وأنا واعظك في أشياء من الأخلاق اللطيفة والأمور الغامضة التي لو حنكتك سن كنت خليقا أن تعلمها وإن لم تخبر عنها، ولكن أحببت أن أقدم إليك فيها قولا لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادة مساويها، فإن الإنسان قد تبتدر إليه في شبيبته المساوي وقد يغلب عليه ما يبدر منها.
إن ابتليت بالإمارة فتعوذ بالعلماء، واعلم أن من العجب أن يبتلى الرجل بها، فيريد أن ينتقص من ساعات دعته وشهوته، وإنما الرأي له والحق عليه أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه. فإذا تقلدت شيئا من الأعمال فكن فيه أحد رجلين؛ إما رجلا مغتبطا به، فحافظ عليه مخافة أن يزول عنه، وإما رجلا كارها؛ فالكاره عامل في سخرة؛ إما للملوك إن كانوا هم سلطوه، وإما لله إن كان ليس فوقه غيره. وإياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك، فتكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها، وبابا يفتتحونك منه، وغيبة يغتابونك بها ويضحكون منها. اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده، فإن الراد له محمود، والقابل له معيب. لتكن حاجتك في الولاية إلى ثلاث خصال: رضى ربك، ورضى سلطان إن كان فوقك، ورضى صالح من تلي عليه. ولا عليك أن تلهو عن المال والذكر، فسيأتيك منهما ما يكفي ويطيب. واجعل الخصال الثلاث بمكان ما لا بد لك منه، والمال والذكر بمكان ما أنت واجد منه بدا.
اعرف أهل الدين والمروءة في كل كورة وقرية وقبيلة، فيكونوا هم إخوانك وأعوانك وبطانتك وثقاتك، ولا يقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريد للانتفاع به، ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذكرين وأفضلها عند أهل الفضل أن يقال: لا يتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.
إنك إن تلتمس رضى جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقل، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه.
لا تمكن أهل البلاء من التذلل، ولا تمكن من سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم.
3
لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لا يخافك خائف إلا من قبلها. احرص الحرص كله على أن تكون خبيرا بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعملك قبل أن يأتيه معروفك.
ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي.
عود نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه أو يستخف له شان. لا تتركن مباشرة جميع أمرك، فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعا. اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لا تطيق العامة فتوج بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجاتك وإن دأبت فيهما، وأنه ليس لك إلى أدائهما سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه منهما، فأحسن قسمتهما بين دعتك وعملك. واعلم أنك ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بالمهم، وما صرفت من مالك بالباطل فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وما شغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.
اعلم أن من الناس ناسا كثيرا يبلغ من أحدهم الغضب - إذا غضب - أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضى - إذا رضي - أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن أعطاه، ويكرم من لا حق له ولا مودة. فاحذر هذا الباب كله، فإنه ليس أحد أسوأ حالا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم، فإنه لو وصف بهذه الصفة من يلتبس بعقله أو يتخبطه المس أن يعاقب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه، لكان جائزا في صفته.
صفحه نامشخص