146

دخل الفرس في الإسلام أفواجا عقب الفتح، ولذلك أسباب كثيرة يمكن ردها جميعا إلى سببين اثنين؛ أولهما: أن الإسلام كان دين الحاكمين، والثاني: أن الفرس لم يكونوا يعنون إلا قليلا بالدين الرسمي للدولة السابقة، هذا إلى أن العقيدتين كانتا تلتقيان في مواضع كثيرة، فلم يكن الانتقال من إحداهما إلى الأخرى ليثير نفوسا تزعزع إيمانها بعقيدتها الأولى؛ فقد ضعف إيمان الفرس بتعدد الآلهة، وأصبح تصورهم أرمزد قريبا من فكرة الألوهية الإسلامية، ثم إن بساطة العقيدة العربية كانت منجاة للفرس من تعقيد الشعائر المزدية، وكانت الزكاة المفروضة في القرآن تقابل بل تسمو على ما تدعو إليه «الأفيستا» من الصدقة والإحسان، أما ما جاء في القرآن عن الجنة والنار وعن الآخرة فكان مذكورا في كتبهم، بذلك لم يغير الإسلام في نظر الشعب الفارسي شيئا من عقائده الأساسية إلا أن جاءه باسمين جديدين: الله ومحمد، وأن أحل الكلمات الثمان التي تعتبر قواعد الإسلام محل الكلمات الإحدى والعشرين التي تقوم عليها عقيدة الفرس.

كان لهذا الانتقال الديني أثره في الناحية السياسية، فالعقيدة الفارسية تجعل السلطان للملك على أنه ابن الله، فله المجد والقدسية بحكم مولده الأسمى، وقد أدت ثورة الفرس وانتقاضهم على سلطان المدينة وسلطان دمشق إلى اجتماعهم حول الوارث الشرعي لمحمد: ابن عمه علي العربي الذي أقصي عن الخلافة، وإلى أن يحيطوه بهالة من الجلال والقدسية ألف أسلافهم أن يحيطوا بها ملكهم القومي، وكما ألف أسلافهم أن يلقبوا كسرى: «الملك المقدس ابن السماء.» وأن تصفه كتبهم بأنه «السيد والمرشد.» كذلك فعلوا في عهدهم الإسلامي فدعوه الإمام، وكان هذا اللقب على بساطته جليل المعنى إذ جمع صاحبه السلطان الدنيوي والتوجيه العقلي.

فلما قبض علي اجتمع الفرس حول ولديه الحسن والحسين، ثم اجتمعوا من بعدهما حول عقبهما، وقد قيل: إن الحسين تزوج بنت آخر الأكاسرة الساسانيين، فتركزت الإمامة بذلك في عقبه بازدواج الحق المقدس، ثم بارك دم الحسين بسهول كربلاء على هذه الوحدة التي جمعت بين الإسلام وفارس القديمة.

وكانت الثورة التي خلعت بني أمية وأجلست العباسيين ذوي قرابة رسول الله على العرش من صنع الفرس، بذلك حققوا مبدأهم في الإمامة، وإن لم يتوجوا بالسلطان من بذلوا كل جهدهم في سبيل تتويجه ... إلخ.

هذه الحوادث التي يذكرها «تاريخ المؤرخ» ويذكرها المؤرخون جميعا، تتخطى عهد عمر، وإنما سقناها هنا لنلفت القارئ إلى أن الفرس لم تطمئن نفوسهم لحكم العرب، بل برموا به وحاولوا الانتقاض عليه جهرة من أول الأمر، فلما غلبوا على أمرهم جعلوا كل همهم أن يكون السلطان لهم، فبلغوا من ذلك الشيء الكثير في ميادين الحياة العامة جميعا، وقد بلغ من برمهم بفتح المسلمين بلادهم أن ثارت نفوس طائفة منهم بعمر، حتى قيل: إن مقتله بعد قليل من فتح خراسان كان ثمرة لمؤامرة فارسية، وسنفصل ذلك من بعد، وحسبنا أن نقول ها هنا إن عمر كان صادقا كل الصدق حين قال يوم كتب إليه الأحنف بن قيس بفتح خراسان: «إن الله قد أهلك ملك المجوسية وأورث الإسلام أرضهم وديارهم وأبناءهم.» وأن هذا الفتح كان النذير الصادق بانتهاء دولة الأكاسرة من بني ساسان.

8

أما وقد فرغنا من فتح فارس فلننتقل إلى ميدان آخر كانت أسلحة المسلمين مشهورة فيه حين كانت أسلحتهم مشهورة في أرض كسرى، وكان لها من مجيد الفعال هناك ما كان لها من مجيد الفعال هنا، ثم كان قائدهم عمرو بن العاص أوسع قواد المسلمين حيلة وأشدهم ذكاء.

هذا الميدان الآخر هو مصر.

هوامش

الفصل الثامن عشر

صفحه نامشخص