سار يفكر تقوده قدماه إلى حيث لا يدري له مقصدا أو إلى حيث تحدد رغبة خفية اتجاهه ومقصده، كان يقصد بيت عبد الباقي، وقبل أن يبلغه تصدت له فهيمة وهي تقول: ماذا بك يا صميدة؟
وصحا صميدة على صوت فهيمة فإذا هو ينفض عن نفسه كل ما هي فيه من حيرة: لا شيء يا فهيمة، لا شيء. - لماذا لا تزور؟ - أنا خدام. - تعال. - أشتري نصف، أشتري قرشا من عبد الباقي وأجيء حالا. - وأنا ألهب الفحم في انتظارك.
وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته؛ فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته، وما هي إلا أنفاس قلائل حتى قال: فهيمة، أتتزوجينني؟ - وكم تدفع مهرا؟ - وكم يرضيك؟ - ثلاثون جنيها. - لا أملك إلا خمسة وعشرين. - لأجل خاطرك، لقد كنت عزمت بعد المرحوم ألا أتزوج أبدا. ولكن أنت، أنت، لا أستطيع أن أرفض لك أمرا. - متى نتزوج؟ - متى تشاء. - الآن. - الآن.
وجاء المأذون وخرج، واطمأن صميدة بعد حيرة؛ فلم يعد يحاول أن يفكر كيف سيواجه المطالب المتزاحمة حوله، لقد انتهت حيرته، لا لم يعد حائرا، لم يعد حائرا على الإطلاق.
زواج
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم.
حلوة هي، كالأمل، كالموعد وقد حققه اللقاء، كالنشوة وقد عربدت، حلوة كالقلب السكران، كالفكرة الحالمة، كالذكريات المأنوسة الهانئة، عينان ساجيتان فيهما إلى الحب دعوة وفيهما العفة المنيعة، وشعر منسرح كآمال الشباب، وفم دقيق ذو تعبير يختلط بين الدعوة والتمنع؛ فما يدري من يراها والابتسامة وامضة عن شفتيها ماذا تقول؟ ولا يجد من يراها بدا من أن يبتسم ثم يقف الأمر به عند الابتسام يردعه جمالها وابتسامتها أن يزيد.
نشأت بين إخوة من الذكور فالبيت لا عمل له إلا أن يتقصى رغباتها فيحققها؛ فمطلبها أمر قبل أن تبين عنه، إنما هي الإشارة العابرة أو التلميح البعيد؛ فإذا ما أرادت فقد تم، وكان للذكور أصحاب وكان للعائلة أقارب، ولكن الجميع كان يقف منها موقف المكبر المعجب، ولم يستطع أحد أن يقف منها موقف المحب، والشباب يعدو إلى الفتيات في خطى واسعة فيلتهم سنوات الطفولة التهاما، فما أسرع ما كبرت هبة، وما أسرع ما أخذت أمها ثم أبوها يتلفتان حولهما عن العريس الذي يصلح لها، ثم ما أسرع ما أصبحا يتلفتان عن أي عريس، ولكن السنين ثقال بطيئات، وجمال هبة الصارخ يقف دون الشباب أن يتقدموا؛ فكأنما هذا الجمال سياج حولها لا يرى أحد من الشباب نفسه أهلا أن يعدوه إليها، كان الأقارب والأصحاب ينظرون إليها وكأنها في مستشرف رفيع لا سبيل أن يرقى إليه واحد منهم.
وتستطيع هبة أن تطلب إلى أبيها ما تشاء. ويستطيع أبوها أن يقدم إليها ما تصبو إليه لكنها أبدا لا تستطيع أن تقول كبرت ولا يستطيع أبوها أن يجيب إشارتها إن هي قالت.
فكانت هبة تنظر إلى الأيام نظرة واجفة هالعة، ماذا لها في مطوي الغيب، أين تلقي بها خوافي المستقبل، أتراها تصبح ...؟ لا، إنها لا تطيق أن تنطق الكلمة، أتصبح عانسا، ويلي! أهذا الجمال كله لا يجد من يقدره، كيف؟ إنها لا تنسى النظرات الحافلة بالإعجاب والإكبار وهي تحيط بها، يأتي إلى البيت أقرباؤها ويأتي أصدقاء كثيرون ويأتي ويأتي إلى البيت ابن عمها مسعود.
صفحه نامشخص