والسلوك مظهر الخلق، ودليله ورمزه وعنوانه؛ لأن الخلق إذا كان حالة للنفس داعية لها إلى أفعالها، أي حالة نفسية باطنية، فإن السلوك هو الأفعال التي تصدر عن هذه الحالة الراسخة الكامنة في النفس. (1-2) علاقته بالخلق
من ذلك يتضح أن علاقة السلوك بالخلق هي علاقة الدال بالمدلول، فإذا كان السلوك حسنا دل ذلك على خلق حسن، وإن كان سيئا دل على خلق قبيح، ومن هذا التلازم بينهما نستطيع أن نتنبأ غالبا بأعمال المرء متى علمنا خلقه، كما نستطيع أن نعرف أخلاقه من أعماله، فإذا تكونت جماعة من محبي الخير لجمع التبرعات لمنكوبي الملاريا بأعلى الصعيد، يكون من السهل أن نتعجل القول بأن فلانا سيسارع للتبرع بقدر طاقته، وأن فلانا سيقبض يده فلا ينزل عن فلس واحد مما حباه الله به من غنى واسع عريض، نستطيع أن نتعجل القول بهذا لما نعلمه من تخلق الأول بخلق الكرم الذي يدعو للبذل عند دواعيه، وتخلق الآخر بخلق البخل الذي يجعله يشح بالقليل مع توفر دواعي الكرم والجود.
ولسنا نريد من تقريرنا أن بين الخلق والسلوك علاقة الدال بالمدلول، أن نقول: إن سلوك الإنسان يتوقف على خلقه فحسب، فالواقع أن السلوك يتوقف أيضا على الظروف والملابسات التي تحيط بالإنسان، من صحة أو مرض، وجاه أو ضعة، وصيت أو خمول، وغنى أو فقر، ونحو ذلك من الأحوال المختلفة، ألا ترى أن اللص يجد من ظلام الليل وهدوئه عونا له على أعمال التلصص والسرقة، بينما هذه الحالة نفسها تدفع الفيلسوف أو المخترع مثلا للتفكير فيما يعود بالخير على الإنسانية جمعاء!
كم منا من يتألم لمنظر الإنسانية المعذبة إذا زار ملجأ لليتامى أو مستشفى قصر العيني، وشاهد بنفسه ما يلقاه اليتيم من ذل وهوان، وما يحسه المريض الذي استعصى داؤه من وصب وعذاب، فيعزم عزما لا رجعة فيه أن يتبرع بجزء من دخله كل شهر رغبة في تخفيف بؤس هؤلاء المنكوبين، حتى إذا رجع لمنزله ومضى شهر فآخر، وغاب عن عينيه منظر أولئك البائسين، نسي بؤسهم وأمراضهم ولم يجد بعد ما يدفعه للنزول عن شيء من ثروته لهم! (1-3) نشأته وتطوره
لقد تدرج السلوك الإنساني في مدارج مختلفة، كان المرء في عهده الأول الهمجي ينساق بغرائزه في أعماله وسلوكه كما ينساق بها الطفل دائما، ثم تدرج به الزمن فصار سلوكه يتشكل حسب عرف القبيلة التي يعيش فيها؛ يفعل ما وافقه ويذر ما خالفه، وجرى على ذلك حتى صارت تلك الأفعال التي يقوم بها عن تقليد ومحاكاة، متأثرا بعرف القبيلة وتقاليدها، عادة له يأتيها دون نظر لنفسه كفرد مستقل له شخصيته الخاصة، بل كجزء لا يتجزأ من قبيلته، يعمل ما يتفق ومصلحتها وخيرها ولو ضحى في ذلك بنفسه.
وعرف القبيلة الخاص لا يبقى على حالة واحدة، بل يتغير ويزيد وينقص بسبب اتصال القبائل ببعضها في أيام السلم والحرب، للتجارة وتبادل المنافع وغير ذلك من أسباب التعارف والاتصال، فتأخذ كل قبيلة من تقاليد الأخرى ما يروقها ويتفق مع ظروفها وحاجتها، ومن أجل هذا يعم العرف شيئا فشيئا بتطبيقه على غير قبيلة واحدة، إلى أن يأخذ بعض ذوي العقول المفكرة في هذه القبائل في بحث الفروق بين تقاليدها وعاداتها المختلفة، واختيار أفضلها بعد تهذيبها إذا دعت الحال والحاجة؛ ليكون عرفا عاما لهذه القبائل كلها، وبذلك يأخذ هذا النوع من العرف العام صيغة القانون.
يجيء بعد ذلك دور القانون الذي يرتكن على كثير من العرف والتقاليد، فيخضع له الإنسان في سلوكه وأعماله كما كان يخضع للعرف. ونشأة القانون عن العرف ترجع إلى العمل لحماية المجتمع من الفوضى بسن عقوبات رادعة للمجرمين، وكانت هذه العقوبات عرفية أول الأمر، ثم أخذت شكل القانون وصيغته حين أصبحت عامة تطبق في جميع الأحوال، وعلى القبائل المجتمعة التي تعيش كأمة واحدة.
وأخيرا، وصل الإنسان بالرقي الفكري إلى الدور الأخير الذي أصبح يسير فيه على حسب ما يوحي به إليه البحث والنظر السليم، غير مقيد في أعماله بالعرف ولا بالقانون، بل يسترشد فيه بالقاعدة والمبدأ النظري المثالي «المثل الأعلى»، الذي يرى الخير المطلق في تحققه. على أنه ليس معنى هذا أن الغرائز زال تأثيرها في السلوك في الأدوار الأخيرة، بل الغرض أن نقول: إن الإنسان في الدور الأول كان يسير تقريبا طبق ميوله الغريزية وحدها، فأصبح بعده يعيش بغرائزه وعقله وتفكيره، ذلك بأن الغرائز لا يزال لها أثرها في سلوك المرء دائما، ولعل من أبرزها أثرا غريزة المحاكاة والتقليد.
من ذلك نرى أن سلوك الإنسان يتأثر بعوامل مختلفة، منها الغرائز التي يولد مزودا بها وتهيمن عليه في أيامه الأولى، والعادات التي ينشأ عليها متأثرا بالعرف حينا وبالقانون حينا آخر.
والغريزة والعادة أهم مصادر السلوك النفسية التي ينبع منها والتي يسمى مجموعها «أسس السلوك»، ولا بد للمربي الأخلاقي من دراسة هذه الأسس حتى يتسنى له استئصال ما يريد من أخلاق قبيحة، وتثبيت ما يجب من أخلاق طيبة، فإنك مهما ألححت على امرئ بترك الحقد والحسد مثلا، وأمرته بذلك مرارا من غير التفات منك لحالته النفسية التي تصدر عنها هاتان الرذيلتان، ما كان لقولك وإلحاحك من أثر، إنما سبيل الفائدة هو أن تتعرف أولا السبب الداخلي النفسي الذي من أجله يحقد ويحسد، ثم معالجته بما يجب ثانيا.
صفحه نامشخص