الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على نبينا محمد وآله الطاهرين. قال عبد الله بن المقفع: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجسادا، وأوفر مع أجسادهم أحلاما، وأشد قوة، وأحسن بقوتهم للأمور إتقانا، وأطول أعمارا، وأفضل بأعمارهم للأشياء اختبارا؛ فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين منا، وكان صاحب الدنيا على مثل ذلك من البلاغة والفضل، ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضل حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به مئونة التجارب والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب، وهو بالبلد غير المأهول، فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده.
1
فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال والعقد؛
2
إرادة ألا تكون عليهم مئونة في الطلب، وخشية عجزهم إن هم طلبوا.
فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم، فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع. غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتحل في آرائهم، والمنتقى من أحاديثهم، ولم نجدهم غادروا شيئا يجد واصف بليغ في صفة له مقالا لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير الدنيا وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم وتقسيم أقسامه وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها وتبيين مآخذها، وفي وجوه الأدب وضروب الأخلاق، فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال. وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور، فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم، ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.
يا طالب الأدب اعرف الأصول والفصول؛ فإن كثيرا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون دركهم دركا، ومن أحرز الأصول اكتفى بها عن الفصول، وإن أصاب بعد إحراز الأصول فهو أفضل.
فأصل الأمر في الدين أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنب الكبائر، وتؤدي الفريضة، فالزم ذلك لزوم من لا غناء به عنه طرفة عين، ومن يعلم أنه إن حرمه هلك، ثم إن قدرت أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضل وأكمل. وأصل الأمر في إصلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكل والمشارب والباه إلا خفافا، وإن قدرت على أن تعلم جميع منافع الجسد ومضاره والانتفاع بذلك فهو أفضل. وأصل الأمر في البأس ألا تحدث نفسك بالإدبار وأصحابك مقبلون على عدوهم، ثم إن قدرت أن تكون أول حامل وآخر منصرف من غير تضييع للحذر فهو أفضل. وأصل الأمر في الجود ألا تضن بالحقوق عن أهلها، ثم إن قدرت أن تزيد الحق على حقه وتطول على من لا حق له فافعل فهو أفضل. وأصل الأمر في الكلام أن تسلم من السقط بالتحفظ، ثم إن قدرت على بارع الصواب فهو أفضل. وأصل الأمر في المعيشة ألا تني عن طلب الحلال، وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفق، ولا يغرنك من ذلك سعة تكون فيها؛ فإن أعظم الناس في الدنيا خطرا أحوجهم إلى التقدير، والملوك أحوج إلى التقدير من السوقة؛ لأن السوقة قد يعيش بغير مال، والملوك لا قوام لهم إلا بالمال، ثم إن قدرت على الرفق واللطف في الطلب والعلم بالمطالب فهو أفضل.
صفحه نامشخص