دولت عثمانی قبل و بعد از قانون اساسی
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرها
لم يكد مستشارو السوء يشيرون بفض مجلس المبعوثان سنة 1877 حتى أخذوا يتطلعون إلى جميع الذرائع المؤدية إلى إماتة تلك الروح؛ روح الحرية المنبثقة من مساعي مدحت وكمال وأنصارهما، ودفن المذهب الدستوري بمهده. وإذ كان ذلك مطلبا بعيد الشقة عسير المنال لم يروا بدا من الشروع في إبعاد طلاب الحرية عن مواقف النفوذ، فمن قوي منهم على كتمان هوى نفسه وتدبر الأمر بطول الأناة؛ بقي في منصبه - إذا كان ذا منصب - أو غودر آمنا في منزله، وكلا الرجلين تحت أكناف الخفية. ومن بدرت منه بادرة تشف عما في ضميره، أو خيف أن يحول دون مأرب من مآرب رجال «المابين» ضربت عليه الذلة والمسكنة. ومن هؤلاء نزر يسير يسوءنا جدا أن نعترف أنهم انقلبوا إلى زمرة الجواسيس، فزادوا في بلاء رفاقهم القدماء.
ولسنا هنا ننكر ما تقدم بهذا الصدد في باب رجال الدولة وغيرها، ولكن محصل القول أن معيشة هؤلاء الأحرار في بلاد السلطنة باتت من المستحيلات، فلا أولو الأمر يطيقون إقامتهم بينهم ولا هم بقيت لهم طاقة على تحمل الضيم، وخصوصا أنهم باتوا على شفا المهالك، والمخاطر محدقة بهم من كل صوب؛ فأخذوا ينسلون الواحد بعد الآخر، ويفرون شرقا وغربا. وانسلال كل واحد منهم يلقي الشبهات على عشرات من أنسبائه وأصدقائه، فيضطر كثيرون منهم إلى اللحاق به. ولطالما قبض على الواحد منهم وهو على أهبة السفر فزج في سجن فمات فيه أو فر منه مرة أخرى. أو سيق فأميت خفية أو أقصي إلى منفاه.
وإذ كان الغدر بذوي العقل والصلاح والحرية والذكاء أسهل الأمور على عمال «المابين» أخذت الناس الرعدة ومال الجم الغفير إلى مغادرة البلاد لغير سبب سابق، ولكن خشية من سعاية مقبلة، ولولا شدة رقابه الخفية وقيام الحراس على الثغور ليلا ونهارا وشدة التنكيل بمن قبض عليه فارا لخلت البلاد من أرباب العقول - كما كادت تخلو من زراع الحقول.
وليس أحد من أبناء هذا الصنف ممن غادر بلاده وراء باب رزق أوسع في دار الاغتراب، بل كانوا جميعا بالعكس من ذلك ينزلون عن منصة الرخاء إلى بيت الذل الضيق، ولقد شهدنا الكثيرين منهم من أبناء الكبراء والوزراء وسعة العيش يحتالون على خدمة في محل تاجر، أو إدارة شركة، أو مصرف براتب كان يتناوله بعض الحشم في دور آبائهم.
هؤلاء هم الأحرار الذين انبثوا في جميع الأقطار وتألفوا في البلاد النائية، وهؤلاء هم المهاجرون الذين لبثت بلادهم ودولتهم نصب أعينهم في سرهم وعلانيتهم.
ومن كان هذا شأنه فلا بدع أن يصرف كل قواه إلى استئصال جرثومة الفساد ودرء شبهات الحساد ومواصلة السعي لبلوغ المراد. قصدوا البلاد الأجنبية شذاذا شرادا فتآلفوا فيها وتألفوا عصابات وجمعيات سرية وغير سرية في باريس وجنوه ولوندرا ومصر، ولم تخل منهم عاصمة من العواصم الأوروبية حتى بلغوا أميركا.
هذه هي الجالية التي كانت أشد شقاء من سائر الجاليات، فأصبحت الآن أسعدها، وأي سعادة أعظم من بلوغ منتهى الآمال؟ وهذه هي الجالية التي تتهافت الآن قافلة إلى بلادها تهافت الظباء على موارد الماء في قيظ الهاجرة. ولئن نالت البلاد خسارة بجلائها فستنقلب كل الخسارة ربحا بعودها إلى أوطانها، وقد ضمت إلى نزعتها الحرة ما أكسبها الاغتراب من زيادة المعرفة والاختيار.
وإذا علمت أنها لا تقل عن السبعين ألفا، منهم خمسة وستون ألفا من المسلمين وخمسة آلاف من المسيحيين، وأنهم جميعا من ذوي الدراية والنشاط، ومن جميع عناصر الأمة العثمانية؛ اتضح لك قيمة الذخر الثمين الذي يعودون به إلى أوطانهم. ولا عبرة بمن خرط نفسه بينهم من زمرة الجواسيس مدعيا أنه من دعاة الحرية، فذلك عرض زالت الآن كل آثاره.
ذلك ما يقال إجمالا عن أصناف المهاجرين العثمانيين، ولا شك أن تبدل الحال بإعلان الدستور سيحدث انقلابا ليس في الحسبان، فيرجع بعض الأصناف كالصنف الأخير برمته، وسائر الأصناف يعود معظمه إلى حظائره، ويقف هذا السيل الجارف فينثني من نوى الهجرة عن عزمه. وليس ببعيد عنا ذلك اليوم الذي ينعكس فيه ذلك المجرى منا إلينا، يوم يستتب الأمن ويسود العدل بصلاح الأحكام، فتبيت البلاد العثمانية مطلب المهاجرين من أقاصي الديار، فتفتح أبوابها لمن وسعته منهم.
الدستور ومأمورو الحكومة
صفحه نامشخص