مقدمة
1 - تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
2 - الأخلاق والعلم1
3 - مكانة الأخلاق من الفلسفة
4 - الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
5 - السلوك، المقصد، الباعث
المراجع
مقدمة
1 - تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
2 - الأخلاق والعلم1
صفحه نامشخص
3 - مكانة الأخلاق من الفلسفة
4 - الخلق وتعريفه، تكونه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق
5 - السلوك، المقصد، الباعث
المراجع
مباحث في فلسفة الأخلاق
مباحث في فلسفة الأخلاق
تأليف
محمد يوسف موسى
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحه نامشخص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على صفوة الخلق المبعوث متمما لمكارم الأخلاق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه مباحث كتبتها منذ سنوات، عمدت فيها إلى بسط القول في غير إسهاب، وإيضاح الفكرة مع القصد والإيجاز، كما عنيت بربط آراء فلاسفة الأخلاق الإسلاميين بأمثالهم الغربيين، وبالإشارة للمراجع الهامة ليرجع إليها من يريد الاستزادة، وبالتعريف بالعلماء والمفكرين الذين يرد ذكرهم في ثنايا البحث؛ حتى لا يردد الشادي في الدراسات الفلسفية أسماء لا يعرف شيئا عنها.
وقد رأيت نشرها هذه الأيام، بشيء من التعديل، لعل في ذلك بعض الخير. ونسأل الله التوفيق والسداد.
الروضة في ذي القعدة عام 1362ه/نوفمبر عام 1940م
المبحث الأول
تعريف العلم، موضوعه، تقسيمه، غايته
(1) تعريف علم الأخلاق
الأخلاق جمع خلق، ومرد معناه في اللغة العربية وغيرها إلى معنى العادة، ففي العربية نجد صاحب لسان العرب يقول: واشتقاق خليق وما أخلقه من الخلاقة وهي التمرين، من ذلك تقول للذي ألف شيئا: صار ذلك له خلقا أي مرن عليه، ومن ذلك: الخلق الحسن. وفي اللغات الأوروبية نجد كلمة إيتيك
Ethique ، وهي اسم هذا العلم في اللغة الفرنسية، ترجع إلى كلمة إيتوس
Ethos
صفحه نامشخص
الإغريقية، ومعناها العادة.
من أجل هذا عرفه بعض العلماء بأنه «علم العادات»، وهو تعريف تعوزه الدقة؛ لأن علم الأخلاق لا يبحث قط في أعمال الناس الإرادية التي صارت عادات وتقاليد على اختلافها باختلاف الأمم والأيام، إنما يبحث في توجيهها الطريق السوي طبقا لقواعده وقوانينه، وفي الحكم لها أو عليها حسب مقاييس الخير التي يضعها.
وهناك تعريف آخر لأحد الكتاب الفرنسيين الأعلام وهو باسكال
1
وهو : «الأخلاق علم الإنسان»، تعريف جميل جذاب، جر هذا الفيلسوف إليه أن الأعمال التي هي مناط البحث والحكم الأخلاقي هي أعمال الإنسان؛ ولكنه يتسع حتى يتناول بين دفتيه العلوم الإنسانية المتعددة، كعلم المنطق والنفس والتاريخ والقانون، وما إليها من العلوم التي تتخذ الإنسان من نواحيه المادية أو المعنوية محورا لبحوثها؛ لهذا لا يسعنا أن نرضى بهذا التعريف أيضا.
كذلك نرى له تعاريف أخرى جرت على ألسنة غير هؤلاء من الباحثين، منها أنه «علم الخير والشر»؛ لأنه يميز بينهما ويفصل معنى كل منهما، وأنه «دراسة الواجب والواجبات»؛ لأنه يعرفنا الواجب الذي ننزل على حكمه فيما نأتي ونذر، ويهدينا لما علينا من واجبات نحو أنفسنا وغيرنا وخالقنا. وكل من هذين التعريفين وإن كان صحيحا إلا أنه غير كاف، دراسة الخير والشر لا تغني عن دراسة الواجب الذي نسير على هديه، ولا عن دراسة الواجبات التي علينا أن نقوم بها، كذلك دراسة الواجب والواجبات ليست كافية لتحديد الأخلاق التي تبحث أيضا في الخير والشر، وماهية كل منهما، والمقاييس التي نزن بها الأعمال لبيان خيرها وشرها، ولنا أن نقول: إن هذين التعريفين يكون مجموعهما (بشيء من التأويل) تعريفا صحيحا مضبوطا.
وأخيرا، إذا أردنا تعريفا دقيقا لعلم الأخلاق، لنا أن نقول: «إنه علم القواعد التي تحمل مراعاتها المرء على فعل الخير وتجنب الشر، ويصل بالعمل بها للمثل الأعلى للحياة»، أو «علم القواعد التي تسير عليها إرادة المرء الكامل في أعماله ليصل للمثل الأعلى»، ذلك أن الأخلاق لا تبحث في حياة الناس الراهنة، أي من ناحية أعمالهم على ما هي عليه، بل من ناحية أعمالهم على ما يجب أن تكون عليه، أي في الحياة التي يجب أن يحيوها ليحققوا ما خلقوا له من الكمال.
ولا يبحث علم الأخلاق عن الأعمال الإنسانية من حيث القوانين والنواميس الطبيعية التي تجري على سننها، فقد تكلفت بهذه الناحية العلوم الطبيعية، ولا من حيث إقرار الجماعة التي يعيش المرء بينها لها أو إهدارها إياها، فذلك بحث القانون، ولا من ناحية ما رتب عليها من ثواب أو عقاب في الدنيا والآخرة، فهذه ناحية بحث العلوم الدينية؛ إنما يبحث علم الأخلاق في أعمال الإنسان الإرادية من ناحية مطابقتها للخير أو الشر، وفي توضيح معنى كل منهما، وهو بهذا يهدينا سواء السبيل، ويرشدنا إلى الغاية التي يجب أن نقصدها من أعمالنا. (2) موضوعه
موضوع كل علم هو مباحثه التي يعنى بدراستها. ونظرة إلى علم الأخلاق باعتباره فرعا من فروع الفلسفة ترينا أنه يتخذ هدفا لبحوثه مسائل عديدة هي التي تكون موضوعه، نراه يبحث في الخير والشر: ما هما؟ وما الفرق بينهما؟ وما هو المعنى الذي يلاحظ في هذا العمل فيكون خيرا، وفي ذاك فيكون شرا؟ وما هي ماهية الضمير الأخلاقي الذي به نقف على الخير والشر؟ وهل هو قاض معصوم، وهاد لا يضل في حكمه؟ وما هو الحق والواجب؟ وما هي الواجبات المختلفة؟ وما هو المثل الأعلى الذي يجب أن نتجه جميعا لتحقيقه؟ وأخيرا: ما هي القواعد التي تؤدي رعايتها وعدم الحيدة عنها للخلقية المثالية الكاملة؟
من هذا يتبين أن موضوع علم الأخلاق هو الأعمال الإنسانية الإرادية، أي الصادرة عن تفكير وإرادة من هذه النواحي المتشعبة كلها، ونقول «الأعمال الإرادية» لأن هناك أعمالا تصدر عن المرء وليست في شيء من موضوع الأخلاق.
صفحه نامشخص
وبيان ذلك أن من الأعمال التي تصدر عن الإنسان أعمالا لا دخل لإرادته ولا لتفكيره فيها، وذلك كأعمال الجهاز التنفسي والدموي والهضمي، وهذه هي الأعمال الآلية التي تحدث والمرء نائم أو يقظان، مفكر أو غير مفكر، ومنها أعمال منعكسة أي ناشئة عن سبب خارجي عن الجسم، مثل: اختلاج العين عند الانتقال فجأة من ظلمة إلى نور، وانقباض اليد عند وخزها، وهذه الأعمال كسابقتها لا كسب للمرء فيها ولا تتعلق إرادته بها. وإذا عرفنا أن علم الأخلاق يرتب مسئولية خلقية على الأعمال، تبين لنا بجلاء أن الأعمال غير الإرادية سواء أكانت آلية أم منعكسة ليست في شيء من موضوعه؛ لأنه لا يتدخل إلا حيث يكون القصد والاتجاه والإرادة.
على أن هناك نوعا آخر من الأعمال آخذا بشبه من الأفعال الإرادية وغير الإرادية، ومن ثم قد يشتبه الحكم فيها: أيتناولها علم الأخلاق فيصف بعضها بالخير وبعضها بالشر ويرتب على آتيها مسئولية، أم يكون فاعلها بنجوة من هذا كله؟ ويوضح معنى ذلك الأمثلة الآتية: (1)
من الناس من يأتي أعمالا وهو نائم، كالذي ينام ويترك المصباح مشتعلا بجواره ثم تبدو منه حركة لا يحس بها تقلب المصباح فتصيب النار شيئا تحرقه، أو يقوم وهو نائم فيعثر بطفل على مقربة منه فيصيب منه عضوا. (2)
شخص من عادته النسيان، علم أن جماعة يأتمرون بزيد من الناس، وأنهم اتخذوا لتنفيذ جنايتهم موعدا بعد يومين مثلا، فاعتزم تنبيه المؤتمر به، إلا أنه أرجأ ذلك حتى نسي الأمر، فإذا الجناية نافذة دون أن يملك لها ردا. (3)
رجل يعلم من نفسه أنه يثور للبادرة التي تبدر من غيره، وأنه إذا ثار تملكه الغضب وخرج عن وعيه، ومع علمه ذلك من نفسه ذهب لأحد الأندية التي هي مظنة إثارة غضبه فحدث ما كان يخشاه، وأتى بما يعد منكرا من الأعمال أو الأقوال.
بالتأمل نرى أن هذه الأعمال وأمثالها غير إرادية؛ إذ لم يتعمد النائم أن تتصل النار بأدوات الدار، ولا أن يكسر عضوا من الطفل النائم بجواره، ولم يتعمد كذلك الذي علم نبأ الاتفاق على قتل فلان من الناس ألا ينذره بالشر الذي بيت له، ولم يرد الغضوب في المثال الثالث سب أو ضرب من تعدى عليه حين أخذته سورة الغضب؛ لهذا كان لكل منهم أن يعتذر عن أعماله بأنه لم يفكر فيها، ولم تصدر عن إرادته.
ولكن هل يقبل علم الأخلاق هذا العذر، فيعفي صاحبه من المسئولية الأخلاقية ويخرج هذه الأعمال وأمثالها من موضوعه؟ نستطيع أن نؤكد أن الجواب بالسلب لا بالإيجاب، فهذه الأعمال يبحث فيها علم الأخلاق، ويرتب على صاحبها مسئولية خلقية؛ لأنها وإن صدرت عن غير إرادة وتفكير، ولكن كان في الإمكان الحيطة لها وتبين نتائجها وقت الانتباه والاختيار، ويوافق هذا ما اختاره المحققون من المفسرين في معنى قوله تعالى:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، فإن التماس عدم المؤاخذة على النسيان أو الخطأ دليل أن ذلك مظنة المؤاخذة واللوم والمسئولية.
وقصارى القول أن الأعمال التي يبحث فيها علم الأخلاق هي الأعمال الإرادية، والأعمال التي وإن كانت وقت صدورها لا دخل للمرء فيها ولا صلة له بها، ولكن كان من الممكن الاحتياط لها حين كان المرء في فسحة من الوقت له انتباهه واختياره. أما الأعمال التي ليست من هذا القبيل، كالآلية والمنعكسة، فليست من موضوع علم الأخلاق في قليل أو كثير. (3) تقسيمه إلى نظري وعملي
يجرنا البحث في تقسيم الأخلاق إلى أخلاق علمية نظرية وفنية عملية، إلى بيان معنى العلم والفن أولا.
صفحه نامشخص
العلم: اليقين، يقال علم إذا تيقن. وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه، ضمن كل منهما معنى الآخر لاشتراكهما في أسبقية الجهل كما «المصباح»، وفي رأي الفيروزابادي صاحب «المحيط» وابن منظور المصري صاحب «لسان العرب» أنه بمعنى المعرفة أيضا، يقول الأول: «علمه كسمعه علما: عرفه»، ويقول الآخر: «العلم نقيض الجهل». وجاء في دائرة المعارف الفرنسية أن العلم هو «المعرفة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، المتعلقة بنوع محدد من أنواع المعارف»، كعلوم النحو والأدب والقانون والهندسة.
وفرق بين المعرفة العلمية
Connairrance Scientifique
والمعرفة العامية
Connairrance Vulgaire ، المعرفة العامية معرفة فردية جزئية؛ إذ هي ما يكونه المرء لنفسه من آراء وأحكام فيما يعرض من الحوادث الجزئية، يتأثر فيها بالآراء الموروثة والبيئة التي تحيط به؛ ولهذا لا تخلو من الأوهام والأخطاء، ولا تأخذ طابع العموم الذي لا بد منه في العلم. أما المعرفة العلمية أو العلم فهي المعرفة العامة التي سبيلها النظر والاستقراء والتمحيص، والتي تعنى بالتعليل ورد الظواهر إلى أسبابها وكشف قوانينها، وهي مع هذا دون المعرفة الفلسفية أو الفلسفة التي تضيف إلى معرفة علل الأشياء وكشف ما يقوم عليه العالم من قوانين بها تجري أموره، محاولة تعرف غاية هذا الوجود وتعرف الله الذي هو غاية الغايات.
ومهما يكن من فرق بين أنواع المعارف المختلفة: العامية، والعلمية، والفلسفية، فإن مدلول تعريف العلم، كما ذكرناه عن دائرة المعارف الفرنسية، هو بعض ما يطلق عليه لفظ العلم عند المؤلفين الإسلاميين، فقد جاء في حاشية البناني على السعد أن أسماء العلوم المدونة «نحو المعاني» تطلق على إدراك القواعد عن دليل، كما تطلق على معلوماتها، وهي القواعد التي يقوم عليها الدليل أيضا، وعلى الملكة الحاصلة من إدراك القواعد مرة بعد أخرى، أعني ملكة استحضارها متى أريد. وحقق السيد الجرجاني أن العلم في إطلاقه على الإدراك يكون حقيقة لغوية، وفي غير ذلك إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجاز مشهور.
أما الفن فهو كما جاء في المحيط: «الحال والقرب من الشيء كالأفنون، جمعه أفنان وفنون، وهو فن علم بالكسر: حسن القيام به»، وغني عن البيان أن حسن القيام بالعلم هو العمل به وتطبيقه عمليا، وكما جاء في بعض التعاريف الذي ذكرتها له دائرة المعارف الفرنسية: «هو تطبيق المعارف الحاصلة بالنظر والاستدلال بطرق خاصة، وهو يكتسب بالدراسة والتمرن»، مثلا فن التجارة: تطبيق قواعد خاصة تتعلق بالكسب وتنمية المال وتدبيره، وفن الطب: تطبيق عملي لعلم الصحة والأدواء وطرق الوقاية منها وعلاجها، وفن المحاماة: تطبيق القانون وأحكامه، وفن حكم الشعوب: تطبيق لقواعد السياسة العامة.
بعد هذا التمهيد نقول: يتميز لدارس الأخلاق أن منها قسما يتوفر على درس المباحث النظرية وآخر يدرس المباحث العملية، الأول هو ما يعرف بالأخلاق العامة أو النظرية، والثاني ما يسمى بالأخلاق الخاصة أو العملية.
الأخلاق النظرية تدرس الضمير وماهيته ومظاهره من عواطف مختلفة (كالرضا والاغتباط والسرور الداخلي لفعل الخير، والألم والتأنيب والندم متى كسب المرء شرا)، وما يصدره من أحكام أخلاقية على مختلف الأعمال الإرادية (كالحكم على العامل بالخيرية أو الشرية)، وتتساءل عما إذا كانت علما من العلوم أي عملا من أعمال العقل أو هي وليدة التقاليد، وما هي الطريقة التي تتبع في تعرف المثل الأعلى الأخلاقي، كما تبين أركان المسئولية الأخلاقية مثل الحرية والإرادة، وتناقش مسائل الجبر والاختيار والثواب والعقاب، وأي البواعث يجب أن يكون باعثنا الوحيد في كل ما نأتي ونذر، وأي الغايات يجب أن تكون غايتنا العليا، وأي الأغراض يجب أن يكون الغرض الأعلى للإنسانية عامة، وما هو الخير والشر والمقاييس التي تقاس بها الأعمال لبيان خيرها من شرها، وما هو الحق والواجب وما يتصل بهما، وأخيرا تنقد النظريات المختلفة التي تواردت على هذه المسائل العديدة، وتجتهد في أن تجد حلا لها.
أما الأخلاق العملية فتبين وتدرس الواجبات المختلفة: واجب الإنسان نحو نفسه، نحو العائلة، نحو الوطن والدولة، نحو الإنسانية، نحو الحيوان، نحو الله تعالى، وبعبارة أخرى: تعرض لمباحث الأخلاق النظرية بالتطبيق على ظروف الحياة العملية المختلفة لتقول فيها كلمتها، ببيان ما يتفق مع معاني الخير والشر والحق والواجب. والمقاييس الأخلاقية تقول رأيها الفصل - كما تقدم - في الواجبات الشخصية والاجتماعية والإلهية وفي المشاكل الاجتماعية كحقوق النساء والعمال والاشتراكية والشيوعية، ونحو ذلك من المسائل التي تعرض للبحث في حياتنا الخاصة والاجتماعية.
صفحه نامشخص
ولنختم هذا البحث يجب أن نشير إلى رأي بعض الباحثين في الأخلاق من أنها علم ميزاني كعلم المنطق؛ إذ كان من مباحثها الهامة استنباط مقاييس تقاس بها الأعمال لبيان طيبها من خبيثها، وتعرف المثل العليا التي يجب أن تكون قبلتنا في أعمالنا، ووضع قواعد تعصم مراعاتها الإرادة من الجنوح للهوى والميل للشر، وغير ذلك من المباحث التي تقدمت الإشارة إليها. إلا أنها في رأيهم مع هذا لا تضع من الطرق ما يصل بنا لتحقيق المثل العليا الأخلاقية للسلوك الإنساني، فيكون أسلوب البحث فيها أسلوبا علميا نظريا محضا.
يقابل هذا الرأي ما يراه غير هؤلاء - وهو الرأي الذي أرضاه - من أن الأخلاق علم نظري أولا، ثم فن عملي ثانيا، تبحث كما سلف في المعاني الكلية العامة النظرية، مثل الخير والشر، والحق والواجب، والمقاييس والبواعث، والغايات والمثل العليا، وتبحث أيضا فيما يدعو لتحقيق هذه المثل وتلك الغايات، شأنها في ذلك شأن بقية المعارف كالهندسة وعلم الصحة ونحوهما تكون علمية نظرية أولا وفنية عملية بالتطبيق ثانيا. بهذا يكون للأخلاق قيمتها وخطرها من هداية الناس إلى سواء السبيل. (4) الغاية من دراسة الأخلاق
ما الثمرة المرجوة من دراسة الأخلاق؟ وما الغاية التي نبتغيها من هذا الضرب من الدراسة العلمية والعملية؟ وبتعبير آخر: هل لدراسة الأخلاق من فائدة نرتجيها؟
اختلف الفلاسفة أيما اختلاف في هذه المسألة؛ إذ بينا نرى «سقراط»
2
وهو من نعرف خطره ومكانته في الفلسفة القديمة يقول: «إن معرفة الفضيلة تكسبها، والجهل بها مصدر الرذيلة ومأتاها»، نرى كثيرا من الفلاسفة غيره يقررون أن ليس للعلم أثر في إصلاح النفوس، من هؤلاء العلامة الفرنسي باسكال
الذي يقول: «إن الأخلاق الصحيحة تهزأ بعلم الأخلاق وتسخر منه»، وهربرت سبنسر
Spencer
3
الذي يرى أن حماسة الأخلاقيين من الفلاسفة ونشاطهم في نشر العلم رغبة إصلاح النفوس البشرية إنما هو بدعة سخافة، وكيف يرجى من العلم تهذيب النفوس، بينما نرى المتعلمين الذين استنارت عقولهم لا خلاق لهم، ونرى الوعاظ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وبجانب هؤلاء نجد من الجهال والأميين من هم على جانب عظيم من الاستقامة والشرف؟! وبذلك ينكر «سبنسر» تماما الصلة بين العلم والأخلاق.
صفحه نامشخص
وكأننا بهؤلاء الفلاسفة ومن لف لفهم يذهبون إلى أن الوراثة ضربة لازب، وأن المرء ينشأ على ما أمدته به الوراثة من صفات الآباء والأجداد، فهي إما أن تسمو به للخير والفضيلة وإما أن تنحدر به نحو مهاوي الرذيلة. على أن من الحق علينا أن نقول بأن هذا الرأي الذي يقرر عدم غناء دراسة الأخلاق مهما كان أساسه وسنده متطرف غاية التطرف، فهو يهدر جميع التعاليم الأدبية، ولا يجعل قيمة للمواعظ والنصائح الأخلاقية!
حقيقة إن المرء محكوم إلى حد ما بعامل الوراثة، ولكن لا يمكن أن ينكر باحث ما للبيئة بمعناها الأعم، ومنها ما يدرسه من مختلف العلوم والفنون، من أثر قوي في تكييف عاداته وأخلاقه وتوجيهه وجهة خاصة في الحياة. وسيجيء لهذا زيادة بسط عند الكلام على الخلق وتكونه والمؤثرات فيه.
وكيف لا تكون لدراسة الأخلاق قيمة والله تعالى يقول:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ؟! وهذا الإمام الغزالي يقول في هذا الصدد أيضا: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : حسنوا أخلاقكم. وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير طباع البهيمة ممكن؛ إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد؟!»
4
وكذلك يقول حكيم آخر من حكماء الإسلام: «إنه بالدراسة الأخلاقية تقوى الإرادة على الخير وسلوك السنن القويم، وتنشط العزيمة للمضي في سبيل الفضيلة واتخاذها نبراسا في أعمالها.»
نخلص من هذا إلى أن دراسة الأخلاق وسيلة ناجحة من وسائل التربية والتهذيب؛ لأن البحث في الفضائل وتبين حسن عاقبتها وتعرف الرذائل وسوء مغبتها، وكذلك دراسة كثيرين ممن كانوا في حياتهم العملية مثلا سامية للفضائل، كل ذلك يستهوي الدارس ويغريه بالتحلي بالفضيلة والتخلي عن الرذيلة، وبأن ينشئ نفسه على غرار هؤلاء الفضلاء، ولا ينكر أحد ما لقوة الإغراء والاستهواء من أثر كبير.
هذه هي إحدى غايات الدراسة الأخلاقية. وهناك غاية أخرى لتلك الدراسة، وهي أنها تكسب الدارس الدقة في تقدير الأعمال الأخلاقية والإصابة في الحكم عليها بعد أن وقف على معاني الخير والشر وما إليها، وعرف المقاييس التي تقاس بها الأعمال المختلفة، وفي ذلك أيضا يقول الحكيم السالف الذكر: إن دراسة الأخلاق تكسب صاحبها القدرة على تمحيص الأعمال ونقدها وتقديرها حق قدرها، دون أن يخضع في حكمه إلى إلف أو عادة، أو يتأثر بحكم الزمان والمكان.
وما أبعد الفرق في بحث هذه الأعمال لبيان خيرها وشرها، بين رجل يعتمد في حكمه على تلك الدراسة الدقيقة، وآخر سنده الإلف والعرف فقط! لقد يصيب هذا ولكن صوابه يكون رمية من غير رام، وقد يخطئ ذاك وخاصة في الجزئيات التي تحتاج لتطبيق دقيق غير أنه يكون نادرا.
صفحه نامشخص
والفرق بين أمثال هذين كالفرق بين دارس للزراعة علميا وعمليا، خبير بتربة الأرض وما يصلحها، واقف على ما يصيب كل نوع من المزروعات من أمراض وطرق علاج، وبين زارع كل معلوماته عن المزروعات وأدوائها وعلاج ما يصيبها من آفات لا تعدو ما لقنه من آبائه وما عرفه بالتجربة الناقصة، ونجد مثل هذا الفرق أيضا بين الطبيب والدجال، والمهندس المعماري والذي اتخذ البناء حرفة عن والده.
هذا، ولا يسعنا أن نختم هذا البحث قبل أن نقرر أن دراسة الأخلاق لا يمكن أن تجعل جميع الناس خيارا، فذلك يتوقف إلى حد كبير على الاستعداد الشخصي، ولكن حسبها فخرا وفضلا أنها تبين لنا النجدين، وترشدنا إلى الصراط المستقيم، وتحفزنا إلى عمل الخير وتغرينا به، وأنها كما يقول «أرسطو»
5
المعلم الأول في كتابه علم الأخلاق:
تشد من عزم بعض فتيان كرام على الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بوعدها.
6
وخير ما نختم به هذا الموضوع قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.»
7
وهكذا شأن الأخلاق والنفوس التي فيها استعداد للخير والفضيلة، والنفوس التي ختم الله على قلوبها فلا تقبل نصحا ولا تنتفع بموعظة،
صفحه نامشخص
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون .
المبحث الثاني
الأخلاق والعلم1
(1) تمهيد
سبق أن قلنا إن العلم هو اليقين، وعرفناه بأنه المعرفة العامة المضبوطة الصادرة عن نظر وتمحيص، وهذا التعريف لا يختلف في المعنى عما عرفه به بعضهم من أنه معرفة عامة تتجه في جهودها نحو العموم للوصول إلى الحقيقة، وسبق أن ذكرنا أن الأخلاق تبحث في تحديد الخير والشر، والحق والواجب، والمثل الأعلى، وما شابه ذلك من المعاني الكلية والبحوث النظرية. من أجل هذا يكون من الطبعي أن يتساءل كل باحث في الأخلاق عما إذا كانت تصل إلى آراء وأحكام تبلغ من العموم وقبول الناس لها حدا يجيز وصفها بأنها حقائق علمية، فتوصف الأخلاق لذلك بأنها علم من العلوم التي تقرر حقائق وقوانين عامة، هل هي دراسة عقلية أي عمل من أعمال العقل، أو دراسة مرجعها التقاليد؟ (2) الصلة بين العلم والأخلاق
على أننا نتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضا، هي أن العلم على اختلاف أنواعه، كعلم الطبيعة والمنطق والرياضة والنفس والاجتماع والتاريخ والحياة مثلا، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها.
العلم لا يعارض الأخلاق؛ لأن العقل العلمي يدفعنا لمعرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها، دون أن تتدخل في هذا البحث أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد، لكنه لا يمنع مطلقا أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، وبعبارة أخرى: معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي.
العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها؛ لأنه يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، غير معني ألبتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون، فهو يتحقق ولكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها، حتى علوم النفس والتاريخ والاجتماع، لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها، لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجا عنها.
علم الحياة مثلا يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وتنازع دائم على الحياة، القوي يفترس الضعيف، والغلب للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. إذن هل لنا أن نتخذ من ذلك مبدأ لنا في حياتنا، فنقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء وبقاء الأقوى، أو يمكن أن نحكم أنهم على الضد من هذا يجب أن يتساعدوا وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهذا علم النفس يكشف لنا الميول والعواطف النفسية، ومنها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار، أليس لنا بعد أن نتبين هذا أن نعطي لكل من هذه الميول قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع أتاح لنا أن العالم كان مسرحا في كثير في العصور، القديم منها والحديث، لحروب طويلة طاحنة، فهل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في اختيار أي المبدأين: مبدأ الاحتفاظ بروح العداء بين الأمم والشعوب، ومبدأ اقتلاع جذور العداوة وبذر عواطف العدالة والمحبة العالمية التي تسمح يوما أن نصل إلى سلم عام نهائي وأخوة متبادلة؟
صفحه نامشخص
الروح العلمي لا يتطلب منا أن نأخذ العلوم كدليل أخلاقي وحيد، وبعبارة أخرى: لا يتطلب منا أن نأخذ مما تكشفه من حقائق وقوانين مثلا أعلى نأتم به في أعمالنا ونسير على ضوئه وسناه.
إن العلم لا يعارض الأخلاق ولا يغني عنها فقط، بل يقدر ضرورة وجودها ولا يستغني عنها، وبدونها يكون إثمه أكبر من نفعه، يدل على ذلك تحليل نفسيات العلماء والعواطف التي كانت تسودهم في حياتهم العلمية، ففي هذه الجهود المضنية التي قام بها العلماء لفهم الطبيعة وأسرارها وللوقوف على النظم التي تسيرها، وفي تلك المشاق التي عاناها قادة الأمم وهداتها والمحسنون إلى الإنسانية؛ نجد عاطفة أخلاقية كانت تملك على هؤلاء الأبطال ألبابهم وتسوقهم إلى أداء رسالاتهم، تلك العاطفة هي الرغبة في خدمة الإنسانية وتحسين حالتها المادية والعقلية. وأيضا القيمة العالية التي يراها العلماء للعلم تفرض أن الأعمال الإنسانية ذات قيم مختلفة منها العالي ومنها الدون، فالعلم مثلا أفضل من الجهل، والهدى خير من الضلال، والسعي لمعرفة الحقيقة خير من مقاومتها.
إذن واجب البحث عن المعرفة وإعلانها يفرض الواجب بصفة عامة، والمثل الأعلى العلمي يفرض أن هناك مثلا أعلى عاما يجب أن ننشده جميعا.
كذلك حب الحقيقة، وعدم التحيز للهوى، والإخلاص، والصبر، والحمية في العمل؛ كل هذه صفات أخلاقية بدونها لا يتحقق عمل طيب علمي، بل ولا علم أيضا. العالم كالرجل الفاضل يستشعر سرورا عاليا روحيا، وهو الرضاء بالواجب المؤدى بنبل، والحياة تقضى في شرف وأمانة. يقول الفيلسوف الفرنسي المؤرخ إرنست رينان
Renan :
2 «المعرفة بين جميع الأعمال الإنسانية أسماها قدرا؛ لأنها أكثرها بعدا عن الهوى واستقلالا عن المسرات.» ثم يضيف : «وإنه لمن العناء الذاهب سدى أن يدلل المرء على قداستها وسموها؛ لأنه لا ينكر ذلك إلا من لا يعترف لشيء بالسمو والقداسة.»
والمؤرخ الفرنسي العلامة أوجستين تييري
Augustin Thierry
3
الذي عاد أعمى لفرط أبحاثه الدقيقة التفصيلية، يذكر في مقدمة كتابه «عشر سنوات في دراسات تفصيلية» أنه لو خير ثانية في اختيار حياة له لاختار أن يكون أيضا عالما مؤرخا؛ لأن «الدراسة الجادة الهادئة مأمن وأمل وحرفة يبلي المرء فيها حياته بشرف، أعمى ومتألم بدون رجاء وبدون مهلة وراحة تقريبا، يمكنني أن أتقدم بهذه الشهادة التي أعتقد أنها لن تكون موضع شك بحال، وهي أنه يوجد شيء في العالم خير من الثروة وسائر المسرات المادية ومن الصحة أيضا: هو الإخلاص للعلم.»
صفحه نامشخص
هكذا الدراسة العلمية ودراسات نفسيات العلماء، تكفي لبيان أن الخير والشر، وهما موضوع الأخلاق، يلاحظان دائما في كل البحوث والدراسات العلمية على اختلافها.
وأخيرا، إذا كان العلم كما قلنا لا يعارض الأخلاق ولا يغني غناءها بل يسير معها جنبا لجنب، هل لنا أن نخطو في البحث خطوة أخرى لنعلم ما إذا كانت الآراء والحقائق الأخلاقية تبلغ من العموم حدا يجعلها حقائق علمية فتكون الأخلاق علما من العلوم؟ الأخلاق علم إذا كان هناك حقائق أخلاقية عامة، ولكن هل يوجد حقائق أخلاقية عامة للجميع؟ (3) اختلاف الأفكار والنظريات الأخلاقية
من فلاسفة الأخلاق من ينكر وجود حقائق أخلاقية؛ لأن القواعد الأخلاقية ليست إلا تقاليد تختلف باختلاف الأزمنة والبيئات.
هذا مونتاني
Montaigne
4 (الفيلسوف والأخلاقي الفرنسي المعروف) بعد أن جمع كثيرا من الآراء والأحكام الأخلاقية، يؤكد هذه النظرية بقوة حين يقول:
لا يوجد شيء أكثر اختلافا بين أمم العالم بأسرها كالعادات والقوانين، كثيرا ما يكون أمر ممقوت هنا وممدوح بل موصى به هناك؛ في «إسبارطة» كانوا يمتدحون المهارة في الغش ويتواصون بها، وقتل الآباء المعمرين والتجارة بالمسروقات والزواج بين الأقارب، كل ذلك وهو محرم بيننا بصفة عامة مأمور به عند آخرين. وأخيرا لا يوجد أمر غير مرضي هنا إلا ويكون مرضيا عند أمة أخرى.
5 «وباسكال» الفيلسوف والكاتب الفرنسي الشهير استعار بعض ما أتى به مونتاني من مثل وحجج، وأتبع ذلك بفيض من فصاحته اللاذعة؛ إذ يقول:
لا يوجد تقريبا شيء عادل أو غير عادل إلا ويغير من صفته تغير إقليمه؛ ثلاث درجات في الارتفاع إلى القطب تقلب رأسا على عقب كل ما عرف من عدالة، خط واحد من خطوط الزوال يتحكم في الحقيقة والحكم الخلقي ... الحق له بيئاته، أزمنته، عدالة مضحكة هذه التي يحدها نهر! حقيقة أمام البرينييه
Des Pyrenées
صفحه نامشخص
6
خطأ وضلال وراءها!
7
حقيقة، إن التاريخ وعلم الاجتماع ليؤكدان أن القواعد الأخلاقية اختلفت باختلاف الأزمنة كما اختلفت وتختلف في العصر الواحد بحسب البيئات، هذه مسألة الرق والاستعباد كان نظاما معروفا لدى العبرانيين والمصريين القدماء والهنود والصين على اختلافهم في معاملة الأرقاء، كما كانت الجمعية الإنسانية في المدنية الإغريقية القديمة - التي يفخر بها الأوروبيون اليوم - تقوم على استرقاق فريق من المواطنين، حتى إن أرسطو بجلالة قدره يبرره لاعتبارات مختلفة، منها: أنه لا بد من العبيد ليتوفر الرجال الأحرار على الدراسات العقلية العالية، وأنه يوجد أناس بلغوا من السفالة والضعة أن يفهموا أنهم خلقوا للاستعباد. كما لم تمنعه الديانة المسيحية أيضا، أما في أيامنا هذه فقد صار الرق معتبرا من أشنع المظالم الإنسانية، وغدا محرما تحريما باتا.
كما أن أنظار الأمم بالنسبة للمرأة اختلفت في التاريخ أيما اختلاف، كان الأثينيون - وهم من نعلم مدنية وحضارة في الأزمان الماضية - يعتبرون المرأة سلعة تباع وتشترى، وجعلوا مهمتها في الحياة مقصورة على تربية الأطفال وتنظيم البيوت، كما أباح بعض الطوائف اليهودية للأب بيع بنته وهي قاصرة، وفي فرنسا قديما بلغ من امتهان المرأة أن عقدوا مؤتمرا سنة 586م في بعض الولايات فأخذوا يبحثون فيه ما إذا كانت تعد إنسانا أو غير إنسان، وانتهى الأمر بتقرير أنها إنسان، ولكنها خلقت لتخدم الرجل ليس غير!
ولا ننسى ما كان من وأد بعض عرب الجاهلية بناتهم، ومن اعتبار المرأة بعض ما يورث عن أبيها أو زوجها، والآن تغير ذلك كله وأصبحت المرأة مساوية للرجل تماما إلا في بعض حقوق يرى بعض الأمم من الصالح العام عدم منحها إياها.
وفي العصور المتوسطة
8
كان عدم التسامح الديني لدى المسيحيين مبررا لا نكير فيه، ما كان أكثر رجال الدين الأعلام الذين كانوا يؤكدون أن الحقيقة لها كل الحقوق ومن بينها اضطهاد الضالين في رأيهم بوساطة القوة! وأية حقيقة هذه التي كانوا يتكلمون عنها؟ إنها الحقيقة التي يعتقدونها، أي حقيقة كنيستهم، التعاليم المضادة لتعاليم كنيستهم كلها ضلال وجرائم موجهة ضد الإرادة الإلهية، فتستحق أشد العقاب.
ها هو ذا «سانت أوجستين» (أشهر رجال الكنيسة اللاتينية 354-430م) مع رجاحة عقله وسمو فكره يوصي باللجوء للإكراه لهداية الضال حينما لا ينجع الإقناع، وكذلك «سانت توماس» (أشهر رجال الكنيسة الغربية 1226-1274م) يقول: «إذا كان المزورون والمجرمون يعاقبون عدلا بالإعدام، فبالأحرى الهراطقة الخوارج عن الدين يجب أن يكون جزاؤهم لا الحرمان الأبدي من الكنيسة فقط، بل الموت الزؤام»،
صفحه نامشخص
9
هذه كانت عقلية كبار الأحلام في تلك الأيام! ولكن في أيامنا هذه يعتبر عدم التسامح سبة وجريمة أخلاقية مهما كان سببه ومأتاه، العقول الحرة تجده مرذولا، وأغلبية رجال الأديان يمقتون استعمال الإكراه في سبيل نشر ما يعتقدون.
وإذا كانت النظريات والآراء الأخلاقية تختلف في الأمة الواحدة باختلاف الزمن، فهي كذلك مختلفة في الزمن الواحد باختلاف البيئات، بينما نرى هذه الأيام الناس الذين على الفطرة كسود أستراليا يعتقدون القداسة لحيوانات ونباتات معينة، فيكون الموت عقاب من يجرؤ على أكل شيء منها، كما نرى البراهمة في الهند يقدسون البقرة ويعتبرون أكبر الجرائم قتلها أو الأكل من لحمها، وتقوم المعارك الدامية بينهم وبين المسلمين هناك لهذا السبب. بينما نرى هذا وأمثاله، نرى كثيرا من سود أفريقيا يستحلون بل يفضلون أكل لحوم البشر من أعدائهم الذين سقطوا في ميدان القتال، أو عبيدهم الذين يعنون بتسمينهم حتى يكون منهم غذاء دسم شهي، أو أقاربهم الذين نالت منهم السنون وعجزوا عن احتمال أعباء الحياة.
10
في مقابل هذا نجد بعض البوذيين الدينيين كرهبان الهند الصينية يعتبرون قتل أي كائن حي مهما كان جريمة شنيعة، ويصل الأمر إلى أن يرشح الرهبان مياه الشرب حتى لا يبتلع أحدهم أثناء شربه أية حشرة حقيرة غير مرئية فيتسبب في قتلها. أما نحن فنتخذ موقفا وسطا بين الفريقين المتطرفين، فاحترام الحياة الذي يعده هؤلاء الرهبان حقا مقدسا لكل حي لا نعده كذلك إلا للآدميين، ولا يعترف به أولئك المتوحشون إلا لعدد قليل كأسرة الشخص أو قبيلته أو أهل قريته.
كذلك الانتحار الذي يحرمه الدين الإسلامي وتنكره المدنية الأوروبية الحالية، يعده اليابانيون تقليدا وطنيا طيبا، يكون واجبا في كثير من الحالات؛ ينتحر الواحد منهم حين يرى أنه تجرد من شرفه أو عانى سقوطا فاضحا كبيرا، أو احتجاجا ضد مظلمة ارتكبت، أو نحو ذلك من العوامل الأخرى التي تجيزه في رأيهم.
ذكر الأستاذ شالي
Chalaye
في كتابه «اليابان المصورة» كثيرا من حالات الانتحار للعوامل المختلفة، منها أن ضابطا انتحر سنة 1891 للفت نظر الحكومة والرأي العام إلى تعدي الروسيا على بعض النواحي في شمال اليابان، وأنه في 14 سبتمبر سنة 1912 انتحر أحد الضباط الكبار هو وزوجته أثناء سير جنازة الإمبراطور إظهارا لإخلاصهما له وعدم رغبتهما في الحياة بعده.
من الممكن مضاعفة هذه المثل والإتيان بغيرها مستمدة من حياتنا اليومية في الصعيد أو الوجه البحري مثلا من مصر، وخاصة فيما يتصل بالأفراح والمآتم وعادة أخذ الثأر والانتقام، مما يؤكد أن الآراء والأحكام الأخلاقية تتغير مع الزمن، وتختلف مع الأوساط والبيئات، ولكن هل من الحق رغم تضافر هذه الشواهد كلها أن ننكر أن هنا حقائق أخلاقية عامة؟ (4) الحقائق الأخلاقية
صفحه نامشخص
أولا من السهل أن نلاحظ أن الناس على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم وأزمانهم يمتثلون للواجبات - التي يعتقدونها - على أوجه مختلفة تكون متباينة أحيانا كما رأينا، ولكنهم جميعا يقبلون فكرة الواجب، ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقيا مع البعض الآخر، الكل يميز أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس، والاحتقار لآخرين. الأسود المتوحش في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجبا، والمجرم الذي يرى نفسه ملزما بعدم خيانة عصابته؛ عندهم خلقية مشابهة في صورتها لخلقية الرجل الفاضل في هذه الناحية، ما دام الجميع يعتقدون القيام بالواجب أمرا مقضيا فقط يجب إنارة عقول أولئك المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويعد الخضوع لها أمرا إلزاميا.
هذا التحقق، وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعد من يقوم به خيرا بأنها حقيقة أخلاقية عامة، ثم رغما عن هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجبا هنا وواجبا هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلا بين بعض النظريات والآراء الأخلاقية لدى جميع الناس، إنه من العسير بل من المستحيل أن نذكر وسطا أو عصرا يعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة.
العدالة فهمت وطبقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق، ولكن الرجل العادل أو الشجاع محترم دائما بخلاف الظالم أو الجبان.
الرجل الساذج في تربيته، بل الطفل، يقبل بطيبة خاطر عقابا يعتقد عدالته، ويثور داخل نفسه ضد عقاب يراه ظالما، ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعا في قرارة نفوسهم، لا العدالة القانونية التي تتغير بتغير البيئات، وفي ذلك يقول مونتاني
Montaigne
الشاك، أي الذي يرفض كل شيء ليس متحققا بطريقة لا ريب فيها: «العدالة الطبيعية العامة فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام.» كذلك فولتير
Voltaire
11
نراه يدلل على عموم عاطفة العدالة بعد أن بحث الأمر بحثا دقيقا بدليل مقنع، إذ يقول: «فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعر بوجوب احترامها، حتى إن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب وهي أكبر الجرائم الهدامة قاطبة، التي تتعارض مع الغرض الإنساني النبيل، وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولا بحجة الدفاع عن العدالة.»
12
صفحه نامشخص
وأيضا عاطفة الكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني ، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان ، فمن الممكن وصفها بأنها حقيقة عامة أخلاقية.
وليس عجيبا أن نرى تقاربا بل اتفاقا على كثير من الآراء الأخلاقية، بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق؛ ذلك أن الناس جميعا، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، لديهم جميعا معين للأخلاق يكاد يكون واحدا أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعا لاختلاف الأزمان والبيئات، ذلك المعين هو الضمير.
وفي هذا يقول العلامة «بارتلمي سانتهلير»، مترجم أرسطو من اليونانية للفرنسية، في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو:
ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة، ليست منذ الآن محلا للجدال بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها، يمكن أن يقع الجدال في النظريات، ولكن بما أن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتما أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك، يستند إليه كل واحد منهم، من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه، ولا أن يدركه هو نفسه.
ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عند جميع الناس، وبين أن هذا الإقرار العام سببه أن تلك الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع، وتقع على مقتضاها من حيث لا يشعر الفاعل لها في غالب الأحيان.
13
ثم يقول في موضع آخر:
غير أن قانون الأخلاق ليس قانونا شخصيا بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحا منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفا.
إنه ليناجي جميع الناس بلهجة واحدة، وإن كانت أفئدتهم لا تصغي إليه على السواء، ينتج من ذلك أن قانون الأخلاق ليس فقط قاعدة للفرد، بل هو أيضا العامل لوحدة الروابط الحقيقية التي تربط الفرد بأمثاله، لئن كانت الحاجات تقرب بين الناس فإن المنافع تباعد بينهم إذا لم تكن تذكي بينهم نار الحرب، فلولا الاتحاد الأخلاقي لكانت الجمعية البشرية محالا.
14
صفحه نامشخص
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء، فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلم بشهادة الواقع من الجميع لصدورها من معين واحد، قد يختلف قليلا أو كثيرا بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
ثم التاريخ يكشف لنا أمرا آخر لنا أن نعلق عليه أهمية لها خطرها، المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي نراها حجر عثرة في وجه المصلحين دائما.
تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة بعض كبار الأحلام والفكر الراجح يعارضون التقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم، بمثل عليا رحبة واسعة صالحة للجميع.
حقا إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم كانوا على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في الخافقين أنهم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة. ولعل من الطريف أن نلاحظ أن تلك التقاليد التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاما خارقا كأنها صادرة من معين واحد.
من الممكن أن يذكر في معرض التمثيل في الأزمنة العريقة في القدم «بوذا» الحكيم الهندي، و«كونفشيوس» الصيني، وسقراط الإغريقي، وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماؤهم، وأخيرا المسيح ومحمد خاتم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
يجد الباحث في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية تعاليم أخلاقية صالحة حقا، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس، منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته، هذه بعض التعاليم الأخلاقية السلبية، وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى والتضحية ونكران الذات، «بوذا» نفسه يقول في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: «إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن؟!» وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان، هو أن أرنبا لا يملك من حطام الدنيا شيئا عز عليه أن يرد سائلا طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرده خائبا! هذا المثل يبين بإعجاب وجوب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، وبذات نفسه أيضا، ويحضرني بهذه المناسبة قول الشاعر العربي:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
وإذا تركنا الهند إلى الصين، نجد كونفشيوس الفيلسوف يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كان يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، وبالشفقة البنوية، وبالإخلاص الأخوي، وبالأدب الذي منبعه القلب، وبالمعاملة الحسنى لجميع الناس؛ ولهذا نجد بعض كلماته تمثل نمطا عاليا من التفكير، وأخلاقا تفرض نفسها فرضا على الجميع، ها هو ذا يقول: «من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفا ويعلم أنه عارف، أو جاهلا ويعلم أنه جاهل، العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير، يجب مقابلة الشر بالخير والظلم بالعدل، أحبوا الآخرين كأنفسكم»، ولما حانت وفاته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله، وقال في نبل وإيمان: «حياتي كانت عبادتي وصلاتي.»
وفي اليونان القديمة كان سقراط، مؤسس الأخلاق، يأمر ضمن ما يأمر بأن يكون المرء سيد نفسه، بالشجاعة، بالعدالة ... إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة، وفي ساعة موته رفع شجاعته إلى البطولة قائلا لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهما بالسفسطة وإفساد الشباب والإلحاد: «لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلا يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت وبين البحث دائما عما إذا كان ما يعمله عدلا أو غير عدل!» وفي قوله لتلميذه كريتون
صفحه نامشخص
Criton : «لا يجب أن نجترح أي ظلم حتى ولو كنا ضحايا لظلم الآخرين، عمل الشر للغير هو الظلم بعينه، لا يجب مقابلة السيئة بمثلها.»
وبنو إسرائيل كان من تقاليدهم الضيقة في فجر تاريخهم أنهم لا يعتقدون واجبا إلا إلههم المحلي وأنفسهم، حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمثل الأخلاقية الرحبة الواسعة، وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد: «ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد، كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلا.»
وفي التلمود:
15 «أحبب غيرك كنفسك، لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به»، وهذه هي الحكمة التي أخذها أحد حكماء اليهود في القرن الأول قبل الميلاد وهو هليل
Hillel
مبدأ له، فهي عنده كلمة الشريعة وما عداها مجرد تفسير لها. وفيه أيضا: «أربعة لن يدخلوا الجنة: الساخر والكذاب والمرائي والنمام. من لا يضطهد مضطهديه، ومن يتحمل الإهانة صامتا، ومن يفعل الخير حبا في الخير، ومن يستسلم لآلامه فرحا، أولئك هم أصدقاء الله.
16
وجاء في كلمة لمكسيم غوركي، أحد كتاب الروس المعروفين، هذه الحكمة السامية لهليل الحكيم السابق ذكره: «إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟» ويقول غوركي عن نفسه إنه تأثر بما في تلك الكلمة الخالدة من معنى دقيق وحكمة عميقة، فجعل مبدأه أن يعنى بنفسه، فلا يكون كلا على غيره، وألا يحيا لنفسه فقط، وإلا أضحت حياته هباء منثورا، وأخيرا يختم كلمته بقوله: «إن حكمة هليل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلا سويا.»
نترك اليهود وتقاليدهم وأخلاقهم إلى المسيح - عليه السلام - فنجده جاء معارضا لما وجده من تقاليد عتيقة ضيقة بمثل أخلاقي صالح للجميع؛ كان مما بشر به «حب المرء لله هو أن يحب قريبه كنفسه»، وليس القريب هنا هو الإسرائيلي للإسرائيلي مثلا بل الإنسان للإنسان: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، إن وصيتي أن يحب بعضكم البعض كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطي المرء من حياته لأصدقائه.»
أما محمد، صفوة الخلق كافة وخاتم الأنبياء والمرسلين، فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل:
صفحه نامشخص
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ... إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات،
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله ،
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ،
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، ويضاف لهذا ومثله قوله
صلى الله عليه وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
وهكذا نرى أن كثيرا من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والأفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمثل عليا، وبعبارة أخرى: بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقا بصلاحيته للجميع دائما. وصلوا لذلك لأنهم أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان.
هذه الأفكار الأخلاقية العالية التي جاءنا بها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها، هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعا، أليس لنا أن نقدر بأنها حقائق أخلاقية عامة، فتكون الأخلاق لذلك علما من العلوم؟
إنه مما لا ريب فيه أن هذه الأفكار ليست شعارا أو مبادئ مقدسة للناس جميعا يصدرون عنها في أعمالهم دائما، هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عنها في هذا المعنى. حينما يعرف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، وبعبارة أخرى بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله، لا يقصدون من ذلك أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون أن تكون يوما ما.
وفي الواقع لا يقبل سود أفريقيا أو أستراليا أو زنوج أمريكا مثلا التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل،
صفحه نامشخص
ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون ! فحينما يعلن العلماء أن الحقائق العلمية تنتج اتفاق جميع العقول، يكون الغرض إما أنها تؤدي لاتفاق جميع العقول الموهوبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل في أنها تؤدي حقا ذات يوم لاتفاق جميع العقول بلا استثناء، إذن يكون من الممكن أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وأنها من الآن مقبولة من كل من وهب القدرة على الحكم الصائب، كما أنها ستكون يوما ما مقبولة من الجميع عندما يرزق المرء رحابة الصدر والنظرة الواسعة التي تنتظم العالم بأسره، وتعتبر الناس إخوة متساوين فيما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئا فشيئا لعوامل عديدة؛ هناك قوى هامة مختلفة تعمل في الإنسانية الحالية للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما من الناحية العلمية، من ذلك انتشار العلم في كل البقاع، وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض، وسرعة ذلك الاتصال وتزايده يوما فيوما، لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهما من الأجناس المختلفة، هذا الاتصال المستمر، الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية في بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيرا من المظالم والآلام، ولكنه كان من نتيجته أيضا تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على التقاليد والعادات الأخلاقية الضيقة الخاصة، وتبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها، وسيؤدي استمراره إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعا مداركهم ويسموا بتربيتهم حتى يتخطوا بذلك الحواجز الطبيعية من محيطات وبحار وأنهار وجبال، ويصلوا إلى أبعد الآفاق، وحينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة كشفه أو خلقه من حقيقة وجمال، ويذكرون في ضمائرهم كل ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة.
والآن، وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة، نرى الضمير المستقيم مجبرا على قبولها، ونرى أن من الواجب أن يقبلها الجميع يوما من الأيام قريبا كان ذلك أو بعيدا، الآن لنا من غير إسراف أن نقدر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملا من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى، لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها، الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع، وإذن فلننظر مكان هذا العلم من الفلسفة.
المبحث الثالث
مكانة الأخلاق من الفلسفة
لا بد لهذا البحث من أن نقدم له بكلمة قصيرة عن معنى الفلسفة وإطلاقها قديما وحديثا، نخلص بعدها إلى مكان الأخلاق منها ونسبتها إليها، فقد قال بحق الفيلسوف الهولندي: هارالد هوفدنج
Harald Hoffding (1843-1931): «بما أننا نتعلم أن نعرف المرء من تاريخ حياته، يكون إذن من الواجب إذا أردنا أن نعرف أي علم الرجوع إلى تاريخه، وطبيعي أن نسير في هذا الطريق في الفلسفة أيضا.»
1 (1) أصل كلمة «فلسفة»
إذا رجعنا لأصل هذه الكلمة من ناحية الاشتقاق وجدنا أنها تتركب من لفظين معناهما «محبة الحكمة»، وهي كلمة إغريقية اقتبسها العرب واشتقوا منها فعلا فقالوا: «تفلسف، يتفلسف»، أيام إقبالهم على ترجمة ما وصلت إليه قرائح الأمم، التي لها في عالم العلم والعرفان تاريخ معروف، من معارف وعلوم وفنون، وها هو ذا نص عبارة المعلم الثاني أبو النصر الفارابي
2
صفحه نامشخص