها إلى أن تم له فتحها، وعلى ذلك كانت كتائبه تسير في الدلتا وفي الصعيد حين كان هو على هذا الحصار، وإذا صح أن هذه الكتائب لم تفتح البلاد المحصنة إلا بعد فتح الإسكندرية فالذي لا شبهة فيه أنها حصرت الروم في هذه البلاد، وأنها مدت سلطانها على ما سواها من الأرجاء التي سارت فيها، ولا شبهة كذلك في أن أهل مصر لم يرحبوا بالعرب ولم يثوروا بهم ولم يقاوموهم؛ لأنهم كانوا يخشون أن ينتصر الروم بالإسكندرية ثم يعود الأمر لهم في مصر كلها، كما كانوا لا يعرفون ما سيئول إليه أمرهم إذا عقد النصر لواءه للعرب، أترى هؤلاء العرب يدعونهم يستقلون ببلادهم؟ ما أحسبهم خدعوا أنفسهم بمثل هذا الأمل وقد رأوا المسلمين يستقرون بالشام ويأخذون بأيديهم مقاليد حكمه؛ لذلك أذعنوا للواقع فلم يقاوموا أحدا ولم يثوروا بأحد، بل ظلوا على ولائهم الظاهر للروم حيثما بقي الأمر للروم، وأبدوا ولاء ظاهرا للعرب، حيثما آل السلطان للعرب، ووقفوا في المعركة الدائرة في أرضهم موقف المتفرج، وقد شدت أنظارهم إلى العاصمة العظيمة فكلهم التشوف إلى أنبائها والتطلع إلى ما ينتهي إليه أمرها.
وكيف لا يكون ذلك شأنهم وقد كان الشهر يمضي يعقبه الشهر والعاصمة الحصينة آمنة مطمئنة لا يجرؤ المسلمون على التفكير في مهاجمتها، بله اقتحامها، ذلك لأنها كانت مفتوحة للروم من ناحية البحر فهم يستطيعون أن يمدوها بما يشاءون من جند وعتاد، والظاهر من مختلف الروايات أن القتال عندها كان مقصورا أغلب الأمر على مناوشات لا تبلغ أن تكون حربا، روى ابن عبد الحكم أن طرفا من الروم خرجوا من باب حصن الإسكندرية، فحملوا على الناس فقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به فغضب المهريون وقالوا: «لا ندفنه أبدا إلا برأسه.» فقال لهم عمرو: «تتغضبون! كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلا ثم ارموا برأسه يرموكم برأس صاحبكم.» وخرج الروم يوما فقتل العرب منهم رجلا فاحتزوا رأسه ورموا به إلى الروم، فرمى الروم برأس المهري إليهم فدفنوه، وطبيعي ألا تحسم مثل هذه المناوشات حربا، ولقد ضاق عمرو بها ذرعا، ثم لم يستطع أن يدفع جنده لأكثر منها، حذرا أن يسوقهم إلى هلكة يؤاخذه بها عثمان بن عفان ومن كانوا على رأيه فعابوا على ابن العاص جرأته في الإقدام على فتح مصر، ولعله كذلك كان يجد من جنده من يتقاعسون إذا دعوا للإقدام، وإن كان على ثقة من أن أكثرهم يستحب الموت على الحياة، يدل على ذلك ما روي من قوله يصف طوائف هذا الجند «ثلاث قبائل في مصر: أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلي فأكثرها رجلا صحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأفضلها فارسا.»
على أن أمداد الروم إلى الإسكندرية ما لبثت أن انقطعت بعد قليل من موت هرقل؛ فقد شغل أهل بزنطية بما ساد بلاطهم من الاضطراب، وبما نشأ في عاصمتهم من الانتقاض على مرتينا وابنها، فنسوا الإسكندرية ونسوا مصر، ولم يعد منهم أحد يفكر في الدفاع عنها، وذلك قول المؤرخين المسلمين إذ يذكرون موت هرقل: «إن الله كسر بموته شوكة الروم.» وفت انقطاع المدد عن عاصمة مصر في أعضاد حماتها، فأوجسوا خيفة أن يدهمها العرب، أو أن يتغلبوا على بلاد الساحل فيقطعوا عنها ميرتها، وزاد في مخاوفهم ما كان يبلغهم من انتشار هؤلاء العرب في الصعيد وفي مصر السفلى، ومن حصرهم حاميات الروم في البلاد الحصينة داخل أسوار هذه البلاد، وما عسى أن تستطيعه الإسكندرية إذا حرمت الطعام وفشت فيها المجاعة! وما بقاء جنود الروم بعاصمة هذا حالها في حين أن عاصمتهم على ضفاف السفور مضطربة مهددة بشر ألوان الفساد والفوضى! هذه كلها عوامل تزعزع الروح المعنوية في نفس كل جيش مقاتل، وقد زعزعت روح الجيوش المدافعة عن الإسكندرية، وجعلتها لا ترى في مناعة الحصون والأسوار المحيطة بها ما يدفع عنها أو يعصمها من الهزيمة إذا غامر محاصروها بمهاجمتها.
وكيف لا تنحل روحهم وكان اشتغال الروم في مدينة قسطنطين بدسائس بلاطهم وباضطراب شئونهم قد صرفهم عن التفكير في مصر والدفاع عنها! وكان شعور الجند المدافع عن الإسكندرية بهذه الحال يشتد يوما فيوما فيزيد روحهم المعنوية بتوالي الأيام انحلالا، وكان عمرو بن العاص وجنوده مقيمين على حصار الإسكندرية لا يبرحونها، مطمئنين إلى وفرة ميرتهم وذخيرتهم، وإلى ما يبلغهم من أنباء إخوانهم المنتشرين في الصعيد وفي الدلتا، أما عمر بن الخطاب بالمدينة فكان ينتظر أنباء مصر إذ ترد إليه الفينة بعد الفينة، وهو أشد ما يكون استعجالا للنبأ بسقوط الإسكندرية في يد المسلمين، لكن هذا النبأ أبطأ عنه شهرا، وساءه هذا الإبطاء فأخذ يبحث عن السبب فيه، فهؤلاء الجنود هم الذين فتحوا أمنع المدن وأقواها حصونا، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يكفل له الظفر بخصومه، فما باله مع ذلك يقيم أمام أسوار المدينة المحصورة كأنما طاب له ولجنده هذا المقام، وكأنهم اكتفوا به فلم يحاولوا ما بعده؟! ولم تكن أنباء الروم واضطراب ملكهم لتغيب عن خليفة المسلمين فكيف وهذه فرصة نادرة للظفر بهم يضيعها ابن العاص والذين معه، مع أنهم ظفروا بالروم من قبل في أجنادين حين كان هرقل لا يزال حيا، وحين كان الروم يرون أجنادين الحصن الأول في خط الدفاع عن بيت المقدس، ويرون دفاعهم عن بيت المقدس دفاعا عن دينهم وعن قبر المسيح نفسه؟! ليست قوة الروم إذن هي التي وقفت المسلمين على أبواب الإسكندرية، ولا بد أن يكون قد طرأ على هؤلاء المسلمين ما أضعف إقدامهم على الموت وحرصهم على الشهادة، وما عسى أن يطرأ عليهم إلا ما أغرتهم به خيرات مصر من تعلق بالدنيا وشره إلى نعيمها! وعمر أشد الناس إيمانا بأن حب الدنيا يفسد في النفس نخوتها وإقدامها، لذلك جعل الغضب يأخذ من نفسه كلما أبطأ عنه نبأ الفتح، فلما فاض عنه الغضب قال لأصحابه يحدثهم عن مصر: «ما أبطئوا بفتحها إلا لما أحدثوا.» ثم كتب إلى عمرو بن العاص يقول له: «أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر. إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم وأحببت من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلنتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألونه النصر على عدوهم.»
كم كانت الأشهر التي حاصر فيها العرب الإسكندرية، فأحفظ طولها عمر ودفعه إلى أن يكتب هذا الكتاب؟ يقول ابن عبد الحكم: إنها كانت أربعة عشر شهرا خمسة قبل موت هرقل وتسعة بعده، ويروي البلاذري أن عمرا بلغ الإسكندرية فوجد أهلها معدين لقتاله، فأرسل إلى المقوقس يهدده ويذكر له ظفر المسلمين بالروم في كل مكان، ونصح المقوقس لقومه بالصلح «فأبوا إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرا فتحها بالسيف وغنم ما فيها، واستبقى أهلها ولم يقتل ولم يسب وجعلهم ذمة كأهل إليونة.» ويذهب بتلر، في الملحق الرابع الذي جعله في ذيل كتابه عن «تواريخ الفتح العربي»، إلى أن المسلمين بدءوا حصار الإسكندرية في أواخر يونيو سنة 641، وأن المدينة سلمت في 8 نوفمبر سنة 641، وهذا يعني أن الحصار دام أربعة أشهر ونصف شهر، وقد يؤيد هذا القول الذي أورده بتلر ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: «إنكم تقاتلونهم منذ سنتين.» فما بين وصول عمرو إلى العريش في ديسمبر سنة 639 وتسليم الإسكندرية في نوفمبر سنة 641 يعادل سنتين هلاليتين؛ وهما لا ريب كافيتان لإثارة عمر ودفعه لأن يبعث إلى قائده على جيوش مصر يتهمهم بأنهم أحدثوا وأن الدنيا غيرتهم.
تلا عمرو كتاب أمير المؤمنين وأخذ يفكر في خطة يفتح بها الإسكندرية، وفي رواية أنه بدأ هذا التفكير ولم يصله كتاب من المدينة، روى ابن عبد الحكم عن أبيه عبد الله ابن عبد الحكم أنه قال: «لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية استلق ظهره ثم جلس فقال: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله - يريد الأنصار - فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومه ذاك.»
أما الذين يثبتون كتاب أمير المؤمنين فيقولون إن عمرا جمع الناس وقرأ عليهم الكتاب، ثم دعا أولئك النفر الذين ذكروا فيه فقدمهم، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر على عدوهم، ففعلوا ففتح الله عليهم.
وفي رواية أن عمرا استشار مسلمة بن مخلد في خطة الفتح، فأشار عليه أن يعقد لعبادة بن الصامت ليباشر القتال، فدعا عمرو عبادة وتناول منه سنان رمحه وعقد له وولاه قتال الروم، فقاتلهم ففتح الله عليه الإسكندرية ليومه.
هذه الروايات التي أوردها ابن عبد الحكم تنتهي كلها إلى ما تنتهي إليه رواية البلاذري من أن المسلمين هاجموا المدينة ففتحها الله عليهم، وأن ذلك كان يوم الجمعة لمستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة، وأنت تراها جميعا خلوا من كل تفصيل، وغاية ما أورده البلاذري من هذا التفصيل أن عمرا وجد أهل الإسكندرية معدين لقتاله إلا القبط، فإنهم كانوا يحبون الموادعة فأرسل المقوقس يسأل عمرا الصلح والمهادنة إلى مدة، فأبى عمرو ذلك، فأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة مقبلات بوجوههن إلى داخله، وأقام الرجال في السلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك؛ فأرسل إليه عمرو: «إننا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد لقينا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان.» فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم؛ أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان فأغلظوا له القول وأبو إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرا فتحها بالسيف، وهذا تفصيل طريف قد يصور حيلة المقوقس أول ما حاصر عمرو الإسكندرية، وما دار بين الرجلين من سفارة إذ ذاك؛ لكنه لا يصور الموقعة الحاسمة التي انتهت بفتح الإسكندرية عنوة، ولا يصف قتال المسلمين حين اقتحموا ما يحيط بالمدينة من أسوار متينة، وحين اجتاحوا حصونها المنيعة ودخلوها ظافرين منتصرين.
وليس يسعنا إلا أن نبدي من الأسف على هذا الإغفال مثل ما أبدينا حين الكلام عن فتح كريون، فصيحات الأبطال الذين فتحوا الإسكندرية، والتحامهم بعدوهم وكيف قاومهم العدو، والأسباب التي أدت إلى ظفر الأولين وهزيمة الآخرين، وكيف استقبل شعب الإسكندرية الفاتحين، كلها أمور عظيمة الشأن، وشأنها لا يقف عندما تنطوي عليه من رائع القصص، بل تتعدى ذلك إلى أنها تجلو لنا الميول والاتجاهات الإنسانية التي كانت قائمة بنفوس الجماعات في ذلك العصر، وتهدينا إلى تبين العوامل التي كيفت ما حدث بعد ذلك من تطور في أحوال المنتصرين والمنهزمين على سواء، وترسم لنا جانبا من صورة الإنسانية لذلك العصر على نحو يكشف عن اتجاه الضمير الإنساني في عصر بعينه، ومعرفتنا هذا الاتجاه تمكننا من أن نضع رسما بيانيا، على تعبير المهندسين والطبيعيين، لسير الإنسانية في دأبها المتصل على العصور ابتغاء الكمال.
وليس يخفف من أسفنا ما أورد المؤرخون من مواقف فردية لبعض الأبطال؛ فهذه المواقف، إن صحت الرواية في أمرها لا تصور اتجاها عاما للتفكير الإنساني في العهد الذي وقعت فيه، وإن أمكن أن تصور ناحية من نواحي الخلق الفردي لأبطال ذلك العهد، ذكروا أن الروم بالإسكندرية قاتلوا المسلمين يوما من الأيام قتالا شديدا، فلما حمي الوطيس بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه وألقاه عن فرسه، وأهوى عليه لولا أن حمى مسلمة رجل من أصحابه، وكان مسلمة على شجاعته بدينا، فلما رأى عمرو بن العاص ما حدث غضب من مسلمة وقال: «ما بال الرجل الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال ويتشبه بهم!» وغضب مسلمة من قول عمرو؛ لكنه كظم غضبه وأسرها في نفسه، ثم إن القتال اشتد واقتحم المسلمون حصن الإسكندرية ودخله عمرو ومسلمة فيمن دخله، وكر عليهم الروم وأخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر لم يستطيعوا الخروج، فأغلق عليهم الروم باب الحصن وحبسوهم فيه، وكان عمرو ومسلمة بين هؤلاء الأربعة ؛ لكن الروم لم يعرفوهما، وتكلم رومي بالعربية فقال لعمرو وأصحابه: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم، فامتنعوا عليه، فقال لهم الرومي: إن في أيدي أصحابكم رجالا منا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم، فاستأنف الرومي قائلا: هل لكم إلى خطة نصف بيننا وبينكم: أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم؟ فرضي المسلمون الأربعة بذلك، وبرز من الروم رجل وثق أصحابه بنجدته وشدته، وأراد عمرو أن يبرز بنفسه، فمنعه مسلمة حتى لا يتعرض للقتل فيكون قتله بلاء على أصحابه جميعا، واستأذنه في أن يبرز، قال عمرو: دونك، فربما فرجها الله بك، وبارز مسلمة الرومي فتجاولا ساعة ثم أعان الله مسلمة على الرومي فقتله، وفتح لهم الروم باب الحصن فخرجوا وقد استحيا عمرو مما كان قاله لمسلمة، فاستغفره منه فغفره له، فقال عمرو: «والله ما أفحشت إلا ثلاث مرار: مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك! والله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما بقيت!»
هذه الصورة أدنى إلى الأساطير، وهي مع ذلك تصف لنا جانبا من خلق مسلمة، وجانبا من خلق عمرو وكلا الجانبين مضيء يجمل التأسي به، لكنها لا تزيد على هذا الوصف، فلا تصور اتجاها عاما في حياة الجماعة كان له أثره في هذا اليوم الحاسم الذي قضى على وجود الروم في مصر، ومن عجب أن تبلغ الروايات التي انتهت إلينا من الإيجاز فلا تذكر أي أبواب المدينة دخل منه المسلمون، ولا كيف اقتحموه، ولا كيف دافع الروم عنه، مع أن هذا اليوم الحاسم قد كان لا ريب من أهول الأيام في حروب ذلك العهد؛ فكان أهول من أيام القادسية الثلاثة، ومن يوم المدائن ويوم نهاوند! وأعجب من ذلك أن يكتفي المؤرخون المسلمون من وصف هزيمة الروم بمثل هذا القول : «فلما هزم الله تبارك وتعالى الروم وفتح الإسكندرية هرب الروم في البر والبحر.»
مهما يكن من أمر هذا الإيجاز، فالمؤرخون المسلمون جميعا متفقون على أن الإسكندرية فتحت عنوة، وأن الروم هربوا لفتحها يلتمسون من سيوف الغزاة ملجأ حيثما وجدوه، ولكن بتلر يصور هذا الفتح صورة تختلف عن ذلك كل الاختلاف، صورة التسليم على صلح، لا صورة الإذعان عن هزيمة، فهو يذكر، كما قدمنا، أن عمرو بن العاص سار بنفسه على رأس الكتائب التي ذهبت من الإسكندرية تذيع الفزع في بلاد الدلتا، وأن المطاف انتهى به إلى بابليون حين فيض النيل وبينما هو في الحصن وافاه قيرس آتيا من الإسكندرية يحمل رسالة الإذعان والتسليم، ويقول للأمير العربي: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.» ثم ينتهي بعد المفاوضة إلى عقد الصلح معه.
وعاد قيرس إلى الإسكندرية يحمل عهدا عقده مع القائد العربي وأهلها لا يعلمون ما صنع، ولم يجد مشقة في حمل أمراء الجند على إقرار هذا الصلح والنزول على أحكامه، وتسامع الناس همسا بما حدث، فثارت نفوسهم، ثم زادهم ثورة ما فجأهم من دخول فئة من العرب مدينتهم؛ يسيرون على خيلهم لا يلوون على شيء، ولا يعبثون بضجة الناس من حولهم، وبلغت منهم الثورة لصنيع قيرس أن أقبلوا إلى قصره، وأحاطوا به يريدون أن يقتلوه، ومع إحداق الخطر بحياته استطاع البطريق الشيخ ببلاغته وقوة حجته وهيبة شيخوخته، أن يسكن ثائرة الناس، وأن يقنعهم بصدق رأيه، وأن يحملهم على قبول ما صنع، بل لقد بلغ من تأثر الثائرين بأقواله أن جعلوا «يتلاومون على ما اقترفوا من الوثوب والحنق على ذلك الحبر الطاهر، في حين يسعى جهد طاقته ليحول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا يجمعون قسط الجزية التي فرضت عليهم وزادوا عليها مقدارا كبيرا من الذهب، ووضع ذلك المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين وبذلك تم فتح الإسكندرية.»
3
هذه رواية بتلر ، وهي تختلف عن تصوير المؤرخين المسلمين لفتح الإسكندرية أشد الاختلاف، وقد أورد بتلر في روايته هذه طائفة من نصوص المعاهدة التي أشار إلى أن المقوقس عقدها مع عمرو بن العاص خاصة بالإسكندرية، ولو أن هذه الرواية بقيت قائمة، لكانت جديرة أن تبعث إلى نفس القارئ شيئا من الاضطراب إذ يوازن بينها وبين رواية المؤرخين المسلمين، فقد أبدى هذا المؤرخ العالم من النزاهة ومن الحرص على الدقة العلمية في بحوثه ما يدعو لاحترام رأيه في الوقائع التي حققها، وإن اختلف الإنسان معه في استنباطاته وفي آرائه وفي طريقة توجيهها، لكن هذه النزاهة نفسها هي التي اقتضت هذا العالم الدقيق أن يعدل عن رأيه حين ثبت له عدم صحته، وأن يسلم بأن عمرا والمقوقس لم يعقدا غير معاهدة واحدة هي التي وضعت شروطها حين حصار حصن بابليون، ثم رفضها هرقل ونفى قيرس من أجلها، بهذا أصبحنا قادرين على أن نطمئن كل الاطمئنان إلى رواية المؤرخين المسلمين على إيجازها، وأن نسلم بأن الإسكندرية فتحت عنوة، وأن ما ربما حدث بعد هذا الفتح بين المقوقس والقائد العربي لم يتجاوز تنظيم الوسيلة لجلاء جند الروم عن العاصمة المصرية وعن بلاد مصر كلها.
4
دخل المسلمون الإسكندرية عنوة فاقتحموا أسوارها وفتحوا بابها، ففر الروم منهم إلى البر والبحر، وأذعن لهم سكان العاصمة وأسلموهم مقاليدها، فأخذ هؤلاء البدو من أهل شبه الجزيرة يجوسون خلال مدينة الإسكندر، فلا يكادون يخطون فيها خطوة بعد خطوة حتى يبلغ منهم البهر حد الذهول، لقد تولتهم الدهشة، أول مقدمهم، لحصارها، حين رأوا ضواحيها وأسوارها، وحين تبدت لهم أعاليها من وراء الأسوار محدثة عما فيها من بدائع الفن والعمارة وزخرفها، بل لقد كانت الأسوار وحدها عجبا بمتانتها وبراعة صناعتها وما ينهض فيها من بروج وحصون، أما الآن وقد تخطوا الأسوار إلى داخل المدينة فليس ما يرونه عجبا وكفى، بل هو بارع باهر يسحر اللب ويلعب بالفؤاد، فهذان الطريقان العظيمان، اللذان يشقان المدينة من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب فريدان لا نظير لهما في كل ما رأوا بالشام أو بالعراق، تكتنفهما على طولهما عمد من مرمر ناصع يأخذ لألاؤه النظر، ويتقاطعان في ميدان فسيح غرست فيه الحدائق الغناء فجعلته روضة من رياض الجنة، وقامت من حوله القصور المنيفة تحيط بها جنات من أعناب وزهر وفاكهة وكل زرع نضير، ويبلغ أحد الطريقين البحر فينكشف المرفأ للنظر، وتتجلى من حوله عجائب يحار المرء عند أيها يقف، فإذا وقف عند أحدها سحر به فلم تطاوعه نفسه إلى مجاوزته، فهذه قصور البطالسة يحدث ما بقي من جمالها وإبداعها عن عظمة في العلم والفن لا تدانيها عظمة، وهذه المقبرة الكبرى التي كانت بها جثة الإسكندر وعليها غشاء من ذهب، وهذا المتحف تتصل به مكتباته العجيبة التي كانت مقر العلوم في العالم أجمع، وهذا إيوان عظيم تحيط به أربعة صفوف من العمد، يسميه أهل المدينة «التترابيلوس» ويذكرون أن الإسكندر الأكبر دفن به النبي أرميا، وهم لذلك يحترمونه ويجلونه، وإلى جانب ذلك المشهد تقوم الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس مرقس، البديعة البناء، وعلى مقربة منها تقوم طائفة من الكنائس تعنو لعظمتها، وهي مع ذلك بدائع في الفن تشهد بما جبل عليه أهل مصر من حب الإنفاق في بناء المعابد زلفى إلى الآلهة التي يعبدونها.
كانت كنيسة القديس مرقس تحتوي على جثمان ذلك الرسول موضوعا أمام المحراب في تابوت من المرمر، وكانت لهذا السبب ولفخامة بنائها موضع الإكبار والتقديس من جميع الناس، على أن كنيسة «القيصريون» القائمة في الحي نفسه عند ثنية المرفأ الأعظم كانت أعظم منها شأنا، وكادت لذلك أن تحل محلها، ولم تكن «القيصريون» كنيسة في أول تشييدها، بل كان معبدا وثنيا أقامته «كليوبترا» فوق نهد من الأرض مشرف على البحر ليراه كل قادم إلى الإسكندرية، فيرى العظمة والجلال والجمال مجتمعة، وقد شادت الملكة البارعة ابنة البطالسة الأعظمين هذا المعبد الفخم إعظاما ليليوس قيصر، ولذلك أطلق عليه اسم «القيصريون» فلما انتحرت وآل حكم مصر إلى الرومان أتم القيصر «أغسطس» بناء المعبد وزاد فيه وجعله من العظمة بما جعل «فيلو» يقول في وصفه: «... كان معبد قيصر أثرا لا مثيل له، وكان على ميناء فسيحة عظيمة البناء، عجيب الصناعة، عالي السمك يعده الناس علما من أعلام البحر؛ قد زانته أبدع الصور والتماثيل، تقدم إليه جليل الهدايا والقرابين؛ وكانت تجمله كله حلية من الذهب والفضة، فكان نموذجا في جمال تنسيقه، وإبداع أجزائه المؤلفة من متاحف ومكاتب وقباب وساحات وأبهاء ومماش وخمائل من أشجار ظاهرة، وقد وضع كل شيء في موضعه اللائق به، وأبدعت فيه يد الصناعة فأبرزته في حلة أنيقة من الرونق، بذل في سبيلها المال لم يدخر باذله ثمينا ولا غاليا، وكان إلى ذلك متعة لأهل الأسفار وجلاء لأعينهم إذا وقعت عليه في غدواتهم وروحاتهم.»
5
وكان في صدر «القيصريون» مسلتان أثارتا من العرب أشد العجب، فقد كانت من الجرانيت الأحمر، وكانتا مربعتين تقومان على قاعدتين كسيت إحداهما بغطاء من النحاس على شكل أربعة من الجعلان نقشت عليها نقوش قديمة، وكانت هذه الجعلان تفصل بين المسلة وبين القاعدة، ثم كانت القاعدة قطعة واحدة من الجرانيت تحتها ثلاث طبقات مدرجة من الحجر، أما القاعدة الثانية فكان يفصل بينها وبين المسلة أربعة تماثيل من حجر شفاف خاله العرب زجاجا، وكان على رأس كل من المسلتين غطاء من النحاس أو البرنز يرتكز عليه تمثال من هذا المعدن، ويمثل أحد التمثالين إلها لعله إله النصر، ويمثل الآخر إلهة لعلها من آلهة البحر، وكانت هذه المسلات بتماثيلها وقواعدها بارعة الجمال في دقة صناعتها، فكانت متاعا لعين الناظر إليها من البحر إذ تمر بها السفن داخله إلى المرفأ أو خارجة منه.
كانت هذه المجموعة البديعة: من قصور ومعابد وكنائس وتماثيل وعمد ومسلات، مشرفة على البحر عند نهاية أحد الطريقين الرئيسيين للمدينة، فكان العرب إذ يبلغونها يقفون عند كل واحد منها مسحورين تولاهم البهر، وما ندري لعل بهرهم بها أول دخولهم المدينة قد أتاح للروم الذين فروا في البحر فرصة الابتعاد بالسفن عن الشاطئ.
وفي حي آخر على مقربة من الباب الجنوبي للإسكندرية، كان يقوم عمود «دقلديوناس» الذي سماه العرب من بعد «عمود السواري.» وهذا العمود لا يزال قائما يشهد في صمته بما كان عليه معبد السرابيوم القائم حوله من جمال وجلال وعظمة، فما من شيء يرسم أمامنا صورة منه إلا أطلال الكرنك، لولا أن الكرنك مصري كل عمارته العظمة والجلال، وأن السرابيوم قد جمع بين الفنين المصري والإغريقي، فجمع إلى الجلال المصري دقة الفن الإغريقي وزينته.
فقد شيد هذا المعبد أول ما شيد في عهد البطالسة قدسا للإله «سيرابيس» ويذكرون أن بطليموس الذي شاده جاء بتمثال إله من جزيرة إغريقية، وأطلق عليه اسما مشتقا من الاسمين أوزوريس وأبيس، ليجمع حوله عبادة أهل الإسكندرية، من المصريين الأصليين، ومن اليونان الذين نزحوا إليها واستوطنوها، وشاد بطليموس قدس هذا الإله فوق ربوة يذهب بعضهم أنها ربوة طبيعية كربوة الأكروبوليس بأثينا، على حين يذهب آخرون إلى أنها من صنع الإنسان، وأيا ما يكن الواقع فقد كان هذا البناء قائما على نهد له نواة من الصخر الطبيعي، وكان مشرفا بارتفاعه على المدينة، وكان قاصده يصل لذلك إليه عن أحد الطريقين: أولهما سلم مائة درجة، والثاني سفح ممهد تسير عليه العجلات.
والظاهر من روايات المؤرخين أن بناء السرابيوم كان مستطيلا خمسمائة ذراع في مائتين وخمسين، وكان قدس سيرابيس يقوم في وسطه مشيدا داخله وخارجه من أثمن المرمر، وقد خلع على بنائه من الروعة غاية ما بلغه فن المعمار في مصر، وفي وسط هذا القدس كان يقوم تمثال عظيم لسيرابيس من الخشب الملبس بالذهب والعاج، له ذراعان ممدودتان، تكاد كل منهما تلمس الحائط الذي يليها، وكانت تزين القدس نقوش باهرة لا سبيل إلى تقويمها، وقد أحيط القدس بصف من العمد توازي العمد التي كانت تحيط بالفناء كله في أربعة صفوف متوازية، ولقد هدم المسيحيون هذا القدس الوثني قبل دخول العرب، فلم تصدهم عنه روعة عمارته، ولم تحملهم على الاكتفاء بإخراج التمثال الوثني منه والإبقاء على بنائه البارع البديع.
ولم يكن بناء السرابيوم فيما حول قدس سيرابيس دون هذا القدس جلالا، قال «أميانيوس» في وصفه: «إن الوصف ليعجز عن تصوير صورة حقيقية له، فقد كانت أبهاؤه ذات العماد، وتماثيله التي كأنها من الأحياء، وما كان به غير ذلك من آثار الفن، كل ذلك كان يميزه ويخلع عليه بهاء يجعله فذا في العالم، فلا شيء مما فيه يزيد عليه جمالا اللهم إلا بناء الكابتول، ذلك الفخر الخالد الذي تفخر به رومية العظيمة.»
وكان في بناء السرابيوم حجرات عظيمة شغلت بعضها مكتبة الإسكندرية وشغلت بعضها مشاهد لآلهة مصر القديمة، وكان فيه مسلتان قديمتان وحوض ماء عظيم من المرمر الفائق الجمال، وقد اتخذ المسيحيون بعض مبانيه كنائس بقي بعضها قائما إلى ما بعد الفتح العربي، وكان يلاصق مدخله بناء له قبة مذهبة عالية قائمة على دائرة مزدوجة من الأعمدة، وقد بقي هذا البناء، كما بقي كثير من عمد السرابيوم قائما إلى زمن طويل بعد الفتح، وكان بعض المؤرخين يذكرون هذا البناء، ويطلقون عليه اسم «مدرسة أرسطو» و«قبة أرسطو» و«بيت الحكمة».
وعلى مقربة من السرابيوم أقيم ميدان لسباق الخيل، قيل إنه كان يتسع لألف من النظارة، وإن بناءه كان يتيح لهذا العدد العظيم أن يروا ويسمعوا ما يجري فيه من غير مشقة، أما دار التمثيل فكانت في حي آخر استقلت فيه ببناء عظيم تلفت عظمته النظر ويسحر جماله الفؤاد.
أخذ الفاتحون بهذا العمران الذي تجلى لهم أول ما دخلوا المدينة وجاسوا خلالها، لكنهم لم يلبثوا أن بلغت منهم الدهشة حين رأوا أسفل هذه المباني الرائعة مباني أخرى تحت أرض المدينة، ثم رأوا هذه المباني السفلى طبقات بعضها دون بعض، أربع طبقات أو خمسا، وفي كل طبقة منها عدد عظيم من العمد ومن الحجرات التي كانت تستعمل صهاريج لخزن المياه، وقد كانت المياه تجري إليها في أثناء فيض النيل في قنوات تصلها بالترعة الحلوة، فإذا امتلأت شرب الناس منها طول العام.
أخذ العرب وتولاهم البهر لما رأوا من ذلك كله، على أن ذلك كله لم يثر من دهشتهم وعجبهم وإعجابهم ما أثارته المنارة الكبرى، كان ذلك البناء العظيم العجيب، قائما في الشمال الشرقي من جزيرة فاروس المتصلة بالمدينة بطريق طويل، قائم على عقود متينة،
6
وقد أقام بطليموس الثاني هذه المنارة التي كانت عجيبة من عجائب الدنيا السبع لهداية السفن، فشادها من أحجار بيضاء تلمع نهارا في ضوء الشمس فإذا جن الليل أضيئت ليراها راكب البحر، فكانت بذلك هادي السفن إلى المدينة اليوم كله.
وقد شاد بطليموس المنارة على صخر في البحر، وبناها من صخور متينة منحوتة صب بينها الرصاص حتى لا يتسرب ماء البحر إلى أي جزء من أجزائها، وكان ارتفاعها ثلاثمائة ذراع قسمت إلى طبقات أربع: أولاها مما يلي الأرض مربعة، والثانية التي تعلوها مثمنة، والثالثة مستديرة، والرابعة مكشوفة بها مواضع للنار التي تهدي السفن، ومرآة طال حديث الكتاب والمؤرخين عنها، وكان في كل طبقة طنف يشرف على المدينة، ويصل بين الطبقات سلم صاعد خلال المنارة من أسفلها إلى أعلاها، تضيئه نوافذ فتحت في مواضع مختلفة من البناء على نحو هندسي دقيق.
وكان بالمنارة غرف كثيرة متداخلة، أثار عددها وتداخلها عجب العرب، حتى لقد قال المقريزي: «ويقال: إن كل من دخل هذه المنارة اختبل وضل الطريق مما بها من الغرف العدة والطبقات والمماشي.» فأما المرآة التي كانت في أعلاها فكانت أعجوبة الأعاجيب، ولذلك كثرت الأقاويل في معدنها وفي الغرض من وضعها وفي مبلغ قوتها، ويقول المسعودي: «إنها مرآة عظيمة من الحجر الشفاف: يمكن أن ترى فيها السفن الآتية من بلاد الروم وهي بعيدة عن مدى البصر.» ويقول آخر: «إنها من زجاج محكم الصنعة.» ويقول ثالث: «إنها من الحديد الصيني.» ويقول السيوطي: «إن عرضها كان سبع أذرع؛ وإنها كانت تظهر السفن الآتية من بلاد أوروبا، وكانت تستعمل لإحراق سفن العدو، فكان الموكلون بها يديرونها نحو الشمس وهي مائلة للغروب فتنعكس عليها الأشعة وتحرق سفن العدو، والإجماع على أنها تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر.» ويذهب بعضهم إلى أن الإنسان كان يرى فيها كل شيء إلى القسطنطينية.
وكانت المنارة سليمة حين الفتح العربي، وكذلك كانت المرآة لكنهما لم تدوما بعد الفتح طويلا، والمؤرخون يختلفون فيما بينهم: هل جاهد العرب بعد هدمها لإعادة بنائها، ولا غناء في تحقيق خلافهم، والذين يذهبون منهم إلى أن المسلمين حاولوا إعادتها متفقون فيما بينهم على أنهم لم ينجحوا في هذه المحاولة.
7
لا حاجة بي إلى أن أذكر ما تركته عمارة الإسكندرية، وما امتازت به من جمال وجلال، من الأثر العميق في نفوس العرب الذين فتحوها، وحسبك، لتدرك عمق هذا الأثر، أن تتلو عبارة عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في هذا الفتح إذ يقول: «أما بعد فإني فتحت مدينة لا أصف فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» فهذا الإيجاز من رجل اشتهر بالإطناب ودقة التصوير في الوصف حجة على أن عمرا رأى كل وصف يقصر عن تصوير ما رآه بالإسكندرية على حقيقته، بل لقد بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج رسولا إلى عمر ينبئه بالفتح، فسأله معاوية: «ألا تكتب معي كتابا؟» فكان جواب ابن العاص: «وما أصنع بالكتاب؟ ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيته وما حضرت؟!» وقد كان هذا جوابه وهو يعرف حرص عمر على أن يقف على الدقيق والجليل من كل شيء، وأن يقف عليه مفصلا أوفى تفصيل.
كان للإسكندرية أثر عميق في نفوس الذين فتحوها، ثم كان لها أعمق الأثر في نفوس المؤرخين الذين أثبتوا بعد قرنين حديث أولئك الفاتحين، فأنت ترى في رواياتهم مبالغات عجيبة لا يفسرها إلا دهشة رواتها دهشة جعلتهم يصدقون كل ما يسمعون، يقول ابن عبد الحكم في رواية مسندة: «وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات اثنا عشر ديماس، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.» ويقول: «لما فتحت الإسكندرية وجد بها اثنا عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.» ويذكر السيوطي أن أهل الإسكندرية جميعا كانوا يلبسون الثياب السود والحمر؛ لأن أرضها وبناءها من المرمر الأبيض، وكان تألق الرخام سببا في اتخاذ الرهبان السواد في لباسهم، وكان من المؤلم أن يسير الإنسان في المدينة بالليل فإن ضوء القمر إذا وقع فيها على الرخام الأبيض جعلها تضيء، حتى كان الحائك يستطيع أن يضع الخيط في الإبرة بغير أن يستضيء بمصباح؛ وما كان يستطيع أحد أن يدخل المدينة إلا إذا اتخذ غطاء لعينيه يقيه بريق الطلاء والمرمر، ويقول المسعودي في وصف السرابيوم: «وكان في ذلك القصر مائة عمود، وفي صدره عمود عظيم لم ير مثله في الحجم وله قمة كالتاج ... وكان ذلك العمود يهتز عند هبوب الريح عليه.» ويقول السيوطي: «إنه قد بنى الجان لسليمان في الإسكندرية إيوانا للاجتماع، به ثلاثمائة عمود علو كل منها ثلاثون ذراعا.» وكانت من المرمر المجزع، بلغ من صقله أن صار كالمرآة يرى الإنسان فيه من يسير خلفه، وكان في وسط الإيوان عمود علوة مائة ذراع وإحدى عشرة ذراعا، وكان سقفه قطعة واحدة من المرمر الأخضر نحته الجن، وكان هؤلاء الجان على صورة الإنسان لهم رءوس كالقباب وعيون تمزق الأسد. هذه الروايات وما ورد من مثلها، وهو كثير، تشهد كلها بأن عاصمة مصر تركت في نفس الفاتحين أثرا لم يحسوا مثله في جميع أنحاء البلاد التي فتحوها فصاروا يذكرون ما شهدوا ويضيفون إليه ما سمعوا عنه من أحاديث صحيحة أو ملفقة لا يثبت الكثير منها للنقد.
وقع هذا الأثر في نفوس الفاتحين أول ما دخلوا الإسكندرية، ثم إنهم لم يلبثوا فيها إلا قليلا حتى رأوا حياة أهلها عجبا زادهم دهشة وإعجابا، فهذه الأجناس المختلفة التي تسكنها، وهذه الأديان والمذاهب المتباينة التي تتجاور فيها وهذه اللغات واللهجات العدة التي يتكلمها أهلها؛ هذا كله تجتمع فيه صورة مليئة بالحياة لا يماثلها شيء مما كانوا يتخيلونه عن برج بابل، مع ذلك لم يكن اختلاف الأجناس، ولا تباين الأديان والمذاهب، ولا تعدد اللغات واللهجات ليجني في قليل ولا كثير على طمأنينة أهل العاصمة للعيش وسكينتهم للحياة، فقد غرق سادتها في ألوان من الترف والنعيم أنستهم كل خلاف بينهم، وأنستهم كل ما سوى المتاع بهذا الترف بلغ من تعدد فنونه وألوانه ما وقف العرب حيارى لا يكادون يصدقون ما يرون وما يسمعون!
فلم تكد المدينة تستعيد طمأنينتها بعد انتهاء حصارها حتى عادت سيرتها الأولى، تستمتع بصنوف اللهو، وتستمرئ المتاع بشتى ألوانه؛ فهذه مجالس العلم تعقد يتحدث حضورها في الفلسفة وفي الرياضة وفي الطب وفي الفن وفي غير ذلك من متع العقل وترفه وهم يعنون في منطقهم وفي نظام حديثهم بالافتتان في هذا الترف، حتى ليظنهم شاهد مجلسهم كأن الحياة كلها للعقل وما أبدع من علم وفن، وهذه دور اللهو فيها الراقصات البارعات، والمغنيات المشجيات، وفيها من التمثيل والموسيقى وألوان الفن الجميل كله ما لم تره من قبل أعينهم، ولم تسمعه آذانهم، ولم يخطر على قلوبهم، وهذه دور الصناعة تعج عجيجا شديدا، ويشمر الصناع فيها عن سواعدهم، فهي تنتج من كل شيء ما لا مثيل لإتقانه في غير الإسكندرية، وهذه متاجر المدينة في أحيائها التي لم تصبها الحرب بالكساد يتعامل الناس فيها مغتبطين بما يجيء إلى عاصمة وادي النيل من ثمرات مصر المختلفة في الزراعة والصناعة، وبما ينتقل إليها من النوبة ومن الشرق الأقصى ومن الشام ومن بلاد أوروبا المختلفة، وهؤلاء سراة الإسكندرية، في ثيابهم الجميلة بشتى ألوانها يذهبون إلى دور اللهو وإلى المتاجر وإلى دور العلم وإلى مسارح التمثيل، فإذا أووا إلى قصورهم زادهم المتاع فيها حبا للحياة وحرصا على أنعمها، أي شيء هذا كله! إلا أنه إلى الخيال أقرب منه إلى الحقيقة! وهو مع ذلك حقيقة ملموسة تقع عليها حواس الفاتحين، فهم منها في عجب بالغ يذرهم وليس لهم إلى حديث في غيرها سبيل.
ولم يكن أمراء الجند أقل من الجند عجبا وإعجابا، وقد رأيت أثر هذا الإعجاب والعجب في كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة، إذ أعجزه الجلال عن وصف ما رأى، فلم يذكر إلا «أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» وهذا العجز هو الذي جعله يبعث معاوية بن حديج إلى المدينة ولا يبعث معه كتابا، بل يقول له: «وما أصنع بالكتاب! ألست امرأ عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وما حضرت!»
ولقد سار معاوية أياما ثم بلغ المدينة في الظهيرة، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخله وجلس قريبا من بابه، وخرجت جارية من دار عمر بن الخطاب فرأته شاحبا عليه ثياب السفر، وعرفت منه أنه رسول عمرو بن العاص، فدخلت مسرعة إلى الدار ثم رجعت إليه مسرعة وقالت: قم فأجب! أمير المؤمنين يدعوك. ودخل معاوية الدار يتبعها، وأجاب عمر حين سأله: ما عندك؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج عمر من فوره إلى المسجد ومعه معاوية وأمر المؤذن أن يؤذن في الناس أن الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس قال عمر لمعاوية: قم فأخبر أصحابك، فلما أخبرهم قام عمر فصلى شكرا لله، ثم دخل منزله واستقبل القبلة ودعا بدعوات، ثم أمر الجارية فجاءت الرسول الذي حمل النبأ بفتح الإسكندرية بطعام خبز وزيت، وأكل معاوية على حياء، ثم أتته بطبق من تمر، فأكل على حياء كذلك، فلما فرغ من طعامه سأله عمر: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ وأجاب معاوية: قلت إن أمير المؤمنين قائل، فأردف عمر: بئسما ظننت! لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!
وبينما كان معاوية في طريقه إلى المدينة كان الروم قد بدءوا يجلون عن الإسكندرية من طريق البر ومن طريق البحر، وقد سبق أن قلنا: لعله قد تم بين عمرو والمقوقس اتفاق بعد فتح الإسكندرية لم يتجاوز تنظيم الجلاء لجنود الروم عن عاصمة مصر وعن مصر كلها، يقول البلاذري: «ويقال إن المقوقس صالح عمرا على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج وأن يقيم بها من أحب المقام، وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، فكتب لهم بذلك كتابا.» وقد استنبط بتلر من رواية حنا النقيوسي أن المقوقس وعمرا اتفقا بعد فتح الإسكندرية على هدنة أحد عشر شهرا، يبقى العرب في أثنائها في أماكنهم، وترحل مسلحة الإسكندرية من الروم في أثنائها في البحر ومع جنودها أموالهم ومتاعهم، فمن أراد الرحيل منهم في البر دفع جزية كل شهر حتى يبلغ أرض قيصر، وقد أضاف بتلر إلى ما ذكره من ذلك شروطا تتصل بالصلح الذي كان قد تم ببابليون بين القائد العربي والبطريق الرومي، وجلي أن هذه الشروط كانت واردة بالمعاهدة التي وضع مشروعها حين كان العرب يحاصرون حصن بابليون، وهي المعاهدة التي رفض هرقل إقرارها، أما بعد فتح الإسكندرية عنوة فقد اقتصر الأمر على تنظيم جلاء الروم عن الإسكندرية وعن غيرها من بلاد مصر.
والراجح أن ما ذكره بتلر عن الهدنة صحيح، وإن كان تحديد مدتها بأحد عشر شهرا موضع خلاف، فبعضهم يرى أنها لم تزد على الزمن الذي قدره عمرو بن العاص كافيا لرد الخليفة على شروط الهدنة والجلاء، وهو زمن لا يتجاوز الشهرين، ولعل هذا القول أدنى إلى الصحة، فما كان مجيء السفن إلى الإسكندرية لنقل جند الروم منها ليستغرق أكثر من ذلك.
لم يغادر المقوقس الإسكندرية مع الروم الذين جلوا عنها، بل ظل مقيما بقصره فيها حتى مات بها ودفن في مقابرها، وهو لم يفكر في مغادرتها؛ لأنه كان يعلم أنه يخاطر بحريته، بل بحياته، إذا نزل بزنطية، وأن مصيره إن فعل سيكون النفي أو الموت لا محالة، فقد بقي هذا البطريق الشيخ في المنفى الذي بعث به هرقل إليه حتى دعاه قسطنطين ومرتينا وابنها بعد موت هرقل، ثم إنه جاء إلى الإسكندرية على وفاق مع مرتينا، وبقي بها حتى فتحها العرب فهادنهم، وفي هذه الأثناء كان الروم قد بلغت ثورتهم بمرتينا وابنها بعد مقتل قسطنطين أن نحي الشاب وأمه عن الحكم أو قتلا، وانفرد كنستانس بن قسطنطين بالعرش، وكانت صلة المقوقس بمرتينا غير خافية على أحد من أهل القسطنطينية، فلو أنه ذهب إليها لما كان عجبا أن يصيبه ما أصاب الإمبراطورة حليفته؛ لذلك آثر البقاء بمصر مقتنعا بأن الفاتح العربي سيبقي له من النفوذ ما تطمئن إليه شيخوخته المحطمة.
8
كان كثيرون من المصريين والروم الذين لاذوا بالإسكندرية بعد سقوط حصن بابليون يرجون أن يرجعوا إلى قراهم بعد أن سقطت الإسكندرية، فطلبوا إلى المقوقس أن يخاطب عمرا في الأمر، لكن عمرا أبى عليه ما طلب؛ لأن بعض البلاد الحصينة كانت لا تزال تقاوم، فمن الخطر أن ينضم إليها قوم ربما عاونوها على المقاومة، ورأى المقوقس في إباء عمرو نذيرا بزوال سلطانه، فاعتراه من الهم ما عجل به إلى الموت، أفمات ندما على تسليم الإسكندرية للمسلمين، كما يقول حنا النقيوسي؟ أم خشي أن يقتله عمرو، فلما بلغ منه الخوف جعل في فمه خاتما مسموما فمات من ساعته، كما يقول ساويرس؟ أم إنها الشيخوخة انتهت به إلى موت طبيعي؟ يثبت بتلر أنه أصيب بالدوسنتاريا، وأنه مات منها موتا طبيعيا فدفن بالإسكندرية في الحادي والعشرين من شهر مارس سنة 642.
مات قيرس، وجلا الروم عن عاصمة مصر، فتولى المسلمون أمرها، وأخذوا يدبرون شئونها، بذلك دالت دولة الروم فيها وزال سلطانهم عنها، وإن بقيت لهم بها حاميات محصورة في بعض الأرجاء، وما عسى أن تغني هذه الحاميات عن دولة دالت وسلطان تقلص! لذلك كان سقوط الإسكندرية في يد عمرو بن العاص إيذانا من الله بأن مصر كلها آلت إلى المسلمين، وأنه ألقى عليهم إصلاح ما فسد من شئونها، وتعمير ما أصابه الخراب منها، لكنهم لم يكونوا ليفعلوا حتى يطهروا الأرض كلها من الروم، وحتى يبعثوا إلى نفوس القبط الطمأنينة والأمن؛ ليستقر الأمن في البلاد كلها، فلا تحدث الروم أنفسهم بالعود إليها، فإن فعلوا ردوا على أعقابهم، وذاقوا وبال أمرهم.
ذلك ما حدث، وسيرى القارئ من بعد كيف حدث.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
مصر في يد المسلمين
كان فتح الإسكندرية إيذانا بأن بلاد مصر آلت كلها إلى المسلمين؛ فقد استولى خارجة بن حذافة على بلاد الصعيد إلى حدود طيبة، فلم يبق من الروم إلا عدد قليل لم يغامر بعد فتح العاصمة بقتال، ولم ينازع الفاتحين السلطان، وما كان هؤلاء الروم ليغامروا، وهم يعلمون ما يضمره القبط لهم من كراهية، بسبب ما أصابهم في أرزاقهم وفي دينهم من اضطهاد، وقد بلغ من أمر هذه الكراهية أن كان القبط إذا رأوا روميا منفردا قتلوه، ثم لا يعرف أحد من قتله، ولم يكن ذلك حبا من القبط للغزاة أو ترحيبا بمقدمهم؛ فقد كان أهل الصعيد بعيدين عن سلطان المسلمين في تلك الأيام الأولى من عهد الفتح، ولم تكن في نفوسهم حفيظة عليهم، بل كانت كل حفيظتهم على الروم الذين أذاقوهم النكال قرونا متطاولة.
وقد استولت الكتائب التي سارت في بلاد الدلتا على أكثر قراها، ونشرت سلطانها في أرجائها؛ فلم تقاوم تلك الكتائب إلا البلاد المحصنة، ثم إن هذه البلاد بقيت محصورة لا تستطيع أن تقهر الغزاة وإن استطاعت أن تدفع عن نفسها، فلما فتح عمرو الإسكندرية فتح الكثير من هذه البلاد أبوابها؛ لأنها أيقنت أن العرب سيضيقون الخناق عليها فلن تطول مقاومتها، أما البلاد القريبة من ساحل البحر الأبيض فظلت على مقاومتها، ولم تدخل فيما دخل الناس فيه من عهد.
وقد يرجع ذلك أن هذه البلاد كانت بها مسالح من الروم، ظن جندها أن مصيرهم إلى الهلاك إن سلموا أو قاموا، فدفعتهم فطرة المحافظة على النفس إلى المقاومة، وقد يرجع كذلك إلى أن المصريين من أهل هذه البلاد ترامت إليها عن قسوة المسلمين أنباء حملتهم على التحصن والمقاومة، فلا شك في أن دعاية الروم كانت تذيع، بكل ما عرف من وسائل الإذاعة لذلك العهد، أن المسلمين يسيئون معاملة القبط ويرهقونهم ويأخذون أرزاقهم غصبا، وأنهم يكرهون الناس على إنكار مسيحيتهم ليتخذوا الإسلام دينا، وإنك لتجد من هذه الأنباء، فيما نقله بتلر عن حنا النقيوسي، ما لعله يفسر مقاومة بلاد لا أمل لها في نجاح مقاومتها، ومع ذلك قاومت حين شاع بينها ما أذاعه الروم عن الغزاة المسلمين مما روع أهلها وحملهم على الاستماتة في القتال.
ويذكر المؤرخون أسماء بعض المدن التي قاومت، ومنها «إخنا» على مقربة من الإسكندرية، و«بلهيب» في جنوب رشيد، والبرلس ودمياط وتنيس، ويروون حوادث وقعت بين الغزاة وأصحاب هذه البلاد لبعضها دلالة خاصة ، فقد أراد «طلما» صاحب إخنا مصالحة عمرو، فلم يعجب عمرا كلامه، وأمر رجاله فساروا إلى إخنا وأخذوا منها أسرى مع أنها سلمت من غير مقاومة؛ ولذا رد عمرو أسراها الذين أرسلوا إلى المدينة، وجعلهم أهل ذمة، وحدث ببلهيب مثلما حدث بإخنا، ويقال إن عمرا تسلم وهو عند بلهيب كتابا من الخليفة يطلب إليه أن يخير الأسرى، فمن دخل الإسلام كان للمسلمين أخا، وسمع الأسرى بذلك، فأسلم كثيرون، فجعل المسلمون يكبرون لإسلام كل واحد منهم، وسار العرب من البرلس إلى دمياط فاستولوا عليها، وأصبحت لهم بذلك شواطئ البحر من العريش إلى الإسكندرية، مع ذلك لم تسلم تنيس ولم تفتح أبوابها للمسلمين، بل وقفت في وجوههم وناجزتهم القتال في مواطن كثيرة، وظلت كذلك حتى فتحت عنوة وغنم المسلمون أموالها وقسموها، وترجع مقاومتها إلى أنها كانت مدينة صناعية عظيمة كثيرة السكان، ثم كانت لها إلى ذلك مكانة ذاتية خاصة، وكانت ذات أسوار حصينة فيها تسعة عشر بابا مصفحة بالحديد الثقيل، وكان بها اثنتان وسبعون كنيسة، وستة وثلاثون حماما، ويذكر المقريزي أن تنيس ظلت على مقاومتها زمنا، فلما أبطأ فتحها خرج حاكم مدينة قريبة من دمياط اسمه شطا بن الهاموك، وكان قد أسلم، فجمع جيشا من البرلس ودميرة وأشمون طناح، وجهزه ولحق بالمسلمين وحارب معهم عدوهم، وأحسن البلاء في ذلك اليوم الذي فتحت فيه تنيس أبوابها، والذي قتل هو فيه، فأطلق اسمه على الموضع الذي خرج منه في شرق دمياط.
وكذلك تحطمت مقاومة الروم والمصريين الذين مالئوهم أو الذين طمعوا في الاستفادة من هذه الحروب لاستقلال بلادهم، وأصبح الأمر في مصر خالصا للمسلمين من شواطئ بحر الروم إلى بلاد النوبة.
وكان لعمرو أن يستريح بعد ذلك، وألا يتجاوز مصر إلى ما بعدها، لكنه قدر أن للروم قوات ببرقة وطرابلس قد تغريهم بالتحصن هناك، والتربص حتى تحين فرصة الثأر والرجعة إلى مصر؛ لذلك خرج في قواته، بعد أن اطمأن إلى استقرار الأمر في مصر، فسار من الإسكندرية إلى برقة، ولم يكن الطريق بينهما صحراويا مهملا مثلما هو اليوم، بل كان يجري في أرض خصبة، تحيط به من الجانبين زروع وفاكهة وكروم وعمران متصل؛ لذلك كانت مسيرة الفرسان المسلمين فيه نزهه ممتعة أدت إلى برقة، فلم يجدوا فيها مقاومة تذكر، والراجح أنها سلمت صلحا بعد مقاومة ضعيفة ورضيت أداء الجزية ثلاثة عشر ألف دينار كل عام.
وبرقة إقليم من طرابلس، سمي باسم مدينة كانت تقام حيث تقوم اليوم بني غازي، قال ابن دقماق: إن هذا الإقليم كانت به مدن كثيرة عامرة ذات أنهار وأشجار، وإنه كان كثير الناس والضياع، ويزرع به الزعفران، وقد روى أن التجار كانوا يكثرون التردد على برقة مشرقين ومغربين؛ لأنه كان يلج إليها من الشرق ومن الغرب صنوف من التجارة ليس في كثير من بلاد المغرب مثلها؛ لذلك لم يكن عجبا ألا يدخلها جباة المسلمين بعد صلحها يقتضون جزيتها؛ إذ كانت تبعث بالجزية إلى عمرو بمصر مع جماعة من أهلها، ومن عجيب ما يروى عن صلحها أن أهلها أبيح لهم أن يبيعوا أبناءهم لأداء الجزية، ولا تفسير لهذه الإباحة إلا أن بيع الأبناء في أداء الدين كان جائزا عندهم، فلم يحرمه المسلمون إلا على من أسلم،
1
وأكبر الظن أن أبناءها كانوا غير راضين عن هذا النظام بدليل ما ذكره ياقوت من أن أكثر الناس في برقة أسلموا.
وسار عمرو من برقة إلى طرابلس، وكانت مرفأ حصينا به مسلحة من الروم تحميه وتجد حوله من الخصب ميرة تختزنها في قلاعه، فلما رأوا مقدم المسلمين أقفلوا أبوابه وثبتوا للحصار الذي ضربه العدو عليهم، وانتظروا مجيء مدد من البحر يعينهم في موقفهم، وانقضت أسابيع لم يجئ المدد خلالها، وعرف العرب في أثنائها أن المدينة غير محصنة من جانب البحر، فانسل جماعة منهم من تلك الناحية وصاحوا مكبرين، فلم يسع الروم إلا الفرار إلى السفن تاركين المدينة يفتح الحراس أبوابها فيدخلها عمرو على رأس جيشه.
وسارت كتائب أذاعت الرعب في قلوب أهل الإقليم، فلم يسع الناس في كل أرجائه إلا التسليم، وكتب عمرو إلى أمير المؤمنين يستأذنه في السير إلى تونس وما وراءها من شمال إفريقية فلم يأذن له، فعاد إلى برقة حيث أقبلت إليه أكبر قبائل البربر فدانت له بالطاعة،
2
فلما اطمأن إلى زوال ملك الروم من تلك البلاد كلها قفل راجعا إلى الإسكندرية بالأسرى والغنائم.
وأراد عمرو أن يؤمن حدود مصر من الجنوب كما أمن حدودها من الغرب، فبعث عقبة بن نافع الفهري إلى النوبة، فلقيه أهلها وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ارتد عقبة على أثره، ولم يعقد صلحا ولا هدنة، ذلك أن أهل النوبة كانوا يرمون بالنبل فلا يخطئون، وكانوا يتحرون الأعين فيرمونها فيفقئونها، فسماهم العرب رماة الحدق، وظلت كتائب عمرو بعد ارتداد عقبة تناوشهم على الحدود، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان صالحهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح على هدنة: ألا يقاتل أحد الفريقين الفريق الآخر، وأن يتبادل الفريقان الرقيق يعطيه أهل النوبة المسلمين، والطعام يعطيه المسلمون أهل النوبة بما يوازي ثمن رقيقهم.
على أن أهل النوبة لم يفكروا في اجتياز التخوم إلى مصر لمناجزة قوات المسلمين، بل كفاهم أن ردوا عدوهم عن ديارهم فأقاموا بها على حذر منه؛ لذلك لم يخش عمرو جانبهم وأقام مطمئنا إلى سلامة مصر من ناحية الجنوب، كما اطمأن إلى سلامتها من ناحية الغرب بعد أن هزم الروم في برقة وطرابلس، أما وقد تمت له هذه الطمأنينة فقد انصرف بكل تفكيره إلى تدبير الأمر في مصر وتنظيم حكمها، فكيف كانت سياسته في هذا التدبير وهذا التنظيم؟
يجمل بنا لنجيب عن هذا السؤال، أن نفصل في مسألة طال خوض المؤرخين فيها، فأنت قد رأيت، مما تقدم في هذا الفصل وفي الفصلين اللذين سبقاه، أن عمرا فتح مصر كلها عنوة، فلم يتم بينه وبين الروم صلح عليها، ولم يكن القبط من أهلها ليصالحوه وهم في سلطان هرقل والذين جلسوا على العرش من بعده، وقد وقع المقوقس مشروعا للصلح مع عمرو في أثناء حصار بابليون فرفضه هرقل، وبرفضه عادت الحرب بين الفريقين، حتى انتهت إلى هزيمة الروم وجلائهم عن البلاد كلها، مع ذلك يفيض المؤرخون المسلمون في ذكر روايات يذهب بعضها إلى أن مصر فتحت صلحا، ويذهب بعضها إلى أنها فتحت عنوة، ويغلون في هذه الإفاضة، حتى يكاد الإنسان يحسب أنه لن ينتهي في هذا الأمر إلى رأي يطمئن إليه.
فأما الذين يذكرون أن مصر فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، فيستندون إلى روايات لجماعة ممن شهدوا الفتح أنهم قالوا إن مصر فتحت عنوة، وإلى تأييد ذلك القول بأنه كان لعمر بن الخطاب تابوت، فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لمصر عهد، وهم يضيفون إلى ذلك عن عمرو بن العاص أنه كان يقول: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إلا لأهل أنطابلس فإن لهم عهدا نوفي لهم به.» ويذكر أحد الرواة أن عمرا أضاف: «فإن شئت قتلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت.» ويورد أصحاب هذا القول حجة أخرى تؤيد رأيهم أن عمرا كتب إلى عمر في رهبان يترهبون بمصر فيموت أحدهم وليس له وارث، فكتب إليه عمر: «إن من كان له عقب فادفع ميراثه إلى عقبه، ومن لم يكن له عقب فاجعل ماله في بيت مال المسلمين، فإن ولاءه للمسلمين.»
وأما الذين يذكرون أن مصر فتحت صلحا فيستندون إلى روايات يذهب بعضها إلى أن البلاد فتحت صلحا كلها، ويستثني بعضهم الإسكندرية فيذكر أنها فتحت عنوة، روي أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبي ولا شيخ، على دينارين دينارين، فأحصوا فبلغت عدتهم ثمانية ملايين، وقيل: إن عمرا لما فتح الإسكندرية كان أكثر المسلمين يريدون قسم ما عليها ومن فيها، فقال لهم عمرو: لا أقدر على قسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، وكان جواب عمر على كتاب ابن العاص: «لا تقسمها وذرهم، يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.» فأقرها عمرو وفرض على أهلها الخراج، وأحصاهم فكان عدة من بلغ الخراج بها ستمائة ألف، بذلك فتحت مصر كلها صلحا بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، وفي رواية أن شيخا من القدماء ممن شهدوا فتح مصر قيل له: إن ناسا يذكرون أنه لم يكن لأهلها عهد، فقال: لا يبالي ألا يصلي من قال إنه ليس لهم عهد، وسئل: فهل كان لهم كتاب؟ فقال: نعم، كتب ثلاثة: كتاب عند طلما صاحب إخنا، وكتاب عند قزمان صاحب رشيد، وكتاب عند يحنس صاحب البرلس، وأجاب هذا الشيخ، حين سئل عن صلحهم، أنه كان على دينارين على كل إنسان جزية وأرزاق المسلمين، وأنه شرط ألا يخرجوا من ديارهم، وألا تنتزع نساؤهم ولا كنوزهم ولا أراضيهم ولا يزاد عليهم.
هذه أهم الروايات التي استند إليها من يقولون إن مصر فتحت صلحا، ومن يقولون إنها فتحت عنوة، ولعلك توافقني على أنها مع ظاهر اختلافها، تنتهي إلى نتيجة واحدة، وتؤيد أن مصر فتحت عنوة، وفتحت في الوقت ذاته صلحا، فالحرب التي وقعت في أرضها إنما كانت بين المسلمين والروم ولم تكن بين المسلمين والقبط من أهل البلاد، وقد كان موقف المصريين من الفريقين موقف حياد إن شئت، وهو بالأخرى موقف المغلوب على أمره، لا يملك أن ينضم انضماما ظاهرا إلى أحد الفريقين ويقاتل الجانب الآخر في صفه؛ لذلك كانوا ينفذون ما يأمرهم الغالب على منطقة من المناطق بتنفيذه، وكانوا ينفذونه كرها إن لم ينفذوه طوعا، فحينما كان الأمر للروم كان القبط يعاونونهم في تعبيد الطرق وإقامة الجسور وما إلى ذلك مما يحتاجون في القتال إليه، وحيثما كان الأمر للعرب كان القبط يبذلون لهم مثل هذه المعاونة، وهم كانوا كما رأيت يمقتون الروم أشد المقت لما بلغ منهم في دينهم وفي أرزاقهم، وكانوا يخافون العرب أن يحلوا بينهم محل الروم، وألا يعاملوهم بخير مما كان الروم يعاملونهم به، قوم ذلك شأنهم لا يمكن اعتبارهم محاربين، ولا يمكن أن يقال إنهم قاتلوا العرب أو قاتلوا الروم، إنما كان القتال بين العرب والروم في أرض مصر، وقد انتصر العرب على الروم فأجلوهم عن مصر وأدالوا دولتهم فيها، وهم لذلك قد فتحوا مصر عنوة في وجه الروم الذين قاتلوهم وانهزموا أمامهم، ولم يفتحوها عنوة في وجه المصريين الذين لم يقاتلوهم.
وقد رأيت بعد فتح الإسكندرية كيف سلمت إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط دون مقاومة، وكيف عاون المصريون العرب في قتال تنيس وفي فتحها، وما كان المصريون ليقاتلوا العرب أو يحاولوا إجلاءهم عن بلادهم ولم ينشئ الروم في البلاد جيشا من أبنائها، ولم يتركوا سلاحا يذود به أهلها عن أنفسهم، بل جردوها من كل سلاح حتى لا تثور بهم ولا تحاول الاستقلال عنهم؛ لذلك كان طبيعيا أن تذعن للعرب أول ما غلبوا الروم في أرضها وأخرجوهم منها، أما وقد فعلوا فقد أوجب الإسلام على الفاتحين أن يعرضوا على القبط أن يسلموا فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، أو يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية لقاء حماية المسلمين لهم، وهذا ما رآه عمرو بن العاص مخالفا فيه رأي الذين أرادوا قسمة البلاد فيما بين المسلمين، وقد أقر عمر بن الخطاب هذا الرأي، ورضيه المصريون، بذلك كان فتح مصر عنوة بالنسبة للروم، وصلحا بالنسبة للمصريين.
أي صلح أقره عمر ورضيه المصريون؟ تكثر الروايات في هذا وتتعدد، لكنا نستطيع أن نقول مطمئنين: إنه يطابق الصلح الذي رفضه هرقل، والذي عقدت شروطه بين عمرو بن العاص والمقوقس حين كان المسلمون يحاصرون حصن بابليون، وقد أورد الطبري نص هذا العهد فيما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص، ولا تساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم،
3
فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوبة فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا وكذا وكذا فرسا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة، وشهد عليه الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر.
ذكرنا أن هذا العهد يطابق الصلح الذي عقدت شروطه بين عمرو والمقوقس ولم نقل إنه هو، فهذا النص الذي أثبته الطبري ليس عقدا بين طرفين، وإنما هو تصريح من جانب واحد، على تعبير فقهاء القانون الدولي في عصرنا الحاضر، صحيح أن أهل مصر قبلوا هذا العهد بعد إعلانه ودخلوا فيه، لكن هذا القبول لا يغير من طبيعته القانونية، فهو عهد أملاه من فتح أرضا لم يقاومه أهلها، أريد به بعث الطمأنينة إلى نفوس الناس في هذه الأرض بتحديد تبعاتهم لقاء تأمينهم على حريتهم وعلى ملتهم وأموالهم، وقبول مثل هذا العهد إنما هو نزول على حكم الواقع اتقاء ما هو شر منه، وليس رضا بالمعنى الفقهي، فإنما يقوم هذا الرضا على أساس من حرية صاحبه في أن يرضى وألا يرضى.
عهد ذلك شأنه يختلف في طبيعته القانونية عن الصلح الذي رفضه هرقل، بعد أن عقده عمرو والمقوقس في أثناء حصار بابليون أشد الاختلاف، فقد كان صلح المقوقس هذا بين طرفين، وكان ينظم أمورا ما كان لعهد الأمان الذي أذاعه عمرو بين المصريين أن يتناولها، وقد أورد بتلر شروط هذا الصلح نقلا عن كتاب حنا النقيوسي، وإن لم يوردها على الترتيب الذي أوردها به المؤرخ القبطي، وظاهر من هذه الشروط أنها كانت صلحا بين المسلمين الظافرين والروم المقهورين على مصر كلها، وكان مدى هذا الصلح أن يجلو الروم عن البلاد، وألا يعودوا إليها أو يسعوا لردها ، وأن يتم هذا الجلاء في أحد عشر شهرا من إقرار هرقل لهذا الصلح، وأن يبعث الروم رهائن من قبلهم مائة وخمسين من الجند وخمسين من غير الجند ضمانا لإنفاذ العهد، وأن يبقى العرب في أماكنهم مدة الهدنة لا يسعون لقتال، وأن يتاح لليهود الإقامة بالإسكندرية، وأن يكف المسلمون عن أخذ كنائس المسيحيين ولا يتدخلوا في أمورهم، وألا يفرق في الجزية بين القبط وغير القبط من سكان مصر.
شتان ما بين هذا العقد وعهد الأمان الذي أعلن من جانب واحد، فهذا العقد أريد بمشروعه الذي رفض تصفية لحالة حرب قائمة، وخلاصته ترك الروم مصر للعرب، وتعهد العرب للروم بعدم إجلاء اليهود عن العاصمة، واحترام معابد المسيحين وعقائدهم، وعدم التفريق بين المصريين وغير المصريين في الجزية، أما عهد الأمان فلا شأن للروم به ولا عهد على المسلمين لهم فيه؛ لذلك كان من الخطأ أن يقول بتلر: إن عهد الأمان لا يخالف عقد الصلح، وإن كلا النصين يكمل الآخر.
على أن عهد الأمان لم يورد في أمر الجزية أي تفصيل عن طريقة توزيعها بين ساكني مصر، وقد اتفق المؤرخون على أن الجزية قدرت بدينارين على كل حالم من الرجال دون سواهم، فلا جزية على الأطفال والنساء والرقيق والشيوخ الفانين والعجزة غير القادرين والصبيان، وجلي أن هذه الجزية كانت على الرءوس، وأنها كانت غير خراج الأرض يلزم به الرجل على قدر المساحة التي يزرعها، وروى البلاذري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن عمرا «وضع على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم.» ويتعذر القطع برأي في هذه الفريضة من الحنطة والزيت والعسل والخل: أكانت ملحقة بالجزية على الرءوس فهي ليست من خراج الأرض، أم كانت تحتسب من هذا الخراج؟ فقد روى البلاذري، بعد أن أورد قول عبد الله بن عمرو، حديثا نسبه إلى يزيد بن أبي حبيب «أن أهل الجزية بمصر صولحوا في خلافة عمر بعد الصلح الأول، مكان الحنطة والزيت والعسل والخل، على دينارين دينارين، فألزم كل رجل أربعة دنانير، فرضوا بذلك وأحبوه.» وتذهب بعض الروايات إلى أن عمر كتب إلى ابن العاص أن يفرق بين أهل مصر في مقدار الجزية على قدر يسارهم، فيجعلها أربعة دنانير على الموسر، ودينارين على أوساط الناس، ودينارا على من دونهم، وهذا الاجتهاد من عمر اتبع من بعد، يقول أبو يوسف في كتاب الخراج: «الجزية واجبة على جميع أهل الذمة ... وإنما تجب على الرجال منهم دون النساء والصبيان، على الموسر ثمانية وأربعون درهما، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر درهما يؤخذ منهم في كل سنة.»
أذاع عمرو في مصر عهد الأمان، فرضيه المصريون ودخلوا فيه، بذلك آن له أن ينتقل من سياسة الحرب إلى سياسة السلام، ولا ريب في أن عمرا لجأ في أثناء الحرب إلى ما توجبه الحرب من تدابير في بعضها بطش وقسوة بالروم ومن عاونهم من المصريين، ولا تثريب عليه في ذلك، والحرب هي الحرب، وتمهيد الطريق للنصر مع ضمان السلامة للجيش المقاتل هو أول واجب على القائد الذي يعرف واجبه، ولئن كان واجبا عليه ألا يتجاوز في البطش والقسوة ما يحقق هذين الغرضين، إن عليه لغرضا أكبر: ذلك ألا يتردد لأي اعتبار دون تحقيقهما، أما وقد تم للمسلمين النصر فانهزم الروم وجلوا عن أرض مصر، فقد انتهت مهمة القائد وبدأت مهمة السياسي، وقد كان عمرو بن العاص في كل المواقف السياسي المحنك الذي لا يشق غباره، وكان عمر بن الخطاب يعرف ذلك منه أكثر مما يعرفه غيره؛ لذلك ولاه على مصر، فكان نجاحه في سياستها وتدبير أمورها أعظم من نجاحه في طرد الروم منها والقضاء على دولتهم فيها، هذا مع ما رأيت من بلوغه كل أغراضه من الحرب على نحو يكاد يكون معجزة يدق إدراكها على الأفهام.
وحسبنا قبل أن نعالج هذه السياسة في تفصيلها أن نشير إلى جملتها، فقد رأى عمرو أول ما رأى أن يزيل ما يشكو المصريون منه، وما كانوا يثورون بالروم من جرائه، وقد كان الاضطهاد الديني أول سبب لتذمر الناس وشكواهم؛ لذا كان أول أمر أذاعه عمرو بن العاص في الناس جميعا من النوبة إلى الإسكندرية، أن لا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة أمر مقدس، فلن يضار أحد في حريته أو في ماله بسبب دينه أو مذهبه، فمن شاء أن يبقى ملكانيا أو مونوفيسيا فله ما يشاء، ومن شاء أن ينتقل من دين إلى دين أو من مذهب إلى مذهب فلن يصاب لذلك بسوء، ومن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وقد نفذت هذه السياسة بدقة ليس كمثلها دقة، ذكر ساويرس أن أسقفا ملكانيا بقي على مذهبه حتى مات، لم يمسسه أحد بأذى، وأن بنيامين المونوفيسي كان يستميل الناس إلى مذهبه بالحجة والبرهان، فلا يقف أحد في سبيله ولا يعطل أحد نشاطه، وقد بقيت كنائس الملكانيين وكنائس المونوفيسيين قائمة تؤدى فيها الشعائر، ولا يجرؤ أحد أن يدنس حرمتها، أو يحمل أحدا من أهل هذا المذهب أو ذاك على أمر لا يرضاه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما كان لهذه السياسة من أثر في نفوس المصريين بعد أن ذاقوا مرارة الاضطهاد الديني، وبعد الذي كان يصيبهم في سبيل مذاهبهم من عذاب وتشريد ونفي عشرة أعوام تباعا.
وازداد الناس اطمئنانا إلى حكم الفاتحين حين رأوهم يزيلون من أسباب تذمرهم وشكواهم سببا آخر لم يكن أقل إثارة لنفوسهم من السبب الأول، فقد خفف عمرو وطأة الضرائب، وألغى ما قرره الروم من فروق بين الناس في أمرها، ذلك أن الروم كانوا يجبون عن جزية الرءوس ضرائب كثيرة من أنواع شتى أكثرها غير عادل، وكانوا قد أعفوا بعض الطوائف من الجزية ومن ضرائب معينة، وكان أهل الإسكندرية أكثر الناس استمتاعا بهذا الإعفاء، فلما ألغى عمرو ما كان غير عادل من الضرائب، وسوى بين الناس في أدائها، كانت هذه التسوية، وكان تخفيف العبء، مدعاة لرضا الناس عن سياسته وحسن قبولهم لها ، ثم لم يكن تذمر ذوي الامتيازات التي ألغيت ليغير من هذا الرضا وحسن القبول.
حسبنا في هذه الإشارة المجملة أن نذكر هذين الأمرين، وأن نضيف إليهما أن عمرا جعل العدل والإصلاح أساس سياسته في مصر، لتتوسم ما قدر لهذه السياسة من نجاح أسرع بمصر لتكون ذات شأن في حياة المسلمين، وفي سياسة الإمبراطورية الإسلامية.
أين ترى أن يتخذ عمرو مقر حكمه والموضع الذي تصدر عنه سياسته وينبعث منه سلطانه؟ الطبيعي أن يكون هذا المقر مدينة الإسكندرية، فهي عاصمة مصر منذ بناها الإسكندر، وهي المدينة العظيمة لا تضارعها مدينة غيرها في الجمال والعظمة، وبها القصور التي كانت مقاما لملوك البطالسة وحكام الروم، ولذا كتب إلى عمر يستأذنه في المقام بها، وإقامة حكومته فيها، وسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ فأجابه: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، وكان عمر، كما رأيت من قبل، حريصا أشد الحرص على ألا يحول بينه وبين المسلمين في البلاد المفتوحة حائل؛ لذلك كتب إلى عمرو:
لا أحب أن تنزل المسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.
ولما بلغت هذه الرسالة عمرا لم يجد مكانا يحقق رغبة أمير المؤمنين خيرا من المكان المجاور لحصن بابليون، فهو على ملتقى فروع النيل المنتشرة في الدلتا مع المجرى الرئيسي للنهر، وهو إلى ذلك قريب من مدينة منف التي كانت عاصمة مصر في عهد الفراعنة، وليس يفصل بينه وبين الحجاز ماء، ففي مقدور عمر أن يركب إليه راحلته حتى يبلغه من غير أن يعبر ماء في طريقه.
وكان عمرو بن العاص قد ضرب قبة إلى جوار حصن بابليون حين حصاره، وسمى المسلمون الذين معه هذه القبة الفسطاط،
4
فلما فتحوا الحصن وأزمع عمرو السير إلى الإسكندرية أمر بنزع هذا الفسطاط، فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال: لقد تحرم بنا! ثم أمر بإبقاء الفسطاط حين يطير الفراخ، وأوصى به صاحب القصر، فلما عاد من الإسكندرية أمر جنده أن ينزلوا عند الفسطاط، وأن يختطوا دورهم حوله، وكذلك اختطت البلدة، وقسمت بين أحياء العرب وبناها لهم القبط، وبنى عمرو مكان الفسطاط وما حوله مسجدا بين حدائق وأعناب، وظل قائما مع أصحابه حتى حرروا قبلته، ثم إنه اتخذ في المسجد منبرا يخطب الناس من فوقه، فلما عرف عمر صنيعه ذاك كتب إليه يقول: «أما بعد، فإنه قد بلغني أنك اتخذت منبرا ترقى به فوق رقاب المسلمين، أما حسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك! فعزمت عليك إلا ما كسرته!» فكسره عمرو وأزاله.
وبنى عمرو دارا لعمر بن الخطاب وكتب إليه: إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع، فأجابه عمر: أنى لرجل بالحجاز أن تكون له دار بمصر! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، فنفذ عمرو أمره.
وإنما تخير عمرو هذا الفضاء فأقام به فسطاط مصر حتى لا يخرج المسلمون أهل مصر من ديارهم ليحلوا محلهم، وليتجنب بذلك كل ما يوجب شكوى المصريين أو تذمرهم، ولعله أراد كذلك أن ينشئ مدينة إسلامية يرابط بها جند المسلمين، وتقيم فيها أسرهم لتكون بيئة يعيشون فيها مألوف عيشهم، على نحو ما فعل سعد بن أبي وقاص حين مصر الكوفة والبصرة، على أن اتخاذ ابن العاص، وهو والي مصر هذا البلد مقرا لحكمه أسرع به إلى العمران، وأدى بطائفة كبيرة من المصريين إلى الانتقال إليه والبناء فيه، فلما اتسعت رقعة المدينة أنشأ المسلمون بظاهرها ضاحية أطلقوا عليها اسم العسكر، ونقلوا إليها قاعدة الحكم، بذلك صارت فسطاط مصر عاصمة البلاد كلها، تشد إليها الأنظار من الصعيد ومن مصر السفلى ومن ثغور البحرين الأبيض والأحمر، مما أدى بها إلى أن تزداد على الأيام سعة وعمرانا، وقد ترتب على ازدياد عمرانها أن انتقلت إليها التجارة، وأن ازدهرت فيها الحياة، فنزح إليها كثيرون من أعيان الإسكندرية ومن أعيان منف، وكان ذلك مقدمة للقضاء على منف وأن تصبح قرية أثرية لا تذكر عظمتها إلا إذا قرنت إلى عظمة الفراعنة الذين اتخذوها مدى آلاف السنين عاصمتهم، كما جنى على الإسكندرية فلم تبق المدينة العظيمة ذات الجلال الباهر، والثغر المضيء بجلاله كل ما حوله من أرجاء العالم.
أقام عمرو بفسطاط مصر يفكر في تدبير سياستها، وقد رأيت أنه جعل حرية العقيدة من أسس هذه السياسة، فلما عرف رهبان القبط هذا الأمر وتيقنوه خرج عدد عظيم منهم من الأديار التي كانوا قد اعتصموا بها من الاضطهاد، وساروا إلى عمرو يعلنون له الطاعة، وكان عمرو حريصا على أن يعود البطريق بنيامين إلى رياسته الدينية لما عرفه من محبة القبط له وتعلقهم به، ومن ازدياد هذه المحبة في نفوسهم بعد فرار بنيامين إلى أقصى الصعيد واعتصامه من الروم بالصحراء، لذا كتب للقبط جميعا أمانا خص فيه بنيامين بقوله: «فليأت البطريق الشيخ آمنا على نفسه وعلى الذين بأرض مصر والذين في سواها، لا ينالهم أذى ولا تخفر لهم ذمة.» وعرف بنيامين عهد الفاتح العربي، فخرج من مخبئه بالصحراء وسار إلى الإسكندرية، فدخلها دخول الظافر في مظاهر من ابتهاج القبط لا يساورها خوف ولا يشوب صفوها كدر.
ولما استقر ببنيامين المقام بين أتباعه، دعاه عمرو إليه وقابله بالترحيب والتكريم، وتحدث بنيامين إليه، وكان عذب المنطق، في تؤدة ورزانة، فأعجب الفاتح بحديثه، وجعل له ولاية الدين على القبط يسوسهم في أموره بما يشاء، وخرج البطريق القبطي من حضرة الفاتح الإسلامي ممتلئ النفس غبطة وابتهاجا، وعاد إلى الإسكندرية يلهج بحمده والثناء عليه ويقول لأتباعه: «عدت إلى بلدي الإسكندرية، فوجدت بها أمنا من الخوف، واطمئنانا بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة وبأسهم.»
ولم تكن الأيام لتزيده إلا ثناء وحمدا؛ فقد اجتمع القبط من حوله أحرارا في إقامة شعائرهم، فأصلح لهم كنائسهم وذهب إلى أديارهم، فكانوا يقابلونه في مواكب يحملون فيها بين يديه المباخر وسعف النخيل.
وقد بلغ من ابتهاج القبط بعود الحرية إليهم مبلغا يعبر عنه ساويرس بقوله: «إنهم فرحوا كما تفرح الأسخال إذا حلت قيودها وأطلقت لترتشف من لبان أمهاتها.» ومع ما عرف من بغض حنا النقيوسي للمسلمين وتسقطه خطآتهم لقد كتب عن عمرو يقول: «لقد تشدد في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، لكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس؛ ولم يرتكب شيئا من النهب أو الغصب، بل إنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته.» ونقل حنا عن المصريين أنهم كانوا يقولون: «ما خرج الروم من الأرض وانتصر عليهم المسلمون إلا لما ارتكبه هرقل من الكبائر، وما أنزله بالقبط وملتهم على يد قيرس، لقد كان هذا سبب ضياع أمر الروم وفتح المسلمين لبلاد مصر.»
لم يكن الملكانيون، من المصريين ومن الروم الذين أقاموا بمصر، أقل تمتعا بحريتهم الدينية من القبط، بل أظلتهم حماية عمرو كما أظلت المونوفيسيين، صحيح أن الملكانيين كانوا قلة إلى جانب المونوفيسيين، وأن عددا كبيرا من القبط الذين انتقلوا أيام الإرهاب إلى المذهب الملكاني لم يلبثوا حين عادت لهم حريتهم الدينية أن رجعوا إلى مذهبهم الأول والتفوا حول راعيهم القديم، ونالوا على يده «تاج الاعتراف» كتعبير ساويرس، لكن آخرين من القبط الذين انتقلوا إلى المذهب الملكاني أصروا عليه فلم يسمح الحكم الإسلامي بحملهم قهرا على تغييره، لذلك بقي بمصر عدد كبير من الملكانيين إلى ما بعد الفتح بخمسين عاما، وإنما تناقصوا من بعد؛ لأن المصريين منهم شعروا بأن صلاتهم الاجتماعية تقتضيهم الدخول في مذهب جماعتهم، ولأن من بقي من الروم بمصر آثر أن يندمج مع أهلها فدان بدين الكثرة أو بدين الحاكمين.
كان من أثر هذه الحرية الدينية أن أقبل كثيرون من عقلاء الروم والمصريين على النظر في المذاهب المختلفة، ثم انتهى أكثر هؤلاء إلى قبول الإسلام والدخول فيه، فقد رأوا في تنازع المذاهب المسيحية واضطهاد أصحابها بعضهم لبعض ما زهدهم فيها، وجعلهم يلتمسون عن طريق الحرية العقلية سبيلا إلى عقيدة يؤمنون بها مختارين، وكان الإسلام في هذا العهد الأول يدعو إلى النظر في الكون نظرا حرا مطلقا من كل قيد، فلم تكن قد نشأت فيه المذاهب والشيع، ولم يكن أهله قد عرفوا التعصب الذميم لمذهب على مذهب، بل كان باب الاجتهاد مفتوحا لكل ذي عقل وبصيرة، وكان ما ورد في القرآن الكريم من المبادئ البالغة غاية السمو يدعو إلى الإقبال عليه والاطمئنان إليه، وإذا صح ما يقال أحيانا من أن المصريين الذين دانوا بالإسلام في ذلك العهد إنما دانوا له ليتساووا بالفاتحين، فلن يصدق ذلك إلا على الأقلين منهم؛ أما كثرتهم فقد دانت به عن بينة وإيمان، ولا عجب في ذلك وفطرة المحافظة على العقيدة الدينية أقوى في النفس من أن يزلزلها مثل هذا الاعتبار، يقول بتلر في هذا الصدد: «ليس من العدل أن يقال إن كل من أسلم من القبط إنما يقصد الدنيا وزينتها، وإذا كان منهم من أسلم طمعا في أن يتساوى بالمسلمين الفاتحين حتى يكون لهم ما لهم وينجو من دفع الجزية، فإن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقيدتهم غير راسية، أما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لما كان من عصيان لصاحبها، إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها، ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.»
5
حمى عمرو حرية الاعتقاد، ورسم سياسته في جباية الضرائب وفي أعمال الإصلاح وفي إقامة العدل بين الناس، وعهد إلى العمال الذين ولاهم في القيام على تنفيذها، أفكان هؤلاء الحكام من العرب، أم من المصريين، أم من غير هؤلاء وهؤلاء؟ تأبى طبيعة الفتح أن تكون إمارة جند لغير مسلم، فعهد الأمان يجعل على المسلمين حماية مصر ومن فيها؛ فطبيعي أن يتولى المسلمون إمارة القوات التي يعهد إليها في هذه الحماية، هذا إلى أن مصر لم يكن لها جيش في عهد الروم، وإنما كان حرسها الوطني جند نظام لا جند قتال، فليبق هذا الحرس كما كان في ذلك العهد، أما الجيش وإماراته وأسلحته فكانت للمسلمين دون سواهم.
وليكون هؤلاء المسلمون على أهبة دائمة للدفاع عن البلاد، لم يبح لهم أول الأمر امتلاك أرضها، بل فرضت لهم أرزاق يقتضونها لنفقتهم ونفقة عيالهم، ويظهر أنهم أقاموا على ذلك كل خلافة عمر ، فقد روى ابن عبد الحكم أن عمر لم يقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر إلا ابن مستور، وكان عبدا مثل به سيده فأعتقه عليه رسول الله وبقي عيالا على الخليفة غير صالح لقتال، على أن هذا المنع لم يدم إلا ريثما اطمأن المسلمون إلى قرارهم في مصر، عند ذلك أبيح لهم أن يمتلكوا الأرض، فإذا ملكوها دفعوا عنها الخراج كسائر الناس، فلا يزاد خراجها ولا ينقص بسبب تغير مالكها وكونه مسلما أو قبطيا.
ولم تكن الأرزاق التي فرضت لجند المسلمين مقصورة على ما ينالونه من الجزية، بل كان لهم على المصريين فريضة الضيافة ثلاثة أيام، وكان لهم إلى ذلك حقوق على ما يترك من الأرض في كل قرية للمنافع العامة، يدل على ذلك خطاب ألقاه ابن العاص جاء فيه: ... وعلى الراعي حسن النظر لرعيته، فحي لكم على بركة الله إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم من عدوكم وبها مغنمكم وأنفالكم ... واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال؛ فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك، واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة، لكثرة الأعداء حولكم وتشوق قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
كان هذا إذن شأن الجيش وإمارته وأسلحته؛ فأما المناصب المدنية فترك عمرو أكثرها لجماعة من الروم كانوا يتولونها من قبل دولتهم قبل الفتح، ثم آثروا البقاء بمصر على أن يعودوا إلى بلادهم، ورضي كثير منهم الإسلام ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكذلك أقر عمرو ميناس على حكم مصر السفلى حيث كان من عهد هرقل، وأقر غيره من بني جنسه على حكم بعض الأقاليم، كما أقر الروم الذين كانوا فيما دون ذلك من المناصب ولم يتركوا مصر، وإنما شغل القبط المناصب التي خلت؛ لأن أصحابها من الروم تركوا البلاد إباء منهم أن يكونوا رعية لغير دولتهم.
لم يكن لعمرو أول الفتح أن يسلك غير هذه الخطة؛ فهي بعينها الخطة التي سلكها المسلمون في العراق، والشام، وهي كانت محتومة في مصر أكثر منها في تلك البلاد، فلم يكن العرب يعرفون لغة المصريين، ولم تكن تربطهم بها آصرة الجنس العربي الذي حكم العراق والشام قرونا قبل ظهور الإسلام، هذا إلى أن تغيير النظام القائم في أمة من الأمم لا يمكن أن يتم طفرة، فلا بد من بقائه حتى يتطور على الأيام ليلائم العهد الجديد، أما وقد كان جماعة من الروم عمالا على الأقاليم حين جاء الفتح، فليبقوا كما كانوا ولينظر الفاتح العربي في أناة، فيدخل ما يحسن إدخاله على نظام الحكم من تعديل يزيد نصيب أهل البلاد من هذا الحكم، على شريطة ألا يضطرب النظام فيسيء اضطرابه إلى الحاكمين والمحكومين على سواء.
كان عمرو يكتب إلى الخليفة بما يتم في مصر ويطلعه على كل خطواته، فلما عرف عمر مكانة بنيامين من قومه كتب إلى ابن العاص أن يلتمس الرأي عند البطريق القبطي في خير الوسائل لحكم البلاد وطمأنينة أهلها، ولم يضن بنيامين بالمشورة وقد أعاد إليه عمرو كل نفوذه، وكانت مشورته أن يجبى الخراج من غلة الأرض عند فراغ الناس من زروعهم ومن عصر كرومهم، وأن تحفر خلجان مصر وتصلح جسورها وتسد ترعها كل عام، وأن يعطى العمال أرزاقهم بغير انقطاع لئلا يرتشوا، وألا يباح مطل الناس حقوقهم بغيا بغير حق، وألا يلي أمور الناس عامل ظالم، وارتاح عمرو إلى هذه المشورة فكتب إلى عماله في أرجاء البلاد، وأمرهم أن يتبعوا هذا الرأي لا يحيدون عنه، ثم اتجه بتفكيره إلى أعمال الإصلاح يزيد بها البلاد ثروة، فيزداد أهلها طمأنينة ويزداد خراجها نماء.
ولعل تفكيره في الإصلاح قد سبق مشورة بنيامين، وكان أول عمل خطير مر بخاطره أن يحفر خليج تراجان الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، ويزيد الاتصال بين مصر وثغور شبه الجزيرة تيسيرا، وقد قلت من قبل إن الفراعنة حفروا هذا الخليج قبل عهد تراجان بألوف السنين،
6
وإنما أصلح تراجان ما فسد من أمره فأحسن حفره وتطهيره، فلما توالت على مصر غزوات الفرس والروم وفشا فيها الاضطهاد وسوء الحكم أهمل هذا الخليج فطم مجراه، فرأى عمرو أن يعيده سيرته الأولى، والظاهر أنه بادر إلى القيام بهذا العمل العظيم أول ما استقر له أمر مصر، وأنه أتمه في وقت قصير لم يبلغ عاما كاملا، مع أن طول الترعة يزيد على ستين ميلا.
وكان هذا الخليج يجري مبتدئا من شمال بابليون متجها شمالا بشرق إلى بلبيس، فإذا جاوزها اتجه شرقا إلى بحيرة التمساح، ليخرج من جنوب هذه البحيرة فيتابع جريانه خلال البحيرات المرة فيبلغ البحر الأحمر عند السويس، ولا شك أن القيام بهذا العمل العظيم وإتمامه في هذا الزمن الوجيز مما يشهد لعمرو بالقدرة الإدارية الممتازة، وبخاصة إذا عرفنا ما قيل من أن الخليج كان في ذلك الوقت قد خفي أثره، حتى احتاج عمرو إلى دليل من القبط يرشده إليه، وقد أجاز عمرو هذا القبطي برفع الجزية عنه.
ولعل عمرا قد لجأ في تنفيذ هذا العمل إلى السخرة فجند الألوف من العمال المصريين للقيام به، وربما جاز لمؤرخ في هذا العصر أن يؤاخذه بما صنع من ذلك، وأن يعتبر هذه السخرة قسوة بأهل تلك البلاد لم يكن له أن يلجأ إليها، وهذه المؤاخذة تشتم من كلام بتلر، ومن استشهاده بكلام حنا النقيوسي إذ يقول عن المسلمين: «وكان نيرهم على أهل مصر أشد وطأة من بني فرعون على بني إسرائيل، ولقد انتقم الله منه انتقاما عادلا بأن أغرقه في البحر الأحمر بعد أن أرسل صنوف بلائه على الناس والحيوان، ونسأل الله إذا ما حل حسابه لهؤلاء المسلمين أن يأخذهم بما أخذ به فرعون من قبل.» ولا أراني أشارك من يذهب هذا المذهب في التثريب على الفاتح العربي؛ فقد كانت السخرة في مصر من مألوف ذلك العصر، ثم ظلت مألوفة بعده أكثر من ألف سنة، فلجأت إليها شركة قنال السويس الدولية حين بدأت تشق القناة في القرن التاسع عشر المسيحي، وليست السخرة في الواقع إلا نوعا من التجنيد الإجباري للقيام بعمل عام، وإنما عيبها، والسبب الذي وجهت من أجله المطاعن إليها، أن القائمين بهذا التجنيد لم يكونوا يرعون فيه عدلا ولا نظاما، وأن المجندين لم يكونوا يتناولون أجرا عن العمل العام الذي يقومون به، ولولا هذا العيب الجدير بأشد النقد، ولو أن التجنيد للتعمير وضع على نظام عادل وفرض للقائمين به أجر معقول، لما كان للتثريب عليه موضع.
ولعل المؤرخين الذين آخذوا عمرا بهذا التجنيد إنما اشتدوا في مؤاخذته لاعتبارهم أنه فتح خليج تراجان لمصلحة بلاد العرب لا لمصلحة مصر، ولا شبهة في أن بلاد العرب كان لها من فتح هذا الخليج فائدة كبرى، ولكن لا شبهة في أن مصر كانت أكثر استفادة من هذا العمل، فقد أعاد لها طريقا أيسر من طريق القوافل للتجارة مع الهند وبلاد الشرق الأقصى، ويسر لها بذلك أن تستعيد حظا من المكانة التجارية العظيمة التي كانت لها أيام سؤددها وعزها، ومصلحة مصر كانت بعض ما قصد إليه عمرو حين تفكيره، ولا أدل على ذلك من أنه كان يريد حفر خليج بين بحيرة التمساح وبحر الروم، يصل مياه البحرين، بحر القلزم وبحر الروم، على نحو ما هو حادث اليوم، مقتديا في ذلك بما صنعه بطليموس الثاني، وبما صنعه الفرعون «نخاو» من قبله، ولقد كان معتزما أن يقوم بهذا العمل الضخم، لولا اعتراض الخليفة بأنه يسهل للروم اختراق هذه القناة وتسيير سفنهم إلى بحر القلزم، ولم يكن للعرب إلى يومئذ أسطول تجاري أو أسطول حربي يقف في وجه أسطول الروم أو ينافسه، فكان العدول عن حفر قناة تصل مياه البحرين بعض ما يقضي به الحذر، وإذا نحن ذكرنا موقف إنجلترا في القرن التاسع عشر ومعارضتها في شق قناة السويس خوفا على مكانتها في الهند، تجلى لنا أن خليفة المسلمين كان له أبلغ العذر عن تخوفه من شق هذه القناة منذ ثلاثمائة وألف سنة خلت.
لم يكن عمرو أقل تفكيرا في خير مصر منه في خير بلاد العرب، ولا يغلو من يقول إنه كان يتجه بسياسته إلى بث الطمأنينة في ربوع مصر وتخفيف الأعباء عن أهلها وإقامة العدل بينهم، ويرى في هذه السياسة خير توفيق بين مصالح الأمتين العربية والمصرية، وخير توطيد لقواعد الإمبراطورية الإسلامية، ومما يشهد بأن هذه كانت خطته أنه أخذ بنصيحة بطريق القبط بنيامين في أمر الخراج وجبايته، وأنه ذهب إلى أبعد من ذلك في تخفيف وطأته؛ فقد كان هذا الخراج يزيد وينقص تبعا لحال الفيضان وغلة الزراعة، وكان أعيان كل قرية وبلد يجتمعون كل عام في لجنة تحدد مقدار ما يجبى منها حسب هذه الأحوال، فإذا زاد المال الذي يجبى من بلد على الخراج المفروض عليها أنفق الزائد في إصلاح أحوالها، ولقد جعلت في كل بلد قطعة أرض خصص ريعها للمنافع العامة، كإصلاح الكنائس والحمامات والطرق وما إليها، وكان ما يجبى من الخراج أقل بكثير مما كان الروم يجبونه من الضرائب الكثيرة الفادحة التي فرضوها على المصريين فيما سوى العاصمة من أرجاء البلاد، فكان هذا التخفيف مدعاة لطمأنينة القبط جميعا إلى الحكم الجديد ولإشادتهم به.
وكان للإسكندرية أن تتذمر من هذا النظام الذي فرضه عمرو بقدر ما كان للبلاد كلها أن تستريح له وتغتبط به؛ فقد أعفى الإسكندر أهل المدينة التي شادها من الجزية من يوم إنشائها، وجعل لليهود والروم الذين جاءوا معه واستقروا بها امتيازات في التقاضي رفعت مكانتهم على المصريين الذين ساكنوهم فيها، وجرى البطالسة على سنة الإسكندر، ثم توسع الرومان من بعد فامتد الإعفاء إلى أبناء رومية الحاكمين، ولم يقف الإعفاء عند الجزية والتقاضي، بل أعفي أهل الإسكندرية من السخرة، وأعفيت الأرض المحيطة بها من الخراج.
7
لم يكن إلغاء الإعفاء الذي تتمتع به الإسكندرية ليسد النقص الذي أصاب إيراد الدولة بسبب تخفيف الضرائب؛ فقد هاجر من الإسكندرية في أثناء الحصار وبعد الفتح كثيرون، وترتب على ذلك أن أقفلت متاجر كثيرة، وقد اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يجبى من مصر اختلافا كبيرا، لكنهم متفقون جميعا على أنه يقل كثيرا عما كان الروم يجبونه، مع ذلك لم يغير عمرو من سياسته في هذا الأمر طيلة السنوات التي تولى فيها إمارة مصر، والتي عدها المصريون خيرا وبركة عليهم.
اختلف المؤرخون في تقدير ما كان يجبى من مصر؛ فذكر البلاذري أن عمرا كان يجبي من خراجها ألف ألف دينار، وذكر المقريزي أنه كان يجبي منها اثني عشر ألف ألف، وقيل في تأويل هذا الاختلاف إن بعض المؤرخين يذكر الخراج وحده، وبعضهم يذكر الجزية وحدها، وبعضهم يذكر مجموعهما، وهم مع هذا الاختلاف متفقون على أن متوسط الجزية كان دينارين على كل مكلف بها، مع تفاوت بين الطبقات في تقديرها، أما من فرضت عليهم الجزية من أهل مصر، فبلغ عددهم ستة آلاف ألف في رواية، وثمانية آلاف ألف في رواية أخرى، والاختلاف على تقدير ما كان يجبى من مصر لا يغير من أنه كان على كل حال أخف وطأة مما كان الروم يجبونه.
قام العمال الذين ولاهم عمرو من الروم والقبط بإدارة شئون الدولة في الحدود التي رسمها، ثم بقي نظام الإدارة في دواوينها جاريا مجراه من قبل، واغتبط عمرو بنجاح سياسته، وكان أشد اغتباطا بخصب مصر وما فيها من ظل وارف ونعيم مقيم، وكتابه المشهور إلى عمر بوصف مصر ينم عن ذلك ويشهد عليه، فقد كان عمر، فيما رأيت، حريصا على أن يصف عماله البلاد التي يكونون فيها وصفا يجعله كأنه شاهدها، فلما كتب إلى ابن العاص يطلب إليه أن يصف مصر بعث إليه يقول:
ورد كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه! - يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنها في المخايل، ورق الأصائل، فإذا ما تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك يخرج أهل ملة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذ هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد وينميها؛ ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل!
يقول المؤرخون المسلمون: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه قال: «لله درك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرا كأنني أشاهده.»
وبعض النقاد ينفون نسبة هذا الكتاب إلى ابن العاص، ونقاد الأدب أشد بهذا النفي تشبثا، فهم يرون أسلوب الكتاب وما فيه من محسنات بديعية لا يتفق وأسلوب العهد الإسلامي الأول، ولا يتسق وما وصل إلينا من كتب عمرو الأخرى، وتلك لعمري حجة لها قيمتها، ولعل القارئ يشارك أصحابها في رأيهم متى اطلع في بقية هذا الفصل على الكتب التي تبودلت بين الخليفة وابن العاص خاصة بالجزية والخراج، لكن هذه الحجة إن نفت نسبة ألفاظ الكتاب إلى عمرو، فهي لا تنفي أنه كتب إلى الخليفة يصف مصر؛ فحرص عمر على معرفة مصر وصفتها لم يكن أقل من حرصه على معرفة القادسية وما يحيط بها، والعراق وسدوده ومدنه، وأكبر ظننا أن عمرا كتب هذا الوصف بأسلوبه هو، وأنه بلغ غاية الدقة فيه، ثم تناوله أديب متأخر، فصاغه في هذا الأسلوب الذي أثبته المؤرخون وأثبتناه هنا، فإذا صح هذا الظن كان لنا أن نعتقد أن الأديب المزيف قد حافظ جهده على وصف عمرو، ثم صاغه بأسلوب عصره وما فيه من محسنات بديعية، بذلك نسي الناس كتاب عمرو أن لم يثبته مؤرخ، وبقي هذا الكتاب الزائف، وصرنا لا نستطيع أن نفرق من عبارته بين ما يمكن أن ينسب إلى ابن العاص، وما يجب أن ينسب إلى المزيف الذي عاش من بعده بعدة قرون.
أما ونحن ننفي هذا الزيف عن كتاب عمرو في وصف مصر، فيجمل بنا أن ننفي زيفا آخر لا شك في أنه ابتدع ابتداعا من أوله إلى آخره، وأنه لم يكن له أي أصل من الواقع؛ ذلك ما قيل في أسطورة عروس النيل، فقد زعموا أنه «لما ولي عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له؛ إن لنيلنا عادة وسنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها، وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل فيجري، فقال لهم عمرو بن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بئونة وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر: «قد أصبت؛ إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.» فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة إذا فيها: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك!» فعرفهم عمرو بهذا الكتاب وبالبطاقة، ثم ألقى البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم؛ وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ست عشرة ذراعا في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر.
هذه رواية عروس النيل كما أثبتها المؤرخون المسلمون، وقد نقلنا نصها عن كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، ولسنا نتردد لحظة في نفيها من أولها إلى آخرها، ولو لم يقم الدليل العلمي على هذا النفي لكفانا أن نستند فيه إلى ما بلغه الفراعنة من علم وحضارة، وإلى أن انتشار المسيحية بين المصريين في عهد الرومان لم يكن ليسوغ قيام بدعة كهذه البدعة، وقد ذهب بتلر هذا المذهب فنفى القصة في العهد المسيحي، ثم قال: «ويلوح أن لهذه القصة أصلا في التاريخ؛ فقد كان من عادة أهل السودان حقيقة في أقصى أنحائه الجنوبية أن ترمي قبائله الهمج في النهر بفتاة عذراء في زينة الزفاف، ولعل عادة كهذه كانت متبعة في بعض جهات الهمج من بلاد النوبة التي فتحها الإسلام في أول أمره، ولعل عادة التضحية بفتاة عذراء ترمى في النهر كانت متبعة في مصر في أيام الفراعنة. وإنه من المحقق أن الاحتفال بالنيل والدعاء من أجل زيادته وفيضه كانت تقع فيه أعمال خرافية كثيرة تخلفت من العصور القديمة، ولكنها لم يكن بها شيء مثل ذلك الجرم من التضحية بالعذراء ... فمن أكذب الكذب أن يتهم المسيحيون بأنهم حافظوا على مثل هذه العادة الشنيعة التي لا ترضى عنها ديانتهم ولا تقرها ملتهم.»
ومن عجب أن يدور بخاطر بتلر أن مثل هذه العادة الشنيعة ربما كانت متبعة في مصر في عهد الفراعنة، وأن يثور هذه الثورة العنيفة لاتهام قبط مصر المسيحيين بأنهم حافظوا عليها من بعد، فلو أن الفراعنة اتبعوها في أيامهم لبقيت من بعدهم ولما كان على المسيحيين تثريب في اتباعها، فما أكثر ما انتقل من عادات الفراعنة إلى العهد المسيحي، وإلى العهد الإسلامي، وما لا يزال بعضه باقيا إلى عهدنا الحاضر،
8
ولا عذر لبتلر، عن تسامحه في اتهام الفراعنة وثورته في نفي التهمة عن المسيحيين، إلا ما ذكرنا من قبل من حماسته لديانته، على أن العلم قد أثبت من بعد أنه لم يحدث قط أن ألقيت عذراء في النيل حثا على الفيضان، وإن قيل: إن تمثالا من الخشب لعذراء عليها زينتها كان يلقى في النهر قبيل فيضانه، ثم نفى جماعة من العلماء هذا القول أيضا، ولو صح أن الفراعنة أو غير الفراعنة كانوا يلقون في النيل تمثالا من الخشب ابتهالا وابتهاجا بالفيضان لما طعن ذلك على علمهم وحكمتهم، ولما زاد على أنه نوع من الخرافة يستريح إليه السواد فلا يعترضه العقلاء والحكماء.
هذا هو ما يستخلص من تاريخ مصر الفرعونية، وقد أردت زيادة تمحيصه، فطلبت إلى العالم الأثري الأستاذ سليم حسن أن يمدني بعلمه ورأيه، فكان مما أثبته أن ما قيل عن الوثيقة التي بعث بها عمر بن الخطاب فألقيت في النيل ليفيض، لا يزيد، إن صح، على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها، فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم، أن يقيموا لإله النيل احتفالا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورا وإوزة وقرابين أخرى من الخبز وغيره ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطا عليها أمر للنيل أن يجري في فيضان معتدل يكفل للبلاد الخير والرخاء، وكان هذا الاحتفال يقام في اليوم الذي تصل فيه مياه النيل الصيفية قادمة من أسوان إلى بلدة السلسلة، مبشرة بفيضان عظيم، والظاهر أن المسيحية عفت على القرابين فلم تكن تقدم في عهد الرومان المسيحيين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون للنيل إلها، ثم بقيت الوثيقة تلقى في النيل ليجري فيضانه فتعم البلاد خيراته، فلما دخل العرب مصر كانت الوثيقة الإسلامية الأولى هي هذه التي يعزوها المؤرخون إلى عمر بن الخطاب، والتي يأمر النيل فيها بأن يجري كما كان يأمره الأمير الروماني في العهد المسيحي، وكما كان يأمره الكهنة وبعض الملوك في عهد الفراعنة.
أما قصة عروس النيل كما رويت فخرافة تستند إلى أسطورة روجها المؤرخ الإغريقي بلوتارك، خلاصتها أن «إجبتوس» ملك مصر استلهم الوحي ليهديه السبيل لاتقاء كوارث نزلت بالبلاد، فنصحه أن يضحي بابنته بأن يلقيها في النيل ففعل، ثم إنه ناء بالرزء الذي ألم به، فألقى بنفسه في النيل فهلك كما هلكت ابنته، وهذه الخرافة التي روجها بعض كتاب الإغريق واللاتين من بعد بلوتارك لم يرد لها ذكر في الكتابات المصرية، وهي مع ذلك مصدر الأسطورة التي ذاعت في الناس قرونا، ونسج حولها الخيال من فنون الرواية والقصص ما جعل كثيرين يتوهمونها حقيقة حدثت بالفعل، وأنها كانت تتكرر في كل عام.
أم ترى نسج الخيال أسطورة عروس النيل حول ما جاء في ورقة هاريس البردية التي ترجع إلى عهد «رمسيس الثالث» فيما بين سنة 1198 وسنة 1167 قبل الميلاد؟ إن صح ذلك فهو الدليل على أن الإنسانية كثيرا ما تؤمن بأساطير لا أصل لها في الحياة، وإنما زيفها وزينها خيال الكتاب وأرباب الفن، فليس في ورقة هاريس ذكر لعروس عذراء تزين وتلقى في النيل، وإنما جاء فيها أنه كان على امتداد النيل ما يزيد على مائة مرساة، بين كل مرساة والتي تليها نحو سبعة أميال، وفي كل مرساة محراب لحابي إله النيل، يرعاه كاهن يتناول من راكبي النيل أطعمة يقدمونها قرابين لحابي، وكان لكل محراب حراس لهم فيه طعامهم ولباسهم، وكان يوضع في كل محراب طاقة من الزهر تجدد في كل يوم، وستة تماثيل من خشب الجميز لحابي إله النيل، وستة تماثيل أخرى من الخشب نفسه للإلهة «ربيت» زوجة النيل، هذا عدا تماثيل أخرى للإله حابي مصنوعة من الذهب والفضة والقصدير والأحجار المصرية المختلفة الأنواع كالمرمر واللازورد والزمرد والبلور الطبيعي وأساور من ذهب وفضة، كانت هذه التماثيل كلها تلقى في النيل يوم الاحتفال بعيد حابي في بداءة الانقلاب الصيفي، ويؤتى بدلها بجديد غيرها يقام في تلك المحاريب، إلى أن يحل العيد بعد عام فتلقى في النهر قبيل فيضانه ثم يؤتى في المحاريب بتماثيل جديدة في كل عام.
ترى هل استمد الخيال قصة عروس النيل من هذه التماثيل التي كانت تلقى في النهر، فنفخ الحياة في خشب الجميز وفي غيره من المواد التي كانت تصنع التماثيل منها؟ وهل الإلهة «ربيت» زوجة النيل هي التي أمدت الخيال بفكرة العروس العذراء النابضة بالحياة؟ أيا ما يكن الأمر فالقصة كما ترى أسطورة من أولها إلى آخرها زينها الوهم، ثم خلع القدم على الوهم صورة الحقيقة، فإذا للنيل عروس من بنات حواء تلقى فيه في ريعان شبابها وفي ثياب زينتها، وإذا المؤرخون يتناقلون هذه الأسطورة على أنها حقيقة بقيت على الحياة القرون الطوال، وما أدري أيقضى على هذه الأسطورة بعد أن فندها المؤرخون وفندها الأستاذ سليم حسن هذا التفنيد العلمي الدقيق، أم يبقى من الناس من يذكرها ويتوهم أنها حقيقة في يوم من الأيام؟!
9
أما وقد فندنا أسطورة عروس النيل فلننتقل إلى أسطورة أخرى ألقت على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين في عهده تهمة شنعية ظل المؤرخون يتناقلونها قرونا عدة، ولا يرى المؤرخون المسلمون في روايتها ما يدعوهم إلى تمحيصها؛ تلك التهمة هي إحراق مكتبة الإسكندرية، ولعل المهارة التي زيفت بها هي التي هونت أمرها على المسلمين كل تلك القرون، ويجب أن نعترف أن الفضل في الكشف عن زيفها يرجع إلى المستشرفين الذين محصوها وفندوها منذ القرن التاسع عشر، وأن لبتلر أكبر الفضل في القضاء عليها قضاء حاسما بما أورد من حجج لا يتردد إنسان بعدها في القطع بزيفها وكذبها من أساسها.
ويزيد في شناعة هذه التهمة الباطلة التي ألصقت بعمر وبالمسلمين في عهده أن مكتبة الإسكندرية كانت أعظم مكتبة في العالم، وكان فيها من نفائس الكتب في كل العلوم والفنون ما قل نظيره في مكاتب العالم الحاضر، فقد أنشأها البطالسة، وجمعوا فيها سبعمائة ألف مجلد، وجعلوها في عدة أبهاء من أبنية متحف الإسكندرية المجاور لقصور الملك، وكانت أبنية هذه المكتبة العظيمة تتصل بأبنية مدرسة الطب والتشريح والجراحة، ومدرسة الرياضيات والفلك، ومدرسة القانون والفلسفة، وببناء المرصد، ومكان الحديقة التي خصصت لدراسة علم النبات، بذلك كانت المكتبة والجامعة المتصلة بها أعظم مركز لثقافة العالم في ذلك العصر، ولا ريب أن إحراق مكتبة ذلك شأنها جرم فظيع، وجناية على الإنسانية لا يرتكبها متعمدا إلا الهمج ومن كانوا في مثل درجتهم من الوحشية.
مع ذلك ألصقت هذه التهمة بعمر بن الخطاب وبالمسلمين في عهده، وظلت لاصقة بهم عدة قرون كانت خلالها سببا في تجني المتجنين وطعن الطاعنين عليهم، ثم ظلت كذلك حتى نفاها العلم فلم يبق من يذكرها إلا لينكرها، ولو أن المتقدمين من المؤرخين كانوا يعنون بنقد الحوادث، ويدققون في تمحيصها لتيسر لهم تبين الزيف فيها، ولما ظل التاريخ في ضلال ستة قرون، وأيسر ما كان يهديهم لزيفها أنها لم ترد في كتاب طيلة القرون الخمسة التي تلت فتح المسلمين مصر، مع أن المؤرخين الذين سجلوا تاريخ هذه الفترة بينهم مصريون ومسيحيون لم يدعوا منقصة يمكن أن تنسب للعرب إلا أثبتوها، ثم لم يذكر أحد منهم شيئا عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها.
ولعل هذه الأسطورة نجمت في بيئات الشيعة، فذكرها أبو الحسن القفطي في كتابه: «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تداولها عنهما من جاء بعدهما من المؤرخين، وقد أحكموا حبكها، وفي وسعك أن تتبين هذا الإحكام من طريقة روايتها، فقد ذكروا أن قسيسا من القبط يدعى حنا
10
النحوي عزله مجمع الأساقفة لزيغ في عقيدته، كان قد اتصل بعد الفتح بعمرو بن العاص، فلقي عنده حظوة لذكائه وصفاء ذهنه وغزارة علمه، فلما اطمأن إلى إقبال عمرو عليه قال له يوما: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئا مما تنتفع به، بل شيئا لا نفع له عندك وهو عندنا نافع.» وسأله عمرو: ما يعني بقوله؛ فأجاب: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأيا دون إذن الخليفة.» ثم إنه بعث إلى عمر يسأله رأيه في الأمر، فجاءه الرد من المدينة وفيه ما يأتي: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيها وأحرقها.» فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزعت على حمامات الإسكندرية لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بها ستة أشهر، هذه خلاصة وجيزة لرواية القفطي، وقد أردفها بقوله: «فاسمع لما جرى واعجب!»
أنت ترى براعة الحبك في هذه القصة، فحوار بين حنا وعمرو، وكتاب من عمرو إلى الخليفة، ورد من الخليفة يأمر بإحراق المكتبة، وتفصيل دقيق للطريقة التي نفذ بها هذا الأمر، كيف يبقى بعد ذلك كله أي ريب في صحة هذه الوقائع؟ وكيف يخالج المؤرخين المسلمين فيها الشك وقد كتبت في القرن السادس الإسلامي حين جمد التفكير والنقد، وأصبح جهد المؤلفين مقصورا على نقل الروايات التي ذكرها من سبقهم دون تمحيصها لمعرفة صحيحها من باطلها، فليثبت المؤرخون المسلمون هذه القصة العجيبة كما هي، ولينقلها الخلف منهم عن السلف؛ وليذكرها المؤرخون المسيحيون مؤمنين بصحتها، وليعلقوا عليها بما يشاءون، فهم لم يكونوا يتصورون الإسلام والمسلمين إلا اقترنا في أذهانهم بالتعصب المذموم والقسوة الوحشية، ولتبق هذه الوقائع مقطوعا بصحتها حتى يلقي عليها النقد العلمي ضياءه الكشاف فيظهر بطلانها، فيزيفها «جبون» ويزيفها «سديو»، ويزيفها «رينان» ويزيفها «جستاف ليبون»، ويزيفها «بتلر» ويزيفها غير هؤلاء من المؤرخين، ثم تزيفها دوائر المعارف البريطانية والإسلامية وغيرها، ويزيفها تاريخ المؤرخ، ويذكر في تزييفها ونفيها ما قرره علماء المسلمين صراحة من «أن ما يغنم في الحرب من كتب اليهود والمسيحيين الدينية لا يجوز بحال أن يقدم طعاما للنار، وأن مؤلفات العلماء والمؤرخين والشعراء وعلماء الطبيعة والفلاسفة يحق الانتفاع بها لخير المؤمنين.» ولا تحسب أن المؤرخين اكتفوا في نفي هذه الأسطورة بالاستناد إلى مثل هذا الاعتبار العام؛ فقد تناولوها بالتمحيص حتى ثبت لهم أنها لا تثبت له، ثم نفوا حوادثها واحدة واحدة نفيا علميا دقيقا مستندا إلى أوثق المصادر.
فليس صحيحا أن حنا النحوي تحدث إلى عمرو بن العاص في أمر المكتبة أو في أمر غيرها؛ لأن حنا النحوي مات قبل دخول المسلمين مصر، فالثابت أنه كان يكتب قبل سنة 527م؛ أي قبل دخول العرب مصر بخمس عشرة ومائة سنة، فإذا فرضنا أنه كان يكتب وهو في العشرين لكانت سنه خمسا وثلاثين ومائة سنة، وهذا غير معقول، فلم يعرف أن الناس في مصر يكتبون في مثل هذه السن.
وليس صحيحا أن مكتبة البطالسة كانت باقية عند فتح العرب مصر؛ فقد أجمع المؤرخون على أن هذه المكتبة احترقت في سنة 48 للميلاد حين ذهب قيصر إلى الإسكندرية فأحيط به في مرفئها، فأحرق السفن التي فيه فامتدت النيران منها فأحرقت المكتبة وأفنتها. يتحدث أميانوس وسيلوس عن «مكاتب الإسكندرية التي كانت لا تقوم بثمن، والتي اتفق الكتاب الأقدمون على أنها كانت تحوي سبعمائة ألف كتاب بذل البطالسة في جمعها جهدا كثيرا، ولقوا في سبيل ذلك عناء كبيرا، وقد أحرقتها النيران في حرب الإسكندرية عندما غزاها قيصر وخربها.» ويقول أورسيوس: «وفي أثناء النضال أمر - قيصر - بإحراق الأسطول الملكي، وكان عند ذلك راسيا على الشاطئ، فامتدت النيران إلى جزء من المدينة وأحرقت فيها أربعمائة ألف كتاب كانت في بناء قريب من الحريق، فضاعت خزانة أدبية عجيبة مما خلفه آباؤنا الذين جمعوا هذه المجموعة الجليلة من مؤلفات النابغين.» ويقول ديوكاسيوس: «وامتدت النيران إلى ما وراء المراسي بالبناء فقضت على أنبار القمح ومخازن الكتب، وقيل: إن هذه الكتب كانت كثيرة العدد عظيمة القيمة.» وهذه الأقوال وغيرها لا تدع مجالا للريب في أن مكتبة البطالسة احترقت قبل الفتح العربي بستة قرون.
وليس صحيحا أن المكتبات التي نقلت إلى الإسكندرية، أو أنشئت بها بعد احتراق مكتبة البطالسة، كانت باقية عند الفتح، فقد أهدى مارك أنطونيو مكتبة برجاموس إلى كليوباترا، عوضا عن الخسارة التي لحقتها بضياع مكتبة آبائها ملوك مصر البطالسة، ولعل الإسكندرية كان بها مكتبات أخرى، أبقت ما كان للعاصمة المصرية من مكانة علمية سامية، جعلت جامعتها مقصد الطلاب والعلماء من أبناء الإغريق ورومية وكل محب للعلم في عالم ذلك العصر، لكن هذه المكتبات قضي عليها هي أيضا في الثورات التي اندلع لهيبها بين المسيحيين والوثنيين في النصف الثاني من القرن الرابع المسيحي، يقول تاريخ المؤرخ: «كان بالإسكندرية مكتبتان؛ إحداهما: مكتبة البروكيون التي أتلفت في عهد جاليناس سنة 293م، والثانية: مكتبة السرابيوم، وقد أصابها ما أصاب الأولى في ثورة تيوفيلوس سنة 361م، وكذلك انعدم كل أثر لهاتين المجموعتين قبل خمسين ومائتي سنة من فتح عمرو لمصر، ولم يذكر التاريخ أن أميرا أو بطريقا أو حاكما أراد أو قدر في هذه الفترة على أن يحل غيرها محلها.» ويقول بتلر: «رأيت فيما سبق كيف خرب القيصريون ونهب في سنة 366 في أثناء نضال ديني، وأغلب الظن أن المكتبة التي كانت فيه قد ذهبت ضحية في ذلك النضال.» ثم يقول: «وأهوى المسيحيون إلى المعبد العظيم، معبد سيرابيس؛ وعلى رأسهم تيوفيلوس، وجعلوا يهدمونه ويخربون فيه، وكان ذلك في عام 391م، ولا يختلف فيه اثنان، وقد ثبت أن المكتبة كانت في حجرات متصلة بهذا المعبد، وثبت أن ذلك المعبد كله قد هدم وخرب، فلا بد أن تكون المكتبة قد لحقها الخراب نفسه.»
11
أما وقد ثبت أن حنا النحوي لم يكن حيا حين الفتح، وأن مكتبة البطالسة احترقت في عهد قيصر، وأن المكتبات التي أنشئت بعد احتراقها أتلفت قبل دخول المسلمين مصر، فقد انهارت أقوال الرواة فيما اتهموا به عمر بن الخطاب من الأمر بإحراق مكتبة الإسكندرية، على أن ذلك لا يعني أن الإسكندرية انعدمت كل مكتباتها العامة والخاصة، وأن مصر لم يبق بأديارها وجامعاتها مكتبات خاصة بها؛ بل كانت عاصمة مصر عند الفتح العربي لا تزال محتفظة بسمعتها العلمية، وقد زارها قبيل الفتح رجلان من محبي العلم هما صفرنيوس وحنا مكسوس، وتنقلا في أرجائها وذكرا ما اطلعا عليه من الكتب في مكتباتها معجبين به أيما إعجاب، ثم لم يرد فيما كتبا أي شيء عن المكتبة العامة التي زعم رواة الأسطورة أنها أحرقت بأمر خليفة المسلمين، وهذا دليل جديد يضاف إلى ما تقدم من الأدلة على كذب الأسطورة وزيفها، فلما كتب حنا النقيوسي بعد الفتح وفصل أنباء عمرو بن العاص وأعماله، وأنحى بأشد اللائمة على المسلمين حتى فيما اضطروا إليه بحكم الحرب، لم يكتب مع ذلك كلمة عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها، فانتفت هذه التهمة الباطلة انتفاء باتا، وزال كل ما يمكن أن يبقى في نفس أشد الناس للمسلمين عداوة من شبهة في أمرها.
لا حاجة لنا بعد هذه الأدلة كلها إلى بيان السخف الذي تنطوي عليه عبارة المؤرخين عن توزيع الكتب على الحمامات لتوقد فيها، وأن هذه الحمامات ظلت توقد منها ستة أشهر، وإذا كان لهذه العبارة دلالة فعلى أن المؤرخين لم يتورعوا فنسجوا أباطيلهم من أوهام خيالهم ليختموا عبارتهم بمثل قول القفطي: «فاسمع لما جرى واعجب!» ولو أن النقد العلمي عرف في تلك العصور لما بقيت هذه الأسطورة أسابيع قبل أن يفندها الناقدون، ولعد راويها مهرجا لا يصح الاعتداد برأيه أو الاستماع إلى قوله.
كيف تسنى لأسطورة تقوم هذه الأدلة الكثيرة على بطلانها أن تبقى قرونا، وألا يرى بعض المؤرخين المسلمين بأسا بروايتها وبتصديقها؟ السبب عندي واضح بين، وهو الفرق بين عقلية المسلمين في القرن الأول، وعقلية المسلمين في القرن السابع الهجري والقرون التي تلته.
كان المسلمون في عهد الرسول وفي عهد الخلفاء الأولين يرون واجبا عليهم أن ينظروا في الكون، وأن يلتمسوا أسراره ليقفوا على سنة الله فيه، ولم يكن لوسائلهم في هذا النظر وفي التماس هذه الأسرار حد بل كانت حرية التفكير مطلقة لهم وكانت السبب في قوة إيمانهم، كان الاطلاع على تفكير غيرهم والوقوف على ما كتبه الأولون جائزا عندهم بل واجبا عليهم، لم يكونوا يهابون مواجهة الباطل؛ لأن قلوبهم كانت سليمة وبصائرهم كانت مستنيرة، ولأن التفاصيل لما تكن قد طغت عليهم فقيدت عقولهم وأفئدتهم وسجنتها في قوالب صلبة لا يجدون عنها حولا، لذلك كانوا يجتهدون، فلا ينقص اختلافهم قدر أي منهم؛ لأنهم كانوا جميعا متضامنين، يؤمن كل واحد منهم بأن صاحبه يريد باجتهاده خير الإسلام والمسلمين جميعا، وقد رأيت كيف اختلف عمر وأبو عبيدة عام الطاعون، فلم يغير ذلك من احترام أمير المؤمنين لأمين الأمة، ولا من إكبار أمين الأمة لأمير المؤمنين.
وأدى اجتهادهم إلى سعة في آفاق الفهم، بلغت بالخلفاء في عهد العباسيين أن يأمروا بترجمة كتب اليونان والفرس وغيرهم من الأمم في الطب والرياضة والحكمة والفلسفة ، ثم لم يخشوا أن تزيغ ترجمتها العقائد أو تفسد النفوس، قوم ذلك شأنهم لا يمكن أن يعزى لأحدهم أن يقول: «أما الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه.» فقد كانوا يعلمون أن كتاب الله لم يفصل علوم الطب والرياضة والهندسة وغيرها من العلوم والفنون الكثيرة، وأن معرفة ما كتب في هذه العلوم على حقيقته من أقوم السبل لمعرفة سنة الله في الكون.
فلما بدأ المسلمون يتراشقون بالاتهام بزيغ العقيدة عند الاختلاف في الرأي، تدهورت العقلية الإسلامية إلى الهاوية التي تدهورت إليها العقلية المسيحية من قبل، فجمد الناس على مذاهبهم، وأصبح الاتهام بالمروق والزندقة أيسر ما يجري على ألسنتهم، وصار التعرض بالنقد لأمر مقرر تجديفا لا يغامر به إلا مجازف بأن يتهم في دينه، وأن يصيبه من جراء ذلك أعظم الحيف في رزقه وفي حريته وفي حياته، وذلك هو السبب في أنك قلما تعثر في كتب المتأخرين على نقد لرأي سلف، بل تراهم يكتفون بإثبات ما ذكره الذين من قبلهم وإن اختلفت الروايات فبلغ اختلافهم حد التناقض والتضارب، فإذا لم يطق أحدهم على تناقضها صبرا لم يفكر في تقويم معوجها وتصحيح باطلها، بل يكتفي بعد إيراد الروايات جميعا بقوله: «والله أعلم، كذلك قيل.»
وقد أصابهم الجمود أول الأمر في شئون العقائد والعبادات وأصول النقد، لكن هذا الجمود سرعان ما امتد إلى سائر العلوم والفنون، والتاريخ من بينها، ذلك لأن العقل لا يمكن أن يكون حرا طليقا في ناحية جامدا مقيدا في ناحية أخرى، وهو متى رضي أن يرسف في القيود فجمد عن البحث في أصول العقائد والتشريع، أصبح الجمود عادة له ونظاما يجري عليه في كل شئونه، ولا عجب! فأنت لا تستطيع أن تقيم حدا فاصلا بين علم وآخر، أو بين علم من العلوم وفن من الفنون تتداخل كلها وتتعاون، فإذا كان العقل حرا في ناحية لم يستطع أن ينزل عن حريته في ناحية أخرى، وإذا جمد في ناحية جمد في سائر النواحي فركد نشاطه وذبلت حيويته، وذلك ما حدث في العهود الإسلامية المتأخرة فأدى بالمؤرخين المسلمين إلى تصديق أسطورة باطلة كأسطورة مكتبة الإسكندرية وإحراقها بأمر الخليفة العظيم عمر بن الخطاب.
وهذا أمر يؤسف عليه أشد الأسف؛ فقد كانت الحرية العقلية جوهر الإسلام، والأساس المتين للحياة الإسلامية في عهودها الأولى، وهذه الحرية العقلية هي التي طوعت للمسلمين أن يبلغوا من الرفعة ما بلغوا، وأن تمتد إمبراطوريتهم في أعوام معدودة إلى المدى العظيم الذي امتدت إليه.
وهذه الحرية العقلية التي أقرها الإسلام هي التي زادت العرب اعتدادا بأنفسهم، واعتزازا بكرامتهم وحرصا على المساواة التي كانت سليقة فيهم من بدء نشأتهم، فقد كان العربي في باديته وفي حضره يجعل حياته ثمن حريته، يدفع عنها كل من ينتقص منها، ولا يرضاها إلا كاملة طليقة كالهواء الذي يتنفسه، على أن عقائدهم الوثنية كانت غلا في أعناقهم أثقلهم وقعد بهم عن التطلع إلى مثل أعلى يتوجهون إليه بقلوبهم، ويهبون له حياتهم، فلما حطم الإسلام هذا الغل وأطلق حريتهم العقلية من عقالها انتشروا في الأرض كما رأيت، ثم زادهم الإيمان الصادق بالمساواة والإخاء بين المؤمنين جميعا حرصا على حريتهم وعلى كرامتهم، فلم يكن أحدهم ينزل عنهما أو يفرط فيهما، ولم يكن يرضى من أحد ولا من أمير المؤمنين نفسه أن يمسهما، وظل ذلك شأنهم في القرون الأولى فزادهم قوة وسلطانا، فلما آن للزمن أن يدور دورته، ونزل المسلمون شيئا فشيئا عن الحرية ثم رضوا بالجمود العقلي، دب فيهم دبيب الانحلال، وبدءوا يصدقون أساطير كأسطورة عروس النيل، وحريق مكتبة الإسكندرية بأمر عمر.
هذه الحرية العقلية هي التي مكنت لعمرو بن العاص أن يسوس مصر كما رأيت، وأن يوفق غاية التوفيق في تألف أهلها مع اختلافهم مع العرب في الجنس واللغة والدين، وقد اغتبط عمر بما عرف من ذلك أول الأمر، ثم لم يلبث أن خالف عمرا فيما اتصل من سياسته بتخفيف الضرائب مخالفة بلغت مبلغ المؤاخذة، وكتب إليه في ذلك مرات فلم يغير عمرو من رأيه ولا من خطته، بل أصر على ذلك إصرارا أقام الشبهات في نفس عمر، وهذه الشبهات هي التي جعلت الرجلين يتبادلان من الكتب ما لا يستطاع تصور مثله في العصر الحاضر، وكيف تستطيع أن تتصوره وقد وقف ابن العاص من أمير المؤمنين موقف الند من نده، مع ما يعرفه من شدة عمر على عماله، حتى ليسرع إلى عزلهم متى زايلت نفسه الطمأنينة إلى عدلهم وأمانتهم!
فقد كان عمرو بن العاص حريصا كل الحرص على أن يتألف المصريين وألا يرهقهم وأن يقوم من إصلاح شئونهم بما يرضيه، فكان ينفق من خراج مصر ومن الجزية المضروبة على أهلها ما يحتاج إلى إنفاقه في حفر خلجانها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها وقطع جزائرها، ثم يبعث ما يبقى بعد ذلك إلى أمير المؤمنين، وقد احتاج تعمير البلاد أول الفتح إلى كثير من النفقة، فقد بدأ عمرو أول ما استقر به الأمر، فحفر خليج تراجان - وهو الخليج الذي أطلق عليه من بعد اسم خليج أمير المؤمنين - كما أخذ نفسه بإصلاح ما أفسده الروم من مرافق البلاد، هذا إلى أنه أعفى القرى التي أصابها الخراب من الجباية، وكان عمر في حاجة إلى المال لتنفيذ سياسته في شبه الجزيرة وكان لذلك يلح على عمرو ليبعث إليه بالخراج كاملا، فلا يجد منه إسراعا إلى تلبيته لما يريد تشبثا منه هو أيضا بسياسته، وضاق عمر بذلك ذرعا، فكانت بين الرجلين تلك الكتب العنيفة بلغ عنفها وبلغت شدتها حد الاتهام.
وأول ما يورده المؤرخون من هذه الكتب كتاب من عمر إلى عمرو يقول فيه:
أما بعد، فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وإنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أنه سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إلي ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تبعث بها لا توافق الذي في نفسي، ولست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجزئا كافيا صحيحا إن البراءة لنافعة، وإن كنت مضيعا نطفا إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتغي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف، اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك عنه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهز يخرج الدر، والحق أبلج، ودعني وما عنه تلجلج، فإنه قد برح الخفاء، والسلام.
هذا كتاب لحمته اللوم وسداه التهديد، فهل تراه أزعج عمرا أو دفعه لأن يعدل عن سياسته؟! كلا! بل أجاب أمير المؤمنين بكتاب جمع إلى الاعتداد بالنفس والاعتزاز بالكرامة، حرصا أصدق الحرص على هذه السياسة، ودفعا للتهمة التي وجهت إليه بلغة لا تقل شدة في لهجتها عن لغة أمير المؤمنين، فقد أجاب كتاب عمر يقول:
أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها منذ كان الإسلام، ولعمري قد كان الخراج يومئذ أوفر وأكثر، والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهز يخرج الدر فحلبتها حلبا قطع ذلك درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وثربت، وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبير، فجئت لعمري بالمفظعات المقذعات، ولقد كان لك فيه من الصواب رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحا والعمل به شينا، فيعرف ذلك لنا ويصدق فيه قيلنا، معاذ الله من تلك الطعم، ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فاقبض عملك فإن الله قد نزهني عن تلك النعم الدنية والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ولم تكرم فيه أخا، والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد لنفسي غضبا ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى علي فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا! وسكت عن أشياء كنت بها عالما وكان اللسان بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل، والسلام.
لم ينزعج عمر بن الخطاب لهذا الكتاب، بل رأى أن يأخذ ابن العاص بالشدة، وألا تلين قناته له مخافة استرساله، فكتب إليه يقول:
أما بعد، فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها طعمة لك ولا لقومك؛ ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام.
كان جواب عمرو على هذا الخطاب أقل عنفا، ولكن إصراره فيه على سياسته لم يكن أقل وضوحا وبروزا، ترى ذلك صريحا في قوله:
أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أعند عن الحق وأنكب عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم! ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت، فكان الرفق بهم خيرا من أن يخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه والسلام.
لعلك توافقني، وقد قرأت هذه الكتب، على أنه لا يسهل علينا تصور إمكانها اليوم بين حاكم له سلطان عمر، وعامله على بلاد فتحها، فهذا ابن العاص يصر على ألا يرهق المصريين بجباية الخراج قبل أن يدرك الزرع، وألا يزيده عليهم حتى لا يؤذيهم ويحملهم على بيع ما هم في حاجة إليه لمعاشهم وسعيهم، ويرى في الرفق بهم ما يزيدهم حرصا على أداء ما يطلب منهم من غير تذمر أو شكاية، وهذا عمر يرى الخراج الذي يجبى من مصر دون ما كان يجبيه الروم وما كان يجبيه الفراعنة،
12
فلا يرى في حجج عمرو إلا تسويفا ومطلا وتعللا غير مقبول، ثم يبلغ الريب منه فيها أن يراها معاذير يشوبها الكذب، يريد ابن العاص أن يستر تقصيره، بل أن يستر ما يضمره لنفسه ولقومه من ملك مصر الطويل العريض.
ولقد ضاق عمر آخر الأمر ذرعا بهذه الكتب، ورأى فيها نذيرا إن لم يتداركه بما عرف من شدته تفاقم الأمر بينه وبين عمرو تفاقما قد ينتهي إلى غير ما يحب؛ لذلك انتقل إلى الاتهام الصريح، ثم إلى التحقيق مع عمرو فيما كسب من مال في أثناء ولايته مصر، فقد كتب إليه يقول: «إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن لك حين وليت مصر.» وأجابه عمرو: «إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر، فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا.» فكان رد الخليفة: «إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلي كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق، وقد سؤت بك ظنا، ووجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه طلعه وأخرج إليه ما يطالبك، وأعفه من الغلظة عليك فإنه برح الخفاء.»
وذهب ابن مسلمة إلى مصر فقاسم عمرا ماله، فقال له عمرو: «إن زمانا عاملنا فيه ابن حنتمة هذه المعاملة لزمان سوء! لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج.» وأجابه ابن مسلمة: «مه! لولا زمان ابن حنتمة هذا الذي تكرهه ألفيت معتقلا عنزا بفناء بيتك يسرك غزرها ويسوءك بكؤها.» قال عمرو: «أنشدك الله ألا تخبر عمر بقولي؛ فإن المجالس بالأمانة.» وأجابه ابن مسلمة: «لا أذكر شيئا مما جرى بيننا وعمر حي.»
13
تشهد هذه الكتب التي تبودلت بين عمر وعمرو، كما يشهد ما دار من قبل بين عمر وخالد بن الوليد، بما كان عليه هؤلاء المسلمون الأولون من حرية، ومن اعتداد بالنفس واعتزاز بالكرامة في غير كبرياء باطل، لقد كانوا يحترمون النظام، ولا يتجاهلون ما جعله الله وجعله الإسلام للخليفة من حق، لكن احترامهم النظام وعرفانهم حق الخليفة، لم يكن لينسيهم كرامتهم وحريتهم ومساواتهم للخليفة فيما يجب عليه من احترام حقهم بقدر ما يجب عليهم من احترام حقه، لم يكن النظام عندهم ذلا ولا عبودية، ولم تكن حقوق الخليفة لتطغى على حقوقهم ولم يكن سلطانه ليضعف من حريتهم ومن اعتزازهم بكرامتهم، بل كانت الحرية والنظام يتوازيان فلا يطغى أحدهما على الآخر، بل يؤيد كل منهما الآخر ويزيده ثباتا وقوة، فإذا قامت في نفس الخليفة شبهة من رجل فاتهمه ثم تبين له أنه ظلمه، رأى الحق لهذا الرجل عليه أن يعتذر من اتهامه، وأن يعلن على رءوس الأشهاد براءته، وإذا اقتضى النظام أو قضت المصلحة العامة بعزل رجل من عمله لغير ريبة فيه، أعلن الخليفة سبب عزله، حتى لا تثور شبهة من الشبهات حوله، وقد كان هذا الاحترام المتبادل، وهذا التقديس للحرية والنظام جميعا، من أسباب القوة التي يسرت للمسلمين أن ينشروا في العالم حضارة استقرت فيه دهرا طويلا.
كان عمر، على احترامه لهذا النظام أصدق الاحترام، لا يتردد في عزل كل عامل لا تنتفي الشبهات من نفسه في أمره، بل يرى ذلك واجبا عليه وجوب احترامه للحرية والنظام، وقد رأيت في هذه الكتب التي تبودلت بينه وبين عمرو أنه كان موشكا أن يعزله، ولعله كان فاعلا لولا أنه قتل بعد قليل من تبادل هذه الكتب ومن مقاسمة عمرو ماله، فبقي عمرو معلقا، لكن هذا التعليق لم يدم طويلا في خلافة عثمان بن عفان.
ترى لو أن عمر لم يقتل وعزل عمرا، أفكان يتعصب لابن العاص أقوام كما تعصب لخالد بن الوليد يوم عزله عمر أقوام؟ وهل كان عمر يتهم في تصرفه هذا كما اتهم في تصرفه بعزل خالد؟ أو أن فاتح مصر لم يكن له من الأنصار ما كان لسيف الله، وأنه كان متهما عند الناس بما اتهمه الخليفة به، فما كان عزله ليثير ثائرة أو ليزعج أحدا؟!
يتعذر الجواب عن هذا السؤال؛ فقد عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن أبي السرح، فلم يذكر المؤرخون المسلمون عما أثاره هذا العزل شيئا يشبه ما ذكروا لعزل خالد بن الوليد، أفيرجع ذلك إلى أن عمرا كان يفيد من مصر لنفسه ولقومه فلم يغضب أحد منهم لعزله، بل لم يعن أحد منهم بأمره؟ أم أن قوما تعصبوا لعمرو بالفعل، وروى الرواة ما حدث من ذلك، ثم أهمل المؤرخون ذكره؛ لأنهم رأوا في ممالأة عمرو لمعاوية في خلافه مع علي بن أبي طالب ما صرفهم عن ذكره؟ أيا ما يكن الأمر فإن الدولة الإسلامية مدينة لعمرو بفتح مصر، مدينة له بحسن سياستها وتألف قلوب أهلها، وذلك دين لم يكن ليجزيه ما قيل إنه أفاده لنفسه إن صح، صحيح أن نزاهة الحكم يجب أن تسمو على كل اعتبار؛ لكنا لم نجد فيما نسب إلى عمرو ما يدل على أنه خالف النزاهة مخالفة تسوغ الغمط من حقه أو التهوين من جليل عمله.
ويزيدنا إكبارا لعمرو وتنويها بفضله أن ما حدث من عزله لم يدفعه للنكول من بعد عن أداء واجبه، فقد أقام بمكة في حين كان عبد الله بن سعد بمصر يرهق أهل الإسكندرية بالضرائب فيدفعهم للتذمر، ويدفع الروم منهم أن يكتبوا إلى قيصر بالقسطنطينية أن الفرصة سانحة له ليأخذ بثأره، وقد استجاب قيصر لهذا النداء؛ فبعث القائد «مانويل» في جند كثيف حمله أسطول مؤلف من ثلاثمائة سفينة سار بهم إلى الإسكندرية وأنزلهم بها، فاحتلوها وقتلوا جند المسلمين المرابطين فيها، وأذاعوا الرعب في قلوب أهلها، ووضعوا أيديهم على كل مرافقها، ولم يستطع عبد الله بن سعد مقاومة هذا الغزو، فبعث إلى الخليفة يستنجده، ودعا الخليفة عمرو بن العاص وطلب إليه أن يعود إلى مصر ليقاتل الروم، فلم يتردد ،
14
ولم يجعل من حفيظته لعزله أي أثر في نفسه، بل سار حتى بلغ بابليون حين كان مانويل وجنوده يتقدمون في مصر السفلى، ولقيهم عمرو بنقيوس فهزمهم وردهم إلى الإسكندرية فتحصنوا بها ولما رأى عمرو حصون المدينة تقاومه أسف أن ترك هذه الحصون قائمة، وأقسم: لئن أظفره الله بالمدينة ليهدمن أسوارها، حتى تكون مثل بيت الزانية تؤتى من كل مكان! وذكر المصريون ما كان من رفقة بهم وحسن سياسته فيهم، فأعانوه على عدوه فظفر به ثم حطم حصون الإسكندرية وأسوارها بعد أن قتل مقاتلتها، وأخذ النساء والذراري فجعلهم فيئا.
وأراد عثمان بن عفان مكافأة عمرو بأن يجعله أميرا على جند مصر، مع بقاء عبد الله بن سعد واليها وصاحب خراجها؛ فرفض عمرو عرض الخليفة وقال: «أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها، وآخر يحلبها!» وعاد إلى مكة حتى آل الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، فولاه مصر وأطلق يده فيها، وساس ابن العاص مصر بحكمته وحسن رأيه، وظل مقيما بها إلى آخر عمره، ثم مات بها ودفن فيها، ولكن الزمن عفى على قبره، فما من أحد يعرف اليوم مكانه.
لم نفصل أعمال عمرو بمصر بعد عهد عمر؛ لأنها لا تدخل في نطاق هذا الكتاب، فلنعد بذاكرتنا إلى ما أثبتناه فيه، مذ بدأ عمرو يفكر في فتح مصر، لنذكر ما كان لهذا الرجل من فضل في نقل مصر من يد الروم إلى يد المسلمين، فهو الذي سار إليها في جند لا يبلغ أربعة الآلاف، وهو الذي فتحها بهذا الجند وبالمدد القليل الذي أمده الخليفة به، وهو الذي وجه سياستها، ونظم حكمها، ودبر أمورها، وتألف أهلها، وليس يغلو لذلك من يقول: إن مصر الإسلامية مدينة بوجودها لعمرو بن العاص، دينا لا تعرف العراق ولا الشام ولا الفرس دينا مثله لفاتح من المسلمين.
الآن فرغنا مما تم في عهد عمر من فتوح عظيمة هزت العالم وبهرت المؤرخين، وقد تركنا شبه الجزيرة، في أثناء هذه الفتوح، لنرى كيف أدال الغزاة العرب من دولة كسرى ومن دولة قيصر ، فلنعد كرة أخرى إلى المدينة ، ولنقف إلى جانب عمر، لنرى كيف تطورت شبه الجزيرة في عهده، وكيف واجه أهلها هذه الأطوار الجسيمة التي حدثت تحت سمعهم وأبصارهم، وسيرى القارئ معنا أن ما تم من ذلك لم يكن أقل عظمة ولا جلالا من عظمة الفتوح وجلالها، وأنه كان أكثر من الفتوح بقاء على الزمن، وأعمق منها أثرا في حياة العالم كله.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
حكومة عمر
كان عهد عمر كما رأيت عهد غزو وفتح؛ حالف النصر فيه أعلام المسلمين، فامتدت دولتهم حتى جاورت أفغانستان والصين شرقا؛ والأناضول وبحر قزوين شمالا، وتونس وما وراءها من إفريقية الشمالية غربا، وبلاد النوبة جنوبا، هذا مع أن التوسع في الفتح لبلوغ هذه الأرجاء لم يكن مما أراده عمر أو أراده أبو بكر من قبله؛ وإنما كانت سياسة عمر أن يجمع الجنس العربي في وحدة تمتد من خليج عدن جنوبا إلى أقصى الشمال من بادية السماوة، وأن يدخل العراق والشام في هذه الوحدة؛ لأن السلطان فيها كان للخميين والغسانيين من العرب، فلما تم له ما أراد من ذلك ود لو يقف جنده في هذه الحدود لا يتعدوها، وتمنى لو أن بينه وبين الفرس جبلا من نار لا يخلصون إليه ولا يخلص إليهم منه، ولو أن بينه وبين الروم سدا يحول بينهم وبين استرداد ما فتحه من أرضهم، لكن الحوادث كثيرا ما كانت أقوى من الرجال، والحوادث هي التي دفعت المسلمين إلى متابعة الفتح، والبلوغ به إلى المدى الذي رأيت.
وقد أذهل هذا الفتح عالم يومئذ، وأدهش المؤرخين الذين فصلوا حوادثه وحاولوا استقصاء أسبابه، وقد أشرت من قبل إلى ما اتصل من هذه الأسباب بنفسية المسلمين الغزاة ونفسية خصومهم من الفرس والروم، وثم عامل آخر كان له أثر كبير في امتداد الفتح: ذلك نظام الحكم في شبه الجزيرة، فقد تطور هذا النظام، خلال السنوات العشرين التي تلت هجرة الرسول، تطورا مكن الأمة العربية من مواجهة تلك الأحداث التاريخية الجليلة في طمأنينة زادتها اعتزازا بنفسها، وشعورا بقوتها ، وإيمانا بأن عليها رسالة يجب أن تؤديها للعالم، ويجب أن يسمع العالم لها؛ لذلك لم يقف في سبيلها سلطان، ولم تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
لم يكن هذا النظام نتيجة تفكير منطقي، ولا عملا من أعمال الفقهاء والمشترعين اجتمعوا له ونظروا فيه وانتهوا إلى تدوينه، ثم أمر رسول الله أو أمر خلفاؤه بتنفيذه، كلا! فقد كانت هذه الدولة الناشئة تنمو في سرعة دونها سرعة الناشئ في نموه من الطفولة إلى الصبا فإلى الشباب؛ لذلك لم يكن بد لمن ولي أمرها من أن يلحظ أحوالها تبعا لأطوار نموها، وأن يجعل همه أول كل شيء إلى تنظيم مركز القوة الدافعة لهذا التطور وهذا النمو، وأن يعمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة وتوكيد تضامنها، وإنما بدأ انبعاث هذه القوة الدافعة من بلاد العرب قبل أن تلتئم وحدتها، أو يستقر بها نظام ثابت يصدر عنها ويمتد منها إلى غيرها من الأمم، فقد كان النظام الموحد المستقر معروفا في البلاد المجاورة لها قبل أن تعرفه هي، ثم كان النظام الفارسي مبسوطا في العراق، والنظام البزنطي مبسوطا في الشام، ولم يفكر أحد من أهل المدينة في استعارة أي من هذين النظامين، ولم يحاول أحد فيها أن يسطر على الورق نظاما عربيا كله، أو إسلاميا كله، يطبق في بلاد الدولة أدانيها وأقاصيها، ولو أن أحدهم فكر في مثل هذه المحاولة لقضى السنين يسطر ويمحو ويثبت حتى تلتئم لهذا النظام وحده تجري في مختلف أجزائه، وما كان عهد الفتح الفسيح السريع الخطا ليتسع لشيء من هذا ولا ليطيقه، فعهد الفتح، بطبعه، عهد اجتهاد تمليه أحداث الساعة وتقضي بها أطوارها، فإذا أسرع الفتح ما أسرع في عهد أبي بكر وعمر، وجب أن يستند النظام إلى بديهة ولي الأمر أكثر من استناده إلى منطقه، وأن يساير ولي الأمر الفتح في أطواره لا يسبقها ولا يستأخر عنها.
وذلك ما حدث منذ انضوت بلاد العرب كلها إلى لواء الإسلام بعد فتح مكة والطائف، فقد أقبلت الوفود من أرجاء شبه الجزيرة تترى إلى المدينة تعلن بين يدي رسول الله إسلامها، وجعل رسول الله يبعث عماله إلى مختلف الأرجاء يفقهون الناس في الدين، ويجبون منهم الصدقات، تاركا للأمراء الذين أسلموا ما كان لهم من سلطان في بلادهم قبل إسلامهم؛ ينهضون به في حدود النظام المتوارث عندهم، بعد أن يدخلوا عليه من التعديل ما جاء الإسلام به، فلما اختار الله إليه رسوله وبايع أهل المدينة أبا بكر بالخلافة، فبعث عماله يجبون ما كانوا يجبونه من الصدقات لعهد النبي، برم العرب بهذا الأمر ولم يرضوا عنه، وعدوه انتقاصا من استقلالهم السياسي ومن حريتهم المدنية، وأصروا لذلك على دفعه، وكذلك قامت حروب الردة، ثم انتهت بظفر أبي بكر واستقرار السلطان بالمدينة، وهذا الظفر هو الذي مهد للوحدة السياسية في بلاد العرب، فلما تولى عمر بعد أبي بكر جعل همه إلى تنظيم هذه الوحدة تنظيما لا يغلو من يقول إنه كان تتويجا للثورة الروحية الكبرى، ورفعا للقواعد من سلطانها الثابت في العالم.
كان ذلك شأن العصر الذي بدأ فيه انتشار الإسلام واستقراره، ولذلك كانت سيرة القائم بالنظام وتعاليمه هي صورة هذا النظام المتصل بشخصه، المرتبط بتصرفاته وأحكامه، فسيرة رسول الله هي النظام الروحي للإسلام، وبداءة التصوير المدني لنظام الجماعة الإسلامية، وقد تطور هذا التصوير على الزمان متأثرا بالأحوال المحيطة به، مع التزامه النطاق الذي فرضه القرآن للحياة الروحية وللحياة المدنية، ولئن ظل النظام السياسي في شبه الجزيرة قائما فلم يتغير في عهد الرسول عما كان عليه قبله، لقد تأثرت الحياة المدنية بأوامر القرآن ونواهيه تأثرا كان له أعمق الأثر في كل ما تم من بعد، وكان أبو بكر خليقا بعد أن قضى على الردة واستفتح عهد الوحدة السياسية لبلاد العرب، أن ينظم هذه الوحدة وأن يضع أسسها ويرفع قواعدها، لكن التمهيد للفتح وللإمبراطورية في العراق والشام بدأ ولم تكن حروب الردة قد انتهت، فلم يكن في مقدور الخليفة الأول أن ينصرف عن مواجهة الفرس والروم إلى تفصيل النظام الملائم للوضع الجديد، في بلاد كانت الثورة لا تزال قائمة في بعض أرجائها، ولم تكن أمورها قد اطمأنت إلى وحدة مستقرة.
مع هذا بدأت الوحدة السياسية تنتظم بلاد العرب من ذلك الحين شيئا فشيئا، ولا عجب، فحيثما تجر في البلاد المتجاورة أحكام متشابهة تزل الفوارق بينها في الحياة المدنية، فيدك زوالها ما بين هذه البلاد من حوائل، وحينما يتم التوافق بين المثل الأعلى والغرض المشترك لأمم متجاورة، يصبح اندماج هذه الأمم أمرا طبيعيا ينضجه مر الزمن، ومنذ أسلم العرب تمت وحدتهم في العقائد والعادات والمعاملات ... كان تحريم الربا والخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وكان الحد من تعدد الزوجات وتحريم وأد البنات، وكان تنظيم المعاملات وترتيب الميراث، مما بعث إلى حياتهم المدنية اتساقا لم يكن مألوفا من قبل، ثم زادت وحدة العقيدة والعبادة ما بينهم من وحدة الجنس ووحدة اللغة متانة وقوة، فلما قضي على الردة واندفع المسلمون إلى العراق والشام، وتجاوبت أجواء شبه الجزيرة بأنباء انتصارهم وبقوتهم على مواجهة الفرس والروم، زاد الاشتراك في الغزو والنصر وحدة العرب قوة، وجعلهم يشعرون بحاجتهم إلى التآزر والتضامن ليظل النصر حليفهم فتزداد بين أيديهم ثمراته؛ لذلك رأيت الذين منعهم أبو بكر من الاشتراك في حرب العراق والشام، لما كان من ردتهم، يودون على اختلاف قبائلهم ومواطنهم أن يشتركوا في هذه الحروب جهادا في سبيل الله، وليكون لهم من مغانمها نصيب كنصيب الذين أقاموا على إسلامهم واشتركوا فيها منذ بدأت، فإذا أضفت إلى هذا كله ما هدى الإسلام العرب إليه من مثل أعلى أضاء لهم بنوره، وأراهم جلال الإيمان وجماله، وحبب إليهم الاستشهاد في سبيله، أدركت كيف كانت وحدة شبه الجزيرة تزداد على الأيام اتساقا وقوة، وكيف كانت تتجه لتكون وحدة سياسية كاملة، وكيف كان الزمن ينضجها شيئا فشيئا.
لا ريب في أن القائمين بأمر الإسلام في شبه الجزيرة قد كانوا محور هذه الوحدة بقوة شخصياتهم وبتعاليمهم وأسوتهم، كان النبي العربي ورسالته بالإسلام مصدر هذه الوحدة وأساسها، وكان خليفته الأول هو الذي قضى على العوامل التي حاولت مقاومتها والقضاء عليها، وكذلك آل الأمر إلى عمر حين كانت وحدة شبه الجزيرة تتراءى خلال الحجب، وحين لم يكن لها مفر من أن تكمل، ما لم يضعف القائم بأعبائها دون الاضطلاع بالتبعات الملقاة على عاتقه لتثبيتها وتوطيد دعائمها.
وما كان عمر بن الخطاب ليضعف؛ فقد كان له من قوة الشخصية وبروزها ما رأيت الكثير من مظاهره مجلوا في هذا الكتاب، وما كان له أثره البين قبل الإسلام وبعده، وكان هذا الأمر أشد وضوحا بعد هجرة المسلمين إلى المدينة حيث كان عمر وزير رسول الله كما كان أبو بكر وزيره، كان عمر يخالف رسول الله في أمور أقر القرآن رأيه في بعضها كما كان في أسرى بدر، ثم كان له من صدق إيمانه بالله ورسوله ما يجعله أول المسلمين إذعانا إذا نزل الوحي بما يخالف رأيه، وأول المسلمين تأسيا برسول الله إذا جرت سنته بأمر من الأمور، وكان عمر يخالف أبا بكر في أثناء خلافته، فإذا أصر أبو بكر على رأي أطاعه عمر؛ لأنه ولي الأمر، لكن طاعته لم تمح في يوم من الأيام شخصيته، وتأسيه بالرسول لم ينسه أن يفرق بين الثابت على الزمان من سنته
صلى الله عليه وسلم ، وبين ما قضت به أحداث الوقت، فمن المستطاع مراجعته وإعادة النظر فيه من غير أن يكون ذلك إنكارا له، اقتناعا بأن رسول الله لو امتد به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه.
كانت الوحدة السياسية لبلاد العرب بعض ما شغل به عمر في خلافه الصديق وإن لم يصرفه اشتغاله بها عن معاونته أبي بكر في تنفيذ سياسته أصدق المعاونة، فلما استخلف كان تثبيت هذه الوحدة وتوطيد دعائمها أول ما اتجه إليه همه، وقد هداه تفكيره إلى أن هذه الوحدة لن تكون سليمة إلا أن تصفو من كل شائبة، وذلك بأن يكون الجنس العربي كله متحدا في موطنه وفي عقيدته كاتحاده في لغته، واليهودية والنصرانية لا تزالان قائمتين في شبه الجزيرة أتراه يستطيع إجلاءهما عنها من غير أن يخالف كتاب الله وسنة رسوله؟
لقد وادع رسول الله اليهود أول ما نزل بيثرب، فلما نقضوا عهدهم وحاولوا الغدر به، أجلاهم عن المدينة، ثم أجلاهم عن أكثر مواطنهم من شبه الجزيرة لما ناصبوه العداوة، ألا يدل ذلك على أن بقاء اليهود في مواطنهم لم يكن حقا لهم يجب احترامه، وأن موادعتهم كانت سياسة قضت بها مصلحة الدولة أول العهد بيثرب، فلما رأى الرسول مصلحة الدولة العليا لا تستقيم بها عدل عنها إلى سياسة غيرها! ومصلحة الدولة العليا توجب في رأي عمر أن توحد العقيدة في شبه الجزيرة كلها؛ لذلك كان من أول ما استفتح به عهده أن أجلى نصارى نجران عن شبه الجزيرة، فأمر يعلى بن أمية ألا يفتنهم عن دينهم، وأن يخرج منهم من أقام على نصرانيته، وأن يعطوا بالعراق أرضا كأرضهم بنجران، وأن تحسن معاملتهم، كذلك فعل بمن بقي من اليهود بخيبر أو بفدك: أجلاهم عن أرضهم إلى الشام، وعوضهم عنها بمال يعدل قيمتها، ولم يسئ إلى أحد منهم، بذلك خلصت شبه الجزيرة من كل عقيدة إلا الإسلام، فتوطدت فيها قواعد الوحدة التي قصد إليها أمير المؤمنين.
هذا تصوير واضح للباعث الذي دفع عمر إلى إخراج اليهود والنصارى من شبه الجزيرة، وهو في ذلك لم يخالف سنة ولم يخرج عليها، فعهد رسول الله مع اليهود والنصارى لم يكن سنة تثبت حكما، بل كان سياسة تغيرت في عهد الرسول، فلا بأس بأن تتغير بعده، وإنما غيرها عمر؛ لأن أحداث الوقت، وامتداد الفتح، وشدة الحرص على تمكين أواصر الوحدة في شبه الجزيرة قضت بتغييرها، وما كان عمر ليجمد على عهد تغير عليه العهد، وأصبح مضرا بمصلحة الدولة وسياستها العليا، فكيف به وهو موقوت بطبيعته؛ ينقضي بانقضاء مدته، ولا يتجدد إلا إذا رضي أمير المؤمنين تجديده!
لا يحسب أحد أني أنسب لعمر ما لم يدر بخاطره من التفكير في وحدة العرب؛ فقد أجمع المؤرخون على أنه استند في إجلاء اليهود والنصارى على ما روي عن رسول الله أنه قال: «لا يجتمع ببلاد العرب دينان .» وما ذكره البلاذري وغيره من أن عمر رأى أن أهل نجران كثروا، فخافهم على الإسلام، فأجلاهم، وأمر عماله بالعراق والشام أن يعوضوهم من أرضهم وأن يحسنوا معاملتهم، ولو أنه أجلاهم لأنهم نقضوا عهدهم لما لطف بهم كل هذا اللطف، ولما أحسن معاملتهم كل هذا الإحسان.
لا يكفي لتثبيت دعائم الوحدة في بلاد العرب ألا يبقى بها دين غير الإسلام، إذا بقي من الفوارق بين أهلها ما يجعلهم يشعرون بأن بعضهم أكثر حرية أو أوفر كرامة من بعض، وإذا لم تقم المساواة الصحيحة بينهم علما على سلامة تضامنهم، وقد بقيت بعض الفوارق بينهم بسبب الردة والحروب التي قضت عليها، أما وعمر يريد الوحدة صحيحة فلا بد من القضاء على هذه الفوارق بإزالة أسبابها؛ لذا رفع عن أهل الردة ما كان أبو بكر قد فرضه عليهم ألا يحاربوا في صفوف المسلمين! كما أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم ورد حريتهم إليهم؛ لأنه كره أن يكون السبي سنة في العرب، بذلك استفتح عهدا جديدا سرى معه في نفوس العرب جميعا روح أشعرهم، على اختلاف مواطنهم من شبه الجزيرة، بأنهم أمة واحدة، لها هدف مشترك وتوجهها سياسة عامة ومصلحة عليا يهيمن عليهما أمير المؤمنين.
وهذه المصلحة العليا، التي أملت على عمر ما قدمت تحقيقا لوحدة العرب في ظل الإسلام، هي التي أملت عليه أن يجعل هجرة الرسول مبدأ للتاريخ العربي، فقد كان العرب إلى ذلك العهد يؤرخون بعام الفيل حينا، وببعض أيام العرب الكبرى حينا آخر، وإذا كانت هذه الأيام كلها جاهلية، وكان الإسلام يهدم ما كان قبله؛ فقد رأى عمر في هجرة النبي إلى يثرب أعظم حادث في تاريخ الإسلام لعهده
صلى الله عليه وسلم ، أن كانت هذه الهجرة مبدأ نصر الله رسوله وإعزازه دينه، وقد قويت الوحدة العربية بهذا الاختيار الموفق، زاده توفيقا أنه تم في السنة السادسة عشرة للهجرة، حين كانت أعلام المسلمين تسير مظفرة في بلاد كسرى وبلاد قيصر؛ تقتحم المدائن وتفتض الإيوان الأعظم، وتفتح بيت المقدس وتقيم فيه المسجد الأقصى إلى جانب كنيسة القيامة، وقد واجه عمر بهذا التاريخ المجيد تاريخ الفرس وتاريخ الروم فإذا هو أعظم منها ضياء؛ لأنه يمثل أجل حادث في تاريخ العالم.
ولا ريب أن اختيار هذا التاريخ كان إلهاما موفقا، وعلى هذا الإلهام الموفق كان عمر يعتمد في سياسته لمواجهة أحوال الدولة المتغيرة في تطورها السريع ملتمسا دائما ما يراه أصلح لها وأدنى إلى تحقيق أغراضها.
وكان طبيعيا أن يعتمد عمر في سياسته على قوة شخصيته وتوثب إلهامه؛ إذ كانت الدولة في أول نشأتها، وكانت الحروب في العراق والشام تقتضي أشد الحذر واليقظة، ولو أن ما واجه عمر يومئذ حدث في زماننا أو في أي زمان آخر، لقضت أحوال الحروب بإسناد الأمر إلى رجل موثوق به؛ تجتمع السلطة في يده لتنظيم جهود الحرب، والاضطلاع بتبعتها، وقد رأينا عمر وكيف استطاع أن يتم للعرب وحدتهم، ويكفل لهم حريتهم، وأن يضطلع في الوقت نفسه بتبعة الحرب، وأن ينظم ما اقتضته من جهد في يقظة ودقة امتدت إلى الدقيق والجليل من أحوال الجند وسيرهم، ومن كرهم وفرهم، حتى لقد كان يشارك أمراء الجند في وضع خطط القتال، بل كان هو الذي يضعها في كثير من الأحيان، فإذا تم الفتح رسم السياسة التي تجري في البلاد المفتوحة، وصور ما يجب القيام به من شئون الإصلاح فيها.
أفكان في مقدور عمر وهذه الأحداث تواجهه أن يبدأ عهده بأن يضع للحكم نظاما مفصلا يجري في بلاد العرب كلها، أو أن يتخذ من النظام الفارسي السائد في العراق، أو النظام البيزنطي السائد في الشام نظاما لشبه الجزيرة؟ ما أحسب شيئا من هذا دار بخلده، فشبه الجزيرة تختلف بتكوينها عن العراق والشام اختلافا جوهريا، وقد ألف العرب حياة لا تلائمها مركزية الفرس ولا نظم الروم، هذا لو أن الحرب لم تكن تشغله وتستنفد كل جهده، فكيف به وقد كان جنده في أول عهده يواجه في العراق أدق موقف، وكانت قواته في الشام تواجه من جيوش الروم ما يزيد عليها في العدد والعدة أضعافا مضاعفة! حسبه أنه جمع شبه الجزيرة في وحدة عربية إسلامية حرة تزيد أهلها اعتدادا بأنفسهم، وتزيدهم بذلك على الفتح قوة، وليدع التنظيم للزمن ينضجه في يسر في حدود كتاب الله وسنة رسوله.
ولو أنه حاول أن يفرض على البلاد المختلفة في شبه الجزيرة نظاما موحدا لأدى ذلك إلى نتائج لا يحمدها عمر ولا يحمدها المسلمون، فما كان أهل الحضر ليرضوا نظام البدو، ولا أهل البدو ليرضوا نظام الحضر، لقد اغتبط الناس بما أمر به عمر من رد السبي إلى عشائرهم، ومن رفع الحظر عن أهل الردة؛ فليدعهم في اغتباطهم ليزدادوا تضامنا، وليدفعهم تضامنهم إلى تلبية ندائه لمواجهة الموقف الحربي والتغلب على دقته، ولا ضير في أثناء ذلك أن تبقى الأمور جارية مجراها في اليمن وفي غير اليمن من أرجاء شبه الجزيرة، وأن يكتفي عمر بأن يبعث إلى كل إمارة منها واليا من قبله يمكن سلطان المدينة فيجبي من الناس الصدقات، ويقيم بينهم حدود الله، ويفقههم في دينهم لينظموا حياتهم بموجب أحكامه، وأن يبقى لكل أمة وكل قبيلة فيما وراء ذلك من الاستقلال الذاتي ما ألفته منذ أجيال، وألا تتعدى الروابط المشتركة بين هذه الإمارات شئون الدولة العامة، أما وقد كان هذا شأنها فمن حقنا أن نستعير تعبير القانون الدولي في عهدنا الحاضر، وأن نسمي هذه الروابط اتحادا كاتحاد الولايات الأمريكية المتحدة أو الولايات السويسرية.
كانت المدينة عاصمة هذا الاتحاد، ولم يكن ظفرها بالمرتدين هو وحده الذي جعل لها هذا التقدم، فلو أن الردة لم تحدث لكان طبيعيا أن تكون المدينة هي العاصمة الإسلامية الأولى، وأن يكون لها التقدم على جميع الحواضر والبوادي؛ فهي التي آوت رسول الله وعززته ونصرته، وقد نزل بها من القرآن أكثر مما نزل بمكة، وفيها اجتمع المهاجرون والأنصار الذين استمعوا إلى رسول الله وعرفوا سنته، والذين أعزوا دين الله ونصروه؛ فكانت منزل الوحي المحمدي، ومصدر التشريع الإسلامي، ومقر السابقين الأولين إلى الدين الذي ضوى العرب كلهم إلى لوائه، ثم إن رسول الله قد اتخذها عاصمته، ووجه منها رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، لا عجب وذلك شأنها أن تكون العاصمة، وأن تشد إليها الأنظار من كل صوب وحدب، فلما ظفرت بعد ذلك بالمرتدين، ثبت هذا الظفر سلطانها ومده على أرجاء شبه الجزيرة كلها، بذلك ظلت مركز الحكومة الإسلامية إلى أن انتقل الأمر إلى دمشق في عهد معاوية بن أبي سفيان.
وكان نظام الحكم بالمدينة في عهد عمر قائما على الأساس الذي قام عليه في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر من بعده، وكان هذا الأساس هو الشورى، استنادا إلى قوله تعالى:
وأمرهم شورى بينهم ، وإلى قوله تعالى مخاطبا نبيه:
وشاورهم في الأمر ، وقد كان رسول الله يشاور أصحابه، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر، وكان يقول لهما: «وايم الله لو أنكما متفقان على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا.» وكان أبو هريرة يقول: «ما رأيت أحد قط كان أكثر مشاورة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» فلما استخلف أبو بكر واستفتح عهده بأن وجه أسامة بن زيد لحرب الروم، استأذنه في بقاء عمر بالمدينة، ليشير عليه مع غيره من الصحابة، وكذلك فعل عمر فجعل الشورى أساس حكمه.
لم تكن الشورى يومئذ نظاما أريد به الحد من سلطان الخليفة على ما يفهم الناس اليوم في النظام البرلماني، ولم تكن لأصحاب الرأي الذين يشيرون على الخليفة حقوق يفرضون بها رأيهم عليه؛ بل كان الخليفة مطلق السلطان مع هذه الشورى، وحسابه على الله، وعلى نفسه، وعلى الشعب الذي بايعه، فإذا تجاوز الحق وعصى الله ورسوله ولم يردعه حساب ربه وحساب نفسه، كان على الشعب أن يقوم اعوجاجه بحد السيف.
ولم يكن الانتخاب بالصورة التي نعرفها اليوم أساس تلك الشورى، بل كان الخليفة هو الذي يختار من يستشيرهم، ثم كان يفاضل بين آرائهم، فيأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء، وكان أهل الرأي في عهد رسول الله هم المهاجرين والأنصار المقيمين بالمدينة، وكانوا جميعا حوله، يستمعون إليه ويشيرون عليه ويسيرون معه في غزواته، فلما كان عهد أبي بكر ذهب كثيرون إلى الميادين في العراق والشام، ثم بقي كبار الصحابة من قريش إلى جانبه، وكذلك كان الشأن في عهد عمر؛ بقي إلى جانبه أعلام الصحابة من المهاجرين والأنصار، يمحص على ضوء آرائهم كل مسألة لا يجد لها حكما في كتاب الله ولا في سنة رسوله، هؤلاء كانوا خاصة أصحاب المشورة، وكان في مقدمتهم العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ومن إليهم، على أن عمر كان يلجأ في كثير من الأحيان إلى الشورى العامة، فكان يدعو الناس إلى المسجد بالمدينة أو يدعوهم إلى صلاة جامعة حيثما كان، فيعرض عليهم ما يريد أن يستشيرهم فيه، ولمن شاء منهم أن يدلي بالرأي الذي يعن له، بل لقد كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم، فإذا انكشف له وجه الرأي من الشورى العامة فاعتزم أمرا أنفذه، وإذا استبهم عليه الرأي عاد إلى خاصته يستمع إليهم ويناقشهم حتى يطمئن إلى ما يؤمن بأنه الصواب.
ولقد رأينا الكثير من مشاورات عمر العامة والخاصة فيما سبق من هذا الكتاب، رأيناه يستشير الناس بعد مقتل أبي عبيد بالعراق يسألهم رأيهم ماذا يصنع، قال العامة: سر وسر بنا معك، وأجمع الخاصة على أن يبعث رجلا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش إلى العراق، ويبقى هو بالمدينة يمد هذا الرجل، عند ذلك جمع الناس وقال لهم: «يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج؛ فقد رأيت أن أقيم وأن أبعث رجلا.»
ورأيناه يسير إلى الشام، فيلقاه أمراء جنده فيذكرون له أن الأرض سقيمة، وأن فتك الطاعون شديد، فيجمع الناس يستشيرهم: أيتابع طريقه إلى الشام مع الوباء، أم يعود أدراجه إلى المدينة؟ فيختلف الناس: يشير قوم بالسير، ويشير آخرون بالرجوع، فينتهي إلى رأي الآخرين ويرجع أدراجه بمن كان معه.
وكان يرى الشورى نظاما أساسيا واجب التطبيق في أرجاء الدولة كلها، يأمر الولاة وأمراء الجند به، فيقول لأبي عبيد يوم بعثه إلى العراق: «اسمع من أصحاب رسول الله وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا فإنها الحرب لا يصلحها إلى الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة.» وكذلك كان يفعل مع الولاة سواء منهم من ولي شئون الحرب ومن ولي غيرها.
لاحظ قوم أن أولي الرأي من قرابة رسول الله إنما كانوا فيمن يشيرون على عمر، وأنه لم يجعل أحدا منهم على إمارة الجند، ولم يول منهم أحدا في بلاد العرب ولا في البلاد المفتوحة، ومن أصحاب هذه الملاحظة من يذهب بهم الظن إلى أن عمر بقي في نفسه من بني هاشم شيء بعد موقفهم من بيعة أبي بكر، ولا أراني أشارك أصحاب هذا الرأي في رأيهم، وتخلف بني هاشم عن بيعة الصديق موضع ريبة عندي، ولو أن قصة تخلفهم صحت لما جاز أن يكون لها في نفس عمر أثر إبان خلافته؛ فقد بايعوا أبا بكر جميعا من بعد، ولما أوصى أبو بكر باستخلاف عمر لم يخالفه أحد من بني هاشم، بل كانوا أول من بايعه، وقد كان لهم من الحظوة في خلافته ما لم يكن لأحد من المسلمين، وسنرى هذه الحظوة بارزة، عند الحديث عن تدوين الديوان وفرض العطاء، بروزا ترك في حياة المسلمين وفي تقاليدهم أثرا لا يزال باقيا إلى اليوم، وكثيرا ما كان عمر يقدم قرابة النبي تقديما يشهد بإكباره لهم وإعظامه إياهم، وقد رأينا استشفاعه إلى الله عام المجاعة بالعباس عم رسول الله، ورأيناه يستخلف علي بن أبي طالب على المدينة حين ذهب إلى الشام لصلح بيت المقدس، وما أكثر ما كان يشيد بفضل ابن عباس وعلمه وأدبه! فلما حضرت عمر الوفاة وأوصى بالشورى جعل الخلافة في ستة أشخاص بينهم علي بن أبي طالب، وليس شيء من هذا بشأن رجل في نفسه على بني هاشم موجدة.
فلم إذن لم يجعلهم على إمارة جند، ولم يول منهم أحدا في بلاد العرب أو في البلاد المفتوحة؟! قد تأخذ منك الدهشة إذا قيل لك إنه لم يولهم إكراما لقرابتهم من رسول الله، وهذا المعنى يستفاد مع ذلك من قوله يوما لابن عباس: «إني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل الناس وترككم ... والله ما أدري أصرفكم عن العمل ورفعكم عنه وأنتم أهل ذلك، أم خشي أن تعاونوا لمكانكم منه فيقع العتاب عليكم، ولا بد من عتاب.»
يذهب بعضهم إلى أن هذا الكلام، إن صحت نسبته إلى عمر، إنما كان اعتذارا فيه لطف وتجمل، وأنه اعتذار يخفي ما انطوى عليه عمر من حذر من بني هاشم ومن كبار الصحابة ورءوس قريش، وأصحاب هذا الرأي يذهبون إلى أنه استبقى هؤلاء جميعا بالمدينة، وجعلهم من أصحاب مشورته؛ لأنه خشي إن هم تفرقوا في أرجاء الدولة وتولوا السلطان فيها أغراهم ذلك بالاستئثار بما في أيديهم والانتقاض على سلطان المدينة، اعتمادا على مؤازرة المناطق التي يلونها وتأييدها لهم فيما يبغونه من أغراض، وأصحاب هذا الظن يذكرون أن عمر قد عزل خالد بن الوليد بدافع من هذا الحذر، وأنه كان شديد الحساب لولاته في مختلف الولايات، سريعا إلى عزلهم لمجرد الريبة فيهم، حتى لا تحدث أحدهم نفسه بأنه أصبح صاحب السلطان في منطقته، ولو أن هذا الظن صح لما عيب به عمر ولا طعن في سياسته؛ فالحذر بعض ما يجب على من يلي أمر أمة من الأمم، وبخاصة في مثل الأحوال الدقيقة التي كانت تحيط بالمسلمين في ذلك العهد، على أني لا أرى لهذا الظن ما يسوغه؛ فهو لا يتفق وما عرف عن عمر من صراحة وبأس، ولا يتفق وما عرف عن المسلمين في هذا العصر الأول من تضامن زاده إيمانهم الصادق بالله وبرسوله قوة وتثبيتا، هذا إلى أن المخاطر التي كانت محيطة بهم كانت قمينة أن تصرفهم عن مثل هذا التفكير، وكيف يظن أحدهم في نفسه القدرة على مواجهة الفرس في العراق أو الروم في الشام إلا أن تكون وراءه قوة الإسلام والمسلمين مجتمعة؟ وكيف تحدث أحدهم نفسه بالاستئثار بالسلطان في فارس أو في مصر وهو بحاجة في كل حين إلى مدد يأتيه من شبه الجزيرة، فإذا أبطأ عليه المدد عجز عن مواجهة الموقف الذي هو فيه! وقد ظل الأمر كذلك طيلة عهد عمر؛ لأن الحرب طيلة عهده كانت سجالا متغيرة المصاير، وقد رأينا عاهل الفرس قبيل مقتله يستعدي الترك والصين لمناجزة المسلمين، ورأينا الروم لا ينقطع تفكيرهم في الرجعة إلى مصر واستردادها، لا مسوغ مع هذا كله للظن بأن عمر استبقى بني هاشم ورءوس قريش بالمدينة حذرا منه، كما أنه لا مسوغ للظن بأنه بقي في نفسه شيء من بني هاشم لما قيل من تخلفهم عن بيعة أبي بكر.
والواقع أن عمر لم ينكر على بني هاشم أن يكون لهم ما لغيرهم من حق في الخلافة، وإنما أنكر عليهم أن يستأثروا بها على أنها ميراث لهم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وذلك قوله لابن عباس فيما تثبته بعض الروايات: «إن الناس كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، وإن قريشا اختارت لنفسها فأصابت.» ولهذا جعل علي بن أبي طالب في الستة الذين أوصى باستخلاف أحدهم من بعده.
استبقى عمر بالمدينة بني هاشم وكبار الصحابة ورءوس قريش ليشيروا عليه بما أوتوا من عقل راجح وحكمة وحنكة؛ لأن الشورى كانت أساس الحكم، وإذ كان أمير المؤمنين صاحب الرأي الأخير والقول الفصل في كل أمر، فقد كان عليه لقاء ذلك كل التبعة عن سياسة الدولة، بذلك اجتمعت في يده السلطات كلها، فكان المشرع في حدود كتاب الله وسنة رسوله، وكان المنفذ، والقاضي، والقائد الأعلى للجيش، وقد نهض عمر بتبعات ذلك كله، فخلد التاريخ اسمه وأضفى عليه هالة مضيئة بنور العظمة والجلال.
ونهوضه بهذه التبعات الجسام يثير في النفس غاية الإعجاب، ويدعو كثيرين للتساؤل عن السر في قدرته هذه القدرة العجيبة، وهذا السر مع ذلك لا يخفى على من صدق القصد لمعرفته؛ فهو يرجع إلى إنكار عمر نفسه، وإلى تجرده للقيام بواجبه شعورا منه بجسامة هذا الواجب، فهو لم ينظر من الخلافة إلى سلطانها وظاهرها، وإنما كان كل نظره إلى القيام بأعبائها وتبعاتها؛ لذلك لم يبطره سلطانها المطلق، ولم يزدهه مظهرها البراق، وقد بلغ شعوره بهذا الواجب مبلغا لا يقص التاريخ في عصر من العصور نظيره، ولا أحسب تعبيرا يصور هذا الشعور خيرا من قوله هو: «كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما يمسهم؟!» وقد جعله هذا الشعور يضع نفسه موضع الضعيف والفقير ليشعر شعورهما، فيأخذ للضعيف حقه من القوي، ويدفع عن الفقير غائلة الفقر، وأنت تذكر من أمثلة ذلك ما كان منه عام الرمادة حين قسا على نفسه، فلم يطعم طوال ذلك العام سمنا ولا لحما، حتى شحب واسود لونه وخاف الناس على حياته، وقد بلغت منه خشية الزهو مبلغا يكفي بعض ما ورد من الروايات عنه ليكون عجبا. روي عن أنس أنه قال: كنت مع عمر، فدخل حائطا، فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار الحائط: «عمر بن الخطاب أمير المؤمنين؟ بخ بخ! والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك!» وقيل: إنه حمل يوما قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: «إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها.»
ولم يغره اتساع رقعة المملكة في عهده بأن يجلس في إيوان غير المسجد لينظر في شئون الدولة، شأنه في ذلك شأن رسول الله وأبي بكر، وكان المسجد في السنوات الأولى من عهده باقيا كما كان يوم أقامه رسول الله، جدرانه اللبن وسقفه من سعف النخل، وكان في مقدور عمر أن يهدمه وأن يعيد بناءه فخما كفخامته في العصور التي تلت عهده، حتى يتفق مظهر مجلسه مع عظمة سلطانه، وما كان أحد ليؤاخذه لو أنه فعل؛ فقد نزل سعد بن أبي وقاص إيوان كسرى بالمدائن واتخذه مقر سلطانه، فلما تحول إلى الكوفة بنى لنفسه دارا سماها الناس: «قصر سعد» ولكن عمر لم يمس المسجد بتغيير في السنوات الأربع الأولى من خلافته، فلما ازداد أهل المدينة وضاق المسجد بهم، أمر بالزيادة فيه مستندا إلى ما كان رسول الله يقوله: «ينبغي أن نزيد في المسجد.» وكان عمر يقول: «لولا أنني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: ينبغي أن نزيد في مسجدنا، ما زدت.»
وحرص عمر حين أمر بالزيادة في المسجد على أن يجعله خالصا للصلاة ولشئون الحكم، فقد كان أهل المدينة يتخذون منه دار ندوتهم، ويتحدثون به في شئون تجارتهم، ويجعلون منه مكان سمرهم وتفاخرهم، حتى كان يعلو فيه اللغط أحيانا وأمير المؤمنين جالس ينظر في الجسيم من مهام الدولة؛ لذلك اتخذ إلى جانب المسجد بعد توسيعه مكانا سمي البطيحاء، وقال: «من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا فليخرج إليه.» على أن ما أحدثه عمر من الزيادة في عمارة المسجد لم يتجاوز توسعة رقعته وزيادة عدد أبوابه، أما سائره فبقي كما بناه رسول الله؛ إذ جعل أساس الجدر من الحجارة وما فوقه من اللبن، والعمد من الخشب، والسقف من الجريد، ومن هذا المسجد البسيط بناؤه كانت تصدر أوامر عمر إلى إمارات الجند؛ فإذا كسرى يفتض عليه إيوانه، وإذا قيصر يفر هاربا من الشام إلى القسطنطينية، وإذا الإسكندرية العظيمة عاصمة الحضارة العالية لذلك العهد تسلم مفاتحها للمسلمين!
لم تغير سعة الفتح شيئا كذلك مما أخذ عمر به نفسه من بساطة العيش، وما دعاه إليه إيمانه من ازدراء الدنيا، فقد جعل المسلمون له في أول خلافته مثلما جعلوا لأبي بكر من حق في بيت المال يقيمه ويقيم عياله، فلما تدفق الفيء على المدينة لم ينل عمر منه أكثر مما كان يناله رجل من المسلمين؛ ذلك أنه لم يكن يرى أن له بسبب الخلافة حقا يزيد عن حق غيره، وقد سئل يوما عما يحل له من مال الله، فقال: «أنا أخبركم بما أستحل منه؛ يحل لي حلتان: حلة في الشتاء وحلة في القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم.» وكان يقول: «إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.» وكان تعففه عما في بيت المال يبلغ به في بعض الأحيان حد الحرج، اشتكى يوما، فوصف له العسل، وفي بيت المال عكة منه، فلما كان على المنبر قال: «إن أذنتم لي فيها وإلا فإنها علي حرام.» فأذنوا له ورأى المسلمون ما رأوا من شدته على نفسه، فذهبوا إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، فقالوا لها: «أبى عمر إلا شدة على نفسه وحصرا، وقد بسط الله في الرزق فليبسط في هذا الفيء فيما شاء منه، وهو في حل من جماعة المسلمين.» وكأنما قاربتهم حفصة في هواهم، فلما دخل عليها عمر أخبرته بالذي قالوا، فكان جوابه: «يا حفصة بنت عمر، نصحت قومك وغششت أباك، إنما حق أهلي في نفسي ومالي، فأما في ديني وأمانتي فلا.»
وقد روى الفخري عن عمر قصة تشهد بشدة حرصه على مساواة نفسه بسائر المسلمين أصدق الشهادة، قال: «جاءت عمر بن الخطاب برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج في نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم، قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل: لا سمعا ولا طاعة، فقال عمر: ولم ذلك؟ قال الرجل: لأنك استأثرت علينا؛ لقد خرج في نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبا، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلا: أجبه يا عبد الله، فقال عبد الله: لقد ناولته من بردي فأتم قميصه منه، قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة.»
لم يبتغ عمر من الخلافة شيئا إذن لنفسه، بل كان يعد نفسه الحارس الأمين على مال المسلمين، كما كان الحارس الأمين على وحدتهم وحريتهم، وقد قربه ذلك إلى الناس وحببه إليهم، وزادهم محبة له أنه كان يرى الخلافة أبوة تلقي على الخليفة واجبات للمسلمين هي واجبات الأب نحو أبنائه، والحنان والبر أقدس عواطف الأبوة وأسماها، وكان عمر أشد الناس حنانا على المحتاجين إلى الحنان وأشدهم برا بهم؛ فقد كان يرى الحنان والبر بعض واجبات الحكم كإقامة العدل والمحافظة على الأمن سواء.
خرج ليلة إلى ظاهر المدينة ومعه مولاه أسلم، فلاح لهما بيت شعر فقصداه، فإذا فيه امرأة تبكي وقد جاءها المخاض، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة غريبة وليس عندي شيء، فعاد عمر يهرول إلى بيته وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ وأخبرها الخبر، قالت: نعم! وحمل عمر على ظهره دقيقا وشحما، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، ودخلت أم كلثوم على المرأة وجلس عمر يتحدث إلى زوجها وهو لا يعرفه، ووضعت المرأة غلاما، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل قولها استعظم صنيع عمر وأخذ يعتذر إليه، فقال له عمر: لا بأس عليك! ثم أعطاهم ما يصلحهم وانصرف.
وسمع عمر ليلة بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله تعالى، وأحسني إلى صبيك! فلما كان بعد قليل سمع بكاء الطفل كرة أخرى، فعاد إلى أمه يقول لها مثل قوله الأول، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي، فأتى إلى أمه فقال لها: ويحك أم سوء! ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟! قالت الأم: يا عبد الله إني أسكته عن الطعام فيأبى ذلك، قال عمر: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم، قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرا، فقال: ويحك! لا تعجليه عن الفطام! فلما صلى الصبح انفتل إلى الناس وقال لهم والدمع يملأ عينيه: بؤسا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.
وليس يجهل أحد قصة عمر إذ مر في أعجاز الليل بامرأة يتضاغى صبيانها حول قدر منصوبة على النار، فسألها: لم يتألمون؟ فقالت: من الجوع. قال: وأي شيء على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. فهرول عمر راجعا إلى دار الدقيق فأخذ منها جراب شحم وعدلا من الدقيق وعاد بهما يحملهما على ظهره ووضع من الدقيق في القدر وألقى عليه الشحم، وجعل ينفخ النار تحت القدر، حتى إذا طاب الطعام ناوله الأطفال فأكلوا وشبعوا وناموا، وانصرف من عند المرأة وهي لا تعرفه وهو يقول: الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم!
حبب هذا الحنان وهذا البر حكم عمر إلى الناس، وجعلهم يرون الخليفة أبا لكل ضعيف وكل يتيم وكل محروم، ثم حبب الفاروق إليهم عدل كان سليقة فيه، وحب للحرية والمساواة أيسره أنه كان يساوي نفسه بالضعفاء والفقراء، كان من أول ما خطب به الناس قوله:
والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.
وخطبهم يوما فقال:
إني لم أستعمل عليكم عمالا ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه.
وكتب إلى أمراء الأجناد:
لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم فتكفروهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.
وهو إنما كتب بذلك إلى أمراء الأجناد فيما لم يكن يستطيع أن يليه بنفسه؛ فأما ما قدر على مباشرته فلم يكن يكله إلى أحد غيره، وأنت تذكر كلمته أول خلافته: «والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد من دوني.» وقد بلغ من صدقه في ذلك أنه كان يلي الكبير والصغير من الشئون، فكما كان ينظم شئون الجند ويولي العمال ويدبر سياسة الدولة ويقضي بين الناس بالعدل، كان لا يذر صغيرة يستطيعها إلا قام بها، رآه علي بن أبي طالب يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ قال: قد ند بعير من إبل الصدقة فأنا أطلبه، قال علي: قد أتعبت الخلفاء من بعدك! وجاء عمر إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي ليلا، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفقة نزلت في ناحية من السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم، فأتيا السوق فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان، وبصرا بمصباح فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم! وانطلقا فإذا قوم على شراب لهم عرف عمر أحدهم، فلما أصبح دعاه إليه وقال له: كنت وأصحابك البارحة على شراب، قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: شيء شهدته، وأجابه الرجل: أولم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عمر عنه.
وبلغ من حرصه في آخر عهده على أن ينظر في أمور الناس بنفسه أن ود أن يتنقل في أرجاء الإمبراطورية يتفقد شئونها ويرى تصرف عماله فيها، روي عنه بعد فتح مصر أنه قال: «لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا كاملا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني؛ أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، فأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا!» لكن الأجل لم يطل به ليتم ما أراده.
كان عدل عمر ولا يزال مضرب المثل، ذلك أنه كان أشد عباد الله خشية لله ووجلا من حسابه، وكان يدرك ما يقتضيه الحكم بين الناس من أناة ودقة ومحاسبة نفس فإذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه وقال: «اللهم أعني عليهما؛ فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني.» ولم يكن به على أهله في إقامة العدل رأفة، بل كان إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: «لا أعلمن أحدا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت له العقوبة.» كان عبد الرحمن ابنه بمصر، فشرب هو وأبو سروعة فسكرا، فذهبا إلى عمرو بن العاص ليقيم الحد عليهما، قال عمرو: فزجرتهما وطردتهما، فقال عبد الرحمن: إن لم تفعله أخبرت أبي إذا قدمت عليه، فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب علي وعزلني، فأخرجتهما إلى صحن الدار وضربتهما الحد، ودخل عبد الرحمن بن عمر إلى ناحية الدار فحلق رأسه، ووالله ما كتبت لعمر بحرف مما كان حتى جاءني كتابه فإذا فيه:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، عجبت لك يا بن العاصي وجرأتك علي وخلافك عهدي، فما أراني إلا عازلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني، إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنعه بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين! وقد عرفت أن لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع.
فبعثت به كما قال أبوه، وكتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه أني ضربته في صحن داري، وبالله الذي لا يحلف بأعظم منه إني لأقيم الحدود في صحن داري على الذمي والمسلم، وبعثت الكتاب مع عبد الله بن عمر، فقدم بعبد الرحمن على أبيه، فدخل وعليه عباءة ولا يستطيع المشي من سوء مركبه، فقال: يا عبد الرحمن فعلت وفعلت! فكلمه عبد الرحمن بن عوف وقال: يا أمير المؤمنين قد أقيم عليه الحد، فلم يلتفت إليه وجعل عبد الرحمن بن عمر يصيح: إنني مريض وأنت قاتلي! وتجري الرواية بأنه مع ذلك أقام عليه الحد ثانية، فضربه وحبسه فمرض ثم مات.
وكان لا يفرق في عدله بين أمير وسوقة، ولا بين وال ورعية، سقنا من قبل قصة الأمير الغساني جبلة بن الأيهم، وكيف أراد عمر أن يقتص منه للأعرابي الذي ضربه. وضرب محمد بن عمرو بن العاص مصريا بالسوط وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، وحبس ابن العاص المصري مخافة أن يشكو ابنه إلى الخليفة، فلما أفلت الرجل من محبسه ذهب إلى المدينة وشكا لعمر ما أصابه، فاستبقاه عنده واستقدم عمرا وابنه من مصر، ودعاهما إلى مجلس القصاص؛ فلما مثلا فيه نادى عمر: أين المصري؟ دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين! وضرب المصري محمدا حتى أثخنه وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! فلما فرغ الرجل وأراد أن يرد الدرة إلى أمير المؤمنين قال له «أحلها على صلعة عمرو ، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه!» قال عمرو: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واستشفيت، وقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد ضربت من ضربني، فقال عمر: إنك والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، والتفت إلى عمرو مغضبا وقال: «أيا عمرو! متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!»
ليس من غرضي أن أفصل ها هنا قضاء عمر، فليس هذا الفصل موضع تفصيله؛ وإنما أردت بما قدمت أن أشير إلى شدته في العدل ودقته في إقامته، ومساواته بين الناس فيه مساواة عبر هو عنها بقوله: «لا أبالي إذا اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق.» وترجع شدته على ذويه وعلى عماله وذويهم إلى اقتناعه بأنه لا سبيل إلى كفالة الحرية والعزة والكرامة للأمة إلا أن يسوي العدل بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والأمير والسوقة، والولاة أجسم من المحكومين تبعة؛ لأن الحكم يغريهم بالبطش إذا لم يجدوا من يردعهم عنه.» وذلك قوله: «إن الناس لا يزالون مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم.» وقوله: «الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا.» وهو لذلك كان يرى مكان عماله منه مكان الرعية من عماله؛ هو مسئول عنهم كما أن العامل مسئول عمن تولى عليهم، فإذا ظلم العمال الرعية وجب أن يقتص منهم كما يقتص من أي فرد في المدينة ظلم غيره، وقد عبر عن شعوره بهذه التبعة بقوله: «أي عامل ظلم أحدا فبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته.»
كملت لعمر صفات الزهد والرأفة والعدل والبر بالفقير والمحروم، فحببت إلى الناس حكمه، وهونت عليهم ما كان فيه من شدة وغلظة، وما كان له من هيبة تصد عنه كثيرين، فلولاها لرفعوا إليه حوائجهم فقضاها لهم، وشدته هي التي جعلته يحمل الدرة يؤدب بها من يخرجون عن المألوف من أدب الجماعة، لا يفرق فيمن يصيبه بها من هؤلاء بين كبير وصغير، وزاد حمله الدرة في هيبة الناس له وخوفهم منه مع إيمانهم ببره وعدله ورحمته، اجتمع علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وكان عبد الرحمن أجرأهم على عمر، فقال له إخوانه: يا عبد الرحمن! لو كلمت أمير المؤمنين للناس، فإنه يأتي الرجل طالبا الحاجة فتمنعه هيبته أن يكلمه حتى يرجع ولم يقض حاجته، ودخل عبد الرحمن على عمر فقال له: «يا أمير المؤمنين! لن للناس؛ فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك.» قال عمر: «يا عبد الرحمن أنشدك الله، أعلي وعثمان وطلحة والزبير وسعد أمروك بهذا؟» قال ابن عوف: اللهم نعم! فأردف عمر: «يا عبد الرحمن، لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدة، فأين المخرج؟!» فخرج عبد الرحمن يبكي ويقول: أف لهم من بعدك! أف لهم من بعدك!
هذه أمثلة تصور لك كيف نهض عمر بتبعات الحكم، وتكشف لك عن السر في قدرته الممتازة على الاضطلاع بأعبائه الجسام على نحو لا يزال مثارا لعجب الناس وإعجابهم، كما تبين لك كيف كان نظام الحكم في عهد عمر من الأسباب التي هيأت لامتداد الفتح ودفعت المسلمين إليه ورغبتهم فيه، لقد كانوا يرون أمير المؤمنين خير كفيل بحقوقهم وبمن يخلفون وراءهم من عيالهم، وكانوا يرونه يؤثر على نفسه وأهله، ويؤدي لكل ذي حق حقه، فلا جرم إنهم ليندفعون إلى ميادين القتال وكلهم الطمأنينة إلى غدهم وإلى مصير أبنائهم وذويهم، وما ضر أحدهم أن يقتل في سبيل الله وفي سبيل الإمبراطورية الإسلامية، وهو على يقين من أن بنيه سيحزون إذا استشهد بخير مما يجزون إذا ظل حيا، وأنه ستنفتح له أبواب الجنة بما وهب لله نفسه مجاهدا في سبيله!
يثبت المؤرخون الغربيون لعمر هذه الصفات ويشيدون بها، ثم يذهب بعضهم إلى أنها إن صورت نظاما للحكم فهو النظام العربي المعروف في ذلك العهد، والذي يشبه كل الشبه نظام القبائل؛ إذ يتولى أمرها أكثر رجالها قدرة على التسلط عليها بقوته في الذود عن حماها، أو بحزمه في إدارة شئونها، أو بدهائه وحسن رأيه في توطيد صلاتها بغيرها من القبائل، فقد كان هذا الشيخ يجمع في يديه السلطات كلها على نحو ما كان يجمعها عمر في يديه، وكان يتخذ من العرف المألوف شرعته، يقضي على أساسه بالقصاص أو بالدية بين رجال قبيلته، ويقضي بأيهما إذا رفع له الأمر مجني عليه أو ولي دم من قبيلة أخرى يطلب الحق ممن اعتدى عليه أو على من كان هو ولي دمه، من قبيلة هذا الشيخ، وهؤلاء المؤرخون يذكرون أن القرآن نظم هذا العرف المألوف عند العرب وهذبه، ولكنه لم يخرج بالعرب على نظامهم الذي جروا عليه من قبل، فحكومة عمر وحكومة أبي بكر من قبله إنما قامتا على أساس من هذا النظام العربي لم تتعديا قواعده، فكانتا أدنى إلى نظام البداوة منهما إلى نظام الحضر الذي عرفه الفرس والروم في ذلك الزمان.
ولا ريب أن حكومة أبي بكر كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بنظم الروم ولا بنظم الفرس، وكانت لذلك بسيطة بساطة النظام البدوي المعروف يومئذ في كثير من أرجاء شبه الجزيرة، لكنها مع هذه البساطة كانت الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، وكانت الطور الطبيعي لنظام بدأ يتغير في عهد الرسول، فقد كانت يثرب يوم نزلها رسول الله تتألف كغيرها من بلاد العرب من قبائل لا تعترف أيتها بسلطان لغيرها عليها، وكانت الحرب لذلك تقوم بين الأوس والخزرج تارة، وبين العرب واليهود من أهل يثرب تارة أخرى، ثم لا تجمع كلمه هؤلاء وأولئك إلا إذا دهمهم خطر من الخارج، فلما استقر رسول الله بالمدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار، ثم أجلى اليهود عنها، زال ما كان بين قبائلها وبطونها من فوارق، فاجتمعت كلمتها وأصبحت وحدة مدنية شريعتها القرآن، وولي أمرها رسول الله، وقد كان هذا تطورا في نظام الحكم لم يألفه أهل الحجاز، لكنه لم يلبث بعد فتح مكة أن انتقل من المدينة إلى أم القرى ثم انتقل منهما إلى الطائف بعد غزاة حنين.
ولما أرسلت المدن والقبائل وفودها إلى المدينة قبل عام من وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تعلن إسلامها بين يديه، فبعث إليها رجالا من أصحابه يفقهون الناس في دينهم ويقبضون منهم الصدقات، كان هؤلاء الرجال طليعة الانتقال الذي تطورت إليه العرب رويدا رويدا، فلما كانت الردة أبلى هؤلاء الرجال كما أبلى غيرهم في القضاء عليها أحسن البلاء، فجعلوا للمدينة بذلك من حق الفتح ما لم يستطع أحد من العرب إنكاره، وزاد ذلك في سلطان العمال والولاة الذين عينهم أبو بكر، فلم يبق هذا السلطان مقصورا على تفقيه الناس في دينهم وتسلم الصدقات منهم، بل صار لهم في البلاد التي تولوا أمرها ما لشيخ القبيلة أو أمير المدينة من حق؛ فاجتمع في أيديهم سلطان التنفيذ والقضاء وإمارات الجند، مع مسئوليتهم الكاملة أمام الخليفة عن تصرفاتهم في ذلك كله.
1
آل الأمر إلى عمر بعد أن صدقت عودة العرب كلهم إلى إسلامهم؛ فلم يبق مسوغ للحذر منهم والخوف من انتقاضهم، وكيف يخشاهم عمال الخليفة وقد سار أبطالهم من كل القبائل إلى ميادين الجهاد في سبيل الله يقاتلون ويقتلون! لذا رأى عمر أن يزيد وحدتهم متانة، فأمر عماله عليهم أن يكونوا على مثاله حزما وعدلا وبرا ورحمة، وأن يسووا بين العرب في المعاملة على اختلاف منازلهم من شبه الجزيرة.
ولهذا الغرض أصدر وصاياه لعماله بما قدمنا، فهو لم يكن يبعثهم إلى العرب ليذلوهم، بل ليقيموا بينهم حدود الله بالعدل والقسط، وذلك قوله لهم: «اجعلوا الناس عندكم سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب! فقوموا بالحق ولو ساعة من النهار.» ولقد كان يرى نفسه مسئولا أمام ضميره وأمام الله عن إقامة هذا العدل في كل مكان، فإذا ظلم عامله في أقصى الأرض رجلا فكأنما هو الذي ظلمه، قال يوما لمن حوله: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت الذي علي؟» قالوا: نعم! قال: «لا! حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته به أم لا.» وكان لذلك شديد الحساب لهؤلاء العمال شدة رأينا مظاهرها في عزل خالد بن الوليد، ومقاسمة عمرو بن العاص، والروايات تثبت من هذه الشدة في المحاسبة قصصا لا يكاد الإنسان يصدقها، قيل: إن أبا عبيدة كان يوسع بالشام على عياله، فلما بلغ عمر ذلك نقصه من عطائه حتى شحب لونه وتغيرت ثيابه وساء حاله، فلما عرف عمر ما صار إليه أمره قال: «يرحم الله أبا عبيدة! ما أعف وأصبر!» ورد عليه ما كان حبسه عنه، وبلغ من شدة عمر في محاسبة عماله أن كان يعزل أحدهم أحيانا لشبهة لا يقطع بها دليل، وقد يعزل لريبة لا تبلغ حد الشبهة، ولقد سئل في ذلك يوما فقال: «هان شيء أصلح به قوما أن أبدلهم أميرا مكان أمير.»
وقد رأيناه غير مرة عزل عمالا عن عملهم لغير ريبة فيهم، بل التماسا لمصلحة يراها في عزلهم، من ذلك أنه عزل سعد بن أبي وقاص عن إمارة الكوفة لغير شيء إلا أن طائفة من أهل هذه المدينة ثاروا به وقالوا لعمر: إنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، وقد بعث عمر محمد بن مسلمة إلى الكوفة، فرأى الناس جميعا راضين عن سعد مع ذلك عزله خوف الفتنة؛ لأن جيوش الفرس كانت تتجمع للغزو والثأر.
وكان عمر يجمع عماله بمكة في موسم الحج من كل عام، يسألهم عن أعمالهم، ويسأل الناس عنهم، ليرى مبلغ دقتهم في الاضطلاع بواجبهم وتنزههم حين أدائه عن الإفادة لأنفسهم أو لذويهم؛ فقد كانت النزاهة مقدمة عنده على كل شيء، ولذلك كان يحصي أموال الولاة قبل ولايتهم، فإذا زادت بعدها زيادة تضع نزاهتهم موضع الشبهة، قاسمهم مالهم، وقد يستولي على كل زيادة فيه، ثم يقول لهم: نحن إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارا.
على أن هذه الشدة في محاسبة الولاة لم يكن يقصد منها إلى إضعاف سلطتهم أو تهوين هيبتهم؛ فقد كانت أيديهم مطلقة، وأحكامهم نافذة، وسلطانهم مساويا لسلطان عمر ما عزموا العدل ولزموه، فإذا اعتدى عليهم مع ذلك معتد ، أو استهان بأمرهم مستهين عوقب أشد العقاب، حصب أهل العراق إمامهم استهانة بأمره، وكانوا قد حصبوا إماما قبله؛ فغضب عمر وقال لأهل الشام: «تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ.» ثم إنه كان يسمع لحجة عامله، فإذا أقنعته لم يخف اقتناعه بها وثناءه على عامله بعدها، قدم الشام راكبا حمارا، فتلقاه معاوية بن أبي سفيان في موكب عظيم؛ ونزل معاوية وسلم على عمر بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! فالتفت عمر إلى معاوية وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟ قال معاوية: نعم! قال عمر: مع شدة احتجابك ووقوفك ذوي الحاجات ببابك؟! قال معاوية: نعم، قال: ولم! ويحك! وأجابه معاوية: «لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو؛ فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإن استنقصتني نقصت وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت.» قال عمر بعد أن سكت هنيهة: «ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه! إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك!»
وكان عمر يشتد اغتباطه حين يرى عماله يتجردون لخير الرعية، ويثني عليهم لذلك أعظم الثناء. ولى عمير بن سعد على حمص ثم كتب إليه: «أقبل بما جبيت من فيء المسلمين.» فلما أقبل سأله عما صنع فقال: «بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم فيئهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به.» قال عمر: «فما جئتنا بشيء.» فلما أكد له أن أنفق كل شيء على أهل حمص قال: «جددوا لعمير عهدا.»
وعمير هذا هو الذي قال وهو على منبر حمص: «لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف أو ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.» ليس عجبا وهذه الكلمة الحكيمة سنته أن يقول عمر فيه: «وددت لو أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أعمال المسلمين.»
كان هؤلاء العمال يلون في أول عهد عمر ما يليه هو بالمدينة؛ فيجمعون بين سلطان القضاء والتنفيذ وإمارة الجند، على أن عمر ألفى نفسه بعد قليل من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامة وسياستها العليا عما كان قد عول يوم بويع على أن يضطلع هو به، كانت أنباء جنده بالعراق والشام تستغرق الكثير من وقته وانتباهه، وكانت تصرفات عماله في أرجاء الدولة المختلفة موضع عنايته وتفكيره، ثم إن مصالح الناس بالمدينة كانت تزداد تشابكا وتعقدا بازدياد عدد ساكنيها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدم الفتح، وما يقتضيه من تنظيم لشئون البلاد التي تم الاستيلاء عليها، يدعوه أن يكتب إلى أمراء جنده بما يعن له من آراء في هذا التنظيم؛ لذلك لم يكن بد من أن يولي أعوانا له يقضون مصالح الأفراد فيما لا تتأثر به مصلحة الدولة.
وكان أول ما صنعه من ذلك أن فصل قضاء المدينة عن سلطته، وأقام أبا الدرداء عليه، وجعل له اسم القاضي، وناط به الحكم بين الناس فيما يرفعون إليه من خصوماتهم، فلما تم تمصير الكوفة والبصرة وأقام العرب فيهما وكثرت المنازعات بين أفرادهما، جعل قضاء الكوفة لشريح، وقضاء البصرة لأبي موسى الأشعري، ولما فتحت مصر جعل القضاء بين المسلمين فيها إلى قيس بن أبي العاص السهمي، وكان هؤلاء القضاة يحكمون مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة رسوله، فكانت توليتهم أول خطوة في تنظيم السلطات وفصل بعضها عن بعض، على أنها كانت خطوة أدت إليها الحاجة وقضت بها ضرورات التطور في أحوال الدولة، وبقيت كذلك فلم تصبح مبدأ مقررا يطبق في أرجاء المملكة كلها إلا بعد زمن طويل من عهد الفاروق.
وكان اختيار عمر لقضاته موفقا كاختياره عماله، بل لعله كان أكثر توفيقا، ذلك لأنه كان عالما بالفقه والتشريع ضليعا فيهما، لا يكاد يعدله أحد في ذلك حتى لقد قال عنه ابن مسعود: «لو وضع علم عمر في كفة وعلم أحياء العرب في كفة لرجح علم عمر.» ولم يكن ذلك عجبا وقد كان عمر يتولى قبل إسلامه مهمة السفارة بين قريش وغيرها من القبائل، فلما أسلم لزم رسول الله وجعل يتلقى عنه كل ما يوحيه الله إليه، ويقف على سنته وعلى قضائه، هذا إلى ما كان له من فراسة صادقة في الرجال ومقدرة على زنة أقدارهم ببعض ما يراه من تصرفاتهم، وقصة توليته شريحا قضاء الكوفة خير شهيد على ذلك، فقد ساوم عمر رجلا على فرس ثم ركبه ليجربه فعطب، فأراد أن يرده إلى صاحبه فأبى، فقال له: اجعل بيني وبينك حكما، قال الرجل: شريح العراقي، فتحاكما إليه، فقال شريح بعد أن سمع حجة كل منهما: يا أمير المؤمنين، خذ ما ابتعت، أو رد كما أخذت! قال عمر! وهل القضاء إلا هكذا! وأقام شريحا على قضاء الكوفة، فبقي عليه ستين سنة.
ولا تزال كتب عمر وأقواله تشهد بسعة علمه في القضاء وأصوله وأحكامه. وكتابه إلى أبي موسى الأشعري قطعة من أدب القضاء خالدة على الزمان، فهو يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك! أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك بنظائرها؛ واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه ، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب؛ فإن الله سبحانه تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان، وإياكم والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته! والسلام.
أرأيت إلى المبادئ التي قررها عمر في هذا الكتاب! أليست هي هي المبادئ، التي يجري القضاء عليها اليوم في أكثر الأمم حضارة؟! بل أليست هي المبادئ الثابتة التي لم تتغير بتغير الزمان والتي تتناولها كتب الفقه والتشريع بالتعليق والشرح في عشرات الصحف ومئاتها! أوليس ما ذكره عمر، عن أدب القاضي وما يجب عليه أن يلزمه في معاملة الخصوم، بالغا غاية السمو! ولا عجب أن يصدر ذلك عن عمر وقد كان أبو بكر يعهد إليه في بعض شئون القضاء، وقد تولى هو القضاء بنفسه في العهد الأول من خلافته، ثم لا عجب وقد كان فقيها رصين العلم في الفقه؛ يأخذ في قضائه بخير ما يعرف في المسألة المعروضة عليه، فإذا استبهم عليه أمر استشار واجتهد رأيه، فكان اجتهاده موفقا بل كان حجة يأخذ بها من بعده مطمئنا إليها واثقا بها.
وهل غير القاضي النزيه العادل يقول ما قاله في بعض وصاياه لمن يلون القضاء:
إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو باليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله وإنما ضيع حقه من لم يرفق به!
كانت إقامة القضاة خطوة أدت إليها الحاجة وقضت بها ضرورات التطور في أحوال الدولة، ولم تكن تنظيما عاما أريد به تطبيق مبدأ لذاته؛ فقد بقي الفصل في الخصومات متروكا أمره للولاة الذين لم ترهقهم أعباء الولاية ولم تمنعهم من القيام به، وهؤلاء لم يعين عمر قضاة إلى جانبهم، بل ترك السلطات كلها مجموعة في أيديهم، لكن هذه الخطوة الأولى لم تلبث بعد سنوات أن أصبحت نظاما من نظم الدولة، فانفصل القضاء عن السلطة التنفيذية، وصارت للقضاة مكانتهم الخاصة، وأحيط مركز القاضي بكل ما يجب له من التجلة والاحترام.
عين عمر القضاة حين شغلته شئون الدولة العامة عن الفصل في خصومات الأفراد، فكان تعيينهم خطوة جديدة في تنظيم الحكم، وثم سبب آخر أدى إلى هذه الخطوة؛ فقد كثر الذين ينزلون المدينة ويتخذونها سكنا بعد أن أصبحت عاصمة الدولة، وبعد أن عظم رخاؤها لكثرة ما كان يرسل إليها ويقسم بين أهلها من الفيء، وأنت تذكر فيء المدائن وجلولاء وغيرهما من مدائن العراق، وفيء دمشق وحمص وغيرهما من مدن الشام، والرخاء وكثرة السكان يغريان الناس بالخصومة ويزيدان في أعباء القاضي، فلم يكن بد، وقد استغنى الناس وكثروا، من أن يفرغ لخصوماتهم من يفصل فيها فلا تشغل أمير المؤمنين عما هو أجسم منها خطرا وأجل مكانا، وكان الأمر كذلك بخاصة أن كانت الأموال التي تجبى إلى المدينة مطردة الزيادة باطراد الفتح وسعة رقعته، بل لقد بدأت هذه الأموال تشغل أمير المؤمنين نفسه، وتقتضيه أن يضع لها نظاما خاصا بها، فيكون وضعه طورا جديدا من أطوار الحكم، ومن أطوار الحياة الاجتماعية في بلاد العرب.
شغل عمر بكثرة الأموال التي كان عماله يبعثون بها، ورأى أن لا بد من وضع نظام لإحصائها وتوزيعها، ولم تكن هذه الأموال ما يؤديه المسلمون في شبه الجزيرة من الزكاة والصدقات، فتلك كانت توزع على الذين نزل فيهم قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها
إلى آخر الآية، وكان الكثير من هذه الصدقات لا يرسل إلى المدينة، بل يوزع على الفقراء والمساكين من أهل القبائل والأمم التي تؤديها، فأما ما كان يرسل منها إلى المدينة، ومعظمه من الإبل والماشية، ثم يفيض بعد التوزيع عن حاجة من ورد ذكرهم في آية الصدقات، فكان يوسم بميسم خاص ويوضع على مقربة من المدينة بمكان أطلق عليه اسم الحمى، فإذا غزا المسلمون أعانوا بهذه الإبل والأموال من لا يجد دابة تحمله أو سلاحا يقاتل به، وعالوا فقراء المسلمين بما بقي منها.
فأما ما كان المسلمون يغنمونه في غزوات رسول الله من الفيء، فكان هو يوزعه بعد المعركة ولا يبقي منه شيئا، وقد سار أبو بكر سيرته وصنع صنعيه؛ فكان ما يرد من فيء العراق يوزع بين أهل المدينة، ولا يبقى منه شيء وجرى الأمر على ذلك في العهد الأول من خلافة عمر، لكن اتساع رقعة الفتح زاد في أموال الفيء، كما فتح موردا آخر أغزر مادة وأبقى؛ ذلك مورد الخراج والجزية، فقد صالح المسلمون أهل البلاد التي استولوا عليها، في العراق وفارس وفي الشام ومصر، على أن يدفعوا جزية كان متوسطها على كل رأس دينارين، وذلك فضلا عن الخراج الذي كان الزراع يدفعونه عن أرضهم؛ فينفق جانب منه على مرافقهم وعلى تنظيم الحكم فيهم، ويرسل ما بقي منه بعد ذلك إلى المدينة، وقد بلغت غزارة هذا المورد، قبل أن يتم فتح فارس وقبل أن يبدأ غزو مصر مبلغا حمل الخليفة على التفكير في إقامة نظام مالي للدولة الناشئة.
أورد المؤرخون روايات عدة في السبب الذي أدى بعمر إلى هذا التفكير، قيل: إن أبا هريرة قدم من البحرين، فسأله عمر عن الناس ثم قال: ماذا جئت به؟ قال أبو هريرة: جئت بخمسمائة ألف درهم، فدهش عمر وقال: هل تدري ماذا تقول؟ فأعاد أبو هريرة أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، وظن عمر أن الرجل يبالغ فكرر عليه السؤال فلما سمع الجواب الأول قال له: إنك ناعس، فارجع إلى أهلك فنم، فإذا أصبحت فأتني فلما غدا عليه أبو هريرة وأكد له أنه جاء بخمسمائة ألف درهم، قال عمر للناس: إنه قدم علينا مال كثير، فإن شئتم أن نعده لكم عدا، وإن شئتم أن نكيله لكم كيلا، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إني قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديوانا يعطون الناس عليه، فدون عمر الديوان.
وقيل: إن عمر استشار الناس في تدوين الديوان، فقال له علي بن أبي طالب: «تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال، ولا تبقي منه شيئا.» وقال عثمان بن عفان: «أرى مالا كثيرا يسع الناس؛ وإن لم يحصوا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر.» فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: «يا أمير المؤمنين! قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا، فدون ديوانا وجند جنودا.» فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نساب قريش، فقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.»
وفي رواية أن عمر استشار المهاجرين والأنصار في تدوين الديوان وفرض العطاء، فأشاروا عليه به، ثم استشار مسلمة الفتح فوافقوا عليه إلا حكيم بن حزام، وكان من أشراف مكة وذوي الرأي فيها، فقد قال: «يا أمير المؤمنين، إن قريشا أهل تجارة ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم، فيأتي بعدك من يحبس عنهم العطاء فتكون التجارة قد خرجت من أيديهم.» وكأنما كان حكيم قد تفتحت له حجب الغيب وهو يلقي بهذا القول! فقد أغرى العطاء العرب بالكسل وأغناهم عن السعي للرزق، فلما تبدلت الأحوال ووقف اندفاع الفتح واشترك غير العرب فيه، وذلك بعد أن انتقلت العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم إلى بغداد، انقبض العطاء الذي كان مفروضا لأهل شبه الجزيرة فلم يطق الجيل الذي نشأ في البطالة أن يعود إلى التجارة والسعي للرزق، فأمحل الحجاز وظل ممحلا إلى وقتنا الحاضر.
كيف غابت هذه النتيجة عن عمر فلم يحسب لها حسابها ولم يتخذ الحيطة لاتقائها، وبخاصة أنه نبه لها ولفت إلى آثارها؟ هذا اعتراض يبدو ظاهر الوجاهة بعد الذي انحدرت إليه شبه الجزيرة من فقر وإمحال، وكأنما كان عمر يتوسمه ويتوقعه، فهو كثيرا ما كان ينبه الناس إلى وجوب الدأب في السعي والاستكثار من الرزق، كما أنه كان شديد البرم بأولئك الذين يظهرون الإعراض عن الدنيا تعبدا وزهادة، رأى رجلا يوما يظهر النسك والتماوت، فخفقه بالدرة وقال له: «لا تمت علينا ديننا، أماتك الله!» وكان يقول للناس: «من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي إلا من أحب.» وكان يؤمن بأن على المرء أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا.
وإنما دون عمر الديوان وفرض العطاء ليفرغ العرب للجهاد في سبيل الله كيما يصبح ميدان الدعوة إلى دين الله حرا طليقا، لا يتحكم فيه الفرس والروم ولا غير الفرس والروم، ولهذا الغرض حرم في عهده قسمة الأرض في البلاد المفتوحة على الجند، حتى لا يشغلوا بالزراعة عن الجهاد، وحتى لا تجذبهم الأرض إليها فتنسيهم الرسالة الكبرى التي ألقى القدر على العرب أن ينهضوا بها، فينشروا نور الله وحكمته في أقطار العالم جميعا، وقد أعان تدوين الديوان وفرض العطاء أولئك العرب الأولين على أداء الرسالة التي ألقت الأقدار عليهم أداءها كما رأيت، وأداؤهم لها هو الذي خلد على التاريخ أسماءهم، ودون في صحفه فعالهم.
وهذا الحرص من عمر على أن ينهض العرب لينشروا لواء الإسلام، هو الذي صرفه عن توجيه أموال الخراج والجزية لإصلاح الأرض في شبه الجزيرة، بإقامة سدود كسد مأرب تحيل باديتها الممحلة مزارع ممرعة الخصب، فلو أنه فعل لقعد العرب عن الجهاد إلى ما هو أيسر مشقة وأقل تعريضا للخطر، ولما أدوا رسالة الإسلام على النحو الذي أدوها به، هذا إلى أن العرب لم يكونوا أهل زراعة وصناعة مثلما كانوا أهل حرب وتجارة، ولذلك كان فرض العطاء قمينا أن يدفعهم إلى تثميره في الناحية التي توجههم طبيعتهم إليها، ولعلهم فعلوا أو كانوا يفعلون لولا أن قامت الثورات في بلاد العرب من بعد عمر، فصرفت الناس إلى المنازعات على السياسة والملك، وقد أدت هذه المنازعات إلى انتقال العاصمة إلى الشام ثم إلى العراق، كما أدت ببلاد العرب إلى الفقر والإمحال الذي تعانيه من ذلك العهد.
ونعود الآن إلى تدوين الديوان وفرض العطاء، والديوان كلمة فارسية معربة، معناها مجتمع الصحف، يكتب فيها رجال الجيش ومن فرض لهم العطاء، وقد تطور مدلول هذه الكلمة من بعد، فصارت تطلق على الموضع الذي تحفظ فيه سجلات الدولة، ثم صارت تطلق على الأمكنة التي يجلس فيها القائمون على هذه السجلات، كما تطلق على السجلات نفسها، وبديهي أنها لم تتعد في عهد عمر معناها الأول، فكان الديوان سجلا أحصي فيه من فرض لهم العطاء من رجال الجيش ومن غيرهم، وذكر فيه أمام كل اسم عطاء صاحبه.
عزم عمر على تدوين الديوان، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وقال لهم: «اكتبوا الناس على منازلهم.» فكتبوهم مبتدئين ببني هاشم، ثم بني تيم قبيلة أبي بكر، فبني عدي قبيلة عمر، فلما رأى عمر ما صنعوا قال: «وددت والله لو أنه هكذا، ولكن ابدءوا بقرابة النبي
صلى الله عليه وسلم
الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله.» روي أن بني عدي عرفوا ما صنع فجاءوا إليه وقالوا له: أنت خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛
2
فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! فنظر إليهم شزرا وأجابهم: «بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر (يعني أن تكتبوا آخر الناس)، إن لي صاحبين سلكا طريقا، فإن خالفتهما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو ما نرجو في الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلا بمحمد
صلى الله عليه وسلم ؛ فهو شرفنا وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب.»
هذه نزعة جديدة أريد بها تقسيم الناس طوائف بعضها فوق بعض درجات، وهي نزعة لم ينزعها أبو بكر، ولم ينزعها عمر نفسه في أول عهده، فالقرآن لم يفضل طبقة من المسلمين على طبقة، ولم يزد جماعة في الرزق لنسبهم على نحو ما فعل عمر في الديوان، ولم يجعل الناس طبقات يمتاز بعضهم على بعض بالنسب، ويكرم بعضهم عند الله على بعض بغير التقوى، وذلك قول عمر نفسه: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى القرابة وليعمل لما عند الله، فمن قصر به عمله لم يسرع به نسبه.» على أن هذا المنزع الجديد الذي نزعه عمر، لم يقف عند ترتيب الأسماء في السجل والبدء بالأقرب فالأقرب من رسول الله، بل تعدى ذلك إلى فرض العطاء؛ فأنشأ طوائف ما كان لأيها أن تبقى، وقد ترك هذا المنزع في الحياة الإسلامية أثرا لا يزال باقيا إلى اليوم.
فضل عمر بعض المسلمين على بعض في العطاء، فخالف في ذلك أبا بكر؛ إذ كان يسوي بينهم في القسمة، وقد قيل للصديق يوما: ألا تفضل السابقين إلى الإسلام؟ فكان جوابه: «إنما أسلموا لله وعليه أجرهم، يوفيهم ذلك يوم القيامة، وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وذكر صنيع الصديق لعمر حين أراد تفضيل السابقين فقال: «لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه.» ولذا فضل أهل بدر على غيرهم، ثم جعل من بعدهم درجات، على أنه فضل الأدنين من قرابة رسول الله، لم ينظر في ذلك إلى جهاد ولا إلى سابقة في الإسلام؛ ففرض للعباس بن عبد المطلب عم النبي اثني عشر ألف درهم، ولصفية ابنة عبد المطلب أخته ستة آلاف درهم، وفرض لكل واحدة من نساء النبي عشرة آلاف درهم إلا من جرى عليها الملك؛ لكنهن قلن: ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يفضلنا عليهن في القسمة، فسو بيننا، ففعل، مع هذا فضل عائشة بألفين لمحبة رسول الله إياها، ففرض لها اثني عشر ألفا، فلم تأخذ ما فضلها به على غيرها من أمهات المؤمنين.
3
ثم إنه فرض لكل رجل شهد بدرا خمسة آلاف درهم في كل سنة، وفرض لكل من كان له إسلام كإسلام أهل بدر من مهاجرة الحبشة ومن شهد أحدا أربعة آلاف درهم في كل سنة، وفرض لأبناء البدريين ألفين ألفين إلا حسنا وحسينا فإنه ألحقهما بفريضة أبيهما لقرابتهما من رسول الله، ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف درهم، وفرض لكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكل رجل من مسلمة الفتح ألفين، ولغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الفتح، وفرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم، ثم جعل من بقي من الناس بابا واحدا، ففرض لمن جاء من المسلمين إلى المدينة وأقام بها خمسة وعشرين دينارا، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق ألفين إلى ألف إلى تسعمائة إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة، ولم ينقص أحدا عن ثلاثمائة، وقال: «لئن كثر المال لأفرضن لكل أربعة آلاف درهم؛ ألف لسفره، وألف لسلاحه، وألف يخلفها لأهله، وألف لفرسه وبغله.»
وكان عمر يفرض للمنفوس مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده وكان إذا أتي بلقيط فرض له مائة درهم وفرض لوليه كل شهر رزقا يصلحه، وجعل رضاعه ونفقته من بيت المال، ثم يزيد عطاءه بعد ذلك من سنة إلى سنة، كما كان يصنع بغيره من الأطفال.
والقاعدة التي وضعها عمر وجعلها أساسا لتوزيع العطاء تبدو واضحة في قوله: «ما من الناس أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما من أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدهم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه.» وكذلك فرض عمر للناس جميعا لم يترك منهم أحدا، أورد ابن سعد في الطبقات رواية عن سالم أبي عبد الله أنه قال: «فرض عمر بن الخطاب للناس حتى لم يدع أحدا من الناس إلا فرض له، حتى بقيت بقية لا عشائر لهم ولا موال ففرض لهم ما بين المائتين وخمسين إلى ثلاثمائة.»
غير أن عمر خرج عن القاعدة التي وضعها لتنظيم العطاء في أمر رجال ونساء زاد في عطائهم على عطاء أمثالهم ممن في طبقتهم، فرض لعمر بن أبي سلمة أربعة آلاف درهم، وعمر هذا هو ابن أم سلمة أم المؤمنين، وقد اعترض محمد بن عبد الله بن جحش وقال لأمير المؤمنين: لم تفضل عمر علينا؟ فقد هاجر آباؤنا وشهدوا، وأجابه ابن الخطاب بقوله: «أفضله لمكانه من النبي
صلى الله عليه وسلم ، فليأتني الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة أعتبه!» وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم، فقال عبد الله بن عمر: «فرضت لي ثلاثة آلاف وفرضت لأسامة أربعة آلاف وقد شهدت ما لم يشهد أسامة!» وأجابه عمر: «زدته؛ لأنه كان أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أبيك.» وفرض لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر ألف درهم، فزادهن ولأم كلثوم بنت عقبة ألف درهم، ولأم عبد الله بن مسعود ألف درهم، على أمثالهن لمكانتهن الخاصة إذ كن أزواجا وأمهات لرجال لهم على غيرهم منزلة وفضل.
وكان عمر حريصا على أن يبلغ كل ذي حظ في العطاء حظه، حتى لكان يجشم نفسه في ذلك المتاعب، روي عن حزام بن هشام الكعبي عن أبيه أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قديدا، فلا يغيب عنه امرأة بكر ولا ثيب فيعطيهن في أيديهن، ثم يروح فينزل عسفان فيفعل مثل ذلك أيضا حتى توفي، وكتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: «إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير.» فكتب إليه عمر: «إنه فيؤهم الذي أفاء الله عليهم، فليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ اقسمه بينهم.»
وإنما كتب عمر هذا الكتاب إلى حذيفة؛ لأن الدواوين، وهي سجلات العطاء، لم تكن كلها بالمدينة، بل كان كل ديوان على حدة عند والي البلد أو القبيلة التي فرض فيها لأهل العطاء، فكان ديوان حمير على حدة عند والي اليمن، وديوان البصرة عند واليها، وديوان كل إمارة عند أميرها، بهذا أصبح كل رجل من المسلمين يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه، وأصبح كل وال مسئولا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته، كما كان عمر يوصل العطاء لأصحابه في المدينة، وفيما حولها من الأرجاء الداخلة في نطاقها.
متى دون عمر الديوان وفرض العطاء؟ ذلك أمر اختلف فيه، يقول الطبري: إنه كان في السنة الخامسة عشرة للهجرة، ويقول ابن سعد: إنه كان في محرم سنة عشرين، وقد يتعذر القطع أي التاريخين أصح، فلما يكن الفتح في السنة الخامسة عشرة قد بلغ المدائن، لكن سواد العراق كان مع ذلك قد صار في يد المسلمين؛ ولما تكن بيت المقدس قد فتحت أبوابها لعمر، لكن المسلمين كانوا قد استولوا على دمشق وطهروا الأردن وتقدموا إلى حمص وقنسرين، أترى عمر رأى فيما يجبى إلى المدينة من سواد العراق ومن بلاد الشام ما أدى به إلى تدوين الديوان؟ ذلك ما يقوله الطبري، أم هو لم يدون الديوان حتى تم فتح العراق والشام، وجبى منهما الجزية والخراج، وكثر بذلك ما يرد إليه من المال، حتى لقد حار أيعده عدا أم يكيله كيلا إلى أن أشير عليه بتدوين الديوان، فكان ذلك سنة عشرين على ما يقول ابن سعد؟ أراني أميل إلى هذا الرأي الأخير وإن كنت لا أستطيع القطع به، وإنما يميل بي إليه أن تدوين الديوان لا يمكن أن يعتمد على الفيء الذي يرد من الغزو، فالفيء مورد غير ثابت، وعطاء الديوان مصرف سنوي ثابت، لا بد إذن أنه اعتمد على الجزية والخراج، ولم تبلغ الجزية ولم يبلغ الخراج المبلغ الذي يسع عطاء العرب جميعا في التاريخ الذي يذكر الطبري أنه دون فيه.
لم يكن العرب في شبه الجزيرة وفي البلاد المفتوحة أقل حرصا على قبض أعطياتهم من عمر على إيصالها إليهم، ولم لا يفعلون، وكان هو يحضهم على ذلك ويحرضهم عليه، ويدعوهم لحسن استغلال ما يقبضونه، فيقول: «لو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العريب ابتاع منه غنما فجعلها بسوادهم، ثم إذا خرج العطاء ثانية ابتاع الرأس فجعله فيها! فإني أخاف عليكم أن يليكم بعدي ولاة لا يعد العطاء في زمانهم مالا، فإن بقي أحد منهم أو أحد من ولوه كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه.» وكان أكثرهم يعملون بنصيحة عمر.
على أن طائفة ممن ميزهم عمر في العطاء كانوا يتصدقون به، روي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش قالت حين دخل عليها العطاء: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قيل: هذا كله لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب، وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوبا، ثم قالت لبرزة بنت رافع: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان، من أهل رحمها وأيتامها؛ حتى بقيت بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة: غفر الله لك يا أم المؤمنين! والله لقد كان لنا في هذا حق! قالت: فكم ما تحت الثوب، فلما كشفوا الثوب لم يجدوا إلا خمسة وثمانين درهما، ثم رفعت زينب يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا! واستجاب لها ربها فقبضها إليه.
كان ذلك شأن أم المؤمنين زينب، وشأن أفراد قليلين غيرها، فأما الأكثرون فكانوا يقبضون عطاءهم ويثمرونه في التجارة؛ لذلك أسرعت ثروة أصحاب العطاء الذين يعدون بالألوف إلى الزيادة أضعافا مضاعفة، فظهرت بين الطبقات فوارق تأثر بها النظام الاجتماعي تأثرا واضحا، لفت عمر ودعاه للتفكير في الأمر والتماس الوسيلة لإعادة النظر فيه، وقد انتهى به الرأي إلى تفضيل ما جرى الصديق عليه من تسوية بين المسلمين في قسمة الفيء، وود لو صنع صنيعه في أمر العطاء؛ لذلك قال: «والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلا واحدا!» وقال: «لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم!» وهو قد كان مع ذلك يدرك أن التسوية، بنقص العطاء الذي فرضه لمن ميزهم، ربما جرت إلى امتعاض لا تحسن مغبته، فكان أكبر همه أن يرفع عطاء ذوي العطاء القليل ليساويهم بمن زاد عطاؤهم، وذلك قوله: «لئن عشت حتى يكثر المال لأجعلن عطاء الرجل المسلم ثلاثة آلاف: ألف لكراعه وسلاحه، وألف نفقة له، وألف نفقة لأهله.» لكنه لم يبق إلى الحول، بل قتل هذا العام المقبل، فبقيت الطبقات، ثم كان لبقائها من الأثر في حياة الأمة الإسلامية من بعد ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.
لم ينشئ عمر ديوان العطاء وحسب؛ فقد قيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، وإن دواوين الشام كانت تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها الفرس والروم والقبط دون المسلمين، وقد كان إنشاء هذا الديوان، كما كان إنشاء ديوان الخراج وتشييد مصنع السكة لضرب النقود وإقامة بيوت المال في مختلف الأمصار، مما قضى به التطور السريع الذي أدى إليه الفتح وانتشار المسلمين في أقطار الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، أما قبل ذلك فلم يكن للدولة الإسلامية شيء من هذه الدواوين، فقد كان من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من يكتبون له الكتب والرسائل، وكانت هذه الكتب تحفظ صورها وتحفظ الردود عليها في داره بالمدينة، ولم يكن له بيت مال؛ لأنه كان يوزع الفيء، ويوزع الصدقات أول ما يقبضها، وصنع الصديق صنيعه؛ فكان يحفظ في داره كتبه ورسائله إلى أمراء جنده، وإلى المرتدين الذين بعث هؤلاء الأمراء لقتالهم، وإلى من ندبهم من القواد والجند للسير إلى العراق والشام، وصنع أمراء الجند صنيعه، فكانوا يحفظون في مضاربهم رسائلهم إلى الخليفة، وأوامرهم إلى الجند، وكتبهم إلى العدو، وعقود الصلح التي تبرم بينهم وبين البلاد التي يظفرون بها ويصالحون أهلها، وكان الصديق يوزع ما يجيئه من الفيء لا يبقي منه شيئا، فلما اتسعت في أيام عمر رقعة المملكة، وتضاعفت بذلك أعمال الدولة، وعينت لجندها مسالح فيما وراء حدودها، وزاد المال الذي يرد إليها، لم يكن بد من مواجهة هذا الطور الجديد بوسائل تكفل دقة ضبط ذلك كله ضبطا تتسنى معه الهيمنة على مصالح الدولة، وإقامة العدل بين الناس، وتساس به الأقطار المفتوحة سياسة حكيمة ترضي أهلها عن الحكم الذي قام فيهم مقام حكم الأكاسرة وحكم القياصرة، وقد رأيت في هذا الفصل وفيما سبقه كيف تم ذلك كله في أناة وحزم وحكمة وروية، وكيف كان عمر يعالجه مسايرا أطوار الفتح، لا يسبقها ولا يستأخر عنها.
والحق أن المجهود الضخم الذي نظم الحكم الإسلامي، في الفترة التي انقضت بين هجرة رسول الله وقيام الإمبراطورية العمرية، جدير بكل إجلال وإكبار، فأين من هاته الإمبراطورية العظيمة ونظامها الجديد ما كان من تولي رسول الله أمور المدينة بعد هجرته إليها ومؤاخاته بين المسلمين فيها! نعم أين من هذه الحكومة المدينة التي تشرف على بلاد فارس والعراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية كلها، تلك الحكومة البدوية التي لم تتعد حدود المدينة قبل السنة السادسة للهجرة، حين عقد رسول الله عهد الحديبية مع أهل مكة! وهذا العهد هو الذي نزل فيه قوله تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما .
وقد بدأ المسلمون بعد هذا العهد حياة جديدة تطور معها نظام الحكم شيئا فشيئا، ففي السنة السابعة بعث رسول الله إلى الأمراء والملوك يدعوهم إلى الإسلام، فكان رد كسرى ثم وفاته مؤذنين بإسلام عامله الفارسي على اليمن، وانضوائه إلى لواء النبي العربي، وتوليه الأمر في اليمن باسمه، وفي السنة الثامنة فتحت مكة ثم فتحت الطائف وأسلم أهلها، فبعث رسول الله عاملا من لدنه إلى كل منهما، وفي السنة التاسعة أقبلت وفود شبه الجزيرة إلى المدينة تعلن إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، فبعث إليها رسول الله في السنة العاشرة عماله يفقهون الناس في الدين ويجبون منهم الصدقات، وفي السنة الحادية عشرة قبض رسول الله، وبويع أبو بكر، فكان قضاؤه على الردة إيذانا بقيام نظام جديد في شبه الجزيرة، وفي السنة الثانية عشرة بدأ الصديق التمهيد للفتح وللإمبراطورية بغزو العراق وغزو الشام، وفي السنة الثالثة عشرة قبض الصديق، وبويع عمر، فتم في عهده فتح العراق وفارس والشام ومصر وبرقة، وأصبحت الإمبراطورية الإسلامية بذلك حقيقة واقعة، هذه أحداث ضخمة تمت في أقل من خمس عشرة سنة ، فغيرت وجه التاريخ ووجهت الحضارة الإنسانية وجهة جديدة؛ وكان المجهود الذي أتمها جديرا بكل إجلال وإكبار.
وفي هذه السنوات المعدودة كان نظام الحكم يتطور شيئا فشيئا من البداوة العربية إلى الصورة المدنية التي رسمناها. على أن هذه الصورة ظلت في جوهرها عربية إسلامية، أقامت النظام الجديد على أساس من الشورى، ثم دفعته خطوات تقدم بها أحدث المبادئ التي كانت معروفة في ذلك العصر، فقد كان عاهل الفرس وعاهل الروم يزعمان أنهما يستمدان سلطانهما من الله، أما أمير المؤمنين فكان يستمد سلطانه ممن بايعوه، ولم يكن لسلطان العاهلين حد يحول بينهما وبين التصرفات المطلقة في حرية العباد وفي رقابهم بما يريان، أما أمير المؤمنين فكان مقيدا بما جاء في كتاب الله، ومما جرت به سنة رسوله، ثم إن مشورة أولي الرأي كان لها وزن أي وزن، وكان أصحاب هذه المشورة يبدونها أحرارا في حدود إيمانهم الصادق بالله ورسوله، وبالرسالة التي ألقي على العرب تبليغها للناس في أقطار الأرض كافة، وكانت حريتهم، وحرية غيرهم من المسلمين، تقوم على أساس من المساواة الصحيحة بينهم جميعا أمام الله وما أمر به ونهى عنه؛ فلا فضل لأمير على رجل من سواد الناس، ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، وإيمانهم بهذه المساواة وبهذه الحرية هو الذي سما بإخائهم إلى حيث يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.
هذه هي المبادئ السامية التي تطور الحكم الإسلامي في ظلالها فأعزت المسلمين، واحترام عمر لهذه المبادئ، وحرصه البالغ على دقة تطبيقها، هما موضع مجده وفخره، وحيثما كانت المبادئ التي يتعامل الناس على أساسها ويتطور نظام الحكم في ظلالها سليمة محترمة بين الجميع، وكان الحكم عادلا نزيها، كانا من أقوى العوامل لعظمة الأمة وجلال مجدها، ولذا بلغ المسلمون ما بلغوا في عهد عمر، فقامت الإمبراطورية الإسلامية في عهده ثم قامت من بعده، متينة الأساس شامخة البناء.
هوامش
الفصل الثالث والعشرون
الحياة الاجتماعية في عهد عمر
ما أعظم التطور الذي تم في بلاد العرب خلال السنوات الخمس عشرة التي تلت فتح مكة! وعظمته تجعلك غير مبالغ إذا لم تسمه تطورا! إنما هي طفرة لم يعرف تاريخ العالم لها نظيرا، ففي هذا الزمن الوجيز انتقل العرب من وثنيتهم إلى الإسلام، ومن تفرقهم قبائل وأمما متنافرة إلى وحدة متضامنة لها سياسة عامة وغرض مشترك، ومن انكماشهم في حدود شبه الجزيرة إلى تسلطهم على الإمبراطورية الفسيحة التي جمعت لهم سلطان الفرس وسلطان الروم، ومن شظف البداوة الذي يسود أكثر مواطنهم إلى رخاء لم يألفوه من قبل، لا عجب وذلك شأنهم أن تتأثر حياتهم الاجتماعية بهذه الانتقالات السريعة وأن تتغير نظرتهم للحياة ومطالبهم فيها.
وذلك ما حدث بالفعل، فقد كان لكل من العوامل التي أدت إلى هذه الطفرة أثره في حياتهم أفرادا وجماعات، كان للعامل الديني أثره، وللعامل السياسي أثره، وللعامل الاقتصادي أثره، وكانت هذه الآثار متناقضة في بعض الأحيان، لكنها تفاعلت واندمجت بعضها في بعض، فأدت إلى انتقال في الحياة الاجتماعية يلفت النظر ويدعو للتفكير فيما ترتب عليه من بعد في حياة الإسلام والمسلمين.
يجمل بنا لنقدر مدى هذا التطور أن نرجع البصر إلى ما كان العرب عليه في حياتهم الاجتماعية قبل الإسلام، لقد كان أكثرهم أهل بادية، وكان الأقلون أهل المدن والأمصار، ذلك لأن شبه الجزيرة لم تكن بها أنهار منتظمة الجريان، ولم تكن أمطارها تهتن في فصول معينة من السنة هتنا متقارب القدر، بل كانت الأمطار تنهمر سيولا مخربة أحيانا، وتكف فصولا متعاقبة أحيانا أخرى، فلم يكن تنظيم الزراعة ميسورا إلا في بعض الأرجاء، من ثم كانت المدن والأمصار إنما تقوم حيث تغزر الينابيع، ثم يظل ما وراء ذلك بادية ينبت بها المرعى حين ينزل الغيث ويجف حين يمسك، ولهذا كانت بادية اليمن، كغيرها من البوادي، تشمل القسم الأكبر من أهل اليمن، وإن كانت نسبة حضر اليمن إلى باديته تزيد على نسبة حضر نجد والحجاز وسائر بلاد العرب إلى بواديها.
وأساس الاجتماع في البادية القبيلة، والقبيلة تتألف من أحياء يربط النسب وتربط القرابة بين الذين يتألف الحي منهم، وكل أهل في الحي يقيم في بيت من الشعر يسهل حمله كلما أرادت القبيلة الظعن تنتجع المرعى لإبلها والرزق لبنيها، وكان أكثر تنقل القبائل في الربيع والصيف، حين يكثر العشب والكلأ حول ينابيع المياه الصغيرة في البادية، فإذا أقبل الشتاء وجف المرعى، تحملوا إلى الحضر فأقاموا على مقربة منه، يلتمسون عند أهله؛ بالتعامل معهم أو الغارة عليهم ما يعيشون به عيش كفاف يرضيهم؛ لأنه يكفل لهم الحرية التي كانت أعز عليهم من طيب الطعام ولبس الشفوف.
وكان لكل قبيلة شيخها ولكل حي زعيمه، ولكل بيت ربه، ورب البيت هو الأب، فله على كل من فيه سلطة مطلقة، وكان أعظم سلطانه على زوجه؛ فقد كان مكان المرأة من زوجها مكان الخادم من سيده، لا رأي لها معه، ولا تستطيع أن ترد له كلمة أو تعصي له أمرا، وإنما عملها أن تقوم بخدمة البيت، وأن تزيد في نسل ربها، ولهذا كان العقم أهم أسباب الطلاق، وكان تعدد الزوجات لا حد له حتى يبلغ النسل غاية مداه، ذلك لأن العرب كانوا حريصين أشد الحرص على كثرة البنين ليقووا بهم على حماية القبيلة وحماية الأهل، وأنت تذكر قصة عبد المطلب بن هاشم جد النبي حين نذر إن ولد له عشر بنين ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وتذكر أنه أدى نذره، فافتدى عبد الله بمائة من الإبل.
وكان العرب يؤثرون الزواج من غير قبيلتهم، لاعتقادهم أن النسل من مثل هذا الزواج أقوى وأزكى، ولأن الزواج من بنات القبيلة كثيرا ما كان يؤدي إلى التنازع والشحناء، واعتقادهم هذا هو الذي كان يحملهم على إمساك سبيات الحرب لينسلن لهم، كما كان أول ما يطلبونه دية قتيل فتاتين من بنات الحي الذي منه القاتل، لا ينزلون عنهما وإن نزلوا عن غيرهما من الإبل والشاء والأموال، مع هذا كان لابن العم أولوية على غيره إذا خطب ابنة عمه، فلا يستطيع أبوها أن يمسكها عنه ما دفع المهر المتعارف في القبيلة ، وإن أغلى غيره مهرها أضعافا مضاعفة.
كانت خطبة الشاب الفتاة إلى أهلها، والتزوج منها بعد مهرها، ونقلها معه إلى حيه وقبيلته، هي الصورة المألوفة عند العرب، على أنهم كانوا يألفون صورا غيرها من الزواج، بقي بعضها بعد الإسلام، وعفى الإسلام على سائرها، من ذلك أن يتزوج رجل من امرأة فيذرها في قومها، فإذا مر بهم في تجارته أو رحلاته نزل عندها، وكان بعض النسوة يؤثرون البقاء في أهلهن إذ كن ذوات مال وحسب، فكن لا يرضين مفارقة مالهن ومن يقومون على الاتجار فيه وتثميره، وكان الأبناء يبقون مع أولئك الأمهات حتى يشبون، ولذلك كانوا ينسبون إليهن وإلى قبيلتهن، وذلك كان شأن سلمى بنت عمرو أحد بني النجار من الخزرج أهل يثرب، فقد كانت امرأة ذات شرف ومال يتجر لها فيه قومها، ومر هاشم بن عبد مناف يوما بيثرب عائدا من الشام، فرآها تطل على قومها، فأعجبته فخطبها إلى نفسها فرضيته زوجا، على أن تكون عصمتها بيدها ... وولدت له شيبة، فأقام معها بين أخواله بني النجار حتى مات أبوه، ثم عاد به عمه المطلب إلى مكة مردفا إياه على بعيره، فلما رأته قريش ظنوه عبدا اشتراه فقالوا: «عبد المطلب.» فغلب عليه هذا الاسم، ولم يدعه أحد من بعد باسمه «شيبة».
ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا الزواج أصل زواج المتعة الذي أبيح في صدر الإسلام إلى أن حرمه عمر، ولا يزال زواج المتعة حلا عند الشيعة إلى اليوم.
وكان للزواج المؤقت صورة أخرى، وكان للمرأة في هذا الزواج أن تفصم عروته إذا شاءت، وحسبها لذلك أن تغير موقع الباب من خبائها ليعلم صاحبها أنها لم تبق له زوجا، ويذكر ابن بطوطة في رحلته أن مثل هذا الزواج كان باقيا في أحياء زبيد حين كان هو في بلاد اليمن.
ومما يذكره مؤرخو اليمن كذلك أن الملك كان مشاعا بين أفراد الأسرة في عهد من العهود، وأن المرأة كانت بعض هذا الملك المشاع، فكانت زوجا أو خليلة لأفراد الأسرة جميعا، فإذا دخل أحدهم خباءها لوطر ركز عصاه عند الباب، فلا يفتحه عليه أحد، ولكن مبيتها كان مع رب الأسرة دائما، مع ذلك كان زنا هذه المرأة مع أجنبي جريمة عقابها الموت، ومما يروى في ذلك أن ابنة أحد الأمراء كانت في أسرة متاعا لأهلها، وأنها أحبت شابا من غير أبناء هذه الأسرة، فكانت كلما جاءها ركزت عصا عند الباب حتى لا يفاجئها أحد متلبسة بجريمتها، واجتمع رجال الأسرة كلهم يوما، فرأوا العصا المركوزة عند الباب، فعرفوا ما أتت الفاجرة فجزوها به.
وقد يبدو هذا النوع من الزواج عجبا، وأعجب منه نكاح الاستبضاع، ذلك حين كان الزوج يدع زوجته لغيره، حتى إذا حملت ردها ونسب حملها إليه، ولعلهم لم يكونوا يلجئون لهذا المنكر إلا لعقم الرجل وحرصه على الولد، على أنه قد كان له في التبني مندوحة عن مثل هذا الأمر، فقد كان العرب يجيزون تبني البنين دون البنات، وكانوا يجعلون للمتبنى مقام الابن في الانتساب إلى من تبناه وإلى قبيلته، ويبلغون به أحيانا أن يجعلوا له حق الاشتراك في الميراث على سواء مع أبناء الرجل من صلبه، ومهما يكن إنكارنا لهذا النكاح، وإنكار الإسلام له وللتبني جميعا؛ فالمؤرخون يذكرونه على أنه بعض عادات العرب في الجاهلية.
ذكرنا هذه الصور من الزواج لما فيها من دلالة على امتهان المرأة عند العرب، والحق أن مكانتها كانت أدنى إلى مكانة الرقيق، وحسبك شاهدا على ذلك أن وارث رب البيت، أبا كان أو أخا أو ابنا، كان من حقه أن يذهب إلى الأرملة فيلقي عليها رداءه ويمهرها فتصبح له زوجا، كما كان له أن يزوجها من غيره إذا شاء ويقبض مهرها، ولم يكن للمرأة مفر من هذا المصير إلا إذا رجعت إلى أهلها قبله، عند ذلك يرجع الأمر في زواجها إليها أو إلى وليها.
ولم يكن للمرأة رأي في فصم عروة الزواج إلا في زواج المتعة وهو الزواج المؤقت، أما غيره فكانت عروة الزواج تنفصم بالخلع أو بالطلاق، وكان الخلع يتم باتفاق بين الزوج وولي الزوجة، ولم يكن الطلاق يقع إلا إذا ذكره الزوج ثلاث مرات توكيدا لنيته فيه.
وكانت المرأة لا ترث، أما كانت أو زوجا أو بنتا أو أختا أو ذات رحم، ذلك لأن العرب كانوا يقولون: إنما يرث من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، أما البنون فكانوا يرثون حصصا متساوية، وكل ما للأكبر منهم من امتياز على إخوته أنه كان يدعى لاختيار النصيب الأول.
كان سلطان الرجل على زوجه ما رأيت، وكان سلطانه على بنيه عظيما، وعلى بناته أعظم، فقد كان الرجل في بعض القبائل يئد ابنته خوف العار أو المتربة، فإذا وأدها لم يسأله أحد حسابا، ولم يكن للبنت ولا لأمها رأي في زواجها، بل كان الرأي للأب وحده وكان عليه لذلك أن يحميها بعد أن تنتقل إلى بيت زوجها، في قبيلتها كان هذا البيت أو في قبيلة غيرها، فإذا أساء زوجها إليها أو طلقها، رجعت إلى بيت أبيها وعاشت في كنفه ورعايته، أما الابن فكان يختار من يخطبها، ثم يحرص على أن ينال رضا أبيه عن خطبته، فإذا استقل بعد زواجه ببيت كفل لامرأته فيه معيشتها، ضعف سلطان أبيه عليه، وإذا بقي معها في بيت أبيه، فلأبيه عليه سلطان مطلق.
هذه صورة موجزة من نظام الأسرة والأهل في البادية، وقد كانت في جملتها صورة لنظام الأسرة والأهل في المدن والأمصار العربية، فقد كان أهل هذه المدن والأمصار قبائل كأهل البادية سواء، وكان أكثرهم يمتون بأصلهم إلى البادية، ثم هوت نفوسهم إلى حياة الحضر فركنوا إليه واستقروا به، ولعلك وقد ألممت بها تجد من آثارها ما لا يزال باقيا إلى اليوم في حياة البدو حيث كانوا، وإن كان الإسلام قد عفى على الكثير منها، بل إنك لتجد بعض هذه الآثار في حياة من ينتسبون إلى العرب من أهل الحضر في مصر وفي غير مصر من البلاد التي تتكلم العربية، فكثيرون يحرمون بناتهم من الميراث، وينظرون إليهن نظرة تجعل ما للرجال عليهن من درجة فسيح المدى يكاد يبلغ ما كان مألوفا في البادية قبل الإسلام، وكثيرون لا يقيمون لرأي البنت ولا لرأي أمها وزنا في زواجها، ولا تزال البنت تأوي إلى بيت أبيها إذا مات عنها زوجها أو طلقت أو أسيئت معاملتها، وسلطة الأب على أبنائه الذين يقيمون معه لا تزال عظيمة ما كانوا غير قادرين على الكسب.
كان العرب من أهل البادية ومن أهل الحضر يتشابه عندهم نظام الأسرة والأهل لكنهم كانوا يختلفون اختلافا كبيرا في أسباب العيش وما نسميه اليوم النظام الاقتصادي، فأهل الحضر كانوا يعتمدون في عيشهم على التجارة وعلى ما يزرعه لهم الفلاحون في الحدائق والكروم والمزارع المحيطة بهم والمملوكة ملكا خاصا لهم، وكان ربحهم من تجارتهم ومن زراعتهم غير قليل، وكان كثيرون منهم يقرضون أموالهم لمن يريد أن يتجر فيها أو أن يثمرها لقاء فوائد فاحشة تضاعف ما أقرضوا في زمن قصير، هؤلاء جميعا كانوا يعرفون من متع الحياة وأنعمها ما لا يعرفه أهل البادية، كانوا يعرفون مجالس الشراب والغناء والميسر ويتوفرون عليها، وكانوا يجدون في إشباع شهواتهم ما يرضيهم عن الحياة ويزيدهم اطمئنانا لها، لكن ابن خلدون يبالغ إذ يقول عنهم إنهم: «قد تلوثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشر، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من فنون الملاذ وعادات الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على حب المال والكذب والشهوات، حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم، فكان الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، لا يصدهم عن ذلك وازع الحشمة لما أخذتهم به عادات السوء من التظاهر بالفواحش قولا وعملا، وعلى الجملة فهم أهل غدر وخديعة ونقض عهد.» ولقد كانت لهم من غير شك فضائل ومزايا، ولولا ذلك لبارت تجارتهم، ولما استطاعوا مقاومة الطبيعة القاسية المحيطة بهم، لكنهم كانوا تجارا أولي حيلة، وكانت الحيلة تدفعهم إلى بعض ما يروي ابن خلدون من نقائصهم، فقد كانت أرباحهم من التجارة ومن الربا تيسر لهم الانغماس في الملذات، والاستهانة بكثير من فضائل الخلق الكريم.
أما عيش البادية فكان قوامه انتجاع المرعى، والانتفاع بلحوم الإبل وألبانها، ولم يكن البدوي يملك لنفسه غير بيت الشعر الذي يقيم فيه، وما قد يغرس حوله من غلال وفاكهة، فقد كانت القاعدة أن الزرع لمن زرعه، على أن هذا الملك كان قليل الشأن، فقد كان البدو يعافون الزراعة ويرون الفلاحة دون ما يليق بهم، فأما ما كان يحيط بمنازل القبيلة من المرعى فكان ملكا مشتركا للقبيلة، وكذلك كان الكلأ الذي تنبته الصحراء في حمى تلك المنازل، وكان للقبائل المتجاورة حق تبادل المرعى في مقابل.
وكانت منازل القبائل محدودة بالعرف والاتفاق، فإذا أجدبت قبيلة فانتجعت المرعى بعيدا عن منازلها، لم يجز لغيرها من القبائل أن يحل محلها فيها أو يتعرض لقتال أهلها وأصحابها، ونحن لذلك نستطيع أن نتعرف منازل أهل هذه القبائل إلى وقتنا الحاضر على الخرائط الجغرافية، على أن مثل هذا العدوان وما يجر إليه من قتال بين القبائل لم يكن نادرا، بل كان مألوفا في حياة الجاهلية؛ لذلك كان البدوي محاربا بنشأته، وكانت حياة القبائل في كثير من الأحيان حياة غزو وانتهاب، فكانت الغارات وانتهاب الأسلاب والفرار بها إلى المضارب من مألوف أهل البادية، فإذا رجعت القبيلة من غزوها أقامت في مضاربها على حذر تنتظر أن يغير عليها غيرها ليثأر لنفسه منها أو يسلب مالها مثلما سلبت هي غيرها ماله، وذلك قول ابن خلدون في أهل البادية إنهم «أهل انتهاب وعبث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مناسبة وركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، ورئيسهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطرا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم لئلا يختل عليه شأن عصبيته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم.»
وطبيعي أن يزيد الخوف من الثأر والغارات تضامن القبيلة، وأن يدفع رجالها لتعزيزه بذكريات الماضي وما كان لأسلافهم فيه من بطولة وإقدام، وذلك هو السر في حرصهم على معرفة أنسابهم، يفاخرون بها غيرهم، ويقوون تضامنهم، ويرتفعون إلى أسلاف اشتهروا بالشجاعة والكرم وحماية الجار وما إليها من صفات غرستها هذه الحياة فيهم، وجعلتها بعض شمائلهم وسجاياهم، وكان حتما على أبنائهم أن يقتدوا بهم في هذه الصفات فهي وحدها التي تجعل عيش البادية مستطاعا، فابن البادية معرض لغارة غيره عليه، وعيش البادية عيش شظف يبلغ الفاقة أحيانا، فإذا لم يكن أهلها كراما يؤوون الضيف، ويحمون الجار، تعرض كثيرون للهلاك، وحياة البادية حياة مغالبة للطبيعة ومقاومة للمعتدين، فإذا لم يكن أهلها شجعانا ذوي حيلة وجلد ناءوا بعبء الحياة، وإذا لم يكن لهم من الدعاية ما يجعل غيرهم يخشاهم تعرضوا للشر، ولذا كان أكثر شعرهم ونثرهم في الفخر والحماسة وذكر الكرم، والتحدث عن شتى الفضائل التي توجبها هذه الحياة وتدفع أهلها للحديث عنها.
لم يكن العرب يثأرون من المعتدين على منازلهم فحسب، بل كان الثأر للنفس وللمال وللعرض وللإهانة ولكل ما يوجب الثأر نظاما قائما بينهم، وكانت القبيلة ترى واجبا عليها أن تثأر لكل واحد من بنيها، فإذا قتل رجل منهم حمل أبناؤها كلهم السلاح حين تدوي بينهم صيحة أهل المقتول: «يا لثارات العرب!» وكان الأمر كذلك بخاصة إذا كان القاتل من قبيلة أخرى، فإذا كان منزل القاتل قريبا أحرق، وقتلت إبله وأغنامه، وأبيحت كل حرماته ثلاثة أيام كاملة، وفي هذه الحال لم يكن لقبيلة القاتل أن تؤاخذ أولياء الدم وقبيلتهم بما صنعوا، على أن القاتل كثيرا ما كان يلجأ بعد ارتكاب جريمته إلى من يجيره ويستطيع منعه، فإذا استجار وأجير وجبت عليه الدية، وقد جرت العادة في الدية بأن يطلب أصحاب الثأر من أهل القاتل بنات وإبلا وأموالا، وأن يبدأ أهل القاتل بالقبول، ثم تجري مساومات ينزل صاحب الثأر على أثرها عن الكثير مما طلبه، لكنه لم يكن ينزل أبدا عن أن تكون في الدية فتاتان من حي القاتل، يأخذهما لنفسه، أو يهبهما لمن يشاء.
فأما الثأر للعرض وللإهانة فكان يؤدي أغلب الأمر إلى قتال بين القبائل يطول أمده سنين متعاقبة، فإذا كانت القبيلة الطالبة للثأر أضعف من أن تثأر لنفسها، عرضت على أحياء العرب ما لحقها من هضم حقوقها وعدوان على كرامتها، واستعدت غيرها من القبائل المجاورة أو المحالفة لها لتنهض معها في ثأرها، والمحالفات لهذا الغرض كانت مألوفة، ولعلك تذكر حلف الفضول الذي اشترك فيه محمد قبل بعثه، إذ تعاهدت قبائل مكة وتعاقدت ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وكانت غزوة الأحزاب للمدينة بعد هجرة الرسول إليها نتيجة التحالف بين يهود المدينة وقبائل مكة وغيرها من قبائل العرب، ومثل هذه المحالفات كانت كثيرة في الجاهلية، وأخبارها لذلك مستفيضة في كتب التاريخ وكتب الأدب.
من شأن حياة الثأر والغزو والمغامرة أن تدعو إلى التفاؤل وإلى التطير، يتفاءل الظافر إذا أدى إلى ظفره أمر لم يكن في حسبانه، ويتطير المقهور لمثل هذا السبب، والعرب كانوا أكثر الأمم تفاؤلا وتطيرا، ولم يكن ذلك شأنهم في أمر القتال وحده، بل كان كذلك في كل شئون الحياة، وإن بعض المؤرخين لينسبون تسمية العرب أبناءهم بأسماء الحيوان إلى تطيرهم وتفاؤلهم، فيذكرون أن أحدهم كان إذا أنجب أبناء فماتوا ثم ولد له ولد، أطلق عليه اسم حيوان كثعلب أو ثور أو أو كلب أو ذئب أو فهد أو أسد، ويذكر هؤلاء المؤرخون أن نسبة كثير من القبائل إلى أسماء الحيوان ترجع إلى أن جدها الأعلى أطلق عليه اسم هذا الحيوان تحرزا من الموت، فإذا صح هذا التعليل وجب إطلاقه على غير العرب أيضا، فتسمية الناس بأسماء الحيوان أمر حادث في الأمم كلها، ونسبة الأسر إلى الثعلب أو الذئب أو غيرهما من الحيوان بعض ما نجده عند الإنجليز والفرنسيين والألمان وغيرهم، وقد يكون مرجعه إلى تطيرهم وتفاؤلهم كمرجع مثله عند العرب.
كانت عبادة الأصنام والاستقسام عندها بالقداح مما زاد في تطير العرب وتفاؤلهم، فقد كان أحدهم إذا أراد أمرا جاء بأزلام الاستخارة، وهي قطع من خشب أو حجر كتب على أحدها «آمر» وعلى الثاني «ناه» وترك الثالث غفلا، ثم خلطها في حمى صنم كهبل، وأخرج منها واحدا، فإذا خرج الآمر أقدم على ما عزم وإذا خرج الناهي أحجم، وإذا خرج الغفل استأنف الخلط والاستقسام، وكان اعتقادهم أن الصم الذي يعبدونه ويستقسمون عنده هو الذي يخرج الأزلام على النحو الذي تخرج به، ولذلك كانوا يطيعونها على أنها آية آلهتهم وأمرها.
وكان لكل قبية، بل لأهل كل دار، صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل داره أن يتمسح به أيضا، ويذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام أن عبادة الأوثان والحجارة ترجع إلى «أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة ... ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، فعبدوا الأوثان.» وكذلك اتخذت القبائل الأصنام، فاتخذت هذيل بن مدركة سواعا بأرض ينبع، واتخذت كلب ودا بدومة الجندل، واتخذت همدان ومن والاها من أرض اليمن يعوق وكان بقرية يقال لها: خيوان من صنعاء على ليلتين بسير الإبل مما يلي مكة، واتخذت حمير نسرا فعبدوه بأرض يقال لها: بلخع، واتخذت مذحج وأهل جرش يغوث ... وهذه الأصنام هي التي نزل فيها قوله تعالى:
وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا .
1
وكانت مناة من أقدم أصنام العرب، وكانت منصوبة بقديد بين مكة والمدينة، وكانت العرب جميعا تعظمها وتذبح حولها، وكانت اللات صنم الطائف، وكانت صخرة مربعة بنى عليها سدنتها من ثقيف بناء زاد في إعظامها، أما العزى فكانت في بيت بواد من نخلة، ويقال إنهم كانوا يسمعون فيه الصوت، وكانت قريش تقول عن هذه الأصنام الثلاثة؛ إنهن بنات الله تعالى وإنهن يشفعن إليه، وذلك قوله تعالى:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان .
2
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة، وكان أعظمها عندهم هبل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى؛ ولذلك جعلت له قريش يدا من ذهب، وكان إساف ونائلة صنمين عند الصفا والمروة، هذا إلى أوثان أخرى ذكر ابن الكلبي أكثرها في كتاب الأصنام، وذكر سائرها في تاج العروس وفي مروج الذهب وفي غيرهما من كتب المؤرخين.
ولم يكن العرب ينكرون وجود الله حين يعبدون الأصنام، بل كانوا يشركونها معه جل شأنه ويتخذونها إليه زلفى، ولهذا كانوا يذكرون الله في تلبيتهم حين حجهم الكعبة ويذكرون الأصنام على أنها شركاؤه، فكانت بعض القبائل تقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.» وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى!» وفي ذلك يقول الله تعالى:
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
هذه صورة مجملة من عقائد العرب وعاداتهم في حياتهم الاجتماعية قبل الإسلام. ومن اليسير أن تدرك ما قضى عليه الإسلام منها، والشرك هو بطبيعة الحال أول ما تحطم في النفس العربية أثره، فقد سمع العرب من آيات الوحي فيها ما جعلهم بعد إسلامهم ينكرونه أشد إنكار، سمعوا قوله تعالى:
وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ،
3
وقوله:
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ،
4
وقوله:
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون * وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ،
5
وقوله:
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ،
6
وقوله:
قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا ،
7
وقوله:
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ،
8
وقوله:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم
9
سمع العرب هذه الآيات وسمعوا غيرها عشرات من مثلها، فمحت كل أثر للشرك في نفوسهم، ولذلك رأينا الذين ارتدوا والذين تنبئوا حين وفاة النبي، لا يشرك أحد منهم بالله، وإنما يزعم كل متنبئ أنه نبي لقومه، وأن محمدا كان نبيا لقومه، فلما قضي على الردة آمن العرب كلهم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
كان لهذا القضاء على الشرك أثر عميق في النفس العربية، وفي الحياة الاجتماعية العربية، لم يبق لمسلم ولي من دون الله، بل أصبح ولاؤهم جميعا له جل شأنه، ولم يبق لمسلم أن يستقسم بالأزلام أو أن يستخير الأصنام، وإنما يستخير الله وحده، عليه يعتمد، وإياه يستعين، وإليه يركن، وهو الذي يهديه سبيله، بذلك تحرر العقل العربي وتحرر الضمير العربي من رق الوثنية، وأصبح هذا العقل وهذا الضمير هما اللذان يوجهان صاحبهما فيما يعزم القيام به أو الإحجام عنه، وبذلك أصبحا دون سواهما وساطة المرء إلى ربه، ولذلك لم يبق للتفاؤل ولا للتطير موضع، ولم يبق لسوانح الطير ولا لبوارحها أثر في إرادة الإنسان، ولم يبق لأحد أن يقرأ في النجوم مصاير الأفراد والأمم؛ فإنما يجري كل شيء في الكون وفاق سنة الله، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولا تبديلا.
تحرر العقل العربي من رق الوثنية، وآمن بالله خالق كل شيء، وتحرر بذلك من رق الوهم والعبودية لكثير من الشعائر التي فرضتها عليه الجاهلية، فتفتح للنظر فيما جاء من عند الله وتهيأ للأخذ به، وكان لهذا التحرر أثره العظيم في الحياة الاجتماعية، كما كان له أثره العظيم في الحياة الدينية.
وكان أعظم أثره في الحياة الاجتماعية أن تغيرت نظرة الرجل للمرأة؛ فقد سوى الوحي بين الجنسين ووجه القول للمؤمنين والمؤمنات، وللمشركين والمشركات، وتحدث عن النساء في رفق وإكرام، وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، قال تعالى:
أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ،
10
وقال :
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ،
11
وقال:
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ،
12
وقال:
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء ،
13
وقال:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا
14
كانت هذه الآيات والكثير من مثلها نغمة جديدة على السمع الجاهلي، المرأة والرجل متساويان أمام الله، تجزى كما يجزى، وتثاب كما يثاب، هذا أمر لم يسمع به العرب فيما بينهم، ولم يسمعوا بشيء من مثله عند جيرانهم من الفرس والروم، لكنه مع ذلك أمر هذا الدين الجديد الذي أوحي إلى النبي العربي، وقد أوجب على كل مسلم أن يؤمن به وأن يتبعه.
وكان لهذا الأمر أثره في صلات ما بين الزوج وزوجه، والأب وابنه، والأخ وأخيه، لم تبق الزوجة مقام الخادم أو الرقيق، بل أصبحت شريكة زوجها في الحياة، لها على زوجها ما للشريك من حق على شريكه، فالله تعالى يقول:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ،
15
ولم يبق لرجل أن يكره فتاته؛ أي أمته، على أن تتجر في ذات نفسها ليكسب المال، وهو جل شأنه يقول:
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا
16
ولم يبق لرجل أن يضيق ذرعا بابنته أو أن يئدها خوف العار أو المتربة، والقرآن ينكر ذلك في قوله تعالى:
لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ،
17
وفي قوله تبارك وتعالى:
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ،
18
ويقسم بالموءودة فيقول:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت .
19
هذه الثورة على العادات الموروثة جديرة بأن تؤدي إلى انقلاب اجتماعي في أساس الحياة العربية ينتظم البادية والحضر جميعا، وهي ثورة نزل بها الوحي على رسول الله، فهي أمر الله لا مرد له، ولا مفر من النزول على حكمه.
ولا ريب أن هذه الثورة كانت أعنف فعلا في نفوس العرب من الثورة العقلية التي انتهت إلى تحطيم الأصنام، ونفي الشرك، وتوحيد الله، فقلوبنا وعقولنا تسرع إلى الحرية تستضيء بنورها، متى حطمت من حولها الأغلال التي تقيدها، والأمر كذلك ما كان مقصورا على تفكيرنا وعلى عقائدنا الذاتية؛ فإذا امتد الأمر إلى سلطاننا في الحياة وصلاتنا بغيرنا فلشد ما نتردد في الإذعان له والتسليم به، وإذا سلمت عقولنا حاولنا مع ذلك أن نستبقي سلطاننا أو نسترد ما ضاع أو نقص منه؛ لأن شهواتنا تحملنا على ذلك حملا وتدفعنا إليه دفعا، ومهما يسم العقل على الشهوة، ومهما يستطيع التحرر لإدراك المعاني العليا، فللغريزة التي تستند إليها الشهوة حكمها، ولا أدل على ذلك فيما نحن بصدده من حديث لعمر بن الخطاب نفسه، روى مسلم بإسناده أن عمر قال: «والله إن كنا في الجاهلية لا نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا؟ فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا، وما تكلفك في أمر أريده! فقالت لي: عجبا لك يا بن الخطاب! ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان! قال عمر: فآخذ ردائي ثم أخرج مكاني حتى أدخل على حفصة فقلت لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه! فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إياها! ثم خرجت حتى أدخل على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت لي أم سلمة: عجبا لك يا بن الخطاب ! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزواجه! قال عمر: فأخذتني أخذا كسرتني به عن بعض ما كنت أجد فخرجت من عندها.»
جرى هذا الحديث بين عمر وحفصة وأم سلمة في السنة التاسعة من الهجرة، بعد أن أنزل الله تعالى في النساء ما نزل وقسم لهن ما قسم، فإذا كان ذلك شأن عمر، وهو من هو قربا من رسول الله وامتثالا لتعاليمه، فما بالك بغيره من العرب المنتشرين في شتى الأرجاء من شبه الجزيرة! لا شك أنه كان بينهم وبين أزواجهم وبناتهم وذوي قرابتهم مثل الذي كان بين عمر وابنته وأم سلمة أو أعنف منه، ولا شك أن النساء قد أصررن على ما فرض الله لهن من حق لم يكن للرجال أن ينكروه عليهن أو يناقشوهن فيه وقد آمنوا بالله وكتابه ورسوله.
إذا كان هذا أثر الانقلاب الذي أحدثته مساواة المرأة بالرجل في المركز الإنساني، فأحر بالأمر أن يكون أشد عنفا حين قرر الإسلام للمرأة حق الإرث الذي أنكرته عليها الجاهلية، وحين حد الإسلام ما كان مطلقا من تعدد الزوجات فقصره على أربع، ثم آثر الزوجة الواحدة إذا خيف عدم العدل، فالمساواة في المرتبة الإنسانية وفي مثوبة المرأة وجزائها في الآخرة أدنى إلى الاعتبارات المعنوية، ولا ضير على الرجل أن تكون بينه وبين زوجه مودة من جانبها، ورحمة من جانبه، ولا ضير عليه أن يوصي الله الإنسان بوالديه؛
حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير .
20
فأما أن ترث المرأة فتشارك الرجل فيما ترك المورث، والرجل هو الذي يطاعن بالرماح ويحمي الحوزة ويحوز الغنيمة، فذلك يمس ما يسميه بعضهم اليوم «الحقوق المكتسبة» مساسا مباشرا، ويمس المنافع المادية في صميمها، والأكثرون من الناس أشد تعلقا بالمنافع المادية وحرصا عليها منهم على كل ما سواها.
ومثل هذا كان الشأن في قصر تعدد الزوجات على أربع، وإيثار الزوجة الواحدة في قوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا .
21
فما قررته هذه الآية يتفق مع المركز الإنساني الذي جعله القرآن للمرأة، لكنه مع ذلك حد مما كان مباحا للعرب في الجاهلية، وقد قرره الإسلام فلم يكن مفر لمن أسلم من اتباعه.
وإنما هون على العرب أن يذعنوا لما نزل من هذه الأحكام في شأن المرأة حين رأوه تعالى يقول:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ،
22
ويقول:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ،
23
وحين جعل للذكر مثل حظ الأنثيين من الميراث، فهذه الآيات تفتح بابا لمن استعز بأرائه القديمة، وإن لم تفتح هذا الباب إلا قليلا، ولم تفتحه إلا لأنها ألقت على الرجل أعباء الإنفاق على أسرته والدفاع عن دينه ووطنه جهادا في سبيل الله.
كان ما نزل في النساء من هذه الآيات وأمثالها جديرا بأن يؤدي إلى انقلاب اجتماعي خطير في الحياة العربية، فالمرأة أساس الأسرة، والأسرة أساس القبيلة والأمة والاجتماع كله، واحترام الرجل للمرأة واشتراكها معه فيما تؤهله لها طبيعتها من شئون الحياة، يدفع إلى الحياة روحا وقوة لا سبيل إليهما إذا هي عوملت معاملة الرقيق وأقصيت عن كل شركة في شئون الحياة، هذا إلى أن إكرام المرأة يسمو بالفن الجميل إلى ذرى يقصر دونها إذا هي حبست في حدود أنها متاع الرجل وخادم بيته، ولعلك تلحظ ذلك في الشعر الجاهلي؛ فأكثر ما فيه عن المرأة يضعها موضع المتاع، ولا يجعل لها مكانا من قلب الرجل أو من تقديره إلا في حدود هذا المتاع، والمعلقات السبع تشهد بهذا وتؤيده، وأنت تذكر أن نساء قريش خرجن مع مقاتليها للثأر من هزيمة بدر، فلما التقوا هم والمسلمون في أحد، كن يحرضن الرجال فيقلن:
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
فلم يكن الظفر بالعدو، إعزازا للوطن وثأرا للكرامة ، جزاء كافيا لأبطال قريش في نظر نسائها، بل كان عناقهن الرجال وفرشهن النمارق لهم جزاء أوفى لمن أقبل، وكان فراقهن الرجال عقابا أنكى لمن أدبر ونكص على عقبيه، ولو أن علاقة الرجل والمرأة لم تقصر على المتاع كشأنها في الجاهلية، بل قامت على المودة والرحمة على ما جاء في القرآن، لكان لنسوة قريش غير هذا الرأي في مثوبة أبطالها وفي عقابهم.
لم يكن الانقلاب الاقتصادي الذي جاء به القرآن دون الانقلاب الاجتماعي أثرا، فقد كان للأغنياء من التجار والمرابين ومن إليهم مكان في الجاهلية يتطلع إليه الفقراء والعمال بعين الإكبار، وإن لم يحملهم الإكبار على النزول عن حريتهم وأنفتهم، وكان الأغنياء لذلك إذا أعطوا فقيرا أعطوه مشفقين، ثم منوا بإشفاقهم منهم بعطائهم، واتخذوا العطاء وسيلة ترتفع بها مكانتهم بين الناس فوق رفعتها.
قاوم الإسلام هذه النزعة الأنانية لأول ما نزل الوحي، قاومها بتقرير مبدأ الإخاء والمساواة بين الناس، وبالتثريب على الأغنياء الذين يتبعون صدقاتهم بالمن والأذى، وبتقرير الزكاة فريضة على الأغنياء للفقراء، قال تعالى:
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم * يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ،
24
وقال:
إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .
25
وليست الصدقة فضلا للغني على الفقير، بل هي حق في مال الغني للفقير، وذلك قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ،
26
وهي حق للفقير يساوي حق الأبوين في مال ابنهما إذا احتاجا، وذلك قوله تعالى:
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم .
27
هذا توجيه جديد من اليسير عليك أن تقيم على أساسه مذهبا كاملا للاشتراكية الإسلامية، وهو توجيه لم يكن مألوفا بين العرب بمثل هذه القوة، فالناس في كل العصور يتحدثون عن الإحسان وعن العطاء على أنهما فضل ممن أعطى، وليسا حقا لمن أخذ، أما القرآن فيعتبرهما حقا هو وحده الذي يطهر مال الغني مما يخالطه من الإثم؛ لذا كان لهذه النغمة أثرها القوي في انتشار الإسلام أول نزوله، وكان لها أثرها من بعد في تطور الجماعة الإسلامية هذا التطور السريع الذي رأيت.
أما الربا فقد حاربه الإسلام حربا عوانا، وحسبك لتقدر ذلك أن تذكر قوله تعالى:
يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ،
28
وقوله:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ،
29
بل لقد اعتبر القرآن الربا أكلا لأموال الناس بالباطل في قوله تعالى:
وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما .
30
أما وقد كان الربا مشاعا في الجاهلية فحرمه الله، فقد وجب ألا يأخذ أحد ما تعاقد عليه منه، وذلك قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
31
كان لهذا التنظيم الاقتصادي أثره في الحياة الاجتماعية، وكان هذا الأثر قويا عميقا زاده عمقا وقوة أنه لقي التأييد الحار من جانب الكثرة الكبرى من المسلمين، ولذا ظل المسلمون ينكرون الربا بكل ما أوتوا من قوة إلى هذا العصر الأخير.
اقترن الانقلاب الديني والانقلاب الاجتماعي في بلاد العرب بالانقلاب السياسي الذي أدى إلى وحدتها بعد شتات، وبالتوسع في الفتح توسعا رأينا أي مدى بلغ في عهد عمر، وقد تضافرت هذه العوامل فنقلت العرب، في حياتهم العمرانية وفي حياتهم الاقتصادية، نقلة لم تدر لهم ولا لآبائهم بخاطر، فقد انتقل الألوف وعشرات الألوف من أهل البادية إلى حضر الشام، وأقام الكثيرون منهم بين الرياض والغياض في دمشق وحمص وقنسرين والمدائن والكوفة والبصرة وفي غير هذه من المدن الزاهرة والعامرة، وقد رأوا في الإسكندرية وفي منف وطيبة وفي غيرها من بلاد مصر عمارة وصناعة وريفا خصبا وظلا وارفا، وقد اجتمع لهم من الفيء والعطاء رزق حسن يجنبهم شظف العيش بل يعودهم لينه وييسر لهم متعه، ثم إنهم رأوا في بنات الأصفر من الروم والشام وفي عذارى مصر وظباء العراق جمالا غير الذي ألفوا في بدوهم وحضرهم، جمال الحياة الناعمة اللينة، كما وجد بعضهم في نبيذ هذه البلاد المفتوحة طعما سائغا وفعلا رفيقا، وإلى جانب هذا كله كانت تقوم آثار الفن بارعة رائعة في معابد الروم ومقابرهم وما فيها من تماثيل وفنون أبدع صناعها في تصويرها أي إبداع، وفي كنائس المسيحيين وأديارهم وما فيها من صور تكاد تنطق بما أراد مصوروها أن تنطق به، هذا إلى ما كانت مدرسة الإسكندرية تذيعه في الناس من مبادئ وآراء، ومن علوم وفنون، وما كان يذيعه الروم والفرس في دمشق والمدائن من تعاليم وآداب أثمرتها حضارات نضجت على القرون ثم آن للعفاء أن يجر عليها ذيله.
ترى أي أثر أدى إليه اجتماع هذه العوامل الكثيرة في حياة العرب الاجتماعية لذلك العهد؟
تقتضينا الإجابة على هذا السؤال أن نضم إلى هذه العوامل عاملا وجهها جميعا، هذا العامل هو عمر نفسه؛ فقد كان لاجتهاده في الفقه والسياسة والاقتصاد والاجتماع أثر أعظم الأثر في الجماعة الإسلامية كلها وفي العرب جميعا، سواء من أقام منهم في شبه الجزيرة ومن استوطن البلاد المفتوحة، وسنفصل شيئا من هذا الاجتهاد في الفصل التالي، وهذا الاجتهاد هو الذي عصم الحياة الاجتماعية في عهده من التدهور، وهو الذي حفظ للروح الإسلامي سؤدده على نفوس المسلمين حيثما كانوا، وهذا فضل لعمر عظيم يضاف إلى سيرته العادلة في الحكم، وإلى اضطلاعه بأعبائه في قوة وبراعة.
فقد أدرك بإلهامه أن النفس الإنسانية، حين تندفع إلى السمو الروحي، معرضة دائما لجواذب الأهواء تميل بها إلى المستوى الذي يلائم طباعها وسلائقها، كطائرة ترتفع محلقة في الجو، وهي معرضة أبدا للانحدار، بحكم جاذبية الأرض، إذا ضعفت القوة التي رفعتها في أجواز الأثير، فإذا لم يصرف أمير المؤمنين عنايته لمقاومة أسباب الضعف في نفسه أولا ليكون الأسوة لغيره، ولمقاومة أسباب الضعف في نفوس الناس جميعا ، خيف أن تنحرف المبادئ التي أدت إلى السمو والقوة عن وجهتها وأن تتغلب عليها السلائق والأهواء الدنيا، وأن يعود الناس سيرتهم الأولى مصورة في ظاهر جديد يظن الناظر إليه أنه يتفق مع مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقد رأيت كيف بلغ عمر من القسوة بنفسه، كيما يحس إحساس أفقر المسلمين وأضعفهم، حتى أشفق أصحابه في حين من الأحيان على حياته، وقد جعلته قسوته بنفسه في حل من أن يقسو بكل من يراه مخالفا لموجب العدل والتقوى، أو منحرفا عن سبيل النزاهة والخلق القويم، بذلك استطاع أن يحاسب عماله الحساب العسير، وأن يعزل منهم من رأى فيه اعوجاجا مع المحافظة على هيبة المحسنين منهم وتقوية سلطانهم، وأن يجتهد في بعض الحدود والأحكام اجتهادا لم يعرفه الناس في عهد أبي بكر ولا في حياة الرسول، وأن يستن في الاقتصاد والاجتماع سننا صارمة رآها تكفل لمبادئ الدين القيم أن تظل في صفائها ونقائها.
أدى مثل عمر وأدت سياسته في الاقتصاد والاجتماع، إلى بقاء ما ركب في النفس العربية من خلال الإقدام والغزو سليما قويا؛ فهو لم يسمح للعرب المحاربين باستغلال الأرض في العراق والشام ومصر، بل أبقاهم في مسالحهم جنود جهاد وفتح، فكانت الإمبراطورية المترامية الأطراف نتيجة محتومة لهذه السياسة، وأدى اجتهاد عمر إلى يقظة النشاط العقلي عند العرب في ميادين لم يكونوا يألفون الخوض فيها، فقد أغرى تدفق المال الناس بالإقبال على الثروة والحرص على جمعها وتثميرها، فحبذ بعضهم هذا الاتجاه ورآه خيرا لرخاء المسلمين، وعابه بعضهم ورآه مخالفا لمبادئ الدعوة الإسلامية، مستندين إلى قوله تعالى:
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى ،
32
ورأى المسلمون في البلاد المفتوحة آثارا من الفن بعضها تماثيل تشبه الأصنام التي كانت عند الكعبة في الجاهلية فلم يحطموها، بل لم ير سعد بن أبي وقاص بأسا بأن يتخذ إيوان كسرى بالمدائن مصلى، وأن يترك ما به من تماثيل قائما على أنه بعض الزخرف الذي ازدان به القصر وازدانت به أبهاؤه، وهو إنما أبقاها؛ لأنه لم يكن أحد يعبدها، وكان معظم هذا النشاط متجها إلى ما لم ينزل فيه قرآن ولم تجر به سنة من رسول الله، فكان اجتهاد الرأي فيه مما عني العرب به، على أن هذه العناية لم تتعد المنافع العاجلة، فلم تخرج بالعرب عن طبيعتهم، ولم تبلغ بهم إقامة مذاهب في الفلسفة أو الاقتصاد أو الاجتماع قوامها المنطق الذي يتعمق الأشياء كما فعل اليونان، ولا إلى إقامة مذاهب في الأدب على اختلاف صوره، يتطور معها الشعر إلى الملحمة، والنثر إلى القصة الطويلة كما فعل الفرس.
ومن الشطط أن يطلب إنسان إلى أمة العرب لذلك العهد أن تنتقل في فلسفة التوحيد إلى ما فصله الغزالي والفارابي وابن رشد وغيرهم من بعد، وحسبها أنها آمنت بالعقائد والقواعد التي جاء بها الرسول من عند الله، وأنها اتخذت هذه العقائد والقواعد أساسا لعباداتها ونظم حياتها ومعاملاتها، ثم حسبها بعد ذلك فخارا أن أقامت القواعد من الإمبراطورية، فشاد أبناء هذه الإمبراطورية رويدا رويدا مبادئ الحضارة التي وجهت الإنسانية قرونا طويلة من بعد، فإذا ذكرت أن هذا الانتقال لم يكن بالأمر الهين وذكرت جهاد رسول الله وأصحابه في سبيله، وقدرت حال العرب في ذلك الطور من حياة الإنسانية، وجب عليك أن تنظر في كثير من التسامح ما بقي بين العرب من عاداتهم القديمة التي لم يحرمها الإسلام، وإلى ما اندفعوا إليه بحكم التطور الذي أقام الإمبراطورية، بعد أن أفاء عليهم من الأموال والنعم ما لم يكن لهم من قبل به عهد.
والواقع أن العرب لم يكونوا في ذلك طرازا وحدهم، ولم يخرجوا فيه على مألوف الجماعة الإنسانية في كل العصور، فما أكثر ما في التاريخ من شواهد على أن الثورات لا تغير من ميول البشر وعاداتهم، بقدر ما تغير من مسارح تفكيرهم ونظم جماعتهم! فهم ينتهون إلى التسليم برأي من الآراء أو بمبدأ من المبادئ وإلى الإيمان به، ومع ذلك تراهم لا يلبثون أن يكيفوا ما تفرضه عليهم سليقتهم من ميول وأهواء ليسلكوها في نطاق هذا المبدأ، وفي نطاق النظام الذي يقوم على أساسه ، ذلك بأن الكثرة الكبرى من الناس تتأثر بدوافع الغريزة ومغرياتها أضعاف ما تتأثر بالمثل العليا التي ترسم لهم وتتراءى أمامها، وهذه الكثرة شديدة الرجاء دائما في التخلص من الجزاء الذي يترتب على اندفاعها مع أهواء الغرائز ودوافعها، وهي تلتمس هذا الرجاء في الاستتار عن أعين الناس حينا، وفي شبهة القاضي يدرأ بها الحد حينا آخر، وفي مغفرة الله دائما، أليس عفوه وغفرانه قد وسعا كل شيء؟ أولا تجزى الحسنة عنده بعشر أمثالها، ولا تجزى السيئة إلا بمثلها؟ ويا بؤس الإنسان إذا لم يكن له في عفو الله مطمع! وما أكثر ما يجد الإنسان في خلق الله من متاع! فمن استحل منه ما أحل الله، وحرم على نفسه ما حرم، وعمل صالحا، فله أجره عند ربه، ومن زلقت به القدم وأغرته النفس الأمارة بالسوء ثم تاب وأناب، فإن الله يقبل التوبة من عباده.
ماذا بقي من عادات الجاهلية في حياة العرب الاجتماعية بعد إسلامهم؟ وماذا طرأ عليهم في هذه الحياة حين انفسحت إمبراطوريتهم، واستقر الألوف منهم خارج شبه الجزيرة؟
كان العرب في الجاهلية يتعصب كل منهم لقبيلته، ويتعصبون جميعا للجنس العربي، وطبيعة الدعوة الإسلامية تنكر هذه العصبية الجاهلية؛ فهي تسوي بين الناس جميعا، وإنما يتفاضلون بأعمالهم وتقواهم، لا فرق بين عربي وغير عربي، والقرآن صريح في ذلك إذ يقول تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
33
ويقول:
إنما المؤمنون إخوة ،
34
والإسلام قد نزل للناس كافة، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجمهم، ولذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في خطبة الوداع:
أيها الناس إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى.
مع ذلك بقيت العصبية القبلية متأصلة في نفوس أكثر العرب، وبقي التعصب للجنس العربي قويا فيهم جميعا؛ بل لقد تضاعف هذا التعصب للجنس بانتشار العرب في ملك فارس والروم وحكمهم أهله، وأيقن العرب أن ما ألقاه القدر عليهم من رسالة وقف عليهم لا يشاركهم فيه أحد.
والأمثلة على بقاء التعصب للقبيلة كثيرة في التاريخ، وقد حدث من ذلك في حياة النبي أن تفاخر الأوس والخزرج وذكروا يوم بعاث وقال أحدهم: «إن شئتم والله لنعيدنها جذعة.» ولولا أن تدخل النبي بينهم وأعاد إليهم إخاءهم لكان بين الفريقين شر، وقد سكن التعصب للقبيلة في العهد الأول من حكم الخلفاء؛ لأن اشتغال المسلمين بالفتح أمات ما بينهم من منازعات، فلما اختلف علي ومعاوية عادت العصبية للقبيلة سيرتها الأولى، وعاد ما كان بين بني هاشم وبني أمية إلى مثل ما كان في الجاهلية، ولا تزال هذه العصبية للقبيلة قوية في العرب أهل البادية إلى وقتنا الحاضر، سواء في ذلك من أقام منهم في شبه الجزيرة ومن أقام خارجها.
أما تعصب العرب لجنسهم فقد زاده الفتح أضعافا مضاعفة، كيف لا وهم يرون الإمبراطوريتين العظيمتين، فارس والروم، تنهار أركانهما أمام قوتهم ويدول سلطانهما لدولتهم، ولعلهم لم يجدوا بهذا التعصب بأسا والله تعالى يقول فيهم:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ،
35
ويقول:
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ،
36
فذكروا هذه الآيات ونسوا تثريب الله عليهم ولومه لهم في كثير غيرها، كما نسوا مبادئ الإخاء والمساواة التي دعا الإسلام إليها وجعلها أساس الإيمان.
وليس لنا أن نؤاخذ العرب بتعصبهم لجنسهم؛ فالتعصب للجنس كان ولا يزال سنة في الأمم تأخذ بها وتعمل على تقويتها، ألا يزعم الجنس الأبيض اليوم أن القدر اختاره ليرقى بالأجناس الملونة، على تعبيرهم، في مدارج الحضارة! أولا يزعم الجنس الآري أنه أفضل من الجنس السامي ومن سائر الأجناس؛ وأنه أحدها ذكاء، وأدقها منطقا، وأكثرها في العلم والفن ابتكارا وإنتاجا! والجنس السكسوني والجنس الألماني يدعي كل منهما لنفسه مثل هذه الدعوى التي يتشدق بها كل من بسم له الحظ، فجعل له سلطان البطش بالشعوب الأخرى في طور من أطوار التاريخ الإنساني، وهؤلاء جميعا يتشدقون بهذه الدعوى وهم يعرفون ما يثبته التاريخ من أن السلطان دول، فهو ينتقل بين الأجناس والألوان والأمم في أطوار تتصل بالحياة المعنوية حينا، وبالحياة الاقتصادية حينا آخر، ولا علاقة له البتة بجنس بذاته ولا بلون بذاته، فإذا كان العرب قد بالغوا في التعصب لجنسهم، يوم كانوا الغالبين وكانت مقاليد الحضارة في أيديهم، فلهم من العذر أنهم جروا على السنة التي تجري عليها الأجناس كلها والشعوب جميعا؛ فتعصبوا لعربيتهم، وإن خالف هذا التعصب مبادئ الإسلام، ودعوته الصريحة القوية إلى الإخاء والمساواة.
وقد أدى بهم هذا التعصب إلى التشبث بعادات جاهلية لا تقرها تعاليم الإسلام، من ذلك حرصهم على الثأر وتشبثهم بعاداتهم القديمة فيه، فالتعاليم الإسلامية لا تبيح من الثأر ما كان مباحا في الجاهلية، وما كان يثير بين القبائل قتالا يتصل أعواما، فالله تعالى يقول:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ،
37
ويقول:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى .
38
والقصاص حد من الحدود يقيمه ولي الأمر، ولا يتولاه ولي الدم نفسه، هذا، ثم إن القرآن يأمر بالعفو وينصح به في كثير من الآيات، مع ذلك تشبث العرب بالثأر، فبقي عادة متأصلة فيهم متنقلة على الأجيال بينهم، وذلك شأن البدو منهم إلى يومنا هذا، بل إن من الحضر الذين يمتون إلى البدو بصلة القربي من لا تزال فكرة الثأر متصلة في نفوسهم بكرامتهم وبحياتهم؛ فهم لا ينزلون عنها، ولا يجدون في القانون وقصاصه ما يرضي عاطفتهم ويعدل بهم عن جاهليتهم.
سكنت العصبية للقبيلة، وسكنت الثارات في عهد عمر؛ لأن المسلمين شغلوا بالجهاد والفتح، على أن ما أفاءه الفتح عليهم من مغانم، وما بدله من حياة من سكن الحضر في العراق والشام ومصر من أهل البادية، أثار في كثير من النفوس نزعتها الأولى للمتاع المادي بالحياة.
فقد كان للعرب في جاهليتهم غرام بالنبيذ والخمر، وولع بالنساء والغناء، وافتتان في إشباع الشهوات بالقدر الذي ييسره لهم حظهم من الرخاء أو من شظف العيش، فلما كان الفتح وعظم حظهم من الرخاء فصارت أسباب المتاع في متناول أيديهم، هرع الكثيرون منهم إلى إرضاء ما أحبت نفوسهم من قبل، وما أسرع ما هيأ لهم المنطق وسيلة الاقتناع بأنهم لا يخالفون في ذلك ما أمر الله به وما نهى عنه وما أقام حدوده! بذلك عاد منهم إلى الشراب من عاد، وهو يزعم أن لا إثم عليه فيما يتناوله منه؛ فلم يفرض الله حدا لشارب، ولم ينزل رسول الله ولم ينزل أبو بكر بشارب عقابا، أما النساء فقد أرضى ولع الكثيرين بهن ما ملكت أيمانهم منهن؛ فقد كانت سبايا الفرس والروم، ومنهن فاتنات الجمال والدلال، يقسمن بين الجند كما تقسم أموال الفيء، ويعرضن في الأسواق رقيقا يبتاع منهم من شاء أن يرضي بهن هواه.
وإن كتب الأدب وكتب التاريخ لتقص من ألوان هذا المتاع بالخمر والميسر والنساء الشيء الكثير، سقنا من قبل حديث أولئك النفر من المسلمين الذين شربوا الخمر بالشام فسألهم أبو عبيدة، فلم ينكروا لكنهم تأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا؛ قال: هل أنتم منتهون، ولم يعزم علينا. وقصصنا كذلك حديث عبد الرحمن بن عمر حين شرب الخمر بمصر، وذهب إلى عمرو بن العاص ليقيم عليه الحد، وذكرنا نبأ أولئك الذين رآهم عمر ليلة يشربون بظاهر المدينة، فلما سأل أحدهم الغداة عما كانوا يفعلون أجابه: ألم ينهك ربك عن التجسس! وهذه أمثال سقناها في مناسباتها، وهي مع ذلك تدل على أن الشراب كان فاشيا في بعض طبقات المسلمين لذلك العهد، مع ما كان من شدة عمر في تحريمه وإقامة الحد عليه.
وما يروى عن حديث النساء أكثر استفاضة، وبعضه ينسب إلى أشخاص لهم مكانتهم، وقد رأينا كيف كان اصطفاء ذوات الجمال من السبايا أمرا جاريا مجرى العادة، لا ينكره أحد، ولا يلام من أجله أحد، وقد اصطفى علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وغيرهما من كبار الصحابة سبيات من الفرس والروم أنجب بعضهن ولم ينجب بعضهن الآخر، ويروي صاحب الأغاني أن عبد الرحمن بن أبي بكر استهيم بليلى بنت الجودي الغساني، وكان قد رآها ليلة في بيت المقدس في جوار ونساء يتهادين، فإذا عثرت إحداهن قالت: يا ابنة الجودي، وإذا حلفت إحداهن حلفت بابنة الجودي، وكانت ليلى تقيم بدمشق؛ فلما فتحها المسلمون سبوها وغنموها لعبد الرحمن، فسار بها إلى المدينة وأقام معها مفتونا بها فتنة جنون، وتحدث الناس بغرامة وما يصنع، حتى كلمته شقيقته عائشة أم المؤمنين وذكرت له حديث الناس، فلم يزد على أن قال: «يا أخية دعيني، فوالله لكأني أرشف من ثناياها حب الرمان!»
وبادلته ليلى أول الأمر حبا بحب وغراما بغرام، وسرها أنها كانت في بيته الملكة المتفردة بالأمر على كل ما فيه ومن فيه، لكن مر الأيام دس إلى قلبها حنينا لأهلها، ولما كانت تستمتع به من مكان الملك بينهم، ولا عجب، فأين حياتها بالمدينة من حياتها في قصر الإمارة بدمشق بين الغياض والرياض من جناته الفيحاء! وأين عيشها مع عبد الرحمن مما كان لها في قصر أبيها من أسباب الخفض والنعمة! كان لها في هذا القصر بساط يمد لها إذا ذهبت إلى حاجتها، وكان يرمى بين يديها برمانتين من ذهب تتلهى بهما في طريقها، وكان لها بدمشق جوار يخطئهن العد، وهي بالمدينة جارية وإن نالت عند سيدها من الحظوة ما نالت، وزاد بها الحنين، فكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها ثم رجع إليها رأى في عينيها البكاء، فإذا سألها: ما يبكيك؟ لم تحر جوابا، وقال لها يوما: اختاري خصالا أيها شئت فهي لك: إن شئت أعتقتك وتزوجتك، وإن شئت رددت على قومك، وإن أحببت رددتك على المسلمين، وأبت كل ما عرضه، فألح عليها يسألها عن سبب بكائها فقالت: «أبكي الملك من يوم البؤس!» وحزت هذه الكلمة في نفس عبد الرحمن، ورأى فيها من التنكر له وإنكار جميله ما غير قلبه على ليلى، فأعرض عنها وزادها إعراضه ألما، فمرضت وشحب لونها وانطفأ نورها وذهب جمالها، فملها عبد الرحمن، وهانت عليه وأساء معاملتها، وبلغ من بؤس الأميرة الأسيرة أن تحرك قلب عائشة أم المؤمنين رفقا بها وشفقة عليها، فقالت لأخيها: «يا عبد الرحمن، لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضتها فأفرطت ، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها!» وجهزها عبد الرحمن فرجعت إلى أهلها كاسفة البال كسيرة الطرف، وقضت بينهم بقية حياة حرمت خير أنعم الحياة.
ليست قصة عبد الرحمن بن أبي بكر فريدة في نوعها، وإذا كان لهذا النوع من القصص المنثورة في كتب الأدب والتاريخ دلالة، فهي أن العرب طبعوا على حبهم المرأة وغزلهم بالنساء بعد الإسلام، وأنهم وجدوا في سبايا الفتح ما زادهم في التعلق بالنساء افتتانا، كانت قصة عبد الرحمن وأشباهها مما يقع بالمدينة، ما بالك بما كان يقع بالكوفة والبصرة وبدمشق وحمص وبالفسطاط والإسكندرية! وأنت تذكر قصة أم جميل إحدى نساء بني هلال، وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف، فغشيت المغيرة بن شعبة وهو على ولاية البصرة، فاتهمه فيها قوم عند عمر فعزله عن ولايته، والطبري يسوق قصة أم جميل هذه وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف، ويقول: «وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها.» أي في عهد عمر.
ربما فسرنا بعض الذي كان من إقبال كثيرين على الشراب وعلى النساء وعلى غير هذين من متع كان العرب يحبونها قبل إسلامهم، أنهم كانوا في حرب دائمة وقتال متصل، فإذا رجعوا من الميادين كانوا على أهبة دائمة للعود إليها، فقد كانت البصرة والكوفة وبلاد كثيرة غيرها في العراق والشام مسالح تضم الجند العائد من القتال والمتأهبين له، ونحن نشهد اليوم والتاريخ يحدثنا في أنباء ما سلف من العصور أن الحرب تثير في كثير من النفوس شهواتها وتدفعها لإمتاع هذه الشهوات وإشباعها، والسر في ذلك أن الجند لا يجدون إذا فرغوا من القتال، ما يملئون به فراغهم إلا أن يذكروا فعالهم يفاخرون بها، وفعال زملائهم الذين خروا صرعى في حومة الوغى يتحدثون عنها، ولم تكن المعارك في ذلك العهد تستنفد من الوقت ما تستنفده معارك هذا العصر، وقد رأينا معركة القادسية لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام، ورأينا معركة نهاوند تنتهي في مثل هذا الوقت أو في أقل منه، ولم يكن القتال ليطول إلا أن يحاصر المسلمون مدينة منيعة كدمشق أو قيسارية أو بابليون أو الإسكندرية، وكان الجند كلما انتصروا عادوا بالغنائم والأسلاب، ومن بينها السبايا من نساء البلد المفتوح وبناته، وكثيرا ما يحدث في الحروب أن يستباح البلد المفتوح أياما عقب الفتح يرخى للجند فيها العنان، يأكلون ويشربون، ويستمتعون بكل ما طاب لهم أن يستمتعوا به، وكان الذين يعودون من الفتح بالسبايا في حل من الاستمتاع بما ملكت أيمانهم منهن، فأما من لم يكن له منهن حظ يرضيه، ثم هوت نفسه إلى المتاع، فقد كان يلتمس بعد أوبته وسيلة متاعه، ذلك شأن الجند في كل عصر، وهو شأنهم اليوم، وهو يفسر لنا بعض ما ترويه كتب الأدب والتاريخ لما حدث من مثله في عهد الفتح الإسلامي.
على أن هذا التفسير لا يكشف لنا عن السر في حرص العرب على هذا المتاع، بعد أن انقضى عهد الفتح والغزو، فقد ظل كثيرون يتوفرون على الشراب ويولعون بالنساء في عهد الأمويين، وفي عهد العباسيين، وفي عهود الانحلال التي تلت هذين العهدين، ولم يكن الرأي العام شديد الإنكار على أصحاب هذا المتاع، بل كان الناس يحسنون الاستماع لما يروى عنهم وما يوصف به متاعهم، ولا أحسبني أعرف شعرا بلغ من الافتنان في الخمريات وفي الغزل ما بلغه الشعر العربي، والشعر الإسلامي يستمد الوحي في هذين البابين من الشعر الجاهلي أكثر مما يستمده منه في غيرهما، فإذا كان في طبيعة القتال أن يثير الشهوات وأن يدعو إلى الإمعان في إرضائها، فهو إنما يثير الشهوات الأصيلة في النفس ولا يخلق غيرها؛ لذا لم يزد الفتح العربي على أن أثار في بعض النفوس شهوات جاهلية وقف منها عمر موقفا حازما نتحدث عنه بعد حين.
لكن عمر لم يقف مثل هذا الموقف مما أحله الإسلام من ألوان المتاع السائغ عند بني جنسه، من ذلك أن العرب كانوا من أكثر الشعوب حبا للغناء وولعا بسماعه، بل كان الغناء من حاجات حياتهم وضرورات عيشهم، فحداؤهم الإبل كان ينسيهم وينسي إبلهم وعثاء السفر ويهون عليهم مشقته، فإذا نزلوا منزلا يستريحون فيه بعد طول السرى كان الغناء بعض سلوتهم، وبخاصة إذا كان بينهم مطرب رخيم الصوت حسن الإيقاع تحيي أنغامه ما في نفوسهم من حنين للأهل، أو حرص على الثأر، أو تطلع للمجد، وقد شاع ذلك في باديتهم وفي حضرهم، فكانت مجالس الغناء تعقد بمكة والمدينة وغيرهما من بلاد شبه الجزيرة، كما كانت تعقد في أرجاء البادية من أقصى جنوبها إلى أقصى الشمال، وكان عمر نفسه، على ما عرف من شدته وغلظته، يطرب للغناء ويردده أحيانا. خرج رهط من الشبان في ركب فيه عمر وعثمان وابن عباس، وفيه رباح الفهري الذي كان يجيد الحداء والغناء، فلما أمسوا سأل الشبان رباحا أن يحدو لهم فأبى وقال: مع عمر؟ قالوا: احد، فإن نهاك فانته، فحدا فلم يعترض عمر، بل طرب لسماعه، فلما كانت ساعة السحر قال له: كف! هذه ساعة ذكر، وسأل الشبان رباحا في الليلة الثانية أن ينصب لهم نصب العرب، وقالوا له حين أبى خوفا من عمر: انصب فإن نهاك فانته، وسمع له عمر حتى ساعة السحر ثم قال له: كف! فإن هذه ساعة ذكر، وسأل الشبان رباحا في الليلة الثالثة أن يغنيهم غناء القيان، فلم يكد يبدأ حتى صاح به عمر: كف فإن هذا ينفر القلوب!
وخرج عمر مرة للحج، فاقترح من معه على خوات بن جبير أن يغنيهم من شعر ضرار، قال عمر: بل دعوا أبا عبد الله فليغن من بنيات فؤاده، وغنى خوات وطرب عمر، حتى إذا كان السحر قال له: ارفع لسانك يا خوات فقد أسحرنا.
وتغنى عمر وهو في ركب:
وما حملت من ناقة فوق رحلها
أبر وأوفى ذمة من محمد
فاجتمع الركب يسمعون إليه، فلما رآهم اجتمعوا قرأ القرآن فتفرقوا، وتكرر ذلك منهم ومنه، فصاح بهم: يا بني اللقطاء! إذا أخذت في مزامير الشيطان اجتمعتم، وإذا أخذت في كتاب الله تفرقتم!
ونهيه رباحا عن غناء القيان بعد استماعه له وهو يحدو وهو ينصب، وغضبه من الذين تفرقوا حين قرأ القرآن بعد اجتماعهم لسماعه يتغنى بالشعر، يشهدان بأنه كان يحب السماع ويحب الغناء، ولقد كان يحب الغناء يحسن صاحبه التعبير عن المعاني التي ترضاها النفس الكريمة، ولا ينزل إلى حيث يستهوي في النفس نوازع ضعفها ونزغ شهواتها، وكان على حبه الغناء والاستماع له، يؤثر عليه سماع القرآن وتلاوته، ولا عجب وقد كان عمر إذا سمع القرآن وهو مغضب سكت عنه غضبه، وكثيرا ما كان يستدر مآقيه دموعا تعبر عن عمق إيمانه وصدق إسلامه، ولا عجب وقد كان ضعف النفس لأمرها بالسوء شر ما يعاب به الرجل عند عمر.
وإنما نهى عمر عما يحرك في النفس نوازع الضعف ونزغ الشهوة لما رأى من سوء أثره في حياة الجماعة، وحياة الجماعة وقوة هذه الحياة ونشاطها وتوثبها إلى الأغراض السامية واجبات يضطلع بها الحاكم، كاضطلاعه بحفظ النظام في الدولة والمحافظة على سلامتها؛ لأن هذه القوة وهذا النشاط وهذا التوثب كلها أدوات للنظام والسلامة، وليست الأقوال دون الأفعال أثرا في هذه الحياة. كان المديح وكان الهجاء من أغراض الشعر العربي في الجاهلية ثم ظلا من أغراضه في الإسلام، ولا يزالان من أغراضه إلى اليوم، وكان بعض الشعراء يغلون في مدائحهم وأهاجيهم غلوا يحرك الحفائظ ويثير المنازعات، فكان عمر يؤاخذ هؤلاء الشعراء، ويأخذهم بالشدة التي تردعهم وتردهم عن الاسترسال في غيهم.
والرواية عنه في ذلك مستفيضة، روي أنه حبس الحطيئة؛ لأنه كان يقول الهجر ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم، فلما أعطاه الحطيئة موثقا ألا يعود إلى ما حبس فيه أطلقه، فلما ولى ناداه فرجع فقال له: كأني بك يا حطيئة عند فتى من قريش قد بسط لك نمرقة
39
وكسر لك أخرى ثم قال: غننا يا حطيئة، فطفقت تغنيه بأعراض الناس! فأقسم الحطيئة أن لن يفعل، قال زيد بن أسلم: ثم رأيت الحطيئة يوما عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة وكسر أخرى، ثم قال: تغنينا يا حطيئة، وهو يغنيه، فقلت: يا حطيئة! أما تذكر قول عمر! ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء ! أما لو كان حيا ما فعلنا هذا. وإنما حبس عمر الحطيئة لهجائه الزبرقان بن بدر في أبياته التي يقول فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وكان عمر مشغوفا بالشعر، يرويه ويتمثل به ويحث على روايته، فلما شكا الزبرقان إليه الحطيئة أراد أن يدرأ التعزير بالشبهة، فقال حين سمع هذا البيت: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة، ثم إنه سأل حسان بن ثابت وهو الخبير في الشعر، فلما شهد بإفحاش هذا البيت في الهجاء، حبس الحطيئة ثم أنذره ألا يعود إلى مثل ما فعل، ولم يعد الحطيئة إلى الهجاء إلا في خلافة عثمان.
وحبس عمر الشاعر الذي هجا بني العجلان بأبياته التي يقول فيها:
أولئك أولاد الهجين وأسرة ال
لئيم ورهط العاجز المتذلل
حبسه وضربه، وأنذره إن عاد لمثلها ضاعف عقوبته.
وإنما عاقب عمر الشعراء الهجائين فحبسهم وضربهم وعزرهم وأنذرهم، مع شغفه بالشعر وروايته، لما يعلمه من أن القول أعمق في حياة الجماعة الإنسانية أثرا من كل ما سواه، فالناس، من طفولتهم إلى ختام حياتهم، يتأثرون به ويندفعون إلى أعمالهم بما يلقنونه منه: عقائدنا وعاداتنا وعلمنا وتفكيرنا وعواطفنا وميولنا تتكيف كلها بما نسمعه منذ طفولتنا من أهلنا وأساتذتنا وأصحابنا، وما نقرؤه في كتب من سبقنا، والمديح والهجاء كانا سائغين في الجاهلية، بل كانا من المقومات الأساسية للحياة الاجتماعية فيها، ثم كانا صيحة الحرب والدعاية حين تندفع قبيلة لتثأر من قبيلة، وإذا كان القتال من مألوف الحياة إذ ذاك، فقد كان الشعراء يشيدون بمحاسن إحدى القبيلتين وينشرون مثالب الأخرى، أما وقد أصبح العرب أمة واحدة تقف في وجه عدوها صفا واحدا، فقد وجب أن تزول هذه العادة الجاهلية من حياة الأمة الاجتماعية، وقد وجب على أمير المؤمنين أن يعمل لذلك جهده، وزوالها أوجب في عهد النضال والفتح، لما يقتضيه من تآلف القلوب وتضافر القوى واتجاه الأمة بأسرها في وحدة لا انفصام لها لمواجهة العدو والقضاء على كل مطامعه.
وقد كانت سياسة عمر في القضاء على هذه النعرة القبلية موفقة، بل كانت كلها السداد والحكمة وبعد النظر، أقرر هذا وأنا أشد الناس إيمانا بحرية الرأي وحرية التعبير عنه بالقول وبالكتابة، وبكل ما عرفت الإنسانية وما ستعرف من وسائل التعبير، ذلك بأن الرأي شيء، والهجاء والقذف شيء آخر، الرأي فكرة أو مجموعة من الأفكار تصدر عن المنطق أو عن الوجدان، وغاية صاحبه منه أن يكون الناس أقل شقاء أو أسعد حالا مما هم فيه، قد يخطئ صاحب الرأي وقد يصيب، وأنت في حل من أن تحارب الرأي إذا اعتقدته خاطئا، لكنك لا تملك أن تحارب صاحب الرأي إلا أن تقيم الدليل على سوء نيته في إبدائه، وعلى أنه لم يقصد به إلى خير عام ومصلحة يشترك فيها الناس جميعا، فإذا استطعت إقامة هذا الدليل لم يسغ لك مع ذلك أن تتناول من حياة صاحب الرأي الخاصة ما لا يتصل بالرأي الذي أبداه، أو بالعمل الذي يريد أن يرتبه على هذا الرأي، أو بما أقمت عليه الدليل من سوء قصده، في هذه الحدود وحدها أنت في حل من أن تحاربه وأن تبلغ في حربه ما شئت من شدة وعنف، أما أن تتعرض إلى ما وراء ذلك من حياته فذلك هو القذف، وهو الهجاء والإقذاع فيه، وهو ما لا يجوز لقانون أو لحاكم أن يبيحه، بل يجب أن يعاقب مرتكبه عقابا رادعا في بدنه وفي ماله، وأن يبلغ هذا العقاب من الشدة بحيث يصون لأصحاب الرأي وللعاملين للخير العام حريتهم في رأيهم وفي عملهم، بقدر ما يصدهم النقد النزيه عن تجاوز الحق في الرأي والخير العام في العمل.
أدت سياسة ابن الخطاب في محاربة الهجاء والهجائين إلى استنامة الحفائظ وسكون كل ما يثيرها، ولا أدل على ذلك مما تلوته من قول الحطيئة حين تغنى بعد عمر بأهاجيه: «رحم الله ذلك المرء! أما لو كان حيا ما فعلنا هذا.» لكن الهجاء لم يلبث أن عاد بعد عمر، وأصبح من مألوف الحياة الاجتماعية في الجماعة الإسلامية، على أنه لم يعد كما كان أداة دعاية للقبائل في منازعاتها بقدر ما أصبح أداة تكسب وارتزاق، أو أداة إرضاء للأهواء وإشباع للشهوات، وكذلك كان الشأن في غير الهجاء من مألوف الحياة الاجتماعية قبل الإسلام، ولا عجب فقد بقيت في نفوس أكثر العرب الذي أسلموا نزعات جاهلية لم يستطيعوا التغلب عليها، بل لعلهم لم يحاولوا هذا التغلب.
وقد عبر الأستاذ أحمد أمين خير تعبير عن هذا المعنى في كتابه «فجر الإسلام» بقوله:
الحق أن النزاع بين النفسية الإسلامية والنزعات الإسلامية، والنفسية الجاهلية والنزعات الجاهلية، كان شديدا وكان عهده طويلا، وأن الإسلام لم يصبغ العرب صبغة واحدة على السواء، بل إن خير من تأثر به هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أولئك دخل الدين إلى أعماق نفوسهم، وأخلصوا له وأنفذوا أوامره، فأما من أسلموا يوم الفتح أو بعده، وظلوا على كفرهم وعنادهم حتى رأوا النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ينتصرون فلم يسعهم إلا الإسلام، فهؤلاء كان دين كثير منهم رقيقا،
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى
40
وبحق قسم المؤرخون الصحابة إلى طبقات حسب مراتبهم، أوصلها بعضهم إلى اثنتي عشرة طبقة آخرها من أسلم يوم الفتح.
كان عمر من خير المسلمين إدراكا لأصول الدين وقواعده، ومن أحسنهم تقديرا لما يؤدي إلى إقرار هذه الأصول واستقرار هذه القواعد؛ لذلك حرص على أن ينفي عن الجمعية الإسلامية ما لا يقره الإسلام مما ألف العرب في جاهليتهم، وأن يصبغها بصبغة الدين الجديد في مظاهر حياتها جميعا، والإسلام إمبراطوري في جوهره، وإمبراطوريته روحية أولا وقبل كل شيء، وهو لذلك يؤلف بين القلوب بروابط الإخاء والمساواة، «فلا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» لا مفر للأمين على مبادئ هذا الدين إذن من أن يذود عن مبادئه كل ما يخالف أغراضه أو يعطل تحقيقها.
وقد كان عمر حازما في ذلك كل الحزم، صارما فيه كل الصرامة، لا يعرف ترددا ولا هوادة، كان يقيم حدود الله، ويضع من الحدود، بعد مشورة أولي الرأي، ما يتفق وأغراض الإسلام، وقد رأيت ما فعله بمن شربوا الخمر في الشام وفي غير الشام، روي أنه استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال علي بن أبي طالب: «أرى أن تضربه ثمانين حد القذف، فإنه إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإن هذى افترى.» فجلد عمر في الخمر ثمانين، واعتبر عمله هذا حدا لشارب الخمر بإجماع المسلمين في عهده، ومن بعده،
41
وسنرى عند الكلام في الفصل التالي عن «اجتهاد عمر»، ما كان من شدة حرصه على أن تستقر الحياة الإسلامية على أساس صحيح من المبادئ التي نزل بها الوحي، والتي قررتها سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم . •••
أنت ترى، من كل ما سقناه في هذا الفصل، أن الحياة الاجتماعية تطورت في عهد عمر متأثرة بعوامل كثيرة متباينة، لم يكن الكثير منها قائما في عهد النبي، ولم يكن قد أتيح لبعضها أن يظهر أثره في عهد أبي بكر، فمن تقاليد الجاهلية ما اندثر، منذ أعلن العرب إسلامهم قبيل وفاة رسول الله، ومن هذه التقاليد ما اختفى بحكم الأحوال، ثم جعل يبرز بين حين وحين بروزا يدل على بقاء جذوره حية متأصلة، متأهبة لتنمو وتتفرع من جديد. هذا إلى ما أنشأه الإسلام في نفوس من أخذوا به من عقائد وتقاليد جديدة لم يكن لهم عهد بها من قبل، وإلى ما لقيه المسلمون في البلاد التي فتحوها من حضارة لم تكن مظاهرها مألوفة لهم، فلما خالطوا أهلها واتصلوا بهم أصبحت سائغة عندهم محببة إليهم.
ولم يكن العامل الاقتصادي أقل أثرا من سائر العوامل في هذا التطور، فقد أفاء الفتح على كثيرين رخاء جعل المتاع بلين الحياة في متناول أيديهم، فأقبلوا عليه ينهلون منه، وكان الذين ذهبوا إلى العراق والشام ومصر أشد على المتاع إقبالا؛ لأن الحضر والخصب ييسران من ألوان المتاع ما لا تيسره البادية، أما الذين أقاموا في شبه الجزيرة فوجدوا في العطاء الذي فرضه عمر لهم ما جعلهم يفتنون، فيما عرفوا من ألوان المتاع في الجاهلية افتنانا رأيت صورا منه فيما قصصنا من قبل.
وقد أدى هذا التطور إلى نشاط في الحياة العقلية، اقتصر مداه عند العرب في ذلك العهد على اجتهاد الرأي فيما لم ينزل به وحي، ولم تجر به سنة من رسول الله، ولعلك تذكر قول أبي بكر في مرض موته: «وددت لو أنني سألت رسول الله عن ميراث ابنة الأخ والعمة، فإن في نفسي منهما شيئا.» وقد اطرد اجتهاد الرأي في عهد عمر وفي العهود التي تلته، فكان الفقه الإسلامي ثمرته.
ثم أدى هذا التطور كذلك إلى اتجاه جديد في حياة الأمم التي فتحها المسلمون، وكان لهذا الاتجاه أثر عميق في حياة العرب أنفسهم، وقد بدا هذا الاتجاه الجديد في العراق والشام وفارس بنوع خاص، وإن اختلف في هذه الأمم باختلاف الأجناس التي تتكون منها، ذلك أن العراق والشام كان بهما من قبائل العرب من أقبلوا على الإسلام وتأثروا بتعاليمه، ومن احتفظوا بدينهم وتأثروا مع ذلك بما فرضه الفتح الإسلامي من نظم في السياسة والاقتصاد، أما فارس فاختلف اتجاهها عن العراق والشام، وسنرى أثر هذا الاختلاف عند الكلام عن مقتل عمر.
وقد تحدثت من قبل عن الأثر الذي تركه الفتح الإسلامي أول عهده في مصر، وإنما اختلف هذا الأثر عن مثله في العراق والشام وفارس؛ لأن سياسة ابن العاص في مصر لم تكن كسياسة خالد بن الوليد في العراق لعهد أبي بكر، ولا كسياسة الولاة الذين قاموا بالأمر في الشام بعد فتحه، ولم تكن مصر كفارس في وضعها السياسي إذ كانت فارس مستقلة ومصر ولاية رومانية، لكنها كانت تشبه فارس من حيث اختلاف أهلها عن العرب في الجنس واللغة والدين، مع ذلك لم تكن سياسة ابن العاص ضعيفة الأثر في تحويل المصريين ليكونوا أمة إسلامية لغتها العربية، وليكونوا من بعد ذلك قلب العالم الإسلامي ومركز الحضارة فيه.
كان لعمر أثر كبير في توجيه ما تم من تطور في الحياة الاجتماعية لبلاد العرب، ولا أخالني أغلو إذا قلت: إن فضله في هذه الناحية لا يقل عن فضله في الناحية السياسية، وأثره في توجيه هذا التطور لم يقف عند ما أشرنا إليه في هذا الفصل وفيما سبقه من فصول الكتاب، بل كان لاجتهاده رأيه أكبر الأثر في هذا الأمر، كما كان له أكبر الأثر في غيره من أمور المسلمين.
وهذا ما سنبينه في الفصل التالي عند الكلام عن اجتهاد عمر.
هوامش
الفصل الرابع والعشرون
اجتهاد عمر
روي أن عمر بن الخطاب سأل سلمان: أملك أنا أم خليفة؟ فأجابه سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر. وروي أنه قال يوما: والله ما أدري: أخليفة أنا أم ملك، فإن كنت ملكا فهذا أمر عظيم! قال قائل: يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا، قال عمر: ما هو؟ وأجابه صاحبه: الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس، فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر.
وتعريف الخلافة على هذا النحو وحبسها في هذه الحدود لا يتفق وما فهمه المسلمون الأولون عنها، فقد نعت الخلفاء الأولون بأنهم الخلفاء الراشدون، وقصد بهذا النعت أنهم خلفاء رسول الله على المسلمين؛ ساروا سيرته، واتبعوا سنته، ونهجوا نهجه في أمور الدين والدنيا، وذلك قول عمر: إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن خالفتهما خولف بي، أما الذين جاءوا بعد الخلفاء الراشدين فقد ساروا في الناس سيرة الملوك، ولذلك كانوا أمراء للمؤمنين، ولم يكونوا خلفاء لرسول الله ولا لخلفائه.
فرسول الله لم يكن قط ملكا، وما تولاه من شئون المسلمين بالمدينة لا يشبه ما تولاه ملوك الفرس والروم لعهده، وما يتولاه الملوك في مختلف الأمم والعصور، إنما كان رسول الله هاديا للناس ومرشدا لهم، وكان بشيرا ونذيرا يبلغ الناس رسالات ربه، ويدعوهم إلى دينه القيم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولقد أوى المسلمون إلى ظله ليزدادوا هدى بما يسمعونه من آي الوحي وبما يعلمهم من سنته، وخلفاؤه الراشدون هم الذين قاموا في الناس مقامه، لم يكن هؤلاء الخلفاء رسلا يوحى إليهم، لكنهم كانوا أصحاب رسول الله، امتثلوا تعاليمه وأشربوا مبادئه، فلما استخلفوا من بعده نشروا هذه التعاليم والمبادئ بين الناس توجيها لهم إلى الهدى، ليأخذ كل منهم بالحق ولا يضعه إلا في حق، وعلى هذا المعنى كان عمر خليفة، كما كان أبو بكر خليفة؛ ولذا حرص على أن يترسم طريق الصديق في بساطة العيش، وفي التسوية بين نفسه وبين الناس، وفي تحري الحق ودعوة الناس إليه والقضاء بينهم به.
كان رسول الله يدعو الناس لاتباع ما يوحى إليه من ربه، فلما كثر أصحابه جعلوا يسألونه عن أمور تعرض لهم لم ينزل فيها وحي، والأخذ فيها بمعروف الجاهلية يخالف ما كان النبي يذيعه بينهم من تعاليمه، وكثيرا ما كان ينزل الوحي جوابا على ما يسألون عنه، فيقول تعالى في سورة البقرة:
1
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم * كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم * يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم * ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون * ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن .
هذه الآيات المتتابعة من سورة البقرة نزلت في أوقات متفرقة، وقد نزلت كلها جوابا على مسائل كان المسلمون يوجهونها لرسول الله، فأوحى الله إليه هذه الآيات لهدايتهم وهداية البشر وإرشادهم، ولبيان الأحكام فيما يسألون عنه، وهذه الآيات نزلت في حوادث رواها المفسرون، وأسموها: «أسباب النزول.» يقول المرحوم محمد الخضري في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي»:
أما الأحكام التي نزلت بدون حادث أو سؤال فقليلة، وقلما نرى حكما لم يذكر المفسرون حادثا أنزل مرتبا عليه.
روي أن رسول الله أرسل مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها قوما مستضعفين، فعرضت امرأة مشركة عليه نفسها تريد زواجه، وكانت ذات جمال ومال، فقبل ما عرضت ووقف التنفيذ على إذن رسول الله، فلما رجع إلى المدينة وعرض الأمر على النبي لإجازة النكاح نزل قوله تعالى:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ... إلى آخر الآية، وأنت تذكر أن اليهود والمنافقين بالمدينة كثيرا ما كانوا ينتهزون أوقات الشراب ليثيروا بين الأوس والخزرج منازعاتهم القديمة، وأن عمر سأل رسول الله لذلك عن الخمر ولم يكن قد نزل فيها قرآن وقال: اللهم بين لنا فيها، فنزلت الآية:
يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما .
وكان المسلمون يسألون أحيانا عن أشياء، فلا ينزل الوحي بالجواب عليها لأول ما يسألون النبي عنها، عند ذلك كان يقضي فيها برأيه؛ وذلك قوله: «إنما أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي.» فإذا نزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به ترك ما قضى به على حاله، واستقبل ما نزل به القرآن،
2
وقد نزل الوحي غير مرة مخالفا لما قضى به، من ذلك ما سبق أن ذكرناه في أسرى بدر؛ فقد طمع هؤلاء الأسرى في الفداء وأغلوه، فاستشار رسول الله أصحابه فيهم، فقال أبو بكر: «قومك وأهلك استأن بهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تتقوى بها على الكفار.» وقال عمر: «كذبوك وأخرجوك، قدمهم فاضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله تعالى أغناك عن الفداء.» وسمع محمد، بعد وزيريه، لكبراء المسلمين، ثم قبل الفداء وأطلق الأسرى، من بعد ذلك نزل قوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ،
3
فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله: «لو نزل بنا عذاب ما نجا إلا عمر.»
وخالف الوحي رسول الله كذلك في أمر الخوالف الذين دعوا للخروج إلى غزوة تبوك لقتال الروم، فاعتذروا إلى النبي بشتى المعاذير واستأذنوه في التخلف بالمدينة فأذن لهم، فنزل في ذلك قوله تعالى:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ،
4
فلو أن هذه الآية نزلت قبل أن يأذن رسول الله للخوالف لما أذن لهم.
على أن ما خالف الوحي فيه اجتهاد رسول الله قليل، ولذلك كانت سنته
صلى الله عليه وسلم
متبعة فيما لم يخالفه الوحي فيه، كما كانت طريقته في الاجتهاد حجة متبعة كذلك وقد كان يلجأ إلى القياس، سألته جارية خثعمية فقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج، إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم، قال: «فدين الله أحق بالقضاء.» وإلحاق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه هو عين القياس.
وكان رسول الله يقضي بين المسلمين ويقول لهم: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار.» يقول الآمدي، «وذلك يدل على أنه قد يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر.» ولا عجب في قول الآمدي هذا؛ فإنما كان رسول الله يقضي بما كان يرفعه إليه الخصوم من حجة، ولم يكن قضاؤه وحيا من عند الله، بل وزنا للبينات التي تقدم إليه، وقد يعجز صاحب الحق عن إقامة الحجة على حقه أو يعجز عن دفع حجة خصمه، والقاضي العادل لا يقضي بعلمه، وإنما يقضي بما يطمئن ضميره إلى قيام الحجة عليه.
على أن القضاء شيء والسنة شيء آخر، وإن صح أن ينطوي القضاء على السنة إذا رتب الحكم مبدأ يطبق عمومه على الحوادث المتشابهة، أما السنة لذاتها فما بين به رسول الله ما أوجبه القرآن من المبادئ والأحكام، بالقول أو بالفعل أو بهما معا، وذلك قوله تعالى:
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ،
5
والسنة بالفعل كالصلاة والحج، فقد كان رسول الله يصلي بالمسلمين الصلوات الخمس ويقول لهم: «صلوا كما رأيتموني أصلي.» ولما حج رسول الله قال للذين معه: «خذوا عني مناسككم.» أما السنة بالقول فهي الحديث، ومن الحديث ما اتصل بالوحي مفصلا ومفسرا له، ومنه ما اتصل بالحياة مما وقع في عهد النبي ورفع إليه فأبدى فيه رأيه، وكان النبي يبدي رأيه في هذه الأمور بعد مشاورة أصحابه عملا بقوله تعالى:
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله .
وقد شاور النبي أصحابه في الدعوة للصلاة، فقال بعضهم: نار، وقال بعضهم: بوق، وقال بعضهم: ناقوس، ثم انتهوا إلى الأذان على ما قدمنا، وكان يشاور أصحابه فيما يصنع إذا خرج للقتال، شاورهم في غزوة أحد أيتحصن بالمدينة أم يلقى العدو بظاهرها، وشاورهم يوم الحديبية، وشاورهم في غير هذين من غزواته، وكان أبو هريرة يقول: «ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من النبي
صلى الله عليه وسلم .»
وكان رسول الله يدعو أصحابه إلى الاجتهاد، روي عن عمرو بن العاص أنه قال: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال لي: يا عمرو! اقض بينهما، قلت: أنت أولى بذلك مني يا نبي الله، قال: وإن كان، قلت: على ماذا أقضي؟ قال: «إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.»
وحكم رسول الله سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم، وأقر النبي رأيه.
وقتل أبو قتادة رجلا من المشركين؛ فأخذ سلبه غيره، فقال أبو بكر: لا نقصد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه؛ اردد عليه سلب قتيله، فقال رسول الله: «صدق، اردد عليه سلبه.»
ولما بعث النبي معاذ بن جبل إلى اليمن ليفقه الناس في دينهم سأله: بم تحكم؟ وأجاب معاذ: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، وأقره النبي على ذلك وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله.» وهذا يتفق وما روي عنه عليه السلام أنه قال لعبد الله بن مسعود: «اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما، فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك.»
على أن اجتهاد الرأي لم يقصد به، في زمن النبي ولا في العصور الأولى، إلى إقامة مذاهب في الفقه تستوعب ما يجري في الخاطر أو تؤدي إليه الفروض، بل كان مقتصرا على ما يحدث بالفعل من شئون الحياة مما يحتاج إلى الرأي لحسمه، روي عن ابن عباس أنه قال: «ما رأيت قوما قط كانوا خيرا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن ... وما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم، وكان عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.» وعن عمر بن إسحاق أنه قال: «لمن أدركت من أصحاب رسول الله أكثر مما سبقني منهم، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم.»
لذلك لم يكن للخلاف الذي ينشأ عن اجتهاد الرأي، لإقامة مذهب كامل، أثر ظاهر في التشريع لذلك العهد، بل كان رسول الله ينهى أصحابه عن التفرق والتنازع في الدين، امتثالا لما جاء في القرآن من مثل قوله تعالى:
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ،
6
وقوله:
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ،
7
وغيرها من الآيات الكثيرة التي في معناها، وقد نهى أصحابه حين رآهم يتكلمون في القدر وقال لهم: «إنما هلك من قبلكم بخوضهم في هذا.» لذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقا، ولو أن ذلك حدث لنقل إلينا كما نقل عنهم اجتهادهم الرأي في المسائل المتصلة بالواقع من أمور الحياة.
وقد كان المسلمون الأولون أشد احتياجا لاجتهاد الرأي، بعد أن اختار الله رسوله إليه، ذلك أنهم كانوا في عهده يستفتونه فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناس يفعلون معروفا فيمدحه، أو منكرا فينكره، وكان أصحابه يقولون بآرائهم فيبلغه ذلك، فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ، فلما قبض لم يكن لهم بد من الأخذ بالقياس في الوقائع التي لا نص فيها، وقد فعلوا ولم ينكر أحد منهم على من فعل لكنهم لم يفتوا برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه حق، بل على أنه ظن يستغفرون الله منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين، يقول ابن حزم في كتاب «الإحكام في أصول الأحكام»: «وأما القول بالرأي والاستحسان والاختيار فكثير عنهم - رضي الله عنهم - جدا، ولكنه لا سبيل إلى أن يوجه إلى أحد منهم أنه جعل رأيه دينا أوجب حكما، وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم، وهكذا يظنون، وعلى سبيل الصلح بين المختصمين، ونحو هذا.»
8
وما كان لهم ألا يجتهدوا والأقضية الجديدة ترفع إليهم، وأحوال الحياة في القبائل والأمم التي اتصل أصحاب رسول الله بها تختلف عن أحوال الحياة عندهم، وهذه الأحوال وهذه الأقضية تحتاج كلها إلى رأي لا سبيل إلى طمأنينة الناس للعيش من دونه.
وكان أول اجتهادهم استخلافهم أبا بكر إثر وفاة النبي، وأنت تذكر ما حدث في سقيفة بني ساعدة من محاورة ومن جدل اشتد وعنف حتى كاد يؤدي إلى الفتنة، ثم انتهى إلى بيعة أبي بكر، فلما تولى أبو بكر أمر المسلمين اختلفوا في بعث أسامة لقتال الروم، وذلك حين رأوا انتقاض العرب بسلطان المدينة، قال قوم من المهاجرين والأنصار للصديق: «إن هؤلاء (يقصدون جيش أسامة) جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك؛ فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» وطلب أسامة نفسه إلى عمر بن الخطاب أن يرجع إلى الصديق يستأذنه أن يعود بالجيش، ليكون قوته على المشركين فلا يتخطفون المسلمين، وكان جواب الصديق على ذلك كله: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني أنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.»
ولما امتنعت القبائل القريبة من المدينة عن إيتاء الزكاة وعزم أبو بكر قتالهم، جمع الصحابة يستشيرهم، فخالفه قوم، بينهم عمر بن الخطاب، ورأوا ألا يقاتلوا قوما يؤمنون بالله ورسوله، وأن يستعينوا بهم على عدوهم، قال عمر: «كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها؟» وأجابه أبو بكر: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال، إلا بحقها.» قال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.»
ولما وقعت غزوة اليمامة واستشهد فيها من استشهد من حفاظ القرآن، ذهب عمر بن الخطاب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد وقال له: «إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن.» قال أبو بكر وقد تولته الدهشة لما سمع: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟» ودار بين الرجلين حوار طويل اقتنع الصديق على أثره برأي عمر، فدعا زيد بن ثابت وذكر له اقتراح عمر جمع القرآن وقال: فقلت لعمر: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر.» ثم استطرد موجها الحديث لزيد فقال: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه.» قال زيد: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال أبو بكر: هو والله خير، وأتم زيد هذا الحديث فقال: فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقام من مجلسه هذا فجعل يتتبع القرآن من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى جمعه.
فلما انتهت حروب الردة وبدأ غزو العراق وبعث خالد بن الوليد بأخماس الفيء إلى المدينة، أمر أبو بكر بالتسوية بين الناس في العطاء، فقال له عمر: كيف تجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه؟ أو قال له: كيف تجعل من ترك داره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال له أبو بكر: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ. وقد رأيت أن عمر فرق بينهم في العطاء وجعلهم طوائف لما استخلف.
هذه أمثلة من اجتهاد أبي بكر في شئون الدولة العامة؛ وهي كما ترى، شئون كلها جليلة الخطر، وأما اجتهاده في الفقه فمنه: أنه ورث أم الأم دون أم الأب، فقال له بعض الأنصار: لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع إلى التشريك بينهما.
وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال: أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؛ الكلالة ما عدا الوالد والولد.
أنت ترى مما سبق في هذا الفصل، ومما سقناه في الفصلين الثالث والرابع حين تحدثنا عن عمر في صحبة النبي وفي عهد أبي بكر، ما كان للفاروق من نصيب عظيم في اجتهاد الرأي، أيد بعضه القرآن، وأقر بعضه رسول الله وأعجب به حتى كان يقول: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه.» وقد رأيت أن عمر استفتح عهده فأمر برد السبايا من أهل الردة إلى عشائرهم، على خلاف ما رأى أبو بكر من قبله، وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب، وأنه لم يول على البعث الأول إلى العراق رجلا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كما كان يفعل أبو بكر، بل ولى عليهم أبا عبيد الثقفي؛ لأنه كان أول الناس انتدابا لهذا البعث بعد أن تقاعس الناس ثلاثة أيام، وأنه عزل خالد بن الوليد عن إمارة الجند بالشام، مع أنه سيف الله بحديث رسول الله، وأن أبا بكر قال فيه: ما كنت لأشيم سيفا سله الله على الكافرين، وأنه أجلى اليهود والنصارى عن مواطنهم من شبه الجزيرة، وكان رسول الله ثم أبو بكر من بعده قد عقدا مع نصارى نجران عهدا على الجزية يدفعونها لقاء احترام المسلمين عقيدتهم ودفاعهم عنها، وهذا كله اجتهاد رأي من جانب عمر أبنا حكمته في مواضعه.
ثم إنك رأيت اجتهاد عمر رأيه بعد ذلك في مواطن كثيرة، حسبنا أن نشير منها إلى اجتهاده في حد الخمر، وفي اعتزال البلد الموبوء وعزله عن غيره من البلاد، وفي التفريق في العطاء بين المسلمين حسب سبقهم إلى الإسلام أو قرابتهم من رسول الله، وفي أمور كثيرة غير هذه قضى بها تطور الأحوال في شبه الجزيرة وفي البلاد المفتوحة، وسيقتضينا هذا الفصل أن نعود إلى الحديث في بعض هذه الأحوال، وأن نتناول من اجتهاد عمر ما كان جليل الأثر في عهده! وما كان لموافقته أو لمخالفته من أثر بعد ذلك في حياة الإسلام والمسلمين.
ويجمل بنا، قبل أن نفصل ما نرى تناوله من اجتهاد عمر أن نذكر أن الفاروق كان يؤمن بأن الإسلام روح وعقيدة، وأن الإنسان لا يكمل إيمانه حتى يدرك الروح الذي أوحى الله به دين الحق إلى رسوله؛ لذلك كان يطبق أحكام القرآن بالروح التي نزلت بها، فإذا ثبتت عنده سنة عن رسول الله من قول أو فعل، عرف مناسبة هذه السنة ليكون دقيقا في الأخذ بها، من ثم كان يسترشد بالروح لا بالحرف عند الفصل فيما يعرض عليه، وكان لعظيم إيمانه ولشدة امتثاله تعاليم رسول الله، جريئا في الاجتهاد، وإن خالف ظاهر النص، فإذا ورد نص لم يبق في أحوال الجماعة ما يقتضي تطبيقه لم يطبقه، وإذا اقتضت أحوال الجماعة تأويل النص أوله، حريصا في هذا وفي ذاك على ملاءمة الحكم لأحوال المجتمع مع اتفاقه في الوقت نفسه مع روح المبادئ والتعاليم المحمدية السليمة.
أظهر جماعة من العرب الإسلام، وكانوا سادة في قومهم، فجعل الله لهم سهما في الصدقات، وأمر النبي أن يعطيهم سهمهم تألفا لقلوبهم وتثبيتا لإيمانهم؛ هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد نص القرآن على عطائهم في قوله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ، وكان رسول الله يعطيهم من الفيء ومن الزكاة، أعطى أبا سفيان، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، وكان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل.
فلما ولي أبو بكر الخلافة أعطاهم كما كان يعطيهم رسول الله، ثم جاءه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس يطلبان أرضا فكتب لهما بها، فلما استخلف عمر ذهبا إليه يستوفيانه ما في كتاب أبي بكر، لكن عمر مزق الكتاب وقال: «إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم إليه وإلا فبيننا وبينكم السيف.» ثم منع هذه الطائفة كلها ما كان لها من نصيب في الزكاة، وجعلها كغيرها من المسلمين.
هذا اجتهاد من عمر في تطبيق نص من نصوص كتاب الله، وهو لا ريب اجتهاد موفق، فإنما فرض الكتاب لهذه الطائفة من العرب حين كان الإسلام في حاجة إلى تألفهم، فلما عز الإسلام زالت الحاجة فلم يبق للعطاء مسوغ، ولو أن عمر وجد في الفرس أو في الروم من يحتاج الإسلام إلى تألفهم لفرض لهم، وهو قد فرض للهرمزان بالفعل حين جاء المدينة ثم أسلم، من ثم كان هذا الفرض معلقا على الحاجة إلى من فرض له، فإذا زالت الحاجة سقط الفرض، هذه روح النص، ويجب لذلك تطبيقها كما طبقها عمر.
واجتهد عمر في نص من كتاب الله اجتهادا نخالفه اليوم فيه، فقد قال تعالى:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ثم قال:
فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وجلي أن المقصود من هذا النص أن يقع الطلاق بالفعل مرة فمرة، وللزوج بعد كل من المرتين أن يراجع زوجته، فإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وحكمة هذا النص واضحة؛ فالطلاق فصم لحياة الزوجية تترتب عليه نتائج خطيرة لكل من الزوجين، وتتعداهما لأبنائهما، وكثيرا ما يسوء أثرها في هؤلاء الأبناء طيلة حياتهم؛ لذلك أباح الكتاب مراجعة الزوج زوجته بعد الطلقة الأولى، وبعد الطلقة الثانية، واشار إلى أن الطلاق يجب أن يسبقه سعي للتوفيق بين الزوجين في قوله تعالى:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، فإذا تعذر التوفيق ووقعت الفرقة بالطلاق جازت المراجعة مع ذلك مرتين، ولكيلا يستخف أي الزوجين بعد ذلك بفصم عروة الزواج، فرض الكتاب ألا يحل للزوج مراجعة زوجته بعد الطلاق الثالث حتى تنكح زوجا غيره، فإذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثا، لم تكن إلا طلقة واحدة؛ لأن الطلاق فعل يقع لا قول يلفظ، وكان ذلك الشأن في عهد النبي وفي عهد أبي بكر، جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.»
كيف رأى عمر هذا الرأي وأمضاه على الناس مع مخالفته ظاهر النص وظاهر الحكمة؟ يجب لندرك ذلك أن نرجع إلى السبب في نزول الآية:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، روى ابن جرير في تفسيره ما ذكره بعضهم من: «أن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدا حرم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأته المطلقة إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه.» وروي أن رجلا قال لامرأته على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين! فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فمتى تحلين؟! - أي لغيره - فأتت النبي
صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، فاستقبله الناس جديدا، من كان طلق ومن لم يكن طلق، وعن قتادة أنه قال: «كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك ثم يراجع ما كانت في العدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات.»
يتضح من هذا السبب في نزول الآية أن تحديد حق الرجل في مراجعة زوجته، ما دامت لم تبن بانقضاء عدتها، وجعل المراجعة مرتين لا أكثر، إنما أريد به ألا يضار الرجل المرأة وألا يذرها كالمعلقة حياتها، وهذا رفق بالمرأة يتفق وروح الإسلام، فقد ذهب القرآن في هذا الرفق بالنساء كل مذهب، فأمر أن تبقى المطلقات للمرتين الأوليين في بيت الزوجية طول عدتهن، وأن تحسن معاملتهن، فقال:
لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ،
9
وقال:
وللمطلقات متاع بالمعروف ، وقال:
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ،
10
وقال:
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ،
11
وقال:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ،
12
هذه الآيات وغيرها تحرم على الزوج أن يضار زوجته، وترى المضارة إثما عظيما، وقد فرض الله المراجعة للإصلاح، فإذا تبين أن الإصلاح غير ممكن، وتبين أن مراجعة الزوج زوجته لا يقصد بها إلا المضارة، لم تبق حكمة المراجعة قائمة.
وأكبر الظن أن الذين كانوا يطلقون نساءهم في عهد عمر لم يكونوا رحماء بهن بعد طلاقهن، ذلك أن سبايا العراق والشام كثرن وافتتن بهن أهل المدينة وأهل شبه الجزيرة، فكانوا يسارعون إلى طلاق نسائهم مبالغة في إرضاء من شغفت قلوبهم بهن، وكانوا يذكرون الطلاق الثلاث في كلمة واحدة حتى تطمئن ذات الدل على أنها أصبحت المنفردة بقلبه.
ولعل أسبابا أخرى دفعت جماعة من المسلمين في هذا العهد الأول إلى العبث بالطلاق الثلاث استهتارا وضرارا، من ذلك أن يتزوج الرجل أخرى عربية أو أعجمية من غير السبايا، فتشترط عليه أن يطلق زوجته الأولى ثلاثا فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره، فإذا راجعها مع ذلك أثارت مراجعته لها في البيت نزاعا لا تستقر معه حال ولا تطمئن به حياة.
مثل هذه الأسباب هي التي دعت عمر إلى فتواه، وإمضائه طلاق الثلاث بكلمة واحدة كأنه ثلاث طلقات متفرقات، فقد رأى أن الرجل إذا بلغت به الاستهانة بعقدة الزواج، فجمع الطلاق الثلاث في واحدة كان رجلا مستهترا يجب أن يحمل وزر استهتاره؛ وذلك قوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم.»
هذا اجتهاد رأي خالف عمر فيه من بعد غير واحد من الفقهاء، وخالفه أهل عصرنا الحاضر في طائفة من البلاد الإسلامية، ولا ضير على عمر من ذلك، ولا ضير منه على مخالفيه؛ فعمر وغيره من الصحابة لم يكونوا يفتون برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه وحده الحق، بل على أنه رأي إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن صاحبه، فهو يستغفر الله منه، لقي عمر رجلا له قضية فسأله: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا! قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك ؟ وأجابه عمر: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه
صلى الله عليه وسلم
لفعلت، لكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك، ولهذا لم ينقض ما قضى به علي وزيد. وأبدى عمر يوما رأيا، فقال قائل: هذا ما رأى الله ورأى عمر، فانتهره عمر بقوله: بئسما قلت! هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، وأمسك هنيهة ثم قال: السنة ما سنه الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة.
أما وقد ذكرت اجتهاد عمر في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ومخالفته فيه ظاهر النص وظاهر الحكمة للأسباب التي قدمت، فيجمل بي أن أشير إلى أنه اجتهد في غير هذه، من مسائل الزواج والطلاق وحقوق الزوجية والأمومة، اجتهادا كان له أثر في التشريع الإسلامي من بعد، فقد نهى عن نكاح المتعة، فجرى المسلمون من أهل السنة على رأيه من يومئذ، ومنع بيع أمهات الأولاد وكن يبعن في حياة الرسول وفي عهد الصديق، وقد أراد علي بن أبي طالب أن يرجع في خلافته إلى بيعهن، وقال: إن عدم البيع كان رأيا اتفق عليه هو وعمر؛ فقال قاضيه عبيدة السلماني: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، وأجابه علي: اقضوا كما كنتم تقضون؛ وذلك لأنه كره الخلاف، وأفتى عمر في المطلقة وزواجها من غير زوجها الأول في العدة، وميراثها قبل انقضائها، وما يتصل بذلك، بفتاوى لا يزال أكثرها معمولا به إلى اليوم.
لا أراني بحاجة إلى أن أعود إلى القول فيما قرره عمر حدا لشارب الخمر، وقد سبقت فذكرت ذلك من قبل، وحسبي أن أذكر هنا أن عمر اجتهد في تقرير هذا الحد بالقياس إلى حد القذف الوارد في القرآن، والرأي والاجتهاد والقياس واحد، وهذا الاجتهاد حق لولي الأمر الذي يملك أن يشرع في حدود الكتاب والسنة.
ولعمر موقف من سنة رسول الله جدير بالوقوف عنده؛ فقد كان عمر من أثبت المسلمين إيمانا بالله ورسوله، ومن أشدهم حرصا على اتباع ما جاء به الرسول من عند الله، وعلى التأسي به
صلى الله عليه وسلم
في قوله وفعله، لكنه كان شديد الحرص كذلك على ألا يشوب كتاب الله بشيء، وعلى أن يحول دون ما قد يصرف المسلمين عن الكتاب الكريم، وهو في ذلك قد كان متبعا سنة رسول الله وسنة أبي بكر من بعده، روي عن رسول الله أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه.» وقال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فمني وما خالفه فليس عني.»
13
وكان هذا الحرص رأي عمر في حياة النبي إلى حين وفاته، روي عن ابن عباس أنه قال: لما حضر النبي
صلى الله عليه وسلم
قال - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب: «هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده.»
14
فقال عمر: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
غلبه الوجع، وعندكم القرآن؛ فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «قوموا عني» وكان ابن عباس يقول: «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.» فكان ذلك - والله أعلم - وحيا أوحاه الله أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة، فتخرج الأمة من مقتضى قوله:
ولا يزالون مختلفين
بدخولها تحت قوله:
إلا من رحم ربك ، فأبى الله إلا ما سبق في علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم.
هذا رأي ابن عباس، أما عمر فظل على الرأي الذي قال به: «حسبنا كتاب الله.» وقد اتبع المسلمون هذا الرأي في خلافة أبي بكر وفي خلافته إلا ما ثبت لهم بطريق القطع واليقين أن رسول الله قاله.
روي عن أبي بكر أنه جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: «إنكم تحدثون عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.» فلما استخلف عمر سار على سنة أبي بكر هذه، وأمر الناس ألا يحدثوا عن رسول الله حتى لا يختلفوا، وقد بلغ من شدته في تنفيذ هذا الأمر أن حبس ثلاثة من كبار الصحابة هم ابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصاري؛ لأنهم أكثروا الحديث عن رسول الله هذا مع شدة احتياطهم في روايتهم، وقد كان من أثر ما أمر به عمر أن قلت رواية الحديث حتى قال أبو عمرو الشيباني: كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإذا قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استقلته الرعدة وقال: هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا، وكان أبو هريرة ممن يكثرون الحديث عن رسول الله بعد عهد عمر، فسأله أبو سلمة يوما: أكنت تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته.
وسير عمر قرظة بن كعب وجماعة معه إلى العراق ومشى معهم، فلما فصلوا عن المدينة سألهم: أتدرون لم شيعتكم؟ قالوا: نعم، مكرمة لنا، قال: ومع ذلك فإنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قال له أهل العراق: حدثنا عن رسول الله، فقال: نهانا عمر.
نهى عمر عن رواية الحديث، واشتد في تنفيذ أمره بذلك؛ مع هذا روى الناس الأحاديث في مناسبات لم يكن لعمر قبل بمنعهم عن الرواية فيها، والقضايا أهم هذه المناسبات؛ فما قضى به رسول الله حجة ويقاس عليه، لم يجد أبو بكر في كتاب الله ميراثا للجدة يقضي به لامرأة جاءته تطلب ميراثها، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله يعطيها السدس، وشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فقضى به أبو بكر. وسلم رجل على عمر بن الخطاب من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره وسأله: لم رجعت؟ قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إذا سلم أحدكم ثلاث مرات فلم يجب فليرجع.» فطلب منه عمر البينة على هذا الحديث فجاء بها، وكان قضاة عمر يقضون بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا جاءهم خصم بحديث أو سنة عن رسول الله تبينوا ما جاء به، فإذا ثبت قضوا به، وما كان عمر ليستطيع أن يمنع الاستشهاد بالحديث أو بالسنة في القضاء كما منع رواية الحديث، وقد خشي أن تكثر الرواية لهذا السبب، وأن تدفع المصلحة بعضهم لاختلاق الأحاديث والتحايل على إثبات صحتها، فيكثر الحديث الكذب؛ لذلك فكر في كتابة السنن حتى لا يزيد أحد عليها، كما أشار على أبي بكر من قبل بجمع القرآن.
لكنه لم يلبث حين عاود التفكير في الأمر أن تردد فيه؛ فدعا أصحاب رسول الله فاستشارهم، فوافقه أكثرهم وأشاروا عليه بكتابة السنن، وقضى شهرا يفكر في الأمر ويستخير الله فيه: أيقدم عليه أم يحجم عنه، ثم إنه أصبح يوما وقد عزم الله له فقال للناس: «إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا!» وعدل عن كتابتها وكتب في الأمصار عنها: «من كان عنده شيء فليمحه.»
أكان عمر على حق حين عدل عن كتابة السنن وأمر بمحو ما كان مكتوبا منها، أم كان مخطئا فكان لخطئه نتائجه من بعد؟
تستطيع أن تقول إنه أخطأ، وإن مر الزمن دل على خطئه، فقد بدأت الأحاديث من بعده تتوالد وتتداول إلى غير حد، فمنذ عادت الخصومة بين بني أمية وبني هاشم إلى الظهور في أعقاب مقتل عثمان، ثم لما قامت الحرب الأهلية بين علي ومعاوية فخاصمت عائشة عليا وأيد عليا من أيده، كثرت الأحاديث الموضوعة لعلي وعليه كثرة أنكرها علي في حياته فقال: «ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن، وما في هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله وفيها فرائض الصدقة.» ولم يقف هذا القول واضعي الحديث عن وضعه لهوى يدعون الناس إليه، أو لفضائل يحسبون أن الناس أحرص على اتباعها حين ينسب إلى رسول الله حديثها، وكثرت الأحاديث الموضوعة لأغراض سياسية أو غير سياسية كثرة راعت المسلمين لمنافاة الكثير منها لما في كتاب الله، ولم تنجح المحاولات التي بذلت لوقفها في زمن الأمويين، بل جعلت تزداد وتتضاعف كل يوم عما قبله، فلما كانت الدولة العباسية وجاء المأمون بعد قرابة قرنين من وفاة النبي، كان قد أذيع من هذه الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ومئاتها، وبينها من التضارب وفيها من التهافت ما لا يخطر ببال، وحسبك لتقدر ذلك أن تذكر أن البخاري ألفى الأحاديث المتداولة تربى على ستمائة ألف حديث، لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف حديث، وأن أبا داود جمع خمسمائة ألف حديث لم يصح لديه منها غير أربعة آلاف وثمانمائة؛ وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عند جامعي الحديث نقدها غيرهم من العلماء والفقهاء، فلو أن عمر جمع ما صح لعهده من الأحاديث والسنن لوقف توالدها من بعده، ولما أصبح الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، على تعبير الدارقطني، ولأمكن أن يتحقق ما روي عن معاوية أنه قال: «خذوا من الحديث بما كان في عهد عمر فإنه قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» أما ولم يفعل، فكثرت رواية الحديث، ولم يعد الناس يعرفون ما كان في عهد عمر وما وضع من بعده، وترتب على ذلك من ابتداع الأحاديث ما رأيت، فذلك الدليل على أن عمر أخطأ حين عدل عن جمع السنن، وأمر بمحو ما كان مكتوبا منها.
تستطيع أن تقول هذا، وأن تكون لك شبهة فيه، بعد أن بلغ عدد الأحاديث في عهد المأمون ستمائة ألف حديث ، لم يصح منها إلا أربعة آلاف تعرض الكثير منها للتفنيد والطعن من بعد، لكنك تكون غير منصف في هذا الحكم وإن قامت لك الشبهة فيه؛ فقد كان عمر يحسب أن الذين يخلفونه من أمراء المؤمنين سيسيرون سيرته في النهي عن رواية الحديث، وسيحبسون مثله من يكثرون الحديث عن رسول الله، فإذا لم يفعل هؤلاء الخلفاء، بل تغاضوا متعمدين عن الأحاديث توضع لأسباب سياسية وغير سياسية، وشجع بعضهم على وضعها، فالذنب في ذلك ليس ذنب عمر، بل ذنب أولئك الخلفاء، والذين شجعوا منهم على وضع الأحاديث أعظم وزرا وأكبر جريرة، أفيكون من العدل، والأمر كذلك، أن ينسب الخطأ إلى عمر؟!
وهب عمر أمر بكتابة السنن، ثم حدثت الفتنة من بعده وقامت الحرب الأهلية بين علي ومعاوية؛ وبين الأمويين وبني هاشم، واتخذت رواية الحديث عن رسول الله أداة دعاية في هذه الحرب وهذه الفتنة، أترى أن الناس كانوا يصدون عن كتابة هذا الحديث الموضوع وروايته؟! أم ترى كان الدعاة السياسيون يشجعون عليه ويجمعون منه مثل الذي جمع عمر، ثم يضفي أصحاب المصلحة فيه من سلطانهم الرسمي عليه ما لم يضف مثله أحد على ما جمعه البخاري وسائر الأئمة المحدثين من بعد، ولا يكون عجبا بعد ذلك أن يصبح لهذه المدونات الرسمية من القيمة الدينية ما خشيه عمر حين قال: «والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا!» وحين قال: «ذكرت قوما كتبوا كتابا فأقبلوا عليه وتركوا كتاب الله.»
وكانت عبارة عمر هذه يزداد مدلولها تحقيقا لو أنه كتب السنن ثم لم تحدث الفتنة ولم يوضع الحديث الكذب، ولم تبلغ كثرته حتى يصبح الحديث الصحيح فيه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، فما كان كتاب عمر ليحتوي السند الذي يرفع به الحديث إلى النبي، بل كان زيد بن ثابت أو غيره من كبار الصحابة يتولى تحقيق ما يذكر له من الأحاديث في نصها ونسبتها، ويثبتها على أنها من كلام رسول الله لا ريب فيها، عند ذلك كان الناس يجدون أمامهم كتابين: أحدهما أوحاه الله إلى رسوله ليبلغه الناس، والآخر حدث رسول الله به الناس، ويكون الكتابان مقترنين في زمن التدوين، وقد يؤدي ذلك إلى ما خشيه عمر من إقبال الناس على كتاب الحديث وتركهم كتاب الله؛ لهذا الأمر احتاط عمر، فنجح في احتياطه كل النجاح، فكتاب الله لا يزال ولن يزال بين أيدي الناس أوحاه إلى رسوله هدى للناس ورحمة ونورا، فأما ما جمعه الجامعون المحققون من بعد من حديث رسول الله مسندا إلى رواته، فلا يشوب كتاب الله به أحد، ولا يقبل عليه ويدع كتاب الله من أجله أحد، بل ينظر الناس إليه نظرة الإكبار والإجلال تقديرا لمن أسند إليه، ثم لا يحول ذلك بينهم وبين تمحيصه بعرضه على كتاب الله، ونقده من جهة السند والمتن.
أحسبك ترى بعد الذي سبق أن اجتهاد عمر في تدوين الحديث، وانتهاءه إلى العدول عنه، اجتهاد له ما يسوغه، وافقته أنت على رأيه أو خالفته فيه.
أما واجتهاد عمر ما رأيت، فأحر به أن تطمئن له نفوس المسلمين، وذلك ما كان، وأنت بذلك تستطيع أن تسمي عمر إمام المجتهدين، فلا يتهمك أحد بغلو أو مبالغة، على أن عمر لم يقصد قط إلى الاجتهاد النظري ولم يرض عنه، علما منه بأن هذا الاجتهاد يؤدي إلى الاختلاف، وهو أشد الناس كراهية له، سمع يوما عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين، فصعد المنبر وقال: «رجلان من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اختلفا، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون، لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت.» وكان يقول: «لا تختلفوا؛ فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا.» وكانت الدعوة إلى عدم الاختلاف بعض رأيه منذ أسلم، وكان لذلك يلعن من سأل عن رسول الله عما لم يكن، فلما استخلف دفعته شدة الحرص على اتفاق كلمة المسلمين ألا يصدر الرأي قبل أن يستشير كبار الصحابة ويناقشهم فيه، حتى يطمئن كل الاطمئنان إلى الرأي الذي يصدره، قال الدهلوي في كتابه «حجة الله البالغة»: «كان من سيرة عمر رضي الله عنه أنه كان يشاور الصحابة ويناظرهم حتى تنكشف الغمة ويأتيه الثلج، فصار غالب قضاياه وفتاواه متبعة في مشارق الأرض ومغاربها.»
15
ولذلك كان ابن مسعود يقول: «كان عمر إذا سلك طريقا وجدناه سهلا.»
والفقه الإسلامي مدين لاجتهاد عمر بما لا يقل عن السياسة الإسلامية لحسن رأيه، وصدق إيمانه وعزمه، في إقامة الإمبراطورية، فقد قرر مبادئ وآراء في الفقه أخذ بها الذين جاءوا من بعده، وعدوا صدورها عنه حجة على صحتها، والكثير من هذه المبادئ خطير الأثر جليله؛ وهو لذلك باق إلى اليوم يطبق، في الفقه الإسلامي وفي غير الفقه الإسلامي من الشرائع، على أنه من المبادئ العالمية التي لا تقبل نقضا.
من هذه المبادئ مبدأ الضرورة؛ فقد قرر الكتاب، للقتل وللسرقة وللزنا وللقذف ولقطع الطريق، حدودا هي حدود الله، وقال:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون .
16
مع ذلك رأى عمر أن يدرأ الحد بالضرورة استنادا إلى قوله تعالى:
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم .
17
جاءوه يوما بامرأة زنت وأقرت فأمر برجمها، فقال علي بن أبي طالب: لعل بها عذرا! ثم قال لها: ما حملك على ما فعلت؟ قالت: كان لي خليط، وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد، فسقاني، قال علي: الله أكبر!
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ، وفي السنن للبيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عمر أتي بامرأة جهدها العطش، فمرت على راع فاستسقت فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها فقال علي: هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها، ففعل.
وروي أن غلمانا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، فلما ولى رده ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم تجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم، ثم وجه القول إلى عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة فقال: وايمن الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك! ثم قال: يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة، وأعفى الغلمان السارقين من الحد؛ لأن حاطبا اضطرهم إلى السرقة لجوعهم وحاجتهم إلى سد رمقهم.
ومن المبادئ التي قررها عمر، وهي جارية اليوم في أكثر الأمم حضارة، مبدأ المساواة أمام القضاء، كتب بذلك إلى أبي موسى الأشعري وإلى غيره من قضاته كما رأينا ونفذه هو في قضائه بدقة بالغة، وقد ذكرنا من قبل أمثالا على ما فعله من ذلك.
وقصة جبلة بن الأيهم الغساني من الأمثلة البارزة في هذا الصدد، ويجرى مجرى هذه القصة ما حدث حين خاصم يهودي علي بن أبي طالب إلى عمر ومكانة علي من رسول الله ومن المسلمين جميعا لا تخفى، مع ذلك قال له عمر: قم يا أبا الحسن واجلس أمام خصمك، أو قال له: ساو خصمك يا أبا الحسن، فساوى علي خصمه وجلس أمامه وقد بدا التأثر على وجهه، فلما انتهت الخصومة قال عمر: أكرهت يا علي أن تجلس أمام خصمك؟ والرواية تجري بعد ذلك بأن عليا أجابه: كلا! ولكني كرهت أنك لم تسو بيننا حين قلت يا أبا الحسن، يريد أن الكنية تشير إلى التعظيم، وعبارة علي هذه لا تنفي أن عمر كان شديد الحرص على المساواة بين الناس أمام القضاء، وأنه كان يرى هذه المساواة من أول مقتضيات العدل، بغض النظر عما في نفس القاضي من تقدير خاص ومن محبة أو كراهية لأحد الخصوم.
وأثر هذه المساواة وإدخالها الطمأنينة إلى نفوس المتقاضين يبدو في حوار طريف، ساقه ابن طباطبا في كتابه «الفخري في الآداب السلطانية.» حين قال عمر لرجل: إني لا أحبك، فسأله الرجل: فتنقصني من حقي شيئا؟ قال عمر: لا، قال الرجل: فما يفرح بالحب بعد هذا إلا النساء.
قد تحسب أن مبدأ المساواة أمام القضاء ليس اجتهادا في الفقه، وأن ذكره عند الكلام عن اجتهاد عمر تجوز لا يجوز، والحق أنه اجتهاد أي اجتهاد؛ فكثيرون لا يزالون يجاهدون إلى اليوم في بعض الأمم لتقرير هذا المبدأ، وهو لم يتقرر في أمم أخرى إلا من زمن قريب، وحسبي أن أذكر ما كان قائما من امتيازات للأجانب في التشريع والقضاء في الإمبراطورية العثمانية إلى زمن قريب، وما لا يزال باقيا من ذلك في مصر إلى أن تزول بقيته الباقية، لترى أن ما قرره عمر كان فقها كل الفقه، واجتهادا كل الاجتهاد، فإذا ذكرت إلى جانب ذلك أن الثورات التي قامت في أوروبا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المسيحيين، إنما كان مرماها الأول تحقيق هذه المساواة أمام القانون وأمام القضاء، وأن مبدأ المساواة كان في مقدمة المبادئ التي قررتها الثورة الفرنسية وأثبتتها وثيقة حقوق الإنسان، لم يبق لديك ريب في أن هذا الرأي الذي اجتهده عمر من صميم الفقه، وأن عمر واجه به تطور العرب من حال البداوة القبلية التي لا تعرف الولاية العامة والقضاء العام، إلى حال الحضارة ونظامها الإسلامي القائم على أساس من المساواة أمام الشرع وأمام من ينفذون الشرع.
ومن صميم الفقه الذي واجه به عمر التطور الجديد في الحياة العربية اجتهاده في تفصيل ما لم يرد عنه نص صريح في كتاب الله؛ فقد وضع القرآن نظاما للتوريث لم يكن معروفا قبل الإسلام، وفرض لكل ذي حق من الورثة حقه، على أن من التفاصيل ما لم يكن عليه نص في هذا النظام، وقد رأيت ما كان من أبي بكر في توريث أم الأم، وقد رفعت لعمر مسائل أخرى لم يكن عليها نص في كتاب ولا سنة، فلم يكن بد لحلها من اجتهاد الرأي، من ذلك المسألة المعروفة بالمسألة العمرية، أو المسألة الحجرية؛ فقد قسمت تركة فأصاب أخو المورث لأمه فرضه، ولم يبق لأخي المورث الشقيق ما يرثه، فلما رفع الأمر إلى عمر أفتى بأن الأخ الشقيق أخ لأم وأخ لأب معا، فليس من الإنصاف أن يحرم؛ لأنه شقيق، ولذلك قال: هبوا أباه كان حجرا، وفي رواية كان حمارا، وورثه من التركة على أنه أخ لأم يشترك مع غيره من الإخوة لأم.
وقد واجه عمر الشيء الكثير من مشاكل الميراث بعد طاعون عمواس بالشام؛ فقد هلك ألوف بهذا الطاعون، وتداخلت مواريثهم تداخلا كان يشغل دور القضاء في أية أمة من الأمم الأعوام الطوال، فلما برئت الأرض ذهب عمر إلى الشام بنفسه، فنظم مصالحه ودبر أموره، وكان مما صنعه أن قسم المواريث فورث بعض الورثة من بعض وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم، وتستطيع أن تتصور الدقة في هذا الأمر، وما يمكن أن يثور بسببه من نزاع، وليس من غرضي أن أفصل شيئا من ذلك، وإنما أشير إليه تنويها باجتهاد عمر في مشكلة عويصة حلها في أسابيع حلا رضيه المسلمون جميعا مع تعلقه بمنافعهم الخاصة، وهذا دليل بالغ وحجة قاطعة على أن الناس يطمئنون إلى اجتهاد الرأي ما قام على أساس عادل نزيه.
أنتقل الآن إلى مسألة كان اجتهاد عمر فيها متأثرا بسياسته العامة لأمور الإمبراطورية الناشئة، وبحرصه على مواجهة أطوارها الجديدة، وكان له أثره في ازدياد رقعتها فسحة وسعة؛ ذلك اجتهاده في شأن الأرض التي فتحت عنوة بالعراق والشام.
وقد رأيت المسلمين في العراق والشام انتصروا بالقادسية؛ وفتحوا المدائن وجلولاء وحمص وحلب وغيرها من المدن وغنموا منها، فكان ما غنموه يفرز خمسه ويرسل إلى أمير المؤمنين، وتقسم أربعة أخماسه بين الجند المنتصرين؛ وذلك عملا بقوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
18
فلما فتحوا أرض السواد بالعراق أرادوا قسمتها على هذا النحو؛ يكون خمسها لبيت المال، ويقسم سائرها بين الجند الذين اشتركوا في فتحها، وخالفهم عمر عن رأيهم في قسمة الأرض وقال: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسمت وورثت عن الآباء وحيزت! ما هذا برأي، قال عبد الرحمن بن عوف: ما الأرض والعلوج إلا ما أفاء الله عليهم! أي على الفاتحين، ورد عليه عمر: ما هو إلا كما تقول، ولست أرى ذلك؛ والله ما يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فماذا تسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق!
لم يسترح الفاتحون إلى قول عمر، فأكثروا عليه وقالوا: أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا! أما عمر فأصر على رأيه، ولم يزد على أن قال: هذا رأيي، فلما رأوا إصراره عليه قالوا: فاستشر، فجمع المهاجرين الأولين فاختلفوا: بقي عبد الرحمن بن عوف على رأيه أن تقسم لهم حقوقهم، ورأى عثمان وعلي وطلحة رأي عمر، وأرسل عمر إلى عشرة من كبراء الأنصار وأشرافهم، خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج وقال لهم: «إني لم أزعجكم إلا لتشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم؛ فإني واحد كأحدكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي؛ فلكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق!» قالوا: «قل نسمع يا أمير المؤمنين؟» قال عمر: «قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلما! لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت، لكني رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم، فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها، فتكون فيئا للمسلمين: المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور، لا بد لها من رجال يلزمونها! أرأيتم هذه المدن العظام، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش، ولا بد من إدرار العطاء عليهم! فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟!»
أرأيت إلى هذا الخطاب وإلى ما فيه من الحجج، فهو يشهد بأن الجدل بين عمر وبين الذين يزعمون لأنفسهم حقا في أرض العراق قد كان عنيفا، بلغ من عنفه أن اتهم أمير المؤمنين بالظلم، وإن أصر أمير المؤمنين مع ذلك على رأيه، غير معتمد في هذا الرأي على نص في الكتاب أو سنة سبقت من رسول الله، بل على المنفعة العامة للدولة وسياستها، هو إذن رأي اجتهده عمر، وساق من الحجج في تأييده ما أقنع عثمان وعليا وطلحة، وما أقنع هؤلاء الأنصار العشرة الذين سمعوا له، فقالوا جميعا: «الرأي رأيك، فنعم ما قلت وما رأيت! إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم.»
اطمأن عمر إلى رأيه ولم يبق لمخالفيه ما ينقضونه به، فقال: قد بان لي الأمر، فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها، ويضع على العلوج ما يحتملون؟ واجتمع رأي القوم على عثمان بن حنيف وقالوا: تبعثه إلى أهم ذلك، فإن له بصرا وعقلا وتجربة، وولاه عمر أرض السواد، فكان من حسن تصرفه أن أدت جباية الكوفة وحدها قبل عام من مقتل عمر مائة ألف ألف درهم، وكان وزن الدرهم يومئذ وزن المثقال.
خير ما يصور الرأي الذي انتهى إليه عمر في قسمة مغانم الحرب كتابه الذي بعث به إلى سعد بن أبي وقاص، بعد أن شاور أصحابه وبان له الأمر؛ فقد كتب إليه يقول: «بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر من كراع ومال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء.»
وقد حدث مثل هذا الحوار بين عمر وأصحابه على أثر فتح الشام، وجعل أصحابه يحاجونه يومين أو ثلاثة أو دون ذلك، فقد أراد جماعة المسلمين أن يقسم عمر بينهم أرض الشام كما قسم رسول الله خيبر، وكان أشد الناس عليه في ذلك الزبير بن العوام وبلال بن رباح، لكن عمر أجابهم كما أجاب الذين حاوروه في أرض العراق: إذن أترك من بعدكم من المسلمين لا شيء لهم، ولم يقسم الأرض بل تركها لعمالها ليكون خراجها في أعطيات المسلمين.
كان هذا اجتهاد رأي من عمر في أمر الأرض التي غنمها المسلمون في القتال، وقد كان هذا الاجتهاد، على تعبير أبي يوسف في كتاب الخراج:
توفيقا من الله كان له فيما صنع وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين، وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم؛ لأن هذا لو لم يكن موقوفا على الناس في الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور ولم تقو الجيوش على السير في الجهاد، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدينتهم إذا خلت من المقاتلة والمرتزقة، والله أعلم بالخير حيث كان. •••
هذه أمثلة من اجتهاد عمر في الشئون الكبرى، وفي شئون الدولة العامة على وجه أخص، واجتهاده فيما وراء ذلك من أمور التشريع والفقه كثير تفيض به كتب الفتاوى ويعتمد عليه الأئمة الأربعة وغيرهم من فقهاء السنة الإسلامية كل الاعتماد، وليس من غرضي أن أتقصى هذه الفتاوى أو أثبت كل هذه الآراء، فهذا التفصيل لا يدخل في نطاق بحث عن الإمبراطورية الإسلامية ونهوضها، إنما أردت أن أبرز في هذا الفصل ما كان لعمر من أثر عميق في تطور الحياة العامة لبلاد العرب، وللبلاد التي فتحها العرب، في الناحية السياسية كان هذا الأثر أو في الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
وأنت لا ريب قد لاحظت أن عمر كان أشد ميلا في اجتهاده إلى الصرامة والحزم مع ما عرف عنه من لين مع الضعفاء ورفق بهم، كان الحزم وكانت الصرامة شأنه مع المؤلفة قلوبهم، ومع الذين يطلقون ثلاثا بكلمة واحدة، ومع شاربي الخمر، ومع الذين يكثرون من رواية الحديث، ومع الغزاة المسلمين فيما غنموا من أرض العراق والشام، وكان العدل الصارم ديدنه في قضائه، وفي تسويته بين الخصوم الذين يقفون أمامه وإن تفاوتت أقدارهم في نظر الناس، وكان حمله الدرة بعض مظاهر هذه الصرامة الحازمة التي لم تفته حتى في أمور لا يحمل أصحابها شيئا من تبعتها.
كان عمر يعس ليلة، فسمع امرأة تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فلما أصبح سأل عن نصر هذا وأرسل في طلبه، فلما جيء به ألفاه من أحسن الناس شعرا وأصبحهم وجها، فأمره أن يطم شعره ففعل، فظهرت جبهته فازداد حسنا، فأمره عمر أن يعتم، ففعل فازداد حسنا، فقال عمر: لا! والذي نفسي بيده لا تكون بأرض أنا بها، وأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة، ولا ذنب لنصر في جماله حتى ينفى من الأرض، وإنما أراد عمر أن يقضي في مدينة الرسول على فتنة النساء به.
وسمع عمر نسوة في المدينة يقلن ذات ليلة وهو يعس: أي أهل المدينة أصبح؟ قالت امرأة منهن: أبو ذئب، فلما جيء به فرآه من أجمل الناس قال له: أنت والله ذئبهن! وكررها مرتين أو ثلاثا، ثم قال: والذي نفسي بيده لا تكون بأرض أنا بها! قال أبو ذئب: فإن كنت لا بد مسيري فسيرني حيث سيرت ابن عمي، يريد نصر بن حجاج فأمر له عمر بما يصلحه وسيره إلى البصرة.
وإنما أراد عمر بهذه الصرامة الحازمة أن يحارب في نفوس العرب كل ضعف يجعل للهوى سلطانا عليها، ذلك بأن القوة روح الإسلام وجوهره، فالقوة هي التي يتسلط بها المرء على نوازع النفس ونزغ الهوى، وهي التي تنزع من الأمة كل نقائص الضعف، وتدفع عنها كل معتد عليها يريد فتنتها عن عقيدتها، وهذه الروح هي التي فرضت على المسلمين الرفق بالضعفاء وجعلت المن بهذا الرفق إثما عظيما، فإنما أريد بالرفق معالجة ضعفهم لكيلا ينحدر بهم الفقر أو الجهل أو المرض إلى ما يزيدهم ضعفا، وإلى ما يؤدي إليه الضعف من الذلة والخضوع لغير الله، فإذا زال ضعفهم صحوا وأصبحوا أعزة في أنفسهم وقوة للجماعة التي ينتمون إليها.
وكان عمر من أقوى الناس إدراكا لروح الإسلام هذه، كما كان من أحسنهم علما بما في الحياة من عوامل تضعف هذه الروح، وكان لذلك شديد الحرص على مقاومة هذه العوامل، والواقع أن النفس الإنسانية تضطرب، في تطلعها للسمو وفي تهيئها للانحدار بين عوامل لا قبل لها أكثر الأمر بها، والانحدار أيسر لها، وهي له أكثر انجذابا، أما السمو فيقتضيها جهاد نفسها حتى لا تقع في الشباك الكثيرة التي نصبتها طبيعة الحياة لها، وجعلتها من ضرورات بقائها، ثم زينتها بما يغري هوى النفس ويستهوي شهوتها، والإنسان يفتن في تزيين هذه الشباك فيزيدها فتنة واستهواء.
وكثيرا ما يرى الناس في زينة هذه الشباك رفاهة وحضارة، وهم في ذلك يختلفون عن الحيوان، فالإنسان والحيوان جميعا في حاجة إلى الطعام والشراب حفظا للحياة، وإلى النسل حفظا للنوع، والحيوان ينال من الطعام والشراب ما يبقي على حياته، ولا تزيد صلة الذكر منه بالأنثى عما يقتضيه النسل، أما الإنسان فيرى في الطعام والشراب والحب متاعا يفتن فيه، ويهرع إليه، وينال منه جهد طاقته، وهو يلتمس لهذا المتاع من الأسباب والوسائل ما لا تعرفه غريزة مخلوق غيره.
والناس يزدادون في هذا المتاع افتنانا وعلى النهل منه حرصا كلما أوفت جماعاتهم على الانحدار والانحلال، أما الجماعة الفتية فتندفع إلى التطهر من رجس هذا الافتنان، وتتخذ من هذا التطهر وسيلتها إلى القوة وإلى السمو، وهذا التطهر هو ما دعا الإسلام إليه فكان رسول الله أسوة المسلمين فيه، ثم عمل أبو بكر وعمل عمر على تثبيت غرسه في قلوب المسلمين ليحتل من سويدائها مكان الإيمان، لهذا انبعثوا، بدافع مما في هذا التطهر من قوة معنوية زادها الإيمان بالله أضعافا مضاعفة، فاقتحموا حدود الفرس والروم، واكتسحوا سلطانهم، وقضوا على دولتهم قضاء لم يقم لها بعده قائمة.
وكان هذا التطهر غرض عمر من اجتهاده، قد رأيته بلغ منه في أمر نفسه غاية المدى، كذلك بلغ المسلمون في مجموعهم حظا منه عظيما بفضل ما أبدى عمر من حزم في محاسبة الولاة ومن قسوة بالمستهترين، لكن ما يقع من حوادث الحياة يجانب في كثير من الأحيان غرض المصلحين، ويشوب سعيهم لتحقيق هذا الغرض بشتى الشوائب، وقد يدعوهم ذلك ليجاوزوا القصد في اجتهادهم، ذلك بأن التداول بين السمو والانحدار في طبيعة الإنسان، وعواملهما تتجاور في نفس الفرد وفي نفس الجماعة جوار تجاذب وتنافس، وكثيرا ما ينخدع الناس فيها فيأخذون بأسباب الضعف يحسبونها أسباب القوة، وبعوامل الانحدار يظنونها عوامل السمو، بل إن هذه الأسباب والبواعث لتتداخل وتتفاعل، ويبلغ من تداخلها وتفاعلها أن يضل الرأي ويضطرب الاجتهاد بينها، وقد رأيت أبا بكر أمر بالتسوية في قسمة الفيء بين المسلمين، فلما استخلف عمر وانهالت عليه مغانم فارس والروم دون الديوان وفرق بين الناس في العطاء، ثم رأى أثر ما فعل فعاد إلى النظر في الأمر، وأيقن بأن ما فعله أبو بكر كان خيرا فعزم أن يرجع إليه، ولكن منيته عاجلته قبل أن يفعل.
ولعمر عذره؛ إذ كان تدفق المال من فارس والروم على جزيرة العرب قد غشي في نفوس كثيرين على ما أراده لهم من تطهر؛ فقل من الناس من يستطيع أن يصفي بواعث السمو في نفسه من شوائب النقص، وقل منهم من يرفعه التطهر إلى مراتب العصمة من الخطأ والخطيئة، فالخطأ والخطيئة من طبيعة الإنسان، تدفع إليهما أهواء هي بعينها الغرائز التي ركبت فينا لحفظ الحياة ولحفظ النوع، والتطهر يرسم لنا الحدود بين الإثم والنفع، وبين الخير والشر، ويحملنا على أن نقف عند ما ينفعنا، ولا نتعداه إلى ما يضرنا، والإثم والنفع والخير والشر والفائدة والضرر، تمتزج أكثر الأحيان بعضها ببعض، امتزاج الذهب وغيره من المعادن النفيسة بالصخر والمعادن الخسيسة، فإذا أريد استخلاص المعدن النفيس خاليا، وجب أن يصهر هذا المزيج صهرا قد يجني على خير ما فيه إذا كان قليل الكم بالقياس إلى ما يخالطه، وقد يكون الصهر لذاته سبب فساد إذا لم يعالج بالحكمة واليقظة .
وعمر كان لا ريب حكيما يقظا في اجتهاده وفي دعوته إلى التطهر، ويرجع الفضل في حكمته إلى أنه امتثل روح الإسلام كما أوحاه الله إلى رسوله أدق الامتثال، وأدرك هذا الروح أدق إدراك، ولذلك سما اجتهاده بالمسلمين إلى حيث يسر لهم أن يأتوا بالمعجزة في تشييد الإمبراطورية الإسلامية.
من المأثور عن نابليون أنه كان أكثر افتخارا بالقانون المدني الذي وضع في عهده وشارك هو في وضعه، منه بالمعارك العظيمة التي انتصر فيها ففتحت أمامه أبواب أوروبا وأوصلته إلى موسكو، أفتستطيع أن تقول مثل هذا القول عن عمر، وأنه كان يستطيع أن يفاخر باجتهاده أكثر من مفاخرته بالفتوح التي تمت في عهده؟ يجب، قبل أن تجيب على هذا السؤال، أن تفرق بين ما آلت إليه إمبراطورية نابليون، وما آلت إليه إمبراطورية عمر، لقد تحطمت الأولى ونابليون حي، وبقيت الثانية يتوارثها المسلمون قرونا عدة جيلا بعد جيل وأسرة بعد أسرة، مع ذلك لو أن عمر كان ممن يفاخرون لكان أكثر فخرا باجتهاده؛ فهذا الاجتهاد هو الذي أقام الإمبراطورية الإسلامية، وهو الذي أبقاها على الزمان.
على أن الاجتهاد والإمبراطورية كليهما قد هاضا عمر وأجهداه، ولئن كان قد نهض بعبئهما صلبا قويا لقد انتهيا به إلى حيث دعا ربه أن يضمه إليه، وقد أحفظا عليه كثيرين من أهل الأمم التي فتحها المسلمون، ثم كان مقتله بعض أثرهما.
هذه نتيجة قد تثير في نفسك الدهشة، لكنها الواقع من الأمر، وسترى هذا الواقع مجلوا في الفصل الآتي، آخر فصول هذا الكتاب.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
مقتل عمر
عشر سنوات وأشهر قضاها عمر أميرا للمؤمنين، متجردا لله ولدين الله، منكرا نفسه وأهله، متوجها بكل عقله وقلبه وجوارحه لينهض بالعبء العظيم الذي ألقاه القدر على عاتقه؛ فكان القائد الأعلى للجيش؛ والفقيه الأكبر بين فقهاء المسلمين؛ والمجتهد الذي يرجع الكل إلى رأيه، ويقر الكل اجتهاده؛ والقاضي النزيه العادل الذي يفصل في الخصومات، ويأخذ للضعيف حقه من القوي؛ والأب البار الرحيم بالمسلمين جميعا، صغيرهم قبل كبيرهم، وضعيفهم قبل قويهم، وفقيرهم قبل غنيهم؛ والمؤمن الصادق الإيمان بالله ورسوله صدقا زاده اعتدادا بنفسه، واعتزازا برأيه؛ والسياسي المحنك الذي يعرف ما يريد، ولا يريد إلا ما يقدر عليه، فإذا ازدادت قدرته، انفسحت إرادته؛ والإداري الحكيم يسرت له حكمته أن يسوس الأمم المتباينة في الجنس واللغة والدين، ويدبر أمورها تدبيرا ألانها له، وزادها تعلقا به، لا عجب وذلك شأنه أن اندفع المسلمون في عهده يحركهم صدق إيمانهم، وعظيم حرصهم على الاستشهاد في سبيل الله، ففتحوا فارس والعراق والشام ومصر وما وراءها، ولا عجب وذلك شأنه أن أصبح العرب محط أنظار العالم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وكانوا قبل إسلامهم أمة بادية تعيش لنفسها وتخضع لنفوذ غيرها.
ما أعظم الجهد الذي بذله عمر لينهض خلال هذه السنوات العشر بهذا العبء العظيم! وقد رأيت صورا من هذا الجهد مجلوة في هذا الكتاب، وهذه الصور لم تصف مع ذلك جهد عمر كله، وهل يستطيع كاتب أن يحيط بكل دقيق وجليل حين يصور حياة الرجل العظيم! إنما ينظر الكاتب إلى هذه الحياة من أحد جوانبها، وحسبه أن يلقي على هذا الجانب من الضياء ما يبرزه في وضوح وجلاء، وأنا لم أقصد من هذا الكتاب إلا ما قصدت إليه من كتاب أبي بكر: أن أؤرخ للإمبراطورية الإسلامية، لذلك لم أقف من حياة كلا الرجلين إلا عند ما يتصل بقيام الإمبراطورية وانفساح رقعتها.
كم كانت سن عمر بعد هذه السنوات العشر التي قضاها أميرا للمؤمنين؟ أشرت من قبل إلى اختلاف المؤرخين في هذا الأمر، يقول ابن الأثير: «كان مولده قبل الفجار بأربع سنين، وكان عمره خمسا وخمسين سنة، وقيل: ستين سنة، وقيل: ثلاثا وستين سنة وأشهرا، وهو الصحيح، وقيل: إحدى وستين سنة.» وفي رواية أنه كان خمسا وستين، ومن هذه الروايات كلها يظهر أنه كان بين الخامسة والخمسين والخامسة والستين، وأكبر الظن أنه كان قد تجاوز الستين، أما وقد شق على نفسه وآثر الشظف في حياته طيلة خلافته حتى خاف قومه عليه الموت عام المجاعة، فطبيعي أن تثقله هذه السن أكثر مما تثقل من عرف الرفه والدعة، وكانت جسامة تبعاته تزيدها ثقلا عليه، وتجعله أكثر شعورا بوطأة عبئها على كاهله، ثم لا يدعوه ذلك إلى الترفيه عن نفسه أو التخفيف من أعبائه في الاضطلاع بكل ما جل ودق من شئون الإمبراطورية في عهده.
كان عمر كما قدمنا يحج كل عام ويدعو ولاته وعماله فيوافونه أيام الحج بمكة كي يحاسبهم على أعمالهم، ويشاركهم في تدبير شئون ولايتهم، وقد حج كعادته في هذه السنة الثالثة والعشرين للهجرة؛ وحج معه أزواج رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى مناسكه وأفاض من منى، أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء ألقى عليها بطرف ثوبه؛ ثم استلقى عليها ورفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم كبرت سني ورق عظمي وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم!» وهذا دعاء لا يقوله رجل قبل الستين، وبخاصة إذا كان سليم البنية قويها مثل ما كان عمر.
ولعله، وقد شعر بدبيب الوهن في جسمه فكان يستعجل لقاء ربه، قد كان طويل التفكر في هذا المصير، روى ابن سعد في الطبقات أنه لم يلبث حين نزل المدينة عائدا من حجه أن خطب الناس يوم الجمعة، فذكر نبي الله وذكر أبا بكر، ثم قال: «أيها الناس! إني أريت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي، رأيت ديكا أحمر نقرني نقرتين.» وقال: «أيها الناس، قد فرضت لكم الفرائض، وسنت لكم السنن، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا.»
1
فهذه العبارة الأخيرة أشبه بوصية الشاعر بدنو الأجل منها بعظة من يحض على الخير، وأشبه بالوصية كذلك، في تلك الخطبة قوله: «إني لم أدع شيئا هو أهم إلي من الكلالة، وما راجعت رسول الله في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ علي في شيء منذ صاحبته ما أغلظ لي في الكلالة، حتى طعن بأصبعه في بطني فقال لي: «يا عمر تكفيك الآية التي في آخر النساء.» وإن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.» ثم قال: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار! فإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويعدلوا عليهم، ويقسموا فيئهم بينهم، ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم.» قال جويرية بن قدامة من بني تميم: «حججت عام توفي عمر، فأتى المدينة فخطب فقال: رأيت كأن ديكا نقرني، فما عاش إلا تلك الحجة حتى طعن.»
وشعور عمر بدنو أجله وليس به مرض، وليس به إلا شعور بضعف قوته ووهن جسمه، يدعو إلى شيء غير قليل من التفكير فقل من الناس من تحدثه نفسه وهو في صحته بمثل ما حدثت عمر نفسه، وإن شعر بعضهم في أول مرضه الأخير بدنو ساعته. أفكان عمر في هذه محدثا ألهم ما سيكون قبل أن يكون؟ أم أن كبر سنه وضعف قوته وانتشار رعيته جعله يفكر في دنو أجله، ويدعو الله أن يضمه إليه؟ أنت في حل من أن تختار لنفسك الجواب، أما المؤرخون المسلمون فساقوا في هذا الأمر روايات نقصها عليك بعد أن نفصل مقتل أمير المؤمنين.
خرج عمر من منزله قبل مطلع الشمس من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة، يؤم الناس لصلاة الفجر، وكان يوكل رجالا في المسجد بالصفوف يسوونها قبيل كل صلاة، فإذا استوت جاء هو فنظر إلى الصف الأول فإذا رأى فيه متقدما أو متأخرا علاه بالدرة، حتى إذا انتظم الجميع في أماكنهم كبر للصلاة، ودخل في تلك الساعة من ذلك اليوم ولما يكد يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلما بدأ ينوي للصلاة ليكبر إذا رجل ظهر فجأة قبالته، فطعنه بخنجره ثلاث طعنات أو ست طعنات، إحداها تحت سرته، وأحس عمر حر السلاح، فالتفت إلى المصلين باسطا يديه يقول: «أدركوا الكلب فقد قتلني!» وكان الكلب أبا لؤلؤة النصراني فيروز غلام المغيرة، وكان فارسيا، أسر في نهاوند ثم وقع في ملك المغيرة بن شعبة، وقد جاء إلى المسجد متعمدا قتل عمر في هذه الساعة المبكرة من الغلس يخبئ تحت ردائه خنجرا قبضته في وسطه وله نصلان حادان، واختبأ في أحد أركان المسجد حتى إذا بدأت الصلاة ارتكب فعلته، ثم اندفع يريد الفرار نجاة بنفسه، وماج الناس مضطربين لما سمعوا، وأقبل كثيرون منهم على الكلب يريدون القبض عليه والتنكيل به، ولم يدعهم فيروز يأخذون بتلابيبه، بل جعل يطعنهم يمنة ويسرة حتى طعن اثني عشر، مات منهم ستة على قول وتسعة على قول آخر، ثم إن رجلا أتاه من ورائه فألقى عليه رداءه وطرحه أرضا، وأيقن فيروز أنه مقتول لا محالة مكانه، فانتحر بالخنجر الذي ضرب به أمير المؤمنين.
كانت الطعنة التي أصابت عمر تحت سرته قد قطعت الصفاق والأمعاء، وكانت لذلك قاتلة، قيل: إن عمر لم يستطع الوقوف من حرها، بل سقط طريحا، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة بالناس، فصلى بهم، بأقصر سورتين في القرآن: العصر والكوثر، وقيل: بل ماج الناس بعضهم في بعض لمصاب عمر ومصاب الذين طعنوا من حوله، واشتد اضطرابهم حين رأوا عمر محمولا إلى داره في جوار المسجد، وظلوا في مرجهم واضطرابهم حتى قال قائل: الصلاة عباد الله! قد طلعت الشمس. فدفعوا عبد الرحمن بن عوف فصلى بأقصر سورتين.
والرواية الثانية هي الراجحة لا ريب؛ فما كان الناس لتستوي صفوفهم للصلاة من جديد وهم في مرجهم واضطرابهم، وأمير المؤمنين طريح يدفق جرحه دما أمامهم، ودماء المطعونين تسيل من حولهم، والقاتل صريع بينهم! ولو أنا استطعنا أن نتصور عمر يفكر، مع ما أصابه من طعنات، في استخلاف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة - وهو تصور بعيد عن مألوف العقل - لما استطعنا أن نتصور الناس في هذه الساعة تلتئم صفوفهم وهم فيما هم فيه من روع وفزع، لا بد إذن أن يكون عمر قد حمل إلى داره في جوار المسجد واعيا أو فاقد الوعي من هول طعناته، وقد أحاط الناس به حين أدخل إلى أهله، وقد أسعف الذين أصيبوا وأخرجوا من المسجد أو نقلوا إلى بعض جوانبه، وأخرجت جثة فيروز إلى البطيحاء، ثم عاد الناس إلى المسجد يتحدثون فيما وقع حتى نبههم إلى الصلاة من نبههم، فدفعوا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم.
فرغ الناس من الصلاة وتفرقوا في جوانب المسجد وفي بطيحائه، ولا حديث لهم إلا هذا الحادث المروع الذي وقع بأعينهم، وانتشر الخبر في المدينة انتشار البرق، فاستيقظ من أهلها من لم يكن قد استيقظ، وأسرعوا جميعا، رجالا ونساء وصبيانا، يريدون أن يقفوا على جلية الخبر في هذا الأمر الجلل، ونقل المصابون الآخرون إلى منازلهم، ومنهم من أسلم الروح أو كاد، ومنهم من يتنزى ألما من جراحه، ودخل كبار أهل الرأي على عمر مستفسرين، قال عبد الله بن عباس: «فلم أزل عند عمر ولم يزل في غشية واحدة حتى أسفر الصبح؛ فلما أسفر أفاق فنظر في وجوهنا فقال: أصلى الناس؟ قلت: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة.» ثم إن ابن عباس خرج إجابة لرغبة عمر، فنادى في الناس: أيها الناس! إن أمير المؤمنين يقول، أعن ملأ منكم هذا؟ وفزع الناس لسماع هذه الكلمات موجهة إليهم، فصاحوا كلهم بلسان واحد: معاذ الله ما علمنا ولا اطلعنا، وكيف يكون ذلك وإنهم لو علموا لافتدوا عمر بأبنائهم وأرواحهم! وسألهم ابن عباس: فمن طعن أمير المؤمنين؟ قالوا: طعنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
كان عمر ممددا على فراشه ينتظر رجوع ابن عباس بالجواب عما سأل عنه، وينتظر طبيبا طلب إلى أهله أن يدعوه إليه، فلما رجع ابن عباس وحدثه بحديث الناس، وذكر له أن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه وطعن معه رهطا ثم قتل نفسه، قال: «الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط! ما كانت العرب لتقتلني!»
وجاء طبيب من العرب فسقى عمر نبيذا، فأشبه النبيذ الدم حين خرج من الطعنة التي تحت السرة؛ فدعا عبد الله بن عمر طبيبا من الأنصار، ثم آخر من بني معاوية فسقى عمر لبنا فخرج اللبن من الطعنة أبيض لم يتغير لونه، فقال: يا أمير المؤمنين: اعهد، يريد أنه ميت لا محالة. قال عمر: صدقني أخو بني معاوية، ولو قلت غير ذلك لكذبتك، وتولى الحاضرين الجزع لقول الطبيب فبكوا، فقال عمر: «لا تبكوا علينا! من كان باكيا فليخرج، ألم تسمعوا قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يعذب الميت ببكاء أهله عليه!»
بينا كان عمر يسمع ما نقله ابن عباس عن الناس، ثم يستشير الطبيب ويصغي لنذيره، كان المسلمون بالمسجد وما حوله يتحدثون جماعات، يسأل بعضهم بعضا عما دفع أبا لؤلؤة لارتكاب فعلته الشنعاء، وقد أورد المؤرخون في ذلك روايات لعلها بعض ما جرت به أحاديث هذه الجماعات، ولعل بعضهم كان يناقش هذه الروايات، فيقبل بعضها، وينفي بعضها، ويرى بعضها حديث خرافة، وسأبسط هذه الروايات جميعا أمام نظر القارئ ليكون له فيها رأي، وإن رأيت واجبا علي قبل روايتها أن أعلن اقتناعي بأن مقتل عمر أدت إليه مؤامرة استغرق تدبيرها زمنا قبل الحادث، ولم يتيسر للحاضرين بالمسجد على أثره أن يتبينوا دليلها، ثم قام هذا الدليل من بعد، فكان لقيامه من الأثر ما نقص نبأه بعد حين.
روى ابن سعد في الطبقات حديثا أسنده إلى جبير بن مطعم أن عمر كان واقفا في حجته الأخيرة على جبال عرفة إذ سمع رجلا يصرخ فيقول: يا خليفة، يا خليفة؟ فسمعه رجل آخر وهم يعتافون فقال: ما لك؟ فك الله لهواتك؟ فصخب جبير على هذا الرجل قائلا: لا تسبه، فلما كان الغد وقف عمر على العقبة يرميها وجبير معه إذ أصابت رأس عمر حصاة عابرة ففصدت، وسمع جبير رجلا من الجبل يقول: «أشعرت ورب الكعبة لا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبدا.» وكان هذا هو الذي صرخ بالأمس: «يا خليفة يا خليفة.» وروى ابن سعد كذلك عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن أختها عائشة أم المؤمنين أنها قالت: لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين وصدرنا عن عرفة مررت بالمحصب، فسمعت رجلا على راحلته يقول: أين كان عمر أمير المؤمنين؟ فسمعت رجلا آخر يقول: ها هنا كان أمير المؤمنين؛ فأناخ راحلته ثم رفع عقيرته فقال:
عليك سلام من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
فلم يحرك ذاك الراكب ولم يدر من هو، فكنا نتحدث أنه من الجن، فقدم عمر من تلك الحجة فطعن فمات.
لا أراني بحاجة إلى التعليق على هذه الروايات، ويتعذر الظن بأن هذا الذي قيل إنه من الجن، وذاك الذي قال: لا يقف عمر هذا الموقف بعد العام أبدا، وقيل: إنه كان عائفا، قد كان أيهما على علم بشيء مما كان يدور بخاطر فيروز أو كان يدبر معه، لكن ما روي من الأنباء، عما حدث بعد رجوع عمر إلى المدينة قبيل مقتله، جدير بقدر من التمحيص، لعله يدلنا على حقيقة لم يقطع بها أحد من المؤرخين الأولين.
روى الطبري وابن الأثير وغيرهما أن عمر خرج يوما بعد عوده من حجه يطوف بالسوق، فلقيه أبو لؤلؤة فقال له: يا أمير المؤمنين أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجا كثيرا، قال عمر: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال عمر: وما صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد، قال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول، لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت! قال: نعم، قال عمر: فاعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه، قال عمر: لقد توعدني العبد آنفا!
ودخل عمر منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، وكان كعب هذا من كبار أحبار اليهود في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان يتردد عليه مظهرا الميل إلى الإسلام، مرجئا إعلان إسلامه حتى يتحقق من كل الأمارات التي يجدها في كتب قومه عن النبي العربي وأصحابه، فلما انتهى أمر الخلافة إلى عثمان أعلن إسلامه، وعجب عمر لنذير كعب، فسأله، وما يدريك ؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل: التوراة، ودهش عمر لهذا الكلام فقال: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة! قال كعب: لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك، وإذ كان عمر لا يحس وجعا ولا ألما فقد زادت دهشته لهذا الحديث، ثم لم يعره عناية خاصة.
فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يوم وبقي يومان، وفي الغداة من ذلك اليوم قال له: ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها، وفي فجر الغداة طعن أبو لؤلؤة عمر طعناته المميتة، فلما دخل الناس على أمير المؤمنين ودخل كعب معهم ورآه عمر قال:
توعدني كعب ثلاثا أعدها
ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت إني لميت
ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
ساق سير وليم مور قصة كعب هذه في كتابه «الخلافة الأولى» وأردفها بقوله: «يتعذر علينا أن نعرف كيف نشأت هذه القصة العجيبة، وربما أنذر كعب عمر حين رأى ما بدا على أبي لؤلؤة من مظهر التحدي والوعيد.» والذي نستطيع نحن أن نستخلصه من حديث أبي لؤلؤة مع عمر، ومن قصة كعب، أن الفارسي توعد أمير المؤمنين، وأن اليهودي عين الموعد الذي تم فيه القتل قبل حدوثه بثلاثة أيام، وما إخال أحدا يظن أن الكتب السماوية تعين الأحداث التي تقع لأفراد الناس بمثل هذه الدقة؛ فهذه الكتب كلها ترجع علم الغيب إلى الله وحده، لا بد إذن أن يكون كعب عرف سر ما كان يجري، فوجه النذير إلى عمر، وأغفل عمر أمر هذا النذير بعد أن توعده أبو لؤلؤة بما توعده به فحدث ما حدث، ونذير كعب وطعنات أبي لؤلؤة تدل على أن في الأمر سرا لم يظهر ساعة ارتكاب الجريمة، لكنه ظهر من بعد، وسنبينه في موضعه.
كان الناس في المسجد يتساءلون عما دفع أبا لؤلؤة لارتكاب جريمته، وكان عمر في داره ممددا على فراشه، يشير الطبيب عليه بأن يعهد، ويتحدث إليه كبار المسلمين في هذا الذي أصابه وأصاب المسلمين فيه ، وفيما يتوقعونه إذا قضى الله في الخليفة العظيم بقضائه، وكان التفكير فيمن يخلف عمر أكبر ما يشغل بالهم وبال عمر، أتراه يصنع صنيع أبي بكر فيختار خليفته، أم يدعهم يصنعون ما صنعوا في اجتماعهم بسقيفة بني ساعدة حين اختار الله إليه رسوله؟ روي أن ابن عمر قال لعمر بن الخطاب: لو استخلفت؟ قال: من؟ قال: تجتهد فإنك لست لهم برب! أرأيت لو أنك بعثت إلى قيم أرضك، ألم تكن تحب أن يستخلف رجلا حتى يرجع إلى الأرض؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو بعثت إلى راعي غنمك، ألم تكن تحب أن يستخلف رجلا حتى يرجع؟ قال عمر: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني.» وروي أن سعد بن زيد بن عمرو قال لعمر: إنك لو أشرت برجل من المسلمين ائتمنك الناس، فقال عمر: إني قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا، ثم قال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح، وفي رواية أن عمر قال: من أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح! فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، فأين أنت من عبد الله بن عمر؟ وأجابه عمر: قاتلك الله! والله ما أردت الله بهذا! أستخلف رجلا ليس يحسن أن يطلق امرأته! ويروى كذلك أن عمر دعا إليه عبد الرحمن بن عوف بعد أن حمل إلى داره إثر طعنته، فقال له: إني أريد أن أعهد إليك، قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، إن أشرت علي قبلت منك، قال عمر: وما تريد؟ وسأله ابن عوف: أنشدك الله! أتشير علي بذلك؟ قال عمر: اللهم لا! وكانت كلمة عبد الرحمن بعد هذه المشورة أن قال: والله لا أدخل فيه أبدا!
تدل هذه الروايات على أن اختيار الخليفة لم يكن له نظام مقرر في الإسلام، وتدل كذلك على أن المسلمين كانوا قد بدءوا، لأول ما انفسحت الإمبراطورية أمامهم، ينافس بعضهم بعضا وينفس بعضهم على بعض، وذلك قول عمر؛ «إني قد رأيت من أصحابي حرصا شيئا.» وهذا الحرص السيئ هو الذي جعله يتردد في استخلاف أحدهم مكانه على نحو ما صنع أبو بكر حين استخلفه، فأما قوله إنه كان يستخلف سالما مولى أبي حذيفة أو أبا عبيدة بن الجراح لو أن أحدهما كان حيا، فإنما قصد به - أكبر الظن - إلى التخلي عن موقف دق حتى على عمر الذي عرف طيلة حياته بالصراحة والحزم وعزم الأمور.
لكنه مع ذلك لم يكن يستطيع أن يدع الأمر مرسلا يضطرب بين عامة الناس وخاصتهم، بعد أن رأى ما حدث بالسقيفة إثر وفاة الرسول، والحال اليوم أكثر مما كانت لذلك العهد دقة؛ فقد اشترك العرب جميعا في محاربة الفرس والروم، وأصبح لكل قبيلة بذلك أن تزعم لنفسها من حق الاشتراك في اختيار الخليفة ما للمهاجرين والأنصار، هذا إن لم تذهب بعض القبائل إلى ادعاء الحق في ترشيح زعيمها لمقام الخلافة، وفي هذا الأمر من الخطر على العرب وعلى الإمبراطورية الناشئة ما يدركه عمر أكثر مما يدركه غيره؛ لذلك لم يلبث، بعد قليل من إعمال الرأي، أن جعل الخلافة من بعده شورى في ستة؛ هم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ومن المأثور عنه في استخلافهم قوله: «لا أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض؛ فأيهم استخلف فهو الخليفة من بعدي.» وبعد أن سمى هؤلاء الستة أردف: «فإن أصابت سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به؛ فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.»
2
عرف الناس ما صنع عمر فسكنوا إليه، ودعا عمر هؤلاء النفر الذين جعل الخلافة شورى بينهم فقال: «أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس! أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ! أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس! وناشد الآخرين مثل هذه المناشدة، ثم قال: قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم، وليصل بالناس صهيب.»
كان عمر يود لو يتم القوم التشاور، ويختاروا خليفته قبل أن يقبض، ليموت مطمئنا إلى مصير الإسلام ومصير الإمبراطورية من بعده؛ لذا جعل ابنه عبد الله معهم يشاورونه وليس له من الأمر شيء ليكون الصلة بينهم وبينه، قال عبد الله بن عمر: فقاموا يتشاورون، فدعاني عثمان مرة أو مرتين ليدخلني في الأمر، ولا والله ما أحب أني كنت فيه، علما أنه سيكون في أمرهم ما قال أبي، والله لقلما رأيته يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان حقا، فلما أكثر عثمان علي قلت له: ألا تعقلون! أتؤمرون وأمير المؤمنين حي! فوالله لكأني أيقظت عمر من مرقده، فقال: «أمهلوا، فإن حدث بي حدث فليصل بكم صهيب ثلاث ليال، ثم أجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.»
وكان طلحة بن عبيد الله غائبا من المدينة يوم طعن عمر؛ لذلك قال بعد أن استمهل القوم: «انتظروا أخاكم طلحة ثلاثة أيام، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم.»
وكأنما خشى عمر أن يختلف القوم بينهم بعد موته، فيؤدي اختلافهم إلى الثورة؛ ينصر بنو هاشم عليا، وينصر بنو أبي معيط عثمان، وينتصر من الجند من ينتصر للزبير أو لطلحة أو لسعد، وكلهم من كبار القواد؛ لذلك دعا إليه الأنصار وقال لهم: «أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا واضربوا أعناقهم.» ودعا أبو طلحة الأنصاري وكان من الشجعان المعدودين فقال له: «قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم.» وفي رواية أنه قال: «يا أبا طلحة! كن في خمسين من قومك الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم، فقم على ذلك الباب بأصحابك، فلا تترك أحدا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم!»
ترى لو أن عمر استخلف واحدا بذاته من هؤلاء النفر الستة، أكان المسلمون يقرون اختياره كما أقروا اختيار أبي بكر عمر؟ ولو أن عمر اطمأن إلى هذا الأمر لما تردد دونه،
3
لكن البوادر أمامه لم تكن تبعث على هذه الطمأنينة؛ لذلك قال للناس: «من تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه.» وقد رضي الناس خلافة عثمان بعد عمر سنوات عدة، فلما طال به الأمد ضاقوا به ذرعا فثاروا به وقتلوه، ومن بعد مقتله قامت الحرب الأهلية بين المسلمين، واتصلت على السنين، وقيامها يشهد بأن عمر لم يكن مغاليا حين خشي مغبة الاختلاف بين القوم، وبأنه كان مدركا أشد الإدراك ما تنطوي عليه قلوبهم، مقدرا أن العصبية القبلية التي سكنت، منذ أظل الرسول بلوائه جزيرة العرب، تؤذن بالظهور من جديد، وقد تجد في فسحة الإمبراطورية ما ينشرها ويؤجج ضرامها، ولذلك عالج الأمر بأن جعل الخلافة شورى في هؤلاء الستة، وكان هذا العلاج خير ما يواجه به الموقف لوقته، وقد نجح هذا العلاج طيلة عشر سنوات بعده، لكن البواعث التي تخوفها عمر كانت دائبة أثناء ذلك على تحريك الأهواء الأصيلة في النفوس، وكثيرا ما طغت الأهواء على حكم العقل وحكمته، فأدت إلى مثل ما أدت إليه في حياة المسلمين، بعد خمس وعشرين سنة من وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم .
لم يكف عمر أن يجعل الشورى في الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، بل حرص أن يعهد للخليفة من بعده بما يراه أقوم سياسة تطمئن بها أمور الدولة ويزداد بها عز الإسلام، وكان مما قاله في ذلك: «أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وبالمهاجرين الأولين أن يحفظ لهم حقهم وأن يعرف حرمتهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو، وجباة المال ألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم وألا يكلفوا إلا طاقتهم، وأن يقاتل من وراءهم.» ويضيف بعض المؤرخين إلى هذه الوصية أنه قال، «اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة.»
كان عمر يفكر منذ طعن في مصير المسلمين، وكان حريصا على ألا يذر بعده من بادرات الرأي في اجتهاده ما لم يكن قد اطمأن إليه ووثق بصحته، سقنا من قبل حديثه عن الكلالة وما دار بينه وبين رسول الله فيها وقول رسول الله له: «تكفيك الآية التي في آخر النساء.» وهذه الآية هي قوله تعالى:
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم
4
وقد أثبتنا قول عمر في خطبته الأخيرة: «وإن أعش أقض في الكلالة بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.» وكان قد كتب رأيه الذي اجتهده في فريضة الجد على عظم كتف عشية اليوم الذي طعن فيه، فلما عرف أن طعنته قاتلة قال لابنه عبد الله: «ائتني بالكتف التي كتبت فيها شأن الجد بالأمس.» يريد أن يمحو ما كتب حتى لا يحتج به أحد من بعده، قال عبد الله: نحن نكفيك هذا الأمر يا أمير المؤمنين، ولم يكن أيسر من أن يقوم عبد الله بالمحو وأن يدع أباه في شغله بجراحه، لكن عمر أبى وقال: لا؟ ولم يطمئن حتى جيء بالكتف فمحا الكتابة بيده.
وأنت تذكر أن عمر قد استفتح عهده أول خلافته فأمر الناس أن يردوا سبايا أهل الردة إلى عشائرهم، وقال لهم: «إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب.» وقد كان لهذا الأمر أثر أعظم الأثر في امتداد الفتح، وأهل الردة جميعا كانوا في شبه الجزيرة، وكان من بطون العرب وقبائلها من نزح إلى الشام وإلى العراق ، ومن وقع أسيرا في يد المسلمين في أثناء الغزوات المتلاحقة التي تمت فيها، فلما رأى عمر أنه موف على أجله أراد أن يزيد وحدة العرب قوة، ويزيد العرب بأنفسهم اعتزازا؛ لذلك قال وهو على فراشه: «من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله.» ولم يكن هذا القول اجتهادا منه خالف به سابق رأيه، إنما هو تطبيق دقيق لقوله: «إني كرهت أن يصير السبي سنة في العرب.» ولعله خشي ألا يطبق خليفته هذا الرأي الذي اجتهده يوم استخلف، فلم يرد أن يترك الدنيا قبل أن يتم ما بدأه، وقبل أن يذر العرب جميعا أحرارا.
فكر عمر إذن في مصير المسلمين من بعده، وفكر فيما كان من اجتهاده، ثم فكر كذلك فيما عليه من دين لم يرد أن يذر الدنيا قبل أن يكفل أداءه، ذلك أنه كان استسلف من بيت المال ستة وثمانين ألف درهم، فدعا إليه ابنه عبد الله فذكرها له ثم قال: «بع فيها أموال عمر، فإن وفت وإلا فسل بني عدي، فإن وفت وإلا فسل قريشا ولا تعدهم.» وكان عبد الرحمن بن عوف يعلم، كما كان يعلم غيره من المسلمين، أن عمر لم يقترض هذه الأموال إلا لاشتغاله بأمر المسلمين؛ لذلك قال له: ألا تستقرضها من بيت المال حتى تؤديها؟ وأجابه عمر: «معاذ الله أن تقول أنت وأصحابك بعدى: أما نحن فقد تركنا نصيبنا لعمر فتعزوني بذلك فتتبعني تبعته وأقع في أمر لا ينجيني إلا المخرج منه!» ثم قال لعبد الله بن عمر: اضمنها، فضمنها، فلم يدفن عمر حتى أشهد بها ابنه على نفسه أهل الشورى وعدة من الأنصار، وما مضت جمعة حتى حمل عبد الله بن عمر المال إلى عثمان بن عفان وأحضر الشهود على البراءة بدفعه.
وفي رواية أنه أوصى بربع ماله لأم المؤمنين حفصة ابنته، فإذا ماتت فإلى الأكابر من آل عمر.
فرغ عمر من حساب الدنيا، فاتجه بتفكيره إلى ما يرجوه بعد موته، وكان أكبر همه أن يدفن في جوار صاحبيه رسول الله وأبي بكر في بيت عائشة، وكان قد استأذنها من قبل في ذلك فأذنت له، فلما حضرته الوفاة قال: «إذا مت فاستأذنوها، فإن أذنت وإلا فدعوها فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني.» وفي رواية أن عمر لما طعن فأوصى قال لابنه: «اذهب يا عبد الله إلى عائشة أم المؤمنين فقل لها: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست لهم اليوم بأمير، يقول: تأذنين له أن يدفن مع صاحبيه؟» فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي، فسلم عليها ثم قال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه؟ قالت: «قد والله كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي!» فلما رجع عبد الله وذكر لعمر أن عائشة أذنت له قال: «ما كان شيء أهم إلي من ذلك المضجع، يا عبد الله بن عمر انظر، إذا أنا مت فاحملني على سريري ثم قف بي على الباب فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلني وإن لم تأذن فادفني في مقابر المسلمين.»
جعل عمر بعد ذلك يحاسب نفسه عما قدمت يداه، فهو مقبل عما قليل على موقف هو أعسر المواقف وأشدها، ذلك موقفه بين يدي ربه يسأله عما قدم وأخر، عما نوى وعما عمل، عما أضمر وأظهر، ترى ماذا أعد له ربه من مصير؟ أتذهب حسناته سيئاته، أم تغلب السيئة الحسنة فيجزيه الله الجزاء الأوفى؟ لقد كان في وجل من ذلك أي وجل، قال له أحد عواده: والله إني لأرجو ألا تمس النار جلدك أبدا! فنظر إليه، وقد ملأت العبرة عينيه حتى رثى له من كان حوله، ثم قال له: «إن علمك بذلك يا فلان لقليل، لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع!» وفي رواية أنه قال هذه العبارة الأخيرة وابن عباس عنده، فقال له ابن عباس: «والله إني لأرجو ألا تراها إلا مقدار ما قال الله:
وإن منكم إلا واردها ، إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين وأمين المؤمنين وسيد المؤمنين، تقضي بكتاب الله وتقسم بالسوية.» فأعجب هذا الكلام عمر فاستوى جالسا وقال: «أتشهد لي بهذا يا بن عباس!» فسكت ابن عباس، فضرب عمر على كتفه وقال: «اشهد لي بهذا يا بن عباس.» قال ابن عباس: «نعم، أنا أشهد.»
والحق أن ما روي عن خوف عمر من هول الحساب يشهد له بثبات إيمانه وقوة يقينه ومخافته الله مخافة هي العدة لمن صدق قصده وجه الله في كل عمله، جاء الناس حين طعن يثنون عليه ويودعونه ويدعونه أمير المؤمنين، فقال: «أبالإمارة تزودونني! لقد صحبت رسول الله فقبض الله رسوله وهو عني راض، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت فتوفي أبو بكر وأنا سامع مطيع، وما أصبحت أخاف على نفسي إلا إمارتكم هذه.» وكان يتألم من جراحه فجعل جلساؤه ينسونه ألمه بالثناء عليه، فقال: «إن من غره عمره لمغرور، والله لوددت أني أخرج منها كما دخلت فيها، لا علي ولا لي.» وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا أول من أتى عمر بن الخطاب حين طعن فقلت له: أبشر بالجنة! صاحبت رسول الله فأطلت صحبته، ووليت أمر المؤمنين فقويت وأديت الأمانة، فقال: «أما تبشيرك إياي بالجنة فوالله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فذاك.» وقد كان يشتد خوفه كلما ازداد ثناء الناس عليه، روي أنه مد يده فأخذ تبنة كانت على الأرض إلى جنب فراشه فرفعها أمام عينيه وقال: «ليتني كنت هذه التبنة! ليتني لم أخلق! ليت أمي لم تلدني! ليتني لم أك شيئا! ليتني كنت نسيا منسيا!»
هذه حال تشهد بصدق الإيمان، وتدل على شعور هذا الرجل العظيم بجلال ما حمل من تبعة في إمارة المؤمنين، فهو لم يغتر بما تم في عهده من نصر وفتح، ولم يبطره ظفره بالفرس والروم، ولم يزدهه حديث الناس عنه وثناؤهم عليه، بل خشي أن يكون قد ظلم يوما ضعيفا، فارتفعت أنات هذا الضعيف إلى السماء؛ فوزنت عند ذي العرش حسنات عمر جميعا!
وهذه الخشية هي التي جعلته ينظر إلى ابنته حفصة أم المؤمنين، وقد دخلت عليه باكية تندبه بقولها: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين! فيقول لها: إني أحرج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها، إنه ليس من ميت يندب بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته. ونهى عمر أهله أن يبكوا عليه، وكان عمر في النهي عن الندب وعن البكاء شديدا صارما، سمع صهيبا يقول، وقد رأى اللبن يخرج من جراحه: وا عمراه وا أخاه، من لنا بعدك! فقال له: مه يا أخي، أما شعرت أنه من يبك عليه يعذب؟!
وخشي عمر أن يبالغ أهله بعد موته في تكفينه ودفنه، فأوصى ألا يغسلوه بمسك أو يقربوا منه مسكا، على ما كان يصنع العرب بذوي المكانة منهم، وقال لابنه: «اقصدوا في كفني فإنه إن يكن لي عند الله خير أبدلني خيرا منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سلبي، واقصدوا في حفرتي، ولا تخرجن معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس في فإن الله هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فأسرعوا في المشي؛ فإنه إن يكن لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم عن رقابكم شرا تحملونه.»
كان عبد الله بن عمر يسمع هذه الوصية وقد جلس إلى فراش أبيه ووضع رأسه على فخذه، فلما أحس عمر أنه موف على لقاء ربه، قال لابنه: ضع خدي بالأرض، فقال له عبد الله: هل فخذي والأرض إلا سواء! قال عمر: ضع خدي بالأرض لا أم لك! فلما وضع ابنه خده بالأرض شبك بين رجليه وجعل يقول: ويلي وويل أمي إن لم يغفر الله لي؟ وظل يكررها حتى فاضت نفسه.
5
فاضت نفسه وهو بين يدي ربه أكبر همه أن يترك الدنيا كفافا لا عليه ولا له، وكان الناس إذ ذاك بالمسجد يحدث بعضهم بعضا في مقتله، وفيما يخشون أن يصيبهم ويصيب الدولة الناشئة من بعده، وكان لهم العذر أن تثور مخاوفهم فمن ذا يستطيع أن يضطلع من بعده بالعبء العظيم الذي خلفه بمثل ما اضطلع هو به! ومن ذا يستطيع أن ينسى نفسه وأهله، وأن يتجرد لله ولخدمة المسلمين والعدل بينهم تجرده! لقد استفتح عهده وشبه الجزيرة وحدها في سلطانه، ومات والإمبراطورية الإسلامية تشتمل فارس والعراق والشام ومصر؛ مع ذلك لم يغير من تقشفه وبساطة عيشه ومن قسوته بنفسه، ولم يغره السلطان بالخروج عن مألوف حياته، وعما عرف الناس من تسويته بين نفسه وبين سائر المسلمين؛ لذلك اشتد حزن الناس لموته وجزعهم عليه، روي عن أبي طلحة أنه قال: ما من أهل بيت من العرب حاضر ولا باد إلا قد دخل عليهم بقتل عمر نقص في دينهم وفي دنياهم، وروي عن الحسن أنه قال: «أي أهل بيت لم يجدوا فقد عمر فهم أهل بيت سوء.» وقال حذيفة يوم قتل عمر: «اليوم ترك الناس حافة الإسلام؛ وايم الله لقد جار هؤلاء القوم عن القصد حتى لقد حال دونه وعورة ما يبصرون فهم لا يهتدون.» وبكى سعيد بن زيد ذلك اليوم فقيل له: وما يبكيك؟ قال: على الإسلامي أبكي! إن موت عمر ثلم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة، ولا عجب، وذلك شعور الحكماء وأولي الرأي، أن يكون الضعفاء والبؤساء أقوى شعورا بوقع الكارثة التي نزلت بهم؛ فقد كان عمر لهم أبا وأخا، وكان لهم حصنا حصينا وملجأ أمينا.
قد يدهشك، والأمر ما ترى، ألا يورد المؤرخون من رثاء أصحاب الرأي يومئذ لعمر مثل ما أوردوا من رثائهم لأبي بكر يوم قبض، فكل ما ينسب إلى علي بن أبي طالب أنه دخل على عمر إثر وفاته، فألفاه مسجى بثوب في ناحية من غرفته، فرفع الثوب عن وجهه وقال: «يرحمك الله أبا حفص! ما أحد أحب إلي بعد النبي
صلى الله عليه وسلم
أن ألقى الله بصحيفته منك.» والأكثر تواترا أن عليا وقف على عمر بعد أن غسل وكفن وحمل على سريره فأثنى عليه وقال: «والله ما على الأرض رجل أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب!» فلما صلى على عمر جاء عبد الله بن سلام فقال: لئن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه لا تسبقوني بالثناء عليه، ثم وقف عند سريره وقال: نعم أخو الإسلام كنت يا عمر، جوادا بالحق، بخيلا بالباطل، ترضى حين الرضا، وتغضب حين الغضب، عفيف الطرف، طيب الظرف، ولم تكن مداحا ولا مغتابا، ثم جلس.
وإنما يذهب بعض الشيء من دهشتك أن تعلم أن أهل الرأي كانوا في شغل بأمر الشورى فيمن يخلف عمر عن التفكير في شيء سواه، وكان أصحاب الشورى الذين استخلفهم عمر أشد من غيرهم اشتغالا بهذا الأمر، وتوقا لمعرفة مآله. لما حان دفن عمر، فحمل إلى المسجد ووضع بين قبر رسول الله ومنبره ليصلى عليه، أقبل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وكل منهما يريد أن يتقدم صاحبه لهذه الصلاة، فلما رآهما عبد الرحمن بن عوف على هذه الحال قال: إن هذا لهو الحرص على الإمارة، لقد علمتما ما هذا إليكما، ولقد أمر به غيركما، تقدم يا صهيب فصل عليه، كذلك روى ابن سعد في الطبقات، وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن بن عوف قال: ما أحرصكما على الإمارة؟ أما علمتما أن أمير المؤمنين قال: «ليصل صهيب بالناس»؟ فتقدم صهيب فصلى عليه وكبر أربعا.
وفي رواية أوردها الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال: لما مات عمر رضي الله عنه بكته ابنة أبي حثمة فقالت: «وا عمراه! أقام الأود، وأبرأ العمد؛ أمات الفتن، وأحيا السنن، خرج نقي الثوب، بريئا من العيب.» فلما دفن عمر أتيت عليا أريد أن أسمع منه في عمر شيئا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: «يرحم الله ابن الخطاب؛ لقد صدقت ابنة أبي حثمة، لقد ذهب بخيرها ونجا من شرها، أم والله ما قالت ولكن قولت.»
ربما أذهب اشتغال أهل الشورى بالخلافة بعض الشيء من دهشتك لقلة لما أورده المؤرخون عما رثي به عمر يوم وفاته، وسترى مبلغ هذا الاشتغال بعد حين فلا يبقى من دهشتك شيء، ثم ترى إعظام الناس عمر وإكبارهم لحقه فتطيب نفسه بأن الحق باق أبدا، وإن أخفته الأهواء حينا.
غسل عمر وكفن في ثلاثة أثواب، وحمل إلى المسجد فصلى عليه صهيب، ثم حمل القوم جثمانه فوقفوا به على باب عائشة، وقال عبد الله بن عمر: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه؟ وأجابت عائشة: ادخل بسلام.
ودخل القوم إلى حجرة رسول الله، فأنزلوا الجثمان إلى مثواه الأخير، وكان رأس أبي بكر قد جعل عند كتفي النبي، فوضع رأس عمر عند كتفي أبي بكر، وتولى عبد الله بن عمر تسوية الجثمان في مكانه، وكان قد نزل معه أصحاب الشورى الخمسة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام،
6
أما طلحة بن عبيد الله فكان لا يزال غائبا عن المدينة، فلم يحضر وفاة عمر ولم يحضر دفنه.
وسوى القوم التراب على الجثمان وأقفلوا القبر، والناس على مقربة منهم مجتمعون في المسجد وقد هوى الحزن بأفئدتهم إلى أعمق قرار، وذهب الأسى بألبابهم لموت رجل عز في الرجال نظيره، وأمير للمؤمنين تولى أمرهم وهم من شدته وغلظته في خوف ووجل، ثم قضى بينهم عشر سنوات وستة أشهر كان خلالها أبر أمير وأعدله وأتقاه، وكانوا لذلك يزدادون كل يوم له حبا.
وكيف لا يفعلون وقد كانوا أول عهده في عيلة فأغناهم الله من فضله، وكان الخوف من الفرس والروم يساورهم فأصبحوا بفضل الله سادة الفرس والروم! بذلك استقر سلطان الإسلام وتوطد عرشه، فحق لعمر أن يدفن مع صاحبيه، لينعم بجوارهما، وتطمئن روحه إلى أنه سار على سنتهما، وأنه أتم على الأرض ما قضى الله أن يتم حين أوحى إلى نبيه رسالة السماء.
وقد أتم عمر هذه الرسالة؛ لأنه نسي نفسه، وجعل وحدة المسلمين وعظمة الإسلام غرضه، فلم يفكر حين خلافته في مال أو جاه يكون لذويه وأهله، بل رأى ما وليه من أمر المسلمين عبئا ألقاه القدر على كاهله، فكان كل همه ألا تعلق به فيما ولي من ذلك ريبة من الناس ولا من نفسه، وأن يؤدي في ولايته لكل ذي حق حقه، وقد فعل، فأعز الله الإسلام، وأورث الأرض عباده الصالحين.
تفرق الناس بعد أن فرغ من دفن عمر، وساروا تعلوهم الكآبة ويساورهم الحزن، وجعل كثيرون يذكرون يوم طعن، ويسأل بعضهم بعضا عن باعث أبي لؤلؤة إلى ارتكاب فعلته الشنعاء، فلو أن الخراج لم يكن يبهظه، بالقياس إلى كسب عمله، لما أقدم على جريمة عاقبتها القضاء على حياته، ولكن، أويكفي أن يقول له عمر إن ما فرض عليه من خراج ليس بالكثير ليدفعه ذلك إلى قتله؟! إن صح هذا كان عجبا؛ فقد كان في مقدوره أن يعود فيعرض جلية أمره على الخليفة، ليخفف العبء عنه، أم أن في الأمر سرا كان أقوى أثرا في نفسه، وكانت الشكوى من الخراج خدعة أريد بها ستر الحقيقة عن الأعين؟!
الحقيقة أن الفرس واليهود والنصارى قد كانت في نفوسهم حفيظة أي حفيظة على العرب عامة وعلى عمر خاصة، بعد أن غلب المسلمون الفرس والنصارى على أمرهم، وتولوا حكم بلادهم، واضطروا عاهل الفرس إلى فرار انتهى به إلى شر مصير، وذكر الناس في أحاديثهم هذه الحفيظة، وذكروا قول عمر حين عرف أن الذي طعنه هو أبو لؤلؤة الفارسي: «قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحدا فعصيتموني!» وبالمدينة من هؤلاء العلوج جماعة أن يكونوا قليلين فهذه الحفيظة تجمع قلوبهم وتوغر صدورهم، ومن يدري! لعلهم ائتمروا فكانت فعلة فيروز ثمرة مؤامرة أرادوا بها شفاء ما في نفوسهم من غل؛ وحسبوا أنهم قادرون بها على أن يشتتوا شمل العرب ويفتوا في أعضاد المسلمين.
وكان أبناء عمر أشد حرصا على معرفة الحقيقة؛ وقد كانوا يستطيعون كشفها والوقوف على جلية أمرها لو أن فيروز لم ينتحر، لكنه انتحر ، فذهب بسره إلى القبر معه ، أفقضي الأمر، ولم يبق إلى معرفة السر سبيل؟
كلا! بل أرادت الأقدار أن يقف على السر من قادة العرب من يدل عليه، رأى عبد الرحمن بن عوف السكين التي قتل بها عمر فقال: رأيت هذه أمس مع الهرمزان وجفينة فقلت: ما تصنعان بهذه السكين؟ فقالا: نقطع بها اللحم، فإنا لا نمس اللحم، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: قد مررت على أبي لؤلؤ قاتل عمر ومعه جفينة والهرمزان وهم نجي، فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قتل به عمر، فوجدوه الخنجر الذي نعت عبد الرحمن بن أبي بكر، لم يبق إذن في الأمر ريبة، هذان شاهدا عدل، بل هما من أعدل شهود المسلمين، يشهدان بأن الهرمزان وجفينة كان معهما السكين الذي قتل به عمر، ويشهد أحدهما أنه رأى أبا لؤلؤة القاتل يأتمر قبل القتل معهما، ويقرران أن ذلك كله كان عشية طعن عمر، أفيستطيع أحد بعد ذلك أن يشك في أن أمير المؤمنين ذهب ضحية مؤامرة كان هؤلاء الثلاثة أبطالها، ولعل غيرهم من أبناء فارس أو من الأمم التي غلبها المسلمون كان معهم فيها؟
سمع عبيد الله بن عمر قول عبد الرحمن بن عوف وشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر فاصطبغ الوجود كله دما أمام عينيه، ودخل في روعه أن كل أجنبي بالمدينة شريك في المؤامرة، وأن أيديهم جميعا تقطر من دم الجريمة؛ لذلك لم يتردد أن تقلد سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجفينة فقتلهما، روي أنه دعا الهرمزان، فلما خرج إليه قال له: انطلق معي حتى ننظر إلى فرس لي وتأخر عنه، حتى إذ مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد الفارسي حره قال: لا إله إلا الله! وخر صريعا، وروي أن عبيد الله بن عمر قال: «ودعوت جفينة، وكان نصرانيا من نصارى الحيرة، وكان ظئرا لسعد بن أبي وقاص أقدمه المدينة للملح الذي كان بينه وبينه، وكان يعلم الكتاب بالمدينة فلما علوته بالسيف صلب بين عينيه.»
لم يكتف عبيد الله بقتل الهرمزان وجفينة، بل انطلق فقتل ابنة لأبي لؤلؤة صغيرة تدعي الإسلام، وأراد ألا يترك سبيا بالمدينة إلا قتله، وسمع الناس في المدينة بما يصنع فأسرعوا إليه، واجتمع المهاجرون الأولون عليه فنهوه وتوعدوه؛ لكنه كان في حال من الهياج حتى لقد قال: والله لأقتلنهم وغيرهم! وعرض ببعض المهاجرين، وعرض له عمرو بن العاص وجعل يحدثه بالشدة تارة وباللين أخرى، ولم يزل به حتى دفع إليه بالسيف، وأقبل سعد بن أبي وقاص، وقد عرف مقتل جفينة، فأخذ بناصية عبيد الله وأخذ عبيد الله بناصيته، واشتد بينهما الأمر لولا أن حجز بينهما الناس، ثم أقبل عثمان بن عفان، ولما يكن قد بويع، فأمسك بتلابيب عبيد الله وأمسك عبيد الله بتلابيبه، وتناصيا وأظلمت الأرض من حولهما، ثم تدخل الناس فحجزوا بينهما وعثمان يقول: قاتلك الله! قتلت رجلا يصلي وصبية صغيرة وآخر من ذمة رسول الله! ما في الحق تركك! لكن عبيد الله لم يكن يرى أمامه غير الدم المراق، دم أبيه الكريم، فكان كهيئة السبع يعترض العجم بالسيف حتى حبس.
7
ولم يكن إخوة عبيد الله دونه ثورة لمقتل أبيهم، وكانت حفصة أم المؤمنين من أشدهم ثورة، روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: «يرحم الله حفصة! فإنها ممن شجع عبيد الله على قتلهم.»
وفعلة عبيد الله من حمية الجاهلية لا ريب؛ فما كان لرجل أن يثأر لنفسه، أو يأخذ حقه بيده بعد أن أصبح القضاء لرسول الله وخلفائه من بعده؛ يحكمون بين الناس بالعدل، ويتولون القصاص ممن أجرم؛ لذلك كان حقا على عبيد الله إذ عرف المؤامرة التي أودت بحياة أبيه، أن يحتكم إلى أمير المؤمنين؛ فإن ثبتت المؤامرة عنده أجرى فيها حكم القصاص وإن لم تثبت أو قامت الشبهة في نفسه منها درأ الحد بالشبهة، أو قضى بأن أبا لؤلؤة هو الآثم.
أيا ما يكن الحكم فقد آن للشورى أن يجتمعوا، وأن يختاروا أحدهم أميرا للمؤمنين، وقصة الشورى حدثت بعد وفاة عمر، فلم تكن من ثم تدخل في نطاق هذا الكتاب، لولا أن عبيد الله بن عمر بقي محبوسا إلى تمامها، وإلى أن استخلف عثمان بن عفان، ثم كان لأمير المؤمنين معه شأن يجب لمن يؤرخ لعمر ألا يغفله.
ثم إن قصة الشورى تصور الحال النفسية للمسلمين حين وفاة عمر تصويرا يشهد بأن هذا العهد، وما تم فيه من اتساع رقعة الفتح وانفساح مدى السلطان، قد انطوى إلى جانب عظمته وجلاله على بذرة ثورة بقيت مستكنة في خلافة عمر ومعظم خلافة عثمان، وهذه البذرة هي التي أدت من بعد إلى مقتل عثمان وإلى الحرب الداخلية بين علي ومعاوية، وإلى ما تلا ذلك من نزاع بين الأمويين والعباسيين، وقد كان لذلك كله أثر واضح في عظمة الإمبراطورية الإسلامية، كما كان له أثر واضح في انحلالها بعد بضعة قرون، فحق علينا، ونحن نؤرخ لعمر، أن نبرز هذه الحال النفسية التي ظهرت إثر وفاة عمر على نحو لم تظهر به في حياته.
وفي رواية المؤرخين قصة الشورى بعض الاختلاف، ويرجع اختلافها إلى ما يبديه بعض المؤرخين من إيثار لعلي ولبني هاشم وحقهم في إمارة المؤمنين، وما يبديه بعضهم الآخر من الحرص على رواية الوقائع كما بلغتهم دون التأثر بميل خاص، على أن هذه الروايات في جملتها وتفصيلها تشهد بأن بني هاشم وجدوا فرصة الشورى سانحة لاسترداد حقهم في إمارة المؤمنين؛ لأنهم ورثة النبي عليه الصلاة والسلام، وبأن الكثرة من قريش كانوا يترددون في إجابة بني هاشم إلى هذا الطلب، بل كانوا يؤثرون ألا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد.
روي أن عمر لما استخلف الشورى قال العباس بن عبد المطلب لعلي: لا تدخل معهم! قال علي: إني أكره الخلاف، وكان جواب العباس: إذن ترى ما تكره، وقد كان عمر قال للشورى: «إن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا حكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.» فلما خرجوا من عند عمر قال علي لقوم من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا، وقال معه العباس: عدلت عنا، وذكر له قول عمر: «كونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.» ثم قال: «فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر، فإن كان الآخران معي لم ينفعا.» فقال له العباس: «لم أدفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخرا بما أكره: أشرت عليك عند وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، فأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت، احفظ علي واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا نناله إلا بشر لا ينفع معه خير!»
لا أرب لي في ترجيح هذه الرواية ولا في تفنيدها، وهي تشهد على كل حال أن بني هاشم كانوا يرون أنفسهم أحق بخلافة النبي وتولي أمر المسلمين، وأنهم كانوا يرشحون علي بن أبي طالب؛ لأنه كان من أول المسلمين، إذ أسلم ولما يبلغ الحلم، ولأنه صهر رسول الله وابن عمه، ولكن عليا لم يكن يحرص على الخلافة إثر وفاة الرسول حرص من يقيم الثورة إذا لم يبلغ أربه، فلما استخلف أبو بكر عمر لم يثر علي ولم يثر أحد من بني هاشم، ولما طعن عمر وجعل الشورى في ستة بينهم علي تحرك بنو هاشم من جديد لتحقيق غرضهم، لكن عليا بقي مع ذلك أشد حرصا على وحدة المسلمين منه على الاستئثار بالأمر لنفسه، مع اقتناعه بأنه أحق المسلمين بهذا الأمر.
وذلك ما تشهد به قصة الشورى في وضوح وجلاء؛ فقد اجتمع أهل الشورى بعد الفراغ من دفن عمر، قيل: اجتمعوا في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال، وقيل: في حجرة عائشة بإذنها، وقيل: في بيت أحدهم، واجتمع معهم عبد الله بن عمر يشير عليهم وليس له من الأمر شيء، وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم، ولم يرضوا أن يجلس عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة بالباب، بل حصبهما سعد بن أبي وقاص وأقامهما، وقال لهما: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى!
وبدأ القوم يتشاورون، فاشتد بينهم الجدل وارتفعت منهم الأصوات ارتفاعا دل أبا طلحة الأنصاري على شدة اختلافهم، فدخل عليهم وقال لهم: «أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون!»
تجري رواية بأن هذا الخلاف ظل متصل الحدة يومين كاملين، تداركه عبد الرحمن بن عوف بعدهما باقتراح سكن من حدته، وانتهى إلى الغاية المنشودة، وتجري رواية أخرى بأن عبد الرحمن تدارك الخلاف منذ اليوم الأول، وأنه استطاع بحكمته أن يتغلب عليه، وأيما الروايتين صحت فقد قال عبد الرحمن للمجتمعين: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ ونظر إليه القوم في دهش ولم يحر أحد منهم جوابا، وكيف يجيبونه والإمارة متنازعة بين بني هاشم وغيرهم من قريش! قال عبد الرحمن: فأنا أنخلع منها، قال عثمان: فأنا أول من رضي، وقال سعد والزبير: رضينا، أما علي بن أبي طالب فبقي ساكتا، فسأله عبد الرحمن: ما تقول يا أبا الحسن، وأجابه علي: أعطني موثقا، لتؤثرن الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأمة نصحا، ذلك أن عبد الرحمن كان صهرا لعثمان بن عفان وابن عم لسعد بن أبي وقاص؛ ولهذا خشي علي أن يؤثر عليه عثمان، لكن عبد الرحمن لم يلبث حين سمع كلام علي أن قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين نصحا؛ وبذلك أخذ منهم ميثاقا وأعطاهم مثله.
خلع عبد الرحمن نفسه من ترشيح عمر له، وجعل كل همه إلى توحيد كلمة المسلمين على من يختاره لإمارتهم، لهذا بدأ يعمل لتضيق دائرة المرشحين، وإذ كان يعلم أن عليا وعثمان هما المتنافسان اللذان يخشى اختلافهما فقد بدأ يسعى ليحصر الترشيح فيهما، وأول ما صنع من ذلك أن خلا بعلي وقال له: تقول إنك أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن، أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضره، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟ وأجابه علي: عثمان، ثم إنه خلا بعثمان وقال له: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني! ولكن لو لم تحضر، أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ وأجابه عثمان: علي، وكان قد تحدث إلى الشورى جميعا قبل ذلك وطلب إليهم أن يفوض ثلاثة منهم ما لهم من الحق في ولاية الأمر إلى ثلاثة، وإذ كان سعد والزبير يعلمان أن ما لهما من أمل في ولاية الأمر ضعيف، فقد فوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي وفوض سعد ما له فيها من حق إلى عبد الرحمن، وترك حق طلحة لعثمان، أما وقد خلع عبد الرحمن نفسه فقد انحصر الترشيح في علي وعثمان، وقد أصبح الأمر في اختيار أحدهما معلقا في عنق عبد الرحمن.
قدر ابن عوف جلال التبعة الملقاة على عاتقه، وما يجب عليه لله ولدين الله وللمسلمين أن يبلغ بها غاية تجتمع عليها الكلمة وينحسم بها كل خلاف؛ لذلك جعل يلقى أصحاب رسول الله ومن وافى المدينة بعد الحج، من أمراء الأجناد ورءوس الناس، يسألهم جميعا مثنى وفرادى، مجتمعين ومتفرقين، سرا وعلانية، حتى يجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ورأى الكثرة الواضحة أشد ميلا لعثمان، مع ذلك لم يرد أن يعلن للناس رأيا يتهمه أنصار علي فيه، بل ذهب إلى دار ابن أخته المسور بن مخرمة فأيقظه، وقد مضى أكثر الليل من تلك الليلة الأخيرة التي فرضها عمر لاختيار أمير المؤمنين، وطلب إليه أن يدعو له عليا وعثمان، فلما أقبلا قال لهما: إني قد سألت الناس فلم أجدهم يعدلون بكما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما: لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولى عليه ليسمعن وليطيعن.
وخرج بهما إلى المسجد في الصبح بعد أن نودي في الناس أن الصلاة جامعة، وغص المسجد بالناس، فصعد عبد الرحمن المنبر فدعا دعاء طويلا ثم قال: أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم، فقال سعد بن زيد: إنا نراك لها أهلا، قال عبد الرحمن: أشيروا علي بغير هذا، وأشار عمار بن ياسر والمقداد بن عمرو بعلي، وأشار عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن أبي ربيعة بعثمان، وأدى اختلاف الفريقين إلى تشاتم بين عمار وابن أبي سرح؛ فصاح سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن! أفرغ قبل أن يفتتن الناس، قال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا.
ثم إنه دعا عليا فأخذ بيده وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال علي: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، فأرسل يده، ودعا عثمان وأخذ بيده وقال له: هل أنت مبايعي لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخليفتين من بعده؟ قال عثمان: اللهم نعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال ثلاثا: اللهم اسمع واشهد؟ ثم قال: إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك، وجعلته في رقبة عثمان! وبايعه، فازدحم من بالمسجد يبايعون عثمان.
أي موقف وقفه علي من اختيار عثمان بن عفان وبيعته؟ ذلك أمر اختلفت الروايات فيه، روى ابن سعد بإسناد أن أول من بايع عثمان عبد الرحمن بن عوف، ثم علي بن أبي طالب، وروى بإسناد آخر أن عليا بايع عثمان أول الناس، ثم تتابع الناس فبايعوه، وروى ابن كثير أن عبد الرحمن بن عوف قعد على المنبر مقعد النبي، وأجلس عثمان بعد أن بايعه على الدرجة الثانية، «وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولا، ويقال آخرا.» أما الطبري فيسوق روايتين تقرب إحداهما من هذه الروايات، وتختلف الثانية عنها كل الاختلاف، وتدلان كلتاهما على أن اختيار عثمان ترك في نفس علي أثرا عميقا، أما الأولى فتذهب إلى أنه لما أقبل الناس يبايعون عثمان، بعد أن بايعه عبد الرحمن، تلكأ علي فقال عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ، فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة.
8
وأما الرواية الثانية فتذهب إلى أنه لما بايع عبد الرحمن عثمان قال له علي: «حبوته حبو دهر، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون! والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك! والله كل يوم هو في شأن.» فقال عبد الرحمن: «يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان.» فخرج علي وهو يقول: يقول: «سيبلغ الكتاب أجله.»
ينفي ابن كثير روايتي الطبري هاتين فيقول: «وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون، أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وأنك إنما وليته؛ لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن:
فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
إلى آخر الآية، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وفاعليها والله أعلم.»
أنت ترى ما بين هذه الروايات من اختلاف، لكنها جميعا تشهد بأن قريشا كانت تؤثر ألا تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم، وقد نسب إلى علي أنه قال بعد بيعة عثمان: «إن الناس تنظر إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم.» وهذا القول، صحت نسبته إلى علي أو لم تصح، يتفق وما حدث لذلك العهد، فقد كان علي من أعلم الناس وأقضاهم بالحق والعدل؛ فالعدول مع ذلك عنه يفسر هذا الحرص من قريش على أن تكون إمارة المؤمنين مداولة بينهم، لا يتوارثها أهل بيت توارث الملوك عروش آبائهم، وربما تمت البيعة لعلي لولا هذا الشعور وتأصله في قريش.
جلس عثمان بعد البيعة في جانب المسجد، ثم دعا عبيد الله بن عمر من محبسه، ليحاكمه في قتله الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة بعد الذي اعتقده من ائتمارهم بحياة أبيه، فلما مثل عبيد الله بين يدي عثمان وجه أمير المؤمنين القول لجماعة من المهاجرين والأنصار يسألهم: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق؟ قال علي بن أبي طالب: ما من العدل تركه، وأرى أن تقتله، ورأى بعض المهاجرين في هذا الرأي من القسوة ما لا تطيقه النفس فقالوا: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم! ووجم الحاضرون لهذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول، وأجال عثمان في الحاضرين بصره يلتمس الرأي، فلو أنه استجاب لرأي علي وقتل عبيد الله لنكأ من آل عمر جراحات لما تندمل، ولأثار بذلك ثائرات لا يعلم إلا الله عقباها، ولكان مثلا في القسوة لا يقاس به أشد الناس غلظة وبطشا، وفي طبع عثمان لين يتجافى به عن مثل هذا البطش؛ لذلك ود لو يجد له أحد الحاضرين مخرجا من موقف ما أحرصه على الخروج منه، وكان عمرو بن العاص حاضرا هذا المجلس، فقال: «إن الله أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان، تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ورأى عثمان في قول ابن العاص سفسطة فلم يقتنع برأيه، وإنما وجد فيه ما يسوغ الدية؛ لذلك قال: أنا وليهم - يريد ولي الذين قتلوا - وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.
والحق أن الفتوى بقتل عبيد الله كانت قاسية، وكانت الشبهة في عدلها قائمة، فهب عبيد الله أخطأ في اعتقاده أن الهرمزان وجفينة ائتمرا مع أبي لؤلؤة بأبيه، لقد كان له مع ذلك من العذر ما ينهض شبهة تدرأ عنه الحد وتخفف العقاب، ولعل عثمان لو أجرى التحقيق الدقيق لانكشفت المؤامرة أمامه، ولثبتت ثبوتا تنتفي معه كل ريبة فيها ، فشهادة عبد الرحمن بن أبي بكر وشهادة عبد الرحمن بن عوف كافيتان لتدفعا عبيد الله إلى ما فعل، إن لم تنهضا دليلا على الهرمزان وجفينة، وأيد هاتين الشهادتين أن النصل الذي قتل به عمر كان في أيدي المؤتمرين وهم نجي.
ولعل عثمان رأى ألا يقوم في هذا الأمر بتحقيق قد يثير ثائر الفرس، ويزيد الحفائظ بينهم وبين العرب، ولهذا ودى القتلى من ماله، وأمر في الوقت نفسه زياد بن لبيد البياضي أن يكف عن التعريض بعبيد الله بن عمر، وبذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل وفاة عمر. •••
بانتحار أبي لؤلؤة، وقتل الهرمزان وجفينة، ودية عثمان إياهما من ماله ومنعه الخوض فيما كان من عبيد الله، أسدل على السر في مقتل عمر ستار لا يزال إلى اليوم مسدلا، ولا يزال المؤرخون يتحاشون إزاحته، ولعمر الحق ما أرى لذلك سببا، وشهادة عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن بن أبي بكر تسوغ ما اعتقده عبيد الله بن عمر، واعتقدته أخته حفصة أم المؤمنين، من ائتمار هؤلاء الأعاجم بأبيهما؟ وقد كان لفيروز وللهرمزان من العذر عن هذه المؤامرة أن المسلمين فتحوا بلادهم، واضطروا ملكهم للفرار لينتهي إلى أشنع مصير وأرذله، فإذا تحركت نفوسهم لما أصاب وطنهم فدبروا وائتمروا، فذهب عمر ضحية مؤامرتهم لم يكن ذلك عجبا، وإنما العجب أن يظل الناس يعتقدون أن فيروز قتل عمر؛ لأنه لم ينصفه بتخفيف الخراج عنه، مع أن عوده للشكوى من ثقل الخراج لم يكن أيسر منه.
وإذ كانت اعتبارات الوقت قد ألقت على عثمان أن يسدل على المؤامرة حجابا فليس للمؤرخين مثل عذره، فقد أسلم الفرس فاعتزوا بالإسلام وأعزوه، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الأمم التي دانت به، فحق على كل مؤرخ أن يبدي رأيه في أمر أصبح ملك التاريخ فأصبح واجبا جلاؤه، لهذا أبديت رأيي فيه، مؤقنا أن هذا الرأي يفسر الكثير مما حدث، من بعد، بين العرب والفرس.
9
والأمر أجدر بالمصارحة؛ لأنه يتعلق بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ هذا الرجل الذي ظل اسمه، وسيظل أبد الدهر، علما في التاريخ على العدل والنزاهة والحزم وحسن الرأي وصدق الإرادة، والتجرد لله ولدين الله تجردا أعز الله به الإسلام ومد لواءه في الخافقين، كان عبد الله بن مسعود إذا ذكر مقتل عمر بكى وقال: «إن عمر كان حصنا حصينا للإسلام، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام.» وعن حذيفة أنه قال: «إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل امرئ مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار.» وروي أن أبا عبيدة بن الجراح قال، وهو لا يزال في عنفوان نشاطه وقوته: «إذا مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعده، وسترون ما أقول إذا بقيتم، فإن ولي وال بعد عمر فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس ولم يحتملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه.»
وإنما قال ابن مسعود وحذيفة وأبو عبيدة ما قالوا لاجتماع ما اجتمع من الصفات في عمر، واجتماع هذه الصفات هو الذي جعل المسلمين يحتملون منه ما لا يحتملونه من غيره، وهو الذي أحزنهم أشد الحزن لوفاته حتى كأنهم لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، وكيف لا يحزنون وقد كانوا، أول ما استخلف، فقراء فأغناهم الله، وكانوا يخشون الفرس والروم، فأصبحوا سادة الفرس والروم، وكانوا في زاوية من الأرض لا يكاد يذكرها العالم، فأصبحوا بفضل الله ملء السمع والبصر من حياة العالم، كل ذلك وعمر هو هو، لم يتغير مظهره ولم تتغير حياته، فلم يفكر في نفسه ولا في أهله، بل رأى فيما وليه من أمر المسلمين عبئا ألقاه القدر على عاتقه، فكان كل همه ألا تعلق بولايته ريبة من الناس ولا من نفسه، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه، بذلك أعز الله الإسلام، وأورث الأرض عباده الصالحين.
رحم الله عمر، ورضي عنه! إنه كان من عباده المؤمنين.
هوامش
خاتمة
مهد أبو بكر لقيام الإمبراطورية الإسلامية، فامتدت في عهد عمر من حدود الصين شرقا إلى ما وراء برقه غربا، ومن بحر قزوين في الشمال إلى النوبة في الجنوب، واشتملت فارس والعراق والشام ومصر، وضمتها كلها إلى بلاد العرب، فكان لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من هذه الأمم، أثر بالغ في توجيه حضارة العالم من بعد، وكان تفاعل هذه العوامل طبيعيا؛ فلم يكن لأمير المؤمنين ولا لغيره من السلطان ما يمحو أثره، أو يغير النتائج التي ترتبت عليه.
وقد كانت هذه الأمم، حين انضمت إلى لواء الإمبراطورية الإسلامية، متباينة أشد التباين في كل مقوماتها، إذ كانت كل واحدة منها تختلف عن سائرها في اللغة، والجنس، والعقيدة، والحضارة، والبيئة الاجتماعية، والبيئة الاقتصادية. صحيح أن قبائل من العرب كانت تقيم ببادية السماوة، على تخوم العراق والشام؛ وأن هذه القبائل أقامت ملك الحيرة، وملك بني غسان، لكن أهل الشام الأصليين وأهل العراق الأصليين كانوا من جنس غير عربي، وكانوا يتكلمون لغة غير العربية، أما فارس ومصر فكانتا لا تمتان للعرب في الجنس ولا في اللغة بصلة، كانت عقائد الفرس تخالف عقائد أهل الشام وأهل مصر، وكان أهل العراق مقسمين بين نصرانية الروم ومجوسية الفرس، وكانت الحياة ولون الحضارة في كل واحدة من هذه الأمم يختلفان عنهما في الأمم الأخرى اختلافا كبيرا، وقد تم اجتماع هذه الأمم كلها، وبينها هذا التفاوت والتباين، في وحدة الإمبراطورية في زمن لم يزد عن عشر سنين، لكن القوة التي تستطيع أن تخضع الأمم، وأن تجمعها في سلطان سياسي واحد، لا تستطيع أن تزيل ما بينها من تفاوت في مقوماتها الأساسية، والتطور وحده هو الذي يحول الأمم إلى غير حالها، بعد أن تكون قد ثبتت على هذه الحال الأجيال والقرون، فكيف كان هذا التحول، وإلى أي مدى بلغ في عهد عمر، وماذا كان اتجاهه من بعده؟
عد بالذاكرة إلى ما سجله المؤرخون من محاورات قيل إنها حدثت بين سفراء المسلمين وكسرى يزدجرد وقائده رستم، وبين خالد بن الوليد وجرجة القائد الرومي في غزوة اليرموك، وإلى ما كان قبل ذلك من مثل هذه المحاورات بين نجاشي الحبشة والمسلمين الذين هاجروا إليها، لقد كان محور هذه المحاورات ومداها أن العرب كانوا ضعافا لانحلال الروابط بين شتى أممهم، أذلة يتحكم غيرهم من الأمم في مصيرهم، فقراء يقتلهم الجهد في سبيل العيش، فلما أرسل الله رسوله إليهم بالإسلام اجتمعت كلمتهم، وشبعوا من جوع، وعزوا بعد ذلة، ولا ريب أنه قد حدثت محاورات من هذا القبيل، إلا تكن على الوجه الذي فصله المؤرخون فعلى وجه آخر لا يختلف في جوهره عنه، فالرسالة الجديدة للإسلام كانت إذن موضع التفكير في كل مكان ذهب إليه المسلمون، وانتصار العرب الذين آمنوا بهذه الرسالة كان حجة صلاحها نظاما للحياة الروحية وللحياة الاجتماعية، وحيثما انتشرت فكرة بين الناس، واستحوذت على الشعور العام، خلفت أثرا يقوى أو يضعف بحكم الأحوال التي تنتشر الفكرة فيها، وعلى قدر قوته أو ضعفه ترسخ الفكرة في النفوس حتى تبلغ منها مكان الإيمان، أو تتبخر شيئا فشيئا حتى يجر النسيان عليها ذيل العفاء.
كانت الأحوال التي أحاطت بالفكرة الإسلامية، في البلاد التي غزاها المسلمون، كفيلة بأن تجعل هذه الفكرة على كل لسان وفي كل مجتمع، ذلك بأن الأساس الروحي الذي قامت الفكرة عليه كان بسيطا كل البساطة، خاليا من كل تعقيد؛ وأن النظام الخلقي الذي تفرع عن هذا الأساس كان ساميا غاية السمو، يأخذ بهاؤه بالأبصار، وأن النظام الاجتماعي في الإسلام لم يكن دون النظام الخلقي والأساس الروحي بساطة وسموا، وكانت الفكرة الإسلامية في أساسها ونظمها لا تزال يومئذ في صفاء جوهرها، لم يجن عليها الجدل المذهبي، ولم تحجب تفاصيل الجدل ضياء الجوهر عن الأنظار، فلما تغلغل المسلمون في أحشاء العراق والشام، وانتشروا في فارس ومصر، تسير أعلامهم أمامهم مظفرة قاهرة، لم يكن لأهل البلاد التي انتشروا فيها بد من التفكير في سر هذا الظفر وفي مرده إلى الفكرة الإسلامية.
هذا؛ ثم إن الخلاف على المذاهب المسيحية وعلى المذاهب المجوسية كان قد بلغ أعظم مبلغ، وكان الناس في بعض البلاد يسامون بسبب هذا الخلاف ألوانا من البطش تزعزع عقيدة فريق وتفتنه عنها، وتزيد فريقا تعصبا لهذه العقيدة وتضحية في سبيلها؛ فكان ذلك داعيا آخر للتفكير في الدين الجديد وما ينطوي عليه.
يضاف إلى ما تقدم أن المسلمين لم يكرهوا أحدا من أصحاب المذاهب المختلفة المسيحية أو المجوسية على الإسلام، بل جعلوا حرية العقيدة أساس دعوتهم، فكان لذلك من بالغ الأثر في نفوس المتعصبين لمذهبهم والمستضعفين الذين فتنوا عنه ما جعل الكثيرين ينظرون إلى هذا الدين الجديد وأهله نظرة خالية من الحقد والكراهية، ولا حاجة بي إلى العود للحديث في ذلك وهو مجلو في الكتاب، وأنت قد رأيت كيف نصت جميع المعاهدات التي عقدها المسلمون، مع أهل الشام والعراق وفارس ومصر، على احترام كل ملة فلا يفتن صاحبها عنها، واحترام كل معبد فلا يمس بسوء، ثم رأيت، فيما رويناه مما حدث بمصر، إلى أي مدى بلغ المسلمون في حمل أهل المذاهب المختلفة على احترام كل مذهب، وعدم التعرض لأهله بأذى، طبيعي وهذه هي الحال أن ينظر أهل البلاد المفتوحة إلى الدين الجديد وأهله نظرة تقدير، وأن يكبروا هؤلاء الفاتحين الذين أقاموا العدل بين الناس بالقسط.
وزاد أهل البلاد المفتوحة تفكيرا في الدين الجديد وما ينطوي عليه أن المعاهدات التي نصت على حرية العقيدة فرقت بين من أسلم ومن لم يسلم من أهل هذه البلاد، فعلى الذين استمسكوا بدينهم ومذهبهم أن يؤدوا للفاتحين الجزية لقاء منعهم لهم وحمايتهم حرية عقيدتهم، أما من أسلم من أهل هذه البلاد فقد سقطت عنه الجزية وساوى المسلمين الفاتحين، فصار له ما لهم، وعليه ما عليهم؛ يصلي في جماعتهم، وينضم إلى صفوفهم في القتال، ويرتبط معهم بآصرة النسب، ويشاركهم في المغانم ما أحسن البلاء في المعارك، أما ومبادئ هذا الدين سليمة سامية، وللذين يدخلون فيه كل هذه المزايا، فلا جرم قد انضم إليه في عهد عمر عدد إلا يكن عظيما في البلاد التي لا تتكلم العربية فلم يتذوق أهلها كل جماله وسموه، فقد كان لإسلام هذا العدد ومساواتهم للفاتحين أثر حمل غيرهم على التفكير في أمر الدين الجديد، وهوى بنفوس الكثيرين، ممن فهموا قواعده ونظامه، إلى الدخول فيه والإيمان به.
ثم إن اتصال العرب الفاتحين بأهل العراق وأهل الشام وبالفرس والروم المصريين، قد كان له من الأثر ما لكل الحروب، إذ تخرج الألوف وعشرات الألوف من أهل الأمم المختلفة عن مواطنهم، وتريهم ألوانا من العيش لم يكونوا يعرفون، وتفتح بذلك أمامهم آفاقا من التفكير والنظر كانت محجوبة عنهم لبعدها عن مواطن إقامتهم، ولا يزال المؤرخون يتحدثون عما كان للحروب الصليبية من أثر في علاقات الشرق والغرب، وعما حدث بعد غزو الترك أوروبا واستيلائهم على القسطنطينية، من اتجاه الحضارة الغربية كلها وجهة جديدة أدى إليها بعث العلوم والفنون الإغريقية وانتشارها في أنحاء أوروبا المختلفة، وقد كان للفتح الإسلامي مثل هذا الأثر من أول عهده، فكما أدى اختلاط العرب بالأمم التي فتحوها إلى تفكير هذه الأمم في الدين الجديد، كذلك أدى إلى إعجاب العرب بحضارة الفرس والروم والمصريين، وإلى انفساح الأفق الفكري أمام هؤلاء وأولئك، وامتثاله عناصر جديدة نقلت التفكير العربي في الحياة المدنية، وتفكير أهل البلاد المفتوحة في الحياة الروحية والمعنوية، خطوات فسيحة قربت بين عقلية الجميع، وإن لم تمح الفوارق الطبيعية التي صاغت البيئات فيها هذه العقليات المختلفة.
وقد رأيت أثر ذلك في إسلام من أسلم من الفرس والروم، وفي إقبال العرب على النهل من أنعم الحياة بعد أن يسرت لهم مغانم الحرب هذا النهل، صحيح أن الأمم المفتوحة، وإيران خاصة، قد بقيت في نفوس أهلها حفائظ على الفاتحين كانت تثيرهم بهم الحين بعد الحين، لكن هذه الحفائظ لم تكن لتقف التفاعل الطبيعي وما أدى إليه من تطور في عقلية الغالبين والمغلوبين على سواء، وتحول نظرتهم إلى الحياة عما كانت عليه، ولم تقف ما أدى هذا التطور إليه من تقارب في هذه النظرة لم يكن أثره باديا للعيان في عهد عمر، ولكنه مع ذلك كان يعمل دائبا، فيؤدي عمله إلى ظهور هذا الأثر بعد سنوات معدودة؛ إذ يتخذ علي بن أبي طالب من الكوفة عاصمته، ثم يتخذ معاوية بن أبي سفيان من دمشق عاصمته، ثم تدخل مذاهب التفكير التي أقامتها الفلسفة الإغريقية في العقلية العربية، ثم يدخل الفن الفارسي ونظام الحكم الفارسي في الحياة الإسلامية، وينتهي بأن يجعل من بغداد عاصمة العالم.
كان هذا التطور يسير حثيثا في عهد عمر، وإن لم يبد أثره ظاهرا للعيان، وكان سيره هذا يمهد لحضارة جديدة تجمع في كنفها دين المسلمين، وفلسفة الإغريق والفرس والمصريين، وعلومهم وفنونهم وآدابهم؛ ويمهد بذلك لنظام جديد في الحياة يشمل مناحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقلية، ويصوغها في حياة الجماعة العامة وفي حياة الأفراد الخاصة.
لم يظهر أثر هذا التطور واضحا للعيان في عهد عمر؛ لأن العرب كانوا في شغل عن التفكير في أمره بما هم فيه من لقاء عدوهم وقهره، ولأن الأمم المغلوبة على أمرها نسيت التفكير في أي شيء إلا فيما نكبت به من هزائمها، وأنت لذلك قلما تجد في كتب المؤرخين الأولين وقفات تصور هذا التطور في النفسية الإنسانية، فإذا عثرت بشيء من ذلك وجدته دفينا لا يكاد يظهر؛ لأن سرد الحوادث طغى عليه فأغرقه في لجته، على أن سرد الحوادث لا يدع عندنا مجالا للريب في قيام هذا التفاعل من عهد الفتح الأول.
فقد أحصى المؤرخون مغانم المسلمين في المعارك التي حدثت في عهد عمر، وذكروا ألوانها وكثرتها وبهر العرب لمرآها وفتنتهم بها، كما ذكروا مخاوف عمر أن يبلغ المسلمون من الافتتان بهذه المغانم مبلغا ينسيهم المبادئ التي أظفرتهم بعدوهم، فتتغير نفوسهم، فيغير الله ما بهم، كذلك رووا ما كان من تنافس البصرة والكوفة، ومن اختلاف القبائل العربية التي أقامت في كلتا المدينتين، وهذا كله، وما حدث من اختلاط العرب والعجم، يثبت عندنا اليقين بأن ما قام من بعد من نضال بين الخلافة والملك، وما شاع في الجماعة الإسلامية من ألوان الترف الفني والفكري، وما نشأ عن هذا التطور منذ العهد الأول مما جعل البلاد التي فتحت في عهد عمر منازل الإسلام ومدارس الفقه فيه، كل ذلك قد كان له أثره في قيام الحضارة الإسلامية، وكان له أثره في عظمة الإمبراطورية في القرون الأولى، كما كان عظيم الأثر حين بدأت عوامل الانحلال تدب في كيان الإمبراطورية.
كيف يؤدي تفاعل عوامل بذاتها إلى آثار متناقضة، فيكون سببا في قيام الإمبراطورية وعظمتها، ثم يكون سببا في تدهورها وانحلالها؟
الجواب عن هذا السؤال يصدق على الإمبراطورية الإسلامية، وعلى غيرها من الإمبراطوريات، فكم هذه العوامل ومبلغ تفاعلها يختلفان في زمن عنهما في زمن آخر، وهذا الاختلاف يؤدي إلى تباين النتائج، ذلك أمر طبيعي نشهده في الظواهر الاجتماعية كما نشهده في الظواهر الطبيعية، فكما يؤدي اختلاف الأنواع والمقادير في العناصر الكيميائية إلى اختلاف تفاعها وما يترتب على هذا التفاعل من نتائج، كذلك يؤدي اختلاف الكم والنوع في العناصر الاجتماعية إلى مثل هذه النتيجة، فإذا زادت القوى المعنوية في الجماعة سواء أكانت هذه القوى روحية أم خلقية أم عقيلة، أدى تفاعلها مع القوى المادية إلى سمو الجماعة وعظمتها، ذلك بأن القوى المعنوية هي التي تدفعنا إلى طلب الكمال الإنساني وإلى الدأب في سبيله، والجماعة مع ذلك لا غنى لها عن قواها المادية ومضاعفة نشاطها، وهذه القوى تزداد نشاطا وإنتاجا بدافع من القوى المعنوية، فإذا ضعفت معنوياتنا ضعف نشاطنا المادي، وتضاءل إنتاجنا.
وقد أشرنا غير مرة في هذا الكتاب إلى سمو القوى المعنوية عند العرب، بعد أن حطم الإسلام في نفوسهم قيود الوثنية، وبعد أن جمع كلمتهم حول عقيدة واحدة ولواء واحد، وكان لتغلب المسلمين على الأسدين، فارس والروم، أثر صالح كذلك في البلاد التي فتوحها، ذلك أن دسائس البلاط كانت السبب الجوهري في اضطراب أمور الفرس وفي سوء حكمهم، وأن الاضطهاد الديني كان السبب الجوهري في سوء حكم الروم للشام ومصر، فلما تغلب المسلمون على العراق وعلى فارس، لم يبق للبلاط وجود فلم يبق لدسائس البلاط موضع؛ ولذا شغل كل أمير بإمارته، وحرص على أن يحسن سياستها حتى لا يتعرض لغضب ولاة المسلمين وغضب أمير المؤمنين، وشعر أهل العراق والفرس بتفوق المسلمين عليهم لعدلهم في حكمهم، وأدركوا بالسليقة أنهم إن لم يظهروا للمسلمين خير صفاتهم لم يقف هوانهم ولم تقف مذلتهم عندما نزلت الهزيمة بهم إليه، بل تدلوا في أعين الفاتحين إلى شر من ذلك مكانا، وباءوا بازدرائهم وتحقيرهم، لهذا بدءوا يبرزون خير ما عندهم من تراث قومهم، وخير ما ورثوا من صفات آبائهم في تجويد الفنون والعلوم والصناعات، وكل ما كانت لهم فيه اليد الطولى مما لم يكن العرب يستطيعون مجاراتهم فيه.
وكذلك فعل أهل الشام وأهل مصر، فقد زال الاضطهاد الديني بعد فتح العرب بلادهم، وزالت بذلك أسباب امتعاضهم وثورتهم، وما كان ينشأ عن هذا وذاك من سوء الحكم واضطراب الأمور بينهم، عند ذلك بدءوا يظهرون خير الصفات التي ورثوها عن آبائهم في التجارة والزراعة والصناعة والعلوم والفنون، فبرزت القوى السليمة التي وهبتها لهم الطبيعة وجعلت تنشط وتنتج خير ثمراتها.
أدى هذا كله إلى نوع من الاستباق إلى المكرمات وإلى المجد وإلى اعتماد كل جماعة على أفضل مواهبها، لتبلغ خير ما تستطيع من احترام الأمم المكونة للإمبراطورية معها، وطبيعي أن يؤدي الاستباق في هذا المضمار إلى عظمة المجموع؛ أي إلى عظمة الإمبراطورية وجلال مكانها في العالم.
كان أمراء المؤمنين يباركون على هذا النشاط الجم في أرجاء الإمبراطورية المختلفة، وينظرون إليه بعين الرضا، ويرجون منه المزيد، وكانت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي سنها الإسلام تقرب بين العاملين الدائبين في هذا النشاط، مع ما كان من اختلاف أصولهم ولغاتهم وعقائدهم، وزاد دخول الكثيرين من أبناء الأمم التي رف عليها لواء الإمبراطورية الناشئة في الدين الجديد في هذا التقريب، حتى كاد يدمج هذه الأمم في وحدة منسجمة تسعى كل أطرافها إلى غاية مشتركة؛ هي عظمة الكل، وعظمة كل جزء من أجزائه.
أدى هذا النشاط الجم إلى تنافس الأمم التي تكونت منها الإمبراطورية تنافسا زاد الإمبراطورية اندفاعا إلى التوسع والعظمة، وكيف لا تندفع في هذه السبيل وعوامل الوحدة والانسجام تزداد بين هذه الأمم قوة على مر الأيام والسنين! فلم يحل ما قررته مبادئ الإسلام من حرية العقيدة، وأنه لا إكراه في الدين، دون إقبال الأكثرين من أهل مصر والشام والعراق وفارس على النظر في الدين الجديد، ودخولهم فيه أفواجا عن رضا وبينة.
وكان لدخولهم في الإسلام أثر بالغ في تعزيز وحدتهم؛ لأن الإسلام لا يتناول العقيدة وكفى، بل هو يتجاوز الميدان الروحي إلى الميدان الخلقي والميدان الاجتماعي، ويفرض على الآخذين به نظما في الأخلاق وفي التشريع تختلف في جوهرها عن النظم المسيحية والمجوسية، كما تختلف عن النظم الجاهلية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة قبل مبعث النبي العربي.
واتفاق القيم الأخلاقية في جماعة ما من شأنه أن يجمع أطرافها في وحدة تزيد أهلها تعارفا وتآلفا، فاتفاق الجميع على المعروف والمنكر، وعلى الخير والشر، وعلى الحرام والحلال، يبعث في كيان المجموع من الانسجام ما يزيد في قوته المعنوية، ويزيد تبعا لذلك في نشاطه المادي، فإذا صدر هذا الاتفاق عن أصل واحد هو العقيدة، فآمن الجميع بأنهم مسئولون أمام الله خالق كل شيء، يجزيهم عن أعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كان ذلك سببا في اتساق الانسجام، وازدياد الوحدة قوة بقدر هذا الاتساق، ولا ريب أنه قد حدث هذا الانسجام، واتسق في أرجاء الإمبراطورية كلها بعد أن سكن أهل الأمم المفتوحة إلى حالهم الجديدة، ونظموا حياتهم في ظلالها.
وزاد الانسجام اتساقا والوحدة قوة أن تجاوز الإسلام ميدان العقيدة وميدان الأخلاق إلى ميدان التشريع، وأن أذعن المسلمون في مختلف الأرجاء من إمبراطوريتهم الفسيحة إلى ما جاء في كتاب الله عن نظام الأسرة، وعن الميراث، وعن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي لكثير من شئون الحياة، صحيح أن ما نص عليه في القرآن من هذه الشئون لم يزد عل المبادئ العامة، لكن هذه المبادئ العامة في التشريع كانت ذات أثر بالغ في توجيه تفاصيله؛ كما أن تطبيق العرب لها، عن طريق القضاء في أرجاء الإمبراطورية، قد زاد في هذا الأثر، وأدى إلى وحدة في التشريع اطردت في الأجيال الأولى من حياة الإمبراطورية، وزاد في إطرادها أن التشريع الإسلامي، وقواعد الخلق الإسلامية، وقواعد الإسلام في العقيدة، كانت تعد في ذلك العهد وحدة لا انفصام لها، فزاد ذلك في اتساق الانسجام، وفي قوة الوحدة التي انتظمت أجزاء الإمبراطورية كلها.
وكان طبيعيا، والقرآن كتاب الله وأساس هذا الدين، أن يتعلم الناس في البلاد المفتوحة لغة القرآن، ليزدادوا فقها في دينهم، وليعرفوا لغة حكامهم، والعقيدة واللغة قوتان بالغتا الأثر في توحيد من يشتركون فيهما، وفي تعاونهم وتآلفهم، ولا أراني بحاجة إلى إقامة الدليل على هذا الأمر ونحن نرى في عصرنا الحاضر وحدة الأمم اللاتينية، وجماعة الأمم التي تتكلم الإنجليزية، وتضامن الأمم المسيحية، وهلم جرا، هذا مع أننا في عصر تقررت فيه مبادئ الحرية بأوسع مما كانت في القرن السابع المسيحي، وهدى العلم فيه إلى أسباب الوحدة، إذ ضيق نطاق العالم على نحو لم يكن يدور بخلد أحد في ذلك الزمان.
أدرك كثيرون ممن أرخوا لذلك العهد الأول من عهود الإمبراطورية الإسلامية، ما كان لانتشار الإسلام وانتشار العربية من أثر بالغ في قيام هذه الإمبراطورية وفي قوتها؛ ولهذا تساءل بعضهم: لم لم يفرض الفاتحون دينهم ولغتهم على البلاد المفتوحة؟ وظنوا أنهم لو كانوا قد فعلوا لما دبت من بعد عناصر الانحلال في هذه الإمبراطورية، وأحسبني في غنى عن تفنيد هذا الظن وإدحاضه، وليس يرجع ذلك إلى أن من إضاعة الوقت مناقشة فرض لم يحدث، فمناقشة أمثال هذا الفرض جليلة الفائدة في هداية الإنسانية طريقها خلال المستقبل؛ وإنما يرجع إلى أن هذا الظن فاسد الأساس، فلو أن العرب أكرهوا الأمم التي فتحوها على دينهم وعلى لغتهم لما قامت الإمبراطورية إلا لتنهار، ذلك بأن كل اجتماع لا يقبل الناس عليه أحرارا مختارين سرعان ما ينفض، وكل نظام يستند إلى القسر يؤدي إلى برم الناس به وانتقاضهم عليه، فلو أن المسلمين أكرهوا الأمم المفتوحة على الإسلام لما أغنى ذلك عنهم، ولكفرت الأرض بهم وانتقض الناس عليهم، ولما استطاعوا أن يقيموا حكمهم في هذه البلاد ، على أساس غير البطش، والحكم القائم على البطش حكم سريع الزوال، وقد رأينا، ورأى المسلمون الأولون، ما أصاب هرقل حين أراد أن يفرض مذهبا مسيحيا موحدا على أهل المذاهب المسيحية المختلفة، ثار الناس به وبعماله ثورة انتهت بفراره من الشام أمام قوات المسلمين، وبفتح المسلمين مصر وضياعها من إمبراطوريته.
فأما إذا أقبل الناس على عقيدة من العقائد، فدخلوا فيها أحرارا مختارين، فإن هذه العقيدة تصبح بعض حياتهم، ويصير لها في قلوبهم من القداسة ما يحملهم على الدفاع عنها، والتضحية بالروح في سبيلها، فهذا الذي صنعه المسلمون الأولون تنفيذا لمبادئ دينهم، من حرية العقيدة وعدم الإكراه في الدين، كان الحكمة كل الحكمة وهو الذي دفع الإمبراطورية الإسلامية إلى التوسع والعظمة.
والأمر في اللغة كالأمر في الدين، إن لم يقبل الناس عليها راغبين مختارين، مقدرين ما في تعلمها من فائدة جليلة، أخفقت كل محاولة لحملهم على تعلمها، بله التكلم بها.
كانت الحرية التي كفلها المسلمون لأهل البلاد المفتوحة في أمر العقيدة بعض ما دعا الفرس والروم وغيرهم للإقبال على الإسلام، وعلى اللغة العربية، وزاد في إقبالهم ما فرضه الإسلام من المساواة بين المؤمنين به على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم، وما قرره من أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ومن أن المؤمنين إخوة؛ فلا يكمل إيمان أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فهذا الإخاء وهذه الحرية والمساواة أدت كلها إلى انتشار جو ضاعف من قوة الوحدة في الإمبراطورية، وتضاعف في ظله نشاط كل جزء من أجزائها.
وأنت مع ذلك تستطيع أن تميز، في عصور الإسلام الأولى أو في العصور التي تليها، نصيب كل جزء من هذه الأجزاء فيما أثمر نشاطها جميعا من آثار عظيمة في الفقه، والأدب، والعلم، والفلسفة، والصناعة، والزراعة، وكل مظاهر الحياة المعنوية والمادية، ذلك بأن لكل أمة طابعا أنشأته البيئة، وثبت على الزمان بحكم الوراثة، وهذا الطابع يبدو واضحا في الفنون والآداب وألوان التفكير المختلفة؛ وهو لا يخفى في الصناعة والزراعة وغيرهما من آثار الحياة المادية ، وتاريخ الأدب العربي يحدثنا عما أدخله الفرس والروم، في مذاهب الكتابة والتفكير، من صور وألوان لم تكن مألوفة عند العرب من أهل شبه الجزيرة، وذاك مع أن الفرس والروم تعلموا العربية عن أهل شبه الجزيرة، ولا عجب، فاللغة كائن حي يساير الوسط الذي يعيش فيه، وهي بحكم أنها الأداة لإبراز التفكير والتصور الإنساني، تتأثر في أساليبها وفي قوالبها بما تؤديه من متباين ألوان التفكير والتصور؛ لذلك كان طبيعيا أن تتأثر اللغة العربية بالصور والألوان التي ألفها الفرس والروم في ثقافتهم وفي تفكيرهم، وأن يدخل على أساليبها في الشعر والنثر ما يؤدي هذه الأغراض.
كان للألوان الجديدة، التي أدخلها الفرس والروم في الفن العربي والأدب العربي، أثر واضح في العرب أنفسهم، وأنت ترى هذا الأثر ملموسا في اختلاف مذاهب البصريين والكوفيين في اللغة، اختلافا لا يزال مؤرخو اللغة والأدب يذكرونه إلى وقتنا الحاضر، وإنما نشأ هذا الخلاف؛ لأن البصرة والكوفة في العراق، فهما تجاوران فارس؛ وطبيعي أن يتأثر أهلها بهذا الجوار، وبما يجلبه إليهم من ألوان الثقافة الفارسية، ولا عجب في أن تكون إحدى المدينتين أكثر محافظة على عربيتها، وأن تكون الثانية أكثر حرية في امتثال الثقافة الفارسية.
لم يكن الطابع القومي واضحا في الحياة المعنوية وحدها، وفي مظاهر هذه الحياة من فن وعلم وأدب، بل إنك لتقرأ الكثير عن آثار هذا الطابع في الحياة المادية، فبرود اليمن، وحرائر دمشق، وقباطي مصر، هذه وأمثالها من الألوان المتميزة في الصناعة والاقتصاد بتميز البيئة، تشهد ببقاء هذا الطابع، وبأن ما حدث من وحدة الإمبراطورية لم يكن ليمحوه أو ليزيل آثاره.
على أن وضوح الطابع القومي في مظاهر الحياة المعنوية والمادية المختلفة، لم يجن في قليل ولا كثير على وحدة الإمبراطورية في عصورها الأولى؛ فقد اتسقت قوى الإمبراطورية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ونشأ عن هذا الاتساق تزاوج بينها أنتج من الثمرات ما ربط بين أجزاء الإمبراطورية كلها بأوثق رباط، تزاوجت الفلسفة الإغريقية والثقافة الفارسية في ظل التوحيد الإسلامي فأنتج هذا التزاوج الفلسفة الإسلامية، وتزاوج الخيال الفارسي والفن البزنطي باللغة العربية، فأنشأ في الشعر والنثر العربي ألوان الأدب الإسلامي، وتزاوج فن الزخرفة الفارسي والعمارة البزنطية، فكانت العمارة العربية ثمرة هذا التزاوج، وامتد التزاوج إلى مرافق الحياة في أرجاء الإمبراطورية كلها، فأنشأ خلقا جديدا كان يزداد على الأيام والسنين قوة وازدهارا، وكان يتقدم الفتح العربي ثم يسايره، وكان يبسط على أرجاء العالم القريبة والبعيدة سلطانه، وكان أبقى من الفتح العربي أثرا وأقوى أصولا وأغزر فروعا؛ هذا الخلق الجديد هو الحضارة الإسلامية.
وفي ظل هذه الحضارة ترعرعت الإمبراطورية في القرون الأولى على نحو بهر العالم، وشد إليها الأنظار من كل جانب، وكان من أثر ذلك أن نسي الناس في أرجائها الواسعة فوارق القومية؛ ولم يذكروا إلا أنهم مسلمون، وأنهم إخوان تربط بينهم مبادئ الحرية والإخاء والمساواة المقررة في الإسلام، ويقوم الحكم بينهم على أساس من العدل والتقوى، ولهذا كانوا يصهر بعضهم إلى بعض، يتزوج العربي من بنات فارس أو العراق أو الشام أو مصر، ويتزوج المسلمون من أهل هذه البلاد العربيات، وكذلك أقامت لحمة الدم والنسب صلات المودة بين المسلمين جميعا، ومحت من نفوسهم معاني التعصب القومي والجنسي، وبثت في وحدة الإمبراطورية روحا زادتها قوة، وزادت أبناءها إقبالا على الإنتاج المعنوي والمادي، ورفعت بذلك من صرح الحضارة الإسلامية.
ظلت هذه الحال أجيالا متعاقبة، وكان لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية أبلغ الأثر في توجيه حضارة العالم في الشرق والغرب، وإذ كانت القوى الدافعة لتفاعل هذه العوامل والموجهة لها بالغة السلطان، فقد استجنت عوامل الفرقة والضعف خلال هذه الأجيال وتقلص أثرها، فإذا بدا من هذا الأثر شيء أسرعت القوى الدافعة للقضاء عليه، وقد رأينا صورة من ذلك في مقتل عمر، على أن استجنان هذه العوامل لم يقض عليها قضاء ينتهي إلى فنائها، بل بقيت كلها في مكامنها بقاء جراثيم المرض في الجسم الصحيح، إذا حاولت النشاط أو البروز غلبتها أسباب الصحة، فردتها إلى أوكارها وخلاياها، فلم يشعر صاحبها نفسه بوجودها ولا بقدرتها على أن تنشط إذا ضعفت أسباب الصحة، وفي ظل هذه القوى الدافعة كان أبناء الشام أعوانا للعرب المسلمين في عهد بني أمية، وكان الفرس أعوانا أقوياء للعباسيين من قرابة رسول الله، وكان المصريون يظهرون على مسرح السياسة الإسلامية في أدق المواقف، ثم كان لظهور هؤلاء ومعاونة أولئك أثر بالغ في إسراع الإمبراطورية إلى النماء والقوة، وإلى بقائها متماسكة الأجزاء، حتى آن للزمان أن يدور دورته ويفعل فعله.
وإنما بدأت دورة الزمن حين ضعفت القوى الدافعة لتفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية، تفاعلا يزيد في نماء الإمبراطورية وفي سلطانها، ومع أن عوامل الفرقة والضعف كانت تبرز من أوكارها وخلاياها منذ العهد الأول حينا بعد حين، فقد كانت ترتد ناكصة على أعقابها، متراجعة أمام أسباب الصحة الجارية في كيان الإمبراطورية، على أنها كانت كلما ظهرت تركت وراءها أثرا يتحدث الناس عنه حينا، ثم لا يلبث جلال الحوادث المحيطة بهم أن ينسيهم إياه.
وكان مقتل عمر أول أثر ظاهر لبروز عوامل الفرقة من مكامنها، فلما تولى عثمان، وقضى على الفتنة التي كادت تنجم حين قتل عبيد الله بن عمر من اقتنع بأنهم ائتمروا بحياة أبيه، انصرف الناس إلى حياة الغزو والفتح وإلى تثبيت قواعد الإمبراطورية.
وبعد ست سنوات من خلافة عثمان بن عفان، عاد الخلاف القديم بين بني هاشم وبني أمية، فظهر بعد استتاره وبرز من مكمنه، ذلك أن عثمان آثر ذوي قرابته بمناصب السلطان، فألب خصومه المسلمين في أرجاء الإمبراطورية المختلفة عليه، واتخذوا من تصرفاته في هذا الأمر وسيلة للتشنيع عليه، وانتهى التأليب إلى الفتنة، وكان للمسلمين المقيمين بمصر أثر أي أثر فيما أدت هذه الفتنة إليه من قتل عثمان، فلما قضى الخليفة الشيخ نحبه، وبويع علي بن أبي طالب بالخلافة مكانه، طالب بنو أمية بدم عثمان، ثم أثاروها فتنة عمياء للثأر، وانقسم المسلمون في أرجاء الإمبراطورية: ينصر فريق بني هاشم، وفريق بني أمية.
انتهت هذه الفتنة بمقتل علي وابنه الحسين، فتولى بنو أمية أمر المسلمين ولم تصدع هذه الفتنة بناء الإمبراطورية، وإن هزته هزا عنيفا؛ لأن هذا البناء كان متينا قوي الأركان، ولأن عوامل الفرقة كانت لا تزال ضعيفة، إذ كانت البلاد المفتوحة لا تزال تنوء بعار هزيمتها، وبأسباب الضعف التي ورثتها عن حكامها السابقين؛ لذلك لم يلبث بنو أمية حين استقر لهم الأمر، أن عادوا يتابعون سياسة الفتح التي بدأها الخلفاء من قبلهم، فعادت عوامل الفرقة إلى مكامنها، واستمرت أمم الإمبراطورية تتعاون في تشييد الصرح العظيم، صرح الحضارة الإسلامية.
على أن هذه الفتنة طوعت للأمم المفتوحة أن تسترد حيويتها، وأن تكيف اتجاهها في ظل الحضارة الجديدة تكييفا يكفل لأصحابها السلطان، وكان الفرس أبرع هذه الأمم وأسرعها إلى بلوغ هذه الغاية؛ فقد رأوا بني هاشم حريصين على الثأر لعلي وللحسين ولمن نكبهم فيه بنو أمية؛ فصور مفكرو الفرس مبدأ الإمامة والإمام تصويرا استهوى ألباب أهل فارس والعراق، فتشيعوا لعلي وأنصاره، وظاهروا أبا مسلم الخرساني مظاهرة انتهت بانتصار العباسيين على بني أمية، وبنقل العاصمة من دمشق إلى بغداد.
استقر الأمر للعباسيين فاتخذوا من الفرس وزراءهم والمشيرين عليهم، فكان لهم في الحياة الإسلامية أثر بالغ، وحسبك لتقدر هذا الأثر أن تذكر ما حدث في هذا العهد، ففيه جمعت الأحاديث المروية عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونقلت الفلسفة الإغريقية إلى العربية، وبرع من الفرس في النثر والشعر من نقلوا إلى لغة القرآن ألوانا من الثقافة الفارسية، وازدهرت العلوم والفنون والآداب ازدهارا لفت أنظار العالم كله، ولقحت هذه العلوم والفنون بما أنتجته عبقرية كل واحدة من أمم الإمبراطورية، بذلك عظم مقام الحضارة الإسلامية، فوجهت العالم أجيالا وقرونا.
وكان من نتائج هذا الازدهار أن تعددت مذاهب التفكير وألوانه في علوم الكلام والفقه، وفي الأدب واللغة، وفي أساليب السياسة والحكم، وفي كل مظهر من مظاهر الفكر وأثر من آثاره، ونشأ عن ذلك أن استطاعت كل أمة أن تصبغ تفكيرها الإسلامي بطابعها القومي، وأن تذيع هذا التفكير في أرجاء الإمبراطورية، وأن تجد من يسيغ هذا التفكير؛ لأنه اصطبغ باللون الإسلامي وكتب باللغة العربية، بهذا استردت كل أمة شخصيتها مصبوبة في قالب عربي من قوالب الحضارة الإسلامية، وآن لكل أمة أن تصبو إلى مكان السلطان من الإمبراطورية، فإن لم تستطعه صبت إلى الاستقلال القومي تتمتع به في ظل هذه الحضارة.
وكذلك انفرط نظام الإمبراطورية، فلم تبق لها سياسة موحدة، غرضها إذاعة رسالة الإسلام في الناس، وكذلك سادت الفكرة القومية في السلطان والحكم، وظلت سائدة بعد أن تغلب الترك على أجزاء الإمبراطورية كلها، وجمعوها من جديد بحكم الفتح، وجعلوا منها الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت الإمبراطورية تركية قومية، ولم تكن عربية إسلامية؛ وكانت لذلك لا تجعل إذاعة الرسالة الإسلامية غرضها، بل تتخذ من الإسلام وسيلتها للمحافظة على مكانتها وعلى سلطانها. •••
هذه لمحة سريعة أردت بها أن أظهر تفاعل العوامل التي اختصت بها كل واحدة من أمم الإمبراطورية الإسلامية، بعضها مع بعض في العصور المختلفة، وأن أبين كيف كانت سببا في نماء الإمبراطورية وقوتها، وفي قيام الحضارة الإسلامية ورفعتها، ثم كانت سببا في دبيب الانحلال إلى هذه الإمبراطورية، وأحسبك ترى معي أن تفصيل هذه العوامل وتحليلها، وإبراز ما ظهر وما خفي من صور تفاعلها وما حدث خلال العصور من اتصالها بغيرها من الأمم والحضارات، هذا كله ينشر في أرجاء التاريخ ضوءا جديدا ما أشد حاجة العالم الإسلامي، بل ما أشد حاجة العالم كله إليه!
وقد كان للكتاب العرب والمسلمين، كما كان للمستشرقين، فضل عظيم في تناول الكثير من جوانب هذا التاريخ بالبحث والتحليل، وإنني لحريص على أن أتابع الجهد لمشاركتهم في هذا المضمار، على الطريقة التي اتبعتها منذ كتاب «حياة محمد» وفي نيتي أن أجعل وجهتي في الحلقة الرابعة من هذا البحث، إلى تحليل ما حدث بين خلافة عثمان وملك بني أمية، مع تقديري لدقة هذه الفترة من حياة الإمبراطورية وجلال خطرها.
والله أرجو أن يوفقني في هذا الجهد، كما وفقني من قبل، فمنه جل شأنه الهدى وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله!
المراجع العربية
صحيح البخاري:
لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي.
تفاصيل آيات القرآن الكريم:
للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي؛ على نظام المستشرق جول لابوم.
سيرة سيدنا محمد رسول الله:
لأبي محمد عبد الملك بن هشام.
جامع البيان فى تفسير القرآن:
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
تاريخ الرسل والملوك:
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
الكامل فى التاريخ:
لعز الدين أبي الحسين على بن أبي الكرم محمد الشيباني المعروف بابن الأثير.
البداية والنهاية فى التاريخ:
لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي.
تاريخ ابن خلدون:
لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون.
مقدمة بن خلدون:
لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون.
فتوح البلدان:
لأحمد بن يحي بن جابر البلاذي.
تاريخ اليعقوبي:
لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العباسي.
مروج الذهب ومعادن الجواهر:
لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي.
الإمامة والسياسة:
لأبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
عين الأخبار:
لأبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
كتاب المعارف:
لأبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
الطبقات الكبري:
لمحمد بن سعد كاتب الواقدي.
وفيات الأعيان:
لابن خلكان، شمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر الشافعي.
تاريخ دمشق:
لابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله.
الفتوحات الإسلامية بعد الفتوحات النبوية:
للسيد أحمد بن السيد زيني دحلان.
فتوح الشام:
لأبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بالواقدي.
فتوح الشام:
لأبي إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدي البصري.
فتوح مصر وأخبارها:
لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم القرشي المصري.
حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة:
لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة:
لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي.
فتح العرب لمصر:
لألفرد بتلر، ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد.
فجر الإسلام:
للأستاذ أحمد أمين.
أشهر مشاهير الإسلام :
للسيد رفيق العظم.
الإدارة الإسلامية في عز العرب:
لمحمد كرد علي.
عمرو بن العاص:
للأستاذ عباس محمود العقاد.
عبقرية عمر:
للأستاذ عباس محمود العقاد.
خلفاء محمد:
للأستاذ عمر أبي النصر.
تاريخ التشريع الإسلامي:
للشيخ محمد الخضري.
كتاب الخراج:
لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي حنيفة.
القضاء فى الإسلام:
للأستاذ عطية مصطفى مشرفة.
من تاريخ الحركات الفكرية فى الإسلام:
لبندلي جوزي.
الأغاني:
لأبي الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين القرشي الأموي.
الفخري فى الآداب السلطانية:
لأبن طباطبا محمد بن علي المعروف بابن الطقطقي.
العقد الفريد:
لشهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه.
قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها فى كتب الفتوح:
لعلي بك بهجت.
دائرة معارف القرن العشرين.
المراجع الأجنبية
Annals of the Early Caliphate :
By Sir William Muir.
The Early Caliphate :
By Maulana Mohammad Aly.
The Early Development Of Mohammedanism :
By D. S. Margoliouth.
History Of The Arabians :
By Abbe de Marigny.
Arabia before Mohammad :
By O’Leary.
History Of The Decline and Fall of the Roman Empire :
By Edward Gibbon.
Le Berceau de l’Islam :
Le Monde Musulman et Byzantin :
Essai sur l’Histoire des Arabes :
l’Histoire des Arabes :
:
Historian’s History of the World .
The March of Man .
Encyclopaedia Britannica .
Dictionnaire Larousse .
صفحه نامشخص