ولما كانت الغريزة والعادة - كما قدمنا - أهم أسس السلوك وينابيع الأخلاق، ناسب أن نذكر كلمة قصيرة عن كل منهما: (1)
الغرائز قوى فطرية أودعها الله جسم الإنسان، فتدفعه إلى المحافظة على بقائه وبقاء سلالته، من غير سابق تفكير في هذه الغايات أو تدريب على ما يوصل إليها من أعمال.
وهي أساس كثير من الأعمال التي نأتيها كل يوم، فأعمال السعي للقوت، والأكل والشرب، والفرار من الأخطار، والأثرة وحب النفس وما إليها، مردها عند التحليل إلى غريزة المحافظة على البقاء أو غريزة حب الذات. كما أن غريزة حفظ النوع، أو بقاء السلالة، منبع لسلوك المرء أيضا وخاصة أيام الشباب؛ من جد في الدرس، وعمل على نيل الدرجات العلمية والمراكز السامية، وبحث عن شريكة لحياته، وميل إلى الادخار والإثراء ليضمن هناءة أولاده، إلى غير ذلك من الأعمال التي تجيء تلبية لداعي هذه الغريزة.
وإذا كانت الغرائز بهذه المثابة في تكوين الأخلاق، فمن الواجب العناية بها وعدم إهمالها وتركها على طبيعتها، بل يجب أن تربى وتهذب وذلك بتشجيعها إذا بعثت على عمل طيب، والحد منها بل وكبتها في الحالات الأخرى. (2)
وإذا تكرر عمل من الأعمال حتى أصبح من السهل على المرء إتيانه، سمي عادة، فالفرق بينها وبين الغريزة أن هذه قوة طبيعية تخلق مع المرء، ثم تنمو أو تضعف حسب الظروف والأحوال. أما العادة فتكتسب اكتسابا، ومن أجل ذلك نرى أن الغرائز شائعة بيننا جميعا، بينما لكل منا عاداته الخاصة التي كسبها لنفسه.
ومنشأ العادة الميل إلى عمل معين، ثم إجابة هذا الميل بإصدار العمل المرغوب، مع تكرار ذلك كله تكرارا كافيا لجعله يصدر بسهولة، وذلك أن كل عمل يؤثر في الأعصاب ويأخذ فيها مجرى خاصا، وبتكرار العمل الواحد يعمق الأثر الذي اختطه في الأعصاب وتميل النفس للإتيان به، وترتاح الأعصاب له لاتفاقه مع الشكل الذي تشكلت به، وهكذا حتى يصير العمل مألوفا للنفس معتادا لها، تهش لعمله ويصدر عنها بسهولة ويسر لا أثر فيه للتكلف، فيصبح عادة فخلقا.
ومن هذا يتضح أن من أهم خصائص العادة تسهيل العمل المعتاد، ومن أوضح المثل لذلك المشي والكلام، فكل منهما في أول الأمر شاق على الطفل غاية المشقة، ولا يزال الطفل يتمرن عليه حتى يصير أمرا معتادا سهلا لا كلفة فيه.
وإذا عرفنا كيف تتكون عادة من العادات الطيبة، أمكن أن نعرف كيف نتخلص من عادة رديئة، وذلك يكون بعدم الترحيب بالميل غير المرغوب فيه، وعدم إجابة هذا الميل - حتى ولو كان شديدا قويا - بإصدار العمل، وبذلك تموت هذه العادة بإهمالها.
هذا من وجهة التربية والأخلاق، وإلا فقد يكون من الخير للمرء الذي يعرف من نفسه مضاء العزيمة، إذا أراد أن يترك عادة مذمومة، أن يتخلى عنها مرة واحدة، ثم يتحمل مشقة ذلك مدة من الزمن محدودة تنتهي بالتحرر منها، وفي الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». أما من يخاف الخور في العزيمة، فمن البصر وسداد الرأي أن يأخذ نفسه بالتدريج، حتى لا يؤدي ضعف عزيمته عن إنفاذ ما ليس في مقدوره إلى توهينها وإضعافها عن إتيان السهل من الأمور.
وهذا هو السر في أن الله - جلت قدرته وحكمته - حرم الخمر على ثلاث مراتب، ولم يحرمها مرة واحدة. (2) المقصد (2-1) تعريفه
صفحه نامشخص