ذكريات بعيدة
حيرة
زواج
خطابان
عودة الزغاريد
وجهات نظر
أستغفر الله
طوق حول العنق
ربيع
ولدي ألا تعود
انتظار
على رغم الأيام
يا لها من أيام
عودا إليك يا أبي
ذكريات بعيدة
حيرة
زواج
خطابان
عودة الزغاريد
وجهات نظر
أستغفر الله
طوق حول العنق
ربيع
ولدي ألا تعود
انتظار
على رغم الأيام
يا لها من أيام
عودا إليك يا أبي
ذكريات بعيدة
ذكريات بعيدة
تأليف
ثروت أباظة
ذكريات بعيدة
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي.
كانت تبيح لي كل مكان في حجرتها، فكلها ملعبي وكل شيء فيها من لعبي، لا يذودني عن شيء فيها أحد، بل كانت تنهر كل من يحاول أن يبعدني عن شيء لها، فكل عزيز عندها رخيص لي، وكل آنية أو علبة أو منضدة قربان مقدم لنزوات طفولتي وعبث يدي، وحين تصل إلى يدي مقتنياتها تصبح بين يدي القدر، لا ينقذها من الكسر أو التلف إلا الحظ وحده، ولم يكن الحظ رفيقا بأشياء جدتي؛ فيا طالما حطمت لها من أشياء ويا طالما أتلفت لها من أدوات، ويا طالما انتهرت جدتي أبي أو أمي إذا حاول واحد منهما أن يعاقبني أو يردعني عن حجرتها.
وقد كنت أجد نفسي أسيرا لأوامر أبوي في أي غرفة أدخلها في البيت؛ فأنا مقيد حينئذ بخوفي أن أحطم شيئا أو ألمس شيئا أو ألهو بشيء، ويظل هذا القيد من الخوف يلازمني حتى أدخل إلى غرفة جدتي فأنا إذن حر طليق أحطم ما أشاء أن أحطم وألهو ما شاء لي اللهو، أحس أنني في هذه الغرفة أقوى من أمي وأبي جميعا، أقف منهما بحصن يعجزان أن ينفذا دونه إلي، وألهو.
شيء واحد لم تبحه لي جدتي ولم أكن أدرى سر حبها له ومنعي عنه، ولم يكن هذا الشيء جديرا بانتباهي، ولا مما يغري الطفل أن يلهو به، إنما هو صندوق قديم لا يبدو من قدمه إلا صنعته التي تدل دلالة واضحة على الزمن الذي صنع فيه، أما هو فقد كان أنيقا دائما؛ فنحاسه الذي يحليه ذو بريق لم يكن يوما خابيا، وخشبه أنيق نظيف لم تستطع السنون أن تعدو على نظافته أو أناقته.
وكنت أرى جدتي في كل يوم تمسك به وتفتحه فينفرج عن كراسة ذات شريط جديد دائما، يعلو الكراسة الكثير من غبار السنين أحال بياض أوراقها إلى غبشة كتلك التي تغشى نظرة الناظرة إلى التاريخ البعيد. وكانت جدتي تقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى وتظل رانية إليها بنظرات حسيرة، ولا تنتهي إلى الصفحة الأخيرة حتى تذرف سكبا من الدموع وحينئذ تعيد الكراسة إلى شريطها ثم تودعها في إعزاز صندوقها الأثير.
وهكذا أصبح هذا الصندوق طلبتي الوحيدة، فهو الشيء الوحيد عند جدتي الذي لم أستطع الوصول إليه، فكنت كلما أقبلت عليه أريد أن أمسك به تفزع جدتي قائلة: إلا هذا.
وتسارع إلى الكراسة تقفلها وتحيطها بالشريط في عجل ثم تعيدها إلى الصندوق دون أن تصل إلى مرحلة البكاء، وهكذا كنت أعدو أيضا على هذه الدمعات التي كانت ترتاح لها جدتي فأحرمها منها. وقد كان هذا على إيلامه لها أهون عندها من أن تترك الكراسة أو الصندوق بين يدي ويدي الحظ.
وكبرت رغبتي في الوصول إلى هذا الصندوق بل أصبحت كلما دخلت غرفة جدتي ألعب حول الدولاب الذي يستقر فيه الصندوق، أملي ومطلبي، لم أكن أفكر فيه إلا لأنه الشيء الوحيد الذي منعتني عنه جدتي، وحين كبرت بعض الشيء وذهبت إلى المدرسة ووجدتني أقلب في كراسات وأكتب فيها وأقرأ، أصبحت أعجب من نفسي أنني لا أبكي كما تبكي جدتي حين تنظر في كراستها، وهكذا أصبح الصندوق والكراسة التي تستلقي في أحضانه سرا عجيبا لا يفارق ذهني غموضه ولا يكف تفكيري عن محاولة الوصول إلى حقيقته واستجلاء ما يخفيه من أسباب تستجلب هذه الدمعات إلى عيني جدتي، إنني أقرأ فلا أبكي فماذا يبكيها هي، إنني قد أبكي حين أعجز عن القراءة وتمتد عصا المدرس إلي ولكنني حين أقرأ لا أجد ما يبكي، ولقد حاولت مرارا أن أثير في نفسي مكامن الدموع حين أقرأ فإذا الدموع جامدة وإذا البكاء عصي عنيد لا يسعفني فيزداد سر جدتي وصندوقها استغلاقا علي.
وفي مرة فاجأت جدتي وهي تقفل كراستها وقد بلغت مرحلة الدموع وراحت دمعات تنهمر على وجهها الناصع البياض تركت فيه آثار السمن الذي أصبح نحافة وآثار السنين التي مرت غضونا كثيرة.
ونظرت إلى جدتي مليا وسألتها: لماذا تبكين؟
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألقيت فيها هذا السؤال ولكنها كانت دائما لا تقول شيئا سوى أن تنظر إلى صورة جدي التي علقتها بحيث تظل رانية إليها من أريكتها التي لا تكاد تتركها، ثم هي تتمالك أمر نفسها في سرعة حازمة وتحيد عن السؤال الذي ألقيته وتقدم بين يدي قربانا جديدا مما تحفظه عندها لألعب به وأحطمه، وكنت دائما أنخدع بهذا القربان عن السؤال الذي أبحث عن جوابه وأنصرف إلى ما قدمته إلي ألعب به أو أحطمه حسبما يقضي الحظ. وفي هذه المرة حين سألت جدتي أجابتني بنفس طريقتها وقدمت إلي كراسة وقلما وقالت: اكتب هنا ما تعلمته اليوم.
وكنت قد أعددت نفسي ألا أنخدع، إلا أن الهدية كانت شيقة؛ فقد كنت أحب الكراسات حبا عارما لا أدري لماذا؟ ألأنني ظللت سنوات عديدة أهفو إلى كراسة جدتي أم لأن شكل الكراسة الجديدة كان أثيرا عندي دائما؟ لا أدري! ولكن الذي أذكره أنني خدعت في هذه المرة أيضا وتناولت الكراسة ورحت أهوش صفحاتها بحروف ما تلبث أن تصبح رسوما، وقامت جدتي إلى الدولاب فأودعته صندوقها وعادت إلى جلستها وراحت ترنو إلي وأنا أكتب أو ألهو في كراستي التي كانت جديدة، وكان لا بد لعينيها أن تتجها إلى ما أخطه في الكراسة وثبتت نظرتها في كتابتي فترة طويلة ثم قالت: هشام، أتعلمني؟
ونزل علي السؤال كحدث مفاجئ لم أتوقعه ولم أجد بين شفتي إلا: ماذا؟
فعادت جدتي ترنو إلي في ابتسامة طيبة ودود وقالت: أتعلمني؟
قلت لجدتي وأنا أضحك: أتضحكين علي ؟
وظلت ابتسامتها الطيبة على وجهها وهي تقول: لماذا؟
فقلت في براءة: إنك تقرئين الكراسة كل يوم وتبكين.
وعلت وجهها حمرة أكسبت السنين على وجهها جمالا ورونقا وقالت: آه يا عفريت.
ومدت يدها تدغدغ ملتقى صدري بذراعي، موطن تعلم أنه لا يخطئ في إضحاكي، فضحكت وضحكنا، ومرت الأعوام.
كبرت وأصبحت أعرف أن لجدتي في كراستها سرا، وأصبحت أدرك أنه لا بد أن يكون هذا السر وثيق الصلة بذكرياتها، وأصبحت أدرك أيضا أنه لا يجوز لي أن أقحم نفسي على ذكريات جدتي وسنين شبابها، ولكن شوقي إلى معرفة هذا السر لم تخفف منه السنون بل لعلها زادته تحرقا.
وعرفت مع الأيام أيضا أن جدتي لا تعرف القراءة والكتابة، وزادت معرفتي هذه السر استغلاقا، كما زادت رغبتي في معرفته تغلغلا في نفسي، ولكن حرصي على ألا أقحم نفسي على أسرارها أو على سرها الوحيد بالنسبة إلي جعلني أحيط رغبتي هذه بسياج محكم من الصمت والتجاهل كلما رأيت كراستها الحبيبة بين يديها.
وفي يوم دخلت إلى حجرتها لأجدها تجفف دموعها وتودع الكراسة صندوقها دون أن تهتم بإدخالها إلى الدولاب؛ فقد أصبحت مطمئنة أنني لم أمد إليها يدي. حولت جدتي عينيها عن صورة جدي وابتسامة دافئة ما تزال معلقة بشفتيها وقالت: هشام، ألا تنوي أن تعلمني القراءة؟
وكدت أن أقول، لماذا، ولكنني سرعان ما نظرت إلى الصندوق فاختطفت الكلمة من على شفتي قبل أن أطلقها وقلت: أنا تحت أمرك.
وقالت وقد أشرق وجهها بالفرح: صحيح؟!
فقلت شاعرا أنني أحقق لها أملا كبيرا: طبعا.
فقالت في حزم والإشراق على وجهها لا يبارحه: قم إلى هذا الدرج ستجد كراسات وأقلاما هات واحدة وقلما وتعال علمني.
وبدأت أعلم جدتي، دون أن أشق عليها في التعليم فكنت أعلمها حرفين أو ثلاثة في اليوم، ولكن قليلا ما دامت هذه الأيام؛ فقد هاجم جدتي مرض بدا في أول أمره هينا ثم ازداد خطورة، وحاولت أن ألهيها عن مرضها بالتعليم.
وحاولت هي أن تستجيب لي ولكن المرض كان أقوى منها ومني فلم تستطع.
مرت أيام مرضها الأول وهي تستطيع أن تصل إلى الدولاب لتحضر الصندوق وتستطيع أيضا أن تصل إليه فتعيده، ثم أقعدها المرض فكانت تطلب إلي أن أحضره لها وتطلب إلي أن أعيده. وكانت دموعها تزداد غزارة، حتى كان يوم قالت لي فيه: هشام، يخيل إلي أنني سأموت قبل أن أتعلم القراءة.
فقلت لها في تأثر بالغ: بعد الشر عنك يا ستي.
فقالت وقد علت وجهها حمرة من الخجل كخجل العذارى: أتعرف ما تحويه هذه الكراسة. واحتضنت الكراسة في حب كأنها تحتضن السنين والذكريات وقلت لها: لا.
فازداد وجهها حمرة وعذرية وقالت: إنها مذكرات جدك. فقلت: مذكرات جدي؟ - دخلت إلى مكتبه فوجدته يقرؤها وسألته عنها فقال: إنها مذكرات حبي لك كنت أكتبها أيام خطبتنا. - أكان يراك وأنتما خطيبان؟ - ألا تعرف أن أبي عقد عقدي على جدك ثم انتظرنا فترة طويلة حتى يتم جدك التعليم وهكذا كان يراني دون أن نتزوج. وكان يكتب هذه المذكرات بعد كل لقاء لنا وكنا نلتقي كل يوم تقريبا.
ونظرت إليها في خبث وقلت: أكنت ترينه وحدك؟
فازدادت خجلا وخالط صوتها نغم من الفرح النشوان وهي تقول: امش يا قليل الأدب، كنت ألقاه أمام أمي وإخوتي. - آه، طيب، طيب، لا تزعلي.
وقالت جدتي والنشوة لا تزال في عينيها القديمتين وقد خالطهما البريق فهما عينا فتاة في بواكير الشباب حتى خيل إلي أن جدتي عادت بعينيها ووجهها القاني من الخجل إلى تلك السن التي خطبها فيها جدي، قالت: هشام.
ثم صمتت فقلت: نعم.
فقالت: هشام، أتقرأ لي هذه المذكرات؟
فسارعت أقول وقد أحسست أنني موشك أن أصل إلى أعماق سرها: يا سلام يا ستي، أقرؤها وأقرؤها وأقرؤها.
فقالت على عادتها: صحيح؟
فقلت: صحيح جدا.
فقالت في استخذاء: قم إلى الباب واقفله بالمفتاح؛ فإنك أول من يقرؤها، فأنا كما تعلم لم أقرأها أبدا ولم أبحها لأحد أبدا، اقرأها لي أنت، هل أحسنت إقفال الباب؟
وكنت قد رجعت عن الباب واستويت على كرسي بجوارها، وأعطتني الكراسة فأخذتها بيد ملهوفة وراحت هي ترنو إلى صورة جدي متهيئة لأن تسمع هذا الكلام الذي استغلق عليها السنوات الطوال. وفتحت الكراسة وقبل أن أعلو بصوتي لأسمعها رحت أمر بعيني على الصفحة الأولى.
لقد كانت كراسة ذكريات لا شك في ذلك. ولكن لم تكن جدتي هي محور هذه الذكريات، كان جدي يحب فتاة أخرى غير زوجته، رعاك الله يا جدتي كم أضعت من دموع وكم أفنيت من أوقات وكم بذلت من جهد في تجديد الشريط الذي يلم الذكريات وفي تنظيف الصندوق الذي ينضم على المذكرات، وانتاب لساني نوع من الشلل الداهش الحزين، واجتاح قلبي عاصف من الألم والحرقة والإشفاق على جدتي والحب لها، وفي لمحة خاطفة اتجه ذهني إلى طريق آخر، هل كانت سدى هذه الدموع، هل كانت هذه المجهودات التي بذلتها في المحافظة على الصندوق وتجديد الشريط بلا جدوى، هل كانت نظراتها الطويلة على السنين الطويلة في صفحات الكراسة هباء، أكانت جدتي تسعد بشيء قدر سعادتها بهذه النظرات الجاهلة وهذه الدموع المنسكبة وهذه العناية البالغة، ألم يستطع جدي أن يترك لها في هذه الكراسة الخادعة حياة لها تحيا بها في سنوات الكهولة والشيخوخة، لقد سعدت جدتي بالكراسة سواء كان ما تحويه حبا لها أم خداعا لها، لقد سعدت. لقد خيل إلي أن الصفحات قد أصبحت مطبوعة برسوم حروفها في عقل جدتي وعلى قلبها، مطبوعة بحروف أكثر ثبوتا وبقاء وعمقا من هذه الحروف الملقاة على صفحات الكراسة. وخيل إلى أن نظرات جدتي قد احتفرت على السنين حفرا في أوراق المذكرات أكثر جمالا من كل حب وأصدق إحساسا من كل كلام، أيذهب هذا جميعه سدى، وأيقظتني جدتي من سرحتي الطويلة لتقول في صوت تردد بين الخجل والتشوق والفرح: اقرأ.
ونظرت إلى جدتي طويلا وقلت: يا سلام يا ستي، كم كان يحبك جدي، كم كان يحبك!
ونظرت جدتي إلى الصورة المطلة عليها وابتسمت وهي تقول وقد تعثرت الألفاظ بخجلها: نعم، أعرف، اقرأ.
ورحت أقرأ جاعلا اسم الحبيبة التي تروى عنها المذكرات هو اسم جدتي، حذرا دائما مبتعدا دائما عن كل لقاء لم يكن في بيت، مختارا الكلام العام الذي لا توحيه مناسبة بعينها، وظللت أقرأ وظل وجه جدتي يتهلل ونظرتها إلى الصورة تزداد إنعاما فإن غشت عينيها الدموع راحت تزيحها عن عينيها وتنعم في صورة جدي حتى انتهيت من المذكرات ولم تكن طويلة وهدأت، لقد بلغت آخرها ولم أخطئ ونظرت إلى جدتي ورأيتها في سبحتها ما تزال رانية إلى الصورة فحولت نظري إلى الصورة معها وخيل إلي أن جدي يبتسم لي شاكرا فابتسمت له أنا أيضا رغم ما جعلني أعاني من حيرة وحسرة على ذكريات جدتي، ورغم المجهود الذي بذلته لأستر حقيقة مذكراته.
نعم لقد حطمت في غرفة جدتي كل مقتنياتها العزيزة ولكني تركت لها أحلامها المودعة في صندوق الذكريات والسنوات الطوال من الحب التي عاشتها في ظله لم أحطم منها شيئا.
حيرة
وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته.
استيقظت نفيسة مع الفجر وراحت تسخن العيش وتعد الفطور لزوجها صميدة ثم قصدت إليه فوكزته فتقلب في فراشه بين اليقظة والنوم فما هي إلا الوكزة الثانية كان صاحيا يسأل: ما لك؟ - لا شيء. الشمس طلعت. - وما شأني بها إن طلعت، هل أنا خفير على باب الشمس؟ - والله فايق على الصبح، قم، غير ريقك واذهب إلى المكتب. - المكتب؟ - نعم المكتب، أليس اليوم موعدك مع إسماعيل أفندي لترى حسابك؟ - آه، صحيح، ولكن إسماعيل أفندي لا يذهب إلى المكتب قبل الساعة العاشرة. - وما البأس، انتظره حتى تأخذ حسابك قبل أن يجيء الفلاحون الآخرون ويعطلونك. - يا ستي وماذا ورائي، وما البأس أن يعطلوني وهل سأذهب إلى المحكمة؟ - المحكمة، العفو، لا يا فالح لن تذهب إلى المحكمة ولكن ستذهب إلى البندر. - البندر؟ ماذا أفعل في البندر؟ - ماذا جرى لعقلك؟ ألا تدري ماذا ستفعل في البندر؟ أنا أريد جلبابا وملابس وبنتك تريد أن تجهز، أنسيت؟ لقد واعدنا حسنين أننا سنزوجه منها بعد القطن مباشرة، وابنك علي لا بد أن يذهب للدكتور، لن يعيش إذا تركناه بهذا الحال. - أمن أجل ضعف بسيط يذهب إلى الدكتور؟ - أهذا ضعف بسيط، الولد لا يستطيع أن يمشي خطوتين، وأنت في كل يوم تقول إنك ستأخذه إلى الدكتور بعد القطن، أجننت؟! - هيه وماذا أيضا؟ - وأنت تريد ملابس، الشتاء داخل علينا وليس عندك شيء يدفئك. - والفلوس تكفي لكل هذا؟ - ولماذا لا تكفي؟ أم ترى يكفينا من الساقية نعبرها، تزرع أربعة أفدنة وتشقى طول السنة ثم لا تجد ما يكفي لهذه الأشياء البسيطة، تكفي، لا بد أن تكفي الفلوس. - وإن لم تكف ماذا أفعل بها، أرجعها لإسماعيل أفندي؟ - يا أخي قم وجعت قلبي على الصبح. - وهل هذا صبح؟ - ألا يعجبك؟ - أيعجبك أنت؟ - وما الذي لا يعجبك يا سي صميدة؟ ماذا تغير علينا؟ ألست أنا أنا نفيسة التي حفيت رجلاك لتتزوج مني؟ أصبحت لا أعجبك اليوم، والله عشنا وشفنا. - أنا، أنا حفيت رجلاي؟ - لا أنا، أظن أنا التي خطبتك، هه، انطق. - أعوذ بالله، يا شيخة اتقي الله، ألا تكفين عن النكد أبدا؟! ارحمي، ارحمي، أنا لحم ودم. - والله أعلم لحم فقط، بلا دم، أين الدم عند أب لا يريد أن يعالج ابنه المريض. - أعوذ بالله، أين السم الهاري؟ - على الطبلية، قم ألق حبة ماء على وجهك وتسمم وتوكل على الله. - أتعرفين الله أنت؟ - الحمد لله، أصلي الفرض والسنة، وشريفة ونظيفة ولا يستطيع أحد أن يقول عني كلمة، أما أنت. - نعم، مالي أنا؟ - ألا تعرف، الحشيش قاطع نفسك وكل يوم تجري وراء امرأة وذيلك نجس. - وما شأن الحشيش بالدين؟ - اخرس، وأنت ماذا تفهم في الدين يا ضلالي، قم، وخل لها نهاية. - وإن لم أخل لها نهاية ماذا ستفعلين؟ - هه، سأترك لك المكان لتستريح.
وخرجت نفيسة من الحجرة وقال صميدة: غوري، امرأة نكدة، أهذا صباح يا عالم، الله يقطعك يا نفيسة ويقطع من أشار علي بك، قال تملك فدانين، وصدقت، وكنت عبيطا مجنونا، الفدادين تملكها أمها، أم ممسكة حريصة، بلغت التسعين وترفض أن تموت، قال تملك فدانين صدقت، وحسبت الأم ستموت عن قريب ولكن الظاهر - والله أعلم - أننا جميعا سنموت وستظل أمها بهانة على ظهر الدنيا تملك الفدانين وتخرج لنا لسانها ونحن في الآخرة.
وقبل أن يكمل دخل إلى الحجرة ابنه علي، ضعيفا هزيلا لا يكاد يقيم مشيته. واستقبله الأب باشا أول الأمر ولكنه ما لبث أن قطب جبينه وأحس قلبه كأنما تعتصره يد شديدة البأس قوية: مالك يا علي؟
وصمت علي وعاد الأب يقول: لا والله يا ابني إنك مريض فعلا، يا نفيسة. وجاءه صوت امرأته ثم ما لبثت أن تبعت صوتها إلى الحجرة: مالك، ماذا تريد؟ - جهزي علي، سآخذه إلى الدكتور اليوم. - أزغرد لك. - الولد مريض جدا. - ألم أقل لك؟ إنه لا يأكل شيئا مطلقا. - جهزيه.
وخرج صميدة إلى الطريق وما لبث ذهنه أن ترك مرض علي وفكر في زوجته هذه التي تأبى إلا أن تصب عليه السخط في كل يوم، ثم عاد يفكر فيما ينتظره من حساب عند الكاتب، ماذا سيدفع لهذا الكاتب في عامه هذا، ترى ماذا سيبقى له، إنه يزرع أربعة أفدنة إن بقي له أقل من مائة جنيه فلا شك أن الكاتب سرقه، مائة جنيه على الأقل، ماذا أفعل بالمائة جنيه؟ أولا أهيص الليلة، أذهب إلى عبد الباقي أبو سليمان وأشتري نصف قرش، لا بل قرشا، أنا لم أدخن قرشا في حياتي أبدا، سأدخن الليلة قرشا، وسأمر بطبيعة الحال على فهيمة العضلة وسأجدها واقفة بباب بيتها كعادتها وقد شمرت عن ذراعين ينسكب عليهما ضوء المصباح فهما في لون العسل النحل ذي الشمع الصافي، ويلي من ذراعيها، لماذا لم أتزوجها، الفدانان، قطع الله من أشار علي بها وبالفدانين.
كانت فهيمة أولى، جمال كجمال الصور في الجرائد، ترى هل الحور العين في الجنة سيكن في جمال فهيمة؟ وأنا من يوصلني إلى الجنة؟ أنا عاص، أمن أجل الحشيش، إنما الخمر والميسر، الخمر، الخمر، وما صلة الخمر بالحشيش، كل مسكر خمر، كلام مشايخ، وهم ألا يشربون الحشيش، إنهم كالأطباء يحرمون الدخان ويشربون مائة سيجارة في اليوم، يهيأ لي أن المشايخ ضمنوا الدخول إلى الجنة فهم يفعلون ما يريدون، وما لهم لا يضمنون الدخول إليها وهم يرشدون الناس إلى الصراط المستقيم، أهم يرشدون؟
وقطع عليه تفكيره صوت فتوح البرموني وهو يقول له: صباح الخير يا صميدة. - صباح الخير يا فتوح، هل جاء إسماعيل أفندي إلى المكتب؟ - نعم. - أكنت هناك؟ - نعم. - هل تحاسبت؟ - أنا غلطان يا صميدة. - لماذا؟ - لأني قلت لك صباح الخير. - لماذا، ماذا فعلت لك؟ - مائة سؤال، يا رجل حرام عليك، ألا تعرف كيف يكون الحال بعد الحساب؟ - آه، والله لك الحق، سلام عليكم. - وعليكم السلام.
وفي عزمة القادم على الخطير من الأمر حث صميدة أقدامه أن تسرع فأسرعت ودخل إلى إسماعيل، وكأنه يهاجم قلعة عصية الأبواب وقال في زئير مضطرب بعض الشيء: السلام عليكم.
ونظر إليه إسماعيل أفندي طويلا، طويلا، وكلما طالت النظرة من إسماعيل خمدت الحدة من صميدة حتى إذا أجاب إسماعيل أفندي: وعليكم السلام.
في صوت يجمع إلى السخرية عدم المبالاة والهزء. كان صميدة وقد أصبح أقرب إلى الخوف منه إلى اعتدال المزاج أو الجرأة لا قدر الله.
فإن إسماعيل أفندي هذا على كل شيء قدير، وقال صميدة في صوت أصابه كثير من التخاذل: هل حسابي جاهز يا إسماعيل بك؟
وقال إسماعيل أفندي في صوته الساخر لا يزال: نعم يا خلف الحبايب.
وحاول صميدة أن يستمد من مزاح إسماعيل أفندي بعض الشجاعة فقال في صوت يتأرجح بين الرهبة والجرأة: تشكر، كم بقي لي؟
وأمسك إسماعيل أفندي بدفتره الكبير وراح يردد: صميدة عبد التواب، صميدة عبد التواب، ها هو ذا يا سيدي، جملة ما له مليم خمسمائة وجنيه مائتان وستة عشر جنيها.
وحينئذ صفق قلب صميدة من الفرح، ثروة، إذن فسيدخن قرشين من الحشيش، قرشين وإن فقد الوعي بعدها سنة بأكملها.
وتابع إسماعيل قراءة الحساب: منه يا سيدي منه، منه، أربعون جنيها قسط شراء، وستة وستون جنيها وأربعمائة مليم إيجار، وأربعون جنيها وسبعون مليما كيماوي، وثمانية جنيهات خفر، وثمانية جنيهات ري، وثمانية جنيهات مقابل استخدام آلات، وسبعة جنيهات مقابل إدارة: المجموع يا سيدي مائة وسبعون جنيها، وأربعمائة وسبعون مليما.
وسقط صميدة مشدوها هلعا على الكرسي. - ماذا!
ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي تابع حسابه: يكون مجموع ما بقي له يا سيد، تسعة وعشرون جنيها وثلاثون مليما.
وعاد صميدة يقول في لهفة: ماذا؟
ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي قال: انتظر.
ثم أخذ يهمهم بالأرقام همهمة لا تكاد تفصح ثم قال: تمام تسعة وعشرون جنيها وثلاثون مليما. - سنة أسود من الحبر يا أولاد، كم يا إسماعيل أفندي، كم؟
كشر إسماعيل أفندي عن أنيابه في غضبة مستأسدة: ما سمعت، إن كان هذا جميعه من أجل الجنيه الذي آخذه منك كل سنة فلا داعي له. - وتريد جنيها أيضا يا إسماعيل أفندي. - أنت حر، وعلى كل حال السنوات القادمة أكثر من الفائتة، لا تغضب في السنة القادمة إن جعلت غيرك يقدم عليك في الري أو أخرت عنك الكيماوي أو إذا ... وقاطعه صميدة: وتريد جنيها أيضا يا إسماعيل أفندي.
وقال إسماعيل أفندي في جراءة وعدم مبالاة: يا أخي قلت لك أنت حر، قم، قم. - أمرك يا إسماعيل أفندي، أمرك، خذ الجنيه يا إسماعيل أفندي. - لا أبدا، لا لزوم له. - أنا غلطان يا إسماعيل أفندي. - أبدا، لماذا؟ - هات رأسك، أبوسها. - لا، لا، أنا لست بزعلان، خذ، هذه هي نقودك. - وهذا هو جنيهك، لا تكن غضبان يا إسماعيل أفندي، سلام عليكم.
وقال إسماعيل أفندي بلهجته الساخرة الهازئة: وعليكم السلام يا سيدي ورحمة الله وبركاته.
وخرج صميدة إلى الطريق، أهذه هي نتيجة الشقاء لمدة عام بأكمله، ماذا أفعل الآن، أظن الولد هو أهم شيء الآن، الولد، مسكين علي.
وقصد صميدة إلى بيته وصحب ابنه إلى البندر.
وفجأه الطبيب هناك بأن الطفل مريض بالزائدة الدودية ولا بد أن تجرى له عملية لاستئصالها. - وكم تكلف هذه العملية؟ - عشرة جنيهات.
ولم يزد: حمل ابنه على كتفه ولم يشتر شيئا مما أرادته زوجه أن يشتري وعاد إلى القرية، ماذا سيفعل، عشرة جنيهات، للعملية وجهاز البنت، هذه هي السنة الثالثة في خطبتها، كيف يؤخر زواجها بعد الآن؟ لقد قبض مهرا ثلاثين جنيها لا بد أن يقدم جهازا بأربعين جنيها على الأقل، من أين لي بالأربعين جنيها؟ ونفيسة تريد ملابس وأنا أريد ملابس، ماذا سأفعل بهذا المبلغ؟
سار يفكر تقوده قدماه إلى حيث لا يدري له مقصدا أو إلى حيث تحدد رغبة خفية اتجاهه ومقصده، كان يقصد بيت عبد الباقي، وقبل أن يبلغه تصدت له فهيمة وهي تقول: ماذا بك يا صميدة؟
وصحا صميدة على صوت فهيمة فإذا هو ينفض عن نفسه كل ما هي فيه من حيرة: لا شيء يا فهيمة، لا شيء. - لماذا لا تزور؟ - أنا خدام. - تعال. - أشتري نصف، أشتري قرشا من عبد الباقي وأجيء حالا. - وأنا ألهب الفحم في انتظارك.
وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته؛ فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته، وما هي إلا أنفاس قلائل حتى قال: فهيمة، أتتزوجينني؟ - وكم تدفع مهرا؟ - وكم يرضيك؟ - ثلاثون جنيها. - لا أملك إلا خمسة وعشرين. - لأجل خاطرك، لقد كنت عزمت بعد المرحوم ألا أتزوج أبدا. ولكن أنت، أنت، لا أستطيع أن أرفض لك أمرا. - متى نتزوج؟ - متى تشاء. - الآن. - الآن.
وجاء المأذون وخرج، واطمأن صميدة بعد حيرة؛ فلم يعد يحاول أن يفكر كيف سيواجه المطالب المتزاحمة حوله، لقد انتهت حيرته، لا لم يعد حائرا، لم يعد حائرا على الإطلاق.
زواج
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم.
حلوة هي، كالأمل، كالموعد وقد حققه اللقاء، كالنشوة وقد عربدت، حلوة كالقلب السكران، كالفكرة الحالمة، كالذكريات المأنوسة الهانئة، عينان ساجيتان فيهما إلى الحب دعوة وفيهما العفة المنيعة، وشعر منسرح كآمال الشباب، وفم دقيق ذو تعبير يختلط بين الدعوة والتمنع؛ فما يدري من يراها والابتسامة وامضة عن شفتيها ماذا تقول؟ ولا يجد من يراها بدا من أن يبتسم ثم يقف الأمر به عند الابتسام يردعه جمالها وابتسامتها أن يزيد.
نشأت بين إخوة من الذكور فالبيت لا عمل له إلا أن يتقصى رغباتها فيحققها؛ فمطلبها أمر قبل أن تبين عنه، إنما هي الإشارة العابرة أو التلميح البعيد؛ فإذا ما أرادت فقد تم، وكان للذكور أصحاب وكان للعائلة أقارب، ولكن الجميع كان يقف منها موقف المكبر المعجب، ولم يستطع أحد أن يقف منها موقف المحب، والشباب يعدو إلى الفتيات في خطى واسعة فيلتهم سنوات الطفولة التهاما، فما أسرع ما كبرت هبة، وما أسرع ما أخذت أمها ثم أبوها يتلفتان حولهما عن العريس الذي يصلح لها، ثم ما أسرع ما أصبحا يتلفتان عن أي عريس، ولكن السنين ثقال بطيئات، وجمال هبة الصارخ يقف دون الشباب أن يتقدموا؛ فكأنما هذا الجمال سياج حولها لا يرى أحد من الشباب نفسه أهلا أن يعدوه إليها، كان الأقارب والأصحاب ينظرون إليها وكأنها في مستشرف رفيع لا سبيل أن يرقى إليه واحد منهم.
وتستطيع هبة أن تطلب إلى أبيها ما تشاء. ويستطيع أبوها أن يقدم إليها ما تصبو إليه لكنها أبدا لا تستطيع أن تقول كبرت ولا يستطيع أبوها أن يجيب إشارتها إن هي قالت.
فكانت هبة تنظر إلى الأيام نظرة واجفة هالعة، ماذا لها في مطوي الغيب، أين تلقي بها خوافي المستقبل، أتراها تصبح ...؟ لا، إنها لا تطيق أن تنطق الكلمة، أتصبح عانسا، ويلي! أهذا الجمال كله لا يجد من يقدره، كيف؟ إنها لا تنسى النظرات الحافلة بالإعجاب والإكبار وهي تحيط بها، يأتي إلى البيت أقرباؤها ويأتي أصدقاء كثيرون ويأتي ويأتي إلى البيت ابن عمها مسعود.
وكلهم، كلهم يرنو إليها في إكبار ذاهل، أما مسعود، مسعود، فإنه يتطلع إليها أملا بعيد المنال، ولكن الأمر يقف به عند هذا التطلع لا يزيد، منذ هما طفلان ونظرته لا تتغير، وها هو هذا يسعى في حياته سعيا حثيثا موفقا وينال شهادته، ثم يلقي إلى الحياة آماله فتستجيب له الحياة استجابتها الباسمة، ويصبح مسعود ذا شأن، ولكنه مع ذلك يخشى أن يتقدم لخطبة ابنة عمه؛ فجمالها أعظم من أن يرضى به زوجا، ولا يحس مسعود بهذا الموقف الضنك الذي هيأه جمالها لها. والأب يرى زيارات ابن أخيه ويرى نظراته الوالهة المحبة، ثم يرى إحجامه وصمته، ويمسك به كبر الأب أن يشجعه، والأم ترى ما يراه الأب ويمسك بها خوفها من زوجها أن تصطنع ما تصطنعه الأمهات من تشجيع الخطيب أن يخطب بناتهن، ولكن الأيام تمر والابنة تكبر، والسنون إذا مرت بالبنات الناهدات فهي قلق وذعر، والأوقات كالحة والتفكير هلع، حتى المرآة لم تعد تستطيع أن تمنح هبة ما كانت تمنحه لها من فرح وطمأنينة، بل إن خوفها يزداد كلما شاهدت جمالها. وهي ترى مسعودا وقد كانت تراه منذ هما طفلان ولم يكن يزيد عندها عن فتى مثل كل الفتيان الذين يقفون حول سياج جمالها وقفة العباد أمام الوثن. ولو لم تمر بها السنون القلقة لكان مسعود هذا أبعد ما يكون عن تفكيرها وآمالها؛ فقد كان لها من أصدقاء إخوتها ومن أقاربها من لا يقارن بمسعود في لباقته وذكائه أو قوة شخصيته. أما مسعود، فما هو إلا تلميذ يحسن أن يذاكر دروسه، ويحسن أن ينجح في الامتحان، ثم هو لا يحسن بعد هذا من الحياة شيئا. وحين أفلح مسعود في الحياة لم يكن الأمر عندها يعدو أن فتى من أقاربها أطاع رئيسه فأحسن رئيسه إليه بأن رقاه، وأصبح الأقارب يتحادثون عن ذكائه وعن تقدمه ولم تستطع يوما أن تتصور أن مسعودا يستطيع أن يؤدي عملا يتسم ببعض ذكاء أو ببعض لماحية أو بعض فهم، إنما هو مرءوس يحسن إطاعة الرؤساء، أو رئيس يحسن تنفيذ ما رسمه له رؤساء آخرون، وهكذا لم تستطع أن تجاري أقاربها في إعجابهم بمسعود، ولكنها مع ذلك لا تمنع نفسها أن تفرح بهذه النظرة الذاهلة الدالة على الإعجاب الشديد، والإكبار المأخوذ الذاهل التي تعلقت بأهداب مسعود منذ هما طفلان حتى سعت بهما الأيام هذا السعي الحثيث؛ فجعلت منها فتاة تكاد تصبح عانسا، وجعلت منه فتى ناجحا يلهج بنجاحه الأقارب والأصدقاء.
وتمر الأيام ويوشك الأب أن يتنازل عن كبريائه، وتجد الأم أن خوفها على مستقبل ابنتها أعظم من خوفها غضب زوجها، فما إن يأتي مسعود لزيارتها حتى تعمل على أن تختلي به وتلقي الحديث وكأنها لا تقصد ما يرمي إليه: ماذا جرى يا مسعود يا ابني؟ - ماذا يا أبلتي؟ - ألا تلاحظ أنك كبرت؟ - نعم، أعرف. - وماذا تنتظر.
وفهم مسعود ما تقصد إليه أو كاد، ولكنه قال في تظاهر شديد بالغباء ماذا أنتظر في ماذا؟ وأطلقت الست أم هبة تنهيدة عاجبة طويلة ثم قالت بعد أن مصت شفتيها: ألا تعرف؟
وكأنما ألصقت هذه الحركات ابتسامة على شفتي مسعود؛ فهو يبتسم في تخابث ساذج وتقول: يا بني الشيء لا يخجل من أوانه، لا بد أن تتزوج يا مسعود. وظل مسعود رانيا إلى أبلته في دهشة وقد اضطرمت في نفسه آمال عريضة كانت تراود نفسه في يأس باهت متخاذل، ويكاد الآن يراها حقيقة يخشى أن يصدقها، ثم تعود إلى خذلانه فيصبح يومه شرا من أمسه وغده أشد قتاما من ماضيه؛ فإن الآمال مهما تكن واهنة بعيدة التحقيق أحلى مذاقا من مرارة اليأس، ويوشك أن يقول فيخذله لسانه أن يقول وتعينه زوجة عمه: ألف يتمنى كلمة منك يا مسعود، وافق أنت ولا شأن لك.
ويقول مسعود ذاهلا: ألف يتمنى أن يزوجني؟! - أنت لا تعرف حقيقة مكانتك يا مسعود. - إذن فأنا أتمنى ...
وعاده الخوف فأرتج عليه وعادت زوجة عمه إلى إسعافه. - قل، قل ماذا تتمنى ولا شأن لك، اترك الباقي لي أنا، واستجمع وقال في سرعة من يخشى ألا يكمل جملته: أتمنى أن أتزوج ...
وأشرقت الابتسامة في وجه أم هبة وهي تطلق: هه.
وقال مسعود: هبة.
وسارعت الأم تقول: فهي لك.
وألجمت مسعود الفرحة فصمت حينا ثم قال: لا.
وعاد الذعر إلى الأم: ماذا، ألا تريدها؟ - بل أريدها. - فهي لك. - لا، لا أريدها هكذا. - وكيف تريدها إذن؟ - إذا قبلت أنت أن تزوجيها لي فمعنى هذا أنك أنت ترضين عني، أو أنك ترضين عن الوظيفة التي أشغلها والمرتب الذي أناله وأنا أريد أن ترضى هي، وأن ترضى برغبتها الخالصة دون أي تأثير منك أو من عمي.
وعادت الإشراقة إلى نفس الست؛ فقد كانت تدرك ما تعانيه ابنتها من مخاوف.
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم الخجول، والمحب الواله الذاهل إذا نظر إليها. ما الزواج من رجل لم تره إلا فاغرا فاه من الدهش، والفم الفاغر لا ينطق فهو لا ينطق، أتراه يتضح عن رجل يجيد فن الحياة كما يجيد أن يفرج شفتيه، وكما يجيد أن يطيع الرؤساء وينفذ أوامرهم؟ أتراه، يحسن من الحياة ما يحسن من الوظيفة؟!
وأقبل مسعود على الزواج إقبالة مذهول أيضا؛ فقد كانت الآمال - إن شاءت هذه الآمال أن تبلغ به أقصى غاياتها - تهيئ له أنه يستطيع أن ينال من هبة نظرة رضا. أما أن تهب له ابتسامة عطف أو حتى ابتسامة بغير عطف أما هذه فإن آماله لم تجرؤ أن تصل إليها، ولكنه اليوم ينال هبة بجميعها بابتساماتها بل بقبلاتها، ماذا؟ نعم بقبلاتها بل بكل شيء بل والأعجب من هذا أنها لا تستطيع أن تمنح إنسانا آخر في العالم ما تمنحه له من نفسها، ولا استثناء من هذه القاعدة. لا ينال إنسان آخر في العالم ما يناله هو من هبة، لماذا، ماذا أنا، وماذا أصبحت حتى أنال كل هذا الهناء، أتراها تحبني أم أنها ...؟ أم أنها ماذا؟ ما الذي يجعلها تقبلني زوجا إن لم تكن تحبني أتحبني، وما لي لا أسألها؟ عجيب أمر الناس. أتراها ستقول لي أكرهك إن كانت تكرهني، وإن كانت تكرهني وكانت عندها الشجاعة التي تقول لي أكرهك أتراني أصدقها؟ سأقول لنفسي حينئذ، لا، إنما هي تريد أن تلهب حبي لها ولا يمكن أن تكرهني؛ فإن أحدا لا يصدق أن من يحبها تكرهه، وترى هل أصدقها إن قالت إنها تحبني، أتراني إذا خلوت إلى نفسي أصدق من أعماق قلبي أنها تحبني؟! عجيب أمر نفسي هذه، كثيرة الشكوك لا تصدق ما يحلو لها، ولا تصدق ما يسوءها، دائمة الحيرة عديمة الاطمئنان ثائرة متقلبة. وكيف لها أن ترضى أو تطمئن وهي لا تدري ماذا يرضيها، وهي لا تدري أين الحقيقة في مشاعر من تحب، بل هي لا تدري إن كانت تريد هذه الحقيقة أم لا تريدها، فما كنت لأسعى إلى معرفة الحقيقة لو أن معرفتي هذه ستنتهي بي إلى أن هبة لا تحبني، أنا لا أريد حقيقة المشاعر؛ فالمشاعر لا سبيل لي إليها، وإن كان هناك سبيل فأنا لا أريده، أنا أريد الواقع دون الباعث إليه، أريد ما أراه أمامي ولا أريد أن أعرف لماذا يحصل. ما لي وللنفوس وما تخفيه، إنها أحراش وغابات تستخفي بين شعابها الكثة وحوش أشد ضراوة وفتكا من وحوش الغابات والأحراش، ما لي وللنفس وما تخفيه، إن هبة زوجتي ويكفيني منها أنها زوجتي، ويكفيني من الحياة أنني زوجها.
وفي اندفاعة محمومة هالعة استبق مسعود الأيام ليتم الزواج، فما هو إلا بعض زمن حتى كانت هبة ومسعود في بيت واحد، ولم يستطع مسعود على رغم ما ناقش به نفسه من كذب وصدق، لم يستطع إلا أن يسأل هبة: هبة، هل تحبينني؟ - لقد تزوجتك. - ليس هذا جواب سؤالي. - بل إن سؤالك لن يجاب بأبلغ من هذا. - قد تتزوجينني دون حب. - لو كنت نشأت في بيت غير بيت أبي لجاز لك أن تقول هذا. - لا أفهم. - أنت تعرف أن أبي لا يمكن أن يفعل شيئا لا أرضى عنه فكيف يزوجني دون رضائي؟ - قد ترضين أن تتزوجي مني ولا تستطيعين أن تحبيني. - هراء، إن الزواج أشد قوة من الحب. - فأنت لا تدرين الحب، أنا أحبك حبا لا أجد شيئا في العالم أقوى منه. - بل إنك أنت الذي لا تعرف الحب، إنني حين أقبلك زوجا أضع حياتي وحياة أولادي كلها أمانة بين يديك وليس في العالم حب أقوى من هذا. - إذن فأنت ... - لقد تزوجتك، أليس كذلك؟
ولم تكن هبة كاذبة فيما ظهرت به من حب؛ فهي منذ تزوجت مسعودا وهي تقنع نفسها أنها تحبه، ولما كانت نفسها ذات إباء وكبرياء فقد سرعان ما صدقت أنها تحبه، بل إنها زادت فاقتنعت أنها تحبه منذ هما طفلان، وهكذا اطمأنت هبة أنها لم تتزوج زيجة ملهوفة تخشى أن يفوتها القطار فهي تتعلق بالعربة الأخيرة منه، وإنما هي تتزوج زواجا تقوم أسسه على الحب، وأنها إنما تستقل من القطار أوفى عرباته راحة تصعد إليها في لا عجلة لاهفة ولا اندفاعة طائشة هالعة، إنها تصعد مطمئنة الخطوات على ريث من أمرها وتدبر هادئ مستريح. فهي إذن تحبه وهي لأنها تحبه تتزوج منه، اقتنعت ومر عام، بل لم يكد عام أن يمر، ودخلت هبة إلى زوجها حجرة مكتبه وعلى كتفها طفلهما الأول سعيد وقالت هبة وهي تغالب الدموع أن تنفجر من عينيها: هل أستطيع أن أكلمك؟
ودون أن يرفع رأسه عما يقرأ قال: تفضلي. - تذكر يوم زواجنا؟
فقاطعها: لا زلت تذكرين؟
وقالت في غيظ مكبوت: ليس الوقت طويلا على كل حال. - لقد جاء في أثناء هذا الوقت ولد بأكمله. - نعم، ولكن ليس الوقت طويلا مع ذلك. تذكر أنني قلت لك إنني أضع حياتي وحياة أولادي أمانة بين يديك. - نعم، وها أنت ترين أني أعمل ليل نهار لأوفر لك ولسعيد كل أسباب السعادة. - لقد نسيت أن بين طوايا حياتي هذه التي أودعتها أمانة في يديك كرامتي. إنها أعز ما تضمه حياتي من مقومات. - فلسفة عالية علي. - بل حقيقة إن كنت تجهلها فأنت تجهل الكرامة. - وهل مسست كرامتك؟ - أولا هذه اللهجة التي تكلمني بها. - ما لها؟
وعلا صوتها في غيظ: أنت تعرف ما لها وإلا فأنت تقبل أن يكلمك بها الناس. - لعلي كنت مشغولا، على أنني لم أقصد أن أمس كرامتك، ألمثل هذا ... - لا تكمل. لقد أردت أن أنبهك إلى شيء أخطر من ذلك، أنت تخرج مع سكرتيرتك.
وذهل مسعود وقال في حيرة: مع من، أتتجسسين علي؟ - لا، ولكن أخبارك تصل إلي دون أن أسعى إليها. - وما البأس أن يراني الناس مع سكرتيرتي. - في غير مواعيد العمل. - وفي أي وقت. - تلك هي إذن كرامتي المضاعة، فعليك أن تختار، أن أبقى في البيت أو تبقي على سكرتيرتك. - لا يمكن أن أختار، لا يمكن. - لماذا، ماذا بينكما؟ - إنها زوجتي.
قالها وعادت إلى فمه الانفراجة البلهاء وإلى عينيه النظرة الذاهلة، وحدقت فيه هبة طويلا، ثم احتضنت ابنها وتركت الغرفة، وحاولت، وحاولت كثيرا أن تترك البيت ولكن ذراعي طفلها الواهيتين كانتا تمسكان بها ببيت الأب في عنف جبار لا تطيق التغلب عليه، فهي باقية، باقية.
خطابان
أنت يا صديقي أحببت في مجدك، وأحببت في صورتك التي رسمتها، أحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء.
لم تعرف خطه على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي يكتب لها. وبيد مرتجفة أمسكت الخطاب:
أطويل طريقنا أم قصير؟ إلى أين تقودين خطاي؟ عرفتك منذ عرفتك هوى جامحا وحبا عاصفا، وأفانين من السعادة يشوبها الخوف وألوان من الهناء يخالطها الأسى، فما استمتعت بسعادة ولا خوف ولا هناء ولا أسى مثل هذه المتعة التي ذقتها من نبرة صوتك وفيها الحنين أو نبرته وفيها غضب، أو من عينيك أنظر إليهما فهما واد من الحب الظليل الحار العاصف النضير، ثم أنظر إليهما فهما حينا خوف وهما حينا أسى وهما حينا كل شيء ووميض وابتهال.
إلى أين بنا الطريق، إلى أين؟ أطويل سبيلنا، لكم أرجو أن يطول، أم قصير؟ لكم أخشى أن يقصر.
أنت خائفة، دائما إذا خلوت إلى فكرك وخلصت من فؤادك، تخافين، ثرية أنت باذخة الثراء. وأنا لا أملك إلا هذه الريشة التي أرسم بها، ولكني أكسب منها أموالا طائلة إن لم تصل إلى إيراد ثرائك فهي لا تقل عنه كثيرا. ولكنك مع ذلك خائفة، وتأبين أن تقولي مبعث خوفك ويهيئ لك الوهم أنني لا أعرفه، لماذا يظن الناس دائما أن غيرهم أقل منهم ذكاء؟ إنني أعرف خوفك ومبعثه، بل إني أيضا أمهد لك العذر أن تخافي ويشتد بك الخوف، فقد شاء حظك أو شاء حظي أن يتقدم لخطبتك قبلي إنسان كشفت حقيقة نفسه فإذا هو ولا مطمع له إلا مالك؛ فأنت منذ ذلك اليوم تأبين أن تصدقي أن بين الناس من يحبك لأنك أنت ...
أنت وحدك بلا مال ولا ثراء، مسكينة أنت لكم تنظرين إلى المرآة، ولكم تكذبين ما تقول لك المرآة، أنت جميلة، ألا تدرين أنك جميلة، ألا تدرين، أتذكرين أول يوم رأيتك فيه؟ أتذكرين ماذا فعلنا؟ لم أكن أعرفك وإنما رأيت هذه الوضاءة تشع من حولك فإذا ما حولك جميعا لا شيء إلا أنت، وقد كان ما حولك كثيرا. أضواء باهتة ونساء جئن يشهدن عرض الأزياء فجعلن من أنفسهن معرض أزياء، ومعرض جواهر أيضا، وموسيقى حنون ناعمة ونساء صنعتهن أيد ماهرة صناع يعرضن أنفسهن قبل أن يعرضن أزياء المتاجر، وصخب وتصفيق وضجيج، تلاشى هذا جميعا ولم يبق في عيني إلا أنت، أنت وحدك وجمالك الصاخب عالي الضجيج حلو الرنين عذب الأغاني باهر وهاب. وظللت أرنو إليك فما شهدت من الأزياء أو النساء أو الأضواء شيئا، وحين قارب الحفل الانتهاء كنت أنت وثقت أن عينين من مئات العيون لم ترتفع عنك، وكنت أنا قد بلغت من حيرتي يأسا. فما أدري كيف يتم بيننا اللقاء، لم أكن أريد حينذاك إلا أن يقدمني إليك أحد، وكالغريق في المحيط المترامي الأطراف تمتد إليه يد لا يدري من أين امتدت، جئت أنت، نعم أنت، صوب المائدة التي أجلس عليها، وحملقت، ولكنك كنت ما زلت قادمة إلى المائدة، وحملقت ودارت بذهني احتمالات فيما ستفعلين، أتراك ستثورين في أن ظللت أرنو إليك طوال العرض، أتراك ستصفعين وجهي، أتراك؟ لم يستطع واحد من هذه الاحتمالات أن يمنع الفرحة التي راحت تهز قلبي هزا، فإني سأتعرف بك، ثائرة كنت أو غاضبة لا يهم، المهم أنني سأتعرف إليك، وجئت، ووقفت إلى مائدتي وظللت جالسا أحملق منتظرا هجومك أو منتظرا ما هو أشد من هجومك ولكنك لم تفعلي شيئا من هذا، وإنما مددت يدا طيبة إلى أختي التي كنت قد نسيتها مع ما نسيت من ناس وأشياء، وحينئذ وقفت وقبل أن أعرف اسمك قلت: أتسمحين يا سيدتي أن أرسم لك صورة؟
وكان من الطبيعي أن تنظري إلي نظرتك إلى مجنون، ولم أحفل حينذاك بما تظنين، وإنما كانت لهفتي إلى أن أرسم صورة لك هي كل ما يسيطر علي، خيل إلي أنني لو رسمت صورة لك سجلت قطعة فريدة من إبداع الخالق لا تتكرر ولا يجوز لها أن تتكرر؛ فالعمل الفني إذا ما أعيد سقط عنه جلاله. لم أحفل بما قد يتواثب إلى ذهنك من أفكار، فما رأيك؟ وما ظنك بي أنني مجنون إذا ما قارنته بهذا العمل الفني الكبير الذي أريد أن أسجله، ولا أدري لماذا فكرت في هذه اللحظة العابرة أن حياتي الفنية، بل حياتي متوقفة على لفظة منك. وأدركت أختي الموقف وسارعت: أخي فريد حسني.
ولم تزل عنك دهشتك كلها ولكنك قلت في نغمة حسية الجرس: أهلا وسهلا.
وقالت أختي: طبعا تعرفين أنه رسام.
وابتسمت فما رأيت ابتسامة أحلى مما رأيت على وجهك. - إن لم أكن أعرف فقد عرفني هو وضحكت أختي، ولم أملك أن أضحك، وقلت أنت: أراك متعجلا على أن ترسمني. - الآن قبل اللحظة الأتية. - يا سلام، ولماذا العجلة؟ - أخشى أن تمر الأيام على هذا الجمال. بل أخشى أن تمر الدقائق. وضحكت وضحكت أختي ثم تجهمت أساريرك فجأة وقلت: أتعرف من أنا؟
وقلت وأعتقد أن وجهي كان ساذجا وأنا أقول: أبدا، ولكني لم أعرف لجمالك مثيلا.
وعادت الابتسامة إلى وجهك ثم قلت: أخشى أن يكون هذا غزلا. - أنت تعرفين من أنا؟ - نعم قرأت عنك ورأيت لك بعض الصور. - أتعتقدين أنني أقبل لكرامتي أن أقول ما أقول لمجرد الغزل؟ - إذن ... - أنا يا سيدتي، رسام، رسام رأى وجها لم ير له مثلا من قبل وما يعتقد أنه سيرى له مثيلا من بعد، أنت عندي الآن وجه، مجرد وجه. أنا لا أعرف من أنت ولا يهمني أن أعرف، إنما أعرف هذا الوجه، ولا أريد أن يمر الزمن قبل أن أرسم هذا الجمال فيه، وأنا لا أريد منك إلا رسمك، إنه جمال أراد له الله أن يكون واحة ندية للبشرية العانية، سيدتي أخشى أن يمر الزمن، أي قدر ضئيل من الزمن على هذا الوجه وأنا أريده هو الآن. - أتخشى الزمن إلى هذا الحد؟ - قاس لا يرحم الجمال، لو كان الزمن يعقل لمر بجمالك هذا فتركه دون أن يوقع عليه بغضونه أو يلمس شعرك الزاهي المتكبر بثلجه، ولكن الزمن يمر ولا يعفي أحدا، وأريد أن أرسمك قبل أن يمر.
وارتسمت في عينيك أمواج من الخوف وأمواج من الفرح وازداد بهما الشعاع وقلت: لك أن ترسمني.
أنت لم تعرفي أي أمل حققته بألفاظك القليلة هذه، والتقينا بعد ذلك وكانت صورتك التي كتب عنها النقاد أضعاف ما كتبوا عن صوري جميعا وبلغت من المجد فوق ما كنت أهفو إليه. ولكن شيئا من هذا لم يجعلني أطير بهذين الجناحين اللذين كنت أطير بهما وأنا أرنو إليك في أول لقاء، أو هذين اللذين كنت أطير بهما وأنا جالس إليك، لقد عبدت الله المصور في صورتك، وأحببتك آية من آيات الفن الأسمى الإلهي، أحببتك منحة من السماء وأحببتك أملا لي وأحببتك جمالا لا يطاوله جمال، وحاولت أن أخطبك ولكنك رفضت، لم أكن أتوقع هذا الرفض أبدا، نعم عرفت عن ماضي أيامك هذه الخطبة الفاشلة التي أرادها طامع في مالك، ولكنك تعلمين أني لا أطمع في مالك، أتراك من أجل غلطة واحدة من الزمان تعرضين عن الحياة ومن أجل خطيئة واحدة من رجل ترفضين جميع القاصدين إليك؟ لا أظن.
فمن تستقبل الحياة إن لم تكن أنت؟ وعلى من تقبل الحياة إن لم تقبل عليك أنت؟ أنت في جمالك هذا الشاهق الأبي، وفي شبابك هذا الزاخر بالحياة، اجعلي مني حياتك فأنت كل حياتي.
ولم يعرف خطها على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي تكتب فيها إليه. وبيد مرتجفة أمسك بالخطاب:
لكم تشبه يا صديقي ذلك الفتى الذي تقدم إلى خطبتي طامعا في مالي. لا تجزع، فإنك مثله لا فارق بينكما ولا اختلاف، لقد أحب كل منكما شيئا زائلا مني، أحب هو المال وما أسرع ما يزول المال، وأحببت أنت الجمال وما أسرع ما يزول الجمال. وأنت تعلم وأنت تذكر كم كنت ملهوفا على رسم صورتي قبل أن تمر بي الأيام فتطمس جمال وجهي وتذهب بشعري المتكبر المزهو. أنت شبيه بذلك الفتى كلاكما أحب زائلا. أنت يا صديقي لم تحبني أنا، أنا جميعا بكل شيء في، بروحي وجمالي وفكري وكل ما يكون هذا الكيان الذي أمثله في هذه الحياة، لو أنك يا صديقي أحببتني جميعا إذن لهدأ خاطري واطمأن ولقبلتك زوجا قائلة لنفسي، إن ذهب الجمال بقيت الروح وإن ذهب المال بقي الفكر، ولكنك وا أسفاه، لم تحب إلا جمال وجهي فقط، وما أسرع ما يزول، أجل ما أسرع ما يزول.
أنت يا صديقي أحببت في مجدك وأحببت في صورتك التي رسمتها، وأحببت في رأي النقاد في عملك، ولن يبقى من هذا جميعه شيء، ستجدد مجدك بصورة أخرى وسيقول النقاد عما سوف ترسمه كلاما ينسيك ما قالوه عن صورتي، ولن يبقى مني لك إلا وهم تقف دونه من الأيام سدوف وضباب.
لقد التقى جمال وجهي بريشة الفنان فيك ولن يخلق هذا اللقاء حبا. لو التقت الروح مني بالروح منك، لو التقيت أنا جميعا بك لكنت الآن سعيدة، ولكنت الآن آمنة حين أقول لك إني أقبلك زوجا.
إني يا صديقي قد أحببتك، وقد أحبيت فيك شيئا خالدا، أحببت فنك، وفنك هو روحك، ولكم كنت آمل أن أجد خطابك هذا الذي قرأته والذي أرده إليك يخبرني أن لي عندك ما لك عندي، ولكنك، وهذا ما أحبه فيك، صريح لا تبدي إلا ما تخفي، ولقد وجدتك تحب في شيئا أنا واثقة أنه لن يدوم. فأيام الربيع قصيرة، وهي للمرأة أشد قصرا، فإن جاء الخريف وتلاه الشتاء وبحثت حولي ولم أجدك فوا ضيعتي يوم ذاك، وا ضيعتي! إنني أيها الصديق الحبيب ممن يعدون للشتاء منذ هم بالربيع، ولكم يؤلمني أن أخبرك أنني لن أقبل عرضك هذا؛ فالشتاء وخاصة شتاء المرأة بارد قارس باهت وما أحب أن ألقاه وحدي، لقد نعمت بما نلته منك. وبحسبي هذا من جمالي ذكرى. ولن أقول وداعا، فإنني أحب دائما أن أراك، وسأظل دائما أراك؛ فالصداقة تستطيع أن تمتد إلى كل الفصول، فإلى اللقاء، إلى لقاء دائم.
عودة الزغاريد
وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراهما أو كانت مولية له ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها.
كانت الحاجة زكية لا تترك فرصة دون أن تطالب زوجها الحاج عبد الرحيم العجل بأن يزوج ابنهما مدبولي الذي تجاوز مطالع الشباب والذي ترى أمه أن زواجه قد تأخر.
ولم يكن الشيخ عبد الرحيم يؤجل طلب زوجته عن فقر؛ فهو بحمد الله غني يملك عشرة أفدنة تنتظر الزيادة. وما كان يماطلها عن بخل؛ فهو يحب ابنه أشد الحب ولا يرجو من حياته شيئا إلا أن يسعد ابنه الوحيد هذا، بل إن السبب الحقيقي الذي من أجله لا يريد الشيخ إتمام الزواج هو هذا الحب الذي يكنه لابنه، وقد كانت مطالبة زوجته تزيده إصرارا على التأجيل الذي قد يصل إلى الإحجام، وكيف يقبل على تزويج ولده وهو ينظر إلى أمه هذه العجفاء التي لا يكاد جلدها أن يخفي عظامها. كومة من العظام حاول على السنين الطويلة، الطويلة جدا، أن يكسوها لحما فلم تفلح محاولاته جميعا.
لا يزال الشيخ عبد الرحيم يذكر ذلك اليوم الأغبر الذي أخبره فيه أبوه أنه كبر وأصبح لا بد له من الزواج عملا بالحديث الشريف: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج.» ولم يصبر أبوه حتى يختار هو العروس بل اختيرت له وتم الاتفاق على زواجهما دون أن يراها، ودخل بها، وكانت ليلة أسود من الحبر، كانت عظاما ولم تكن زوجة، وقد كانت أحلامه، كل أحلامه أن يتزوج من امرأة، امرأة ثقيلة الأرداف حتى لا تستطيع حملها، إذا أمسك بذراعها غاصت أصابعه في تجاويف وكهوف من البشرية الحية الطازجة، فإذا زوجته هذه العجفاء الهزيلة، وصبر نفسه وقال قد أستطيع على الأيام أن أسمنها؛ فأنا في تسمين العجول بارع مشهود لي في القرية جميعا. ولكن براعته في تسمين العجول لم تجد شيئا في تسمين الزوجة.
وعاش معها عشرين عاما تزيدها الأعوام هزالا وتزيده هو يأسا وضيقا بالزواج. وقد جعله ينصب نفسه مبشرا ضد الزواج؛ فلا حديث له إلا أن ينفر الشباب من الإقدام على نصف دينهم، وهو لا ينتهي عن ذكر الأيام الحالكة الظلمة التي قضاها في ظل زواج جاف من امرأة ليس فيها من صفات المرأة إلا أن اسمها في دفتر المواليد أنثى.
لم يحقق الزواج إذن من أحلام الشيخ عبد الرحيم شيئا، وإنه يريد ابنه أن يستمتع بحياته ويخشى عليه أن يلقى في الزواج ما لاقاه أبوه من أهوال تطالعه بها الحاجة عزيزة التي ازدادت على الأيام عظاما وازداد وجهها غضونا، وازداد زوجها منها نفورا ولها كرها.
ولم يكن الشيخ يجد شيئا يفرج كربه منذ أيام زواجه الأولى إلا أن يظل ليله يستمع إلى فتيان القرية الذين أصبحوا على الأيام شيوخا مثله وهم يروون مغامراتهم مع نساء، نساء مكتملات لا كومات من العظام كتلك التي يتركها في البيت.
وحديث الرجال في القرية لا ينتهي حول النساء؛ فالأفواه لا تمل من ترديده والآذان لا تمل من سماعه. فكيف إذن بالشيخ عبد الرحيم وهو الرجل الذي يعتبر نفسه غير متزوج.
أما مدبولي ابن الشيخ عبد الرحيم فله في الزواج مذهب آخر؛ فهو يفلح الأرض منذ استطاع أن يمسك الفأس. وقد كان يشاهد فايزة وهي تقدم بالطعام لأبيها صالح أبو عرابي الذي يعمل في حقل الشيخ عبد الرحيم. وكان يعجب بقوامها الفارع وبابتسامتها التي تومض ومضا إذا سمحت للخمار الذي تضعه على نصف وجهها أن يسقط، وكان يتدله بهاتين العينين يشع منهما بريق من الحياة ونشوة من الشباب. وكان يظل رانيا إليها وهي مقبلة ثم يظل رانيا إليها وقد حملت الأواني فارغة وعادت بها فلا يمل النظر، وكانت فايزة تحس بنظراته سواء كانت تراها أو كانت مولية لها ظهرها، كانت تحس النظرات ولا تراها. وكانت تحس معها نشوة تدغدغ فؤادها الغرير، ثم تحس لذعة من الفقر؛ فإن الزواج غير متوقع بينها وبين ابن الشيخ عبد الرحيم الثري القانط من الحياة والكاره للزواج كرها أصبح في مثل شهرة الشيخ نفسه.
وكان مدبولي يعلم أن أباه لن يقبل هذا الزواج؛ فهو يعلم أن أباه لا يحب من النساء إلا المليئات وفايزة في مقاييس أبيه عجفاء لا تصلح للزواج، كما أنه يعرف أن أباه يحب أن يزيد أفدنته العشرة ببضعة أفدنة أخرى تجلبها له زوج ابنه ولن تجلب ابنة صالح أبو عرابي شيئا يزيد هذه الأفدنة، بل هي ولا شك ستكلفه مهرا وليلة زفاف وفما يبتلع قد يصبح مع الأيام عدة أفواه من الأطفال. وهكذا كان مدبولي يدرك أن أباه لن يرحب بهذا الزواج بحال من الأحوال، فلم يجد مناصا من أن يكتم هواه ويتظاهر أمام أبيه أنه يوافقه على رأيه.
وكان من بين أصدقاء الشيخ عبد الرحيم، أحمد أفندي متولي، رجل عاش عمره نصف فلاح ونصف حضري؛ فهو يذهب إلى المدينة كل يوم وللبيت في القرية كل ليلة. وقد تزوج من المدينة وجلب زوجته معه إلى القرية وامتدت صداقات الزوجة بزوجات أصدقاء زوجها، وكانت زكية من بين أولئك الصديقات. وقد استطاع الشيخ عبد الرحيم أن يرى زوجة أحمد أفندي من بعيد، وقد كانت هذه الرؤية البعيدة تكفيه أن يحكم على جمالها فما كان يعنيه من جمالها إلا أنها ذات قوام مليء بل هي تزيد عن القوام المليء؛ فكان يكن لها إعجابا ويكن لزوجها حسدا، وتزداد حسرته بامرأته العجفاء.
وفي يوم قالت زكية لزوجها: يا شيخ عبد الرحيم.
وأجابها في نفوره الذي لا يتغير: ما لك؟ - والدة الست هانم تعيش أنت. - حماة أحمد أفندي؟ - نعم، والمأتم اليوم في البندر، ألا أذهب للعزاء؟ - طبعا، أطلب لك عربة ونذهب معا.
وذهبا، وبينما هما عائدان رأى الشيخ عبد الرحيم في عيني زوجته كلاما يثور بها أن تتحدث فلم يحاول أن يسألها، حتى إذا بلغا المنزل واستقر بهما المقام أو كاد قالت زكية: أما يا شيخ عبد الرحيم ربنا رضي علينا. - خير. - الست هانم لها ابنة أخت لو أصبحت من نصيب مدبولي، وقاطعها الشيخ عبد الرحيم: يا امرأة حطي في عينك حبة ملح، أتذهبين للعزاء فتخطبين لابنك؟ - يا أخي الحي أبقى من الميت، بنت، أما بنت، مال وجمال. - يا امرأة اعقلي. - والله لو رأيتها لعرفت أنني أنا العاقلة، وأمها تتمنى النسب. - ماذا؟ - أمها تتمنى. - هل سألتها؟ - النسوان يفهمن لغة بعضهن بعضا، أخذت منها في الحديث وأعطيت فوجدتها راغبة فينا أشد الرغبة. - في مأتم أمها! - وما له، أمها مريضة من عشرين سنة، أتنتظر أن تظل البنت عانسا لأن ستها ماتت عن مائة سنة؟! يا أخي أرجو أن نعيش مثل عمرها، أو حتى أقل بثلاثين سنة. المهم أن أم البنت ...
ويقاطعها الشيخ عبد الرحيم: خطبت البنت من أمها في مأتم أم أمها.
وقالت زكية في حزم: نعم، وقبلت، لو رأيتها تعذرني، عود يا شيخ عبد الرحيم.
وقال الشيخ عبد الرحيم في سرعة: هيه، رفيعة. - العفو عود، عود مليء ووجه كالقمر، وأبوها غني. - عرفت الأخبار كلها. - بعد الأربعين نتوكل على الله.
ولم يجب الشيخ عبد الرحيم، ومرت الأيام الأربعون، مرت على الناس جميعا سريعة لا سمة لها ولكنها مرت في بيت الشيخ عبد الرحيم وهو لا يسمع شيئا إلا عن جمال البنت.
علية وحلاوة علية وعود علية وغنى أبي علية وطيبة أم علية، حتى أصبحت علية داء مستعصيا في لسان زكية وفي أذن الشيخ عبد الرحيم وفي حياته. إنها المرأة حين تريد، وقد أرادت زكية فهيهات أن يعصي الشيخ عبد الرحيم؛ كان بين اثنتين: أن يطيع زوجه أو يذهب واحد منهما إلى مستشفى المجاذيب، ولما كان الرجل لا يريد لنفسه ولا لزوجته هذه النهاية فقد أسلم أمره لله وأطاع زوجته. وكلم أحمد أفندي أن يحدد لهم موعدا عند عديلة، وتحدد الموعد وخرج موكب الشيخ عبد الرحيم ليخطب لابن الشيخ عبد الرحيم.
ولو كنت في القرية يومذاك لرأيت الشيخ عبد الرحيم في عمامته الجديدة وجبته المصنوعة من الجوخ الأخضر وتحتها القفطان الحريري ذو الخطوط الحمراء، ولرأيت الشيخ وقد أفلت ذقنه من الحلاق بعد أن سلخها فهي كالجزرة لولا بعض البودرة التي يعدو عليها العرق فتتناقص.
ولرأيت الست زكية في فستانها الكريب دشين وقد غطته بالمعطف الأسود الحريري واتخذت على رأسها خمارا يدور حول أسفل ذقنها شأن سيدات المدن.
ولرأيت خادمة المنزل في فستان جديد وقد صحبتها الست زكية لتكون مظهر غنى ودلالة سيادة أمام الأصهار، وقد امتنع مدبولي عن الذهاب أول الأمر ولكن أباه تحت وطأة إلحاح أمه أمره فأدخل نفسه في الجلباب الحريري الجديد والمعطف الصوفي الذي وضعه على نفسه على رغم الحر الشديد، وأدخل رأسه في طربوش أحضره له أبوه، وخرج الموكب.
ولم تستطع زكية حين رأت نفسها وزوجها وابنها، والخادمة في العربة ذات الجياد المطهمة لم تستطع أن تملك نفسها فأطلقت زغرودة عريضة تردد صداها في القرية جميعا، ولكنها لم تكتف بها بل ظلت طوال مرور العربة في القرية تطلق الزغاريد، وتفسر لزوجها السبب في كل زغرودة تطلقها، فهذه للحاجة فهيمة حبيبة العمر ولا بد أن تشاركها الفرحة، وهذه لفاطمة العدو اللدود التي كرهتها منذ دخلت القرية، وهذه للحاجة منيرة الحاضنة لتستدعي زغرودتها المشهورة، وهكذا حتى خرجت العربة من القرية.
ولو أنك انتظرت في القرية بضع ساعات لوجدت هذا الركب عائدا كما هو لم يتغير منه شيء أبدا إلا الزغرودة وزكية، كان الركب عائدا بالعربة نفسها وزكية واقفة في العربة وقد رفعت الخمار الذي كان يغطي رأسها وصفحتي وجهها وأمسكت به بيديها كلتيهما وراحت تحركه ذهابا وجيئة خلف رأسها. ثم راحت في الوقت نفسه ترسل الأصوات النائحة الصارخة والكلمات الفاجعة، يا مصيبتي، يا قلة بختي، يا خيبتي عملتها بيدي، وتقلب عينك في الركب فتجد الجميع لم يغب منهم أحد ولم يمت أحد، بل إنك تجد أيضا السعادة في وجوه الجميع.
لقد ذهب الشيخ عبد الرحيم وخطب علية فعلا، الفرق الوحيد أنه لم يخطبها لابنه مدبولي وإنما خطبها لنفسه، ولعل هذا يفسر لك كل شيء من حزن زكية ونواحها إلى سعادة الآخرين وفرحهم.
فالشيخ عبد الرحيم فرح لأنه حقق أمله آخر الأمر. ومدبولي فرح لأن أباه قبل أن يزوجه فايزة مقابل أن يتزوج هو علية، والخادمة فرحة لأن فرحين سيقامان في المنزل بدلا من فرح واحد.
وجهات نظر
ولم أستطع السكوت، فهاجمتها في عنف، وثبت إلى ذهني الابتسامات التي تومض وتختفي، ووثب إلى ذهني ذلك الرجل الذي يلازمها ولا يتركها، فثرت.
قالت الزوجة: نعم إنه كان يشتري لي كل ما كنت أتمنى أن ألبسه، فساتين ومعاطف من فراء الثعلب ومن فراء أجنة الخراف ذلك الذي نقول عنه الأستراكان شديد الغلاء، ومعاطف من الزبلين والأرمين والفيزون، لا أدري ما هي هذه الأنواع من الفراء، أو أنني على الأقل لم أكن أدريها وإنما لبستها جميعا، وأثرت بها من الإعجاب ما أثرت، بل أثرت بها أيضا الحسد والحقد في نفوس الصديقات وغير الصديقات، وكان يشتري لي المجوهرات والحلي، من الماس واللؤلؤ والزمرد وغير هذا من الأحجار التي يخالها الناس لروعتها صناعية وهي حقيقية بعيدة الجذور والأصول. وكنا نقطن مسكنا إن رآه مخرج السينما لأخرج عنه فيلما وأسماه بيت الأحلام، أثاث من شتى الدول وبيوت الأثاث في العالم أسهمت فيه بأوفى نصيب، وكانت السيارة لا تكمل العام عندنا؛ فهي دائما أحدث طرازا وهي دائما أغلى نوعا.
وأشهد لم يكن زوجي زير نساء، وأستطيع أن أقول عن ثقة إنه لو أحب أن يكون زير نساء لأتاحت له نساء كثيرات - وكثيرات جدا - أن يتحلى بهذا اللقب، ولكنه لم يكن، وقد كان زوجي لا يشرب الخمر إلا في حفلات تضم قوما تصله بهم مصلحة عمل، وكان حينذاك حريصا كل الحرص، خبيرا عميق الخبرة، فإن كان للناس الذين تربطهم به مصلحة ميل إلى الشراب فهو يقدمه لهم إن كانوا في بيته، وهو يطنب في وصف المشروب الذي يقدمه، ويتحدث عنه في إحاطة وعلم ومرونة، وإن كان هؤلاء القوم من الذين يميلون إلى الصلاة وذكر الله والتمثل بآياته، فهو حينئذ يمسك بمسبحة من المرجان الأحمر ذات حلية من خالص الذهب، ثم هو يدير الحديث إلى النحو الذي يستهويهم؛ فيتحدث بالإحاطة والدربة والمرونة نفسها التي يتحدث بها عن الخمر وأنواعها، وإذا أبدى أحد الجالسين إعجابه بالمسبحة نظر إلى هذا المعجب فإن كان ذا مكانة قد تنفعه، عاجل يهدي إليه المسبحة، ويصر على هذا الإهداء، حتى يأخذها المعجب، وإن لم يكن ذا مكانة كبرى استطاع في لباقة أن يلوي الحديث إلى وجهة تبعده عن المسبحة. وكان منظر زوجي طريفا حين يدعو إلى بيته فريقين ممن يرجو لديهم نفعا، أحد الفريقين من هواة الخمر، والفريق الثاني من هواة الدين، فكنت تراه يمسك كأسه بيد، وإحدى مسابحه المرجانية باليد الأخرى، ويدير الحديث على الناحيتين موجها إلى كل فريق الحديث الذي يرضيه.
كانت مصالحه هي كل شيء في حياته، وما كان هذا ليغضبني لولا أنني وجدت نفسي في بيته مصلحة من مصالحه، ووسيلة من وسائله للبلوغ إلى أغراضه؛ فهو لم يقدم لي هدية من حلي أو ملابس إلا وشفعها بجملته الخالدة أحضرت لك هذا لأننا سنتناول العشاء الليلة عند فلان بك، أو فلان باشا.
كان يخيل إلي أنني معرض يضع عليه غناه ليرسل الثقة بما ألبس أو أتحلى به إلى نفوس المتعاملين معه. لم ألبس شيئا غاليا إلا لأعرض على فلان أو فلان من الناس، لم ألبس شيئا له ولم ألبس شيئا لنفسي، ولم ألبس شيئا لأنني أستحقه، ينسى عيد ميلادي وعيد زواجي وأعياد ميلاد أولادنا، ولكنه لا ينسى أبدا أن يحمل لي معطفا أو حلية غالية؛ لأننا سنتناول العشاء أو الغداء في مكان يضم قوما ذوي أهمية.
وكانت حياتي معه أشبه ما تكون بحياة الزائرين الرسميين في البلاد الأجنبية؛ فهو كل صباح يطالعني ببرنامج اليوم من زيارات ومواعيد؛ فأترك بطاقة في بيت فلان، أو ألبي دعوة من فلان، أو أدعو فلانا آخر إلى وليمة، قد يجد الزائر الرسمي ضمن البرنامج فترة يقضيها في حرية ليشاهد معالم المدينة التي يزورها، أما أنا فلم يكن لي هذا الحق، فالبرنامج لا يفوت يوما، والبرنامج كامل لا يترك ساعة، وقد يداخل الزائر اليومي أمل أن تنتهي الزيارة الرسمية ويعود إلى بلاده وحريته أما أنا فلا أمل لي؛ فهو زوجي ومصالحه تزداد كلما تقدمت به الأيام، والبرنامج ثابت لا يتغير فيه إلا الأشخاص.
تقطعت صلتي بالبيت، تقطعت صلتي بالأولاد، وأصبحت جزءا من سيارته، ومعرضا لغناه، ووسيلة لآماله.
ومرضت يوما فاعتذرت عن عدم تنفيذ البرنامج، لازمت سريري وجاء هو من الخارج وسأل أمه عني، فقالت إنني خرجت، ولكنه دخل فوجدني نائمة في السرير فسألني: أين كنت؟ - هنا. - أمي تقول إنك خرجت. - لم يحصل. - أمي لا تكذب. - وأنا لم أخرج.
وشتمني وشتمته، وتركني وخرج، قمت إلى ملابسي فجمعتها وخرجت تاركة الحلي والمعاطف لتنفع زوجته القادمة في الدعوات التي ستلبيها.
ولم يطل بي الانتظار في بيت أبي فقد جاءت ورقة الطلاق. •••
وقال الزوج: لا أعرف سيدة تملك من الفراء أو الحلي ما كانت تملكه زوجتي، لم أقدم إليها إلا أغلى الأشياء وأثمنها. ولم أر يوما ابتسامة شكر على وجهها، لم ترض عن شيء أهديته إليها، لم أر في عينيها تلك السعادة التي طمعت يوما أن أراها في عينيها، لم يكن ينقصها شيء، ولكنها مع ذلك كانت ساخطة دائما مغضبة دائما، لا ترضى ولا تدع لي فرصة أهنأ فيها بالسعادة التي حاولت أن أخلقها في بيتنا بالمال الوافر الذي بذلت في سبيله دمي وأعصابي.
كان الأصدقاء يدعوننا إلى الحفلات فتعتذر بوعكة، أو تدعي المرض، وحين أعود أجدها قد خرجت مع أصدقاء آخرين، وإذا سألتها أين كنت ثارت وغضبت وراحت تصرخ في وجهي؛ فأسكت أو أذهب إلى أمي في غرفتها حتى تنام زوجتي فأعود إلى غرفتي، وكنت أخشى أن أطلقها فأجني على أولادي، وإن كان هذا التفكير في ذاته يحتاج إلى إمعان؛ فهي لم تكن تهتم بالأولاد ولا تعبأ بهم، بل كنت أنا أراقب سيرهم في الدراسة، وأرعى من أمرهم ما لا ترعاه هي، وإن شغلتني الحياة قامت أمي على شأنهم في حدب يفتقدونه في حضن أمهم فلا يجدونه، إلا أنني - مع ذلك - كنت واثقا أن الأم ضرورة للأولاد لا يطيقون عنها غناء؛ فصبرت طالما ألحت أمي أن أقسو أو أطلق، فكنت أتغاضى عن قولها وأصبر؛ فالطلاق في حياة رجال الأعمال فضيحة، وأنا لا أحب أن يلوك الناس اسمي؛ فقد يؤثر هذا على مصالحي وعلى أولادي.
تكرر منها الاعتذار عن الحفلات التي تدعى إليها، وتكرر اعتذاري أنا أيضا بمرضها، وكنت ألمح على الوجوه التي تسمع الاعتذار شبح ابتسامة لا تبدو حتى تفنى، ولكن بعد أن تترك في نفسي هاجسا قوي الوخز ثم لاحظت أنها تلازم مجموعة معينة في خروجها، ولاحظت أن بين هذه المجموعة رجلا في مثل سنها غير متزوج، ولاحظت أن هذا الرجل بالذات هو الذي يأتي بها إلى البيت، ولا يفارق الجماعة حتى تفارقها هي، وداخلني الشك ولكني أبعدته عن نفسي بحرصي على بيتي وسمعتي وسمعة أولادها، أولادي.
وفي يوم ادعت المرض وخرجت إلى عشاء كنت مدعوا إليه عند «...» باشا، وحين رجعت ذهبت إلى أمي أسألها هل زوجتي بخير فأنبأتني أنها لم تعد إلا منذ دقائق، وقصدت حجرة نومنا فوجدتها في السرير. - أين كنت؟ - هنا. - أمي تقول إنك خرجت. - لم يحصل. - أمي لا تكذب. - وأنا لم أخرج.
ولم أستطع السكوت، فهاجمتها في عنف، وثبت إلى ذهني الابتسامات التي تومض وتختفي، ووثب إلى ذهني ذلك الرجل الذي يلازمها ولا يتركها، فثرت، وتركت لها الحجرة لأنام في حجرة أخرى. وفي الصباح كانت قد غادرت البيت تاركة المجوهرات والفراء. وكانت الابتسامات ما تزال تلح على تفكيري، وكانت صورة صديقها ما زالت ماثلة أمام عيني، فطلقتها. •••
وقالت أم الزوج: لم أر رجلا كان يهتم بزوجته مثل ما كان يهتم ابني بزوجته، ولم أر امرأة تقابل الهدايا الثمينة التي يقدمها إليها زوجها بهذا البرود والتعالي اللذين كانت تقابل بهما زوجة ابني هدايا ابني، ومع ذلك لم يكن ابني يكف عن إحضار الهدايا إليها، ولم تكف هي عن برودها وتعاليها ، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان، إلا أنها كانت تهمل أولادها، أولاد ابني، فأقوم أنا على شأنهم، وأرعى أمرهم مع أن صحتي لا تحتمل هذا، ولكن ماذا كنت أفعل وأنا أراهم ضائعين، ولا يهتم بهم أحد أو يراقب مأكلهم وملبسهم إلا الخدم. وانتهى بهم وبي الأمر أنني كنت أقرب إليهم من أمهم، يحبونني أكثر من حبهم لها، ويلجئون إلي في مطالبهم، ولا يلجئون إليها، فما كانوا ليجدوها في البيت لو أرادوا اللجوء إليها.
ولو كانت تصاحب زوجها في الدعوات التي يضطره عمله إلى تلبيتها لسكت؛ فإن ابني من رجال الأعمال الكبار، وأصدقاؤه من الأغنياء ذوي الجاه والسلطان، ولكنها مع ذلك لم تكن تأبه بهؤلاء الأصدقاء العظام، بل كانت تخرج دائما مع أصدقاء لها، لا هم في العير ولا في النفير، ومع ذلك لم أكن أتكلم، وكم، وكم جاءني ابني يشكوها إلي فكنت أقول لا عليك يا ابني إنها زوجتك على كل حال وأم أولادك فاحتملها؛ فيسكت - يا عيني يا ابني - ولا يتكلم.
إلا أنني سمعت من صديقاتي أن همسا يدول حول صلة بين زوجة ابني وبين صديق لها في الجماعة التي تخرج معها دائما. وسمعة النساء هي شرفهن وشرف أزواجهن وأولادهن، ماذا أفعل؟ إن كان ما سمعت صحيحا فهي مصيبة، وإن لم يكن صحيحا فإن هذه أمور الكذب فيها كالصدق، والسمعة هي ألسنة الناس، وما دامت الألسنة تتحرك في الأفواه فالفضيحة واقعة، يستوي في ذلك الكذب والصدق، هل أخبر ابني؟ لم أجرؤ فقد أشفقت عليه أن أفعل. أأطلب إليه أن يطلقها؟ سيسألني لماذا وقد كنت تدافعين عنها.
وجاءت من عند ربنا، عاد يوما من عشاء كان مدعوا إليه، ولم تذهب هي بدعوى المرض، وسألني عند عودته عن صحتها، فأخبرته أنها لم تعد إلا منذ قليل، ولم أكن كاذبة، الحمد لله لقد أصبح ابني سعيدا في بيته، ولم يشعر الأولاد بنقص في حياتهم. •••
أتسألني ما الحق في هذا جميعه؟ وهل أدري؟ وكيف أدري؟ أتستطيع أنت أن تدري؟
أستغفر الله
وبلغت به الجرأة أنه صار يعلق البندقية على كتفه ويطلب البهائم في رائعة النهار، فإذا مقودها في يده ثم ما هي إلا يوم أو بعض يوم حتى تلحق به الفدية.
بكرت الشمس إلى مكانها من السماء فوجدت جماعة من قرية المهدية قد خرجوا من ديارهم وأخذوا سمتهم إلى طريق القرية الرئيسي الذي يؤدي إلى موقف السيارات العامة، وكأن بينهم اتفاقا صامتا على المكان الذي يقصدون؛ فقد ألقى كل منهم إلى الآخر تحية وحاول كل منهم ما وسعه الجهد أن يكسو صوته برنين من الفرح. وساروا طريقهم. كانوا خمسة رجال؛ عبد الصمد الحياني ومسعود عبد الخالق وراضي عبد الرحمن والسيد أبو الليل ومحمد العضل، وكانوا يقصدون إلى السجن ليستقبلوا سعد الله الحياني بعد أن قضى في السجن خمسة عشر عاما لارتكابه جريمة سرقة.
فأما عبد الصمد فهو أبو سعد الله، وأما مسعود وراضي والسعيد أبو الليل فهم أفراد العصابة القديمة، وأما محمد العضل فهو شاب لم يتعد الثانية والعشرين من عمره. أطبق الصمت عليهم بعد أن تبادلوا التحية وذهل كل منهم إلى الماضي والحاضر والمستقبل يفكر فيما كان وما هو كائن، وما يحمله خروج سعد الله من جديد على حياته.
أما عبد الصمد فهو يدعو الله أن يهدي ابنه إلى صراط مستقيم؛ حتى يتيح له الأمن على حياته ومستقبله، وما تلبث الآمال أن ترنو إليه بعين طيبة. خمسة عشر عاما لا شك أنها قد هدت العاصي وأسلست من طباع سعد الله ما كان جامحا، وها قد تهيأ له من الأرض ما يكفيه فلو أنه فلح أرضه لاستغنى عن الليل وما فيه من سرقات مضرجة بالدماء، أكان سعد الله يسرق للمال أم هو حب المخاطرة والتلهف على مديح من معه، والحرص على هذا الخوف يشيعه في كل من حوله من ناس وبلدان، ولكن خمسة عشر عاما قد مضت فأي طريق يا ترى يسير فيه سعد الله؟ وأما مسعود فقد كان يفكر في خروج سعد الله تفكيرا يختلف كل الاختلاف عن تفكير عبد الصمد؛ فقد قضى هذه السنوات يفلح الأرض في غير معرفة بأسرارها فامتنعت الأرض أن تكافئ جهده؛ فهو منذ ذلك الحين في فقر مدقع صاحبه احتقار قوم كانوا يظهرون له الولاء في ظل سعد الله حتى إذا خلوا به بعيدا عن زعيمه أنزلوا به المذلة والهوان، وقد كان يعلم أنه لا يقدر على الليل وحده فهو منذ بدأ حياته فيه تعود أن يكون مقودا غير قائد. وهكذا رضي عن المخاطرة التي تعود عليه بالربح الوافر بكسرة من خبز يغمسها في الزجر العنيف الذي يأخذه به صاحب الأرض متولي العضل، فهو اليوم في فرحة غامرة، لقد عادت أيام المجد أو هي بسبيلها أن تعود، ولينزلن الأهوال بكل هؤلاء الذين اعتدوا على كرامته وليكونن متولي العضل في الطليعة منهم.
وأما راضي عبد الرحمن فهو حائر لا يدري مصيره؛ فهو في هذه السنوات قد أخذ نفسه أن يقوم بالسرقات الصغيرة التي لا تحتاج إلى كثير من شجاعته، وليس يدري اليوم أيستطيع أن يخاطر بحياته مرة أخرى ويشارك سعد الله في مغامراته التي تغلب عليها الجرأة المجنونة التي لا تعبأ بالعواقب؛ فلقد تزوج وأصبح له طفلان وهو يريد لهذين الطفلين أن يجدا أباهما حتى يشتد عودهما ويتمكنا من لقاء الحياة.
وأما السيد أبو الليل فقد تجشم المسير حفاظا على الود القديم، فما عاد له من الليل مأرب فقد أصبح اليوم عجوزا يتوكأ إلى الستين من عمره.
وأما محمد العضل فهو ابن متولي العضل شب منذ وعى الحديث وهو لا يسمع من مسعود حديثا إلا حديث سعد الله وأيام مجده الأول؛ فأحلامه منذ ذلك الحين ومسالك فكره لا موضوع لها إلا سعد الله؛ إن نام رآه وإن صحا تخيله، وإن لعب مع الأطفال كانت اللعبة حوادث سعد الله، إذا سعى به السن إلى الشباب كان سعد الله مثله الأعلى.
وشاءت الأقدار أن يكون محمد العضل ضامر الجسم هزيلا ضئيلا، وأدرك - منذ توقف جسمه عن النمو - ألا سبيل له أن يكون شبيها لسعد الله أو رفيقا له في مغامراته ؛ فالتفت إلى أرض أبيه يزرعها فأتقن زرعها وأخذ يحمل عن مسعود بعض عبئه راضيا أن يكون الثمن حديث مسعود عن سعد الله، فما منعه ضعف جسمه أن يحب سعد الله بل لعل هذا الضعف قد زاده حبا له وإقبالا على الحديث يجري عنه؛ فهو لهذا يتخذ سبيله مع هؤلاء القوم ليرحب بالقادم العزيز ويراه في أول لحظة يتمكن فيها من رؤيته، لا يريد أن تفوته هذه الفرصة التي قضى الأعوام الطوال في انتظارها.
وبلغ القوم السجن والشمس تعلن الظهيرة، ولم يطل بهم الانتظار حتى خرج إليهم سعد الله الحياني. وتعانق الأب وولده ثم فرغ سعد الله إلى أصدقائه حتى إذا بلغ إلى محمد قدمه إليه مسعود بأنه ابن متولي العضل؛ فصافحه وأشار الأب إلى سيارة أجرة قريبة من السجن وركبوا فيها جميعا واتجه الركب إلى القرية. وحين اقتربت السيارة من المهدية وجدوا جماعة كبيرة من الناس منتظرة بظاهر البلدة تعلن فرحها بالطبل والمزمار. وأصر المستقبلون أن ينزل سعد الله من السيارة ويدخل بلدته بين مظاهر الحفاوة هذه التي ينتظرونه بها، وكان ما أرادوا.
وحين استقر بهم المقام في بيت عبد الصمد دار الحديث بعيدا عن السجن وإنما هي أنباء القرية وما جرى فيها. واستمع سعد الله واستمع ولكن سؤالا ما يزال يلح عليه إلحاحا غير هين يريد أن يلقيه ولكنه ينتظر من القوم أن يفصحوا عنه دون سؤال، ولكن الأحاديث تدور والأنباء تلقى إليه واحدا بعد الآخر، وليس عن جواب هذا السؤال كلام. وكأنما دبر القوم مؤامرة صمت فيما يتصل بهذا الموضوع، وطال صبر سعد الله وطال حتى لم يعد يستطيع صمتا: أين عبد الهادي الأكتع؟
وكأنما كان الحديث آلة عظيمة الضجيج أصابها العطب فجأة فهوم الصمت المفاجئ على أجزائها، صمت الجميع ونظر كل منهم إلى الآخر وعاد سعد الله يقول: خير يا جماعة، هل أصابه شيء؟
وعاد الصمت مرة أخرى وعاد سعد الله يقول: لا بد أن شيئا أصابه وأنتم تخفون، لا يمكن أن يتأخر الأكتع عن لقائي.
وكان سعد الله محقا؛ فعبد الهادي رفيق العمر، لعب وسعد الله في الملعب الصغير في ظل الطفولة، ثم كان صديقه الأول ويده اليمنى في مغامراته، لقد صاحب سعد الله حياة الأكتع جميعا، بل لقد شاهد الحادثة التي جعلت اسمه الأكتع. في ذلك اليوم السحيق البعد من تاريخها يوم داست الجاموسة على ذراعه وتناوله حلاق الصحة بما زاده سوءا، حتى إذا أدركه الطبيب أصلح ما أمكنه إصلاحه من الذراع المهشم فظل عبد الهادي بعد ذلك بذراع ينثني ولا يمتد، ولم تكتف القرية بهذا الذي أصابه وإنما أطلقت اسم الأكتع فلازمه وظل يكبر معه ومع الأيام حتى اندثر اسمه الأصلي وهو عبد الهادي أبو جراد. وحين كان سعد الله يمازحه: أراك لم تغضب من قول الناس عنك الأكتع.
فكان يقول في ابتسامة خالية من الغضب: الحقيقة أن اسم الأكتع أحسن عندي من اسمي الأول. فسعد الله محق إذن حين يسأل عن الأكتع ويلح في السؤال، ولم يجد مسعود بدا آخر الأمر من أن يقول: لقد كون عصابة وأصبح رئيسها، وأظنه يخشى أن يجيء حتى لا تجعل منه مساعدا مرة أخرى.
وتصعق القوم دهشة آخذة حين يجدون سعد الله قد انفجر ضاحكا مقهقها لا يتوقف ثم يقول والضحكة ما زالت عالقة بألفاظ حديثه: لا، حد الله بيني وبين هذا، دعوه يأت، فلن يجد عندي ما يخشاه.
ويفرح الأب بهذه الإجابة تدنيه من الأمل الذي طالما داعبه، وتهدأ الحيرة في خاطر راضي ويقول في نفسه بركة يا جامع، ويأخذ الجزع بمجامع مسعود فإنه يرى الأمل الذي عاش له طول هذه الفترة يوشك أن يولي، ولكنه ما يلبث أن يقول لنفسه يطمئنها لعله ينتوي أمرا جليلا لا يصلح له الأكتع وتوشك نفسه أن تصدقه. ويظل محمد العضل حائرا لا يدري ما يقصد إليه سعد الله بهذا الحديث الذي يسوقه.
ويأتي الغداء فهو غداء ضخم فخم يتصدره خروف بأكمله، ويعود الحديث إلى الضجيج يصاحبه ضجيج آخر من مطالب الطاعمين حتى إذا رفعت الأطباق والصواني علا في السماء صوت الأذان فإذا بسعد الله يصاحب كلمات الأذان: الله أكبر، الله أكبر، هيا يا أبي تقدمنا لنصلي العصر.
وبقلب مليء بالفرح تقدم عبد الصمد وخلجات السرور تهز صوته هزا: الله أكبر، الله أكبر.
وانتظمت الصفوف من خلفه ولكن مسعود لا يطيق. لم تعد الأيام القادمة تحمل له من المجد الضائع شيئا فهو ينفتل من باب البيت ويلحق به محمد العضل، أهذا هو سعد الله! ها هو ذا يقيم الصلاة شأن القرية جميعا، لكم غررت به الأحلام.
شاع أمر سعد الله بين الناس، وتسامعت القرى من حوله أنه قد تاب إلى صراط مستقيم وأنه يقيم الصلاة ولا يقبل الحرام، وباركوا منه هذه التوبة وفرح هو بمباركتهم، وسعت به وبهم الأيام، عجيب أمر هؤلاء الناس ما له يرى من كان يحييه خائفا مرحبا قائما غير جالس قد أصبح اليوم يلقاه في يسر وهدوء وجالسا غير قائم؟ أتراه اختار طريقا غير جدير به؟ أين التحايا الهاتفة؟ أين الترحاب المشرق، أين الإجلال والإكبار حيث بدا؟ أين هذا جميعه؟ بل إن بعضهم قد زاد الهوان هوانا فأصبح يطالب بحقه في ري أرضه قبل أن تروى أرض سعد الله، وإن بعضهم ليطالب بالجرن قبل أن يدرس قمح سعد الله، حاول أن يقول «اختشوا» أو «النار لا تأكل حطبها كله.» أو يقول أنا سعد الله، فلا يرى إلا ابتسامة متهافتة ووجها مزورا وحديثا على الشفاه يوشك أن يقول: «كان زمان»، لولا أن تمسك به بقية من خوف أو بقية من ذكرى.
بل إن مسعود لم يعد يأتي إليه فإن مر أحدهما بالآخر فتحية عابرة لا أثر فيها من الماضي الطويل، بل الأدهى من ذلك، محمد العضل الذي أحس في أول لقاء لهما أنه يحمل له إكبارا وتقديسا، هذا المحمد العضل الهزيل الضامر القميء ينظر إليه في سخط وكأن بينهما ثأرا دفينا. هيه يا دنيا، أهكذا، ألا بد لي أن أحمل السلاح الصاخب القاتل حتى أنال التبجيل والاحترام؟ أما يكفي سلاح الإيمان والطيبة؟ والاسم القديم ألا يكفي؟ ألا يكفي؟
تحمل سعد الله هذه الأيام في صبر راض نفسه عليه، لا يبدو منه غير الصمت، ولكنه في دخيلته كان مرجلا يغلي، وكان يحس أنه يصبر فيزيده شعوره بأنه يصبر ثورة على ثورته.
وفي يوم صحا سعد الله من نومه فلقيه من أهله وجوم وصمت، ما لبث أن عرف أسبابه، لقد سرقت البهائم في الليل، جاموسة وثور وبقرة.
لم يكن بين البركان في نفسه وبين أن يثور إلا قشرة رقيقة إن هي انتزعت فهي الثورة الآخذة الماحقة. ولم يكن ما انتزع قشرة. وإنما هي ضربة تغور في أعماق النفس وتغور حتى تصل إلى القاع، هل قدر لسعد الله أن يقبل هذا؟ لا، ودون ذلك الحياة والموت.
لم يتمهل سعد الله فقد طالما تمهل، انطلق إلى مسعود: سلاحك عندك؟ - نعم. - هاته واتبعني.
وانسعر سعد الله الهادئ الطيب ليعود سعد الله الجامح الذي لا يقف به أحد أو شيء، هو النار، قتل الأكتع أول ما قتل واسترد بهائمه، ثم أصبح يقتل الناس ويأخذ بهائمهم، ثم أصبح يأخذها ويردها بعد دفع الفدية عنها، ومحمد العضل يتسمع هذه الأنباء فتعود نفسه إلى إكبارها لسعد الله ويزداد الإكبار ويزداد؛ فقد أصبح يسمع الأحداث ويشهد آثارها، وإنه اليوم ليتقرب إلى سعد الله ولكن سعد الله اليوم يشيح عنه في عزة واستكبار، وعادت القرية تقف لسعد إن لاح ظله أو شبيه لظله من بعيد، وعادت الحياة: تسقى أرض سعد أول ما تسقى. وأصبح الجرن يدرس قمح سعد الله أول ما يدرس، عاد سعد الله على أروع ما يمكن أن يعود.
وبلغت به الجرأة أنه صار يعلق البندقية على كتفه ويطلب البهائم في رائعة النهار فإذا مقودها في يده ثم ما هي إلا يوم أو بعض يوم حتى تلحق به الفدية.
وفي يوم قصد سعد الله إلى حيث يربط محمد العضل بهائمه وطلب إليه البهائم. وذهل العضل؛ فهو لم يفكر يوما أنه سيكون ضحية لسعد الله، إنه يحبه ويعجب به ويقدره على أن تكون الضحايا قوما آخرين، أما هو، إنه لم يتصور هذا في يوم من الأيام، وبفم فاغر من الدهشة وقلب كسير من الحزن أسلمه مقود البهائم، وعاد إلى أبيه يخبره أن سعد الله يطلب خمسين جنيها فدية للجاموسة والبقرة والحمار، وثار أبوه ثم خرج يدبر أمره. لم يهتم العضل بالخمسين جنيها وإنما راعه هذا الذي حدث، إذن فهذه هي البطولة التي كان يحلم بها، إذن فتلك هي آماله وأحلامه ومثله العليا، يا لضيعة عمره، أهذا هو المجد الذي لم يتصوره إلا ويثب اسم سعد الله إلى ذهنه وروحه وقلبه؟!
عادت البهائم بعد أن دفعت الفدية، ولكن نفس سعد الله لم تكن قد شفيت من محمد العضل الذي ظل فترة طويلة يتجاهله، ونفس مسعود أيضا لم تكن قد شفيت من الهوان الذي لقيه خمسة عشر عاما على يد متولي العضل. فما هي إلا أيام قلائل أخرى حتى ذهب سعد الله ومسعود إلى محمد العضل وقد أبى سعد الله أن يصحب أحدا آخر من أفراد عصابته فما كان محمد العضل جديرا بغير اثنين وإنهما لكثير، وحين بلغ الاثنان مكان محمد وجدا إلى جواره رجلين آخرين يرقبان جملين لهما يرتعيان فقال سعد الله: لقد تضاعف الصيد.
ودون أن يكلف نفسه عناء استعمال البندقية المعلقة على كتفه تقدم إلى الرجلين وطلب إليهما أن يسلماه جمليهما ففعلا صامتين. وأمسك مسعود بزمام الجملين وتقدم سعد الله إلى محمد يطلب إليه البهائم ونظر إليه محمد نظرة حسيرة ثائرة، هذا الهوان الذي لا هوان مثله، أمرتين في أيام قلائل؟ أيكون هذا إلا تحديا؟ وقبل أن يجيب؟ بل وقبل أن يمعن التفكير وجد نفسه يرفع الفأس في ثورة مجنونة ويهوي بها على سعد الله، وفي لمحة خاطفة كان واحد من صاحبي الجملين قد هوى على مسعود فجرده من سلاحه ثم انهال عليه ضربا، ولم تمض لحظات حتى كان سعد الله ومسعود خبرا مضى، وجثتين يتولى أمرهما النهر الصغير الذي يروي قرية المهدية فيما يروي.
وأدهش القرية هذا الهدوء الذي ران عليها بضعة أيام، ثم ما لبثت دهشتها أن زالت يوم أعلن موت سعد الله ومسعود، ولكن دهشة أخرى صغيرة كانت تنتظر القرية، لقد أصبح محمد العضل تقيا لا يترك فرضا أو سنة، ولا تني شفتاه عن التمتمة وأصابعه عن تحريك حبات المسبحة. ولو قدر لأحد أن يسمع حديثه إلى الله لما سمع منه إلا أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر ...
طوق حول العنق
وقرأت خطابها على أمين، ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقا يتحقق الأمل؟
وكيف لا يحبها فيبلغ حبها أقصى غايات الحب، وكيف لا تحبه فتفنى فيه وترى الدنيا فلا تراها إلا من خلال عينيه، تلتقي بالحياة فلا تلتقي بها إلا من خلال نفسه.
إنها هواه القديم الجديد، إنها هواه الطفل وهواه الفتى وهواه الشاب، إنها حياته.
وإنه هوى الأيام الخالية من الطفولة وهوى الأحلام الغريرة من الشباب، وإنه هوى المستقبل النشوان الضاحك الجذلان.
تعارفا في المهد وقد جمعت بينهما أخوة تجمع بين أميهما وصداقة تجمع بين أبويهما، وتعارفا في ذلك السجن الصغير من الطفولة، وذلك الملعب الذي تحيط به الأمهات أطفالهن أن تقودهم الخطوات الجاهلة إلى سلم لا يرحم الطفولة، أو تقودهم هذه الخطوات إلى مقتنيات في البيت غالية لا ترحمها الطفولة القاسية، لعبا في ذلك السور الصغير الذي كان يحيط بهما، وما لبث هذا السور أن أصبح حجرة ثم نما معهما فكان فناء ثم نما ونما فكان الحياة.
استقبلاها أول أمرهما لهوا ولعبا ونظرة إلى المستقبل مشرقة الابتسام ونظرة إلى الماضي ندية الحنين. لم يخطبها أبوه ولم تخطبها أمه؛ فقد كان زواجه بها أمرا مقررا معروفا، الكلام الرسمي فيه يضفي على حقيقته وواقعه شكا، وما كان هناك شك كان يعرف أنه سيتزوجها كما يعرف أنه ذاهب إلى كلية الهندسة، وكانت تعرف أنها ستتزوجه كما تعرف أنه لا بد لكل فتاة أن تتزوج.
وفي انتظار انتهائه من كلية الهندسة انتظمت هي في كلية الآداب. وقالت في نفسها سأسبقه في التخرج بعام، ويكفيني هذا العام لأجهز بيت الزوجية.
وفي هذه الشعاعات الحلوة من الأوهام استقبل كل من العروسين الحبيبين حياته في الجامعة، وانطلق كلاهما لاهثا يعدو السنين يدفعه الحب ويجذبه الأمل، فما عرفت كلية الهندسة طالبا انتهب علومها في إقبال ووعي كما كان أمين، وما عرفت كلية الآداب طالبة تقبل على موادها في إشراق وثقة ونجاح كما كانت وفاء.
ومرت السنوات الأربع قصارا باللقاء النشوان، والأمل المزدهر، طوالا بالأيام العصيبة من المذاكرة والساعات المفزعة من الامتحانات. مرت السنوات وتخرجت وفاء في كلية الآداب، وفرغت إلى تجهيز بيتها، وظل أمين يعاني عامه الأخير في كلية الهندسة باذلا أقصى غايات الجهد أن يكون نجاحه خليقا بما يرجوه لنفسه من مستقبل وما يرجوه له حبه من مكان.
ونال أمين شهادته وأصبح معيدا بكلية الهندسة. وكانت وفاء قد انتهت من جهاز البيت. وكانت ليلة أصبح عليها الصباح فإذا الحلم واقع، وإذا آمال السنين كلها حقيقة يعيشها كلاهما بكل نبضة سعيدة من قلبه وبكل خلجة فرحانة من دمائه.
اجتمعت السنون الماضية جميعها والآمال التي كانت آمالا، والوعود التي كانت وعودا، والأحلام التي طالما طافت بعيونهما الوسنانة الهائمة الراضية الآمنة، اجتمعت جميعها فإذا السعادة بعض من أيامها، وإذا الحياة وقد طالعتهما بأيام صافية هي الحلم وهي الأمل وهي الواقع.
وكانت كلية الهندسة قد رشحته لبعثة إلى إنجلترا، وما هي إلا أشهر قلائل حتى تقررت هذه البعثة، وقرر هو وهي أن يذهبا معا فتدرس هي في الآداب، ويدرس هو في الهندسة ويرجع كلاهما يحمل شهادة الدكتوراه.
وهكذا شاءت الحياة أن تشغلهما بالبعثة عن الملالة التي يجدها السعيد من السعادة؛ فانطلق كل منهما يجهز لها في انشغالة فرحان يجتمعان عند الليل، أو يتواعدان على لقاء في المحال لهيفا كلاهما أن يفرغا من الشراء قبل يوم السفر.
وكان يوم، طلبها بالتليفون واتفقا على لقاء، وهناك التقيا وفي يدها الورقة التي كتبا بها ما يحتاجان إليه.
وقال أمين: هل ما زالت أمامنا أشياء كثيرة؟ - أوشكنا ننتهي. - أين تريدين أن نذهب أولا؟ - نذهب إلى الترزي؛ فاليوم موعد البروفة. - آه فعلا، ولكن أخشى أن يعطلنا. - لا تخف. - لنذهب أولا للشراء ثم نذهب إليه قبل الرواح. - ما تشاء.
ولم يذهب أمين ووفاء إلى الترزي، بل ولم يذهبا للشراء وإنما قادته إلى سيارة للأجرة أنزلتهما عند باب البيت وقادت خطواته إلى حجرة نومه. ملهوفة جازعة فما استقر بها المقام حتى كانت يدها على التليفون تستدعى كل من تعرفه من الأطباء.
عمى، عمى كامل، ولا أمل في الإبصار. لم تكن عبثا هذه السعادة الطويلة؛ فقد كانت الأيام حبالى عن مستقبل شائه أسود مقيت، عمى، وهو المهندس، ماذا يصلح للدنيا بعد اليوم، لا شيء، إلا هذا الكرسي وذلك الفراش وذلك الطعام الذي يلقى في جوفه لا يعرف لونه إلا بالذكرى، لا شيء إلا آلة خربة تدور واقفة فلا تغني فإنها لا تغني إلا إذا تحركت ورأت، لا شيء إلا ظلام يراه وظلام في مستقبله، لا شيء.
أيعمى أمين، زوجي؟ فديته، بعيني، بحياتي وبأغلى من العين والحياة إن كان هناك أغلى من العين والحياة.
وهل ينفع الأسى أو ينفع الفداء؟ هيهات.
مرت الأيام سوداء قاتمة السواد، لا وميض فيها من الأمل إلا هذه الخطابات التي راح أمين يمليها على زوجته إلى جميع الأطباء العالميين يشرح لهم حالته شرحا دقيقا مفصلا مستعينا بالأطباء الذين حملوا إليه نبأ الفاجعة، وعاد البريد بالإجابات فكانت وفاء تقرؤها وحدها وكانت وفاء تحرقها وحدها؛ فقد كانت جميعها تحمل حريق الآمال، وكان أمين يسأل وكانت تجيبه أن الرد على الخطابات لم يأت بعد؛ فيتردد أمله بين اليأس والرجاء وتذوي هي وحدها في وهدة اليأس.
ثم جاء خطاب من لندن، أن عملية يمكن أن تتم لهذه الحالة لو تبرع له شخص بإحدى عينيه. وفي حزم مستقر ويد ثابتة كتبت وفاء خطابا آخر، إن عملية يمكن أن تتم إذا جاءت هذه الحالة إلى لندن حيث يمكن العثور على عين سليمة من بنك العيون.
وقرأت خطابها على أمين. ولم يصدق أمين أذنيه، أصحيح ما تتلوه عليه زوجته، أحقا يتحقق الأمل، فما هذه النبرة الواجفة الحزينة التي شاعت في صوت وفاء فلم تستطع أن تتغلب عليها بمظاهرة الفرح التي قدمت بها للخطاب التي قرأته بها.
كانت البعثة للدكتوراه فلتكن بعثة للحياة، وللدكتوراه أيضا، ولم لا يا وفاء؟ إذا نجحت العملية، إذا نجحت، نحقق آمالنا، وفاء، لم لا؟ فيم أنت مفكرة يا وفاء، وفاء؟ واستطاعت وفاء أن تصحو مما تفكر فيه لتقول له في نبرة تترجح بين الأسى ومحاولة الفرح: آه، نعم، ولم لا؟
وسافرا يدا تمسك يدا، وقلبا واجفا يهدي قلبا واجفا، وأملا حزينا خائفا يقود أملا سعيدا خائفا، سافرا.
وتمت العملية، بل تمت العمليتان، انتزعت عين مليئة بالحياة من وجه وفاء ووضعت مكانها عين جامدة موات. وانتزعت عين جامدة موات من وجه أمين ووضعت مكانها عين مليئة بالحياة، هي عين زوجته أطل منها إلى الحياة.
فداك عيناي أمين، أما كنت أرى الدنيا فلا أراها إلا من خلال عينيك، وفداك نفسي أمين أما كنت ألتقي بها إلا من خلال نفسك، فداك أمين فداك.
ورأى أمين، رأى الحياة مرة أخرى، وهتك هذا الستار الذي أسدله عماه بينه وبين الدنيا، وقد كان أعظم ما يكون إقبالا عليها، رأى ورأى إلى نفسه في المرآة، فأما عينه التي لا ترى فهي كما هي حوراء جميلة لا يستطيع أحد أن يعرف أنها لا ترى، فما كان بها من عيب إلا أنها لا ترى، وفاء، إني إني أرى، وفاء، إني ... ونظر إليها ثانية، وثالثة، ثم حدق، وأطال التحديق، أطرقت وفاء فرفع وجهها إليه فرأى الدموع تسيل ورأى عينا حمراء من أثر الدموع وعينا جامدة، وفاء، وفي صرخة أطلقها الخوف والحب والشعور بالتضحية التي بذلتها له عرف كل شيء، أهذه عينك التي أرى بها، وفاء، ودون أن يبالي بأوامر الأطباء، أو يحاذر على الأمل الذي انفسح أمامه انتفض من سريره وركع تحت أقدامها يقبل أقدامها، بل يقبل حذاءها. - أصبحت بعين واحدة يا أمين. - أحب عينك التي لا ترى أكثر من حبي لعينك التي ترى، بل أكثر من حبي لعيني التي ترى، وفاء، وبكى وبكى، وقالت وفاء : لقد وهبت لك عيني فاحرص عليها ولا تضع عيني عبثا.
ورنت الكلمة في أذنه واستقام معناها في عقله فامتثل أمرها وأطاع أوامر الأطباء، ونجحت العملية وخرج إلى الحياة.
وعاد الزوجان إلى أملهما القديم من الدكتوراه. وانتظم كل منهما في عمله.
وتعود أمين أن يرى زوجته بعين ترى وبأخرى جامدة. وتعود أن يرى حبها له في عين حين يرى عينها الأخرى باردة خامدة لا حب فيها ولا مشاعر ولا حياة، ويكاد يضيق ثم يذكر أنه لولا هذه العين ما رأى حبا ولا حياة، وأنه لولا هذه العين لظلت عينا وفاء لها تنظران إليه بإشفاق ما أبغضه، سواء رآه أو لم يره. ثم يحس خليطا من المشاعر بعضها ساخط لأن زوجته لا ترى بغير عين واحدة، وبعضها ثائر لأن تضحية زوجته من أجله لا سبيل إلى ردها أو شكرانها، وبعضها ضائق لأنها بتضحيتها قد أحاطت عنقه بمثل طوق الكلب الوفي لا يستطيع عن سيده فكاكا، وبعضها خزيان لأنه يسمح لهذه الأفكار أن تمر بخاطره.
وألح عليه شعوره بأنه كلب يدين بالوفاء لزوجته، وكان هذا الشعور لا يبارحه بل هو يطالعه حتى وهو في دراسته، وكثيرا ما فكر أن يتحرر منه ثم ما يلبث أن يعود إليه مرغما كارها. وكانت سكرتيرة الكلية التي يعمل بها فتاة في ربق العمر، وكانت ترى بعينيها كلتيهما، وكانت عيناها جميلتين تفيضان بالحياة وبالجرأة، وكانت بينهما صداقة، واستطاعت الصداقة أن تتطور في يوم من الأيام إلى موعد. أول موعد يعقده أمين مع فتاة أخرى غير وفاء.
عاد أمين إلى البيت ولم تكن وفاء به، ووضع على نفسه أنفس ما يملكه من ثياب وتأنق فبالغ في التأنق ونظر إلى المرآة فطالعه وجهه جميلا، وطالعته قامته ممشوقة ونسي أنه ينظر بعين وفاء، ولم يعد يذكر إلا أنه يرى مشاعر تنبعث من عينين معا لا من عين واحدة وإلا أنه يريد ألا يصبح كلبا، وملأه الزهو بشبابه وجماله ونزل إلى الطريق وسارها خطوات، خطوات قليلة ثم أراد أن يعبر الشارع في زهوه ما يزال فإذا سيارة في الطريق تغول الطريق في سرعة نافذة تندفع إليه، وكانت آتية من جهة عينه التي ترى، فإذا هو ينسى زهوه ينتفض في لهفة محب للحياة يوشك أن يموت فإذا هو على الطوار الآخر لم تمس منه السيارة إلا طرف حذائه، الحمد لله، ماذا لو كانت هذه السيارة قادمة من الجهة الأخرى، الجهة التي لا تبصر، بل ماذا لو لم تكن لي عين وهبتها لي زوجتي، زوجتي الحبيبة وفاء، وفاء، وفاء التي لا ترى إلا بعين واحدة، الأخرى هي التي أنقذتني الآن، يا لي من كلب.
وظل واقفا على الطوار حائرا خزيان ثائرا يضع أصبعه بين ياقة قميصه وبين عنقه، إن الطوق ما يزال حول عنقه.
ربيع
واليوم عاد الربيع، هكذا يقول الوقت ولكن أين الربيع مع الخوف، أين الربيع؟
أهلا ربيع، جئت في موعدك، لم تستطع قوة أن تدفعك عن أن تعود في موعدك، جئت لم تتأخر وما كان لك أن تتقدم، جئت وقال الناس جاء الربيع، لفظة تحركت بها ألسنتهم ثم استكانت الألسنة وانطبقت الشفاه على الشفاه وهوم حول الناس صمت، وانقطع حديث وتطلعت العيون إلى فراغ حولها يملؤه، وما حاولت أذن أن تمتد؛ فالناس، كل الناس وأنا منهم، يعلمون أن ليس في الأجواء موسيقاك، ولا نظر الناس يبحثون عن آثارك، فليست هناك الأزاهير والورود، لا ولا هناك المدى الأخضر المنبسط مثل كف طيبة حنون، وليس في الماء صفاؤك ولا في الجو أنسامك، بل إن العبق الذي كان ينتشر مع مجيئك تخلف اليوم عنك، فما في الجو من عبق شذاك شذى.
أين أنت إذن أيها الربيع؟ أين أنت؟ ألم تعد إلا موعدا يحل وموعدا ينقضي؟ فهل أنت إذن الربيع؟ أين الجمال في موكبك، أين البهجة التي كانت تسير في ركابك؟ أين البدع الذي كان صديقا لمقدمك؟
أين أنت في نفوسنا؟ أين هذا السرور الذي نحس به قبل أن نحس به يدب في خوافي خلجاتنا دبيبا واني الخطو واضح الأثر، يتمشى في هدوء ولكن في نشوة، أيها الربيع هل جئت حقا؟ نعم لقد جئت؛ فهذا موعدك، وما أحسب إلا أنني أقسو عليك قسوة منتظر لموعد أخلفه صاحبه، أو قسوة من ينتظر الخير فلا يجده، وإنني لأعلم أنك براء من كل تهمة ألصقها بك، فما ذنبك أيها المسكين في موسيقى تخلفت عن مواكبك وجمال انحسر عن رفقتك وعبق صدف عن مسيرك، لا، لا ذنب لك في هذا ولا جريرة، إنما نحن البشر، لكم أسخر من نفسي حين أضم نفسي في البشرية إلى هؤلاء الذين وقفوا دون رفقتك فصدوهم عن المجيء، وما أنا؟ شخص يعيش على هامش الدنيا لا تحس به الدنيا وتجتمع في نفسي كل أحزان الدنيا وآلام البشر. ولكن ما ذنبي؟ يلهو كنيدي هناك في الضفة الأخرى من العالم، أو يعبث خروشوف هناك في عالم آخر لا أدري من أمره شيئا، فإذا لهو كنيدي وعبث خروشوف ينصبان علي أنا، أنا هنا في مصر فالرعب يملأ قلبي ونفسي ومشاعري فلا أرى من الربيع إلا تاريخه معلقا على صفحة ملصوقة بجدار.
لعلك أيها الربيع قد جئت ومعك هذه الرفقة التي تعودنا أن ترافقك كلما جئت ولكن أنا، أنا لا أحس شيئا منك، وما لي أنا إذا كانت موسيقاك معك ما دمت لا أسمعها، أو كان جمالك في ركابك ما دمت لا أراه، أو كان العبق منك ينتشر شذاه ما دمت لا أشمه، وكيف لي أن أحس بشيء من هذا وأنا خائف؟ إن خلا قلبي من الخوف فليتح للغضب الثائر تصبه علي زوجتي، زوجتي المقيمة ببيت يضل عنه الهواء، وتتعثر دونه الشمس في زقاق متفرع عن حارة صادرة عن شارع نابت عن طريق عام بحي اسمه باب الشعرية.
زوجتي هذه آفتها قراءة الجرائد، وقد انصبت هذه الآفة على حياتي أنا تنغصها، فأنا من حياتي هذه في إظلام الظلام أعظم منه إشراقا. زوجتي خدوجة بنت الشيخ عبد الصمد تعلمت القراءة على يد أبيها في الكتاب، وشقيت أنا بما تعلمت وبما تقرأ. زوجتي خدوجة بنت الشيخ عبد الصمد تتابع كنيدي واجتماعاته وخروشوف وأحاديثه، فإن اختلفا - وهما لا يتفقان - فنهاري أسود من الحبر، والحرب تقوم في بيتي متوقعة الحرب في العالم، وويل لي من خدوجة، وويل لي من كنيدي، وويل لي من خروشوف، يا لسخرية الحديث! جاء الزمن وأصبحت خدوجة توضع مع ساسة العالم، العالم جميعه، البشرية برمتها، خدوجة، خدوجة عبد الصمد توضع معهم جملة واحدة وسبحان الذي يغير ولا يتغير. ترى هل أحس كنيدي إذا ما دعا لحديث صحفي أو أحس خروشوف في تفكيره السياسي، هل أحس واحد واحد منهما أن هنا، هنا في مصر، وفي زقاق من حارة من شارع من طريق واحدة اسمها خدوجة عبد الصمد تسود عيشة زوجها، بل وعيشة أولادها أيضا تبعا لركاب كل واحد منهما؟
ما هذا العالم العجيب؟! كيف يتاح لفردين مثلي لا يزيد واحد منهما عني شيئا؛ فكل منهما يأكل ويشرب ويمرض ويقطع طريقه إلى الموت، ويقع في الخطأ أكثر مما يصادف من الصواب، كيف يتاح لهذين، وحدهما أن يؤثرا في حياتنا كل هذا التأثير؟! كيف استطاعا أن يدخلا إلى بيتي، بيتي المنزوي عن البشرية، المستخفي وراء الأزقة والحواري والبيوت وبقايا البيوت بل والخرابات كيف استطاعا أن يدخلا إليه، ويسيطرا عليه ويتحكما في مصائر من به؟! بل كيف استطاعا أن يجعلا موسيقى الربيع قصفا من القنابل وزهر الربيع دماء من الجراح، وجمال الربيع رعبا من الغد وهلعا من المستقبل؟! من أعطاهما هذا الحق؟ من خوله لهما؟! أنا لم أنتخب كنيدي ولم أشارك في اختيار خروشوف، فلماذا يمنعان عني الربيع؟! ولماذا يثيران بيتي علي فهو جحيم لا أطيقه ولا أجد لي ملجأ غيره؟!
ها أنا ذا في الطريق العام، لا أستطيع أن أعود إلى البيت والبركة في كنيدي وخروشوف وأزمة ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، أيصدق هذا أحد يا عالم؟! أهذا معقول؟! ما لي أنا ولألمانيا ولكنيدي ولخروشوف؟! هل قلت لهما اختلفا؟! زوجتي بثاقب نظرها تريدنا أن نهاجر إلى بيت أبيها في الريف، تريد ابني الأكبر أن يترك الكلية الحربية، وابني الأصغر أن يترك كلية الطب، وهذه الرغبات جميعها علي أنا وحدي أن أنفذها مضافا إليها مطلب آخر بسيط، أن أترك وظيفتي في القاهرة، نعم تلك حالها منذ الحرب العالمية الثانية.
فقد فقدنا في إحدى الغارات طفلنا الأول وكنت موظفا آنذاك في الإسكندرية، ويعلم الله وأعتقد أن الجميع يعلمون أنني لم أكلم هتلر بشأن الحرب ولا فاتحت تشرشل في أمرها، وإنما قامت الحرب بينهما وانضم إلى كل منهما من انضم دون أن أتدخل أنا في هذا الموضوع على الإطلاق، ولم تكن لي صلة بالحرب، ولدي الذي فقدته وزوجتي التي فقدت عقلها أو تكاد منذ ذلك اليوم. أصبحت كلما ثارت بوادر خلاف عالمي تثور ثورتها، وتروح تهيئ المنافذ من الخطر المحدق بها وبنا، وأخرج من البيت وأظل هائما على وجهي لا أمل لي إلا أن تنام فأعدو في خلسة من نومها، وأنام لأعد نفسي لغد لا يختلف كثيرا عن اليوم، وأظل عمري طريد الأفكار والأخبار ورعب زوجتي، ولا أجد ما يخفف علي بعدي عن البيت إلا الجلوس إلى المقهى، ولكن الأصدقاء هناك أيضا لا يسلمون من الخوف، هم يتحدثون عن الغد في رعب، يخافون أن يلاقوا الحياة وليس في يدهم من مال ما يستطيعون به أن يواجهوا الحياة، ويخافون أن تقوم الحرب فتتخطف أرواحهم أو أرواح أحبائهم، ويخافون ألا تقوم الحرب فيظل الكساد ناشرا عليهم بلواه، ويخافون من رؤسائهم، ويخافون من مرءوسيهم، خوف، خوف في نفوسهم.
أحاول أن ألعب أي شيء مما يلعبون ولكن أين لي بأرواحهم تصفو للعب وأين لي بروحي أنا تصفو للعب؟ فأطوي اللعب ونعود إلى الحديث أو نعود إلى الخوف، هلع يحيط بي، هلع يحيط بي في البيت وفي المقهى، ولا أحب الوحدة، وأخشى نفسي إذا انفردت بي فقد تعودت أن تخلق من الحديث ما يملؤني رعبا أو ما يملؤني ضيقا.
واليوم عاد الربيع، هكذا يقول الوقت ولكن أين الربيع مع الخوف؟! أين الربيع؟! ويل لهؤلاء الزعماء. كيف استطاعوا أن يحطموا الربيع، الربيع؟! يحطمون الربيع. وبيتي؟! أيحطمون بيتي؟!
كم أحب الجلوس إلى ولدي، كلاهما شاب في بواكير الشباب الأولى، أريد أن أتمتع بهما، بنظرتهما إلى المستقبل، وبحديثهما عما ينتظران من الحياة، ولكن ما لهما صامتين يرنوان إلى الحياة بعين ذاهلة، جاهلة، نعم، أعلم، لقد تدخل كنيدي وخروشوف في حياتهما هما أيضا، ماذا ينتظران من غدهما، ألهما غد؟ ويلي أين أذهب، ما لي ولهذا جميعه؟ أريد أن أترك هذا جميعا وأريد أن أرى الربيع، أليس في مصر، مصر جنة الله في الأرض، ربيع، أين أجد الربيع؟ في النيل أبي الدنيا وأعظم ما جرى فيها من أنهار، أصل الحضارات وأولها وقبرها، النيل الضخم العريض الطويل، أما أجد حوله ربيعا، ظلا من الربيع، إن لم يكن إلى ربيع سبيل، ويل للنيل، ما له يجري هكذا صامتا، أين الضحك في موجاته، أين الربيع في رقراق مائه، أين النيل؟!
أترى أجد الربيع في الحديقة؟ أية حديقة، حديقة من حدائق القاهرة الكثيرة البهيجة المترامية الأطراف، لا ربيع هناك!
ويلي لم أكن فيما مضى من سنوات أبحث عن الربيع بل كان هو من يبحث عني، وكان دائما يجدني، لا، لا ربيع، ومع ذلك فهناك في بيتي ورقة معلقة على الحائط تقول حل الربيع، فأين الربيع؟
ترى ماذا تفعلين الآن يا خدوجة؟ ماذا تراك تفعلين؟ أنت بجوار الراديو كشأنك دائما تتصيدين الأنباء لتذكي بها الرعب في نفسك، وكأن ما بنفسك من رعب لا يكفيك. ألا يكفيك ما فعلت من تشريد زوجك لا يعود إلى البيت أو تنامي، وتشتيت ولديك يجاهد كل منهما أن يترك البيت ما أمكنته الفرصة؟ وأنت أنت تتابعين خروشوف وكنيدي وتتكهنين وترين المستقبل وليس فيه إلا الحرب، رحماك يا رب.
أين أذهب الآن؟ ضاقت بي الطرق، تمنيت أن أجد الربيع في الطريق العام فلم أجد الربيع وفقدت نفسي ولم أجد إلا خوفي، خوفي الذي لا يتركني وكرهي أن أعود إلى البيت، وما لي من سبيل غير العودة إلى البيت.
أتراني أجد أحدا من ولدي قد عاد؟ أتراني أستطيع أن أجلس إلى واحد منهما بعض الوقت، أريد أن أجلس إلى واحد من ولدي، ها هو ذا النور ينبعث من منزلي، إنه نور خافت لا إشراق فيه، نور المصباح الذي تضعه زوجتي على الراديو، إذن فهي وحدها، حسبي الله ونعم الوكيل، لا بد أن أدخل، لقد تعبت قدماي، نعم أعرف أول سؤال ستقوله، أعرفه، أعرفه هل أحضرت جريدة بعد الظهر؟! لا يمكن إلا أن تسأل هذا السؤال، هيه، بسم الله الرحمن الرحيم، ها هي ذي قد سألت سؤالها، هل أحضرت جريدة بعد الظهر؟ يارب، يارب، أنت وحدك من تستطيع إنقاذي من كنيدي وخروشوف، وخدوجة.
ولدي ألا تعود
وماذا يهمني من أمره ما دمت أنت لي ويداك الصغيرتان تعرفان طريقهما إلى وجهي ولسانك المضطرب الصغير يعرف طريقه إلى قلبي.
ولدي، لماذا يا ولدي؟ لماذا، أنت كل شيء في حياتي، وليس في حياتي معنى أعيش له وبه إلا أنت، أنت كذلك منذ عرفتك، ومنذ عرفت أنت الحياة؛ فقد جئت إلي يا بني وأنا أضيق بحياتي مع أبيك؛ فقد تزوجته على غير رغبة مني، أنت تعلم ذلك؛ نعم تعلمه، لقد أخبرتك بقصة زواجي من أبيك، نعم وكنت تضيق بها وأرى ضيقك في عينيك كلما أعدت عليك القصة، ولكن لماذا تضيق؟ ولمن أقول إن لم أقل لك؟ وعلى من أعيد قولي إن لم أعده عليك؟ حملتك تسعة أشهر وحملت عبئك اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر، ألا تحتمل أنت في مقابل هذا الكثير الذي بذلته وأبذله لك أن تستمع إلي أكرر قصة يريحني أن أكررها.
أخبرني بربك، أكنت تضيق بهذه القصة لو كانت ميرفت هي التي ترويها لك وتكرر روايتها، لا أظن. قد رأيتك وهي جالسة أمامك تتحدث - وعلى فكرة - هي لا تجيد الحديث، ورأيتك أنت تستمع لحديثها بعينيك ووجهك وكل ومضة في جبينك، وكل ابتسامة على فمك، لكم كرهت ميرفت وهي ابنة أختي، بل لكم كرهت أختي، لماذا تنال منك ما لا أستطيع أن أنال؟ أنا التي لم أعرف حياتي إلا يوم عرفتك، والتي لا أعرف لحياتي معنى إلا بك؛ فقد تزوجت أباك كما قلت لك وأنا لا أحبه؛ فقد كان أبي يعمل في وزارة المالية وكان يتوق إلى زواجي بأي إنسان. فكان أباك. كان زميلا له في المكتب وقد رقي بعد عامين رئيسا لأبي وقد كان أبي يكبره بسنوات وسنوات، وكانت حجة الحكومة في تعيين أبيك رئيسا لأبي حجة عجيبة تدعو للدهشة؛ فقد قيل يومذاك إن أباك حاصل على الشهادة العالية في حين لم يكن أبي حاصلا إلا على الابتدائية، ولعل هذا كان صحيحا ولكن الحكومة نسيت في ذلك الحين أن الابتدائية التي حصل عليها أهم بكثير من الشهادات العالية مهما تكن عالية. ولكن الحكومة أرادت أن أتزوج من أبيك فجعلته رئيسا له.
وفي يوم اجتمع أبي وأمي ليجهزا لزواج أختي - خالتك - وكان أبي يرى أن الظروف المالية تقتضي أن يقتصر الزواج على الزواج وحده بغير شيء حوله، ولكن أمي وقد كانت قوية الحجة بارعة في التأثير على أبي أصرت على الفرح. وما أقرب الحجة إليها! أول فرح يدخل بيتي، أول ابنة نزوجها، إن لم نفرح بها ولها فبمن نفرح ولمن؟ وتقرر الفرح، وتقرر معه أن نشتري فساتين جديدة لي ولأمي، واشتريت الفستان، كنت أفكر في هذا الفستان كثيرا قبل موعد الفرح، حتى إنني لم أكن محتاجة للبحث حين أخذت أمي ثمن الملابس من أبي. كنت أعرف المكان وأعرف ما أريد، واشتريته. يا ليتك رأيتني يومذاك. لا تقل ميرفت ولا غير ميرفت.
جمال طبيعي لا يحتاج إلى يد تصنعه، شعر مرسل وعينان واسعتان وفم صغير أحمر، ودماء في وجنتي تزري بأحمر هذه الأيام الباهت، وشباب وفرح. جمال لم تعرفوه أنتم يا أبناء هذه الأيام. حتى إنني - وهذا سر بيننا - خشيت أن تغار مني أختي وهي العروس، بل إنه يخيل إلي - وهذا أيضا بيننا - أنها فعلا كانت تغار مني؛ فكنت أختفي عن عينيها كلما تلاقينا أثناء الفرح. ولكن ماذا كان بيدي أن أفعل؟ كانت العيون جميعها مصوبة إلي لا تريد أن ترتفع عني، حتى لقد كنت أريد أن أقول للناس. عيب بصوا للعروس فلست أنا العروس، ولكن كنت واثقة أنني مهما أقل لهم فلن يفيد قولي شيئا. كانوا يا حسن يا ابني مشدودين إلي بعيونهم كأنما هو السحر. كلام بيننا، كنت فرحة بهذا الاهتمام، وكنت زعلانة في الوقت نفسه أن تغضب خالتك، ولكن ما يهم. لقد كانت آخر ليلة لها معي؛ فقد كانت في طريقها إلى بيت زوجها. وكنت أحسب في ذلك اليوم أنه ليس في العالم شخص يستحق هذا الجمال الذي كنت عليه.
كان أبوك طبعا ضمن المدعوين. ورآني في ذلك اليوم؛ الفستان الجديد في لونه الزاهي الخاطف للعيون، والشباب يملأ الحياة من حولي، والعيون كأنما هي جزء من تفصيلة الفستان لا تنفصل عنه. أحبني، لم أحس به في ذلك اليوم. إلا أنني اضطررت أن أقدم إليه الشربات تنفيذا لأوامر والدي، وكان شكله، ماذا أقول؟ أخاف أن أقول لك إنه لم يكن جميلا فتظن أن ذلك ليس صحيحا، أو أنني أقوله لأنه هجرني قبل موته، ولكن هذه هي الحقيقة. لم يكن جميلا - أعجبك قولي أم لم يعجبك - فأنت دائما تغضب كلما ذكرت أباك بما لا يرضي حبك له، قل لي، لماذا تحبه؟ النهاية، أنت دائما ناكر للجميل، وهل أدل على ذلك من تركك لي الآن؟ لم أحب أباك في النظرة الأولى. وقد كانت الطامة الكبرى حين جاء أبي في اليوم التالي وهو لا يستطيع أن يتمالك نفسه من الفرح وأخبرني أن أباك خطبني. لم يكن رفضي ذا قيمة. وتزوجت أباك. ولم أعرف الفرح في يوم فرحي ولم أعرفه في الأيام التالية. كنت أعتقد أنني أستحق من هو خير من أبيك، أعلم أنك ستقول في نفسك الآن كما كنت تقول دائما، ليس هناك خير من أبي. نعم كنت دائما تقاطعني بهذه الجملة التقليدية كلما بلغت من حكايتي إلى هذا الموضع. ولكن ماذا يهم رأيك؟ إن رأيي أنا هو المهم، أنا التي عاشرته وتزوجته فلم أر منه يوما أحكي عنه. لم يقل يوما كلمة تشرح قلبي، أجمل نفسي ما وسعني الجهد فلا يقول إلا كلمة عابرة، أنت حلوة من غير تجميل، ويسكت أو يتكلم في موضوعات أخرى. كنت أرى جمالي في المرآة ولا أجد منه ما يؤكد رأيي في نفسي. ولكن حين كان يجد تقصيرا مني في شئون البيت كان يغضب كل الغضب، ويتهمني بأني لا أهتم بغير جمالي، ولو كان يفهم - لا تغضب - لعلم أن جمالي هذا شيء عظيم يستحق كل ما كنت أبذله للمحافظة عليه. كانت حياتي جحيما حتى جئت أنت، فعرفت الحياة يوم جئت أنت. كم كنت أحبك وكم أحبك! أذكرك ويداك الصغيرتان على وجهي ولسانك يشوه الحروف ويجملها وتقول في براءة: «أنت حلوة، حلوة حلوة يا ماما.» كنت حياتي. حتى لم يعد يهمني غضب أبيك في كثير أو قليل. وماذا يهمني من أمره ما دمت أنت لي ويداك الصغيرتان تعرفان طريقهما إلى وجهي ولسانك المضطرب الصغير يعرف طريقه إلى قلبي، أفرغت فيك حبي جميعا، حبي كله، حب الطفولة في أحلامها الباكرة الغريرة وحب الشباب في أوهامه المجنونة، وحب الماضي الذي ادخرته ولم أجد من أقدمه له، وحب المستقبل الذي كنت أفكر فيه فترتاح نفسي من ضوضاء أبيك وشجاره. وأردتك لي، لي وحدي لا يشاركني فيك أحد. كم كنت أحسد مريم العذراء لأنها أنجبت المسيح بغير أب، وكم كنت أرجو في وهمي - وأنت بين يدي ووجهي بين يديك - لو كنت مثل المسيح بلا أب أنت أيضا!
وحين ذهبت إلى المدرسة، كان أبوك يريد أن تذهب ماشيا، شأنك شأن الطلبة جميعا، ولكني رفضت وأصررت على أن تأتي إليك عربة كل يوم لتذهب بك إلى المدرسة. وجاءت العربة. وجئتني تبكي لأمنع العربة وأجعلك مثل إخوانك لأنهم يسخرون منك ومن هذه العربة، ولكني كنت أعلم أنك صغير لا تعرف مصلحة نفسك، نعم لم أقبل رجاءك في هذا اليوم؛ فقد كنت أخشى عليك عوادي الطريق. وكان لا بد لي أن أكون أنا عقلك ما دمت لم تعد بعد ذا عقل يعرف الخير لك. وكان هذا السبب نفسه هو الذي جعلني أرفض أن تخرج في رحلات مع الطلبة، كيف كان يمكن أن أتركك إلى حيث لا أدرى؟ لقد ذهبت إلى المدرسة لأني لم أكن أستطيع أن أمنعك عنها، أما أن تذهب إلى الرحلات أيضا، فهذا ما لم أكن أستطيع أن أقبله مهما تكن الدموع التي تسيل منك غزيرة كبيرة.
اسمع يا حسن لقد كان أبوك يغار منك ولهذا كان يريدك أن تبتعد عني ما وسعه الجهد، لهذا كان يريدك أن تذهب إلى الرحلات، ولهذا كان يريدك أن تخرج لتلعب مع من كان يسميهم أصدقاءك؛ ولهذا كان يحاول أن يوقع بيني وبينك حين نذهب لنشتري ملابس فكان يريدك أنت أن تختار ويمنعني أنا أن أختار لك؛ فقد كان لا بد لي أن أكون أنا ذوقك ما دمت لم تعد ذا ذوق يعرف الجميل اللائق بك.
ولما أعيت أباك الحيل تركني. نعم تركني لأني كنت أحبك ولم أكن أحبه. ولما تزوج هذه المرأة التي تزوجها أراد أن يغيظني ولكن ماذا يهمني من أمره ما دمت أنت قد بقيت لي.
وظللت طوال أيام دراستك، أنا التي أعد لك مأكلك وأنا التي أشتري لك ملابسك وأنا التي أختارها - وأنت تعرف ذوقي - وأنا التي لا أتركك وحدك أبدا حتى في المذاكرة. نعم، لم أكن أقبل أن تذهب إلى أحد لتذاكر معه. وحتى حين كان أصدقاؤك يأتون إليك ليذاكروا معك كنت أحاول أن أكون معكم طول الوقت، ولا أدري لماذا كف أصدقاؤك في الأيام الأخيرة من دراستك أن يحضروا إلى البيت؟ الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أثنيك عنه هو إصرارك على الدخول إلى الجامعة في حين كنت أنا قد أعددت لك وظيفة بالبكالوريا ساعدتني على تهيئتها لك صديقة العمر تفيدة، ولكنك أصررت وكنت أعلم أنك ستدخل إلى الجامعة سواء رضيت أنا أو لم أرض؛ فأبوك في ذلك الحين كان قد مات وأصبح المجلس الحسبي هو أبوك الجديد، وكنت أعلم أن أباك هذا الجديد سيؤيدك فيما تريد فقبلت على مضض، ولكن لعلك اليوم ترى أنني كنت على صواب؛ فلو كنت قبلت الوظيفة لكنت اليوم متزوجا من زهيرة ابنة تفيدة، وكنت موظفا مهما، ولكنك ركبت رأسك فسكت، وتزوجت زهيرة؛ الفتاة الوحيدة التي كنت أحب أن تتزوجها، فهي مثلك ربيتها على يدي، وكنت تقول إنها لا تعجبك ولكني كنت واثقة أنك ستقبل الزواج بها أخيرا.
المهم، ما فات فات فقد دخلت إلى الجامعة وحصلت على ليسانس الآداب كما كنت تحب، ولكني رأيت منك بعد ذلك عجبا؛ فأنت تحب أن تخرج من البيت وتحب أن تذهب إلى بيت خالتك، وأتممت المصيبة بأن طلبت مني أن أخطب لك ميرفت ابنة خالتك. أتظن أنني أرضى لك هذا؟ قلت لك لا، ورحت أبحث، ولكنك فجأة ودون أن أعرف سببا تركت البيت ولم تعد، لماذا؟
ماذا فعلت أنا حتى تتركني؟ أي أم في العالم كانت تفعل لابنها ما فعلته أنا لك. لقد حملت عنك عبء الحياة جميعا، ولو كان في استطاعتي أن أذاكر بدلا منك لذاكرت عنك، ولكنك كأبيك تجحد المعروف وتنكر ما حباك الله به من نعم، فلو كان يعلم أي زوجة يضمها بيته ما ترك بيته وتزوج غيري، ولو كنت تعلم أي أم متفانية أنا لما فعلت ما فعلت. ماذا فعلت لك حتى تتركني، ماذا فعلت؟ أمن أجل ميرفت؟ لا أظن. فأنا أعلم أن أمها لن تقبل أن تزوجك بها إلا إذا وافقت أنا، وأنا لن أوافق، بل إن أمها حين علمت برفضي أقسمت ألا تزوجها لك على أية حال، فما دام الأمل في زواجك منها قد انقطع فلماذا تتركني؟ ومن يرعى شأنك اليوم؟ من يختار لك ملابسك في الصباح؟ ومن التي تستطيع أن تعرف أي لون من أربطة الرقبة يتفق مع الحلة التي ترتديها؟ بل من سيشتري ملابسك؟ ومن سيعد طعامك ويصنع لك من الأصناف ما تحب، ومن؟ ومن؟ ولدي عد إلي، فأنا وحدي في هذا العالم أنا التي لا ترى العالم إلا أنت، حسن، هل تعود؟
انتظار
ويتركه الأطباء ليختلوا بأنفسهم وطبهم وليصدروا القرار النهائي على يده. يدي، ماذا فعلت يدي؟ إن آخر ما فعلته يدي هو تسلم هذا المبلغ.
كان مفيد في عجلة من أمره؛ فهو لا يطيق هذه الفترة من الانتظار التي أرغمه عليها الدكتور عبد الوهاب العجلان رئيس مجلس إدارة الشركة الهندسية الفنية، وكم قفز مفيد من كرسيه يريد أن يعود إلى الموعد الآخر الذي ينتظره في مكتبه، ولكنه يذكر المبلغ الذي سيجنيه من لقائه بالدكتور عبد الوهاب فيعود إلى كرسيه في إذعان مكره وهدوء محتاج، وتمر الدقائق وتتكرر القفزات ويتكرر التذكر فيتكرر الإذعان ثم الهدوء. نعم إن الموعد الذي ينتظره في مكتبه ذو ربح هو الآخر ولكن أين الربح الفردي من ربح الشركات؟ وأي الشركات؟ الشركة الهندسية الفنية؟ لا، لا سبيل إلى القيام ولا إلى الغضب ولا سبيل أيضا إلى الخروج، عجيب أمر الناس، ها أنا ذا في مكتب مفتح الأبواب وليس بيني وبين الخروج إلا أن أخطو فإذا أنا خارج الغرفة فأتخلص من هذا الضيق الذي أحسه في الانتظار، وأذهب إلى حيث أريد وأثأر لكرامتي التي أحس دقائق الانتظار وكأنها خناجر تتوالى عليها فتنزف كرامتي وتنزف، ولكني هل بقي من كرامتي دماء؟ لكن انتظرنا، ولكم نزفت الكرامة، لئن بقي من دماء الكرامة بعدما فقدت شيء فقد كانت كرامتي إذن ذات ذخيرة من الدماء عظيمة المقدار، ترى هل بقي من الكرامة شيء؟ ويلي! لكم أظلم نفسي وأحمل كرامتي فوق ما تحتمل، لقد أكلها العمل، نحتها ذرة ذرة وقطرة قطرة فهي هباء من الهباء أو هي كما يقول هواة الأدب أثر من بعد عين، وإلا فما لي ما زلت جالسا إلى الكرسي، والأبواب مفتحة أمامي، ما لي لا أخطو خطوتي إلى الخارج، إنه لا يقيد الإنسان إلا نفسه، إنما الحرية مقدار ما أحس به أنا في نفسي من حرية نفسي، لن يستطيع أحد ولا شيء أن يمنع الحرية عن نفسي، وإنما أنا، أنا وحدي الذي أكبل نفسي بالأغلال، وهيهات لكل حريات العالم أن تحرر نفسا أراد لها صاحبها أن تكبل بالقيود، أضاع السوق كرامتي وحريتي وأكل كل شيء في حياتي، ها أنا ذا أبدو مثل حر وأنا أشد عبودية من العبيد، وإلا فما بقائي وقد تأخر الرجل، تأخر، أنا أعرف أن أصول الصنعة تجعله يتأخر، يريدني أن أشعر بأهميته، ويريد أن أشعر بحاجتي إليه وعدم حاجته إلي، لقد درت في السوق وعرفت أسراره، أما كان الأجدر بالدكتور عبد الوهاب أن يدرك أن هذه الصغائر لن تكون ذات أثر في الصفقة؟
ألم يعلم الدكتور عبد الوهاب أي رجل أنا؟ ولكن يبدو أن صفة الأدب التي غلبت علي أول اشتغالي بالسوق لا تريد أن تفارقني، إن كل من يعاملني لا ينسى أنني كنت أعمل بالأدب؛ أي إنني كنت فنانا، فأنا إذن في عرفهم سارح في دنيا من الخيالات والأوهام، ما كان أعذبها، لقد أقفلت ما بين نفسي وبين الأدب منذ الشهور الأولى التي نزلت فيها إلى دنيا الأعمال، تلك حسنة أثبتها لنفسي ولا أنساها، كيف أقول للناس كونوا شرفاء، أحبوا إخوانكم، الهناءة في رضا النفس، اسعدوا، عيشوا، تمتعوا، أحسوا بالجمال، أقول وأقول، وأنا، أنا نفسي أتغاضى عن الشرف، و...
وقبل أن يكمل دخل الحجرة رجل وحياه وجلس، وأمعن مفيد فيه النظر، شخص أصلع الرأس واسع العينين، تبرز منهما الحدقة بروزا يشعر الناظر إليه أنه يبحث عن شيء لا يدريه ولكنه لا يزال يبحث عنه. وأحس الرجل بعيني مفيد الفاحصة فعاجله قائلا: الأستاذ مفيد؟
ودهش مفيد شيئا ما، ولكن ما أسرع ما تغلب على دهشته فقد علمه السوق أن يتغلب على كل الملامح التي تلدها المشاعر على وجهه وقال: نعم، يا أفندم، أنا هو. - لعل حضرتك مندهش لأني عرفتك؟ - لا أبدا. - طبعا أنت رجل شهير، وأديب معروف. وقال مفيد في نفسه، وهذه مصيبة أخرى في السوق، دائما يستعملون الأدب في التأثير علي، لم يبق لي من الأدب إلا أن يتملقني به من يريد أن يسلبني شيئا، كم هو مجرم هذا السوق، يقطع صلتي بالأدب ولا يكتفي بهذا بل يتخذ منه سلاحا لنهبي، مجرم هذا السوق، مجرم، وصحا مفيد على الرجل يقول له في ود: لماذا لم تعد تكتب؟ أنا من عشاق أدبك.
وفي شعور بالمرارة العميقة قال مفيد: حضرتك تريد مقابلة الدكتور عبد الوهاب؟ - وأخذ الرجل وقال في تردد يوشك أن يكون لعثمة: نعم، نعم.
وقال مفيد في لهجة لا تتسم بالود: ولكني على موعد معه. - الواقع أنني لم أجد السكرتير. - أليس بالخارج؟ - لا. - اسمح لي إذن أبحث عنه ليحدد لك موعدا.
وهم مفيد أن يقف ولكن الرجل عاجله: ولكني أريد أن أجلس معك وأتعرف بك. - ولكني الآن على موعد مع الدكتور عبد الوهاب. - وما البأس، نتحدث حتى يجيء، فأنا منذ زمن بعيد من المعجبين ... - أتعتقد أننا يمكن أن نتكلم في الأدب الآن؟! - ولم لا؟ - اسمع يا سيدي، لقد مرت علي بالسوق سنوات عديدة، فأرجو أن يدخل هذا في اعتبارك عند حديثنا في الأدب.
ونظر الرجل نظرة باهتة إلى مفيد وتراجعت حدقتاه قليلا إلى محجريهما، ثم تغلب على نفسه في هدوء وكأنما لم يحس بما يخفيه كلام مفيد، وقال في نفس اللهجة التي كان يتكلم بها عن الأدب: الصفقة التي تريد فيها الدكتور عبد الوهاب.
أهي لحسابك الخاص أم لحساب شركة أخرى؟ وأحس مفيد أن الحديث أصبح يتفق وجو الحجرة التي يجلسان بها، فقال في مداورة: بماذا تراك تجيب لو كنت في مكاني؟
وعادت النظرة الباهتة وأعقبها الهدوء ولكنه لم يملك نفسه أن قال: يظهر أنني لم أكن أقدرك حق قدرك يا مفيد بك. - كلنا معرضون للخطأ. - ما هو الربح الذي تنتظره منها؟ - نفس الربح الذي تنتظره أنت على الأقل. - فما رأيك لو أخذت نصفه الآن وتنازلت لي عنها؟ - هذا يتوقف على مقدار تقديرك للربح والدعاية التي أحصل عليها عند نجاحي في هذه المهمة، وغير هذا مما لا يخفى على ذكائك، وأرجو أن يدخل ... وانتهت المساومة بمفيد يضع في جيبه شيكا بمبلغ خمسة آلاف جنيه ويخرج مسرعا دون أن يقابل الدكتور عبد الوهاب.
لم يكن مفيد يتوقع أن تتم الصفقة على هذه الصورة، فهو سعيد بما ناله من سعادة غامرة، حتى لقد نسي هذا الحديث الطويل عن الأدب ونفسه وما صنعه السوق، ونسي ما كان يرمي به نفسه، بل هو الآن راض عن نفسه كل الرضا يسكب عليها ألوانا من المديح وأفانين من الإعجاب. فإن حاولت نفسه أن تصده عن هذا الغرور ارتفعت يده في لا شعور مأخوذ إلى مكمن الشيك في جيبه، فما هي إلا أن يعود المديح لنفسه والإعجاب بها يملآن عليه آفاق الحياة، فلا يرى من الطريق أمامه إلا الفرح والبهجة والإعجاب والسعادة، ولما كانت هذه الأشياء جميعا لا تغني مع السيارات التي تقطع الطرق وتريد الناس أن ينظروا بعيونهم لا ببهجتهم فقد صدمته سيارة، وصحا من رضائه عن نفسه مسجى بسرير مستشفى وبجانبه ممرضة. - أين أنا؟
سؤال ما أسرع ما تبين غباءه فسارع يقول دون أن ينتظر إجابة: هل الإصابة خطيرة؟ - خير إن شاء الله، حمدا لله على السلامة، دقيقة واحدة أنادي الدكتور.
وجاء الطبيب وفي كلمات قلائل تبين ما حدث له، لقد مرت السيارة على يده اليمنى فأحدثت بها تهشيما في العظام وتهتكا في الأنسجة، والطبيب وحده لا يستطيع أن يقرر ما يفعله، فهو يرسل في طلب كونسلتو ليقرر ما يتخذه إزاء هذه اليد، ويخرج الطبيب ويعود مفيد إلى نفسه، يدي، ماذا يصنعون بيدي؟ لماذا؟ ماذا فعلت يدي؟ ماذا فعلت؟ ويأتي الكونسلتو وتجتمع حول يد مفيد وجوه متجهمة وما تلبث أن تنصرف عنه لتنظر إلى صور الأشعة التي تمثل الحالة التي صارت إليها يده، ويسأل مفيد، ويسأل، فلا تجيبه إلا همهمة تترجح بين الأمل واليأس، ويتركه الأطباء ليختلوا بأنفسهم وطبهم، وليصدروا القرار النهائي على يده. يدي، ماذا فعلت يدي؟ إن آخر ما فعلته يدي هو تسلم هذا المبلغ، خمسة آلاف جنيه، أكنت صاحب حق فيه؟ أي مجهود بذلت لأناله؟ اسمي في السوق وسمعتي ومقدرتي البارعة على إتمام الصفقات، نعم أوهمت الرجل أنني كنت سأكسب عشرين ألف جنيه، ولكن هو أيضا كان يطمع في الربح ولو لم يكن كذلك لما أعطاني هذا المبلغ، كذبت عليه، نعم كذبت ولكن هل يعرف السوق إلا الكذب؟ لو لم يكن مقدرا لنفسه ربحا يزيد عن عشرين ألف جنيه لما أعطاني هذا المبلغ، ولكنني كذبت، غالطت ضميري، أين ضميري؟ ألم أقل إنني فقدته منذ زمن طويل؟ منذ نزلت إلى السوق، كان آخر عمل تدخل فيه ضميري هو تحولي عن الأدب وإبائي أن أبشر بالفضيلة وأنا غارق في الرذيلة، ولكن، ألم تكن يدي هي التي كتبت ما كتبت من أدب؟ وكنت أدعو إلى الأخوة والحب والتسامح والسعادة، ثم بعد، أصبحت من رجال الأعمال فالحياة أصبحت عندي لا شيء إلا أن أكسب، أصبحت يدي التي كانت تعمل للناس جميعا، الناس في كل العالم، الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، الذين يقرءون والذين لا يقرءون، أصبحت يدي هذه لا تعمل شيئا إلا أن تضع في جيبي نقودا، أصبحت فائدتها الوحيدة أن تجعلني غنيا، دون حتى أن تفكر في سعادتي، كنت سعيدا بيدي وهي تكتب للناس، ألم أكن سعيدا وهي تكسب لي أموالا؟ قدمت بها الرشاوي، حطمت بها ضمائر الناس، ما لي ولهم، لقد كانوا على استعداد لبيع ضمائرهم لأي مشتر، فما البأس بي أن أشتري بضاعة معروضة في السوق، وأصبح غنيا، وألقى الأمن على مستقبلي ولكن أترى أحسست بهذا الأمن؟ أبدا، كلما زادت ثروتي زاد خوفي من المستقبل، مخيف هذا المستقبل لمن يكسب مالا، فقدت ضميري وقلمي، و... و... لا، لا أريد أن أفقد يدي، إنها لم تصنع شيئا تستحق من أجله أن ... أن ... أخاف أن أقول الكلمة، أتراهم يحكمون عليها بالبتر؟ أنا لم أسرق، ما لهم لا يعودون، إن بقيت يدي عدت للكتابة، أتراني أصلح اليوم أن أكتب؟ أبشر مرة أخرى بالسعادة والأمن، الأمن من داخل نفسي لا من خارجها، الأمن من القلوب لا من المال، هذه القلوب الواجفة الهالعة التي تطير شعاعا من الخوف والتي ترمي بنفسها إلى مستقبل الأيام ارتماء يائسا مذعورا أتراني أستطيع أن أقول لها إن أمنك في ذاتك لا في خارجك، وحريتك من داخلك لا يجرؤ إنسان أن يعدو عليها حتى تقبلي أنت أن تتخلي عنها؟ فما عرف الأمن إلا في ظل الحرية وما عاشت الحرية إلا في ظل الأمن، هل أستطيع أن أقول هذا للناس، إن بقيت يدي أقول ... أقول ... ولكن هل تبقى يدي، ولكن، إني أستطيع أن أقول حتى لو فقدت يدي، الأمن يشيع في نفسي، حريتي عادت إلي، فليقطعوا يدي فسيبقى لي أمني وحريتي وحبي للناس وسأستطيع أن أقول بلساني وإن لم فبقلبي وسيفهمون، فما سمع الناس حديثا أوضح من حديث صادر عن قلب، سأقول، وسأكتب وسيفهمون.
ودخل الأطباء وعلى وجوههم هذا القناع من الجمود الذي ألقاه العلم على وجوههم منذ أصبحوا كبارا وفوجئوا بمفيد يقول في مرح: اضحكوا أيها الأطباء، مهما يكن قراركم فهو أقل قبحا من هذا الجمود على وجوهكم، لا، أنا لم أجن ولكنني عدت إلى الأمن، وإلى الحرية، إلى نفسي.
على رغم الأيام
وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها.
على مقربة قريبة من قريتنا تقع قريته، وقد تعود أن يقيم بقريته أكثر أيام العام لا يمل منها ولا يضجر، وهو من تلقى علومه بإنجلترا. وهو مني بمثابة العم في القرابة والسن معا، فهو في آخر الحلقة السادسة من عمره. عهدته منذ بدأت أتبين الأشياء فضي الشعر في جمال فكان يخيل إلي حين يداعب الهواء شعره أن شعره موجات صغيرة من الفضة تتجاوب مع النسمات التي تتواكب إليه، وعهدته منذ تبينت الأشياء أنيقا لا تتخلى عنه الأناقة أبدا، فهو أنيق بمعطفه الأبيض وجلبابه الحريري الذي يلبسه في صيف القرية، وهو أنيق بمعطفه الصوفي وجلبابه الذي يتخذه في الشتاء، وهو أنيق غاية الأناقة إذا قصد القاهرة فهوي يرتدي من الحلل أحسنها وأبدعها ذوقا، يصاحبها رباط العنق من أغلى طراز والجورب المنتقى بأجمل عناية، لا تستطيع حين تلقاه في القاهرة إلا أن تذكر لوردات الإنجليز الذين ربي بينهم.
عاد إلى القاهرة في أول الحرب العالمية الأولى وتولى الإشراف على أرضه وأرض إخوته، ولم تكن مساحة الأرض كبيرة، ولكنه كان لا يتركها أبدا، ويتولى زراعتها بنفسه، يجد في ذلك لذة لا تدانيها لذة، وقد حاول إخوته منذ عاد أن يزوجوه، ولكنه كان يرفض دائما دون أن يبدي لرفضه سببا. وإنما هي لا قاطعة، أو لا لطيفة رقيقة شأن أحاديثه جميعا، ولكنها لا دائما، وبلا سبب.
كنت أقصد إليه كلما ذهبت إلى القرية. وكنت آخذ رأيه في المسائل الزراعية التي أحتاج فيها إلى رأي. وقد كان رأيه دائما مدعما بالعلم والتجربة معا، فدراسته في إنجلترا كانت زراعية وطول عهده بالأرض زوده بالكثير من التجارب البصيرة، وقد سألته في يوم: لماذا لم تتزوج؟
فنظر إلى الأفق البعيد وبدت على شفتيه الرقيقتين ظلال ابتسامة حنون، ثم قال: غافلتني السنون فوجدت نفسي حيث لا أستطيع الزواج. - ولماذا كنت ترفض؟
وعادت الابتسامة وطال تحديقه إلى الأفق البعيد، ومرت بعينيه طيوف تتباين بين السعادة والحزن، وظل صامتا، فأكرمت صمته، ولم أعد إلى السؤال.
تعود كلما جاء إلى القاهرة أن يدعوني بالتليفون فأقضي معه بعض الوقت، وفي يوم جاء إلى القاهرة والتقينا على منضدة في مينا هاوس وانساب الحديث بيننا، وقد تعودت أن أسعد بنغمات حديثه؛ فهي همس منغوم فيه عذوبة ورقة وهدوء، وكانت عيناه إليه الباب، عينان هادئتان فارقتهما الدهشة لكثرة ما مر بهما ولكن بريقا من أيام الشباب ما زال يطل منهما، وإن كان بريقا عجوزا عدت عليه السنون.
وفي لحظة خيل إلي أنه ليس هو، أو أنه قد عاد إلى شبابه الذي رأيته عليه في الصورة المعلقة ببيته بالقرية، بل خيل إلي في ومضة عابرة أن شعره الفضي لم يعد فضيا، وجمد على حاله هذا ونظرت إلى حيث ينظر فإذا سيدة وقور ليست مصرية على أية حال، شعرها فضي كشعره وإن كان غزيرا، طويلة القامة في غير امتلاء ولا نحافة، تطل السنون من عينيها ولكنها إطلالة فيها حنان ودعة. وقفت السيدة على الباب وكانت تنفض المكان بعينيها تبحث عن مكان حتى إذا يئست أوشكت أن تولينا ظهرها وتتركنا، ولكني شعرت بزلزال في النضد الذي أجلس إليه، وإذا الشيخ الذي كان بجانبي قد أصبح بجانب السيدة، ناداها فالتفتت ونظرت إليه فإذا هي أيضا يطوف بها ذلك الطائف الذي مس الرجل، وإذا أنا يخيل إلي في لحظة أنها لم تعد هي. ورأيته يحتضن يديها في راحتيه ويظل كل منهما يرنو إلى الآخر بعض الحين في صمت ثم يفيضان، وقد أقبل فوج جديد يريد أن يدخل إلى المكان، فيتركان الفندق جميعا ويخرجان دون أن يحفل بي العم ودون حتى أن يلتفت إلي.
تركت مكاني وقمت، وفي باكر الصباح دق جرس التليفون وكان هو المتحدث. - أريدك اليوم. - أنا تحت أمرك. - اليوم جميعه. - اليوم جميعه، منذ متي تريدني؟ - منذ الآن.
وما هي إلا بعض دقائق حتى كنت عنده. لم أسأله فقد وجدت الذكريات تفيض على لسانه يريد أن يرويها لأي إنسان يلاقيه. وكنت أنا. قال ونظرة تقطر سعادة تنسكب من عينيه: في أول عهدي بإنجلترا دعاني أحد أصدقائي إلى حفلة يقيمها في بيته، وقد لبيت دعوته ملهوفا؛ فما كان لي من أصدقاء إلا ندرة جمعتني بهم فصول المدرسة، لم يكن ضيوف صديقي إلا قلة من الصفوة وكان من بينهم أختان، كان جلوسي إلى جانب بيسي، وكان حديثها منطلقا في خفة، وكانت مرحة اللفتة، قريبة الفهم، سريعة الإقبال. لم يطل بنا الحديث حتى سألتها إن كانت تسمح لي أن أزورها فرحبت وكانت أختها ليزا تمر بنا فاستوقفتها وقدمتني إليها فصافحتني وانصرفت لم تلبث وانتهى الحفل. وفي ضحى اليوم التالي ركبت دراجتي قصدت إلى بيتهم؛ فقد كان في مكان لا يمكن أن أصل إليه إلا بالدراجة، أو بعربة خاصة، لم أكن محتاجا أن أدق الجرس، فقد وجدت ليزا جالسة في شرفة البيت تقرأ. أسندت دراجتي إلى درابزين الشرفة الخشبي ورحت أصعد السلم متعمدا أن أثير بحذائي تثير انتباهها ولكني لم أفلح في انتزاعها من الكتاب، ولم أجد بدا آخر الأمر من أن ألقي تحية متعثرة توشك أن تسقط في الطريق إلى أذنيها، ولكنها مع ذلك أفلحت في أن تجعلها ترفع رأسها عن الكتاب لتلقي إلي تحية باسمة قد تتسم بالأدب أو قد تتسم بالرقة ولكنها أبدا لا تتسم بالترحيب، كما أنها لا تحمل معنى واحدا يدل على أنها تعرفني أو حتى تذكر أين التقت بي، لم أجد بدا من أن أذكرها بنفسي، وليس أثقل على نفسي من أن أقدم نفسي، فقلت: أسألها عن أختها لعل في سؤالي عنها ما يذكرها بي. سألتها: أين بيسي؟
وتذكرت، أو بدا لي أنها تذكرت، فقد عادت تبتسم ابتسامة أخرى أكثر إيناسا من الأولى، ثم قالت: إنها خرجت تشتري بعض أشياء، ملكني الإعجاب بليزا، تمنيت لو كانت هي من جلست إليها في حفلة الأمس وتمنيت أن أجد سببا يبقيني معها فتستبدلني بهذا الكتاب في يدها، وتقرأ ما بنفسي من الإعجاب لها وأقرأ في عينيها الخضراوين من بساطة الأمل، وربيع الشباب، تمنيت ولم أجد ما أحقق به أمنياتي إلا سؤالا متعثرا آخر. - لعلها لن تتأخر.
وظلت الابتسامة الأنيسة على وجهها وهي تقول: بل ستتأخر على ما أظن.
كانت الإجابة أمرا صريحا لي بالانصراف، لم تبعث ابتسامتها، ولا كلمة أظن الشك في نفسي من أنها تريدني أن أنصرف. ووجدت نفسي ألقي بتحية وداع متعثرة وأستدير إلى السلم أنزله في تفكير عميق، ماذا يمكن أن يبقيني هنا؟ أيمكن مثلا أن أقع على السلم فأعرج فأبقى! ولكن ماذا تفعل هذه الدرجات القلائل، إنها أهون من أن تصيبني بجرح يستحق البقاء، ماذا يمكن أن يحدث. كنت قد وصلت إلى دراجتي، ودون أن أنظر إلى اتجاه يدي مددتها لأمسك بالمقود فإذا مسمار في الدرابزين يجرحني، آه، قلتها في صوت مباغت واهن، ثم ما لبثت أن تذكرت أملي في أن أجرح، فنظرت إلى الجرح ثم هززت رأسي، لقد كان الجرح أهون من أن أطلب له دواء، وأهون من أن أذكره، ولكن فكرة ما لبثت أن ومضت في ذهني. فنظرت إليها فوجدت الكتاب قد اختطفها مرة أخرى فما لبثت أن نزعت المسمار من مكانه وأهويت به على عجلة الدراجة فأفرغتها من الهواء، كنت أحس بهواء العجلة وهو خارج وكأنه يقضي على الحيرة التي خالطتني، وعلى اليأس الذي ملك نفسي حتى إذا استقر حديد العجلة على الأرض اطمأنت نفسي وهدأ مضطربي، وعدت أصعد لأقول في صوت ما زلت أذكر رنة الفرح فيه حتى اليوم. - لقد فسدت دراجتي فكيف السبيل أن أعود إلى البيت؟ وشاعت ابتسامة حلوة في وجهها ثم أقفلت الكتاب دون أن تعنى بثني الورقة التي كانت تقرؤها، وقالت: انتظر حتى تأتي بيسي، فقد أخذت العربة معها.
وقبل أن تتم جملتها كنت قد أخذت مكاني بجانبها، وأنا أسأل: أتقود بيسي العربة؟
فقالت والابتسامة على وجهها ما تزال: نعم. - ألا تخاف الجياد؟ - إنه جواد واحد يحبنا ونحبه ولا نخافه.
وتحادثنا، وتحادثنا، وتأخرت بيسي وأنا أدعو الله أن تزيد من تأخرها، وأقبلت على ليزا إقبالة محب قديم لا صديق جديد، وأقبلت هي على حديثي، فما قلت رأيا إلا وجدتها تراه، وما ذكرت من ميولها ميلا إلا وجدتني مثلها فيه، وكانت عيناي دائمتي التحديق في عينيها أجوس في أطواء نفسي فأجدني أزداد حبا لها. كان لا بد أن تعود بيسي وقد عادت. ونظرت إلى جلستنا، وابتسمت: أراك قد لبيت الدعوة.
وقلت في فرح: وهل كان يمكن ألا ألبيها؟
وقصت ليزا على أختها ما كان من أمر الدراجة، وبدا على بيسي أنها لم تكن محتاجة إلى هذا الشرح فما كنت في حياتها غير عابر سبيل أو عابر سفر إن صح التعبير. قالت: فهلم اركب لأذهب بك إلى بيتك.
فنظرت إلى ليزا وأنا أقول في حسرة: هلم.
كم كانت الدراجة مباركة في يومنا هذا، فإنه ما لبثت أن وجدت فيها الملجأ مرة أخرى. - ماذا سأفعل بالدراجة!
وسكتت ليزا وقالت بيسي: اتركها. - وماذا أفعل؟ إنني لا أسير إلا بها.
وقالت ليزا: اسمع، أمسك بدراجتك وسر وسأسير معك على أن تصاحبنا بيسي بالعربة لتعود بي.
ونظرت بيسي إلينا ثم ما لبثت أن أغرقت في الضحك ثم قالت: ألم تقولي إنه ينتظرني منذ ساعة أو أكثر لأعود به بالعربة؟
وكأنما أدركت ليزا ما يخفيه ضحك أختها؟ ولكنها قالت في بلاهة حبيبة: نعم.
وأكملت بيسي حديثها: ففيم كان انتظاره ما دام سيعود سائرا على أية حال؟ أم تراك كنت تريدين له العربة لتسير إلى جانبه لا ليركبها، أم تراك كنت تريدين العربة لتعود بك أنت؟
ثم عادت تضحك مرة أخرى، وقالت ليزا: وماذا نفعل، ما دام لا يريد أن يترك الدراجة.
واصطنعت بيسي الجد وهي تقول: نعم أنت محقة. ماذا يمكن أن نفعل؟ هلم بنا.
وسرنا، أمسك بدراجتي وليزا إلى جانبي وبيسي تقود العربة تسبقنا أحيانا أو يطيب لها أن تضحك منا فتبطئ حتى تظل بجانبنا. وفي مرة من المرات التي شاءت فيها بيسي أن تتيح لنا خلوة من الحديث قالت ليزا: أتعبت؟
قلت في فرح: أنا؟! أبدا.
فقالت وابتسامة ماكرة على فمها: على كل حال عليك أن تتحمل تبعة فعلتك.
وأخذت بحديثها وقلت: أية فعلة؟ - ما ذنب الدراجة حتى تفسد إطارها، وما ذنب درابزين بيتنا حتى تخلع مساميره.
ظل حبي لها ينمو مع الأيام حتى كان يوم عرضت عليها فيه أن نتزوج فقالت: نعم أتمنى ذلك؟ ولكن أمهلني بضعة أيام. - متى أعرف الجواب. - في أي يوم نحن؟ - اليوم الأحد. - إذن ففي يوم الأحد.
لم يكن ساسة العالم على علم بهذا الوعد؛ فإنه لم يقدر لي أن أشهد هذا الأحد في إنجلترا وإنما وجدتني بين عشية وصباح على مركب ينقلني إلى مصر، لم أبال الأوامر وقصدت إليها في البيت قبيل الرحيل فلم أجد بالبيت أحدا؟ فتركت خطابا دسسته تحت الباب، ثم وضعت في المركب لأجد نفسي بمصر، لا تسألني كم من الخطابات أرسلت بعد ذلك، ولا تسلني كم خطابا تسلمت. فأما ما أرسلته فلا أذكر عدده لكثرته، وأما ما تسلمته فأذكر عدده لانعدامه. لم تصلني منها كلمة. ولكنني مع ذلك ظللت أكتب، وأكتب فقد أصبحت الكتابة إليها هي كل ما بقي لي من حبي ومن شبابي ومن حياتي كلها إني بلا زواج ولا ولد فأنا بلا أمل. لم يكن لي إلا هذه الخطابات فظللت أكتبها حتى أمس، أمس صباحا قبل أن ألقاك، كنت قد أودعت البريد خطابا إليها. لا لم أستطع السفر، خشيت، خشيت أن تصدمني الحقيقة هناك فأعلم أنها ماتت أو تزوجت ففضلت أن أحيا بأملي الواهن الشاحب الضئيل عن لقاء الحق الواضح الصريح القوي، فلم أسافر، حتى كان أمس ولقيتها، لقد تركوا بيتهم وتركوا الحي وتركوا المدينة، فلم تعد إليها مني كلمة، ولقد ...
وانسكبت الدموع من عينيه وهو يقول: ولقد جاءت إلى مصر بين الحربين، وعادت تجيء بعد الحرب الثانية على أمل واهن أن تلقاني، أو تسمع عني حتى أمس ولقد ...
وازدادت الدموع انسكابا من عينيه واختلج صوته في إجهاشة حب والهة شابة: ولقد انتظرتني فلم تتزوج.
لم تنته حكاية الشيخ؛ فقد كان يريد مني كمحام أن يعد الإجراءات لزواجه، نعم زواجه هو ابن الستين أو أبو الستين منها، منها هي، نعم وأنها في الرابعة والخمسين.
وبعد أيام ذهبت إلى العم في القرية أهنئه بالزواج وأهنئ به العمة الجديدة، كانا جالسين هناك بين النخيل فكنت أرى فيهما قوة أقوى من النخيل ومن الأيام ومن الحروب ومن القادة الذين يشعلون نيران العالم، لقد تغلبا على كل السفاكين الذين أراقوا دماء البشرية. وتزوجا آخر الأمر وإن كان هو في الستين وإن كانت هي في الرابعة والخمسين ولكن ماذا يهم، لقد التقت فيهما حياة واحدة عاشت سنين طويلة، طويلة جدا حياتين.
قال ودمعة فرحانة تتلألأ في عينيه مترددة بين بقاء أو انهمار: لقد تزوجت شبابي يا بني، لقد تزوجت شبابي، ووجدت دمعة تطفر إلى عيني أنا الآخر جعلت العمة ليزا تقول في فرح: ولم يسمح له تأثيره أن يعيد ما قال واستطعت أن أتغلب على خلجاتي الفرحانة لأترجم لها جملته. وطفرت إلى عينها هي الأخرى وهي تقول: إنه زوجي من أربعين عاما.
يا لها من أيام
زوجان، أحدثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدثني عن شأنها وما مر بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي .
طويل هذا الليل ولكن، أين هو من الزمن؟ إنه نقطة لا تزيد من كتاب الزمن الكبير الذي حارت في بدايته العقول وجهلت المقادير نهايته، نقطة هذا الليل لا تزيد، ولكنه طويل، وما أنا الذي أحسه طويلا، رقم من ملايين الأرقام، بل من ملايين الملايين، ولكن أنا كل شيء، أنا هذا العالم، فما العالم بالنسبة إلي إن لم أكن أنا فيه، أحس بذاتي، بعظمتها وقد يراني الناس لا شيء، ولكن ما لي وللناس وما يظنونه، ما يضيرني رأيهم ما دمت أرى نفسي شيئا خطيرا جديرا بالاحترام، آه، يا لها من فلسفة بائسة أصطنعها لنفسي اصطناعا فما تجدي، وأظل يومي وليلي هذا الطويل ألقنها كرامتي الجريحة فما تشفي الجراح ولا تبرئ الطعنة ولا هي تلهمني من الصبر بصيصا أذود به عن نفسي هذا البؤس الذي يحيطها.
أعظيم أنا؟ يا لها من سخرية كبيرة، أخطير شأني؟ يا لي من ضائع لا قيمة له، ويا لي من أحمق أعجل إلى الأمر لا أدري بواعثه أو عواقبه.
أحببتها، نعم أحببتها كما أحبت طفولتي الباكرة، وشبابي الندي، وأيامي الفتية، وأحلامي المنضورة.
أحببتها منذ الأيام صغار قصار يملؤها مرح الطفولة وبسمات الملعب وعبث الصغر، وكبرنا فكان للقلب عند اللقاء وجيب عرفناه منذ دقاته الأولى، إنه الحب يعلن نفسه باسمه الصريح بعد أن كان متخفيا وراء كرة الملعب وعبث الصبية، هو الحب كاملا كما عرفه قيس وليلى، وجميل وبثينة، وروميو وجولييت وغيرهم ممن دمغوا التاريخ بحبهم أو ممن خلق الكتاب حبهم.
وكان أبي وأبوها صديقين، وفي ظل هذه الصداقة اتصل الحب دون أن ينمو؛ فقد كان بالغا مداه لا يملك بعد عنفه ولا بعد نموه نموا. ومرت بنا الأيام أروي حبي بلقاء قصير، أو ابتسامة حلوة، أو كلمة منغومة، لم أخطبها ولم أكن في حاجة إلى خطبتها؛ فقد كان زواجنا أمرا مقررا لا يحتاج إلى خطبة.
كان أبي ينتظر أن أتم تعليمي حتى يزوجني لها، وكان أبوها ينتظر الشيء نفسه حتى يتم هذا الزواج.
وكنا جارين، ولعل هذا الجوار فرض علينا رقابة أشد، والعجيب في الأمر أن أبي كان أشد دقة في رقابته من أبيها؛ فلم يكن يسمح لها أن تخلو إلي لحظة؛ فإن جاءت البيت فهو فيه لا يبرحه حتى تخرج مهما يكن وراءه من أعمال. وإن حاولت أن أذهب إلى بيتها كان حريصا أن يعلم بوجود أبيها هناك.
نعم، كنت يتيم الأم منذ الطفولة الباكرة، وكانت ترعى أمري امرأة كبيرة السن وأنا في المهد، وظلت قائمة على شأني حتى اليوم، وكان أمرها كأمري، امرأة كبيرة ترعاها منذ لا تعرف متى وما زالت في بيتهم حتى اليوم، نعم حتى اليوم.
لم يكن أبي، ولا أبوها، يكتفي برقابة هاتين الحاضنتين، وكانتا تفرضان علينا قيودا قاسية نلقاها بالبشر، والابتسامة المختلسة، وبالمخادعة الطويلة أن نحظى بلقاء مهما يكن قصيرا بعيدا عن أعين الرقباء.
أتسألني ماذا كنا نقول في هذه اللقاءات؟ زوجان يعلمان أنهما زوجان ويتحدثان كزوجين بلا قبلات ولا عناق. وما حاجتنا إلى ذلك ونحن ننتظر الغد القريب فنتقبل ونعانق ما شاء لنا الهوى المشبوب والحب الطاهر العميق.
زوجان، أحدثها عن شأني وما عرض لي في يومي، وتحدثني عن شأنها وما مر بها من أمور، وما كان أتفه ما أرويه لها، وما كان أبسط ما تحكيه لي، ولكن كأن لنا نحن الدنيا بما وسعت، كانت سعادتي وحياتي التي أحيا لها وأملي الذي أسعى إليه، كان حبي كل شيء لي، وما أظنه إلا كان كل شيء لها.
كنت أحدثها عن المدرسين حين كنت تلميذا صغيرا، وكانت تحدثني عن المدرسات، ثم صرت أحدثها عن الجامعة والمحاضرات، وكانت تحدثني عن البيت وما تلقى فيه من كسل الخادم وإلحاح الباعة حين بلغنا بواكير الشباب. وأظل بعد اللقاء ساعات أعيش اللقاء مرات ومرات، وأتمثلها وهي تحكي أو تسمع، تضحك أو تغضب، ثم أفيق إلى كتبي أنصب عليها في وعي وإصرار، أتعجل الأيام والسنين ليجمعنا البيت بلا رقيب إلا الحب، ولا أعين من أبيها ولا أبي.
لم يكن أبي غنيا ولا كان أبوها؛ فقد كانا من الموظفين القدامى الذين يعتمدون على الستر أكثر اعتمادهم على الريع، وكان الستر يكفينا، فملابسنا نظيفة وبيوتنا توفر لنا ما نهفو إليه من راحة، وكان أبوها يعلم دخل أبي، يعلمه كما يعلم دخل نفسه، كما كان أبي يعلم خاصة شأنهم لا يجهل من أمرهم أمرا، وكانا متفقين على الزواج وكل منهما على علم تام بحال الآخر. كان الزواج مقررا لا شك فيه، كان كذلك، حتى نجحت في السنة الثالثة في الكلية وأصبحت على أعتاب السنة النهائية، وكان رأي أبيها ورأي أبي أن نقضي جميعا الصيف في الإسكندرية، فانتقلنا إليها.
وهناك كنا نقضي يومنا جميعا معا لا نفترق حتى لقد كنا نأكل معا، وتولت هي القيام بشأنها وأعطاها أبي نصيبا من المصاريف، وكأنما أراد أبي أن يشعرها بقرب الزواج، وكأنما أراد أن تضم العائلة حياة واحدة، فلم يكن يفصل بين سكناها وسكنانا غير جدار، عشناها حياة واحدة تزيدنا الرقابة المفروضة علينا شغفا ومتعة، وتلتقي العيون منا في عناق طويل يسخر من الرقابة، ويفضي بنا إلى عالم علوي مليء بالهوى والأحلام والآمال.
يا لها من أيام! إن كنت أحسست بذاتي، أو كنت أحببت حياتي فمن ضياء هذه الأيام.
كنا نجلس إلى الشاطئ، البحر تحت أقدامنا، يعدو الماء على أقدامنا وقد يعدو على ملابسنا ونحن من نجوى العيون في حديث يشغلنا عن الماء والبحر، ويرتفع بنا إلى سموات هيهات أن يبلغها سمو.
وكنت إذا انفردت بنفسي، لم أفكر إلا في هذه الأوقات الهنيئة التي جمعتنا، فلا أنشغل عنها إلا بها. كان أبي يعلم ما أنا فيه؛ فنظرته إلي نظرة العالم بشأني، يخيل إليه أن الحب الذي بنفسه هو نفسه الحب الذي عرفه الناس منذ عرف الناس الحب، ويا طالما فكرت، أهذا الحب الذي أحمله هو نفسه الحب الذي عرفه الناس، أم هو أشد عنفا وأعمق جذورا وأبعد غورا، ثم يخيل إلي أن حبي فرد لم يعرفه أحد قبلي ولن يعرفه أحد بعدي.
وبينما أنا في هجعة الأصيل أفكر فيهم تعودت أن أفكر فيه، نادى أبي من حجرته فسارعت إليه، فوجدته يعاني آلاما بدت آثارها على كل نأمة في وجهه، ماذا بك يا أبي؟
سؤال أطلقته وأنا أرى ما به ولا أدري ما أصنع، ولم أجد ما أفعله إلا أن أتركه عدوا إلى الدار المجاورة إلى أبيها أستصرخه أن يغيثنا، وعاد الرجل معي يسارع الخطو ثم يعدو حتى إذا بلغنا أبي وجدناه وقد زاد به الألم حتى لا تكاد شفتاه تبين، تركتهم ونزلت عدوا أبحث عن طبيب وما كدت أجد لافتة تحمل اسم طبيب عليها حتى عدت به إلى المنزل، لم يكن الأمر محتاجا إلى طبيب، وإنما إلى مغفرة الله، لم يقل الطبيب إلا جملة واحدة كانت كل شيء: يرحمه الله.
وداعا أيام الهناء، لقد مات أبي والتقيت لأول مرة بالحياة وحدي، كم هي قاسية عاتية، وكم نلهو في رعاية الآباء، وكم كانت أعباؤها صغيرة بقدر ما نرى من الحياة، تلك الحياة التي يحمل عنا آباؤنا عبئها جميعا، كم يحملون العبء! كم نجهل نحن ما يحملون! لكم فكرت في ضآلة شأني حين طالعت الحياة وحدي، كيف أشكر أبي على ما كان يرده عني من شئون الدنيا، لكم كنت عاقا وإن لم أخالفه يوما. كيف أستطيع اليوم، وقد مات، أن أشكره، وأي شكر يجزي غدق فضله، وسكب خيره وموفور بره، لا، لا شكر يفي.
ذهبنا إلى القاهرة، وأقمنا ليالي المأتم وظل عمي سعد يرعى شأني، كما كان يرعاه أبي، وظل يهديني إلى ما لا أعرف.
ومر بعض الحين، ثم فوجئت بعمي سعد ينقطع فجأة، وانتظرت يومين ثم ذهبت إليه، فإذا الوجه الضاحك أصبح كاشرا، واللقاء الرحب أصبح ضيقا، وإذ بنجوى لا تلقاني، وأسأل عنها فيجيبني أبوها في عنف، إنها مشغولة، وأخرج.
وداعا أيام الهناء، وداعا أحلام الطفولة والصبا والشباب، وداعا، فما الأيام بالأيام التي عهدت، ولا الآمال بمحققة، وإلا فما هذا العنف بعد اللين، وما هذا الجفاء بعد الرقة.
لم أشأ أن أترك الظنون تقودني إلى اليأس، فعدت إليه مرة أخرى في اليوم التالي، فوجدت الجفاء كما تركته في الأمس: عمي، أأخطأت في شيء؟
قال في غلظة: لماذا؟ - أرى عنفا في اللقاء وجفاء في الحديث. - أنت واهم. - فلماذا لا تلقاني نجوى؟
ووجدت وجهه قد أدير وازداد غلظة وهو يقول: ولماذا تلقاها؟ - لماذا ألقاها؟ - نعم، لماذا تلقاها؟ - أليست، أليست خطيبتي؟ - هل خطبتها؟
نعم، إنه الحق ما يقول، لم أخطبها، ولكن ألم يكن كل ما كان بيننا خطبة ولكن، لم أجد ما أقول إلا: فإني أخطبها الآن.
وازداد صوت عمي غلظة وهو يقول: وأنا أرفض الخطبة.
أصبح الظن إذن حقيقة، فوداعا إذن أيام الهناء، وداعا آمال الحياة جميعا، ولولا بقية من إيمان لقلت للحياة جميعها وداعا، وداعا بائسا، أي شيء فيك أيتها الحياة أبقى له، هذا الصديق الذي يخون الموت، أم هذا الحب الذي قضيت له وبه حياتي، ثم لم يخلف إلا ذكريات كانت هناء فأمست تعاسة، وكانت منى أصبحت يأسا.
تركت الحي الذي كنت أقطنه، وحاولت أن أقطع ما بيني وبين هذه الحياة التي كنت أعيشها، وحاولت أن أمزق هذه الخيوط الضخمة من السنين الطوال التي تربطني بذلك الماضي، حاولت، ولكن هيهات، وكيف للنفس أن تنشطر جزأين؟ وكيف للحياة أن ينفصل أولها عن آخرها وماضيها عن حاضرها؟ إنها حياتي، واحدة لا تنقسم ولا تنشطر ولا تنفصل.
ومرت الأيام، ثقيلة بطيئة، حاولت أن أقطعها بالمذاكرة، وكنت قد تعودت أن ألهو بالمذاكرة عن كل شيء، ونجحت، ولم أفرح بالنجاح، وماذا يجدي النجاح، وأي أمل يمكن أن يفسحه لي؟
وفي يوم طالعتني الجريدة بنعي عمي سعد، فوجدت نفسي أسارع إلى الحي ودخلت إلى البيت فوجدت وجوها أعرف أصحابها فهم أقرباؤه ولكني عبرتهم أبحث عن نجوى فلم أجدها، ولم أجد إلا الحاضنة التي كانت تقوم بشأنها، سألتها في لهفة: أين نجوى؟
فإذا بالمرأة في نشيج يمزق الأفئدة، وأعدت السؤال في لهفة أشد: أين نجوى؟
وأجابت المرأة: لقد ماتت من شهرين! - ماذا؟ - ماتت. لقد كانت مريضة بالسل. - منذ متى؟ - منذ كنت تخطبها. - أمن أجل هذا ... - نعم، من أجل هذا رفض أن يزوجها لك، لقد اتفقنا على أن يرفض خطبتك حتى لا تدفعك الشفقة إلى الزواج بها.
وصرخت في وجهها أسألها: وأين هو؟
وظنت المرأة أني جننت، وسألت في ذهول: من؟ - أين هو، أين عمي سعد؟
وقالت المرأة: ألا تعرف؟ - نعم، أعرف أنه مات، أين هو؟ - في حجرته يا ابني.
ودخلت إلى الغرفة ووقفت أمام هذا الوفاء الراحل، وأطرقت إلى الأرض وأنا أقول: أشكرك، وأعتذر إليك!
عودا إليك يا أبي
لقد كنت هناك في الحانة ولكن أصحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟
اليوم أبي، اليوم فقط أستطيع أن أجثو عند قدميك أسألك العفو والغفران، عفوا وإن لم أرتكب ذنبا، ولكني بحسبي من الذنب أنك غاضب، وبحسبي من الأيام سوادا أن ألقاها وأنت عني غير راض، سنوات يا أبي منذ تركتك، لم تغب عن ذهني لحظة، كنت أتمثلك في كل طريق أروده؛ فأنت الأصل الذي كنت أسعى إليه، لا شيء إلا أنت، أنت وحدك يا أبي، فما أطيق - وحقك - الحياة بغير تلك البسمة التي تشرق على وجهك وتشرق لنا بها الأيام والأزمان والآمال والمستقبل. لا أطيق.
تركتك لأضرب في الأرض فكانت ابتسامتك هذه أملي أراها أينما أدرت وجهي، لقد كانت قطعة من نفسي، بل لقد كانت أغلى قطعة في نفسي، أبي إن أكن أصبت في الحياة نجحا؛ فلأنني كنت أطالع هذه الابتسامة دائما، كنت أراها عند الشدة الآخذة فينفرج من الأزمة ما كان مستحكما، وكنت أراها عند النصر فيزداد النصر عظمة وأزداد أنا تواضعا، كانت ابتسامتك المصباح في الظلام وكانت عند الفجر مجلاه وإشراقته.
أبي أتراك تذكر كم من الأعوام مرت لم ترني فيها؟ بل إنني حتى الآن لم أكتب إليك، عشرة أعوام كاملة، وقد قصدت أن أكتب إليك اليوم لأنني أحتفل اليوم بعيد مولدي، لقد ولدت في نفس اليوم الذي غضبت مني فيه وطردتني، فأردت يا أبي أن أكتب هذا في نفس اليوم، يوم مولدي، فإنه يخيل إلي أنني ولدت في هذا اليوم مرتين، مرة يوم التقيت بالحياة وعطفك يحيط بي، ومرة يوم التقيت بالحياة وحدي بلا عون حين طردتني.
أبي أتظنني غضبت أن طردتني، أتظن أنني انقطعت عنك طوال هذه المدة لم أعتذر ولم آت ولم أجث عند قدميك لأنني ذو كرامة؟ لا وحقك، فإنني عندك أنت لا كرامة لي، فأنا أعلم أن حبك يرعى من كرامتي ما لا أرعاه. لم يكن انقطاعي لشيء من هذا، وإنما لشيء آخر ستعرفه في نهاية هذا الكتاب.
أبي أتذكر يوم طردتني، نعم يا أبي، إنك تذكر ولكنك لم تعرف الحقيقة حتى اليوم ولم أشأ أن أخبرك بها؛ فقد كنت أخشى ألا تصدقني، وقد كنت وما زلت أحبك حبا يمنعني أن أخالف إشارة منك مهما تكن هذه الإشارة صادرة عن ظن لم يثبت، أو اعتقاد لم يتأكد. كنت وما زلت لا أجد لكلمة تصدر منك إلا الطاعة فأطعت، وخرجت، ومرت عشر سنوات. أما أنا فلم أكتب إليك لفكرة تسلطت على ذهني وألحت عليه وملكت علي كل أمري، وأما أنت فلم تسأل عن ولدك لأنك كنت تعرف من أمره كل شيء، وكنت تطمئن على حياته دون أن تظهر له ذلك.
نعم يا أبي، لقد كنت أعلم أنك واقف على كل خطوة في حياتي لا تخفى عنك خافية، وقد كنت أبيح لمن أعرف أنه يلقاك أن يعرف من أمري كل شيء.
أبي، أتراني جاحدا لأني انقطعت عنك طوال هذه الفترة، أبي، أتراني ظالما لحق الأبوة إن لم أقصد إليك هذه السنوات جميعها، أتراني أبي كذلك؟ لا، وحقك لم أكن.
أبي، طوال عشر سنوات كنت أراك في كل أسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثة، كنت يا أبي أتخفى وراء الجدران في مواعيد خروجك من المنزل وأطمئن وأترقبك وأزود نفسي بمحياك ثم أعود إلى الحياة وحدي، ولقد مرضت يا أبي فكنت أرسل إلى عمي زيدان خادمك الذي تولى أمري بعد وفاة أمي، كنت أرسل إليه وأنا خارج الدار أعرف دقائق مرضك، وأنصرف بعد أن أستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يخبرك بمقدمي، نعم يا أبي، أدري أنك كنت تتمنى في لحظات مرضك هذا أن تراني، ولكن هذه الفكرة التي تسلطت على ذهني ووجداني منعتني أن أفعل، منعتني أن أنتهز فرصة مرضك لأستمنحك الرضا وأسألك الغفران، تذكر يا أبي أنك طردتني في اليوم ذاته الذي ظهرت فيه نتيجة الليسانس وكنت ناجحا بتفوق، طردتني يومذاك وأنا عائد إلى المنزل في الهزيع الأخير من الليل، رأيتني قبل عودتك أجلس إلى مائدة في حانة أشرب الخمر، وأنت رجل يخاف الله، وأغضبك أن يشرب الخمر ابنك الذي تعرفه يقيم الصلاة في مواقيتها، كبر في نفسك أن يخادعك ولدك فيصلي في البيت ويشرب الخمر في الحانة. أعرف أن فكرة مخادعتي هذه هي التي أثارتك، أعلم ولكن ...
أبي وحياتك لم أشرب الخمر، لم أشربها يومذاك ولم أشربها حتى اليوم، ولكن أكنت تصدقني حينئذ لو دفعت التهمة عن نفسي، لقد رأيتني رأي العين فكيف ينهض إنكاري دون رؤيتك.
لقد كنت هناك في الحانة ولكن صحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟
طردتني يومذاك وأعلم أنك كنت تقدر أنني سأغيب عن البيت بضعة أيام أعود بعدها، وإلا فأين أولي وجهي وأنا خريج جديد بلا مال ولا مأوى ولا وظيفة، كان تقديرك معقولا حكيما، وقد أردتني أن أحس سوء الذنب الذي ظننت أنني ارتكبته، ذنب المخادعة ولكنك حين طردتني يا أبي أردت أن أثبت لك حبي كاملا خالصا عميقا متينا فكانت هذه الفترة الطويلة التي لم ترني فيها.
كان في جيبي تلك الليلة خمسة جنيهات هي كل مالي، قضيت الليل سائرا وكان الصيف عطوفا حانيا فلم أكن في حاجة إلى مكان أبيت فيه، قضيت الليلة مع أريكة في حديقة، عجيبة، نعم أنا ابنك الذي كنت ترعاه رعاية مرهفة مدللة، ابنك الذي كانت له حجرة خاصة منذ لا يذكر متى، والذي كان يسعى بين يديه الخدم، ابنك هذا قضى ليلته مع أريكة في حديقة .
وفي الصباح الباكر قصدت صديقا أبوه من كبار المحامين ورجوته أن يلحقني بمكتب أبيه، ورحب بي المحامي الكبير وجعل لي راتبا ظنه هو رمزيا، واعتبرته أنا حياتي التي لا حياة لي إلا به.
كان مرتبي عشرة جنيهات في الشهر، وعملت. عملت بكل جهدي وبكل ضميري وبكل إحساسي، وأشهد يا أبي أنك نشأتني فأحسنت، فكان العمل عندي واجبا مقدسا، لا أتخلف عن أقل دقائقه شأنا، وقرأت وتأملت القضايا وكنت أطالب بالمزيد منها، فما مر عامان حتى كان اسمي معروفا لدى المحاكم، وحتى كان مرتبي ثلاثين جنيها، ولكني رجوت أستاذي أن يسمح لي بتركه لأفتح مكتبي الجديد، وفتحته وثابرت واجتهدت وقرأت اسمي يا أبي في الجرائد مرات عديدة؛ فقد أصبح الناس يعتبرونني من أحسن المحامين. وأنني أملك اليوم ثروة تغنيني إلى المدى الطويل، وأنا ما أزال في بواكير الشباب الأولى، وأني أحب عملي ولا أتركه.
لهذا يا أبي أجدني خليقا بأن أجثو عند قدميك أطلب الصفح والغفران فهل تراك تصفح؟ كنت أعيش هذه السنوات مع كفاح، لا أمل لي إلا في هذه اللحظة التي أنا فيها الآن؛ أن أراك تقرأ خطابي الذي كتبته وقدمته لك بيدي وأنا راكع عند قدميك حتى تقيني بيديك.
أبي أردت أن أقصد إلى رحابك وأنا غني من المال قادر على مواجهة الدنيا لا أحتاج من كريم يديك إلا لمسة الأب، وإلا هذه الابتسامة التي شققت بها وإليها طريقي.
إن هذا الخطاب الذي بين يديك قديم، ولد في ذهني وفي قلبي يوم طردتني، وما زلت أكتبه كل يوم وأعيد كتابته، فهو أملي.
لم يكن أملي منذ ذلك اليوم أن أنجح، لا ولا أن أكون غنيا، لا ولا أن أصبح بين المشاهير، وإنما كان أملي أن أركع في مكاني هذا عند قدميك وأنا غني ناجح مشهور لا ألتمس منك إلا الصفح والرضا والأبوة، وإنها لكثير.
أردت أن أعوذ بك أنت لا أن أعوذ بمالك، وأردت أن ألجأ إليك، إليك أنت لا إلى بيتك، أردت أن أطلب صفحك ورضاك وأنا في غنى عن الحاجة المادية، فأنا أحبك حبا ما كنت لتدريه لولا هذه السنوات، كيف كنت تدري مدى حبي لك إن لم ترني مرتميا عند أعتابك أطلب حبك في غنى عن مالك.
حرمت نفسي منك عشر سنوات وحرمتك مني هذا السنوات من أجل هذه اللحظة، أبي إني أرى هذه اللحظة تعدل العمر جميعه، ألا تراها أنت كذلك؟
فكرة - أهي مجنونة أم حكيمة؟ - لا أدري، وإنما سيطرت علي منذ طردتني، أقسمت ألا أعود إليك إلا بعد أن أستطيع القيام بأمر نفسي ولا أطلب الصفح إلا من أجل رضاك وحبك.
إن تكن صفحت يا أبي عن هذه السنوات التي حرمتك مني، وإن تكن راضيا فمد يديك أقبلها وضمني إليك، وإن لم فدعني إذن في مكاني حتى ترضى، فما أحب أن أظل عمري جميعه في مكاني هذا منك وأنت في مكانك هذا مني. •••
وبيد بللتها الدموع أقام الأب ولده، وبقلب يفيض بالشوق ارتمى الفتى على يد أبيه يقبلها ويضمها، ذخره وحياته وأمله وأبوه.
صفحه نامشخص