145

لم يكتف الأحنف بما صنع من ذلك، بل حرص على أن يعرف الترك وخاقانهم أمر عمر ألا يجتاز المسلمون النهر إلى بلادهم، فبعث دسيسا أذاعوا هذا النبأ فيهم، واطمأن خاقان إلى صحة النبأ حين رأى المسلمين لا يحاولون اجتياز النهر إليهم ولا يدعونهم لقتالهم، فقد أقام الجيشان أياما والترك يغادون المسلمين ويراوحونهم، فإذا جاء الليل تنحوا عنهم، ثم لا يخرج المسلمون إليهم، وبعث الأحنف عيونه فدلوه على مكان القوم بالليل، ثم خرج ليلته طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من معسكر خاقان، فلما تنفس الصبح خرج فارس ثان من طليعة الترك كأنما كان يتحدى المسلمين، فبارزه الأحنف فقتله، وخرج فارس ثان من الطليعة فأورده الأحنف حتفه، وخرج ثالث فكان مصيره مصير صاحبيه.

رجع الأحنف بعد ذلك إلى عسكره وهو على تعبئة، وخرج خاقان الترك من قبته فرأى الفرسان الثلاثة الذين قتلوا، ورأى النهر بينه وبين المسلمين، ورأى الأحنف ورجاله لا يدعون لقتال، وأيقن صحة ما نمي إليه من أمر عمر فقال لرجاله: قد طال مقامنا وما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا، وارتد بالجيش حتى بلغ بلخ، وقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فأجابهم: أقيموا بمكانكم ودعوهم، بذلك ثبت في نفس خاقان الترك اليقين بأن المسلمين لا يريدون قتاله، وأنهم لن يجتازوا النهر عند بلخ إلى أرضه فازداد حرصا على ترك فارس إلى عاصمة ملكه، وترك المسلمين يصفي يزدجرد معهم حسابه.

وكان يزدجرد حين انسحب جند الكوفة من بلخ وانضموا إلى الأحنف بمرو الروذ قد فصل في قوة فارسية من بلخ إلى مرو الشاهجان، فحصر حارثة بن النعمان ومن معه من المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها، وعهد إلى أمنائه في السهر عليها فلما انسحب خاقان من مرو إلى بلخ وبلغت يزدجرد أنباء عن عزم هذا الحليف على الانسحاب من فارس كلها إلى بلاده، أراد أن يحمل الخزائن وأن يلحق بحليفه، وكانت هذه الخزائن عظيمة تحوي جواهر كسرى وكل ما جمعه من خزائن فارس في أثناء فراره، وكانت من ثم ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء، وعرف أهل فارس عزم يزدجرد على حملها والفرار بها، فسألوه: أي شيء تريد أن تصنع؟ وأجابهم، أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلا! إن هذا رأي سوء؛ فإنك إنما تأتي قوما في مملكتهم وتدع أرضك وقومك، ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم يلون بلادنا، وإن عدوا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في غير بلادنا، فأبى عليهم وأبوا عليه، قالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ولا نخرجها من بلادنا إلى غيرها، فخالفهم يزدجرد وأصر على رأيه، فخرجوا إليه وثاروا به وقاتلوه وحاشيته، واستولوا على خزائنه، ففر فيمن معه إلى بلخ، فإذا خاقان سبقه إلى الانسحاب منها، فتابع فراره حتى بلغ فرغانة عاصمة الترك بسمرقند.

وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاهدوه، ودفعوا إليه خزائن كسرى وأمواله، ورجعوا إلى بلادهم فاطمأنوا بها، فسار الأحنف بجند الكوفة من مرو الروذ إلى بلخ فأنزلهم بها، ثم عاد إلى مقر قيادته، وقد كان ما استفاءه المسلمون في هذه المواقع عظيما، حتى بلغ نفل المحارب مثله يوم القادسية.

وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس، فأمر بالكتاب فقرئ ثم خطب الناس، فكان مما قاله:

ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية وفرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا من أمره على رجل يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تبدلوا ولا تغيروا فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.

فر يزدجرد من أرض فارس إلى أرض الترك؛ فتم بفراره القضاء على دولة الأكاسرة من بني ساسان، مع هذا أقام في مقره سنين يداعب الأمل والغرور خياله أن يعود يوما إلى ملك آبائه وأجداده، لذا كان يكاتب من يطمئن إلى مكاتبتهم من أهل خراسان، طامعا أن تثور الأرض بالمسلمين يوما فتتاح له فرصة الثأر منهم، وقد ثارت خراسان في زمن عثمان بن عفان، فخيل إلى يزدجرد أن الفرصة تاحت، فسار من بلاد الترك حتى نزل مرو واجتمع بمن كان يكاتبهم، لكن المسلمين ما لبثوا أن قضوا على الثورة وأخذوا بيدهم زمام الأمر في الأرض التي كفرت بسلطانهم، عند ذلك رأى أصحاب يزدجرد أنه لا طاقة لهم بما يريد، فاختلفوا معه وانفضوا من حوله، فعاد يحاول الفرار والرجعة من حيث أتى، لكن الفرار لم يكن هذه المرة يسيرا؛ فقد تخلت عنه الأرض كلها، وقد بث المسلمون عيونهم من الفرس ليحيطوا به ويقتادوه إليهم أسيرا، وعرف الملك الشريد ما دبر له، فأوى إلى طاحونة على شاطئ النهر، وهناك قتل شر قتلة، قيل: إن أهل خراسان أحاطوا به في ملجئه: ثم دخلوا عليه فقتلوه وألقوا بجثته في النهر، وقيل: إن صاحب الطاحونة رأى عليه حلته فلما نام قتله، وإن الترك خفوا لنجدته فوجدوه قتل، فانتقموا له من صاحب الطاحونة وأهله فقتلوهم جميعا، ثم وضعوا جثته في تابوت وحملها بعضهم إلى إصطخر، وقيل: إن صاحب الطاحونة ذهب إلى أمير مرو فأخبره خبره، فعرفه وقال لجنده: اذهبوا فجيئوني برأسه، فدخل عليه الطحان فقتله وحز رأسه ودفع بها إلى الجند ورمى بجثته في النهر، وأيا ما صح من هذه الروايات فكلها تتفق على أن سليل الأكاسرة العظام قتل وهو في ملجئه عند ذلك الطحان، وبمقتله انتهت دولة الأكاسرة من بني ساسان.

تم فتح فارس وفرار يزدجرد في عهد عمر، فهل ترى أذعن الفرس لحكم المسلمين من أول الأمر عن طواعية ورضا؟ لا ريب في أنهم رأوا هذا الحكم أكثر إنصافا ومعدلة وأقل إرهاقا لهم من حكم الأكاسرة؛ فقد تركهم العرب لم يزعجوهم عن دينهم ولم يتدخلوا في شئونهم، ثم جعلوا لأمراء الولايات من الاستقلال أكثر مما كان لهم في عهد يزدجرد وأسلافه، كما تركوا المناصب العامة للفرس لم يحاولوا استغلالها لأنفسهم مكتفين بالجزية يقتضونها وفاقا للمعاهدات المعقودة بينهم وبين مختلف الولايات، لكن أبناء فارس لم يلبثوا أن شعروا بما في حكم الأجنبي من مذلة لهم وعار عليهم، وأن أدركوا ما يحتويه نص ورد في المعاهدات كلها من جرح لشعورهم وإذلال لكرامتهم؛ فقد جاء في الفقرة الأخيرة من صلح أصبهان: «ومن سب مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه.» وكان صلح الري يلزم أهلها بأن «يقروا المسلمين يوما وليلة، وأن يفخموا المسلم، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل.» ونص صلح جرجان على أن «من سب مسلما بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه.» أفيغني ترك الفرس أحرارا في دينهم، وعدم التعرض لهم في التمتع بأموالهم عن الكرامة المهدورة والدم المباح كلما استخف فارسي بمسلم أو سبه أو ضربه؟! لذلك بدأ الفرس ينتقضون بعد قليل من استقرار المسلمين بينهم، مما اضطر عثمان إلى إرسال القوات المسلحة الحين بعد الحين لتأديبهم.

ولم يكن تأديبهم وردهم إلى الطاعة عسيرا؛ فلم يكن عمر قد فاته أن أمة عريقة في الحضارة والمجد كأمة الفرس لن تذعن من بادئ الأمر لسلطان الأجانب عنها، فأقام المسالح في شتى أرجائها، واحتاط بذلك لكل انتقاض يمكن أن تقوم به طائفة من أبنائها، وقد كان عمر في هذا الأمر كما كان في كثير غيره حصيفا بعيد النظر، فالشعور بالكرامة أقوى أثرا في النفس من كل شعور، ولن يستطيع كبحه إلا قوة تضطر الثائر، لمهانة نزلت به، أن يختار بين كرامته وحياته، وتجعل الشعور بالكرامة وغريزة الاحتفاظ بالحياة يقفان وجها لوجه، وقد كان لهذه الوقفة أثر بعيد في حياة الشعب الفارسي أدت به إلى أن يدين بالإسلام، ثم كان له من الأثر في حياة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.

فقد رأى العقلاء من أبناء فارس سمو الإسلام، ثم رأوا أن لا نجاة لكرامتهم مما نصت عليه المعاهدات إلا أن يدينوا بدين الحاكمين، وأن يندمجوا فيهم جهد طاقتهم، وأن يستردوا بذلك سلطانا لم تمكنهم الأسلحة في حمى يزدجرد من الاحتفاظ به، ولم يبلغ تعصبهم لدينهم أن يمنعهم من أن ينعموا بمزايا الإسلام، وأولها أن يصيروا بمجرد إسلامهم أندادا للحاكمين يساوونهم ويصاهرونهم، ثم إنهم حرصوا بعد إسلامهم على أن تسود عقيدتهم القديمة في أمر السلطان، فبلغوا من ذلك ما أرادوا أو نحوا منه، جاء في كتاب «تاريخ المؤرخ» الذي نشرته «الإنسيكلوبيديا بريتانيكا» في هذا الموضوع ما خلاصته:

صفحه نامشخص