إهداء الكتاب
إلى أبناء الوطن العثمانيين
الدستور القديم
الدستور والاستبداد
الدستور والحرية
الحرية الشخصية
حرية الصحافة
حرية التعليم
حرية التأليف والقراءة
حرية الكتابة
حرية الجمعيات
الحرية ورجال الدولة
الدستور والخفية
الدستور والتعصب
الدستور ورجال الدين
الدستور والمهاجرة
الدستور ومأمورو الحكومة
الدستور ومالية الحكومة
الدستور وموارد الثروة
كلمة في سائر موارد الثروة
السياح والمستوطنون
الخاتمة
إهداء الكتاب
إلى أبناء الوطن العثمانيين
الدستور القديم
الدستور والاستبداد
الدستور والحرية
الحرية الشخصية
حرية الصحافة
حرية التعليم
حرية التأليف والقراءة
حرية الكتابة
حرية الجمعيات
الحرية ورجال الدولة
الدستور والخفية
الدستور والتعصب
الدستور ورجال الدين
الدستور والمهاجرة
الدستور ومأمورو الحكومة
الدستور ومالية الحكومة
الدستور وموارد الثروة
كلمة في سائر موارد الثروة
السياح والمستوطنون
الخاتمة
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
تأليف
سليمان البستاني
إهداء الكتاب
مدحت باشا.
إلى روحك الطاهرة يا رجل الحرية أهدي هذه الصفحات، وإنك ولئن قضيت شهيدا في جهادك، فحسبك أنك افتديت بنفسك أمة تحلك محلا أسمى من منزلة الشهداء. وهذه ذرة حقيرة من مظاهر الولاء والإجلال.
إلى أبناء الوطن العثمانيين
تمهيد
لو تجلى للناس نبي من الأنبياء لأيام خلت، وقال للعثمانيين: بشراكم، فلا يهل الهلال حتى تسطع في أفق جوكم المدلهم أهلة الحرية والإخاء، وتتفكك قيود الاستبداد فتسحق وتذرى هباء منثورا، وتتبدد غياهب الأحقاد والضغائن من بينكم، حتى إذا بتم ليلتكم على غلة التباغض والتنابذ نهضتم وما شعرتم إلا وقد انتزعها الله من أفئدتكم المضطربة، فهاجت صدوركم عواطف التضامن والحنان، وتنهزم من وجهكم جيوش الجواسيس الجرارة فتنفتح لكم أبواب بلادكم الفسيحة فتلجوا أي باب شئتم منها آمنين مطمئنين، وأنتم حيث كنتم في مأمن من واش مكار وآمر غدار. ثم قال لهم: وتستثمرون الأرض فينمو زرعكم ويسرح ضرعكم، وتترقى صناعتكم وتروج تجارتكم، تعلمون وتتعلمون وتكتبون وتتغنون بالشعر على أي وتر شئتم، وتمحى آثار الذلة والمسكنة، فيرمقكم الأجنبي بعين الإعظام بعد أن كان يخالكم طعمة سهلة المساغ. إي نعم لو جاء العثمانيين نبي بمثل هذا النبأ العظيم لهزءوا به وقالوا : إنا - ولئن كنت صادقا - فلسنا لك بمؤمنين، لقد أكثرت علينا من نعم الله، فهات بعض ما تمنينا به وعهد الله إننا به راضون.
ولا يظنن القارئ اللبيب أننا نشير في ما تقدم إلى أن الجزع بلغ من أبناء الوطن العثمانيين مبلغ اليأس؛ فباتوا يخالون الرقي والإصلاح من المستحيلات، أو يحسبون أن للدول أدوارا وقد انقضى من بينهن دور دولتهم الباسلة. وكيف يرمى أبناء الدولة العثمانية بمثل هذا الخمول، وكل مراقب مطلع يعلم أن مبدأ هذه النهضة يرجع إلى عهد السلطان سليم الثالث، ذلك السلطان العظيم الذي لم يقدره التاريخ حق قدره، وأن أربعين سنة خلون والأحرار البواسل يجودون بالمال والأرواح؟
إذا مات منهم سيد قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما زالوا يناضلون ويكافحون ويتدبرون الأمور بالعنف واللين حتى انتشر مذهبهم، فوجد مستقرا فسيحا في أعماق الصدور، وأي صدر لا يتلقى بملء البشر مثل هذا الضيف الجليل!
ولسنا بناشرين حقيقة مجهولة إذا قلنا: إنه لم يبق في البلاد العثمانية رجل واحد من أرباب العقول لا يرى وجوب تبدل الحال. ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن معظم المرائين الذين كانوا ينادون بالاستبداد على رءوس الأشهاد كانوا في حظيرة كتمانهم أشد الناس تذمرا من هذا المصير، فلما طفحت الكأس وعم البلاء أصبح معظم أبناء البلاد على رأي واحد، حتى إذا خلوت بوال معتز بإمارته، أو وزير متربع في دست وزارته، وأمن جانبك وكاشفك بما يكنه صدره؛ رأيت أنكما متفقان رأيا ووجدانا. وسترى في ثنايا السطور التالية شواهد وأدلة ساطعة تنبئك أن الأمة العثمانية - ونريد بها لفيف العثمانيين - لم تشرف على الموت في زمن من الأزمان، ولكنه لم يكن يهجس في صدر أحد هاجس هذا الانقلاب السريع؛ فلقد فازت أمم من قبلنا بدستور كدستورنا، ولكنه ليس في تاريخ واحدة منهن بلوغ هذه الأمنية في منتهى أدوارها بمثل هذه السرعة ومثل هذه الحنكة وهذا التدبير، بدون إراقة دم من الدماء الطاهرة والدنسة.
ولا يعترض على هذا القول بما كان من أمر الدستور الياباني ؛ فليست هناك حقوق نهضت الأمة تطالب بها، وإنما هو قبس حكمة وذكاء اتقد في رءوس أولي الأمر منها، وهم أرقى علما وعقلا وأدبا من محكوميهم؛ فجردوا أنفسهم بلا منازع من سلطتهم المطلقة، وحادوا بها على أمتهم المتحدة العنصر فأفلحوا. وهي الحادثة الوحيدة في بابها مما دونه التاريخ منذ قال أبو بكر الصديق والخليفة عمر على منبر الخطابة: «يا أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه.»
أما في الممالك العثمانية، فليست الحالة على ما تقدم؛ فإن لدينا سلطتين متنازعتين وعناصر مختلفة وأمما متباعدة بقوة الإغراء، حتى لقد كنت تخال أن جميع العوامل داخل البلاد وخارجها متفقة على ملاشاة هذه الأمة، بل تلك الأمم المتخاذلة. وإذا رجعت إلى تاريخ وضع النظام الدستوري في البلاد الأوروبية منذ قام كرومويل في إنكلترا إلى أيام الثورة الفرنسوية إلى يومنا هذا؛ بدا لك أن سفن الإصلاح سارت على بحار الدماء، حتى في البلاد التي لم يكن فيها من أسباب الشقاق والنفاق بعض ما ابتلانا الله به في الآونة الأخيرة. وهذه روسيا وإيران لا تزال دماء زعماء الحرية فيها تتدفق سيلا طاميا؛ فحيا الله نيازي وحيا الله أنور وحيا الله الجيش العثماني وأنصاره، وحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وحيا الله كل ذي سلطة أو نفوذ جرد نفسه منهما وأولاهما أمته. وهم وإن دون التاريخ معجزتهم هذه أعجوبة القرن العشرين، فسيثبت - بدون ريب - أن الأمة على تمام الأهبة والاستعداد لتلقي هذا الانقلاب.
وليس من غرضنا في هذه العجالة أن ندون، تفصيلا، تاريخ هذه النهضة الأخيرة منذ أذكى شهيد الطائف
1
جذوة نارها، ونقر طريد مدللي
2
على أوتارها، وتولى نزيل باريس
3
حماية أنصارها، إلى أن تفجر بركانها فدهش له العالمون بهمة بطلي مكدونية أنور ونيازي وأنصارهما، فلم يحن للتاريخ أن يستتم أخبار هؤلاء الأعلام، ولا سيما أبناء هذا اليوم، فحسبنا أن نشير إلى نبذ متقطعة من أخبارهم، وأوجب من ذلك الآن أن يشد كل منا أزرهم بما طالته يده من قول وعمل حسا ومعنى؛ ليتسنى لهم إتمام هذا البناء الشاهق. ومستقبل الزمن ضمين بتدوين أسمائهم وأعمالهم بحروف من نور على صفحات الصدور.
ولسوف يضم التاريخ إليهم عشرات، بل مئات وألوفا، من ضحايا الحرية ومنكوبيها وسواء في ذلك من مات شهيدا طريدا كسعاوي قتيل الأستانة، وسليمان سجين بغداد، وغانم منفي باريس، والكواكبي شريد مصر، ومن لا يزال فيه رمق حياة، يرجو العثمانيون أن يفسح الله في أجله ويعليه منارا كفؤاد الشامي، وسعيد اليماني، نسبة إلى منفاهما، ورضا وصباح الدين الباريسيين، نسبة إلى دار اغترابهما.
وإنه ليسوءنا أن يكون بين ظهرانينا، إلى جانب هؤلاء، فئة قليلة ممن تثقفوا على أيديهم؛ فاشرأبت إليهم الأعناق، ثم عبث الطمع بأفئدتهم؛ فخانوا رفاقهم، وكانوا عليهم بلاء ما كان أشده، لو لم يضرب الله على أيديهم هذه الضربة القاضية، وحسبهم عقابا ما يحيق بهم اليوم من الخيبة وضروب المهانة.
فإذا جاز اليوم للمؤرخ أن يتأنى في تدوين الوقائع؛ ريثما يستجمع مادته، وتمر فترة تسكن في خلالها ثورات الفكرة المضطربة؛ فإنه يجب على كل ذي بضاعة من العثمانيين أن يزجيها لديهم على عجل، فإنما الفلاح بالتعاون والتضامن، وخير البر عاجله.
وإننا، وإن لم نكن من أبناء السياسات، فإن علينا فرضا يترتب قضاؤه وهذه دلونا بين الدلاء، ولقد رأينا أن نجمع على هذه الصفحات بعض ما وعته الذاكرة فيما مضى بالنظر إلى الدستور العثماني، وما يتراءى لنا من نتائجه المقبلة، وما ينال العثمانيين من رغد العيش بخفوق أعلام الحرية فوق رءوسهم، وفك عقال العقل والفكر واللسان، وإطلاق عنان التجارة والصناعة، وتمهيد سبل الزراعة واستخراج ثروة البلاد الدفينة تحت التراب والمنبوذة على رءوس الجبال، وما ينجم عنه من إصلاح جباية الأموال ومالية البلاد.
هذا ما توخينا بسطه الآن لإخواننا العثمانيين، ولسوف يرى العالم - بعون الله - أنهم إذا صانوا دستورهم - ولا نخالهم إلا صائنيه - سيكون لدولتهم شأن تنقلب بوجهه سياسة العالم.
الدستور القديم
توفي السلطان سليمان الثاني القانوني سنة 1566 عن ملك ضخم لم يكد يجتمع لأحد من قبله ولا من بعده، وغادر الدولة العثمانية في إبان مجدها وأوج عظمتها، فلم يحسن خلفاؤه تعقب خطواته، وتألبت عليها القوى الخارجية، وتناوبت فيها الفتن الداخلية؛ فأصابها ما يصيب كل دولة بلغت هذا الشأو العظيم، فتناثر ما تناثر من لآلئ ذلك العقد النظيم. وتولى السلطان سليم الثالث سنة 1789 والبلاد في اختلال، والأحكام في تراخ، والانكشارية مستبدون بالسلاطين يولون ويخلعون ويقتلون، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها؛ فهاجه حب الإصلاح وصرح بميله إلى ترتيب الجند على النمط الحديث، فبطشوا به، فمات والإصلاح في مهده.
على أن تلك الفكرة لم تمت، فتلقاها السلطان محمود، وعمد إلى الإصلاح من وجهتيه الملكية والعسكرية؛ فبدد جند الانكشارية وأحل محلهم جيشا منظما، وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام، ولكنه توفي ولم يستتم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيما غير تام.
وكانت روح الإصلاح قد انتشرت بين فئة من رجال الدولة؛ فأقاموا يبثونها على عهد خلفيه السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأنا وأطولهم يدا رشيد وعالي وفؤاد.
وما كاد يجلس السلطان عبد المجيد على سرير السلطنة حتى أذاع خط الكلخانه المشهور سنة 1839/في 26 شعبان سنة 1255ه، فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا.
وأخذ رجال الدولة في ذلك الحين ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع الإدارة والقضاء.
وكان أعظم تلك الأعمال شأنا مجلة الأحكام العدلية؛ لأنه غير خاف أن جميع الأحكام كانت تجري على مقتضى القواعد الشرعية.
وإذا كانت كتب الفقه تعد بالألوف، وبين الأئمة خلاف في بعض الأحوال، كان لا بد من توحيد تفسير النصوص ووضع مأخذ سهل يستند إليه في الأحكام؛ فعهد أولا بالنظر في ذلك إلى رهط من صفوة العلماء، ثم ألفت لجنة كان منها جودت باشا ناظر ديوان الأحكام العدلية، وبعض أعضاء ذلك الديوان، وأعضاء شورى الدولة والأوقاف وغيرهم من العلماء، كعلاء الدين ابن عابدين، فنظموا ذلك الكتاب الجليل، وأصدر السلطان عبد العزيز الإرادة السنية بشأنه سنة 1289ه.
ولكنهم كانوا أثناء ذلك العمل وقبله وبعده، يعهدون إلى لجان أخرى بتنظيم القوانين الخاصة، فنشر قانون الأراضي سنة 1274، وقانون الطابو سنة 1275، وقانون الجزا سنة 1274، وقانون التجارة سنة 1288، وكانوا في كل ذلك ينقلون عن القوانين الأوروبية، وخصوصا الفرنسوية ناظرين إلى عدم مخالفة النصوص الشرعية.
ونظروا في سائر ما يقتضيه سير الحضارة، وإلى ما جرت دول أوروبا فيه على قوانين خاصة؛ فوضعوا قانون التابعية العثمانية، وقانون ترتيب المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظامات الإدارة الملكية ونظام إدارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاما للمعارف ونظاما للمطبوعات ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظاما للرسومات وآخر للمعادن وآخر للطرق والمعابر. والحاصل أنهم لم يكادوا يغادروا شيئا من لوازم إدارة الملك حتى دونوا له قانونا.
فمجموع هذه القوانين والنظامات هو الذي كان معروفا في بلاد الدولة العثمانية باسم الدستور
Code .
ولكن الحكم كان لا يزال مطلقا، وإرادة السلطان فيه فوق كل إرادة؛ ينقض ويثبت ما شاء من الأحكام وليس ثمة قيد.
ففي المدة الوجيزة التي لبث فيها السلطان مراد على سرير الملك، كان مدحت وأنصاره قد انتهوا من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس «المبعوثان»، فما تولى جلالة السلطان عبد الحميد حتى كانت قوانين الدولة محكمة الوضع والترتيب تضارع، بحسن تنسيقها وإحكام موادها، قوانين أرقى الدول الأوروبية، لا حاجة باقية بها إلا إلى إنفاذ ذلك القانون؛ فبادر جلالته إلى التصديق عليه، فتم للدولة دستور لا يفوقه دستور واستبشر الناس بالإصلاح والفلاح.
على أنه لم يكد ينتظم مجلس «المبعوثان» وينظر في شئون الدولة حتى صدرت الإرادة السنية بفضه؛ فتقوضت كل أركان ذلك البناء، وابتليت الأمة بطور استبداد جديد لم تعهد نظيره حتى في عصور الظلمات.
الدستور والاستبداد
قد كان الدستور - كما تقدم - عبارة عن مجموع القوانين والأحكام التي تعاقب على وضعها رجال الدولة، حتى استجمعت الكلي والجزئي من حقوق الحاكم والمحكوم، ورتبت أصول المحاكمات، وفصلت قواعد القضاء، وعينت جميع ما يضمن إجراء العدل وحفظ الأمن وبسط الحرية واستخراج موارد الثروة، ثم كان من جملة أجزائه القانون الأساسي، الذي ظل دعاة الإصلاح يطالبون بإنفاذه ثلاثين عاما وتزيد.
وإن هذا الدستور على حسن وضعه وتنسيقه لو عمل به لما كان بنا الآن حاجة إلى هذا الانقلاب العظيم، بل جل ما كنا نرجوه أن تعدل بعض مواده، وتزاد وتنقص حينا بعد حين على ما يقتضيه الزمن وحالة الترقي العام.
أما الدستور الذي نحن في صدده - وقد ارتج العالم لإعلانه - فهو الحكم النيابي على الطراز الحديث؛ حيث تحكم الأمة نفسها بنفسها مع حفظ حقوق الخليفة الأعظم، وتتضافر على إنفاذ مضمون الدستور النظامي حرفا حرفا.
فدستورنا الجديد ليس، إذا، إلا نفس دستورنا القديم، ولا فرق بينهما، إلا أن الاستبداد حال دون إنفاذه فيما مضى، وأما الآن فهو نافذ بقوة الأمة.
وليس الحكم الدستوري بالبدعة الحديثة في تاريخ الأمم؛ فقد كانت له شئون متقطعة في أحكام كثيرة من دول العصور القديمة، كاليونان والرومان ودولة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يكن - في الغالب - على نظام ثابت، ولم تعمل به في زمن واحد أكثر من دولة أو دولتين، وكان في معظم الأوقات يمنح صاحب السيادة العليا نوعا من السلطة المطلقة على الأفراد، وإن قيده في بعض الشئون العامة، ولهذا لا نظننا مخطئين إذا قلنا: إن الحكم الدستوري لم يستتب أمره على هذا الشكل، ويعم دول الحضارة إلا على إثر الثور الفرنسوية، وإن كانت الثورة الإنكليزية قبل زهاء قرن من أعظم مهيئاته.
أما الحكم الاستبدادي، فإذا أريد به الحكم المطلق؛ حيث يقبض رجل واحد على أزمة الأمور، فهو الحكم الذي ألفه العالم منذ نشأته، وله بلا ريب مزايا باهرة مع جهل الرعية وذكاء الراعي وعدله، وكم لنا في العهد القديم من مثل برجل واحد نهض بأمة كانت قبله خاملة، ولكن كم لنا من جهة أخرى من مثل برجل واحد اضمحلت على يده أمم شتى وأمته منها.
أما الآن، وقد انتشر لواء العرفان وتعددت أمم الحضارة وعرف كل حقه، فلم يبق للحكم المطلق من داع، بل لم يبق للملوك من فائدة بتحمل التبعات المتعاقبة عليهم والأمة ناظرة إليهم، بل أصبحوا - وقد انقلبت حالة العالم - أفرغ بالا إذا ألقوا ذلك العبء العظيم على كواهل نواب شعوبهم، وتيسر لهم التفرغ لكل شاغل مفيد لهم ولمن انضم تحت لوائهم. وهؤلاء الملوك المقيدون بالدستور في هذا الزمن ليسوا بأقل شأنا ممن تقدمهم من ذوي السلطة المستبدة.
وليس بخاف أيضا أن الدولة العثمانية منيت، كسائر الدول العظمى، بدور انحطاط كاد يودي بها، لو لم يقم من رجالها وسلاطينها آونة بعد أخرى فحول سياسة ودهاء يرتقون ويدعمون، ولو لم يكن الأس مكينا والقوة راسخة وعروق الحياة لا تزال نابضة لعقب ذلك الانحطاط الانحلال الطبيعي الذي لا حياة بعده. ولكن لكل مصدر من مصادر الحياة والقوة حدا يقف عنده، وقد يكون الداء العضال أشد فتكا بالجسم الصحيح منه بالجسم العليل. ولقد قوي جسم هذه الدولة على تحمل جميع الأدواء التي انتابته من حروب وثورات وعبث حكام واختلال أحكام وتضافر أعداء وتراخي أصدقاء؛ فصدق فيها قول فؤاد باشا لنابليون الثالث يوم كان سفيرا في باريس: «إن دولتنا أقوى دول الأرض؛ إذ تعاقب عليها قرنان ودول أوروبا تهدم من بنائها الشاهق من الخارج، ونحن نهدم من الداخل والبناء لا يزال قائما.» وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فإنها تشف عن حقيقة لا ريب فيها.
ولكن هذا الجسم على قوته الكامنة، وإن شئت فقل على ضعفه الظاهر، لم يقو على تحمل أذية الحكومة الغابرة بما انتابته من ضروب الظلم في عصر ليس كالعصور السالفة؛ يساق الناس فيه سوقا، ويتخذ فيه من دون الله أرباب ظالمون، فألوية الحكومات الدستورية قد انتشرت من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وكواكب الحرية قد سطعت حولنا واكتنفتنا من الجهات الأربع، هذا وأرباب الأمر فينا يودون بقاءنا في ظلمة مدلهمة.
فلم يبق بعد هذا المصير إلا أحد أمرين إما الموت العاجل، وهو ما لم نبلغه بعد بانحطاط قوانا، وإما تجديد قوى الحياة، وهو ما يتيسر لنا والحمد لله بهمة دعاة الحرية، وربما صحت الأجسام بالعلل.
فمعظم الشكوى، إذا، ليست من الاستبداد بمعنى الحكم المطلق، وإن كانت دولة هذا الحكم قد دالت، وإنما هي من ذلك الاستبداد بمعنى الحكم الجائر الذي أباح الموبقات واستباح المحرمات. استبداد حكم الأنذال برقاب الرجال فنكس الرءوس وذلل النفوس. استبداد لا مرشد له إلا التعنت عن هوى تميل به النفس إلى حيث لا تدري، ولا شرع له ولا وازع، يحلل اليوم ما يحرمه غدا. استبداد يتمثل لنفسه بنفسه، تصادر به الأموال بغير حساب، ويبطش المجرمون بالأبرياء بغير عقاب، إذا أنس نقمة من الناس عليه عمد إلى التفريق بينهم؛ فأثار فيهم ثائرة التعصب الذميم، فضرب بعضهم ببعض. حتى إذا غفلوا عن مظالمه حينا، ثم استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى التظلم منه خلق لهم ملهاة أخرى يلتهون بها عنه.
استبداد تقتسم فيه فئة ضئيلة أموال الأمة فتتنعم بها وتشقى الأمة. ولا حرج على تلك الفئة ولا جناح، تستولي على موارد ثروة البلاد من حرث وغاب ومنجم، وتستلب الامتيازات كأنما كل ذلك من تراث آبائها وأجدادها، إذا اكتشف مجتهد منجما وقال للحكومة: أنا صاحب الحق باستخراجه، فلكم سهمكم ولي سهمي بمقتضى النظام. قال رجال «المابين»: بل هو هبة استوهبها أحدنا فاذهب خاسرا. وإذا قضى باحث زمنا فدرس مشروعا وقال: هذا نتاج بحث طويل ولدي جميع الوسائل العلمية والمالية للقيام به بهذه الشروط، وذلك السهم منه للحكومة. قالوا: بل هو لنا. فأخذوه بلا شرط ولا بدل.
تلك هي الفئة الظالمة التي كانت تتسبب بالنفي والسجن والقتل، فتفتك بمن شاءت كما شاءت فرادى وعشرات ومئات وألوفا، ولا يشق شغاف قلبها الصلد عويل أيم ولا صراخ يتيم، وتحول بين الراعي ورعيته وبيدها سيف من النقمة مسلول حتى على رءوس أفرادها.
ذلك هو الاستبداد الذي نقصده في بحثنا، وهو الذي أحرج صدور العثمانيين؛ فسهل لهم المنية في سبيل الحرية، حتى إذا نالوها بجهاد جيشهم الباسل ودعاتهم الأماثل تصاعد صدى حماسهم فخرق لب الأثير.
الدستور والحرية
يقول أرباب السياسة: لا يسوغ إطلاق الحرية دفعة واحدة لأمة طال عليها عهد الاستعباد؛ لئلا تستحكم الفوضى وينتهي الأمر باستبداد الجماعات، وهو أشد بلاء من استبداد الرجل الفرد. ولكن هذا القول مع ما فيه من الصواب لا ينطبق على الأمة العثمانية؛ فإنها ليست بالأمة التي رسفت دهرا بقيد الرق، بل كانت منذ تألفت تحت لواء السلطان عثمان الغازي أمما فاتحة تحت زعامة العنصر التركي، وشعوبا مكافحة ذودا عن حياضها؛ وإن جميع العناصر التي انضمت تحت لوائها كانت من ذوات الماضي المجيد، وإن كثيرين من سلاطينها كانوا ذوي بر برعايتهم. وهذا السلطان محمد الفاتح مع ما يعزى إليه من القسوة، قد خول رعاياه المسيحيين والإسرائيليين من حرية الدين والتصرف بالأحوال الشخصية ما يسجل له فخارا مؤبدا، وإن عده كثيرون خرقا في السياسة بالنظر إلى أحوال ذلك الزمان. ثم إن كثيرا من تلك الشعوب والقبائل حفظ استقلاله الإداري الداخلي أزمانا طوالا، أو تمتع بامتيازات ممنوحة أو مسموح بها حتى هذا اليوم، كالكرد والعرب المقيمين في أطراف الولايات واللبنانيين والنساطرة.
ثم إذا نظرت إلى طبيعة البلاد رأيت أن معظمها لا يصلح للاستعباد؛ فسكان الجبال قساة عتاة معتزون بمعتصمهم، فلا يصلحون عبيدا مهما طال بهم أمر الخضوع والخنوع. وقل مثل ذلك في سكان البوادي والقفار؛ فهم أشد الناس تشبثا بالحرية يفتدونها بأموالهم وأرواحهم، وأما سكان الثغور والحواضر فقد فاض على معظمهم نور العلم والتهذيب، وعرفوا، بما شاهدوا وقرءوا وخالطوا من الأجانب، أن ذلك الكنز الثمين، بل تلك الجوهرة الفرد أعلى قيمة من كل ما خلق الله؛ فالرق لا يصلح إلا للخامل الجاهل، وهما تربان لم يجتمعا في عنصر من عناصر العثمانيين. وأضف إلى هذا سياسة التفريق؛ فإنها على شؤمها كانت لها مزية حفظ نشاط هذه الأمم المتباغضة في الأمس المتحابة اليوم. فباد العنصر الذليل أو اندمج في غيره، ولم يبق غير النشيط الصالح للذود عن حوض نفسه ولو إلى حين. فكلهم الآن طالب حرية وعالم بحقه. وكل طالب حرية وعالم بحقه نشط من عقاله فهو أهل لها، حتى ولو طال عليه زمن الجور والتعسف، ومن ذا الذي يزعم اليوم أنه لو أتيح للبولونيين مثلا أن يؤلفوا دولة منهم لا يتسنى لهم ذلك مع ما برح بهم من المحن المتواليات ورزايا التقسيم.
ثم إن هذه الجرثومة الزكية ليست بنت يومها ، ولكنها متأصلة في نفوس جميع شبانهم وكهولهم وكثيرين من شيوخهم، حتى مخدراتهم اللائي كن ينحن أمس سرا وبرزن اليوم جهرا بعد إعلان الدستور يحملن أعلام الفوز المبين.
ولقد طالما حن العثمانيون إلى الدستور وترنموا بذكره قبل الآن، وإن شدة الضغط التي ألجأتهم إلى الصمت في الفترة الغابرة إنما كان زمنها زمن جثوم لوثوب، وليس زمن استكانة لاستماتة. وإذا اجتزأنا من التاريخ ببضعة عقود من السنين اتضح أنه منذ أصدر السلطان عبد الحميد الخط الهمايوني المعروف بخط كلخانه، ما زال الشعب العثماني يتحفز لمثل هذه الوثبة الخطيرة. ولقد خطا في هذا السبيل معظم خطواته حتى كاد يستتب له الأمر بنفوذ مدحت وحسين عوني ورشدي، وإذا بجيش الجواسيس قد دهمه قبل أن تنضج ثمرة غرسه، واقتلع تلك الشجرة فتناول مريدوهم بذورها فغرست ونمت أشجارا.
انظر الآن إلى ما شئت من أسباب الشكوى، وارجع معي إلى ما قبل أربعين أو ثلاثين، بل خمسة وعشرين أو عشرين عاما، وقابل زمنا بزمن؛ تر أننا جرينا القهقرى جريا حثيثا، وخالفنا بالقسر عنا كل أمم الأرض.
الحرية الشخصية
إن أول ما يحرص عليه المرء حرية شخصه؛ فلقد كانت، لعهد مضى، مطلقة يسرح المرء ويمرح أيان شاء، ويخالط من شاء ويقول ويعمل ما شاء مما لا ينال سواه بأذى. وهو في كل ذلك لا يخشى وشي رقيب أو مفاجئ. فإذا بنا والعيون قد بثت والأرصاد قد سدت السبل ويا لشقاء من ألقاه سوء البخت بين براثن تلك الذئاب، يبيت المرء في منزله وعياله إلى جانبه وهو غير آمن من أن يفاجئه طارق في دياجي الظلام فيختطفه من بين ذويه، إذا خطا نظر إلى ما وراءه خشية أن يكون له من ظله رقيب عليه، وإذا تكلم مع صديق أو رفيق على قارعة الطريق تراه يكاد يهمس همسا خوف أن تبدر منه كلمة تحتمل التأويل، كأن القسطنطينية رجعت إلى زمن كاليفولا في رومة، والطير نزلت على رءوس الناس كبيرهم وصغيرهم.
وإنه لا يكثر على كل من أقام زمنا في الأستانة أو بعض مدن الولايات أن يؤلف مجلدا في ما سمع أو رأى من غرائب الوشاة. ودونك مثالا واحدا من أخف ما لقي الأبرياء من شرهم.
عرفت شابا من أبناء التجار قصد الأستانة لعمل مالي، وكان كثير التردد علي. فما مضت بضعة أيام إلا وأتاني يوما ووراءه ذنبان، وإنني مع كل ما خبرت ووعيت من أخبار الجواسيس عجبت أن يكون صاحبي موضع ريبة؛ فيجر وراءه هذين الذيلين. فلما جلس وبقي الرجلان على مقربة من الباب سألته عما بدا منه حتى بات موضع التهمة، فأقسم أنه لا يعلم سببا، وأنه لم يشعر إلا وهذان يتعقبانه ويرافقانه كظله، فإذا مشى مشيا، وإذا دخل بيتا انتظراه لدى الباب، وإذا ركب عربة أو باخرة من بواخر البوسفور ركبا.
فظللنا نسعى أشهرا لنقف على السبب إلى أن أخذت الشفقة يوما ناظر الضابطة؛ فأطلعه على ورقة مرفوعة إلى «المابين» من واش يقول فيها: إن فلانا - أي: صاحبنا - أتى الأستانة قصد استطلاع أحوالها قبل أن يذهب إلى باريس وينشئ جريدة ملؤها الطعن في الدولة، وهو ذو عزوة كبيرة ومقام كبير وله شهرة عظيمة بين كتاب العصر. وإني لو نفع القسم وقتئذ لأقسمت أن فلانا هذا لا يعرف ما الكتابة في الجرائد، ولم يخط بحياته فيها حرفا، ولا أثر لتلك العزوة، وذلك المقام، ولم تخطر له تلك الفعلة ببال ولو في المنام، وإنما هي مكيدة نصبها له رجل طمع في مشاركته في تجارته، فلما أبى أن يشركه معه عمد إلى هذا الانتقام الدنيء. وهكذا بقي صاحبنا سنوات يتظلم وما من سميع، فلا يفرج عنه فيرجع إلى بلده، ولا يؤذن له بعمل يرتزق منه، وأنت تعلم ما تئول إليه حاله بعد سنوات.
وإنها مع هذا مصيبة لا تعد من كبار المصائب؛ إذ لم يؤذ الرجل بجسده ولم يصادر بماله. وهذه القيود والأغلال في أعماق السجون تكاد تشتبك غيظا لكثرة ما أثقلتها المعاصم والأقدام. وهذه بنغازي وبعض المدائن النائية في أطراف السلطنة تضج منتحبة لما ترى من شقاء المبعدين . بل هذا البوسفور يوشك أن يفور تلهفا على تلك الجثث فيقذف بها إلى ثغريه خشية أن تبيت دفينة في بطون الحيتان، فإذا كانت تلك حالتنا بالأمس فمن ذا الذي يعجب لخروج الناس أفواجا من ديار يحسبونها دار شقاء؟ ومن ذا الذي يجهل ما يكون بعد نشر راية الحرية من تهافتهم إليها تهافت الأبناء إلى الأم الرءوم؟ وما يكون من رواج التجارة ونمو الزراعة وارتقاء الصناعة ومن الإقبال على جميع الأعمال بعد ذلك الاعتقال.
بل من ذا الذي لا يرى، مذ الآن، أنه سيقوم منا في الغد جهابذة وفحول في العلم والسياسة والإدارة والقضاء، فيأتون ما يأتيه أندادهم في أعظم الدول شأنا. فالأمة العثمانية لم تعدم في كل عصر من العصور أمثال هؤلاء النوابغ، وإن عدمت بروزهم للعيان في هذه الفترة؛ فلأنه كان من الجناية أن ينبغ في البلاد العثمانية رجل ذو شأن، ويظهر له أثر مذكور على ألسنة الناس، فإذا مست الحاجة إلى إبراز آية من آيات عقله أو بأسه فسح له المجال حتى يستتم عمله، ثم ينبذ نبذ النواة لا يباح لمواطنيه المعجبين به من أبناء أمته أن يوافوه بشيء من مظاهر الإجلال والإكرام، حتى لقد تحرم البلاد من بقية ما فيه من الهمة والذكاء.
وإذا أردت مثالا على ذلك فارجع بفكرك إلى عثمان بطل بلاونا وأدهم بطل لاريسا، بل راجع بنظرك خطاب اللرد سولسبري في مجلس العموم الإنكليزي سنة 1894 يوم وفاة رستم باشا سفيرا في لندن؛ إذ قام اللرد مؤبنا، فقال: «إن الفقيد كان من عظام الرجال ومن أمثال عالي وفؤاد، وإن القوم ليخطئون خطأ مبينا إذا زعموا أن تركيا خالية الآن من الرجال العظام؛ فإنها لم تخل منهم في زمن، فإذا خلتموها خالية منهم منذ سنوات، فإن لذلك أسبابا قاهرة.» ذلك مفاد ما قاله رئيس وزراء الإنكليز، فإن هو لم يصرح سياسة بتلك الأسباب، فكلنا عالم بها متأوه أسيف.
أما الآن وقد قضي الأمر، ونال، بل استعاد العثمانيون حريتهم، فليس بالكثير عليهم أن يبرزوا من ذوي الهمم منهم وينبتوا من ناشئتهم كل قوال فعال.
حرية الصحافة
وإذا كان هذا شأن الحرية الشخصية، فما عسى أن يكون شأن حرية الصحافة؟ تلك الآلة الحية الناطقة بلسان الأمة، المنبهة الأفكار، المرشدة إلى الإصلاح المشيرة إلى مواطن الخلل المنادية بحي على الفلاح، فإنه وإن كان القانون الأساسي قد أطلق سراحها على ما اتسع له وقتئذ، وأنشئ لها نظام مخصوص حوالي سنة 1281ه يوسع لها في حرية البحث والنقد؛ فقد أصبحت بعد ذلك تحت مراقبة حولتها إلى أبواق تمجيد وأغوال تهديد، يضطرب أصحابها خوفا لكلمة تبدر منهم أو من محرريهم يتأولها أولو الأمر على غير ما أرادته الجريدة.
وما كانت رقابة المراقبين - وإن اطلعوا على جميع ما يكتب قبل الطبع - لتخفف من أخطار العقاب، فكم من جريدة ألغيت أو أوقفت لزمن محدود أو غير محدود لخبر روته عن جرائد أوروبا ينبئ بمقتل وزير في الصين أو أمير في أفريقيا، أو اختراع ذكرته لآلة تطير في الهواء، أو غواصة تسير تحت الماء، بل كم من مرة فاجأ الجريدة الأمر «بتعطيلها» وظل صاحبها يبحث أشهرا، فلا يعلم لذلك سببا غير «الإيجاب»، بل كم من مرة انقضت الصواعق على رأس الصحافي لجهله أن هذه الكلمة أو تلك قد انتزعت بحكم الاستبداد من معجم الألفاظ الكتابية: كالقانون الأساسي، والخلع وما اشتق منه، والجمهورية، والديناميت، والثورة، والإنصاف، والحرية. أو إن عبارة أو جملة وجب حذفها من أبواب الإنشاء كقولك: العدل أساس الملك، والظلم مرتعه وخيم، والحرية منتهى غايات الأمم. بل الويل كل الويل لمن ذكر حرفا عرف به علم مشهور: كعبد العزيز، ومراد، ورشاد، بل كم لنا بإزاء هذه المبكيات من طوارق المضحكات.
خذ أعلام الأسماء وألقاب الأسر في البلاد تر مثلا: أسرة السلطاني معروفة في سوريا، ومنها رجال من ذوي المكانة بين مأموري الدولة، أفيتصور ذو عقل أن كتابة اللقب على هذا الهجاء تهدم قوام المملكة فيحول - رضي أصحابه أم غضبوا - إلى «سلتاني» مرة، وإلى «سلطا» مرة أخرى. ومن ذا الذي يقول بخراب الملك إذا دعا أحدهم رجلا باسمه ، وقد سمي «خليفة» وهو اسم بات على شيوعه من الأسماء المحظور استعمالها، ومن ذا الذي يصدق لو لم تثبت الحقيقة صدق المقال أن بيت «الشوكتلي» المعروف بحلب لا تجسر جريدة ولا مقام رسمي أن يذكره بهذا اللفظ، حتى اضطر أصحابه إلى اتخاذ لقب النحاس بدلا منه؟!
أما المقالات السياسية فباتت من أمثال العنقاء، تذكر ولا ترى، وبات العثمانيون وهم يقرءون في جرائدهم القليلة نتفا من أخبار الدول، ويقرءون شيئا عن سياسة بلادهم وإدارتها إلا ما أشير به إلى نعمة سلطانية أو تعيين وال أو مأمور أو أدعية متوالية تشف عن غل شد في أعناق الصحافيين وقادهم - وهم صاغرون - في سبيل لا يتاح لهم أن يفلتوا وهم سائرون فيه يمينا وشمالا. ولهذا لم يكن في البلاد من ينكر عليهم هذا الصغار، بل كان الناس ينظرون إليهم نظر الأسير المشفق على أسير آخر بإزائه. ولقد طالما شاقنا استطلاع الأخبار فتسقطناها من بريد أجنبي أو جريدة في سفارة أو دار قنصلية. وسئم الناس قراءة جرائد بلادهم كما سئم محرروها كتابتها على هذا النهج، وفي ذلك يقول أحد أدباء الأتراك متهكما بتوريد لطيف على كل جرائد الأستانة وقتئذ:
سعادت چون طريق كذب دايم ارتكاب إيلر
أوصاندق ترجمانك شيوه طرز إداسندن
مروت تروت آساهپسي قالقسون أورطه دن ديركن
ينه بر ... ظهور إيتدي صباحك ما وراسندن
وليس هذا كل البلاء إذ لو حرمت علينا الكتابة في جرائدنا، وأبيحت لنا قراءة الصحف المنتشرة في سائر الأقطار لقلنا: شر أهون من شرين، ولكن هيهات ... حظرت المراقبة قراءة كثير من الجرائد المنتشرة في كل بلاد الله، ولا سيما ما صدر في مصر أصدق البلاد ولاء للخلافة الإسلامية والأمة العثمانية. كأن معظم البلاء وقع على رءوس الأصدقاء، دونك أصحاب الجرائد في مصر؛ فاسألهم ينبئوك بما عانوا من المشقة في السعي بالإفراج عن جرائدهم وإباحة قراءتها للعثمانيين في بلادهم. دع المقطم وما جرى على خطته ولنلتمس لرجال «المابين» عذرا في الحقد عليه لقيامه على نقد أعمالهم والتنديد بهم . بل فلنسبل سترا على ما أنزلوا على القلوب من الرهبة منه، وما تفننوا به من ضروب العذاب الأليم عقابا لمن وجد في بيته أو عثر بين ثيابه ولو على قطعة منه اتخذها لفافة لمنديله، وهو على سفر من مصر كما جرى لذلك الشامي الأمي، فسل أهل الشام كافة يخبروك كم لبث في السجن، وكم قاسى من أنواع العذاب لتلك الجريمة وهو لم يقرأ بحياته جريدة ولا كتابا، بل التقط تلك الورقة وهو لا يعلم أهي صحيفة من كتاب أو كشف حساب.
دع، إذا، أشباه المقطم وانظر المؤيد واللواء؛ فهل عرفت قبلهما أو بعدهما صحيفة أشد تمسكا بالعرش العثماني وأعظم تفانيا في خدمته، فهل أتيح لهما إرسال جريدتهما إلى البلاد العثمانية مع ما فيها من كثرة طلابهما؟ وإني لا أزال أذكر حديثا لي مع مؤسس اللواء إذ سألني أحد أصدقائي من باشوات العراق أن أمكنه من الحصول على جريدة اللواء، فقال لي - رحمه الله: يسوءني أن يكون ذلك أمرا محظورا، ولست أعلم له سببا، كل هذا لأن اللواء والمؤيد يرددان على صفحاتهما ذكر الحرية والدستور والاستقلال والمجلس النيابي، وما أشبه من الألفاظ التي تنبه الشعور في عرف الناس، «وتخدش الأذهان» في عرف رجال «المابين.»
ذلك كان جزاء المحبين للحكومة الغابرة، القائمين على ولائها من أرباب الجرائد سواء كانوا في قبضة يدها أو خارج سلطتها.
وأما أعداؤها ومبغضوها ممن لا تستطيع أن تتناولهم يد جبروتها، فهم هم الذين كانوا بفضل كرمها الحاتمي في نعيم مقيم تنفحهم بالألوف الصفر المجبوة بالدرهم والفلس من الأرملة والعامل الكداح إلجاما لألسنتهم النمامة. وما كانوا بكافين عنها إلا حتى حين. ولقد أغدقت عليهم من النعم ما لو أحسنت ببعضه على بعض جرائدها في بلادها؛ لكان لها أشباه التيمس والتان.
ولقد طالما ذاعت عنها تلك المكرمة بين الناس حتى كادت تبيد مزايا جرائد الأحرار المطالبين بالدستور والباذلين في سبيله كل ما عز وهان لاختلاط الحابل بالنابل، وبات كل أفاق شريد يطمع في اتخاذ السباب والنميمة مهنة يستهطل بها غيثا من النضار ، ولو لم يقم مختار باشا في مصر وغيره في غيرها يصيحون ويصخبون سنين طوالا في وجه هذا السيل الجارف، لما خف اندفاعه حتى الآن، ولكانت ضاقت موارد الدولة عن إرضاء كل أفاك زنيم.
ولو بقي نصراء الاستبداد على منصات رفعتهم حتى الآن لقالوا بلا ريب مدافعين: إن البلاد لم تألف الحرية، فإطلاق أقلام الصحافيين فيها إثمه أكبر من نفعه. فقل لهم دفعا لهذه الفرية تلك نعمة عم انتشارها فتمتع بها أبناء قلب أفريقيا وأقاصي آسيا، فما بالكم حرمتموها علينا؟ ومع هذا فلسنا على بساطها بالمحدثين، ألفناها منذ ستة وثلاثين عاما ورتعنا في أكناف رياضها، وما من رزية أشد على المرء من سلبه نعمة نال منها لو طرفا يسيرا، أليس منكم من قرأ جرائد الأستانة وسوريا ك «الوقت» و«عبرت» و«الجوائب» و«الجنة» و«الجنان»، فرأى فيها ما أنفذته من سهام للنقد على أولياء الأمر أيام صدارة محمود نديم.
ومن من السوريين أبناء ذلك الزمان لا يذكر ما صوبته «الجنة» من نبال التقريع، وما ألمت به أفئدة الوزراء من كشف النقاب عن بعض أعمالهم، مما لو كتب منها سطرا واحدا في أيامكم لكان أقل جزاء لكاتبه السجن المؤبد. فعلام كان سلفاؤكم يرحبون بتلك الكتابة؟ بل علام كان بعضهم يحرض الجرائد على الانتباه إلى نقد أعمال العمال؟ وكل كهولنا يذكرون أيام تولى مدحت ولاية سوريا، وما كان من عزله متصرفا لتهمة وجهتها إليه «الجنة»، فكتب إليه: «إما العزل وإما قيامك للوقوف أمام المحكمة مع صاحب الجريدة.» ولما لم يقو على تبرئة نفسه اضطر إلى الاستقالة، بل ما بالكم ترتعدون جزعا لذكر «الثورة» و«القتل» و«الخلع» و«الدستور»، وتأمرون أن نشوه وجه الحقائق فتنقل إلينا الأخبار كاذبة، فإذا قتل ملك إيطاليا أمرتم الصحف أن تقول «توفي فجأة»، وإذا طعن كارنو رئيس جمهورية فرنسا على قارعة الطريق، قالت بأمر منكم: «مات بالنزلة الصدرية»! فماذا يقول التاريخ بهذه الألاعيب الصبيانية؟ وأي جريدة من جرائد السلطنة أيام خلع المغفور لهما السلطان عبد العزيز والسلطان مراد لم تصدر أياما، بل شهورا متوالية حافلة بتفصيل أخبار ذلك الانقلاب وما وليه من هجوم حسن الجركسي على الوزراء وقتله الصدر وناظري البحرية والخارجية؟ وإن أكبرتم نقل مثل هذه الأخبار، فما بالكم تحظرون علينا ذكر جهاد الروسيين والإيرانيين في سبيل الحرية ونيل الدستور؟!
أفلا ترون بدليل ما تقدم أن الأمة لا تطالب بنعمة تسبغونها عليها من فضلكم، وإنما هو حق سلبتموه بعد أن كانت متمتعة به بفضل أسلافكم؟ أولا ترون أيضا أن بقاء صحافتنا حية مع شدة هذا الضغط يبشرها بعمر جديد وشأن في المستقبل مجيد؟
وإننا بلا ريب لا نطمع ولا نود أن نتخطى الآن إلى ما وراء المعقول، فنثب وثبة واحدة من وهدة المسكنة الاضطرارية إلى قمة التهور الاختياري، بل جل ما نتمناه أن تباح لنا رواية الأخبار وترديد صدى الأفكار والنظر في شئون أنفسنا من إلقاء درس مفيد وعرض مقترح جديد ونقد عامل وعمل والبحث في كل ما من شأنه أن يلذ ويهذب ويفيد. وعلى الجملة إطلاق الحرية إلى ما لا يفضي بها إلى مثل الفوضى التي استحكمت بين بعض جرائد مصر لسنين مضت، وهو لا شك ما ينظر إليه دعاة الدستور من الآن بعين الروية والتدبير.
حرية التعليم
لئن أطلنا الشكوى من تأخر الصحافة في العهد الماضي، فإذا ذكر العلم والتعليم فلا يسعنا إلا أن نقول الحق فنعترف أنهما رقيا فوق ما كانا عليه درجات، وأن معظم العثمانيين أصبحوا ولهم نصيب من العلم. ولقد أربى عدد القارئين الكاتبين على عدد الأميين في كثير من الولايات، ولكن المراقب الخبير يعلم أن هذا الترقي هو دون ما كان يجب أن يكون؛ لأن تيار العلم سيل جارف يبدد كل ما اعترض سبيله من عقبات الجهل والخمول، ولقد أحاط بنا هذا السيل من كل جوانبنا فما كان في الوسع حده مهما بذل من الجهد، فكيف ومعظمنا مستبشر لوفوده ولو تسهلت له السبل على ما يرام لكفته ثلاثون سنة لإزاحة كل نبت خبيث وجلمود معترض في طريقه ، وجعل البلاد قاصيها ودانيها رياضا للمعارف، نضرة يانعة الفروع دانية القطوف، ولكن الخطة التي جرت عليها الحكومة الغابرة حولت بعض حسناته إلى سيئات وبعض منافعه إلى مضار.
أرادت أن تتخذ للتعليم في البلاد خطة واحدة، ويا حبذا الفكرة لو حسن القصد واستقام الأسلوب، وهي فكرة قديمة يرجع أصلها إلى أيام السلطان سليم، فلم يتسن له إنفاذها، بل كانت من أسباب قيام جهلة الإنكشارية عليه، فتلقاها السلطان محمود، ولم تزل تتراوح في رءوس ذوي الشأن حتى أنشئت المكاتب الإعدادية والرشدية في الولايات وبعض المدارس العالية في الأستانة في زمن السلطان عبد العزيز، وزاد عليها جلالة السلطان الحالي مدارس أخرى. ولكن طرق التعليم اختلت بشدة المراقبة، فأبعد منها كثير من المطالب المفيدة إبعاد المنفيين إلى فزان، حتى لقد حرم على الطلبة درس المهم في التاريخ ولو كان تاريخ بلادهم، وشوهت جغرافية البلاد العثمانية وخرائطها فحذف وبدل منها من الأسماء ما طالما افتخر سلاطين آل عثمان بدخوله في حيازتهم. وحظر تعليم - بل قراءة - العلوم الفلسفية والاجتماعية، ومنع الأساتذة من إلقاء أي شرح مفيد على الطلبة حتى حار المعلمون في أمرهم، وكانوا وهم يلقون حتى ولو مسألة نحوية أو حسابية صرفا يخشون أن توجس منهم إشارة إلى عدد يوافق أعداد سني الظلم أو فتحة أو كسرة تشيران إلى فتح الأعين وكسر القيود.
كل ذلك خشية من أن ينبثق نور العلم في أدمغة التلامذة، فيعلمون أنهم من بني الإنسان، وأن لأمتهم حقوقا تجب المطالبة بها، فإذا نال أولو الأمر هذه البغية بالنظر إلى صغار الطلبة، فما كان يا ترى ظنهم بطلاب مدارس الأستانة العالية كالمكتب الملكي والمكتب السلطاني والمدرسة الحربية والمكتب الطبي - وجميعهم من الشبان الأذكياء؟ أو ما عسى أن يقول طلاب مدرسة الحقوق - وعلم الحقوق من العلوم الفلسفية - إذا اضطر أساتذتهم كل يوم إلى تغيير خطة وتبديل نهج وإلغاء درس الشرائع الرومانية أو غير ذلك مما يزيد المنع عنه رغبة فيه؟ أو ماذا يقول طلبة المدارس الحربية إذا حظر عليهم أن يبحثوا في أنواع الحكومة، وتنصب لهم المكيدة فيجمع بعض نظارهم نجباء أولئك الشبان المتقدين نيرة وذكاء؛ فيسألهم عما يؤثرون من أنواع الحكومات فلا يقول بالحكومة الاستبدادية إلا أشدهم دهاء. وأما الباقون الذين يبوحون بما في ضمائرهم، فيقولون بالحكومة الدستورية، فيطردون ويساقون سوق الأنعام إلى حيث لا يعلم إلا الله. وأما ذلك الظالم الناشر تلك الأحبولة فيتخذها ذريعة للوشاية فتغدق عليه النعم ويصعد في سلم الترقي درجات متواليات بأسرع ما صعد إسرائيل على سلم جبرائيل.
وما كل هذا العنف وذلك الضغط إلا ليغشوا على أبصار الشبان، فينشئوهم آلة صماء بين أيديهم، ويحجبوا عن أبصارهم ساطع النور، فلا ينظروا إلى مساوئهم، أفجهلوا أن النور إذا انبثق خرق الظلمات ونفذ إلى ما وراء حجب الغياهب! وأن شدة العنف تجرح حتى الجبان! فما عسى أن يكون فعلها بتلك الفتية الباسلة، وهل فاتهم أن دعاة الثورات والإصلاح في أوروبا كان معظمهم ممن عني في تربيته على خلاف ما نشأ عليه.
بقي لنا كلمة في المدارس الوطنية والمدارس الأجنبية، أما الأولى، ونعني بها: تلك التي شادها أهل البلاد، فهي قليلة لم يكن يرجى منها النفع المقصود مع شدة اعتناء أصحابها بها؛ لأن أكثرها تحت أحكام هذه المراقبة الجائرة. وأما المدارس الأجنبية فهي التي كانت متمتعة بحرية حرمت على ما سواها، ولقد تهافت عليها الطلاب من كل الملل والنحل تهافت الظمآن على الماء الزلال، وبثت نور العرفان بين جمهور عظيم من فتياننا، ولكنا مع اعترافنا بجزيل ما ثقفت وأفادت لا يسعنا إلا القول جهارا: إن فيها ثلمة متسعة لا يمكن سدها إلا بتغيير الأحكام، فمن من أرباب تلك المدارس - على فضله - يهتم ببث روح الوطنية بين تلامذته، بل من منهم وهم منتمون لأمم متناظرة لا يسعى جهد طاقته في استمالة تلامذته إلى أمته ودولته. وهكذا نشأ الطلاب على اختلاف في الأفكار والمذاهب. وهكذا عمل الأجانب بطريق العلم على اقتسام عقولنا كما عملوا بطريق السياسة على اقتسام بلادنا.
ومما زاد في البلوى أنه لم يكن يؤذن لخريجي المدارس المختلفة بإنشاء الأندية وعقد الاجتماعات لتبادل الآراء؛ خوفا من امتزاج المشارب والأخلاق.
على أننا مع شدة هلعنا لعبوس الزمن الماضي لا يسعنا إلا استقبال ابتسام الزمن المقبل بملء البشر والسرور؛ إذ توحد طرق التعليم في مدارس الحكومة، ويوسع المجال للمدارس الوطنية، ويباح تدريس علوم الفلسفة والاجتماع والآداب ويوجب تدريس التاريخ، ولا سيما تاريخ البلاد العثمانية وجغرافيتها، وتسهل الطرق لطلبة جميع المدارس من أميرية ووطنية وأجنبية لفتح الأندية وعقد الاجتماعات؛ ليشبوا جميعا على حب التكاتف متعاضدين على العمل يدا واحدة قياما بخدمة حقة لهذه الأمم التي أصبحت منذ 24 تموز أمة واحدة.
حرية التأليف والقراءة
حبذا لو أتيح لنا أن نذكر للزمن الماضي حسنة بما خص تأليف الكتب المفيدة، كما ذكرنا له حسنة من حسنات ترقي العلم، وإن أتت بالقسر عنه. ولقد يعجب المرء لهذا التناقض بين حالة هذين الألفين المتلازمين، ولكنه لدى إمعان النظر يتضح أنه لم يكن بد من حصول ذلك التباين، فإن العلم مطلب من مطالب كل نفس حية؛ فكان من المستحيل إيقاف تياره كما تقدم. وأما التأليف فهو من خصائص فئة قليلة من الناس، وهم ليسوا في الغالب من ذوي السعة واليسار. وأقل ما كان يشوه سمعتهم في آذان أرباب الاستبداد أنهم من ذوي الأفكار الحرة ليس في آذانهم وقر ولا غشاوة على أبصارهم، وما كان أحوج الظلام إلى كسر تلك الأقلام، ولم يكن في الوسع أن يفعلوا ذلك علنا خوف الفضيحة؛ فأسبلوا ستار الرياء، وهو شفاف.
لم يسنوا نظاما جديدا قاضيا بالتضييق على الكتابة والكتاب، بل لجئوا في هذه الحال كالتجائهم في سائر الأحوال إلى إصدار الإرادات السنية التي كانت تنهزم جنود القوانين من وجهها كانهزام الجيش المدحور أمام الفاتح المنصور. ولم يكتفوا بإنشاء شعب المعارف في الولايات - وما أحلى هذا الاسم وأمر الفعل - بل انتهى بهم الأمر أن باتوا لا يسمحون بنشر كتاب ما لم يعرض على مجلس التفتيش والمعاينة في نفس الأستانة.
ويجدر بنا قبل استتمام هذا البحث أن نقول كلمة في صفة هذا المجلس ومهمته، خليط من كل أصناف الناس رفيعهم ووضيعم عالمهم وجاهلهم، مرتع لبعض صنائع «المابين» ومنفى لأذكياء الشبان اتقاء لبادرة منهم، تدفع إليهم الرواتب وبعضهم في الأستانة والبعض الآخر في أطراف البلاد، وتختلف تلك الرواتب زيادة ونقصانا باختلاف منطوق الإرادة ونفوذ الواسطة. ولقد شاهدت مرة شيخا هما مقبلا إلى نظارة المعارف، يتضح لناظره ومحادثه أنه لا يعرف من المعارف إلا اسمها، عين، بإرادة سنية، عضوا لهذا المجلس براتب باهظ، ولم يكن لناظر المعارف ولا لسواه سابق خبر بتعيينه، فما وسعهم إلا إحلاله على الرحب والسعة، وبعد هنيهة خرج إلي صديق من ذلك المجلس، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله هذا صنيعة فلان.
ولم يكن هذا المجلس خلوا من الأعضاء الذين يرجى نفعهم في غير تلك الحظيرة، ولكن أقل تغاض منهم عن الأوامر المنهالة عليهم الواحد تلو الآخر يشهر على رءوسهم سيف النقمة.
ذلك هو المجلس الذي ألقيت إليه مقاليد المعارف في البلاد العثمانية، لا يباح بنشر كتاب أو تأليف ما لم يعرض عليه ويتصفحه، فيقرأه بعض أعضائه حرفا حرفا بأية لغة كانت فيزيدون وينقصون ويحرفون ويبدلون، وربما حذفوا منه صفحات وفصولا، بل ربما حذفوا كلمات وعبارات، فاختلت بحذفها لحمة الكتاب من أوله إلى آخره، وإذا أسعف الحظ وصدر الإذن بطبع الكتاب خرج إلى صاحبه وعلى كل صفحة منه ختم نظارة المعارف، والويل للمؤلف الذي يوشى عليه بتغيير حرف منه أثناء الطبع. والأدهى من ذلك أنك ربما انتظرت لصدور الرخصة زمنا أطول من الزمن الذي قضيته في التأليف. ومع هذا فلم يكونوا يجرون على قاعدة واحدة، بل كانوا يراعون أحوالا كثيرة تؤثر في حكمهم، ولهذا ربما تجاوزوا لك عن كل ما مر؛ فقد اتفق لي أن طلبت الرخصة بكتيب أشبه برسالة منه بكتاب فانتظرت سبعة أشهر وحذف منه وبدل، وأنا مقيم في الأستانة، ثم اتفق أن حصلت على الرخصة بيوم واحد لكتاب مطبوع يتجاوز عدد صفحاته الألف مائتي صفحة، وأنا مقيم في مصر، ولم يختم ولم يعترض على حرف واحد منه، وأنا على يقين أنه لم يقرأ منه غير عنوانه.
فأي مؤلف في الشرق أو في الغرب يقدم على تأليف كتاب، فيبيضه من أوله إلى آخره، ثم يعرضه على نظارة المعارف، فينتظر كل هذا الزمن. وإذا حسن حظه ونال الرخصة يآلي على نفسه أن لا يغير منه حرفا أثناء الطبع، مع أن المراجعة والتصحيح يقتضيان النظر في التنقيح والتعديل والتبديل حتى بعد ترتيب الحروف قبل الطبع، وأي همة لا ترجع مثبطة أمام تلك الحوائل؟!
أما مواضيع المباحث المباح التأليف فيها، فلم تكن تشمل شيئا من المباحث الأخلاقية والاجتماعية والفلسفية، وكل ما من شأنه أن يعلي الهمم ويثقف العقول وينير البصائر، وهل بعد هذا من قتل لهمم الكتاب؟
ولذلك أصبحت التآليف المفيدة في الولايات من أشباه المعجزات، ولم يكن كتاب الأستانة بأنعم بالا؛ لأن المراقبة كانت محدقة بهم من كل جوانبهم، وبات الجم الغفير من أطول الكتاب يدا يتجاهل وهو عالم ويتصاغر وهو كبير.
وأما الذين اشتد بهم اليأس فلم يطيقوا الصبر، وخف حملهم، فلم يكن في البلاد قيود محكمة تربطهم بها؛ فوكلوا أمرهم إلى الله وغادروا بلادهم، وهم يحنون إليها عن بعد ويتربصون إلى حلول مثل هذا اليوم السعيد ليعاودوا البلاد أفواجا ومعهم من لذة الاختيار وفائدة الاغتراب ما جعل منفاهم مورد نفع لهم ولمواطنيهم في مستقبل الأيام.
وحبذا لو وقف المستبدون فيما مضى عند هذا الحد، وغادرونا نتمتع بقراءة الكتب التي ألفت قبل استئثارهم بالأمر؛ فإنهم بعد أن سدوا السبل في وجه الجديد المفيد، وأوصدوا الأبواب في وجه الكثير من مؤلفات الأجانب أخذوا يتعقبون آثار كل قديم فيه نفحة من نفحات الحرية. ولقد طالما كان الوشاة يتخذونها وسيلة لنيل ما لم يستطيعوا إليه سبيلا بطرق البذل والاسترحام، كما فعل ذلك البائس الذي نفدت حيله فعجز عن الحصول على وظيفة؛ فأرسل تلغرافا إلى «المابين» ينبئ أن لديه أمورا ذات شأن يبلغهم إياها، ففتحت له الأبواب فدخل ومعه بعض أجزاء منتخبات الجوائب، فأشار إلى بعض مظان فيها؛ فكوفئ وعين قائمقاما وصدرت الأوامر في الحال بمصادرة جميع أجزاء تلك المنتخبات فهجم الرقباء على المكاتب هجوم الشرطة على اللصوص، فبعثروا كتبهم وجمعوا كل ما لديهم من ذلك الكتاب.
وكم من مؤلف قرئ دهرا بلا حرج، ثم صودر وحظر النظر إليه لكلمة أو عبارة وردت فيه. وكم من مكتبة زج صاحبها في ظلمات السجن لشبهة تلوث بها لبيع كتاب أو لذكر اسم ذلك الكتاب في حديث أو رسالة وجهت إليه من صديق، وهذه سجون الأستانة ودمشق الشام وغيرهما لا تزال تتقطر لهفا على أولئك الأبرياء.
وما عسى أن نقول عن حالة المكاتب الخاصة؛ إذ كانت المنازل تفاجأ على غرة من أصحابها، وتفتح خزائن الكتب، وإن كان بعضها مدخرا من عهد الآباء والأجداد، ويتذرع الوشاة ولو بصفحة من كتاب مؤلف منذ قرون لأخذ صاحبه غيلة. وإن حملة واحدة حملها الوشاة منذ سنتين على بعض وجهاء القوم في طرابلس وبيروت وصيدا؛ أسفرت عن سجن جماعة من خيرة العلماء وطلبة العلم وإحراق الألوف من الكتب النفيسة حتى ساد الرعب بين طلاب الكتب، فكانوا يتلفون بأيديهم تلك النفائس التي جمعت بشق الأنفس حتى قدر ما أتلف بأيدي أصحابه بيوم واحد بما يقرب من خمسين ألف مجلد، وكانت النيران تلتهم الكتب التهامها يوم دخلت جنود هلاكو بغداد.
ومع هذا فإن للمطبوعات قانونا، حبذا لو عمل ببعضه، حتى لقد كان للكتاب مكافآت مرتبة على ثلاث درجات قبل هذه الفترة. وإننا لا نزال نذكر المكافآت التي نالها المؤلفون في تلك الأيام، خلا ما كان يجود به كرام السلاطين على الكتاب والمؤلفين.
وأما الشعر، وهو نشوة الرءوس وصناجة النفوس، فقد قضي عليه القضاء المبرم، إلا ما كان ينفخ منه في نفير التدجيل وبوق التبجيل حتى لقد خيل لجهلة القوم أن تلك الجذوة التي بدأ شبوبها في زمن السلطان عبد المجيد ثم التهبت أيام السلطان عبد العزيز، قد انطفأ نارها وخبأ إوارها، وما علموا أنها لبثت وميضا تحت رماد منتشر على هشيم إذا لعبت به نسمة حرية انكشف الرماد فثارت النيران ثوران البركان.
ومن أراد أن يعلم ما كان من آثار الحرية السابقة؛ فليرجع إلى الروايات التي كانت تمثل بالفرنسية والتركية في دور التمثيل بالأستانة، وقد ضربت فيها للسلطان عبد العزيز قبب خاصة. بل فليرجع إلى حماسيات كمال زعيم النهضة الشعرية، وإذا أردت مثالا أنصع؛ فاقرأ متنا وشرحا وشعرا ونثرا ظفرنامه يوسف ضيا باشا، وقد انتقد فيها بأشد من قذف النبال سياسة الدولة في بعض الشئون، ووصف بعض صدورها ووزرائها تحت ذقونهم بما لو نطق بحرف من مثله في الحكومة الغابرة لزج به إلى أعماق البوسفور.
ذلك نزر من بحر من مساوئ حكم مضى، وإني أختم هذا الباب بكلمة لرجل من جهابذة رجال العلم وفحول الشعراء في سوريا. إذ قلت له يوما: ما لكم معشر الكتاب ها هنا قد أقعدكم الخمول، ونحن فئة صغيرة منكم رحلنا عنكم إلى مصر، وكلنا من تلامذتكم؛ فكان منها الكاتب المجيد والمؤلف والشاعر المفيد الضارب في رياض الحقيقة ومسارح الخيال. وأما أنتم فلا تنفحوننا إلا بكل تافه قليل الجدوى. فقال: ابعث لنا بنفحة واحدة من نسمات حريتكم، وناقشنا بعد ذلك الحساب. فأفحمني، وقلت: حسبنا الله، رب عجل بفرج من عندك.
والآن قل لأمثال هذا الجهبذ النحرير في كل أطراف البلاد قد استجيب دعاؤكم، وفكت القيود، فأرونا نفثات يراعكم وأبرزوا لنا مكنونات صدوركم ووافونا بكل جديد مفيد، وسطروا لنا علوم العصر، وسروا عن أنفسكم وأفيدوا أبناء جنسكم وأطلقوا عنان الأقلام، ولكن الأمل وطيد أن نشوة السرور لا تأخذكم، فتتخطوا جادة اليقظة والاعتدال؛ لئلا يختلط النفع بالضر والخير بالشر.
حرية الكتابة
أو البوستة والتلغراف
إن الخلاف الذي قام هذه الأيام بين الحكومة العثمانية وإيطاليا، قد كشف عن حقيقة في غاية الغرابة؛ طلبت الحكومة الإيطالية أن يؤذن لها بفتح مكتب بريد في القدس أسوة لها بسائر الدول الأوروبية الكبرى. ولما لم يجب طلبها أرعدت وأبرقت وحشدت الأساطيل فلم تجد الدولة، وإن شئت فقل رجال «المابين»، سبيلا إلى الرفض؛ فسلموا بمطالب إيطاليا خصوصا بعد أن اتضح لهم انحياز جميع الدول إلى جانب الإيطاليان حتى صديقتنا دولة الألمان. وليس هنا موضع البحث في مبلغ العدل من هذا الطلب، ولكن المرام بيان مبلغ الظلم ووقوعه في نفوس العثمانيين بصرف النظر عن حق مكتسب لأجنبي، أو مطمع يسعى إلى بلوغ غايته منه.
كانت إيطاليا تلح في الطلب، والدولة تعتذر عن الإجابة، ولم يكن أحد من ذوي المصالح في البلاد العثمانية، حتى المخلصين المتفانين في حبها القاطرة قلوبهم دما على كل ذرة حق تسلب منها، لم يكن منهم حتى ولا واحد يدعو لدولته بالفوز خوفا من أن تتذرع بذلك إلى إلغاء مكاتب البريد الأجنبية. أفليس ذلك من غرائب الوطنية، وإن عد في غير زمن الاستبداد خيانة فادحة؟
كان العثمانيون جميعا يعلمون أن مكاتب البرد الأجنبية منتشرة في ثغور البلاد من الأستانة على البوسفور إلى الدردنيل في مرمرا، إلى ثغور البحر المتوسط كأزمير وسلانيك، حتى بيروت ويافا إلى البحر الأحمر، فخليج فارس حتى البصرة. وبعضها في قلب البلاد البعيدة عن الثغور كبغداد والقدس، وأن بعض هذه البرد يخترق الصحراء من بغداد إلى الشام. يعلمون كل ذلك وينظرون مرارا إلى ثائر الخلاف بين دولتهم والدول الأخرى بشأن رقابة تلك المكاتب، وهم يدعون للدول الأجنبية بالفوز من صميم أفئدتهم مع علمهم أنها حقوق يسلبونها. ولم ذلك؟ لأنهم كانوا يعلمون أنه بزوال تلك المكاتب من بلادهم تزول آخر بقية من حرية المكاتبة؛ فيتعطل ما لم يتعطل بعد من مصالحهم.
ولا يسعنا هنا إلا الإقرار أن لتلك المكاتب فضلا عظيما يحفظ علاقة الأحرار بعضهم مع بعض وترويج كثير من الأعمال التجارية والسياسية.
ولقد عرفنا كثيرين من رجال الحكومة الذين كانوا يعملون في الظاهر على إلغاء تلك المكاتب، وهم في الباطن يؤيدون مطالب الأجانب خوفا على مراسلاتهم وتفاديا مما ربما ينال علاقاتهم السرية من الضرر.
وهكذا فقد كان لهذه البرد مؤيد من المخلص والخائن على حد سوى؛ أما المخلص فلما تقدم من الأسباب، وأما الخائن؛ فلأنها كانت الوسيلة الوحيدة لإيداع مصارف أوروبا وأميركا الملايين الصفر المقطرة من دماء الأهالي.
ولقد كان رجال «المابين» مع تأييدهم الأجانب سرا بما خص مكاتب البريد يدأبون سرا أيضا على استمالة بعض عمال تلك المكاتب وإغرائهم بالمال؛ ليدفعوا إليهم بعض رسائل الأحرار. وإننا لا نزال نذكر الصيحة الشديدة التي صاحتها إحدى الدول بوجه عمال بريدها سنة 1894، ثم طردها أربعة منهم دفعة واحدة، ثم إصدار أمرها بأن لا يستخدم مكانهم أحد من العثمانيين، وذلك على إثر اكتشافها تواطؤ أولئك مع رجال «المابين» على دفع رسائل بعض الأحرار إليهم لقاء جعل معلوم عن كل رسالة، وإن أردتم مثالا أجلى فاسألوا أبا الضيا توفيق أفندي عما جرى له من مثل ذلك؛ إذ دعي إلى «المابين» في السنة المذكورة، وضيق عليه واستنطق من أجل مراسلة علمية وأدبية محضة جرت بينه وبين سيدة فرنسوية من ذوات الأقلام. ولا أزال أذكر عبارة له وقد اشتد به القنوط؛ إذ همس بأذني قائلا: وددت لو أني مت قبل أن أرى هذا الانحطاط الذي آل إليه أمر هذه الدولة، فالحر مضطر فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا، ولقد اشتدت عليه المراقبة من ذلك الحين حتى انتهى أمره كفؤاد باشا بالإهانة والنفي.
ولو كان كل بحث يجلو كل حقيقة لاتضح الآن أنه كان لكل رجل من رجال «المابين» وأكثر رجال الدولة، حتى الوزراء؛ عمال من الأجانب ترد إليهم المراسلات وترسل التحاويل بواسطتهم في البرد الأجنبية، فتأتي الرسالة مثلا من بلجيكا بالبريد الفرنسي باسم الموسيو أدمون على الظرف الخارجي، ومن ضمنه ظرف آخر باسم محمد باشا؛ فيستلم الوكيل الكتاب ويسلمه لصاحبه يدا بيد. وعلى هذا النمط كانت المخابرة تجري بين مختلفي البلاد وعملائهم، وكذلك بين دعاة الحرية في أطراف البلاد الأجنبية.
ولقد كان أمر المراقبة شائعا بين الناس، حتى كان الصديق إذا بعث برسالة سلام وتودد إلى صديقه يحسب أن عينا أثيمة تنظر إلى كتبه وتحلله وتشرحه قبل أن يقع تحت نظر صاحبه، فيودع كتابه من العبارات ما يدرأ شر الوشاة وشبهات المتعنتين. ولو توالت هذه المراقبة لأنتجت فوق مضارها المعروفة لدى كل الناس اختلالا في إنشاء الكتاب وأجرت على أقلامهم عبارات الرياء والمداهنة؛ لأن الرسائل التي كان يخشى أصحابها فض ختمها قبل تسليمها إلى أصحابها كانت تستهل وتختم بالأدعية والثناء على رجال «المابين» وعملهم، وكل من الكاتب والقارئ يخط ويقرأ كذبا وتدليسا.
وكانت لهم مهارة مذكورة بفتح التحارير وفض الأختام ولو كانت بالشمع، حتى يخيل لك أنهم لو استفادوا من البخار والكهرباء وسائر مخترعات العصر ما استفادوه من الإحاطة بجميع وسائل فض الأختام؛ لرقوا بالبلاد درجات. وكانوا بعد فض الرسائل التي يختارونها يحكمون ختمها، وإذا خلت من شبهة دفعت إلى صاحبها وأكثرها غير باد عليه أثر التلاعب، ولم تكن تلك المراقبة خلوا من كل فائدة، وإليك مثالا على سبيل التفكهة: بعث إلي صديق من بغداد كتابا، ونسي أن يضيف اللقب إلى الاسم على الظرف؛ فلم يكن عليه إلا اسم سليمان، وفي الأستانة ألوف سليمانات، ومع ذلك فالكتاب وصلني لوجود الاسم واللقب معا داخل الكتاب؛ فشكرتها لهم منة عظيمة لما كنت أتوقعه بذاهب الصبر من أخبار صاحبي.
ولم يكن ممكنا بوجه من الوجوه أن تحيط المراقبة علما بكل المراسلات المتداولة في البلاد؛ لأن ذلك يستلزم إرصاد ألوف العمال وبذل ملايين النقود؛ ولهذا كانوا يقتصرون على فتح رسائل الذين يوجسون خوفا من مرور نسمات الحرية على أدمغتهم، والذين يودون الغدر بهم على هذا الأسلوب الدنيء. وكم من مرة علمنا أن فلانا سجن وكبل بالحديد لورود رسالة إليه تشير إلى مؤامرة أو مكيدة أو إلى انخراطه بسلك تركيا الفتاة، ولم يكن له سابق علم بتلك الرسالة ولا علاقة له مع صاحبها ولا خطر على باله شيء من محتوياتها، وإنما هو شرك ألقاه له أبناء الشر بإيعاز أو بغير إيعاز، فسطروا تلك النميقة على هواهم، ثم أتبعوها بتلغراف إلى صاحب الشأن ينبئونه أن صاحبهم سيئ النية خبيث الطوية، يثبت ذلك ما بينه وبين أعداء الدولة من التضافر على إثارة الفتن؛ فتضبط الرسائل الذاهبة إليه وتفتح ويحكم بثبوت تلك التهمة الفظيعة بمجرد هذه الوشاية. ومن ذا الذي يجسر أن يشفع بمن سيق مصفدا بالسلاسل من أجل تهمة هذا شأنها .
ومن نتائج تلك المراقبة أيضا تعطيل المصالح في المدن الكبيرة لامتناع الحكومة عن السماح بإنشاء مكاتب البرد الداخلية، وكم من مرة ضجت الأستانة لهذا التضييق حتى كان المضطر إلى إرسال كتاب من محلة إلى أخرى يعمد إلى استئجار السعاة. بل ربما كنت إذا أردت أن ترسل كتابا من بك أوغلي إلى إستانبول تجشمت من الصعوبة فوق ما تتجشم بإرساله إلى باريز، وصرفت من الأجرة عشرة أضعاف. فلما بلغت تشكيات الأهالي عنان السماء أقيمت مكاتب البريد الداخلي في الأستانة خاصة، وما لبثت أياما حتى صدر الأمر بإلغائها؛ خشية أن تسهل على دعاة الإصلاح حرية التخاطب ثم أعيدت بإلحاح من الأجانب وبعض ذوي النفوذ على أن لا تقبل إلا التذاكر المفتوحة.
فمن يعجب بعد هذا لتدني دخل هذه الإدارة المختلة وذهاب معظمه إلى المكاتب الأجنبية؛ فكأن حكومة «المابين» آلت على نفسها أن تعبث بكل مورد من موارد البلاد بالحجر على الحرية على طرق شتى، وليس من الصعب تصور ما سيكون من ازدياد موارد الثروة باستتباب الأمن والعدل.
ليست إدارة البريد من موارد الثروة العظيمة، ومع هذا فخذ مثلا ضعيفا عن علاقة البريد العثماني بالبريد المصري، فإن مصر - على كونها محسوبة من أجزاء الممالك العثمانية - كانت في نظرها غولا رواعا يمنع مأمورو الدولة من المرور به، بل ربما تحاشوا ذكر اسمه. والرقابة على بريده بلغت أعظم المبالغ، ولهذا كان يضطر أرباب المصالح في الأساكل إلى جعل كل مخاطباتهم بواسطة البرد الأجنبية. وأما في المدن الداخلية كمصر القاهرة، حيث لا مكتب لبريد أجنبي؛ فإن الرسائل تذهب منها رأسا إلى البلاد العثمانية بعد مرورها على الإسكندرية أو بورسعيد. ولهذا كان أصحاب المصالح يتكبدون مشقتين ويصرفون الأجرة ضعفين إذ يبعثون برسائلهم بالبريد المصري إلى إحدى الأساكل، ومن ثم تفض ظروفها وتوضع عليها الطوابع الأجنبية. ولم يكد الدستور يعلن حتى بدا الفرق وظهر الغبن الفاحش؛ فإني أعرف محلا واحدا حصل له من الوفر بعد إعلان الدستور زهاء ثلاث ليرات في الشهر. أما الذي يربحه البريد العثماني بهذا الإصلاح فليس مما يستهان.
وإن ما قيل في إدارة البريد يصدق معظمه على إدارة التلغراف، وإن كانت مكاتب تلغراف الأجانب غير متشعبة في البلاد العثمانية كمكاتب بردهم، ولكنه حسبنا أن يكون في قلب العاصمة مكتب تلغراف أجنبي، وأن يكون للأجانب مكتب آخر في الفاو الواقعة في منتهى أملاك الدولة على خليج فارس، ولا بد أن نذكر استطرادا وأن نبلغ بعد محل البحث في اختلال إدارة البلاد أن الخسائر متطرفة إلى الدولة من كل أبواب مواردها، ومن جملتها خسارة أجرة الرسائل التلغرافية المتبادلة بين أوروبا والهند فممر طريقها الطبيعي على بغداد وفيه لأصحاب تلك الرسائل ونفس الحكومة الإنكليزية وفر عظيم، ومع هذا فقد أدى اختلال الإدارة إلى تحويل هذا المورد إلى طريق السويس.
حرية الجمعيات
في أخريات سني السلطان عبد العزيز أيام ألقيت مقاليد الأحكام إلى أمثال مدحت، وشب في الأستانة من خلفاء شناسي أمثال كمال وأكرم وناجي وسعيد ومدحت، هبت في البلاد نسمة نشاط فدفعتها إلى نهضة فكرية تحفزت على إثرها فكادت تثب إلى أوج معارج الفلاح لو لم يقم في وجهها جبار الاستبداد، وامتدت نفحات تلك النسمة الفيحاء إلى المدن، وكادت تبلغ القرى والبوادي لو فسح الله في أجلها، فنهض شبان البلاد على اختلاف نزعاتهم إلى إنشاء المنتديات وتأليف الجمعيات العلمية والأدبية طلبا للإفادة والاستفادة، وكان الجم الغفير من رجال الدولة ينشطون أولئك الشبان ويشدون أزرهم بالقول والفعل.
لا أزال أذكر ذلك اليوم الميمون إذ حدا بنا هذا الحادي، فألفنا جمعية زهرة الآداب في بيروت، وتألفنا عصابة لم يكن فيها أثر لفارق بين مسلم ومسيحي، وسننا قانونا، فجعلنا أول مواده منع التعرض للبحث في الدين والسياسة وفرضنا على جميع الإخوان إلقاء الخطب والمباحث المفيدة، وجمعنا مكتبة على قد ما تيسر لنا فودع الإخوان القهوات، وما لحق بها من محلات اللهو في الفراغ، ثم ما لبث أن عين أسعد مخلص باشا واليا لسوريا بعد أن تولى الصدارة العظمى وكان ساعدنا قد اشتد وربائط الإخاء قد أحكمت فذهب منا إليه وفد يحمل قانون الجمعية؛ فتلقاه بالبشر فخاطبناه بحرية لم يكن يجسر أحد على مثلها بعد تلك الأيام إلا حين تولى سوريا مدحت باشا، وقلنا: إننا لسنا بحاجة إلى درع يقينا في أيام فخامتكم، ولكن من لنا بضمين لخلفائكم، وعليه فإننا نلتمس التصديق على قانوننا بفرمان شاهاني أو أمر عال. فما كان أشد سروره عند سماع هذا الكلام، ولم يمض على تلك المقابلة أسبوع حتى صدرت الإرادة السنية وهي لا تزال محفوظة لدينا لمن شاء الاطلاع عليها، وإن كانت الجمعية قد تبددت وتلاشت.
أقص هذه القصة على أبناء زمن الاستبداد فيقولون: أفي يقظة أنت أم في منام، ومن ذا الذي يصدق بإباحة الاجتماع حينئذ لشرذمة من الفتيان يخطبون في السر والعلانية؟ أليس ذلك من الأسباب الداعية إلى تقويض أركان الملك؟ تلك إحدى الأماني التي بلغتها الأمة العثمانية منذ خمسة وثلاثين عاما فما ترى كان يرجى أن يكون مبلغها الآن لو ظلت مطلقة في ذلك السبيل؟
تسلط الوهم على عقول رجال الاستبداد بل أرادوا أن يسلطوه على العقول؛ فقضوا على الجمعيات كما بددوا الجماعات وحرموا كل ما يشف عن تضافر وتعاون؛ أي كل ما ينتج خيرا للبلاد. تأخذهم الرعدة لقلبين متآلفين، فما بالك إذا تعددت القلوب، يسيئون الظن حتى باجتماع أعضاء أسرة كبيرة في بيت واحد، يخافون - والخائن خائف - أن توجه قوة تلك الجموع عليهم وإن قصرت بحثها على حروف الهجاء. أجهلوا أن المؤامرات السياسية إذا قصد بها دفع الظلم يسبل عليها ذيل السر والتكتم؟ وما أغناهم كل ذلك التنكيل بالجمعيات العلنية عن غل أيدي الجمعيات السرية التي ما زالت دائبة على عملها ليل نهار حتى ظفرت بغل أيديهم، ولم يكونوا يقتصرون على فض المجتمعات الرامية إلى تثقيف العقل وترويض الفكر، بل تجاوزوها - خطأ أو عمدا - إلى بعض ما يقصد به إسعاف الفقير وتعليم اليتيم.
ولسنا هنا بمنكرين أنهم أجازوا تأليف الجمعيات الخيرية المحضة؛ حيث لا بحث ولا خطاب، ولكنهم سواء اختلط عليهم الأمر أو لم يختلط، لم يكونوا يأذنون بارتفاع صوت في تلك المجتمعات؛ فكان لذلك نتيجتان مشئومتان، أولاهما: أنهم بذلك الضغط جروا بالعقول في وجهة التقهقر. والثانية: أنه لم يبق في البلاد إلا الجمعيات الطائفية الخيرية، وأن هذه الجمعيات مع ما فيها من النفع ليس من شأنها أن تسعى في التأليف بين أبناء البلاد، وهو الطامة الكبرى في نظر الحكومة الغابرة.
وكم خلطوا بين النافع والضار حتى في عرفهم. وهذه جمعية المقاصد الخيرية ألفها وجهاء المسلمين في بيروت لإسعاف الفقراء وتربية الأيتام وإنشاء المدارس وما أشبه من المقاصد النبيلة. فقال الوشاة: تلك الجمعية ينم اسمها عن مرمى خفي، ولا حاجة بالجمعيات الخيرية أن يكون لها مقاصد؛ فلا بد من أن تكون تلك المقاصد لأمر آخر. فاقضوا عليها قبل أن تقضي عليكم. تلك كانت فلسفتهم بتعبير الإعلام. وكم كان لهم من مثل هذه الأعمال التافهة في عاصمة السلطنة وسائر المدن.
ولست هنا بمتكلم عن الجمعيات التي كانت على وشك القيام للتأليف بين المسلمين والمسيحيين؛ فإنه قضي عليها وهي في مهدها؛ لأنها تأخرت في النشوء؛ فتقدمت في الاضمحلال.
ولست بباحث أيضا في الجمعيات العلمية المحضة من أمثال المجمع العلمي الذي أنشئ في بيروت منذ خمسين عاما، وكان مؤلفا من نخبة علماء المسلمين والمسيحيين من وطنيين وأجانب؛ فإن جرثومة هذه النهضة لم تكن قد اختمرت الاختمار الكافي لتمكنها من الاستقرار على أس مكين.
ولست بناظر أيضا إلى الخطابة في بلاد يكاد يكون الهمس بالآذان فيها محظورا منذ بددت طوالع الاستعداد لها إلا ما كان يقال في حفلات المدارس، وأكثره في المدارس الأجنبية والكثير منه مشوب بمزيج الحقيقة والرياء، ولكنه لا بد من التنبيه إلى أنه، وإن لم يكن للجمعيات ولا للخطابة شأن مذكور في البلاد في زمن من الأزمان، فإن النفوس قد تشربت مبادئ الاجتماع وعرفت منافع الجمعيات الرامية إلى أغراض حميدة، وليس بالكثير على العثمانيين بعد الآن أن يتخذوها من وسائل الإصلاح - ولا حرج عليهم - فيقيموا المنتديات العلمية والتهذيبية، ويجاروا العالم في سيره الحثيث، ويشيدوا معاهد العلم، ويتعهدوا الكثير من مجاهل بلادهم التي يسعى الإفرنج من البلاد القاصية للبحث في آثارها وتدوين سابق تاريخها المجيد؛ فتكون منهم اللجان المقيمة والبعثات الضاربة في قلب البلاد وأطرافها للبحث والدرس؛ فإن مجال التنقيب والاكتشاف في البلاد العثمانية أوسع منه في كل بلاد. في السهول والجبال والحواضر والبوادي، وفوق وجه الأرض وفي قلبها. ثم إن القيام إلى الإصلاح الأدبي والتأليف الثابت بين عناصر الأمة لا يتأتى إلا بواسطة هذه الجمعيات العلنية؛ فإن فعلها في العلم والعقل وللفكر فعل الشركات المالية في التجارة والصناعة والزراعة.
وعلى الجملة يقال: إن الحاجة في البلاد العثمانية إلى هذا التكاتف أشد منها في سائر البلاد، وخصوصا إذ تخطينا زمن القول إلى زمن العمل، وهيهات أن يسد الأفراد في الأعمال العامة مسد الجماعات.
الحرية ورجال الدولة
خرجت باكرا صباح يوم من أيام سنة 1894 للنزهة في مرسيليا؛ فالتقيت بصديق فرنسي معه رفيق عليه لوائح الكآبة، فاستوقفني صديقي ودعاني لتناول القهوة في إحدى قهوات الكانبير، فجلسنا هنيهة ورفيقه صامت مطرق، حتى إذا شرب قهوته سار في سبيله، فقال صديقي: أراك محدقا بصاحبنا كأنك تستطلع طلع أمره وسبب انقباض صدره. قلت: نعم. قال: هذا مأمور إحدى دوائر الحكومة وهو كاثوليكي ورع في تعبده، رب بيت يعول امرأة وأولادا، ليس بذي ثروة ولا مورد رزق له غير راتبه، وقد ألف الذهاب إلى الكنيسة صباح كل يوم، وإن الله قد ابتلاه برئيس أبغض ما عليه العبادة والمتعبدون؛ فأصبح مضطرا إلى تأدية فرضه فجر يومه، فيذهب ويرجع خلسة؛ لئلا يعلم به رئيسه وأقل ما يناله من ضرره سد سبيل الترقي في وجهه. قلت: أيكون هذا عندكم وأنتم في بلاد تفاخر الدنيا بحريتها؟ قال: وجب أن لا يكون ولكنه كان ولو قليلا.
إذا كان هذا مبلغ محاذرة المأمور في بلاد الحرية، فما عسى أن يكون في بلاد الاستبداد؟
يقول أعداء البلاد: إنها خالية من الرجال الصالحين لتولي الأحكام. ويقول محبوها القانطون عن غير روية: لقد تدنست الأخلاق وساد الفساد وهيهات أن يستقيم المعوج. فقل للأولين والآخرين: كل ذلك لم يكن ولا كان بعضه. ولكن لكلا الزعمين أسبابا زالت يوم إعلان الدستور وقد، حان لنا أن نقول اليوم قول اللورد سولسبري: إن في البلاد العثمانية رجالا وهم لو أطلقوا رجال عظام.
لا ريب أن استبداد الحكومة الغابرة أزاح من وجهها صفوة خالصة من رجال الذكاء والغيرة والاستعداد، وإذا اضطرت إلى استخدام بعضهم ذرا للرماد في أعين الناس طرحتهم في إحدى زوايا الإهمال لا حول لهم ولا قوة، كما طرحت أكرم وسعيدا في زوايا مجلس الشورى حتى تسنى لها إبعاد سعيد إلى اليمن. فهؤلاء وأمثالهم أسبل ذيل التعسف سترا على ما كان يرجى من نفعهم. أما الآن وقد فتحت لهم الأبواب، فسيكون لهم في المستقبل شأن مذكور ومآثر غراء، وهناك فئة أخرى آثرت الاغتراب والفقر وواصلت الجهاد كرضا وصباح الدين وعبيد الله؛ فبذلت لها الأموال فلم تطمعها، وغررت بأعلى الرتب وأسمى الوظائف فلم تغتر، ولم تزل دائبة في سبيلها حتى قيض الله لها هذا الفوز المبين. ومن هذه الفئة الأخيرة زمرة من خيرة النجباء أخذها العياء؛ فوقفت في منتصف الطريق، وبلغ منها الجزع مبلغ اليأس وخدعت بالأماني والوعود، فسقطت في الأحبولة وعادت إلى الأستانة فحيل بينها وبين أمانيها، وغلت أيديها بحبل من مسد، كلطف الله ومراد. ولسوف تحكم بين جميع هذه الفئات ربط التآخي والتعاضد؛ فيكونون عصبة مجتمعة بعد أن كانوا عصابات متفرقة أقيمت بينها الحواجز والسدود.
هؤلاء جميعا لم يكونوا من رجال الدولة على ما يفهمه أرباب السياسة، فلنغادرهم وشأنهم إلى حين، ونقصر البحث على أولئك الذين تولوا الأحكام، وأسندت إليهم المناصب للعهد المنصرم.
ترى الجم الغفير من الناس ينحون باللائمة على جميع رجال الحكومة بلا استثناء، وهو خطأ فاحش؛ فإذا استقريت الأحول وتتبعت مجاري السياسة الداخلية تبين لك أن التبعة كل التبعة في هذا البلاء لا تتجاوز النزر اليسير منهم.
انظر أولا إلى الجيوش التي كانت ملتفة حولهم من جند الجواسيس، ولا تظنن أنها كانت أخف وطأة عليهم منها على سائر الناس. بل إذا أمعنت النظر رأيت الحقيقة بخلاف الظاهر ، وكلما صعد الواحد منهم في سلم الارتقاء زادت الرقابة عليه، ولا يسثنى من ذلك صدر أعظم ووزير خطير، ولا ترعى حرمة شيخ إسلام وعالم كبير، بل كان صغار المأمورين أخف ضيما وأنعم بالا إذ كان يتاح لهم أن يزوروا ويزاروا ويختلفوا إلى المجالس.
وأما أولئك فكانوا سجينين في بيوتهم، توجس منهم الخيفة إذا تجاوزوا الأبواب، وعليهم العيون مبثوثة في المنازل والطرق، لا يعلمون أهم واقفون لهم في الطريق، أم قاعدون بين جلسائهم وندمائهم في بيوتهم، أم جاثمون بين خدمهم في غرف نومهم ومطابخهم. لا يجسر الوزير أن يزور وزيرا ولو كان حبيبا له قبل الوزارة. يمعن الفكرة طويلا قبل أن يفوه بكلمة؛ خوف أن تؤول أو تنقل. تأخذه الهواجس فلا يعلم مصيره مساء يومه، لا يعلم أيخرج عن منصة الأحكام إلى بيته فيلفي الجواسيس قد برزت من خفائها تحمل أوامر تفتيش غرف المكاتب والملابس والمطابخ والشرفات، أو الجنود قد حملت أمر سوقه إلى «المابين» ليستنطق ويهان أو صدرت الإرادة السنية بإيقافه إلى أجل غير مسمى. ولهذا كنت ترى معظم هؤلاء الأمراء الأرقاء على تحفز واستعداد حتى إذا خشوا الغدر بهم، تناولوا حقيبتهم المعدة لمثل هذا اليوم، وطلبوا ملجأ يتقون به شر السعايات. ولا يزال خبر التجاء سعيد باشا الصدر السابق إلى السفارة الإنكليزية يرن في الآذان.
ثم إذا ألفت إلى زعماء الخفية أنفسهم رأيتهم تحت رقابة خفية أخرى يقال في وصفها مثل ما تقدم، وعلى هذه رقابة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية له، حتى تصل من أكبر كبير إلى أصغر صغير متسلسلة من ولي عهد السلطنة إلى أبناء الأسرة المالكة، إلى الوزراء والعلماء، إلى المشيرين والضباط، إلى الولاة المتصرفين، حتى مرتبي الحروف في المطابع وموزعي رسائل البريد والتلغراف.
ذلك كان نظام الخفية، ذلك الوباء المنتشر في البلاد انتشار الجراد، حشرات آخذ بعضها بأذناب بعض، ولكم التفت تلك الأذناب على الرقاب فخنقت نفسها! وكم من جاسوس كبير قضي عليه بوشاية من جاسوس صغير! ولو كان العدل بالمساواة في شكل واحد من أشكال الحكم؛ لكانت الحكومة الغابرة أعدل الحكومات إذا لم تكن الخفية تضرب كشحا عن أحد ظالما كان أو مظلوما.
فإذا علمت ذلك وعرفت أن كل الحول والطول أصبح في يد دعاة الاستبداد، وأن الباب العالي بات أثرا تاريخيا يشير إلى أنه كان مصدر الأحكام في سالف الزمان، وأن الوزراء جميعا أصبحوا آلة صماء في أيدي رجال «المابين» لا يحلون ولا يربطون ما لم يتلقوا الأوامر، وإذ أحرجهم العسف فهزتهم الأريحية فقاموا بوجه تلك الأوامر؛ نبذوا في الحال كما جرى مرارا لسعيد وكامل الصدرين. وإذا علمت أيضا أن سلطتهم أزيلت حتى عن نفس مستشاريهم وكتابهم؛ فقل لي - بحقك - من ذا الذي يعجب لتثبط هممهم وتعذر الإصلاح عليهم.
فكل تبعة هذا الجمود وتلك المظالم إنما يجب أن تلقى على عواتق أولئك المقربين الذين قبضوا على أزمة الأحكام وتصرفوا بحقوق العباد تصرف المالك بملكه.
وما عسى أن نقول في انتخاب المأمورين وتعيين ذوي اللياقة منهم، وليس لصدر محنك أو وزير مدرب أو وال أمين أن يأمن على بقاء مستشاره في خدمته من الصباح إلى المساء. وبينا ترى المأمور الذي قضى حياته في منصبه يجهد نفسه في الخدمة إذا به قد أقيل من منصبه؛ لأنه راق صنيعة فلان أو فلان أن يحل محله فيه. بل ربما أرغم رئيس مجلس أو دائرة كبيرة على أن يحل بين الأعضاء عضوا جديدا لا محل له ولا مزية تحليه إلا أنه من صنائع المقربين. يؤمر بقبوله أمرا ولا يستشار، ودونك رؤساء شورى وأمانة العاصمة ومجلس تفتيش المعارف، فاسألهم ينبئونك بغرائب الحال.
ثم إذا انثنينا إلى الإصلاح المفروض على رجال الدولة قياما بواجب تلك المهام، يجب أن نعلم - قبل كل شيء - أن كلمة «الإصلاح» نفسها كانت من الحروف المقضي عليها بالإلغاء، إذا نطق بها ناطق اتهم في أنه من دعاة الثورة. ومن ذا الذي كان يجسر أن يقول جهرا إن البلاد في حاجة إلى الإصلاح، أو من ذا الذي كان يجسر أن يقرن اسمه إلى عمل مفيد في البلاد حتى ولو كان من رجال «المابين» إلا في أحوال شاذة.
وإذا أردت أن تعلم مبلغ العذر الذي نلتمسه لبعض رجال الدولة على تقاعدهم في زمن العسف عن طلب النافع المفيد والسير في طريق الإصلاح فإننا نضرب لك مثلا رجلا تفاخر به رجال الأمم وقد تدرج في مرقاة المناصب حتى تولى الصدارة العظمى، ألا وهو: مدحت باشا.
رأينا مدحت واليا قبل طرد الحرية من البلاد، ورأيناه واليا بعد ذلك؛ فانظر الآن إلى شأنه في الولايتين، تولى بغداد قبل عهد الاستبداد سنة 1285 /1870، وكانت الإدارة مختلة والقبائل ثائرة والمالية ناضبة، وليس في البلاد شيء من معاهد العلم والصناعة، فوجه نظره إلى توطيد دعائم الأمن؛ فسار بنفسه للضرب على أيدي رؤساء العشائر الهندية والدغارة، فأخذ من أخذ بالقوة، وسكن روع من بقي باللين والمجاملة، وسير البعوث إلى قبائل المنتفق والأحساء والقطيف، فدوخ العصاة وأمن الطائعين. ولما استقر له الأمر وساد الأمن انثنى إلى الشؤون الداخلية، فأصلح إدارة الحكومة ونظم المحاكم، وأوجب أن لا يكون أحد من عمال الحكومة من صنائع الوجهاء.
وشاع خبر نزاهته وتجرده، فهابه المرتشون وأقفلت الأبواب في وجوههم، واتخذ ما أمكن من الوسائل لدفع الرواتب في أوقاتها ورغب في زيادة رواتب صغار المأمورين؛ فلم يتسن له ذلك. وله كلمة مأثورة قالها إذ ذاك: «سوف يأتي زمن يتيسر للدولة فيه أن تعادل بين العمل والأجرة، أما الآن - والإجحاف ظاهر - فكأننا نحن أنفسنا نأذن بالرشوة لذوي الرواتب الزهيدة، بل نأمرهم بذلك أمرا»، وضرب على أيدي الحكام الظالمين وفتح أبوابه للمتظلمين، فهابه الحاكم واطمأن المحكوم، ونظر في الطرق المتخذة لجباية الأموال فعرف الداء وعاجله بالدواء، فأمن الفلاح ظلم ملتزم الأعشار، واطمأنت عشائر البدو من الزراع فعادت إلى زراعتها.
وإن له فوق ذلك من الآثار في تلك الولاية القاصية في أطراف البلاد ما جعل بغداد تفاخر سائر الولايات حتى ما جاور منها عاصمة الملك. فهو الذي أنشأ أول مطبعة في بغداد وأصدر فيها جريدة دعاها الزوراء. وهو الذي أصلح إدارة عمان البحرية التي أخذت تسير البواخر بين بغداد والبصرة ومنها إلى اليمن والحجاز.
وهو الذي أنشأ معمل الحديد الكبير وألحقه بتلك الإدارة، وهو الذي أنشأ مكتب الصنائع وبث في البلاد روح التضافر على تأليف الشركات فألف شركة من أهالي بغداد، فأنشأت طريق الترامواي بين بغداد والكاظم، وهي أول شركة ترامواي في الولايات العثمانية - على ما نعلم - وكانت له عناية خاصة بإصلاح الطرق وتسهيل سبل الاتصال. وهو الذي قرب المسافة بين بغداد والبصرة بضع ساعات؛ إذ خرق سبيلا لدجلة فحوله عن مجراه في محل يلتف فيه المجرى ويدور مسافة طويلة، ثم يرجع إلى قرب المجرى الأول. ولا يزال ذلك المحل يعرف ب «القصة» أو «قصة مدحت»، وله من هذا القبيل أعمال باهرة؛ إذ استقدم مهرة المهندسين وبثهم في الولاية؛ فدرسوا حالة البلاد الزراعية ووضعوا مشروعات الري الخطيرة. ولكن مدته لم تطل فغادر بغداد ولم ينفذ منها إلا القليل؛ فأضحت بعده أثرا بعد عين.
وشرع في توسيع طرق بغداد، وعند قدوم شاه العجم إلى بغداد أعد له قصرا فخيما أنشأ إزاءه حديقة غناء. فلما غادر الشاه بغداد جعل تلك الحديقة متنزها عاما دعاه «ملت باغجه سي» أو بستان الأمة، وكان يختلف إليه كأحد الناس؛ يجامل الأهالي ويحادثهم كأنه واحد منهم.
وأطلق من الحرية لمأموريه بقدر ما ألقى عليهم من التبعة وأوجب عليهم عدم المحاذرة من شيء إذا كانوا على ثقة من عملهم، حتى لقد كان يوبخ المأمور الذي يأنس منه تزلفا إليه بقول أو بفعل. وكان لا يدخر وسعا في إلقاء بذور الحرية ليألف الناس العمل بها والنطق بها، مهما كانت الحال إذا كانوا في جانب الحق.
دخل يوما قاعة مجلس الإدارة - والأعضاء مجتمعون - فقال: أرى الحاجة ماسة بنا إلى استئذان الباب العالي في زيادة الضرائب، فما رأيكم؟ قالوا جميعا: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة. قال: فلنكتب إذا محضرا ونرسله في الحال. فكتبه للكاتب، وبعد أن مهروه بأختامهم، قدم إليه فمهره، وقال: بارك الله فيكم وغادر المجلس. ثم رجع إليهم ثاني يوم وقال: فكرت في أمر زيادة الضرائب فتراءى لي أنها ظلم لا يجوز أن تثقل ذممنا به، ولكن سبق السيف العزل، فقد بعثت بمضبطة أمس إلى الباب العالي، فرأيي إذا رأيتموه صوابا أن نلحقها بأخرى نوضح فيها أننا تسرعنا بإرسالها، ونأتي على الأسباب الموجبة لنقضها، فما قولكم؟ قالوا جميعا: هذا هو الرأي، وتلك هي الحكمة. فأمر الكاتب فكتبها، وبعد أن وقعوا جميعا دفعها إليه. فأخرج المحضر الأول من جيبه وأمسك هذا بيد وذاك بيد، وقال: هذا هو الرأي وتلك هي الحكمة وأنا صاحبهما أمس واليوم، وسأظل كذلك غدا وبعد غد، فما شأنكم إذا وهذا المجلس. ثم ألقى عليهم عظة مختصرة، أوضح لهم في خلالها معاني الحرية ومراميها، وأوجب عليهم أن لا يخشوا مخالفته إذا رأوه على غير هدى.
وكان يلتهب غيرة على الشروع حالا في كل عمل يتضح له نفعه، والمجال فسيح في تلك الولاية وسائر الولايات، ولكن المال رب الأعمال غير متوفر لديه، ومالية الدولة في عجز ظاهر؛ فلا يسعها أن تمده بشيء. ومع هذا فبعد أن احتال على إرصاد المال اللازم لما تقدم من الأعمال بحيل شتى - لا محل لإيرادها - بدا له أن يظل سائرا في سبيله، وكانت الموارد قد نضبت، فكتب إلى الباب العالي تقريرا مفصلا وضع فيه مشروعا لإصلاح إدارة الجمارك وجباية الأعشار. وقال في آخره إن البلاد ما زالت في حاجة إلى كثير من الإصلاح وعدد من أنواعه ما شاء، وأوضح الفائدة منها للدولة والرعية. وقال في الختام: لئن أذنتم لي بالشروع في هذه الإصلاحات، فإني متعهد أن لا أثقل كاهل الخزينة بعد بغرش واحد، بل أجعل جميع النفقات المقبلة من الزيادة التي تحصل في الدخل. فأجابوه شاكرين على الزيادة، ولكنهم أمروه بإرسالها إلى الأستانة.
وليس هنا محل البحث في ما آل إليه أمر جميع تلك الأعمال الخطيرة التي قام بها ذلك المقدام، مما باد واضمحل أو رجع القهقرى ولو جرى الولاة خلفاؤه على أثره منذ نحو أربعين عاما لأصبحت بغداد الآن كما يقول أهلها سيدة البلاد.
تلك وأشباهها أعمال مدحت باشا بولاية بغداد وكل حكمه فيها نحو ثلاث سنوات ونصف.
فانظر الآن معي إلى أيام ولايته في سوريا وبعدها في أزمير في عصر الظلم والاستبداد.
تولى مدحت سوريا سنة 1878، وكان لا يزال هو إياه مصلحا كبيرا ووزيرا خبيرا، بل كان زاد حنكة وعلما بما ولي من المناصب في تلك الفترة، وحسبك منها الصدارة العظمى. أتى سوريا وكله همة وذكاء، فهم بأمور كثيرة لم يكد يتسنى له إنفاذ شيء يذكر في تاريخ هذه البلاد، كما يذكر في تاريخ بغداد، وأما في أزمير فلا يحفظ له التاريخ إلا تلك المكيدة الدهماء التي نصبت له فأخذ بها وقبض عليه وسيق إلى الأستانة ثم إلى الطائف حيث قضى شهيدا.
فلا ريب إذا أن ما أتاح لمدحت في الولاية الأولى ما لم يتحه له في الولايتين التاليتين إنما كان إطلاق يده في الأولى وغلها بأصفاد الجواسيس والأوامر السرية بعد ذلك.
وإذا قلت: إن مدحت كان رجلا فردا، فلا يقاس عليه فانظر إلى سائر الولاة تر بينهم من لا يكاد يقل عنه شأنا. ودونك مثلا: راشد باشا الذي تولى سوريا في نفس تلك الأثناء، ثم تقدم على مدحت في الشهادة؛ فكان من جملة المقتولين بيد جركس، وهم مجتمعون في بيت مدحت في الأستانة بعد ذلك التاريخ بأعوام.
تولى راشد باشا سوريا وهي في حالة تماثل حالة بغداد يوم تولاها مدحت، فمشى مرارا في طليعة الجنود المسيرة لتدويخ عصاة النصيرية في جبالهم، والحوارنة في معاقلهم، ولم يشغله ذلك عن النظر في شئون الولاية الداخلية، فمهد سبل التعليم. وفي زمنه أنشئت المدارس الكثيرة وظهرت في سوريا أول المجلات العربية، ونشط أصحاب الأقلام، فأنشئوا صحف الأخبار، ووسع لهم نطاق الحرية في التحرير، وكافأ المؤلفين بمال بعضه من عنده وبعضه مما كان يرد من الأستانة بناء على إشارة منه. وكانت في زمنه نهضة للعلم والأدب لا يزال كهول السوريين يتغنون بها، فما بال خلفائه - ومدحت منهم - تعذر عليهم أن ينهجوا ذلك النهج القويم؟
فلا يمرن بخاطرك بعد ما تقدم أن رجال الدولة في الحكومة الغابرة لم يكن فيهم من ينزع هذا المنزع؛ فالنفوس باقية على رغائبها ولكن العقبات أرصدت في وجوههم فردتهم على أعقابهم، وما كانوا بمرتدين إلا ليعاودوا الكرة بأيد مطلقات.
وإن شئت زيادة إيضاح فدونك أمثلة غير مأخوذة عن تواتر، بل هي منقولة عن مذكرات مشاهدات ومدخرة لمثل هذا اليوم: كلنا يعلم ما لمنيف باشا ناظر المعارف الأسبق من جلالة القدر، وما له من المكانة بين رجال العلم والأيادي البيضاء في خدمة الدولة، وكل ذلك لم يغنه عن نكبة نكبها لوشاية واش استخرج من كتاباته كلمات أولها على هوى بعض المقريبن؛ فعزل من نظارته وأمر بالإقامة في منزله زمنا إلى أن ظهرت براءته ظهور الشمس؛ فأعيد ناظرا للمعارف. وقد كان ساقني الحظ للاتصال به اتصالا مكينا، فأطلعته يوما على كراريس من كتاب خطي فقال بعد أن نظر فيها طويلا: هذا كتاب جزيل النفع، ولكن واأسفاه لو أتيتني به إلى المقام الرسمي في النظارة لما وسعني إلا أن أردك خائبا؛ إذ ليس في مجلس التفتيش والمعاينة من يجسر أن يرفع إلي تقريرا بجواز طبعه. واستطرد باسما: والسبب في ذلك أنه مفيد. ثم استرسل في الكلام إلا ما ألفنا سماعه منه من وصف اختلال الأحكام وهو يردد الحسرات متتابعة الواحدة تلو الأخرى.
قصدت الأستانة سنة 1886، وسعيد باشا إذا ذاك صدر أعظم وكامل باشا - الصدر الحالي - ناظر الأوقاف. وكان لأسرتنا سابق اتصال به منذ كان متصرفا لبيروت. فقصدته ثاني يوم وصولي فرحب بي وأشار إلي بمواصلة التردد عليه مدة إقامتي في الأستانة، واستبقاني لتناول الطعام على مائدته حتى إذا جلست للغداء سألني عن سبب قدومي الأستانة، وعما إذا كان لي حاجة تستوجب إسعافه إياي بقضائها؟ قلت: نعم، منذ سنتين شرع ابن عمي سليم البستاني في نقل دائرة المعارف إلى اللغة التركية، وألف لذلك لجنة من خيرة كتاب التركية برئاسة خلقي أفندي رئيس المكتب السلطاني فأنجزت منها نحو مجلدين وتوفاه الله قبل أن يباشر الطبع.
فرأيت أنا وإخوته أن نتم العمل، ونستأذن نظارة المعارف بالطبع. فقال: أرني مثالا مما كتب، فأبدي لك رأيي. فرجعت في الغد ومعي مثال في زهاء مائة صفحة كنت أعددته لنظارة المعارف فاستبقاه عنده ريثما تصفحه ثم قال لي - وهو ملم بالعربية: ليست دائرة المعارف بأفصح عبارة وأحكم لحمة وأجزل فائدة من هذا النقل التركي. فلا تتباطأ عن طلب الرخصة، ولك مني كل الموازرة، وهذا ابني صبحي بك صديقك من أعضاء مجلس التفتيش والمعاينة يعضدك بكل قواه. فقدمت الطلب إلى الناظر الذي أقيم خلفا لمنيف باشا أيام نكبته سنة 1886، وما زلت أتردد ثلاثة أشهر على نظارة المعارف، ولم تغنني معاونة المغفور له صبحي بك بكل قواه ولا انضمام بعض رفاقه إليه كالسلاوي، ولا موازرة كبار الكتاب كسعيد بك منفي اليمن وأبي الضيا توفيق بك منفي قونية الحيين، خلا من توفي منهم كجودت باشا وصبحي باشا، فإن الناظر لبث أذنا صماء.
ولما نفدت الوسائل قال لي كامل باشا: لئن ذهبت إلى الصدر الأعظم، فإنك - بلا ريب - تظفر بأربك. فكتبت عريضة وذهبت إليه، فما كان أشد عجبي إذ قال لي: حالا قرأت في الجرائد شيئا وسرني جدا إقدامكم على هذا العمل الخطير ولو خطر لي أنك لقيت هذه المماطلة لأغنيتك من تلقاء نفسي عن هذا العناء؛ فكلنا يطلب المفيد وكلنا في هذه الأمة واحد؛ فاذهب الآن مطمئنا، وعد إلي بعد ثلاثة أيام. وفي اليوم التالي كانت الرخصة بيدي، فعدت إليه في الأجل المضروب الذي ضربه لي، ولكن للتشكر وليس للتشكي.
غير أن المراقبة التي أخذت تشتد من ذلك الحين، وأسبابا أخرى حالت دول القيام بالعمل، ولا شك أن جهابذة كتاب الترك - وقد انطلقت أيديهم الآن - سيبرزون أمثاله على أتقن منوال.
تلك كانت غيرة بعض رجال الدولة على المعارف، ولم يكن دون ذلك تفانيهم في نشر لواء الحرية وإصلاح كل مختل في الإدارة والقضاء والمالية، وكل مواردها.
مضت علي ثلاثة أشهر في الأستانة كنت أجتمع أكثر أيامها بسعيد بك منفي اليمن، وأنا شغف ببلاغة كتابته في اللغة التركية، فألتقط من فوائدها ما تسعه الذاكرة، ومن مزاياه أنه ضليع بالفرنسية والألمانية وواسع الاطلاع بالتاريخ، متقد الذهن، ذو تجرد غريب، وهو - مع تحليه بتلك الصفات - رئيس دائرة في مجلس شورى الدولة.
فقلت له يوما - وهو يكثر الشكوى من اختلال الأحكام: لئن كنت أنت وأمثالك من ذوي العلى والشهرة والنفوذ تجزعون لهذه الحال، فما تقول عامة الناس؟! قال: نحن أولى منهم بالرأفة؛ لأننا نرى ولا جراءة لنا على السعي، ومن سعى منا جوزي جزاء الخائنين، فالنار تلتهم أفئدتنا ولا طاقة لنا على إخمادها. قال ذلك كأنه يتنبأ بما سيناله يوما من البلاء في خدمة الحرية والإصلاح.
وهذا حقي بك ناظر المعارف الحالي - وأنعم بهذا الناظر الجديد لهذه النظارة الجليلة - عين سنة 1893 قوميسيرا لمعرض شيكاغو، وكنت ذاهبا إليها لتولي إدارة القسم العثماني فيها. قال لي يوما قبل أن نبرح الأستانة: بلغني من ثريا باشا - وهو يومئذ باشكاتب «المابين» - أنك طلبت رخصة بإصدار مجلة تركية تصدر في شيكاغو أثناء المعرض، وتستجمع وصف معروضاته وجميع نتاج العلم والصناعة والاختراع فيه. قلت: نعم، ولكنني صرفت النظر لما يلوح لي من شدة العناء في هذا العمل الشاق في تلك البلاد النائية، وكثرة ما يقتضي النفقات، وأشد من ذلك علي ما أعلمه من تعنت المراقبة، فهي وإن كانت لا سلطة لها علي في أمركما فلربما أوردت كلمة على غير قصد مما حذف من معجم الكتابة، فالمناقشة بعد رجوعي إلى الأستانة. قال: أنا الضمين لك من هذا القبيل، وإن شئت فأطلعني هناك على الملازم قبل الطبع. وهذا عمل مفيد للبلاد، فلا يجب أن يثبطك شيء عنه، وخصوصا أن فيه سمعة طيبة للعثمانيين في بلاد الأجانب، وأمل وطيد أن «المابين» والحكومة يأخذان من أعداد الجريدة ما يسد النفقات. ولم يزل بي حتى أقنعني، قلت: إذا لا بد لي من الإرادة السنية. قال: لم تسبق عادة بإصدار الإرادات السنية لما يطبع خارج البلاد. قلت: لا بد لي من ذلك ليطمئن قلبي، وإلا فلست بفاعل. فبعد أيام بلغني الإرادة السنية، وهي لا تزال بيدي.
وفي تلك الأثناء قصدت أحد النظار العاملين زائرا، فقال لي أثناء الحديث: أصحيح أنك عازم على إصدار مجلة تركية في أميركا؟ قلت: نعم. قال: أتحررها أنت مع كثرة مشاغلك. قلت: بل لا بد لي من الاعتماد على محرر ماهر. قال: ألا تعرف عبيد الله أفندي؟ قلت: أعرفه بشهرته. قال: هو من أبلغ كتابنا وله رغبة في مثل ما أنت راغب فيه، فاتفق معه، ولكن الرجل من دعاة الحرية والإصلاح، والجواسيس أمامه ومن خلفه؛ فلا يتمكن من الذهاب معك، ولكنه يتيسر له اللحاق بك خلسة. وبعد ذلك جهز لي صديقي أبو الضبا توفيق الحروف التركية وسائر المعدات وأعطاني مرتبا بارعا من عنده يدعى محمد أفندي.
وبعد وصوله شيكاغو وافاني عبيد الله أفندي؛ فحرر المجلة كل مدة المعرض وأودعناها وصف المعرض ومخترعات العصر بالرسوم المتقنة؛ فكانت أول وآخر ما صدر بأميركا من المطبوعات التركية. ولكن رجال «المابين» نبذوها بالقسر عن موازرة حقي بك، والسبب في ذلك أنني لم أصغ إلى نصيحة ناصح قال لي: إذا رغبت في الربح فاجعل ثلاثة أرباع صحيفتك إطراء ب «المابين» فلم أفعل، فعدت بخسارة جسيمة. وبعد عودتنا إلى الأستانة طلب مني جواد باشا الصدر الأعظم نسخا منها، فأرسلتها له وعنونت واحدة منها عنوانا خاصا وكتبت على صدرها:
هذه صحيفتي التي سودتها
بدم الفؤاد وقد شططت مزارا
أعظمت قدر كلمبس فتبعته
بمشقة فيها شققت بحارا
ولقيت ما لاقاه من أهل النهى
فكفى بذا أهل النهى تذكارا
أما عبيد الله أفندي فبقي مدة في أميركا، وكان يعلم قبل سفري أنني ربما أسأل عنه وأوخذ بتهمته. فقال لي: لئن ذهبت معك إلى الأستانة، فإما أن أقتل وإما أن أسجن سجنا يشبه القتل، فأنا باق الآن هنا إلى أن يفتح الله، ولكني أوثر الموت على إصابتك بأذى، فإذا وقعت في مثل هذا المأزق، فبتلغراف واحد منك أطير إليهم ليفعلوا بي ما شاءوا. قلت: معاذ الله أن ألقي بك بين مخالب الموت مهما كانت الحال. فلما بلغت لندن وأنا راجع من أميركا ذهبت إلى السفارة العثمانية، وكان السفير رستم باشا على آخر رمق من الحياة، فما منع ذلك موريل بك المستشار أن يفتح الحديث معي بالسؤال عن عبيد الله وسبب إغفالي أمر إرجاعه معي، وذلك أيضا كان افتتاح الحديث في سفارة باريس.
أما في الأستانة فكأنهم خلطوا بين عبيد الله والمرتب محمد أفندي، وكان هذا فتى ذكيا مجتهدا، أراد أن يتم الحفر في الزنك فاستأذنني بالبقاء ثلاثة أشهر كانت في أثنائها التلغرافات متتابعة بالسؤال عنه. وما كان أشد هزئي وهزء الناس بسخافة عقولهم؛ إذ وصل الأستانة بعد زهاء شهرين، وكان اهتمامهم بتتبع خطواته من أميركا إلى الأستانة أعظم من الاهتمام بقدوم أمير عظيم. فما شعر يوم أرست الباخرة في السركه جي إلا وحاجبان من حجاب «المابين» يسألان عنه. فأخرجاه بما معه إلى عربة معدة لاستقباله وساقاه إلى «المابين»، فلبث ثلاثة أيام تحت الاستنطاق ولم يجدوا بين ثيابه إلا رسوم المعرض وهدايا قليلة أتى بها لوالدته العاجزة. وكأن الله ألقى الرحمة في قلب بعضهم؛ فأذنوا له بالخروج لمشاهدة والدته وأصحبوه برقيب يلازمه، فأتاني شاكيا باكيا، فبادرت مسرعا إلى أبي الضيا وواصلنا السعي إلى أن من الله عليه بالفرج.
وإليك غريبة أخرى من أذيال هذه المسألة، وهي وإن لم تكن من لباب الحديث لا تخلو من فائدة وتفكهة.
في تلك الآونة استدعاني ناظر الخارجية، فذهبت إلى النظارة، ولم يكن أتاها في ذلك اليوم فاستقبلني أحد معاونيه، وكانت لي به معرفة سابقة. فقال: إن لدينا رسائل شتى من السفير العثماني في واشنطون تفيض في الثناء عليك، وما كان لك من اليد في خدمة الاسم العثماني، ولذلك يود دولة الناظر أن يبلغك شكره، ويطلب لك ما تشاء من المكافأة المعنوية. قلت: حسبي منه فضلا أن يكون فكر في ذلك، فلست من سلك أصحاب الرتب. وبعد حديث طويل ومجاملة، قال: إن لنا حاجة لديك. قلت: مقضية، إن شاء الله. قال: أن تعلمنا ماذا فعلت بحروف المطبعة التي أخذتها من أبي الضياء. قلت : استبقيتها في نيويورك عند وكيل لي على أن يسلمها إلى صاحب جريدة المهاجرين السوريين كان رغب في مشتراها.
قال: نسألك، إذا، أن تكتب تلغرافا مفصلا على نفقتنا تأمر وكيلك به بتسليمها إلى قنصل الدولة العلية في نيويورك إذا كانت لا تزال باقية في حيازته، والثمن يدفع إليك هنا حالما يرد الجواب من القنصل باستلامها. فكتبنا التلغراف وأرسل في الحضرة فورد الجواب أن صاحب الجريدة لم يستلم الحروف؛ ولذلك استلمها القنصل فنقدوني الثمن. ولكنهم بادروا في الحال إلى إصدار الأوامر بمنع إخراج الحروف المطبعية من البلاد العثمانية، ويا لكثافة تلك الغشاوة على أبصارهم! أجهلوا أن مكاتب البريد الأجنبية تحمل ما شاء العثمانيون منها حيث شاءوا، وأن مسابك الحروف في أوروبا في غنى عن حروفنا إذا أحرجها الأمر؟
ولنختم هذه الرحلة - وإن طالت - بكلمة عن حقي بك ناظر المعارف الحالي؛ فإنه رفع التقارير الضافية الأذيال عما شاهد من ترقيات الصناعة والتجارة والزراعة مما يجب تحديه في الممالك العثمانية. فاسألوه عما كانت عليه نتيجة كل ذلك العناء، وذلك الجهد، أفلم تكن أوراقه لدى عمال «المابين» أقل قيمة من مهملات الجرائد؟
وهذا رجب باشا ناظر الحربية الحالي، وهو الذي ذكره كامل باشا منذ أعوام طويلة لجلالة السلطان، فقال: أعلن الدستور وألق مقاليد الحكومة إلى ذويها، واجعل زمام السر عسكرية بيد رجب باشا، فيستقيم لك الأمر. أنسوا منه ميلا إلى الحرية والإصلاح، فما وسعهم نبذه نبذا مطلقا لحاجتهم إليه، وما وسعهم أيضا أن يكون قريبا منهم فكانوا يلقون به إلى أطراف البلاد ليدفع عنهم المحن وهو بعيد عنهم؟
كان سنة 1878 قومندانا عسكريا في بغداد، وصديقه الفريق ثابت باشا الناشئ على مشربه واليا للبصرة. وكانا متضافرين على ما تناله أيديهما من ضروب الإصلاح، فهالهما ما رأيا من اضمحلال آثار مدحت باشا وساءهما - خصوصا - ما رأياه من مآل إدارة عمان النهرية وعجزها عن القيام بنفقاتها وكثرة بواخرها وبإزائها شركة لنج الإنكليزية، وليس لها إلا باخرتان يفيض من دخلها الألوف؛ فعرضا الأمر بتقرير مفصل إلى الأستانة. وأخذ ثابت باشا والي البصرة على نفسه أن يزيل العجز، ويفي الديون ويبقي للخزينة مبلغا وافرا من الدخل؛ ذلك لما كان يرى من اختلال تلك الإدارة ومن إثراء الذين تولوا أمرها على كثرتهم، فبلغت تقاريره الأستانة في ساعة حظ، فعهدوا إليه بالأمر.
وبعد البحث الطويل مع مجلس إدارة البصرة أقروا على تسليم زمام البواخر ومعمل الحديد اللاحق بها إلى رجل لا يطمعه كسب المال الحرام، وكانت له مشاغل تشغله، فاعتذر أولا ثم قبل استلام تلك المهمة على شرطين، أولهما أن لا تطول مدة تغيبه عن البصرة إلا أربعة أشهر، ريثما يعين ناظر آخر، والثاني أن يكون مطلق اليد في التصرف الداخلي والعزل والتنصيب. فأجيب إلى كلا الطلبين، وكأن الله فتح الكنوز على يده، فوفيت الديون وأرجع جميع عمال معمل الحديد الذين كانوا غادروا عملهم لتأخر دفع الأجور، وفاض في خزينة الإدارة بضعة ألوف من الذهب. فتهلل رجب باشا وثابت باشا بشرا، ولكنه ما مضى ثلاثة شهور حتى انتزع الأمر من يد رجب وثابت واستقال الناظر من نظارته. فقال رجب باشا حينئذ على مسمع من الناس: ما عسى أن يتاح للبنائين أن يشيدوا والهدامون من حولهم.
أما إدارة تلك البواخر فلم تزل تنحط إلى أن عهد بها في هذه المدة إلى الخزينة الخاصة فأصلحت الحال.
وإن من أراد أن يتتبع أمثال هذه الحقائق الثابتة لا يصعب عليه أن يجمع منها المجلدات.
فإذا كانت أروقة الاستبداد منصوبة فوق رءوس جميع رجال الدولة على السواء، وجراثيم الفساد منبعثة في ذلك الجو المكفهر، ووسائل التقرب إلى ولاة الأمر تسهل كل ممتنع من الشر، والدولة على ذلك الانحطاط لم تعدم رجالا هذا شأنهم عاش من عاش منهم في جهاد دائم، ومات من مات حزينا أسيفا وقضى الكثير منهم على بساط الفقر، وهو يقول المنايا ولا الدنايا. إذا كان كل ذلك فما قولك يوم فتحت الأبواب فدخل الجميع بسلام آمنين، وعلموا أن العدل حل محل الظلم وساد الأمن بعد الرعب والرجاء بعد اليأس، فلا عزل إلا لجريمة ولا ترق إلا عن استحقاق ولا مصادرة إلا لجناية، وهذه المدارس العالية كالمكتب السلطاني والمكتب الملكي ومكتب الحقوق والمكتب الطبي تنتج من أولئك الفتيان كل متفان في خدمة أمته، متثقف علما وأدبا. وبإزائهما المكتب الحربي لا يغادره الطلاب إلا وقد امتلأت صدورهم علما وحماسا. وإذا تعاون الملكي والعسكري، وهذه حالهما على إنهاض البلاد من تلك الوهدة، فماذا نتمنى بعد ذلك من نعم الله؟
الدستور والخفية
لم تكن الخفية في عهد الاستبداد من نوع الشرطة المعروفة بالبوليس السري الذي يتعقب - خفية - آثار المجرمين وذوي السوابق والشبهات، وهو للحكومة نعم العون على توطيد دعائم الأمن، ولم تكن أيضا من صنف الجواسيس الذين تبثهم الحكومات أرصادا عسكرية في البلاد الأجنبية؛ فيحملون رءوسهم على أكفهم وينسلون طامعين بأخذ رسوم المعاقل والحصون واستطلاع أحوال الجيوش وحركاتهم واكتشاف وسائل الهجوم والدفاع ومخترعات القوى المدمرة من سلاح ونسافة وغواصة تسير تحت الماء ومنطاد يحلق في الهواء.
فإن هذين الصنفين من الخفية كانا عندنا بحالة ضعف وخمول، كما كانت الحال بما خص كل ذي نفع. وإنما القوة كل القوة لنوع ثالث باد واضمحل من دول الحضارة، ألا هو صنف المتلصصين لإزهاق الأرواح وإملاء السجون وسلب الأموال بالطرق الفاضحة، على ما تراه مفصلا في تضاعيف هذه الصفحات.
تفنن الأقدمون بهذا النوع من التجسس يوم كان الملوك يخشون مزاحمة الأقران وعصيان العمال وانتفاض الرعية، كما جرى لعهد نيرون وأشباهه وكثيرين من ملوك الفرس وغيرهم، حتى لقد كان لبعض خلفاء الإسلام وملوكه شيء من تلك الخطة. وهي التي جرى عليها هارون الرشيد فكانت من جملة الذرائع التي قادته إلى نكبة البرامكة، إذ كان له في بطانتهم جوار وغلمان يتجسسون له أخبارهم. ولكن ذلك زمان وتلك أحوال وهذا زمان آخر وأحوال أخرى، ولئن فعل هارون الرشيد ذلك صونا لسلطانه فإنما جرى على خطة شائعة لم يكن له بد منها، ومع هذا فقد كان له من وجه آخر طريقة للتجسس لا تزال تتفاخر بها الملوك. إذ كان يتنكر أياما ويطوف على أزياء مختلفة مستطلعا أحوال رعيته وعماله رغبة منه برفع الضيم ودرء الظلم. وكم كشف من ظلامة مظلوم وضرب على يد ظالم على أثر ذلك التجسس الحميد. بل كم لعظام سلاطين آل عثمان من منقبة في خلال تنكرهم متجسسين، والعهد غير بعيد بالسلطان محمود وما يروى عنه من هذا القبيل.
أما الخفية عندنا فلم تكن على شيء مما تقدم، بل قامت على نظام محكم لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم.
أقيمت لها دائرة منظمة في «المابين» ودعي رئيسها بأسماء لا يدل منها شيء على مسماها، كقولهم مدير سياسة المابين
Directeur de la Politique du Palais Imperial
أو مدير السياسة الداخلية، ولم يكن يباح لأحد أن يدعوه باسم رئيس الخفية. وإني لا أزال أذكر يوما إذ كنت مع صاحب في قهوة بشارع بك أوغلي وإذا بأحد أولئك الرؤساء وصل بعربته، فترجل ودخل بعظمته يطوف طواف الدهقان إلى أن بلغ مجلسنا فوقف صاحبي يسلم عليه وكان يعرفه، فأراد على عادة أهل العصر أن يعرف كلا منا إلى الآخر فقال لي: سعادة فلان رئيس الخفية. فما كاد ينطق بتلك اللفظة حتى شعرت بنظرة شزر أرسلها إليه، فأوشكت أن تخترق لب فؤاده، فامتنع صاحبي وتلعثم لسانه، وكأنه أراد أن يتلافى ما فرط فاستطرد وقال: أستغفر الله بل هو ... هو ... هو من أكابر ... من أعاظم رجال الدولة في «المابين.»
وكانت لتلك الدائرة فروع متشعبة داخل البلاد وخارجها تشعب العروق في الجسم، إذ كان عمالها مبثوثين في كل دوائر الحكومة من الباب العالي، إلى النظارات المنفصلة عنه، إلى كل فرع من فروعها.
وهنالك شعبة منها لقراءة الكتب والجرائد وترجمة ما كان منها باللغات الأجنبية، وهنالك أيضا عمال مقيمون خاصة لتناول زبدة الأخبار وتقديمها إلى المراجع العليا. وكم كانت تلك المراجع تحذف وتزيد وتعدل على هواها أو تستنبط من مخيلاتها ما لم يكن له أثر في تلك التقارير، فتعرضه حقيقة ثابتة على المرجع الأعظم، ولم يكن في البلاد كلها من الأقطار القاصية والنائية زاوية خارجة عن رقابتها؛ حتى قال أحد الظرفاء لو تشعبت في بلاد الدولة العثمانية طرق الحديد، واخترقت سهولها وجبالها اختراق جند الخفية لكانت، بلا ريب، أغنى دول الأرض.
وبعد أن قبضت على رقاب النظارات في الأستانة، وجعلت نظارة الضابطة فرعا ضعيفا لا شأن له إلا تلقي أوامرها وملكت نواصي الولاة وصغار الحكام، ورأت أن كل ذلك غير كاف لاستنزاف دم البلاد خيل لها أن في أوروبا متسعا فسيحا لتجارتها؛ فأرصدت الأموال ألوفا ومئات الألوف، وتألفت منها عصابة لصوص للإتجار بذمم الحاكم والمحكوم. فتوهم أنها تشتري بذلك المال صداقة الدول وتستميل إليها الرأي العام باستمالة جرائدها، وتدرأ عنها شرور أعداء الدولة من أبنائها ولا تعني بهم إلا مريدي الإصلاح ودعاة الحرية. ولئن عهدت أحيانا قليلة بتلك المهمة إلى سفرائها ووكلائها، فلم يكن ذلك إلا تمويها على عقول السذج من رجال الدولة حتى ضج السفراء تألما واشمئزازا. وكانت خطتها في ذلك أن تتفق مع أحد كبار اللصوص من الجواسيس على خمسة أو عشرة آلاف أو عشرين ألفا من الأصفر الرنان، تأخذ سهمها منه وتنقده سهمه؛ فيذهب إلى أوروبا ولا يكاد يبلغها حتى تتوالى تقاريره مبشرة بالفوز المبين، أي: بمشترى جريدة أو استمالة رجل سياسي، وجل ما يكون في كلامه من الصدق أنه أعطى بعض ما أخذ. وليس منا من يعلم ما هي تلك الجرائد، ومن هم أولئك الساسة الذين ناضلوا عنا، وأفادونا لقاء مال دفعناه إليهم؟
وأما تجارتهم بأعداء الدولة من أبنائها، على زعمهم، فمن أغرب ما روى التاريخ من المضحكات المبكيات. تعلم هذه العصابة أن في إحدى عواصم أوروبا رجلا ذا شأن بين قومه سئم الظلم، ففر إلى بلاد الحرية؛ فتقدر له جزاء عوده إلى الأستانة مبلغا معلوما، ونصفه أو ثلثيه جزاء صمته إذا أبى العودة، وترسل إليه من يحمل إليه المال مع الوعد والوعيد، فإذا فاز الرسول، وقلما كان يفوز، نقده بعض ما معه، واستولى على ما بقي وإذا رجع خائبا لم يعدم وسيلة لاستبقاء المال في جيبه تسديدا لنفقات يستنبطها. ولطالما كانوا يغرون رجلا من عصابتهم خامل الذكر وضيع القدر فيرسلونه إلى أوروبا فيصدر عددا من جريدة يزعم أو يزعمون أنها ستنتشر من مطلع الشمس حتى مغربها، وستلتف لندائها أمم العالم فتهاجم عاصمة الملك، فتنفتح خزائن الدولة لاسترضاء صاحبها فينفتح بدريهمات هي في نظره ثروة، ولهم باقي الألوف مغنم بارد.
وإن المجال ليضيق عن إيراد ما يعرف من أمثال هذه السرقات، فنجتزئ لك بثلاثة منها مثالا على ذلك التفنن في تبديد أموال الدولة: أرسل أحد صنائع «المابين» إلى باريس فأصدر عددا واحدا من جريدة، ثم أرسل في طلبه رسول يحمل أربعة آلافة ليرة عثمانية، فنقده منها خمسمئة واستكتبه إيصالا بالأربعة آلاف واستصحبه معه إلى الأستانة، فأنعم عليه برتبة من أرفع الرتب، وعين له راتب لم يكن يحلم به. ذهب ذلك الرسول مرة أخرى إلى باريس يحمل المال استرضاء للعصاة العتاة، فلم يفلح فأرشد إلى رجل ليس من العير ولا النفير ولا اتصال له بأحد من أولئك الدعاة، وعلم أنه ليس على يسر وسعة فاستدعاه إليه وحسن له أن يذهب إلى الأستانة براتب خمسة عشر ليرة؛ فكان سرور الرجل عظيما وأعظم منه سرور الرسول؛ إذ اصطاد قنيصة سهلة المراس أكسبته الألوف ببذل العشرات وأرسل التقارير الضافية منبئة أنه فاز باستذلال أشهر كتاب العصر. قام رجل آخر في لندن فنشر أعدادا من جريدة فاسترضوه بامتياز باعه بزهاء ثلاثين ألف ليرة عثمانية، يعلم الله ما كان نصيبهم منها.
ولا تسل بعد شيوع تلك الأنباء بين الناس عن تهافت الأنذال على التطوع في ذلك السلك الخبيث. ولقد أفلح بعض هؤلاء المتطوعين فما زالوا يحتالون على الانخراط في تلك الزمرة حتى أدركوا بغيهم بالسعايات المختلفة، ثم ما لبثوا أن أثروا بعد الفاقة، وارتقوا من درك الخمول إلى أوج المجد والعظمة.
أما الأموال التي كانت تبذر في هذا السبيل، فلا يعلم مبلغها الآن ولكنها لم تكن تقل عن المليون؛ أي: أنها كانت تربو على مخصصات نظارتي الضابطة والمعارف مجتمعتين. وأي فلاح يرجى لحكومة تنفق على الجهل والظلم فوق ما تنفق على الأمن والعلم؟
وعلى الجملة، فإن الخفية كانت على هذه الدولة أشد بلاء من جميع ما توالى عليها من المحن منذ قيامها، وليس في تاريخها صفحة توازي بشؤمها هذه الصفحة السوداء.
وإن كان الأجر على قدر المشقة؛ فإنه ليس في تاريخها حتى ولا في زمن فتح الممالك الكبار يوم نعيم عم صفاؤه وابتهجت فيه النفوس ابتهاجا يوم علم العثمانيون بإعلان الدستور أنهم إذا أووا إلى بيوتهم ناموا آمنين لسع تلك الحشرات.
الدستور والتعصب
التعصب - دينيا كان أو جنسيا - إذا لم يتجاوز حب الدين والجنس إلى بغض من خرج عنهما، فليس بالخلة المذمومة ولا دخل له في بحثنا، وإنما المراد هنا: التعصب الذميم الذي يدفعك إلى كراهة أبناء غير دينك وجنسك، وهو الآفة الكبرى التي نخرت عظام البشر قرونا طوالا ولا تزال في بلاد الشرق علة العلل. وإنه يسوءنا أن نعترف أنها كانت في البلاد العثمانية حتى يوم إعلان الدستور على أشد مظاهرها في كثير من أجزاء السلطنة. وإن من أغرب الغرائب التي يدونها التاريخ أن هذين النوعين من التعصب زالا بيوم واحد فكثر الزاعمون أنها ثورة فكر بنت يومها لا تلبث أن تخبو جذوتها، فترجع الحال إلى ما كانت عليه، غير أن من تتبع سير السياسة الداخلية منذ أربعين أو خمسين سنة هان عليه أن يستجلي سبب هذا الانقلاب فيزول معظم غرابته.
إن ما توالى على هذه الدولة من كوارث الزمان، وما انتابها من الضعف واختلال الأحكام في القرن الأخير أودى - أو كاد يودي - بقوتها، فلم تكن ترى من مصلحتها لجهل معظم القابضين على زمام الأحكام أن تستنير الأمة بنور الوفاق والتضامن خشية أن تنقلب عليها، وأن الأفراد القليلين الذين كانوا ينظرون بعين بصيرتهم إلى غوائل تلك الآفة القتالة لم يكن لهم من الحول ما يمكنهم من بث رغائبهم ونيلها. وزد على ذلك أن الجهل وحب التقليد كانا لا يزالان فاشيين بين عامة الأمة، والجهل رفيق ملازم للتعصب يعيشان ويموتان معا.
ثم إذا نظرت إلى الدينين الغالبين في السلطنة، وهما: الإسلام والنصرانية، وإلى العناصر المختلفة التي يتألف منها هذا الجسم رأيت هناك أسبابا أخرى تدعو إلى هذا الشقاق، فالمسلم باتحاده بالدين مع الأمة الفاتحة وقيامه دون المسيحي بعبء الحروب ورد الغزوات لامتناع التجند على المسيحيين؛ يرى له حق السلطة والسيادة. والمسيحي يعد نفسه محكوما مظلوما، والجهلة وذوو الغايات من رجال الدين لا يدركون كنه الغرض الواجب عليهم أداؤه بالتهوين على الفريقين، والحكومة لاهية بمشاغلها، بل ربما عمد كثيرون من عمالها إلى إثارة الأحقاد الكامنة جرا لمغنم يرجونه أو غاية يرمون إليها.
وإن هذا التنافر كان يمتد إلى ما وراء هذين الفريقين بمجموعهما، فيتناول كلا منهما بفرقه ومذاهبه حتى لقد كنت ترى التباغض بين أهل السنة والشيعة من المسلمين والكاثوليك والأورثوذكس والبروتستان من النصارى مساويا بشدة وطأته لتباغض مجموع أبناء الإسلام والمسيحية.
هذا بما خص التعصب الديني، وأما التعصب الجنسي فلم يكن أقل غائلة وشرا.
وهو معلوم أن سياسة التسامح التي جرى عليها سلاطين آل عثمان في عدم التعرض للغات الأمم التي دخلت في حيازتهم كانت مع كل حسناتها سببا في بقاء كل هذه الأمم على غير تلاؤم واندماج. واللغة التركية على كونها لغة الحكام كانت بحكم المجهول في بعض أجزاء السلطنة. والظاهر أنهم حاولوا بعض المحاولة تلافي ذلك التباعد إذ يروى عن السلطان سليم الأول أنه على أثر فتح مصر ومبايعة المتوكل على الله العباسي له بالخلافة أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية، فلم يتسن له ذلك؛ فلا ذاعت العربية ولا عمت التركية فبقيت كل أمة منفردة بلغتها، وليس لها ما يكفي من الإلمام بلغة الدولة الحاكمة، وحيث لا يحصل التفاهم لا يحكم الاندماج والتمازج.
وهكذا بقي أبناء كل أمة ينتسبون إلى أمتهم في أحوال كثيرة، ولطالما هاجتهم عاطفة التعصب الجنسي وانضمت إليها أسباب أخرى يطول شرحها، فأثارت الفتن وأورثت البلاد الخراب، والمتحاربون جميعا من أبناء دين واحد.
ولطالما نبغ من رجال الدولة حينا بعد آخر أفراد كانوا يتضورون أسى لتفاقم شر هذين التعصبين، ويضطرمون غيرة لتلافي ضرهما، فلمعت أول بارقة أمل بنشر الخط الهمايوني السالف الذكر سنة 1839، ولكن القوة كانت لم تزل في جانب الجهل؛ فلم يسفر ذلك الخط عن النتيجة المقصودة، بل عقبته قلاقل واضطرابات كان فيها للسياسة والغايات الشخصية يد فوق يد التعصب.
ولم يزل يتعاقب من ذلك الحين رجال يتلقون تلك الفكرة النيرة، ويلقونها بعض إلى بعض إلى أن نضجت على يد مدحت باشا وأنصاره، فنادوا بإعلان الدستور سنة 1876، وخيل للناس حينئذ أنه قد انقضى زمن الظلمة والشقاق، وعقبه عصر النور والوفاق.
ولكنه لم يكن إلا كوميض البرق حتى تبددت تلك الآمال ووثبت بقية الجهل الكامنة في الصدور واستجمعت قواها، فهبت هبتها الأخيرة، كأنها أبت أن ترضى الموت قبل أن تدون لها في التاريخ غاية ما يروى عن فظائع الجهل والاستبداد.
وهكذا، فبينا خيل إلينا أننا متسنمون ذروة مراقي الفلاح إذا بنا قد هبطنا إلى أسفل درك الانحطاط. وما أشد الخيبة بعد الفرج.
ولكن تلك الخيبة التي أحرجت الصدور أزالت الغشاء عن البصائر، فاستنارت الأذهان وأدركت الحقائق، وعلم المسلم والمسيحي والتركي والرومي أنهم جميعا في الشقاء سواء، وإنه لا مناص لهم إلا بالتعاون ونبذ الأحقاد والانضمام - يدا واحدة - لسحق تلك الأيادي الظالمة والانثناء بعد ذلك إلى النظر في إعلاء شأن هذه الأمة الواحدة، والدين لله.
علم المسيحي - على اختلاف نحله - أنه مقيم في بلاد نشأ فيها أجداده من قبله، ولا فلاح له إلا بكف بصره عن التطلع إلى دول أوروبا، وبإلقاء يده في يد أخيه المسلم لإعلاء شأنهما معا وشأن البلاد التي نشآ فيها.
وعلم المسلم أنه لا سبيل إلى كم أفواه الأجانب والأقارب ودرء الشبهات وتذليل العقبات والتفرغ إلى الصلاح العام إلا بمصافحة أخيه المسيحي والسير معا في طريق ينعمان ويشقيان بها معا.
علم كلاهما أن تلك الأيادي الأثيمة التي كانت تدفعهما إلى الفتك فريق منهما بفريق، إنما كانت تتخذ ذلك ذريعة تثنيها وتثني الناس بها عن مظالمها، ثم تنثني إليهما فتبطش بكل فريق منهما على حدة بعد إجهاد قواهما.
هذه المذابح الأرمنية، فماذا جنى منها الأرمن؟ وماذا جنى المسلمون؟ غرر فيها بالفريقين؛ فسالت والهفاه! دماء الأبرياء ودمرت البلاد وتحصن المجرمون في معاقل اللؤم والرياء.
كل ذلك عرفه المسلم والمسيحي والإسرائيلي وابن كل ملة من الملل.
إذا شكا الأرمني لدم يهدر ومال يسلب فشكوى المسلم أعظم، إذ تقوم حول دم الأرمني ضجة تبلغ السماء، وأما دم المسلم فإلى جانب تلك النكبة الدهماء بإهراق دمه نكبة الوجوم عن رفع الصوت بالعويل عليه.
وإذا شكا الكردي أو العربي بسوق، جيش يقف لعصابته فيتقاتلان وتربو قتلى عصابته على قتلى ذلك الجيش، فماذا يقول التركي وصفوة رجاله وفتيانه تشد محكمة الوثاق وتقاد إلى حيث تقتل أو تفرق أو تنفى إلى أقاصي البلاد.
خبر جميع من في البلاد خبر تلك الأهوال، فهبوا من رقدتهم هبة واحدة، فهل بعد هذه اليقظة من غفلة؟ معاذ الله أن يكون ذلك، وقد غل ذئب التعصب بأصفاد الحديد وزج به إلى أعماق البحار.
وليس هذا بأول عهد لتنبه أفكار الخلق إلى فتكات ذئب التعصب الغشوم، وإنما هو أول عهد تنبه جميع الناس إليه على حد سواء. وإلا فما قولك بتصدي الأمير عبد القادر في حادثة سنة 1860 وكثيرين من وجهاء المسلمين في دمشق الشام لحماية النصارى مخاطرين لقاء ذلك بأموالهم وأرواحهم؟ بل ما قولك بما أتاه فؤاد باشا أثناء حادثة الأرمن سنة 1896 تحت أذقان مثيري تلك الزوابع؟
شهدت تلك الفاجعة الأليمة مشاهدة الرقيب الجازع من أولها إلى آخرها، ولم أكن هنا لأعيد تلك الذكرى المؤلمة أو لأخطئ فيها فريقا دون فريق؛ فكلاهما اغتر وسيق - غير مختار - بإغراء أولئك الفجار، ولكن الباعث على ذكرها رغبة إثبات الأنفة التي كانت تهيج صدور الناقمين على هذا التعصب ومثيريه، ولم يكونوا بالنزر اليسير، ولكن أعلاهم قدحا وأعظمهم جرأة كان هذا المنفي الذي قضى سبع سنين سجينا يقاسي عذاب الموت وهو حي.
شهدته وكنت جاره في فنار باغجه، يطوف مدججا بسلاحه، ينهى عن سفك الدماء، يحيي الليل بين هاتيك الأحياء واعظا منذرا متلطفا متهددا على ما تقتضيه الحال. يسأل من أنس منه خوفا أن يحل ضيفا كريما عليه، يؤمن الخائف ويرعب الخائن؛ فحجب الدماء في كل ذلك الجوار، فلم تهرق فيه نقطة واحدة - وهي سائلة أنهارا في ما سواه - وإذا علمت أن ذلك الجوار بما وليه من فنار باغجه إلى موده وقاضي كوي وأطراف إسكودار؛ يحوي مائتي ألف ساكن تجلى لك مبلغ تلك الهمة الشماء.
فعل كل ذلك وهو يعلم أنه يجري على غير خطة «المابين»، فما راعه ذلك، بل راعه صوت وجدانه.
ولا أنبئك هنا بما كان من إجلال الأهالي من وطنيين وأجانب لهذا الإقدام الخطير، ولا أفصل لك ما توالى عليه من رسائل الشكر الخاصة عن الرقيم العام الذي أمضته النزالة الأوروبية برمتها، وما نشر من مقالات الثناء الضافية في صحف الإفرنج، فتلك أمور يستنتجها كل واقف على تلك الحوادث.
ولكن السر الغريب الذي لا يعلمه الناس أن ذلك كان مبدأ النقمة عليه من رجال «المابين»، وأنه حتى ذلك الحين كان في أعلى مراقي الحظوة، وما انحطت منزلته إلا من ذلك اليوم، فما وسعهم أن يقولوا له: إنك أتيت جريمة القتل بحماية الأنفس من القتل. فما زالوا يحتالون بتوجيه التهم إليه حتى ألقوا به إلى تلك التهلكة التي أدت إلى نفيه وسجنه وتجريده من رتبه وألقابه وأوسمته.
وإنا إذا أسهبنا في وصف تلك الهمة الشماء، فقد أتينا على فرض واجب الأداء بتدوين هذه المأثرة لذلك الشهم الغيور، وأثبتنا أن في السويداء رجالا لا يروعهم الوعيد وإن راع جماهير الناس، وأن روح التعصب الخبيثة لم يخترق إلا صدور الجهلاء العامة. ولو شهدت يومئذ رجال الدولة أنفسهم وهم تحت نير الاستبداد لرأيت الكثيرين منهم على وجدان فؤاد، وإن لم يكونوا على جرأته. ولكنهم فعلوا في سرهم فعل فؤاد على رءوس الأشهاد؛ فكان لهم الفضل في استحياء المئات - إن لم نقل الألوف.
أما الآن وقد انفقأ دمل التعصب ونفث ثمالة سمه، فلا خوف - بإذن الله - من امتلاء ذلك الجراب القتال بعد أن ارتفع الحجاب عن العيون؛ فانكشفت الحقيقة باهرة كالشمس.
وإن السلطة الظالمة وإن ملكت الأموال والرقاب، فإنها ترتد خاسرة عن امتلاك الضمائر، وقد باحت أنفس الخلق قاطبة ما تكنه ضمائرها من الرغبة في التصافي ونبذ التعصب، وجرى معها تيار العلم والحق والقوة، فلا مرد له بعد الآن. وحسبك دليلا على ارتياح النفوس إليه نشوة السرور، بل سكرة الطرب التي هزت البلاد العثمانية وارتجت لها دول الأرض.
ومع هذا فلا يجب أن يحدو بنا هذا الفوز إلى الاستكانة والوقوف؛ حيث نحن مجتزئين بنعرة الفرح، فإن شياطين الفتنة لا تزال بالمرصاد تتحين الفرص لإيغار الصدور؛ حيث لاح لها منزع للعبث والفساد.
ولكن دعاة الإصلاح ناظرون - إن شاء الله - إلى كل ذلك، فسوف يذلل ما بقي من الصعاب، ويمهد ما لا يزال قائما من العقبات.
ولا شك أن مظاهر التواد والإخاء التي عمت البلاد ستكون أعظم ذكرى وأمتن أساس لهذا البناء الجديد. وأن إعلان الدستور وتعميم المساواة يضمنان رسوخه.
ولكنه لو أتيح لنا أن نضيف رأيا إلى تلك الآراء النيرة لقلنا: إن أعظم الوسائل لضمان اضمحلال التعصب الديني؛ تجنيد المسيحيين مع المسلمين، وأعظم وسيلة لاضمحلال التعصب الجنسي تعميم اللغة الرسمية وجعل تعليم اللغة التركية إجباريا، فإن هاتين الوسيلتين مع تعميم أسباب العلم والتهذيب يضمنان توثيق عرى التواد والإخاء.
الدستور ورجال الدين
إن كلمة قالها شيخ الإسلام لجلالة السلطان يوم إعلان الدستور لجديرة بأن تنقش على صدر كل شيخ وقسيس، بل على صدر كل مسلم ومسيحي، بل على صدر كل عثماني وكل إنسان.
كلمة ارتفعت كقبس نور تصاعد، ثم تكور فوقع تيجانا على هام دعاة الإصلاح وطلاب الحرية.
كلمة نطق بها جمال الدين فكانت جمالا للدين والدنيا.
تلك الكلمة هي قوله - إذ استفتي بضرب الأحرار - فقال: «بل أجبهم إلى رغائبهم، امنح الدستور، فإنه مطابق للشرع الشريف.»
كانت الأزمة في أشدها، والحزازات في غلوائها، والنفوس ثائرة، والدماء فائرة، والجيش جيشين معدين للتلاحم والتفاني، وشيطان الفتنة بالمرصاد لتدمير البلاد. فمن يعلم لولا تلك الكلمة، أو لو تخللها حرف نفي، ما كان مبلغ الشر والعيث ومسيل الدماء؟ بل ما كان مصير هذه البلاد والأعناق مشرأبة إليها من كل صوب يتحين كل جائع فرصة لالتهام لقمة سائغة منها.
تلك كلمة ما كان أشبهها بذرة رمل بسكال التي انقلب لها - كما قال - مجرى سياسة العالم، فما أحرانا أن نتخذها شعارا نتفاخر به، وميسما ندمغ به جباه جهلة المتعصبين من رجال الدنيا والدين.
وما كان أشد سرور دعاة الإصلاح إذ علم العالم أجمع أنهم لا يعيثون في الأرض فسادا، بل يأتون رشادا وسدادا، وينقذون أمة عظيمة من ظلمات الأسر وينتشلونها من لجج الضنك والقهر.
إن خدمة الدين كسائر أصناف البشر يتباينون أخلاقا ونزعات، ويتفاوتون هدى وضلالا. ولكنهم بطبيعة موقفهم إذا أخلصوا الخدمة لله أجدر الناس بإصلاح الناس، وأقدر الخلق على إحقاق الحق.
وإن هذا الدستور الذي شهد شيخ الإسلام بموافقته للشرع الشريف شهادة مزكاة بنصوص القرآن - والشورى حكم الإسلام - ليس من ينكر موافقته أيضا لنصوص التوراة والإنجيل.
فلئن رأيناهم يوم إعلانه ملتفين حواليه يتعانق منهم الإمام والقسيس والحاخام يشهدون العالم أجمع على تآخيهم، وتترقرق دموع الفرح من مآقيهم، فرجاؤنا أن يظل هذا التصافي محكم البنود، وثيق العرى، فإنهم لا يزالون في جميع البلاد العثمانية ذوي المكانة العالية والنفوذ البعيد. فإذا تقدموا على هذا النهج القويم تبعتهم أمم، وزادوا مكانة واحتراما، وأطالوا حياة نفوذهم، ومكنوا سعادة مواطنيهم.
إن زمن الجهل والتعصب قد انقضى ودالت دولة الفتن الدينية، ولئن ذكر لهم التاريخ سيئات؛ فمن من أصناف البشر تعدوه السيئات، وإن لهم بإزاء ذلك الحسنات الجمة، فليضيفوا إليها الثبوت على تلك العواطف النبيلة التي تبرز ساطعة منذ إعلان الدستور، ولهم علينا المنة الكبرى، وعلى الله الأجر العظيم.
ومن منا ينكر أن الأمة الإسلامية أعظم أمم الدولة العثمانية، بل هي قوامها المكين، ومن ينكر أيضا أن الترك هم أرباب السلطة العظمى فيها، فإذا كان الشيخ الأعظم المسلم التركي هو المتقدم لبسط يد المصافحة، فما أحرى سائر خدمة الدين من مسيحيين وإسرائليين، وغيرهم أن يتسابقوا متهافتين إلى إحراز مثل ذلك المجد الباذخ.
لم يكن من مصلحة ظلمة الاستبداد في الحكومة الغابرة أن يؤلفوا بين القلوب إذ كانوا يعتقدون - لجهلهم - أن وفاق الأمة يدك معاقل صولتهم، أما الآن فقد انقشعت الغيوم وتمزق ذلك الغشاء القاتم.
وليست هذه بأول مرة حاول فيها البعض من رجال الدين - ولا سيما من المسلمين - رتق هذا الفتق فإن لم يفلحوا في الماضي إلا قليلا، فكل بوارق الفلاح بادية لهم في الحال والاستقبال.
ولا أضرب لك مثلا إلا بيروت؛ إذ لم يهج تعصب صدور قوم كما هاج صدور أهلها من مسلمين ومسيحيين في عصر الاستبداد الأخير.
كان التنافر فيها بين الفريقين قبل سنة 1860 على ما كان عليه في سائر ثغور البلاد، فلما وقعت حوادث تلك السنة المشئومة، ووجد القتيل المسلم مطروحا في أحد الأزقة، وثارت تلك الثائرة في صدور الأهالي، توقع جميع الأشرار حدوث مذبحة ترتعد لها الفرائص، ومع هذا فإن الشيوخ منا يروون ما شاهدوه من تعاضد الشيخ محمد الحوت والمطران بطرس البستاني ذلك التعاضد المكين وتآخيهما، وكلاهما من جلة خدمة الدين. ويذكر القوم - مكبرين - قيام الشيخ الحوت واعظا دينيا وخطيبا سياسيا ومرشدا داعيا إلى الوفاق فأتى المسلمين والمسيحيين بذلك فضلا يضاهي فضل عبد القادر في الشام وفؤاد في الأستانة. ولا يزال يذكر أيضا وقوف طاهر أفندي الخالدي وذويه مثل ذلك الموقف في تلك السنة في القدس الشريف وحجبهم دماء العباد، مخاطرين بدمائهم.
وما انقضت تلك السنة والتي بعدها حتى أخذ وجهاء المدينة بموازرة البعض من رجال الدين ينظرون في الوسائل المؤدية إلى تبديد الأحقاد، فما أتت سنة 1872 حتى كانت تألفت منهم جمعية هذا غرضها، عمادها من المسلمين والنصارى: المرحومان حسين بيهم وسليم البستاني؛ فخبا ذلك الثوران وخفت الجرائم. ولكن جيوش الاستبداد والتفريق دهمتها بعد بضع سنين فرجعت الحال إلى أسوأ ما كانت عليه، ولم تزل على تفاقم واشتداد حتى يوم إعلان الدستور.
وإن أئمة المسلمين إذا ربحوا الأجر العظيم والفضل العميم بإرشاد الخلق إلى هذا التوافق، ووطدوا بذلك أركان سلامة هذه الدولة ونهضتها نهضة لا تحسد عليها أمة من أمم الشرق والغرب؛ فإن رؤساء الدين المسيحي والإسرائيلي، على فرض أنهم لا ينظرون إلا إلى مصلحة أنفسهم دون مصلحة أبناء دينهم - ونعيذهم بالله من ذلك - فإنهم بلا ريب يعلمون أن لهم في بلاد الدولة العثمانية من الميزة والنعم والحرية ما ليس لزملائهم شيء من مثله في جميع بلاد الدول المسيحية. ولقد سمعنا بآذاننا منذ خمس سنوات كاثوليكيا ورعا من أعضاء مجمع العلوم - الأكاديمي - الفرنسي يخطب في نادي مدرسة الآباء اليسوعيين بمصر فيقول: هنيئا لكم يا كاثوليك هذه البلاد؛ فإنكم وإكليرسكم تتمتعون بعبادتكم بنعمة وحرية نتمنى أن يكون لنا بعضها في بلادنا بلاد الحرية، فلا تحسدونا أنتم وإنما نحن لكم من الحاسدين.
فليست بلاد الدولة العثمانية بأقل تمتعا بنعمة الحرية من مصر هذا الجزء اللاصق بها وليست امتيازات خدمة دينها بأقل من امتيازات رصفائهم في القطر المصري، فإنها جميعا مبنية على فرمانات السلاطين العظام.
غير أننا نخال الحكومة الدستورية عامدة عما قريب إلى النظر في تلك الامتيازات وتعديلها على ما يوافق روح الزمان، فلا يروعن ذلك عقلاء خدمة الدين، ولا يثبطن عزائمهم. بل فليتلقوه بالبشر وطيبة الخاطر؛ إذ كلما قربت مسافة المساواة بينهم وبين عامة الناس أحكمت علائق الود الصحيح بين الفريقين، وتسهلت لهم سبل القيام بمهامهم الشاقة.
ولقد طالما شكا الناس من بعض خدمة الدين استبدادا يضاهي استبداد الحكام، ولا غرو بذلك فإنهم ذوو سلطة وكل ذي سلطة أنس جهلا وضعفا بمن حوله مال إلى الاستئثار بالحول والطول. ولقد طالما قيل فيها أيضا ما يقال في ضعاف الحكام من سياسة التفريق حرصا على سيادتهم، على أنهم يعلمون الآن أيضا أن تلك السياسة إذا أفلحت يوما مع عجز الناس وغفلتهم؛ فإنها تحبط بلا ريب في بيئة اليقظة والقوة، فحفظ كرامتهم وكرامة المنتمين إلى مذاهبهم إنما يكون بوقوفهم موقف المرشد الأمين والناصح الموفق، ولم يخفهم ذلك فتنبهوا إليه في العهد الأخير، ولهذا هبوا يوم إعلان الدستور هبة واحدة، وكانوا مع الأمة يدا واحدة عاملة على إحكام الوئام. وهذا غاية رجاء الأمة بهم، فعسى أن يظلوا مثابرين على نهج هذا السبيل ولهم من الله والناس جميل الثواب وجزيل الثناء.
الدستور والمهاجرة
المهاجرة مهاجرتان: الجلاء أو هجرة السكان للبلاد، وعليه مدار كلامنا الآن، والاستيطان أو وفود الأجانب إليها للإقامة بها، وسنبسط البحث فيه بفصل آخر.
ليس في بقاع الأرض بقعة أخصب تربة وأصفى جوا وأجود ماء وأنقى هواء من معظم أجزاء السلطنة العثمانية، ولهذا كانت منذ القدم مطمع الرواد ومحط الرحال، فما بالها انقلبت حالها وقلت رجالها وعافها الغريب وفر أبناؤها مغتربين إلى أقصى الديار.
لا شك أن الحروب واختلال الأمن وتخاذل أبناء البلاد وظلم الحكام وجشع جباة الأموال وانتشار الأوبئة، كل ذلك مما هو متقدم عهدا على زمن الاستبداد الأخير، وكله من أسباب الانحطاط وتناقص السكان، غير أن الجهل من جهة، ووعورة المسالك وتعذر سبل الانتقال من جهة أخرى كانا يحولان دون المهاجرة، فيكل الناس أمرهم إلى الله، والوطن عزيز فيؤثرون الإقامة فيه مع تحمل الحيف على تجشم مشاق الاغتراب، وهم لا يجدون إليه سبيلا.
إذا ابتلاهم الله بحاكم ظالم يوما شكوا أمرهم إلى الله، وأملوا أن يخلفه ذو رأفة فينصفهم. وهكذا لبثوا راضين مقيمين مختارين أو مضطرين، ولكن استبداد الحكومة الغابرة خلق من أنواع المظالم ما لم يكن في الحسبان.
كان ظلم الحكام في سابق العهد لطمع بمال أو لكسر شوكة، وأما في العهد الأخير فزاد على ذينك السببين انتفاء كل سبب. كان خائف الظلم في الزمن السابق إذا كان ذا مال تدبر بحيلة لإخفائه أو استرضاء الظالم بجزء منه، وإذا كان ذا نفوذ واقتدار عمد إلى التذلل أو المجاهرة بالعدوان وهو بأرضه. وأما في عهد الحكومة الغابرة، فالغني والفقير والأمير والأجير والآمر والمأمور، كانوا على شفير الهلاك في كل لحظة لا ينفعهم حذر ولا تغنيهم حيطة، وهم لا يدرون متى تقرع الأبواب فتهجم اللصوص.
وإذا علمنا - مع هذا - أن جميع الأفكار تنبهت، والعلم قد بسط جناحيه، ووسائل الأسفار قد تعددت أدركنا لأول وهلة سبب الاندفاع الهائل لمهاجرة الأوطان إلى حيث لا واش ولا رقيب، والصبر على مضض العيش تملصا من مخالب الموت أو مناسر الذل والهوان.
أما المهاجرون من البلاد العثمانية ففئتان؛ فئة فرت من البطش والاغتيال، وفئة جلت في طلب الرزق، ومرجع هجرة كلا الفريقين إلى الاستبداد، والمسلمون والمسيحيون في ذلك سواء، بل ربما كانت الوطأة أشد على المسلمين منها على المسيحيين.
لما قلت الأرزاق وتقلصت الأعمال باختلال الأمن في البلاد العثمانية، وتفتحت أبواب الكسب في أميركا وأستراليا ومستعمرات أوروبا الأفريقية تنبه إليها الأرمن واليونان والسوريون منذ زهاء أربعين عاما، ولكن المهاجرين في السنين العشر الأولى كانوا نزرا قليلا من صناع الأرمن وخدمة اليونان وفعلة السوريين اللبنانيين وأفراد من التجار لا يتجاوزون العشرات، ثم أخذوا يزدادون شيئا فشيئا إلى أن باتت كل باخرة من بواخر المساجري مربتيم تحمل كل أسبوع من ثغر واحد كثغر بيروت مئات منهم، وقل مثل ذلك في الأرمن وأقل من الفريقين اليونان.
ثم إذا نظرت إلى كل فئة من أبناء هذه الملل الثلاث رأيت لها أسبابا خاصة تدفعها إلى الجلاء مما يخرج عن الأسباب العامة، فاليونان أهل ملاحة واغتراب منذ القدم يدفعهم الجد إلى انتجاع الكسب حيث وجدوه، ولهم - منذ مئات سنين - تجار من أبناء جلدتهم أثروا في بلاد الغربة يعاونوهم إذا وفدوا عليهم، وهي خطة ألفوها قبل الجميع. فظلوا سائرين عليها حتى إذا قضوا وترهم من الأسفار انقلب أكثرهم راجعين إلى بلاد اليونان مما خرج عن سلطة الدولة العثمانية.
والأرمن أهل زراعة وتجارة في أرضهم وقل من يغادر أرضه منهم من سكان الأرياف، ولكن قليلين من أبناء المدن كانوا يهاجرون في سبيل التجارة.
والسوريون وإن كانت لهم بلادهم منذ القدم بلاد الاستعمار وسلك البحار، فإنهم انقطعوا قرونا طوالا إلى زراعتهم وتجارتهم في بلادهم، وكانت الأسفار لفئة قليلة من التجار أكثرهم من الحلبيين. فلما ضاقت أبواب المعيشة في البلاد العثمانية، واتسعت في الديار النائية كان اللبنانيون - وفيهم بقية دم من الفينيقيين - أول من أثار عاطفة الجلاء، كأن روح أجدادهم بعد أن استكنت تلك القرون تحركت في صدورهم فهزتهم هزة واحدة.
كان لبنان قبل سنة 1840 أحزابا سياسية غير دينية تتضاغن وتتصافى ، تتحارب وتتسالم؛ فتفني الفتن منهم من تفني ويعيش من يعيش، وهم جميعا مشتغلون بزراعتهم قانعون بما قسم لهم من الرزق الضيق. والقناعة رفيق الجهل.
ثم تحولت تلك الأحزاب السياسية إلى أحزاب دينية؛ لبواعث نبسطها في محل آخر، وبقيت الحال على ما هي عليه إلى سنة 1860.
فلما نال لبنان ذلك النظام (النافع في حينه المضر الآن) وزالت الفتن واستتب الأمن وكثرت المدارس؛ فانتشر العلم وعاف اللبنانيون شظف العيش القديم؛ باتت أراضيهم غير وافية بحاجياتهم، ولا تجارة تذكر عندهم ولا صناعة، ما خلا منسوجات وإن كانت من أحسن طراز، فلا رواج لها فأخذوا يتطلعون إلى موارد أخرى للمعيشة، فلم تلح لهم إلا من وراء البحار.
نظروا إلى ما حولهم من الممالك العثمانية، وهي بطبيعتها من أغنى أقاليم الكرة، فإذا بها فقيرة على غناها، ضيقة على اتساعها، وهم أهل إقدام وذكاء ونزق وإباء، فما راعهم تجشم المشاق، وضربوا في مناكب الأرض كل مضرب شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
وإن في لبنان علاوة على ما تقدم دافعا طبيعيا لجلاء جزء من سكانه بين فترة وفترة، ذلك أنهم جميعا كثيرو الضنو، تتكاثر ذراريهم بسرعة فيضيق القطر عنها، وهو في حالته الحاضرة مع وفرة عدد الجالين عنه للعهد الأخير لا يزال من أكثر جبال الأرض سكانا، فالقرى - ولا سيما في شماليه - مزدحمة ازدحام قرى النمل، ولا عبرة بإقفار بعضها في هذا الزمن، فلا تلبث أن ترجع فتكتظ بأهاليها.
ومن أعظم أسباب المهاجرة أيضا انتشار العلم بكثرة المدارس، وإن من سيئات العلم - إذا عدت له سيئة - أنه يثني حديث العهد به عن زراعته، فقلما تجد ابن فلاح تعلم فعكف على زراعة أبيه، بل تسوقه المطامع في المال إلى طلب الرزق من باب آخر. وأبواب الرزق في لبنان تكاد تكون منحصرة في الزراعة ومصالح الحكومة، فأما مصالح الحكومة فإنها لا تتسع لأكثر من زهاء ثلاثمائة؛ فيضطر سائر المتعلمين - ويعدون بالألوف - إلى هجر الأوطان.
وهكذا كانت الجالية اللبنانية مؤلفة من فئتين: فئة الفقراء المنتجعين العيش بقوة سواعدهم ، وكثيرون من هؤلاء يستلفون نفقات السفر استلافا، وفئة المتعلمين الطالبين الرزق من شق أقلامهم أو من رأس مال صغير يكون في الغالب أيضا دينا بذمتهم.
وكان أول من نفخ في ذلك البوق أهل شمالي لبنان؛ حيث الأهالي مزدحمة ازدحام القطافي أفاحيصها، ثم تابعهم أهالي أواسط الجبل، فسكان الجنوب، وما لبثت أن امتدت العدوى إلى مدن سوريا كدمشق وحلب وبيروت، وسائر الثغور والأرياف.
ولنقل الآن كلمتنا الأخيرة، وإن طالت، عن مهاجري لبنان قبل أن ننتقل إلى سائر الجالية العثمانية، وخصوصا أن بين هجرة اللبنانيين وهجرة سائر أبناء السلطنة فرقا عظيما في الأسباب والنتائج.
ليس لدينا إحصاء رسمي لمعرفة عدد المهاجرين اللبنانيين (والإحصاء في زمن الحكومة الغابرة من الكماليات المضرة)، ولكنه يؤخذ من الاستقراءات الطويلة التي تتبعناها أنهم بين الولايات المتحدة وسائر جمهوريات أميركا وأستراليا ومصر وجميع الأقطار الأفريقية؛ لا يقلون عن الثلاثمائة ألف. أي: إنهم يكادون يساوون - عددا - السكان الباقين في البلاد. وكل هذه الجالية هجرت البلاد بعد سنة 1870 إلا أفرادا قليلين منها، وكلها أيضا هاجرت في طلب الرزق، فلم يكن الظلم السبب الدافع للمهاجرين، ولكنه كان السبب في انصرافهم عن بقاع سوريا والعراق الفسيحة ومدنها الغناء في بلاد هواؤها هواؤهم ولغتها لغتهم إلى حيث تنهكهم الأمراض والمشاق في بلاد يجهلون لغتها وطبائع أهلها.
ولقد عرفنا من بعض الإحصاءات الاستقرائية أن ثلثهم يموت فناء بالمرض ومشقة السفر. ويكفيهم من ضروب العذاب الأليم ما يلقاه كل فرد منهم يوم مغادرته ثغر بيروت أو يوم عودته إليه، وإنا لعلى يقين أنه لو حوكم بعض ولاة بيروت على ما كانوا يؤلمون به أولئك البؤساء، وما يبتزونه منهم من الأموال بواسطة حفاظ الأمن يوم سفرهم أو يوم عودتهم؛ لحكم عليهم بالسجن المؤبد.
ومع كل ما نتج عن المهاجرة اللبنانية من تناقص الأيدي العاملة في الأرض، وتناقص النسل بموت بعض المهاجرين، وابتعاد الرجال عن نسائهم، وانتشار بعض الأمراض التي لم تكن معروفة، أو كانت نادرة جدا كالسل الرئوي والزهري، فإن النفع كان عظيما بإثراء زمرة من هؤلاء المهاجرين، وتكاثر النقود بما كانوا يرسلونه إليها، وتوسيع أبواب الراحة بالمعيشة وتلاشي الجرائم بابتعاد أربابها لقلة أرزاقهم في ديارهم.
واللبناني من طبعه شديد التعلق بوطنه، يحن إليه وإن شاخ في أقاصي الأرض؛ ولهذا كانت الجالية في أول الأمر تعقد النية يوم قطع تذكرة السفر على أن لا تلبث في اغترابها إلا ريثما يجتمع لديها شيء من الوفر تستعين به على معيشتها، فتنقلب راجعة إلى بلادها وهي تقول ما طالما رددناه لبعض أفرادها:
لا يستقر الظبي في فلواته
حتى يعاود ورده المعهودا
والطير مهما فارقت وكناتها
تطوي لرؤيتها الفلا والبيدا
شهدت كثيرين من المهاجرين اللبنانيين القافلين إلى الأوطان منذ خمس وعشرين سنة، وشهدتهم في دار اغترابهم منذ خمس عشرة سنة، وشهدتهم في هذه الأيام وشتان بين الحنين إلى الأوطان في أفئدة هؤلاء وأولئك. كنت إذا رأيتهم مقبلين رأيتهم متهللين بشرا ومعهم كل ما ادخروا في دار هجرتهم، يحملونه إلى مسقط رأسهم، وهم يقولون: حمدا لك اللهم، فقد أذنت أن تضم رفاتنا إلى رفاة آبائنا. وكنت إذا سألتهم رأيهم في التجنس بجنسية البلاد التي ارتادوها قالوا: معاذ الله أن نكون فكرنا يوما بارتداء حلة غير حلة قومنا وعشيرتنا، ولكن الإقامة في ديار الحرية زادت نفوسهم إباء. وازدياد المظالم في الثغور زادهم نفورا واشمئزازا، وسريان العدوى في اختلال الأحكام من الولايات إلى لبنان أورثهم خيبة في تلك الآمال التي رحلوا بها؛ فضعفت فيهم عاطفة التفاني بحب الوطن، وباتوا يطلبون الحرية؛ حيث كانت ومالوا إلى الاندماج في سلك الأمم التي أنالتهم من حريتها ومالها ذخرا ثمينا.
وكأني بحقي بك ناظر المعارف الحالي يذكر يوم كنا معا بأميركا منذ خمسة عشر عاما والجالية السورية فيها تعد بالألوف ومعظمهم من اللبنانيين، والمتجنسون منهم بالجنسية الأمركية قليلون جدا، ولكن الميل إلى التجنس آخذ في الانتشار بينهم وأظنه يذكر أيضا ما لقيت من العناء بصرف كثيرين منهم عن ذلك الميل معظما ما كان لدي من الأمل الضعيف بالإصلاح الذي تيسر - والحمد لله - فوق ما كنت أرجو ويرجو الجميع. ومع هذا فإن بقايا تلك العاطفة لبثت تختلج في صدورهم إلى ما قبل هذه السنين الخمس الأخيرة؛ إذ استولى السأم على جميع نفوس المهاجرين فقنطوا من الإصلاح، وباتوا يوم هجر بلادهم يفكرون في هجر جنسيتهم، فعاد الشر شرين والخسارة خسارتين، ولو تأخر إعلان الدستور عشر سنين لأصبح معظم اللبنانيين - من نصارى ومسلمين - أوروبيين وأمركيين نزعة وتبعة.
وانظر حينئذ - فوق خسارة البلاد - إلى المشاكل السياسية التي رأينا منها شيئا كثيرا بالقسر عن المعاهدات التي تقضي باعتبار جميع العثمانيين المولودين في البلاد العثمانية بحال عودتهم إليها عثمانيين كسائر المقيمين فيها مهما طالت مدة اغترابهم، ومهما اكتسبوا من الحمايات والتابعيات الأجنبية.
هذا جل ما يقال عن الجالية اللبنانية، وهي - كما رأيت - مع بعض مضارها الماضية وكثرة شرورها على البلاد والدولة في مستقبل الزمن لم تخل من الفوائد التي أنتجت الرخاء في جزء من السلطنة فهي فريدة في بابها بهذا المعنى، وهي الجالية الوحيدة التي لم يسقها إلى الاغتراب مجرد الاستبداد.
فأجل الآن نظرك في المهاجرة من سائر أجزاء السلطنة، فلا ترى حيث توجهت إلا نكبة صماء منيت بها البلاد، ومحنة لا يقل بلاؤها عن مجازر الحروب ومجارف الأوبئة القتالة.
سرت العدوى في سوريا من الجبال إلى العواصم والثغور - كما أسلفنا - ولكن بجرثومة غير تلك الجرثومة، وشكل غير ذلك الشكل.
ولسنا بباحثين في المهاجرين السوريين من نفس الطبقة المتعلمة المهاجرة من لبنان، ولكن بحثنا الآن في طبقتين أخريين لا قوام لملك إذا ضعفا فيه ونعني: أرباب المال والعمل.
كان أرباب التجارة من السوريين إذا أثروا فيها أقاموا فيها حتى الموت، وإذا جمعوا ثروتهم بالأسفار عادوا في الغالب بتلك الثروة فتمتعوا بها في أخريات حياتهم في تلك الربوع الفيحاء، فلما تفاقم الاستبداد والتعنت في الأحكام في العقدين الآخرين من السنين الفوائت بات السكن في المدن السورية - ولا سيما في الثغور وعلى التخصيص في بيروت - مما يحرج النفوس في الصدور، ومداراة الحكام مما يذهب الصبر والمال. وكانت مصر - وهي شقيقة سوريا في اللغة والعادات والأخلاق وجارتها القربى - راتعة في بحبوحة من الأمن وصفاء العيش، توجهت أنظار أرباب المال إليها كما توجهت إليها أنظار الطبقة الوسطى وأرباب الأقلام، فكانت لهم جميعا ملجأ أمينا يقصده طالب الرزق للإقامة، ويرتاده التاجر الغني للنزهة شتاء، ويغتنم فرصة من تلك النزهة لإنماء ثروته بالمضاربات بالمال والعقار. فلما كادت تزهق أرواح السوريين في بلادهم تهافت رهط من أعلى طبقات هؤلاء التجار على تصفية أشغالهم وبيع عقارهم بأبخس الأثمان وطلقوا سوريا بتاتا، وأتوا فأقاموا في القطر المصري ورحل بعضهم إلى أوروبا.
وقد أجهدت النفس مرة بإحصاء ما نقص من ثروة مدن سوريا - وأخصها بيروت وحلب - بجلاء هؤلاء التجار عنها في هذه المدة القصيرة؛ فبلغ زهاء سبعة ملايين من الليرات العثمانية.
ولا ريب أن هذه الثروة بقيت للسوريين، بل زادت كثيرا بما أضيف إليها من الكسب، ولكنها خرجت من البلاد ولم تكن لترجع إليها قط لا كلا ولا بعضا، لو لم يمن الله بنعمة الدستور.
ولكن البلاء الأعظم الذي ابتليت به البلاد: جلاء الفلاح عن أرضه.
كانت الحكومة الغابرة في أول أمرها تنفذ الأوامر حينا بعد حين بمنع المهاجرة من سوريا، ولكن تلك الأوامر إنما كانت وسيلة لرجال «المابين» وعمالهم من الولاة لأجل ابتزاز الأموال من المهاجرين، حتى ضرب بعض الولاة لنفسه ضريبة معلومة على كل مهاجر، وأطلق العنان لحفاظ الأمن يبتزون ما شاءوا لأنفسهم ولمن والاهم من حمال وبحار وواسطة وعميل.
وأشد تلك الأوامر كان بحجر الفلاح المسلم القاطن في الولايات السورية مما خرج عن لبنان، ومع هذا فلم يكن يعدم المسلمون وسيلة للانسلال مع النصارى سرا في أول الأمر ثم جهرا مع مواطنيهم. وإليك بيان وسيلة من تلك الوسائل التي كان يتفكه بها أولئك الظلام من رجال الضبط وعملائهم لتسهيل سبل السفر للمسلمين.
قصد ثغر بيروت من فلاحي البقاع نحو عشرين رجلا بين سني وشيعي، وبينهم رجل شيعي طويل اللحية، فأخذه دلال المهاجرة بيده إلى عزلة، وقال له: لا بد لك يا صاح من حلق لحيتك - وإن من عرف عادات القوم في تلك الأصقاع يعلم أن القضاء على الرجل منهم بقطع يده أسهل عليه من القضاء بحلق لحيته - فأبى واشتد اللجاج بينهما، ورجع الرجل عن عزمه على السفر، فأتى رفاقه وخافوا أن يصابوا بأذى شديد إذا انثنى عنهم، فما زالوا به حتى أقنعوه بقصها قصا.
وهكذا بعد أن كان المهاجرون المسلمون نزرا يسيرا من فلاحي لبنان أخذت الغيرة فلاحي سواحل سوريا، ثم امتدت إلى فلاحي البقاع، فأعالي سهول حمص وحماة، حتى شوهد بين مهاجري المسلمين أفراد من البدو، ولولا لطف الله بهذا الدستور لسرت الغيرة في داخل البلاد حتى بغداد، وخصوصا بعد ما كان يبلغ ذلك الفلاح البائس في أرضه أن إخوانه في سعة من العيش والحرية في ديار الغربة، ومنهم الآن العامل والزارع والتاجر، وأن لهم هنالك يدا بمعاونة بعضهم بعضا مما لا يتاح لهم في نفس بلادهم.
وهذه الجمعية الخيرية الإسلامية في البرازيل لا تغادر بائسا منهم على بؤسه؛ فتعول المقعد وتدواي المريض وتنفق على المعوز الراغب في معاودة وطنه، وحكومة الاستبداد في نفس بيروت بددت شمل جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية - كما مر بك.
قصدت بلودان في صيف سنة 1906 مع رفقة من صفوة أدباء دمشق الشام من آل العظم والبخاري والعسلي وشهبندر وبلودان، هذه قرية غناء فوق روض أريض من رياض البقاع، تعلو عن سطح البحر 1500 متر، جنات تجري من تحتها الأنهار، لو كانت في ديار الأمن والعدل لكانت منتجع الرواد. يتمنى ابن باريس لو يقطع منها بضعة أمتار يرتاض فيها بعد العناء ويرتاح بعد العياء. وهي مع ذلك كسائر القرى حقيرة البيوت ذات طرق معوجة ضيقة كمعابر الماعز في غاب الجبال، يصعد إليها النازل من قطار سكة الحديد عند محطة الزبداني في مسلك أشبه بلولب منه بطريق يمتد متعرجا على ثلاثة أميال. قد اعتادت حمر تلك البلاد تسلقه بلا عناء، فركبنا الحمير وخلفنا أصحابها من أهل تلك القرية، وكان رفيقي القروي كهلا نظيري، فأخذت أباحثه بشئون قريته وزراعتها وزوراها إلى أن بلغ بنا الحديث إلى عمال الحكومة وجباة الأموال، وكنت في كل كلامي أتودد إليه متلطفا تسكينا لخاطره ودفعا لريبته.
فلما اطمأن انطلق لسانه، وكانت زفراته أطول من عباراته، ولم نزل على ذلك الحديث إلى أن بلغ بي سفح القمة أمام الفندق الذي كنت أقصده ولا فندق سواه، بل كان في الأصل بيتا لرجل عليل من وجهاء الشام بناه لنفسه مصيفا يقيم فيه مستشفيا من مرضه ثم جعله فندقا للمصطافين. فقال لي صاحبي والزفرة تكاد تخنقه: هذا هو النزل المقصود، متعك الله فيه بالهناء والسرور أنت ورفاقك، وأما أنا ورفاقي فلقد عقدنا النية على أن نغادر لكم في الصيف المقبل هذه البلاد بما فيها، غير آسفين على أرضنا وعقارنا في هذه الجنة الحمراء، سائرين على بركات الله إلى حيث نرجو أن نكون بمأمن من ظلم هؤلاء العتاة الفجار الذين حببوا إلينا الموت. وتناول أجرته شاكرا وانصرف.
قلت في نفسي: غوثك اللهم! إذا كان هذا مبلغ اليأس والسأم من نفس هذا الفلاح وهو مالك أرضا وبيتا وله مورد رزق دائم مما يبذله رواد جنته هذه، فما الظن بالفلاح المأجور الذي لا يملك كوخا يأوي إليه ولا شجرة يتفيأ بظلها في تلك السهول المحرقة، والدرهم بعيد عن كفه بعد الرحمة عن قلوب أولئك الظلام.
وهنالك صنف آخر من أصناف المهاجرين من البلاد العثمانية لا أجد تعبيرا وافيا لوصف بؤسهم وشقائهم، وأعني بهم: جماعة الأرمن، مزيج من التجار والصناع والزراع مقيمون في بلادهم من ولايات: وان وأرضروم وطرابزون، وما والاها، وقد مرت عليهم القرون وهم عائشون بأمن مع جيرانهم الأكراد والترك وغيرهم، وإذا حصل بينهم خلاف فإنما هو سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ومنهم زرافات عديدة من ذوي المناصب من كل الدرجات ومن أرباب التجارة والعقار والصرافة وسائر الحرف متوزعون في كل أطراف السلطنة، لا يقل عددهم في نفس الأستانة عن المائة والخمسين ألفا.
بدأ ثائر الشقاق يثور بين الأرمن والأكراد منذ استفحل أمر حكومة الاستبداد، أي: منذ خمس وعشرين سنة، وكانت البواعث شديدة من الداخل والخارج.
وليس هنا محل بسط تاريخ المسألة وإنما نستخرج من مذكراتنا عنها ما يقتضيه سياق الحديث.
لا يكاد الإنسان يفقه سرا لمغازي سياسة الحكومة الغابرة إذ كانت تعمل على إضعاف بل إتلاف جميع العناصر المؤلفة منها هذه الأمة، فما شعرت بهذا التنافر بين سكان أرمينيا حتى قامت توسع في الخرق، فبدلا من أن تتلافى الأمر أرسل إليهم عمال «المابين» رجالا على شاكلتهم. وكلما تعالت الشكوى زادت المغارم إلى أن كانت الفتنة الأولى في وان وموش وخربوط وأرضروم سنة 1888. فهاجر من الأرمن من هاجر، ثم خبت النار تحت الرماد ولم تزل بين شبوب وسكون إلى سنة 1895؛ حيث كانت المذبحة الهائلة، فتجاوزت أرمينيا إلى الأستانة حيث قتل في يومي 25-26 آب (أغسطس) زهاء خمسة عشر ألف نفس، وامتدت منها إلى أطراف البلاد.
وما كان اعتراض الوزراء والعلماء وبعض المشيرين ولا مروءة ذوي المروءات كفؤاد باشا - على ما تقدم في باب التعصب - لتؤثر مقدار ذرة في أفكار عمال «المابين»، فإن قوتهم إنما كانت بأضعاف جميع الخلق، فما انثنوا حتى ارتووا بما سال من دماء تلك الألوف، والذي يدلك على أن عمال «المابين» لم يصدقوا بزعمهم لدى عقلاء الأمة أنه تيار اندفع بالقسر عنهم فلم يستطيعوا أن يقفوا بوجهه أنه لم تكد تصدر الأوامر من يلدز بإيقافه حتى أصبحت جميع أنحاء الأستانة في نصف ساعة دار أمن وسلام بعد أن كانت بحرا مضطرب اليم بأمواج الدماء. ولم تنحصر البلوى بقتل تلك النفوس، فإنك تستنتج - بلا ريب - أن سيل المهاجرة اندفع يجرف كل ما لقي في سبيله، وأنه عقب ذلك مجاعة عمت تلك الأصقاع فباد فيها زهاء ما باد بالسيف والرصاص «والنبوت»، وتعطلت المزارع ودمرت البيوت وأقفرت بلاد عامرة؛ فكانت خسارة البلاد في سنة واحدة بالقتل والموت بالمرض والجوع والمهاجرة نحو أربعمائة ألف نفس.
ولا ريب أن اختلاج عواطف الحنان والإخاء في أفئدة الأحرار في الآونة الأخيرة، واندفاعهم مئات وألوفا باحتفال باهر إلى مقابر الأرمن؛ حيث كانت تنقل الجثث مكدسة على عربات المزابل إلى خلجان ترمى فيها ركاما، بعض فوق بعض، وذهابهم بالزهور والأكاليل لتلقى فيها فوق تلك الأضرحة الفسيحة؛ لأعظم دليل على أن عقلاء الأمة كانوا ناقمين ساخطين، وإن في ذلك لبلسما لجراح من بقي من أنسباء أولئك التعساء، ولكنه لا يعوض البلاد شيئا من خسارتها الفادحة.
وإن غوائل المسألة الأرمنية امتدت خسائرها إلى جميع أجزاء البلاد، خذ الأستانة مثلا تر أنه على أثر تلك الحادثة انقطعت عنها الثقة المالية من أوروبا؛ فتعطلت المتاجر وقلت الأعمال ونفد المال وأخذ التجار والصناع من أبناء جميع الملل يهجرونها إلى مصر وأوروبا. وقد شهدنا مئات منهم في مصر القاهرة وحدها من الأوروبيين واليونان والترك والعرب، ولو أحصي عدد سكان الأستانة سنة 1897 لأسفر الإحصاء بلا ريب عن نقص مائة ألف نفس بأقل تعديل.
بقيت علينا لفتة مؤلمة إلى آخر صنف من المهاجرين، وهو تلك الفئة التي كان يجب أن تكون عماد الدولة وروح البلاد، ونعني بها: فئة الأحرار ودعاة الإصلاح - بعرفنا. والخونة المجرمين السياسيين وأعداء الدولة - باصطلاح عمال «المابين.»
لم يكد مستشارو السوء يشيرون بفض مجلس المبعوثان سنة 1877 حتى أخذوا يتطلعون إلى جميع الذرائع المؤدية إلى إماتة تلك الروح؛ روح الحرية المنبثقة من مساعي مدحت وكمال وأنصارهما، ودفن المذهب الدستوري بمهده. وإذ كان ذلك مطلبا بعيد الشقة عسير المنال لم يروا بدا من الشروع في إبعاد طلاب الحرية عن مواقف النفوذ، فمن قوي منهم على كتمان هوى نفسه وتدبر الأمر بطول الأناة؛ بقي في منصبه - إذا كان ذا منصب - أو غودر آمنا في منزله، وكلا الرجلين تحت أكناف الخفية. ومن بدرت منه بادرة تشف عما في ضميره، أو خيف أن يحول دون مأرب من مآرب رجال «المابين» ضربت عليه الذلة والمسكنة. ومن هؤلاء نزر يسير يسوءنا جدا أن نعترف أنهم انقلبوا إلى زمرة الجواسيس، فزادوا في بلاء رفاقهم القدماء.
ولسنا هنا ننكر ما تقدم بهذا الصدد في باب رجال الدولة وغيرها، ولكن محصل القول أن معيشة هؤلاء الأحرار في بلاد السلطنة باتت من المستحيلات، فلا أولو الأمر يطيقون إقامتهم بينهم ولا هم بقيت لهم طاقة على تحمل الضيم، وخصوصا أنهم باتوا على شفا المهالك، والمخاطر محدقة بهم من كل صوب؛ فأخذوا ينسلون الواحد بعد الآخر، ويفرون شرقا وغربا. وانسلال كل واحد منهم يلقي الشبهات على عشرات من أنسبائه وأصدقائه، فيضطر كثيرون منهم إلى اللحاق به. ولطالما قبض على الواحد منهم وهو على أهبة السفر فزج في سجن فمات فيه أو فر منه مرة أخرى. أو سيق فأميت خفية أو أقصي إلى منفاه.
وإذ كان الغدر بذوي العقل والصلاح والحرية والذكاء أسهل الأمور على عمال «المابين» أخذت الناس الرعدة ومال الجم الغفير إلى مغادرة البلاد لغير سبب سابق، ولكن خشية من سعاية مقبلة، ولولا شدة رقابه الخفية وقيام الحراس على الثغور ليلا ونهارا وشدة التنكيل بمن قبض عليه فارا لخلت البلاد من أرباب العقول - كما كادت تخلو من زراع الحقول.
وليس أحد من أبناء هذا الصنف ممن غادر بلاده وراء باب رزق أوسع في دار الاغتراب، بل كانوا جميعا بالعكس من ذلك ينزلون عن منصة الرخاء إلى بيت الذل الضيق، ولقد شهدنا الكثيرين منهم من أبناء الكبراء والوزراء وسعة العيش يحتالون على خدمة في محل تاجر، أو إدارة شركة، أو مصرف براتب كان يتناوله بعض الحشم في دور آبائهم.
هؤلاء هم الأحرار الذين انبثوا في جميع الأقطار وتألفوا في البلاد النائية، وهؤلاء هم المهاجرون الذين لبثت بلادهم ودولتهم نصب أعينهم في سرهم وعلانيتهم.
ومن كان هذا شأنه فلا بدع أن يصرف كل قواه إلى استئصال جرثومة الفساد ودرء شبهات الحساد ومواصلة السعي لبلوغ المراد. قصدوا البلاد الأجنبية شذاذا شرادا فتآلفوا فيها وتألفوا عصابات وجمعيات سرية وغير سرية في باريس وجنوه ولوندرا ومصر، ولم تخل منهم عاصمة من العواصم الأوروبية حتى بلغوا أميركا.
هذه هي الجالية التي كانت أشد شقاء من سائر الجاليات، فأصبحت الآن أسعدها، وأي سعادة أعظم من بلوغ منتهى الآمال؟ وهذه هي الجالية التي تتهافت الآن قافلة إلى بلادها تهافت الظباء على موارد الماء في قيظ الهاجرة. ولئن نالت البلاد خسارة بجلائها فستنقلب كل الخسارة ربحا بعودها إلى أوطانها، وقد ضمت إلى نزعتها الحرة ما أكسبها الاغتراب من زيادة المعرفة والاختيار.
وإذا علمت أنها لا تقل عن السبعين ألفا، منهم خمسة وستون ألفا من المسلمين وخمسة آلاف من المسيحيين، وأنهم جميعا من ذوي الدراية والنشاط، ومن جميع عناصر الأمة العثمانية؛ اتضح لك قيمة الذخر الثمين الذي يعودون به إلى أوطانهم. ولا عبرة بمن خرط نفسه بينهم من زمرة الجواسيس مدعيا أنه من دعاة الحرية، فذلك عرض زالت الآن كل آثاره.
ذلك ما يقال إجمالا عن أصناف المهاجرين العثمانيين، ولا شك أن تبدل الحال بإعلان الدستور سيحدث انقلابا ليس في الحسبان، فيرجع بعض الأصناف كالصنف الأخير برمته، وسائر الأصناف يعود معظمه إلى حظائره، ويقف هذا السيل الجارف فينثني من نوى الهجرة عن عزمه. وليس ببعيد عنا ذلك اليوم الذي ينعكس فيه ذلك المجرى منا إلينا، يوم يستتب الأمن ويسود العدل بصلاح الأحكام، فتبيت البلاد العثمانية مطلب المهاجرين من أقاصي الديار، فتفتح أبوابها لمن وسعته منهم.
الدستور ومأمورو الحكومة
ليس بين دول الأرض دولة تزعم الصلاح والنزاهة بكل مأموريها، وليس منهن من لا يكتشف - يوما بعد يوم - على جنف حاكم بحكمه، أو عبث أمين بأمانته، أو سرقة عامل في عمالته، أو زيغ وزير في وزارته. فالإنسان لا يزال في بون شاسع عن حدود الكمال. ولكنه ليس من دول الحضارة أيضا من لا يصغي إلى نداء الوجدان وصوت الخلق فيغضي عن تعقب الجاني وأخذ البريء بجريرة المجرم إلا ما ساق إليه خطأ القضاء والعصمة لله.
أما حكومتنا الغابرة، فلم يكن هذا شأنها بل كان الداء منبعثا من حيث يجب أن يكون الدواء، ولا هم للقابضين على زمام الأحكام إلا سد مطمع وادخار ثروة ليوم عصيب كيوم الدستور الذي ابتلوا به، وسواء عليهم أعمر الملك أم اندثر، فكلهم قائل قول لويس الخامس عشر: وبعدي الطوفان.
وما قولك بمصير حكم هؤلاء هم حملة لوائه إذا ذل أحدهم تذرع بالغدر والنميمة لنيل مآربه، وإذا ظفر واستقر على عرش جبروته نظر إلى الناس نظر الرتيلاء إلى الذباب.
فكان شأنهم مع هذه الملة شأن عصابة قرصان يطوفون البحر بسفينتهم، فلا هم بمأمن من فتك مدافع وبطش رقيب، ولا الضاربون بعرض ذلك البحر بمأمن من غدرهم.
فبعد ذلك من لا يلتمس عذرا لسائر مأموري الدولة في تراخيهم ويميل إلى الإغضاء عن بعض عيوبهم؟
إن نصوص القوانين صريحة بتنصيب «ذوي اللياقة» وعدم مؤاخذتهم إلا على ما جنته أيديهم وباستبقائهم آمنين في مناصبهم، لا يعزلون عنها إلا إلى أرقى منها. وهي صريحة أيضا بما خص ترقية المأمورين الملكيين والعسكريين.
ومع هذا فمن كان من هؤلاء المأمورين يأمن على بقائه في منصبه عاما واحدا، بل من كان على يقين إذا عين واليا لولاية أن يبقى في منصبه حتى يتربع في دست حكمه؟ وما أكثر أمثال هذا التذبذب في تعيين المأمورين.
عين رائف باشا واليا لبيروت سنة 1885، ووصلها أهله على أن يقدم إليها في باخرة الأسبوع التالي، فلما أرست الباخرة المنتظرة خرج معارفه لاستقباله مع رجال الحكومة، فإذا به انقلب إلى رءوف باشا متصرف القدس وانقلب أهل رائف باشا عائدين إلى الأستانة.
عين إسماعيل كمال بك واليا لطرابلس الغرب سنة 1895 وصدرت الإرادة السنية بإعداد باخرة خاصة لنقله إليها مع حاشية من المأمورين، وكنا من جملة المودعين فما كاد ينزل إلى الباخرة مع عياله وحاشيته حتى أمرت الباخرة بالبقاء فبقيت في ثغر الأستانة ثلاثة أيام ثم أرسل إلى طرابلس وال آخر.
ورد البصرة سنة 1882 خبر تعيين طليع باشا واليا عليها، فحمل له البرق رسائل التهانئ، فأرجع على بعضها أجوبة الشكر ورجعت على البعض الآخر أجوبة الإقالة.
ولو كان المأمور المعزول ينقل دائما إلى منصب آخر لما عظمت البلوى، ولكن الويل كل الويل لمن عزل لسبب أو لغير سبب، وكان فارغ الجيب أو قصير الرجل عن اللحاق بأحد صنائع «المابين»، فلقد شهدت رهطا من هؤلاء المأمورين الذين لم يجمعوا ثروة فعزلوا وعاشوا على مضض الفقر والمهانة. عرفت مديرا للتلغراف عزل من منصبه فلبث سنين على بساط الفاقة ، ولما نشبت به مخالب الجوع عين ساعيا للتلغراف بإسعاف رجل من قدماء مريديه براتب مائة وخمسين غرشا. والفقر خير من الموت.
وأعظم من هذه البلوى ما كان يتقاضاه عمال «المابين» وأنصارهم من الولاة وكل ذي منصب مرموق، ولو أذنت لنا بعض المصارف والتجار بمراجعة دفاترهم لاستخرجت منها ألوفا وملايين من النقود التي كان يمتصها أولئك العمال من ثروة البلاد، فيرسلونها تحاويل إلى الأستانة، خلا ما كانوا ينفذون صرا ومنسوجا ومجوهرا ومنقوشا بزخارف الصناعة. ولقد شهد العالم ما كان من وجود الحوالات بالألوف وعشرات الألوف من الليرات في جيوب الذين قبض عليهم من أولئك المختلسين وهم ينوون الفرار من وجه العدل بعد إعلان الدستور في هذه الأيام.
وأعظم من هذا أيضا ما فشا من الزيغ في تعيين المأمورين على هوى ذوي النفوذ بلا فحص ولا تدقيق ولا نظر إلى السلك وسابق الخدمات. فكم من وال صعد إلى الولاية وهو يتمنى قبلها أن يكون في حواشي حواشيها، أو معتمد سياسي وقنصل لم يمر بحياته على أبواب نظارة الخارجية مع أن القوانين صريحة بمنع هذه المجازفة.
عرفت رجلا عين واليا بلا سابق خدمة وما كان أعتاه في ولايته. ودرويشا عين متصرفا فما كان أجهله فيها، وبات جميع أعوانه يتفكهون بالهزء منه.
ويجب أن نلحق بما تقدم عدم التناسب في الرواتب بين كبار المأمورين وصغارهم، فالكبير يتقاضى فوق راتب أمثاله في أوروبا والصغير لا يعطى الكفاف من العيش، ولا تكافؤ أيضا بين أفراد بعض الدوائر كالجمعية الرسومية ومجلس الشورى وغيرهما؛ حيث ترى عضوا براتب ألفي غرش إلى جانب آخر براتب عشرة آلاف.
وأضف إلى كل ذلك تأخر دفع تلك الرواتب أشهرا في بعض الأحوال وضبطها كلها في أحوال أخرى، وانظر إذا كان من الممكن كف يد العمال عن الرشوة ومخالفة قول مدحت باشا كما مر في باب: «الدستور ورجال الدولة.»
عرفت مثمنا بإدارة جمرك براتب ثلاثمائة غرش ينقد ناظره مائة وخمسين عثمانية كل شهر حق إغضائه عنه. وعرفت كاتب رفتية براتب ثمانين غرشا يعول عشرة أنفس وله حظية ينفق عليها الألفين شهريا. وعرفت بإزاء أمثال هذين كثيرين من ذوي الرواتب المعتدلة يشكون العسر، ومنهم واحد براتب ألفي غرش يقتر على نفسه وعلى عياله، ويشكو الفاقة؛ لأنه لا يصرف له في كل السنة إلا راتب ثلاثة أشهر.
فانظر الآن إلى كل هذه الصدوع وما ينشأ من رأبها بحكم الدستور؛ إذ يقلد المناصب أربابها وترتفع عن عواتقهم الضرائب التي تثقل عواتقهم فيثقلون عواتق الأمة، وتنظم أسلاك المستخدمين فيندرج كل في سلكه إلى حيث يسوقه جده وإخلاصه في الخدمة، وتتعادل الرواتب فيعطى كل جزاء عمله، وينتظم دفعها بلا تأخير، ويمتنع العزل بلا محاكمة، وتتمهد سبل الترقي بلا محاباة، ويعاقب المرتشون بلا رحمة ولا سبيل للرحمة بعد إزاحة تلك الأسباب من وجوههم. لا ريب أن رتق هذا الفتق وحده ينتج من الفوائد الناجمة عن انتظام الأحكام وراحة الآمر والمأمور وزيادة الدخل وإصلاح الأخلاق ما لا ينتجه بذل الملايين.
ولا يذهبن عن بالك أيضا أن إصلاح الحال يصلح بالطبع أخلاق الرجال؛ فلئن فسدت أخلاق معظم المأمورين في الزمن الماضي فذلك لأن قادة الأحكام كانوا كتلة فساد لا بد من تناثر جراثيمها إلى ما لصق بها، فلقد عرفنا نفرا ممن اتهموا أفظع التهم عرفناهم قبل استعلائهم واستقرارهم على منصات النفوذ، فكانوا أشد الناس تمسكا بالحرية وأشدهم تذمرا من الاستبداد وأكثرهم مغالاة بطلب الإصلاح، فلما ألقيت إليهم أطراف حبال الاستبداد كان لا بد لهم إما من التشبث بها طلبا للرفعة والمال والنفوذ، وهذا ما جنح إليه فريق منهم فاضطر إلى تناسي مذهبه القديم - كما أسلفنا - وإما من صرف الوجه عنها حرصا على الناموس أن يعبث به عابث وهو ما آثره فريق آخر فنبذ واطرح، ولولا إعلان الدستور لبقي حتى الآن في زوايا النسيان أو وهدة الهوان.
فلا ريب، إذا، أن إعلان الدستور وحده مصلح من أخلاق المأمورين الفاسدة في زمن الحرية والعدل ما لم يكن من الممكن أن ينجع فيه دواء في زمن الاستبداد والظلم.
الدستور ومالية الحكومة
لم يكن من مصلحة الحكومة الغابرة أن تضع ميزانية واضحة للدخل والخرج؛ لئلا يفتضح أمرها في كثير من أبواب الخرج، وتنكشف طرق التبذير وتبديد الأموال، ومع هذا فإنه يؤخذ من تصريحات نظارة المالية أن الدخل يتراوح بين السبعة عشر والعشرين مليونا من الليرات العثمانية.
وليس من الغريب أن يكون ذلك كل دخل هذا الملك الفسيح، وهو لا يكاد يربو على دخل الحكومة المصرية، ومصر ليست إلا جزءا منه، وإن استقلت استقلالا إداريا. فإن مصر بلاد عمرت بعد الخراب والبلاد العثمانية بلاد كادت تخرب بعد العمار، ولكن الغريب أن يبدد ربع هذا الدخل أو ثلثه - على قلته - في طرق التخريب وتوسيع الخرق.
إننا نحرر هذه السطور ولم يكد يمر عشرون يوما على استلام الأحرار أزمة الأحكام. ومع هذا فإن الوفر الحاصل حتى الآن من الأموال التي كانت تذهب نفقة حراما يبلغ زهاء خمسة ملايين من أربعة مصادر ليس إلا، وهي:
أولا:
إلغاء رواتب الجواسيس ونفقاتهم السرية.
ثانيا:
إلغاء رواتب جم وافر من عمال «المابين» ونفقاته التي كانت تذهب هباء منثورا.
ثالثا:
إلغاء رواتب الكثيرين من مأموري الحكومة الذين لم يكن لهم شأن في خدمتهم إلا قبض الراتب كثلثي أعضاء مجلس الشورى وكثيرين من أعضاء الجمعية الرسومية وبلدية الأستانة (شهرامانت) ومجلس المعارف وهلم جرا. ويدخل في زمرة هؤلاء كثيرون من الذين كانت الرواتب تدفع لهم وهم في بيوتهم، لا يأتون عملا، وإنما ينسبون نسبة إلى بعض دوائر الحكومة ليقبضوا رواتبهم منها.
رابعا:
تخفيض الرواتب الباهظة لكبار المأمورين.
هكذا كانت تبدد أموال الخزينة وصغار المأمورين يتضورون جوعا، وحماة البلاد من أنفار الجند يصبرون على مضض العيش حفاة عراة.
وليس من مزاعمنا هنا أن نرسم خطة لتنظيم مالية الدولة، ولكننا ونحن من أفراد هذه الأمة نود أن يطمئن أبناؤها لماليتها اطمئنانهم لعدل الدستور، وليعلموا أن مالية الحكومة ليست على ما كان يبدو عليها من الضعف، فالمجال متسع لإنمائها إلى ما يعادل ثروة أغنى الدول الأوروبية، فإن كل ظواهر الحال تبشر بتحقيق هذه الآمال.
دع الآن المستقبل وآماله وانظر إلى أبواب الدخل في الحالة الحاضرة؛ تر أن التبديد فيه لم يكن دونه في الخرج، فإن الخلل الذي كان سائدا في الإدارة وعدم اطمئنان عمال الحكومة على مراكزهم واضطرارهم إلى استرضاء رؤسائهم بالمال الذي لا تتسع له ثروتهم ورواتبهم، كل ذلك فتح باب الرشوة على متسع مصراعيه، فإذا أخذت مثلا موردا من أعظم موارد الدخل كالرسوم الجمركية، وعلمت أن كثيرين من مأموري هذه الإدارة يجمعون الثروات ببضع سنوات وفرا خالصا بعد دفع ما عليهم من الضرائب، كما رأيت في باب المأمورين؛ اتضح لك - لأول وهلة - أن خسارة الخزينة كانت عظيمة مهما كان حرص بعض نظارها ونزاهتهم في بعض الأحيان.
ثم إذا علمت أيضا أن كل غرش يدخل جيب المأمور رشوة واختلاسا على هذا المنوال يخرج من مال الخزينة ثلاثة غروش بأقل تعديل؛ لأنه لا بد من ذهاب ضعفي الرشوة للراشي والرائش والبطانة والأذناب؛ زدت روعا لغوائل الغبن الفاحش وأيقنت بحصول الزيادة العظيمة في الدخل مع إصلاح الإدارة وتأمين المأمورين وزيادة رواتب صغارهم ولتقس الحكومة ما شاءت بعد ذلك على المرتكبين منهم.
فإذا فرضنا أن الداخل في جيوب المأمورين بطرق الاختلاس، لا يربو في كل جمارك السلطنة على المليون ليرة، فالزيادة المأمول حصولها مع بقاء التجارة على حالها تناهز ثلاثة ملايين.
خذ الآن سائر أبواب الدخل التي تجبى فيها الأموال بيد عمال الحكومة لحسابها، حتى بصرف النظر عن المخصص منها لإدارة الديون العمومية، تر الخلل نفسه فاشيا فيها جميعا وإن تباين فيها الحيف، فالأعشار ورسوم الأراضي وسائر الأموال الأميرية يشمل الظلم بجبايتها الحكومة والأهالي. أما الحكومة فلما تقدم من الأسباب، وأما الأهالي فلأن الغني منهم يطمع به ولكنه قد تشفع له الواسطة والمال، وأما الفقير فينهب ويعرا ولا شفيع له.
وعلى ما تقدم قس أيضا جميع الإدارات الخاصة التي تؤخذ فيها الرسوم بيد عمال الحكومة لحسابها.
وأضف إلى ذلك ما استردته الحكومة وتسترده من الأراضي الأميرية غير الأوقاف التي كانت ذاهبة هبات متفرقة فأرجعت إلى إدارتها، وزد عليها أراضي الحكومة المهملة الصالحة مذ الآن للزراعة، والمعادن الجاري استخراجها بيد غير أصحابها والامتيازات التي أصبحت الحكومة في غنى عن بعثرتها يمينا وشمالا.
إذا نظرت إلى كل ذلك هان عليك أن تتصور مع همة الحكومة الحالية أن الدخل سيتضاعف بأقل من عشر سنين.
وهو معلوم أيضا أن ثروة الحكومة مرتبطة بثروة الأمة، وأن موارد الثروة الدفينة في البلاد العثمانية مما يبهر العقول، وأن جميع طرق استخراج تلك الثروة قد تسهلت وأزفت ساعة الشروع في العمل.
فلا يستغربن إذا أحد شدة تفاؤلنا بالخير، وقولنا إنه بعد استثمار تلك الثروة ببضع عقود من السنين لا يقل نصيب الحكومة منها مع ما هو متوفر لديها الآن عن الثمانين مليونا دخلا سنويا.
وإننا آتون فيما يلي على بيان إجمالي لموارد تلك الثروة ورجاؤنا أن نكون على مقربة من الصواب «وغد أمره قرين السرائر.»
الدستور وموارد الثروة
الزراعة
ألق نظرك على رسم الكرة الأرضية وأمعن في بلاد الدولة العثمانية؛ يتضح لك - بصرف النظر عن كل ما انفصل عنها - أنها لا تزال قابضة على صفوة خالصة من قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. فلنغادر الآن البحث في مواقع هذا الملك المتسع الأرجاء بالنظر إلى القوة والسياسة، ولنقصر الكلام على الزراعة التي كانت ولا تزال أثبت موارد الثروة لهذه البلاد وكل البلاد.
تبلغ مساحة البلاد العثمانية - عدا الولايات الممتازة - مليونا و156 ألف ميل مربع، فإذا ضممت مساحة فرنسا، وهي 204091 ميلا إلى مساحة ألمانيا، وهي 208738 ميلا إلى مساحة إنكلترا، وهي 121115 ميلا إلى مساحة إيطاليا، وهي 114409 أميال بلغ مجموع اتساع هذه الدول الأربع مجتمعات 638353؛ أي: ببعض زيادة على مساحة نصف السلطنة العثمانية.
فانظر الآن ماذا يكون مورد الثروة الزراعية في هذه الأقطار لو عمرت.
ليس من شأننا هنا أن ننظر إلى كل قطر على حدة، ونبحث بحثا فنيا في طرق زراعته وبيان الصالح منها، ووضع القواعد المؤدية إلى استثمار تلك الثروة، فإن ذلك درس موكول إلى عناية أربابه وأولياء مراجعه في الإدارة الدستورية، وهم - بلا ريب - فاعلون.
على أنه لا بد لنا من إلقاء نظرة عامة نتبين في خلالها ما يتدفق من ميازيب الثروة على البلاد من وراء تلك العناية؛ تطييبا لنفوس إخواننا العثمانيين، ولا بد لنا أيضا بنوع خاص من بذل الجهد لإزاحة وهم شائع بين ظهرانينا إذ يتساءلون حوالينا أنى يتسنى استحياء تلك الأراضي البائرة، ولا فلاح فيها ولا ساكن مقيم في ألوف من أميالها، فإذا طلب الزارع من داخل البلاد فليس ثم إلا البدوي وهو عدو الحضارة، وإذا طلب من الخارج فهنالك نفقات لا قبل للبلاد بها، وعقبات جمة تقوم بوجه انتقاله إليها، خلا ما ينظر من المحذورات في المستقبل.
فحسبنا للإحاطة بطرفي هذا البحث أن نقتطع من البلاد جزءا نتخذه مثلا يقاس عليه.
دونك الخطة العراقية فهي - مع شمولها بلاد ما بين النهرين - تمتد مما يلي ديار بكر جنوبا إلى خليج العجم شمالا، ومن حدود بلاد إيران شرقا إلى حدود سوريا غربا، وتشمل ولايات الموصل وبغداد والبصرة وقسما من ولاية ديار بكر. وهي بمساحتها تزيد عن مساحة فرنسا، وبخصب تربتها لا يفوقها قطر في العالم. تخترقها مجاري مياه أنهر من أعظم الأنهار، ففيها دجلة وفيها الفرات وفيها الزاب الأعلى والزاب الأدنى وذيالة وفيها شط العرب ملتقى الأنهر ذلك البحر الفياض المغني بمده وجزره عن وسائل الإرواء.
ذلك قطر قامت فيه بعواصمها أعظم دول العالم في العهد القديم، من البابليين، إلى الأشوريين، إلى السلوقيين خلفاء الإسكندر، إلى الفرس إلى فخر دول الإسلام دولة العباسيين.
ذلك هو القطر الذي رغب محمد علي على أن يستبدله بمصر وما والاها مما دخل في حيازته من بلاد الدولة العثمانية فلم يفلح.
ذلك هو القطر الذي وقف هيرودوتس أبو التاريخ واجما عن وصف تربته وخصبها خوف أن تنسب إليه المغالاة والكذب مهما خفف من الإطراء. ولا غرو فإن جميع دول العالم التي احتلته كان لها من ورائه الثراء العظيم. وهذه بابل مع زيادة عدد سكانها في إبان عظمتها على الخمسة والعشرين مليونا، وامتلاء خزائنها بالمال من موارد ثروته كان حاصل زراعتها كافيا لمعيشة سكانها، ويفيض عن الحاجة فيصدر مشحونا إلى سائر البلاد.
وهذه الدولة العباسية العظيمة - مع بسط سلطتها - لم تكن سلطنة اليونان والرومان بإزائها شيئا مذكورا، كان الكثير من دخلها من السواد وخراجه، وليس السواد إلا قسما من هذا القطر.
فلئن كان الزمان قد أشقاه كما تشقى الدول فتبدد سكانه وبارت أراضيه كل هذه القرون، فتربته لا تزال في أرضها، بل زادت خصبا بالراحة بعد العناء، ومياهه لا تزال تجري نادبة تلك الأزمان التي كانت تحيي فيها تلك الرياض فتتسرب في رياض فيحاء بدلا من جريها الآن مندفعة إلى البحر رهبة من وحشة تلك الفيافي والقفار.
انظر إلى مصر وهذا النيل يفيض لبنا وعسلا بما أحكم فيه من وسائل السقي، وما ساد فيها من الأمن والعدل، وقد كانت لعهد قريب كسائر ولايات الدولة يشكو فلاحها الفاقة وتشكو خزينتها الإفلاس.
ومع هذا فتربة العراق أصلح من تربتها، والأراضي السبخة أقل من نظائرها في مصر، والمطر في العراق يعين على السقي بما لا يتسنى نظيره في مصر، فمعدات الثروة الطبيعية في أفسح ميادينها، فإذا استتب الأمن وأحكمت وسائل السقي وتمهدت طرق النقل ووجد الفلاح؛ عادت إلى البلاد ثروتها في عهد بني العباس، وزادت.
أما الأمن فالحكومة الدستورية ضمين استتبابه فيما يلي من الزمن، وأما السقي فمن العبث أن نبحث في سهولته في هذا العصر - عصر العلم والاختراع - مع توفر الأدلة الأثرية والتاريخية على إحكام أصوله وطرقه في تلك البلاد منذ القدم. وهذه آثار النهروان وسدوده وترعه تشير إشارة واضحة إلى أنه كانت هناك مستودعات للمياه شبيهة بخزانات مصر تعاقب على إنشائها أهل بابل وأشور والفرس، ولم يغفلها المتقدمون من الخلفاء العباسيين حتى روي عن بعضهم أنه عجز عن الوقوع على مائة جريب خرب غامر في نقطة واحدة، وأننا لا نستغرب أن تكون الترعة العظيمة البادية آثارها في صحراء قاحلة من السماوة إلى ما بين البصرة والزبير إلى خليج فارس والمعروفة الآن بنهر عمر من أعمال بعض أولئك الخلفاء.
ولكنه منذ بدأ الضعف في الدولة العباسية في أواسط عمرها أخذت ثروة البلاد في التدني بأسرع مما ترقت، وظل الخراب يتوالى والسدود تقوض والترع تجف وتفيض المياه في المستنقعات أو تذهب هدرا إلى البحر ويفر الفلاح وتبور الأرض، إلى أن بات المزروع منها الآن نقطة في بحر.
ولقد كان بعض الولاة العثمانيين يفكرون حينا بعد حين ببعض الإصلاح، ولكنهم لا يتجاوزون التفكير إلى التدبير لاشتغالهم بالفتن الداخلية أو انصرافهم إلى مطمع خاص. وأول من فكر منهم فكرا حقيقا بالإصلاح كان رشيد باشا المعروف بالكوزلكلي، ولكن المنية فاجأته سنة 1857 ولم ينجز عملا.
وأما المصلح الحقيقي الذي وضع الخطط اللازمة وشرع في العمل فإنما كان مدحت باشا، ولو طالت مدة ولايته عشر سنين لغادر العراق جنة غناء؛ فإن المهندسين الأوروبيين الذين استقدمهم خاصة لوضع مشروعات الإصلاح وضعوا التقارير الوافية عن كل وسائل السقي وتجاوزوا إلى ما وراء ذلك بوضع الخرائط لكل الشئون الزراعية. وإذ كان ذا همة شماء لا يكاد يفكر حتى يشرع أخذ حالا مع كثرة الشواغل في شق الترع وتسهيل طرق الاتصال - كما أسلفنا في باب «رجل الدولة» - ففاجأه أمر الرجوع إلى الأستانة، وساد من بعده حكم الاستبداد فلم يقم بعده من الولاة من يصلح لإنجاز تلك الأعمال الخطيرة حتى ولو أراد.
أما الأفراد من أبناء الدولة والأجانب من المهندسين ووكلاء الشركات الذين فكروا باستحياء طرق السقي على مناهج مختلفة؛ فكثيرون. وقد كان كاتب هذه السطور فيما نعلم أول من رفع في العهد الأخير تقريرا مسببا إلى نظارة النافعة بهذا الشأن وطلب التصريح بإرواء بغداد وضواحيها بالرافعات البخارية، وذلك سنة 1892، وسعدي بك منفي قبرص محاسبه هي النافعة يومئذ كان من أعظم الموازرين، ثم فكر بعض الأجانب بالاتساع في العمل إلي ما يماثل أعمال الري في مصر. وكان السر وليم وليكوكس الإنكليزي أطولهم باعا وأكثرهم خبرة واقتدارا، وقد جرت لنا معه مباحثات تحققنا في أثنائها الخبر بالخبر، فصمم على الشروع في العمل إذا أسعفه الحظ بتأليف شركة ونيل الامتياز؛ فشخص من مصر إلى إنكلترا، فالأستانة، ومنها إلى العراق، ورسم - بعد عودته خطة من أكمل الخطط تشف عن علم واسع واختبار طويل، وأودع ذلك في كتاب دعاه «ري العراق» استتم فيه البحث من كل وجوهه. ولهذا أحببنا الإشارة إليه في هذا الموضع؛ لأنه يحوي من البحث العلمي والعملي ما يشوق الاطلاع على مثله رجال الدستور.
أما وسائل السقي المستعملة الآن فمع أنها من أقدم طرز، فقد كان يرجى منها ثروة عظيمة لو لم تكن منحصرة في دائرة ضيقة، وفي أكثر البلاد لا تكاد الأراضي المزروعة تتجاوز مجاري الأنهر، ومع هذا فإنه يفيض من حاصلات البلاد ما يشحن بمئات السفن إلى الهند وسواحل البحر الأحمر وأوروبا من التمر والحنطة والشعير والسمسم والهرطمان والأرز وغير ذلك مما اعتاد الأهالي زرعه، وإن كل ما زرعه الأفراد أيضا على سبيل التجربة أسفر عن أحسن النتائج؛ فقد زرع فيها القطن المصري وزرعت النيلة والتنباك والتبغ وقصب السكر، وكان جميعه أحسن أصنافه في أجود تربة في بلاده وأفلحت أيضا تربية دود الحرير على التوت الكثير المزروع فاكهة وخشبا وطعاما للماشية.
ولقد كان من الواجب مع هذا الخصب الغريب أن لا يهمل في تلك البقاع شبر بورا، ولكن الواقع بخلاف ذلك فإذا صعدت في شط العرب من مصبه عند الفاو إلى البصرة ومنها إلى القرنة عند ملتقى الفرات ودجلة على مسافة تقرب من المئتي كيلو متر ورأيت جنائن النخيل الباسقة متراصة على أكثر تلك المسافة من على كلتا الضفتين، ولم تصعد إلى دكة قبة الربان على ظهر الباخرة لترى ما وراء تلك الرياض، خيل لك أنك في بلاد عامرة غاصة بالسكان، ولكن لو وقفت بك الباخرة على أحد الصوبين ونزلت منها متوغلا بين تلك الجنائن؛ علمت أن نظرك قد خدعك، وأن العمار في أكثر تلك الأرض لا يتجاوز الجرف إلى أبعد من ميل إلى ميلين، وأنك في بعض المواضع ترى الأرض البور متصلة حتى إلى ثغر النهر.
وما أعظم ما تكون دهشتك إذا علمت بعد ذلك أن جميع تلك الأرض في غنى عن كل وسائل العلم والاختراع لخزن الماء لإروائها إذ يتناوب المد والجزر مرتين كل يوم وليلة في خليج العجم، فيقف ساعة المد في وجه مجرى المياه العذبة؛ فتنقلب على عقبها مرتفعة فتملأ الترع والأنهر المحفورة بين تلك الأرض فترويها بلا نفقة ولا عناء على طول تلك المسافة إلى القرنة، ولا تقف هنالك بل تتجاوز شط العرب إلى مجرى كل من الفرات ودجلة على مسافة أميال.
فالأرض التي تتناول الماء بتلك السهولة لا يبقى على صاحبها إلا أن يفتح لها مجرى تسير فيه مهما طال واتسع، ومع ذلك فهي على ما ذكرنا من ضيق النطاق وذهاب فائدة كل ما وراءه.
فإذا كانت تلك حالة الأرض الغنية عن يد الصناعة لسقيها والمحيطة بمقر ولاية تضمن حفظ الأمن فيها، فما تكون حالة ما سواها مما يحتاج إلى خزن الماء أو مما توارى عن نظر الحكومة في الأطراف؟
وإن البصرة مع قلة ما يزرع من أرضها الفسيحة تعد بالنسبة إلى عدد سكانها من أعظم البلاد ثروة وأكثرها حاصلا، فما يكون من شأن تلك الثروة لو امتدت زراعتها إلى مئات ألوف الأجربة التي تكنفها من كل جانب.
ولكنك إذا تجاوزت ملتقى النهرين في القرنة ومضيت صاعدا في مجرى أيهما شئت غضضت طرفك رهبة مما ينالك من وحشة تلك القفار التي كانت في غابر الزمن جنة الأرض، وإذا بدا لك بشر في غير المدن والقرى القليلة القائمة على مسافات شاسعة بعض من بعض هالك ما رأيت من مظاهر الفقر والأجسام العارية.
تصعد في دجلة من القرنة إلى بغداد في مسافة نحو أربعمائة وخمسين ميلا، وتصعد في مثل تلك المسافة إلى ما فوق الموصل، فما خلا ثلاثة أو أربعة بلدان صغيرة كالعمارة وكوت الإمارة وسامرا، لا تكاد ترى إلا قرية حقيرة أو نزلا من زراع القبائل ينزلون اليوم فيرحلون غدا.
وتصعد كذلك من القرنة في الفرات إلى أرض المنتفق والحلة وهيت وعانة حتى دير الزور ومسكنة قرب حلب؛ فيحصل لك مثل ذلك الانقباض وإن كانت مجاري الفرات أكثر ريعا من مجاري أخيه دجلة.
وقل مثل ذلك في مجرى ذيالة المنحدر من جبال العجم إلى بلد روز وخراسان حتى الخالص إلى مصبه في المخلاط بدجلة.
وإذا رأيت نهرا أو جدولا متشعبا من أحد هذه الأنهر سواء كان مسربا شقته يد الطبيعة أو ترعة شقتها يد البشر، وسرك ما علمت من نفعها في إرواء الأرض هالك من جهة أخرى ما تعلم بعد ذلك عما يتأتى عنها من الضرر أيام الفيضان لعدم إحكام السدود أو عدم وجودها؛ فتنتشر منبسطة على الأراضي المحيطة بها فتلبث أهوارا تفشو منها الأوبئة فتفني السكان، أو تبيت معاقل يتحصن بها شذاذ العشائر البادية فيبيتون بمأمن على سلبهم وعبثهم.
ولو حسبت الخسائر التي تتأتى عن طغيان المياه حتى في نفس بغداد سنة بعد أخرى، لتجمع لديك منها وحدها رأس مال يكفي لإنشاء خزانات تضاهي خزانات مصر عظمة ومتانة.
ولقد حاول بعض الولاة، والحق يقال، تلافي شرور ذلك البلاء غير مرة وأرصدوا المبالغ الوافرة وأنشئوا السدود حيث بلغ الضرر أشده؛ فكانت النتيجة أن الوكلاء والعمال يقتسمون ما بينهم ذلك المال إلا قليلا منه يقيمون به سدا من طين لا يلبث أن ينكسر من نفسه أو تقضه العشائر التي كانت تتخذه ملجأ ومأوى. ومع ذلك فإن جميع العشائر التي ألفت الزراعة لا تأنف أيان دعت الحاجة إلى إقامة تلك السدود عن التطوع للعمل فيه إما عن طيبة خاطر، وإما امتثالا لأوامر شيوخها وحسبها من الحكومة تشويقا وترغيبا أن تتعهد بإعطائها قسما مما يجف من تلك الأهوار بعد انحسار الماء عنها.
وقد كان مدحت باشا رسم لذلك خطة اضطر إلى مغادرة بغداد قبل إنفاذها، فنشط إليها وإلى بغداد رديف باشا بعد رحيل مدحت عنها بسنة، واتفق مع ناصر باشا السعدون شيخ عشائر المنتفق على إنشاء سد الجزائر العظيم، على أن يقوم ناصر بجميع نفقاته ويجمع ألوف العمال من عشائره، ولقاء ذلك يعطي قسما عظيما من الأراضي التي تنحسر عنها المياه، فهب ناصر للعمل واستعان خلا عشائره بأهل البصرة فانضم إليه قاسم باشا الزهير ببضعة آلاف من عربانها، ولم تمض بضعة أشهر حتى تم إنشاء ذلك السد، وهو وحده لو بقي قائما لكان ينبوع رزق وخير لا ينضب؛ إذ كان يصلح هواء ولاية البصرة بجفاف تلك الأهوار وتغزر مياه الفرات بارتدادها إلى مجراها، وتعمر كل البلاد الممتدة من سوق الشيوخ إلى البصرة على مسافة أيام.
ولكنه من جهة كان غير محكم البناء وغير قائم على أصول الصناعة، ومن جهة أخرى رأى ناصر نكولا من الحكومة عن إنفاذ ما تعهدت له به، ومن جهة ثالثة ضاقت المسالك بأوجه قبيلة المعدان التي كانت تنزل بجواميسها تلك الأهوار، فما مضت مدة وجيزة حتى تقوضت أركان ذلك السد فتفجرت المياه وانتشرت فغطت تلك السهول فغادرتها كما كانت ميدان بلاء ووباء.
ولا شك أن تلك الأعمال الخطيرة لو لقيت من الحكومة أقل عناية والتفات لقامت على أمتن ركن وأسهل سبيل، وسد الهندية أعظم دليل يستشهد به.
كان أهل الحلة يشكون عكس ما يشكو منه أهالي ولاية البصرة؛ فإن ترعة الهندية (المدعوة بهذا الاسم نسبة إلى أميرة هندية شيعية قدمت في أوائل القرن الماضي لزيارة مشهد علي والحسين في النجف وكربلاء، فراعتها قلة الماء فيهما فشقت هذه الترعة على نفقتها) أخذت تتسع على مر الأيام حتى تحولت إليها مياه الفرات وانحسرت عن جميع الأراضي الممتدة من المسيب إلى الحلة، فكان الخطب عظيما وضج الأهالي بالويل والثبور، وتبرعوا بتقديم النفقة والعمال فقبض عمال الحكومة المال جميعه وأنفقوا ربعه في العمل فأقيم سد لم يعش إلا أياما معدودات، فرجعوا إلى جمع المال مرة أخرى وفعلوا فعلتهم الأولى فأسفرت عن تلك النتيجة.
وسنة 1889 عين سري باشا واليا لبغداد، فخالف خطة سلطانه وطلب المال والمهندسين من الأستانة واستعان بوكلاء الأراضي السنية، فبادرت الحكومة بإرشاد سفارة فرنسا إلى إرسال بعثة علمية يرأسها شندرفر المهندس الفرنسوي فقدر النفقات اللازمة بثمانمائة ألف فرنك لا غير، وقد كان الولاة أنفقوا أضعاف ذلك المبلغ فلم يأت بثمرة، فأرصد المال في الحال وأقام شندرفر وأعوانه على العمل بعلم وإخلاص بضعة أشهر ، وانتهوا منه سنة 1890 فرجعت المياه إلى مجاريها وعمرت الحلة بعد أن كانت على قيد شبرين من الخراب التام، وحييت ألوف الأجربة من أملاك الأهالي ومستملكات الخزينة الخاصة - وهذا هو العمل الوحيد من نوعه في أيام الحكومة الغابرة.
على أنه لا يجب أن ننسى هنا تذرع المقربين بكل وسيلة من الظلم لتبييض وجوههم المسودة؛ إذ قام وكلاء الخزينة الخاصة بدعوى الحرص على المصلحة، فاستقطعوا الجانب الأعظم من أملاك الأهالي وأضافوها إلى الأراضي السنية، وكان جزاء المطالب بحقه المبيت في ظلمات السجون، ورحم الله إبراهيم الخكري فإنه مات بتلك الحسرة.
ذلك مجمل ما يقال بالإيجاز عن أرض العراق وحالتها الزراعية في الوقت الحاضر، ولقد يظن لأول وهلة - كما تقدم - أن أرضا هذه حالها من الإهمال وقلة الرجال لا يتسنى استحياؤها إلا بعد معاناة لأهوال ومرور السنين الطوال، فلا بد لدفع هذا الريب من إلقاء نظرة عامة على القبائل البادية المنتشرة في تلك الأصقاع.
فإذا نظرنا أولا إلى الفلاحين المشتغلين الآن بزراعة الأرض العامرة في العراقين العربي والعجمي رأيناهم جميعا من أبناء تلك القبائل العربية ومن بعض القبائل الكردية في أعالي البلاد يقبلون بجد ونشاط على حراثة الأرض من الفاو عند خليج العجم إلى ديار بكر بطريق دجلة وإلى مقربة من حلب بطريق الفرات.
فإذا تيسر لهم المال والأمن تحضروا ولبثوا في مواضعهم، وإلا فالبيداء غير بعيدة عنهم فيرجعون إلى بداوتهم، فالذين طال عهدهم بحراثة الأرض كالدواسر والعوامر قرب مصب شط العرب، والعيدان قرب البصرة في العراق العربي، وبني كعب على ضفته الشرقية في العراق العجمي يكادون لا يفترقون بشيء من طباعهم عن زراع الحضر إلا بشيء من النزعة البدوية يهبون إليها عند تفاقم الظلم، ويلحق بهؤلاء ألوف الفلاحين من عشائر المنتفق العديدة المنتشرة على شواطئ الفرات مما يلي سوق الشيوخ والسماوة والحلة وبني ربيعة فيما يلي كوت الإمارة، وهنالك عشائر كثيرة ممن يتراوح بين البداوة والحضارة تبعا لأحوال الزمان وسياسة الحكام كبني أسد وبني لام على دجلة وبطون وأفخاذ كثيرة من عشائر المنتفق على الفرات، ويلحق بهؤلاء بعض أفخاذ شمر والقبائل الكردية النازلة في صعيد العراقين.
وإنى مورد لك الآن برهانا حسيا يثبت لك سهولة الوسائل المؤدية إلى إقبال أبناء تلك العشائر بكليتها على حراثة الأرض.
إن للخزينة الخاصة في تلك البلاد أملاكا متسعة تعرف بالأراضي السنية، وليس من غرضنا الآن التعرض لتاريخها وطرق استملاكها، فنقصر البحث في كلمة عن فلاحها.
ارتأى وكلاء الخزينة الخاصة، ونعم الرأي ما ارتأوا، أن يخصوا فلاح الأراضي السنية بنعم تشوقه إلى الإقامة على حراثة الأرض؛ فأعفوه من الخدمة العسكرية، ووسعوا له في الرزق، وجعلوه بمأمن من تعدي الحكام، ورفعوا عنه جميع التكاليف العامة والخاصة؛ فاطمأن وأخلد إلى السكينة وانقطع إلى زراعته، فأخصبت أرضه فأشبعته فارتاح إلى الحضارة ونبذ البداوة نبذا مؤبدا، وأصبح في نعيم تحسده عليه سائر العشائر حتى بات كثيرون من رؤساء العشائر يتقربون ببذل المال رشوة إلى من يفسح لهم مجالا فيها ينزلونه ويقسمون الأيمان ويعطون الضمان على إخلاص النية وصدق الخدمة.
ذلك مثال واحد على فعل المجاملة بأولئك العربان، وأما أمثلة السياسة الخرقاء والظلم فلا يحصرها إحصاء، ودونك مثالا يتناول المسألة من طرفيها.
كانت البقعة المحيطة ببلدة العمارة منذ بضعة عقود من السنين قاعا بلقعا ليس فيها إلا شرذمة من الجند تقيم فيها بين البصرة وبغداد؛ اتقاء لشر القبائل البادية، ولهذا كانت تدعى الأوردوي نسبة إلى نقطتها العسكرية، فهاجت الحمية أحد المتصرفين فما زال يجامل ويشوق بعض الزعماء من بني أسد وبني لام حتى أسكنهم هنالك وخفف عنهم الضرائب؛ فحرثوا الأرض وزرعوها فعمرت وأثمرت، وكانوا كلما زاد اطمئنانهم زادوا عددا وزاد حاصل أرضهم، وتبدل حال ذلك القفر بمدة خمس سنين، ثم عزل ذلك المتصرف وليس في الوقت متسع للتحري عن اسمه وحقه أن يدون بحروف الثناء، فابتلاهم الله بخلف أعماه الطمع وأصماه الجشع فدعا إليه الشيوخ وزجهم في السجن استنزافا للمال؛ فاحتالوا تخلصا من مخالبه الناشبة برقابهم متظاهرين بإخلاص النية وصدق الولاء وطلبوا إليه أن يرفقهم بمن يحمل إليه المال بعد الإفراج عنهم فاطمأن لهم؛ لأن جميع حاصل الزراعة كان لا يزال على بيادره، فقاموا في حنادس الليل وحملوا ذلك الحاصل على أباعرهم وانقلبوا راجعين بخيامهم إلى بداوتهم، وبارت الأرض مدة طويلة إلى أن عادت فسكنتها بعض فصائلهم بمواثيق مغلظة. ومن أجزاء تلك الأرض الآن الكحلة وحدها يقدر حاصل زراعتها سنويا بأربعين ألف ليرة، وهي من جملة ملحقات الأراضي السنية.
وإن لنا من أمثال هذا التبدي بعد ذلك التحضر ما يملأ الصفحات العديدة فنجتزئ - خوف الإطالة - بما تقدم مكتفين بالإشارة إلى أمثاله في عشائر المتفق والدليم إلى ما فوقها من قبائل شمر والعشائر الكردية.
وليس بالأمر اليسير إحصاء تلك القبائل وحصر العدد الذي يمكن استخدامه في الزراعة، ولقد أجهدنا النفس مدة سنوات بمخالطة بعض العشائر، واستقراء أقوال الثقات، وتتبع آثار بعض غزواتهم، واستماع أخبار بعض شيوخهم، وملاحظة سابلتهم في الحواضر؛ فلاح لنا من وراء كل ذلك أن القبائل البادية العربية وحدها في الخطة العراقية وما يليها من بادية الشام حتى أطراف الأناضول، وما يلي العراق إلى نجد، ومنها إلى نجد والحجاز واليمن وبادية عمان وحضرموت لا تقل عن السبعة ملايين.
وإن لدينا في ذلك جداول طويلة لا يتسع لها هذا الموضع يؤخذ منها أن نصف هذا العدد منتشر في الخطة العراقية وبادية الشام في أرض خصبة التربة غزيرة المياه، فإذا أسقطت من هذا النصف نصف مليون وقسمت الباقي ثلثين للعراق وثلثا لسوريا، كان لك مليونا نسمة تضيفها بأسهل الطرق إلى فلاحي العراق، وليس هذا العدد مما يستهان.
ثم إذا علمت ما يكون من ازدياد هذا العدد بانقطاع هذا الجم الغفير عن الغزوات والتعرض لمشاق البداوة إذ حيث لا تفنيهم الحروب تنتابهم الأوبئة والمجاعات في سني انحباس الأمطار وهلاك الماشية ليبس الكلأ وقلة المرعى، وعلمت أن القبائل النائية لا تلبث أن تنضم إليهم بما ترى من فضل البداوة على الحضارة، واعتبرت أيضا أنهم بطبعهم كثيرو النسل؛ ثبت لديك أن البلاد ليست بها حاجة إلى الفلاح الأجنبي إلا ما يؤتى به للتعليم والتدريب، وأن فيها من بنيها ومجاوريها ما يكفيها عند الاقتضاء مئونة ذلك العناء.
ويؤخذ مما تقدم أن جميع القبائل المنتشرة في تلك الأصقاع لا تخرج عن إحدى فئتين: فئة ألفت الزراعة، وفئة أخرى لم تألفها بعد. فأما الذين ألفوا الزراعة فغاية ما يلزم لاستقرارهم في مواضعهم ومثابرتهم على العمل أن تحسن السياسة في معاملتهم، وترتفع عنهم مظالم جباة الأموال، وأن تنشأ لهم مدارس ابتدائية يتناول أبناؤهم فيها ولو شيئا يسيرا من مبادئ القراءة والكتابة في أول الأمر ريثما تعمر البلاد ويصير في الإمكان تعميم التعليم، وإذا خصوا بشيء من منح فلاحي الأراضي السنية كان ذلك غاية ما يتمنون.
وأما الفئة الأخرى التي لم تألف الزراعة فالنظر في أمرها يستلزم اهتماما أعظم وبذل شيء من المال. ولعل الحكومة تحسن صنعا بإقطاع كل فرقة منهم أرضا تتجاوز لهم عن مالها مدة سنين تملكهم في نهايتها جزءا منها بلا ثمن وتخفف عنها جميعها الضرائب مدة أخرى. ولا بد لها أيضا من إمدادهم بآلات الزراعة وماشيتها ولا حاجة بها بادئ بدء إلى بناء البيوت؛ لأن بيوت الشعر التي لديهم تكفيهم سنين عديدة، وخير لهم وللحكومة أن يشرعوا في العمل وهم في بيوتهم هذه؛ لئلا تأخذهم الوحشة إذا انتقلوا دفعة واحدة من الفراغ وبيوت الشعر إلى العمل والبيوت المبنية بالحجر أو الطين، ولا بد أيضا من إمدادهم خلا بذار الزرع وفسائل الغرس بشيء من الحبوب طعاما لهم قبل أن تغل لهم مزروعاتهم كفاية قوتهم.
فإذا توفرت لهم كل هذه الوسائل السهلة المنال، وتيسر لهم بعناية الحكومة من يعلمهم الزراعة، ويدربهم عليها؛ فلا أسهل من ارتياحهم إليها.
أما سقي الأراضي التي يقطعونها فليس بالأمر الصعب حتى في السنين الأولى، فإن في البلاد ترعا كثيرة مردومة وترعا أخرى ضيقة وقصيرة المجال، وأراضي كثيرة في صعيد العراق وأوساطه تكفي بعض المزروعات فيها مياه الأمطار، فإذا أسكن بعضهم في هذه الأراضي الأخيرة اكتفوا، مدة سنين، بماء المطر إلى أن تستكمل أسباب الري، ويعان النازلون على الترع المردومة والترع الضيقة القصيرة على تطهيرها وتوسيعها ومدها على مسافات ، ولقد يحسن أيضا حفر ترع جديدة على مقربة من بعض البلاد الآهلة بالسكان لسهولة إيصال حاصل الزراعة إليها. ولقد رأيت مما تقدم أنهم لا تعلو بينهم صيحة شيوخهم حتى يهبوا إلى العمل هبة رجل واحد، وما أسهل استخراج تلك الصيحة من الشيوخ.
ولا شك أن الحكومة لا تكتفي بهذه الوسائل الابتدائية لإحياء بلاد هذا شأنها فلا بد من اتخاذ الوسائل الصناعية لإرواء جميع الأراضي، وتسهيل سبل الاتصال، ونقل الحاصلات بطرق الحديد ومجاري الأنهار والترع، ولكن ذلك يقتضي وقتا يحسن في خلاله أن تتخذ بعض الطرق التي أشرنا إليها أو ما هو من قبيلها.
على أن تعميم الري وطرق الاتصال على الأصول الصناعية الحديثة ليس الآن من الصعوبة بالمكان الذي كان فيه قبل إعلان الحكومة الدستورية، فقد بادت المطامع التي كانت تقف حاجزا في وجه جميع الأعمال الأخيرة. وقد زالت الموانع التي كانت تصد العمال عن العمل وذوي المال عن بذله ما لم يثقلوا كاهل البلاد بأضعاف أضعافه؛ ضمانا لهم وسدا لما يبذلونه طي الخفاء لأرباب السلطة والنفوذ.
فأما الفعلة - وعليهم مدار معظم العمل - فهم متوفرون في نفس البلاد.
وأما المال فإما أن يكون من البلاد أو من خارجها، فإذا أرادت الحكومة الإسراع في العمل والالتجاء إلى المال الأجنبي؛ فإن أرباب الأموال وشركات العالم أجمع تتسابق إلى بذل أموالها في عمل هذا شأنه لقاء فائدة يسيرة لتوثقها مما ترى من ضمان الربح. وسواء على هذه الشركات أقامت بالعمل لحسابها أم لحساب الحكومة دينا لها عليها.
وإذا شاءت الحكومة أن تقوم بتلك الأعمال بأموال العثمانيين فإننا على يقين أنه يتيسر لها ذلك أيضا، وإن اقتضى زيادة في الزمن لإنجاز العمل؛ لأن ما كان يبدو من العثمانيين من التباطؤ عن إنشاء الشركات لم يكن ناشئا عن قلة إلمام بنفعها أو تعذر وجود المال، وإنما كان لقلة ثقة بحكومتهم.
وإذ كان نشر العلم من أقوى الوسائل المؤدية إلى توطيد أركان الحضارة، وكان لا بد لهذه الحكومة الدستورية من إذاعة تعليم اللغة الرسمية ليسهل على العناصر المختلفة أن تتفاهم أيان شاءت؛ وجب أيضا أن تنشأ ولو بضعة كتاتيب تدرس فيها اللغة التركية لأبناء الشيوخ إلى أن يتيسر تعميم تعليمها؛ فإن ذلك يزيل من وجه الحكومة الجديدة كثيرا من العقبات التي قامت بوجه السلاطين في الزمن السابق لعدم اكتراثهم بنشر لسانهم بين أبناء رعيتهم، ولقد فكرت حكومة الاستبداد منذ أعوام بشيء من ذلك فأنشأت في الأستانة المدرسة المعروفة بمكتب العشائر، ولكنها جرت فيه على خلاف المقصود إذ كان أبناء الشيوخ من الطلبة فيه أشبه برهائن منهم بطلاب علم، وأحيطوا بالجواسيس، وأوذوا ولم يخف ذلك على ذويهم؛ فكان ذلك المكتب من أسباب زيادة النفور بدلا من التآلف.
وإنه لا يصعب على أي كان أن يتصور ما ينجم من النفع للعالم أجمع بعد إنجاز تلك الأعمال الخطيرة، وقيام المدن والقرى في بلاد تتلقاها بملء البشر بعد طول العهد بشدة شوقها إليها إذ تصبح تلك القفار رياضا نضرة ومصدر رزق ورخاء لأهلها ولسواهم بما يفيض من خيرها وتضاف إلى أمم الحضارة قبائل شتيتة هي بمثابة أمة كبيرة، قد طالما امتدت يدها في الأزمان السالفة إلى توطيد أركان التمدن.
وأما الدولة العثمانية فبعد أن كانت هذه البلاد علة ضعف وفقر ومعرة لها فستصبح - إن شاء الله - مورد قوة وغنى وفخر عظيم.
ولا حاجة بنا - بعد ما تقدم - إلى إطالة الشرح بوصف الحالة الزراعية في سائر البلاد العثمانية مما ولي العراق، من سوريا إلى الأناضول إلى الولايات الأوروبية وبلاد الغرب؛ فإن فيها جميعا بقعا لا تقل عن أرض العراق خصبا وغزارة ماء، وهي كلها متشابهة في الخراب وأسبابه من الإهمال والفتن والاستبداد حتى في ما جاور مقر السلطنة في نفس أوروبا كأن الخراب صار من مميزات هذا الملك الفسيح. ولا يصعب على الجغرافي السائح في أوروبا أن يحسن رسم حدود البلاد من تتبع الفرق الذي يبدو له واضحا بين مظاهرها ومظاهر ما جاورها من البلاد الأوروبية حتى في الممالك التي انفصلت عن جسمها. وحسبك تثبتا من ذلك أن تركب قطار سكة الحديد من الأستانة، فلا تصل جسر مصطفى باشا على الحدود البلغارية حتى ترى ما فعلت يد العمل والاجتهاد في هذه السنين القلائل.
وأما وسائل الإصلاح فهي وإن اختلفت بعضها في بقعة عما سواها بالنظر إلى طرق السقي وطبيعة البلاد وخلق السكان؛ فمرجعها كلها إلى توطيد الأمن والعناية بالفلاح، وقد اتضح جليا حتى الآن أن ذلك من أجل ما ترمي إليه حكومتنا الدستورية.
كلمة في سائر موارد الثروة
المعادن
لم تلتفت الحكومة العثمانية في زمن من الأزمان إلى تحري المعادن الموجودة في بلاد السلطنة بعناية تضمن استخراج تلك الكنوز الدفينة، ولكن كل الظواهر البادية من تشعب المناطق والتربة فيها وبحث السياح وطلاب الثروة بطريق الامتيازات واهتمام بعض الولاة وتقارير قناصل الدول تؤدي إلى الاعتقاد بوجود معادن كثيرة مختلفة الأنواع عظيمة الشأن. مما ظهرت آثاره ومما لم تظهر.
فالفحم الحجري وهو من أعظم أركان الثروة موجود في قسمي أوروبا وآسيا مما بذلت بعض الهمة في استخراجه كمعادن هركلي، ومما لا يزال مهملا كمناجم مندلي في ولاية بغداد. ومعادن الكروم والرصاص الفضي تستخرج بقلة من الولايات الأوروبية، ومثلها معادن الحمر في الأراضي السنية بسوريا والنحاس في أرغني بولاية ديار بكر، وفي مواضع كثيرة معادن ظاهرة، وتوشك أن تكون مهملة كل الإهمال، ومنها الذهب والفضة والأنتيمون والزرنيخ والسنباذج والزئبق والمنغنيس والحديد والقار الحجري والسائل والكبريت والبورق ومقالع الرخام على اختلاف أنواعه.
وليس ببعيد أن يكون فيها منابع بترول غزيرة. فقد شرع منذ نحو خمس وعشرين سنة باستخراجه من ضواحي الإسكندرونة ثم أهمل لأسباب غامضة، وأما في ولاية بغداد فوجوده محقق؛ إذ يستعمله أهالي مندلي وجوارها بحالته الطبيعية بلا تصفية، وقد كان مدحت باشا اهتم باستخراجه على الطرق الحديثة، فأنفق مبالغ طائلة على بناء معمل في بعقوبة استجلب له الآلات والمهندسين، وطالما بدت بوارق النجاح غادر مدحت الولاية فأقفل المعمل ولعبت به أيدي الدمار، وأما المياه المعدنية بجميع أنواعها الحارة والباردة فهي متفجرة في مواضع كثيرة لا يكاد يلتفت إليها مع ثبوت مضاهاتها لأحسن الأنواع من أمثالها في أوروبا، وهي كثيرة بعضها في أوروبا كمياه بورصة، وبعضها في آسيا كمياه وادي العمق بولاية حلب.
ومن الغريب أن مياه الحمة في فلسطين، التي كان يقصدها عظماء أوروبا للاستشفاء، وأنشأ فيها قياصرة الرومان حمامات تدل آثارها على عظمة لا مثيل لها في أشباهها بأوروبا، باتت مهملة لا ينتابها إلا القليلون من أبناء الجوار ممن لا يطيق الانتقال إلى أوروبا.
وأما الملاحات البرية والبحرية فكثيرة جدا، وبعضها يستخرج منه الملح بهمة وعناية فينتج دخلا غير قليل، ولا عجب بتلك العناية الخاصة فإدارة الديون العمومية هي الرقيبة عليها الحافظة لدخلها.
وفي الدستور القديم قانون واف للمعادن ضامن لحقوق الدولة والأفراد، ولكن الاستبداد كان يعبث به عبثه في غيره؛ فقد شاهدنا غير مرة باحثا مجتهدا أو مكتشفا خبيرا عثر على منجم فأنفق المال في البحث والامتحان وطلب الرخصة الرسمية باستخراجه وأجريت المعاملات المعتادة، وإذا بالإرادة السنية صدرت بإعطائه هبة أو لقاء بدل طفيف لأحد المقربين.
وأما الغابات والحراج، فقد كانت كثيرة جدا ومن أنواع شتى باد معظمها بالإهمال، ومع ذلك فالباقي منها كثير كحراج قسطموني وكليكيا في الأناضول، وغيرهما مما لا يفوقه شيء من أمثاله في بلاد أوروبا.
ولا شك أن الحكومة الدستورية ناظرة إلى جميع فروع هذه الثروة الدفينة والمبددة، وحريصة على لم شعثها وادخارها.
الصناعة
إن الصناعة في البلاد العثمانية أسوأ حالا من الزراعة، مع أن فيها منشأ كثير من الصناعات القديمة التي بادت كصناعة الزجاج والقرمز في فينيقيا. والنحت والحفر وصناعة التماثيل في جزر الأرخبيل. والرسم وما لحق به من نتاج الفنون الجميلة في القسطنطينية وما وليها من بلاد الروملي. وكان آخر هذه الصناعات عهدا بالاضمحلال صناعة القاشاني البديعة في دمشق الشام، وهو معلوم أن معظم الأمم القاطنة في بلاد الروملي والأناضول والجزر اليونانية وسوريا وأعالي العراق ممن اشتهر في أكثر العصور بالحذق والمهارة في الصناعة ولكن صروف الزمان التي انتابت بلادهم قوضت في جملة ما قوضت أركان صناعتهم، ثم قامت معامل البخار في أوروبا فكانت الضربة القاضية عليها.
ومع ذلك فلا يزال في كثير من هذه البلاد كثير من الصناعات الخاصة بها مما يستعمل لحاجات السكان من المصنوعات المعدنية من الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجارة الكريمة والمنسوجات الحريرية ومحوكات الصوف والقطن وصناعة الخشب والدباغة وزخرف البناء وغير ذلك، وإن لهم في بعض هذه الصناعات مهارة توشك أن تستغرب من قوم طال عهد القطيعة بينهم وبين نتاج الصناعة في العلم الحديث. وحسبك أن تدخل جامع الخليفة عمر الذي جدد بناؤه حديثا في دمشق الشام أو تنظر إلى المنسوجات الحريرية في كثير من المدن ونفس القرى؛ تتحقق أن جرثومة الصناعة حية تنهض منبعثة لأول دافع يدفعها.
ولا شك أن هذه الصناعات - على قلتها - تفيد البلاد فائدة جزيلة بما تستخرجه لأهاليها من لوازمهم، وما تفيضه من الرزق على العملة والتجار. ولكن هذه الفائدة لا تذكر بإزاء ما تحتمله البلاد بما فيها من يد عامل ونتاج تربة وطبيعة؛ إذ لا يكاد أكثر هذه المصنوعات يكفي السكان، وإذا استثنينا مصنوعات قليلة كالسجاد الذي يصدر من أزمير والصدف المنقوش الذي يصدر من بيت لحم والكهرباء من صنع الأستانة، فليس في البلاد العثمانية صادر صناعة إلى الخارج وأشد من ذلك عليها أن الوارد من المصنوعات الإفرنجية من نفس المصنوعات المحلية يربو كثيرا على ما يصرف في البلاد من مصنوع أهلها.
وأغرب من هذا أن في أوروبا مصنوعات كثيرة مما لا يستعمل فيها وإنما يصنع فيها ليرسل إلينا، ولربما جهل الصناع وجهة استعماله كالمنسوج المعروف باليازمة وكوفيات العرب المعروفة باليشمق وزجاج النراكيل. حتى الفيوس أو الطرابيش التي هي شعار العثمانيين لم ينشأ لها معمل إلا لعهد قريب بهمة الخزينة الخاصة، ولكنه لا يخرج إلا جزءا مما تستلزمه حاجة البلاد.
ولربما أخذوا مادة تلك المصنوعات من عندنا، فربح بها التاجر، وأرسلت إليهم فأنفقوا على نقلها ورسومها وأدخلوها معاملهم فأخذ العامل أجرته الباهظة، وأضيفت إليها نفقات الشحن والرسوم، وأرباح أصحاب المعامل والتجار فذهبت جزة الصوف من عندنا بثمن زهيد، وأعيدت إلينا طرابيش أو غيرها بأضعاف أضعاف ثمنها. وتوزعت أرباحها على أصناف الناس. ولم يصبنا منها إلا الثمن الأصلي الطفيف.
وإنه ليؤلم العثمانيين - بعد نهضتهم هذه - أن تكون تلك حالة الصناعة في بلادهم، وجميع مواد الصناعة ومعداتها متوفرة لديهم، فعندهم العامل الحاذق النشيط، وعندهم الفحم الحجري ومنتجات القوة المتفرقة في أنحاء البلاد، من منحدرات الأنهار الكبيرة إلى شلالات الجداول الصغيرة التي تولد الكهرباء بقوة ألوف الأحصنة، وعندهم أحسن المواد اللازمة لمعامل الحديد والخشب والزجاج حتى بناء السفن، وعندهم الحرير والصوف والقطن والكتان للمنسوجات على اختلاف أنواعها، وعندهم المعادن المختلفة وسائر اللوازم المادية. فإذا نشطوا من عقال الخمول فشأنهم في إتقان الصناعة لا يقل عنه في سائر الشئون.
ولقد حدت الهمة فيما مضى كثيرين منهم إلى إنشاء المعامل على الطرز الأوروبي فلم يفلح إلا القليل، وهذه معامل الورق في الأستانة وبيروت لم تكد تعيش حتى ماتت؛ إذ لم يكن في البلاد من ينشط الصناعة، وموازرة الحكومة مفقودة. ولكن حيث توفرت أسباب النجاح وساد الأمن وأخذت الحيطة اللازمة لإتقان الصنعة ما لبث الأهالي أن أفلحوا وانتزعوا الصناعة من أيدي الأوروبيين أنفسهم، وهذه معامل حل الحرير في جبل لبنان لا تخلو منها الآن بقعة من بقاعه وهي تكاد تكون كلها لأهله، وقد كانت منذ سنين قلائل بضعة معامل في يد الأوروبيين، فما تعلم السكان تلك الصناعة حتى شاد تجارهم معامل خاصة بهم. وبمدة يسيرة استولوا على صناعة جديدة على الطراز الحديث، فكانت مورد رزق عظيم لجميع سكان البلاد.
التجارة
إن بلادا كبلاد الدولة العثمانية، وهي عروة الوصل بين قارات العالم القديم الثلاث، كان يجب أن تكون قابضة على أوثق أزمة التجارة، فحيثما سرحت نظرك على موقعها في رسم الكرة، من ضفة الطونا إلى السودان، ومن بلاد إيران إلى بحر الأدرياتيك؛ رأيتها مرتبطة بآسيا وأوروبا وأفريقيا بصلات طبيعية تجعل لها ميزة خاصة تعز على ما سواها، وخصوصا أن لها ثغورا تشرف على البحار شرقا وغربا وشمالا في طريق لا يكاد يفصله فاصل من البحر الأحمر بترعة السويس حتى بحر عمان والأوقيانوس الهندي وخليج فارس.
وإن في هذه البلاد شعوبا كان لها في كل زمان - قديما وحديثا - شأن في التجارة عظيم، يطوف أبناؤها البحار، ويرودون القفار في سبلها طلبا للكسب والاستعمار، فحيثما استتبت لهم قوة اليد والمال زادوا على زمر تجارهم المقيمين في البلاد روادا يجوبون المجاهل في أقاصي المعمور، فيستعمرون استعمار الفينيقيين أو يستطلعون استطلاع العرب الذين بلغوا بطوافهم أطراف العالم الجديد، وإذا ضعفت قوتهم وقل مالهم ضربوا أشتاتا في قلب الأرض، واتجروا بالقليل من المال إلى أن يتجمع لديهم كثيره - كما يفعل المهاجرون العثمانيون في هذه الأيام.
فبلاد هذا موقعها وتلك صفات سكانها لا بد أن يكون أهلها يوما في مقدمة الأمم التجارية إذا التأم صدعها وصلحت حالها. وليس من غرضنا في هذا المجال الضيق أن نضع تقويما لتجارة البلاد ونصف الصادر والوارد، وإنما هي كلمة إجمالية نستكمل بها هذا البحث الموجز.
إن التجارة في البلاد العثمانية جارية بمجراها الطبيعي بمعنى أنها تقوى وتضعف بالعوامل الطارئة عليها، وقلما نرى للحكومة مسعى في إنمائها إلا ما أتى عن طريق التوسيع في وسائل النقل وأكثره صادر عن مساعي الأجانب. ولكن في تحويل هذه الطرق من جهة أخرى، أو فتح طرق جديدة خراب بلاد وعمار بلاد، كما جرى بعد فتح ترعة السويس؛ إذ تحولت جميع تجارة العجم وبعض تجارة الهند إلى هذا الطريق بعد أن كان الصادر والوارد يقطعان العراق إلى ثغر الإسكندرونة، فانحطت تجارة البلاد من ذلك الثغر إلى حلب وبغداد، وبلغ الضرر جميع البلاد الممتدة برا حتى الأستانة. وهكذا فإن فتح هذا الطريق الجديد أضر بتجارة جميع البلاد العثمانية، وإن ما نشأ عنه من النفع بالنظر إلى ثغور البحر الأحمر لا يذكر بجانب ضرره. ولا نعرف بلدا استفاد منه فائدة حقيقية إلا البصرة إذ سهل لها إصدار حاصلاتها - وأخصها التمر - إلى أوروبا. فلو كانت طرق الحديد ممتدة في البلاد امتدادها في أوروبا لخفت وطأة ذلك الضرر، فإن الطرق القليلة التي أنشئت حديثا في سوريا قد نشأ عنها رواج في التجارة غير قليل، ولا ريب أنه بعد بلوغ سكة حديد بغداد إلى خليج فارس، وتشعب الفروع منها إلى أطراف البلاد يكون للتجارة حركة لم تكن في الحسبان.
ومع أن الملاحة الوطنية بحكم العدم، فللثغور تجارة رائجة بفضل السفن الأجنبية. وأما البلاد البعيدة عن مشارف البحر كديار بكر والموصل وأريافهما، فما أشد ما ينالها من الضرر لصعوبة النقل منها وإليها. فلقد يشهد المراقب فيها ما شهد فرعون في مصر إذ أكلت البقرات العجاف البقرات السمان، ومرت عليها بعد سنة 1874 سنو خصب ورخاء فضاقت البيادر بحاصل الحبوب من نتاج الزراعة، ولم يكن في الإمكان إصدارها إلى الخارج لصعوبة النقل وغلاء أجرته مع رخص أثمان الحبوب، فبقيت ركاما بعضها فوق بعض إلى أن تلفت. ثم عقب تلك السنين زمن قحط فلم تأت سنة 1879 حتى اشتد الضيق، ثم كانت مجاعة فتكت بالسكان أي فتك، ولم يبلغهم المدد لبعد المسافة حتى فني منهم من فني وتشتت من تشتت من الفقراء، وابتاع الباقون من الموسرين قوت يومهم بدخل سنتهم.
على أن أمثال تلك النكبات سيمتنع حصولها بعد تشعب الطرق في البلاد، وإن تفاؤلنا بنمو التجارة في جميع أنحاء السلطنة لا يقل عنه بسائر وسائل النمو والارتقاء المادية والمعنوية.
وإذا اعتبرت أن في داخل البلاد جميع أصناف التجارة من حاصل الزراعة حبوبا وبقولا وثمرا وسائر ما تنبت الأرض ويربى فيها مما يستعمل نسيجا وصبغا ويدخل في الصناعات المختلفة وما تدخره الطبيعة من غاب ومعدن وحجر وصدف، وما يسرح على وجه الأرض من ماشية بلحمها وصوفها وجلدها من داب وطائر وسابح؛ إذا اعتبرت ذلك ونظرت بعين البصيرة إلى المستقبل فتصورت ما يكون من شأن جميع هذه الأصناف بعد بسط العدل واستتاب الأمن وتسهيل وسائل النقل برا وبحرا، وإذا أضفت إلى ما تقدم نتاج الصناعة المقبلة مع ما تعلمه من اتساع هذه البلاد وتوسطها بين الشرق والغرب؛ يخيل لك أنه لا يطول بها العهد حتى تصبح المحور الأعظم لتجارة العالم.
الأعمال العامة والشركات
إذا ضجت البلاد بالشكوى من إهمال الزراعة والصناعة وقلة العناية بإنماء التجارة فشكواها عظيمة أيضا لإهمال الأعمال العامة المنوط النظر فيها بنظارة النافعة.
ولسنا بمنكرين أن في البلاد طرقا حديدية ومرافئ قليلة وبعض الطرق للعربات وشركات قليلة لتوزيع المياه وما أشبه، ولكن كل ذلك نقطة من بحر من حاجة البلاد، فوسائل النقل وتقريب سبل الاتصال - وهي روح إنماء الثروة - لا تزال قاصرة على بعض طرق الحديد التي لا تفي بالمراد، وجميعها - ما خلا سكة حديد الحجاز - مما يدار بالامتياز بأيدي الأجانب بشروط فادحة تثقل كاهل الدولة والأمة.
ولقد كانت الحكومة وضعت لعهد السلطان عبد العزيز خطة مستوفاة لجميع فروع الطريق الحديدية التي يجب أن تخترق البلاد عرضا وطولا، ولكنها أهملت فيما أهمل إلا نزرا مما أنشأته الشركات الأجنبية. وأظن المقترح لتلك الخطة مدحت باشا.
وأما الملاحة - وهي قرينة طرق الحديد - فهي في جميع البلاد العثمانية اسم بلا مسمى. وإذا استثنينا بعض بويخرات تمخر في البوسفور لنقل المصطافين أو تقطع دجلة لحساب الخزينة الخاصة أو تتهادى بين أزمير والأستانة لحساب بعض الأهالي، فليس في البلاد العثمانية كلها طائفة سفن تجارية تزود الثغور العثمانية وغيرها لحساب القوة الحاكمة أو الأمة المحكومة.
أوليس من الغرائب أن تكون هذه البلاد المتسعة الأرجاء وثغورها ممتدة على ألوف من الأميال، وجزرها قائمة كالرواسي في قلب البحار، ولها من الإشراف على الشواطئ ما تحسدها عليه جميع دول أوروبا؟ حتى إنكلترا ملكة البحار مضطرة هي وحكومتها إلى استخدام سفن الأجانب في أقل الحاجات.
فإذا كان لنا زملاء مماثلون في التأخر والتقهقر في جميع الشئون فليس لنا من أمم الأرض أمة تماثلنا بتأخر ملاحتنا، وهذه أصغر الدول لا تعدم سفنا تجارية لها أو لأبنائها تمخر في عرض البحار، وهذه جارتنا إيران تجوب بواخرها خليج فارس والإقيانوس الهندي وغيرهما. وهذه الدول الصغيرة التي انفصلت من جسمنا باتت جميعها ذوات أساطيل تجارية.
وإذا كان سلك البحار بما يعد مسافة يسيرة عن الشاطئ مباحا لجميع الدول على السواء، وكان لنا غنى بسفن الأجانب لنقل ركابنا وأصناف تجارتنا، أليس من العار أن نكون مضطرين إلى نقل بريدنا بين ثغر وثغر على سفن الأجانب مسافة ساعات؟
وإذا أرادت الحكومة أن تتملص من تبعة هذا الإهمال زاعمة أن ذلك شأن الأهالي وأنها لم تصدهم يوما عن القيام بمثل هذه الأعمال؛ فحسبنا ردا لهذا الزعم الرجوع إلى موقفها إزاء الشركات الوطنية - كما سيأتي بعيد هذا - وإلا فسكان جميع الثغور البحرية أهل مجازفة في التجارة وإقدام في التجارة كما يشهد ماضيهم، وكثيرا ما يهب أفرادهم إلى بناء السفن الشراعية لتجارتهم، ولكن بعد أن قضى البخار على الشراع في الأسفار الطويلة باتت سفنهم الخاصة غير وافية بالمقصود التام.
انظر مثلا إلى اليونان أبناء الدولة المنفصلة من دولتنا، وإلى اليونان إخواننا في بلادنا وهم جميعا من دم واحد، فلماذا ترى لأولئك بواخر وشركات تسيرها شرقا وغربا ولا ترى لهؤلاء أمثالها؟ وانظر أيضا إلى العرب أبناء الدولة العثمانية وإلى إخوانهم من سكان حضرموت وبحر عمان مما خرج عن سيطرة الدولة، وهم أقل منهم علما ومدنية، فعلام لا ترى لعربنا أسطولا تجاريا ولأولئك أساطيل تعد سفنها بالمئات وهي إن كانت شراعية فإنهم يبنونها بأيديهم ويسيرون بها ماخرين بتجارتهم من ساحل بحر عمان إلى الهند والصين وجاوه وسيلان وثغور البحر الأحمر وخليج فارس.
فالملاحة من بعض جهاتها أشد لزوما من طرق الاتصال الداخلية؛ لأنها من جهة تربط البلاد بعضها ببعض، وهي من جهة أخرى عروة الوصل بينها وبين بلاد الأجانب. فهي بهذا الاعتبار من أعظم أركان الثروة والقوة والعظمة، وهذه الدولة الإنكليزية يشهد تاريخها أن أسطولها التجاري كانت يده في إنماء الثروة وإعلاء شأن البلاد فوق يد الأسطول الحربي بكل قوته وعظمته.
ومن لوازم الملاحة أيضا: إصلاح المرافئ، وهي على كونها تعد بالمئات ليس فيها ما يصلح لرسو السفن الكبيرة وإقامتها فيها إلا ما أعدته الطبيعة كثغر الإسكندرونة وأشباهها، ما خلا مرافئ قليلة أصلحت بيد الشركات الأجنبية كمرافئ الأستانة وأزمير وبيروت، فهذه جميعها أمور داخلة في مجال الإصلاح المتسع الذي اختطته الحكومة الدستورية لإعلاء شأن البلاد .
وليست وسائل النقل برا وبحرا داخل البلاد وخارجها على المسافات الشاسعة بأسوأ حالا من وسائل انتقال أصناف الناس على المسافات القريبة داخل البلاد، مما يمكن تسهيله بمد خطوط الترام أو تسهيل طرق العربات. ولقد طالما رأينا المثرين من العثمانيين سكان المدن يؤثرون الاصطياف في أوروبا تفاديا من مشقة السفر إلى أريفهم العذبة الماء النقية الهواء، ولا غرو فإن ابن دمشق الشام مثلا لا يعاني في قطع البحار وصعود الجبال إلى سويسرا نصف ما يعانيه هو وعياله بتسلق مشاعب الجبل الشرقي إلى إحدى قراه البديعة الموقع البهجة المناظر، هذا بصرف النظر عن سهولة المعيشة في تلك وصعوبته في هذه.
وإذا انثنيت إلى المدائن في قلب البلاد بدت لك أيضا تلك الصعوبة، وإن كانت أخف وطأة فإن الشاخص مثلا في نفس بغداد من الباب الشرقي إلى باب المعظم تعجزه السهولة التي ينتقل بها ابن باريس إلى ڨرساي أو ابن لندن إلى بريتن على مسافات تعادل أضعاف أضعاف تلك المسافة.
وقس على ذلك جميع شئون المدن الداخلية، مما يدخل في اختصاص البلديات من إنارة وتنظيف وتوسيع شوارع.
سألني أحد أصدقائي ممن لم يروا الأستانة أن أكتب له شيئا في وصفها، وكان ذلك في زمن الاستبداد يوم كانت جميع الرسائل تحت رحمة الجواسيس وكلمة نقد جريمة لا تغتفر، فقلت - تملصا من حراجة الموقف بعد وصف جمال ذلك الموقع الفريد: «وكأن الإنسان أشفق على ذلك الجمال الرائع أن تعبث به يده البشرية فغادره على فطرة خالقه.»
وأثناء معرض شيكاغو شخص إليها بعض تجار الأستانة فوصلوها بيوم مطير وبعض أطراف البلدة إذ ذاك غير مستتم التنظيم فكتبت إحدى الجرائد: «وصلت اليوم زمرة من زوار المعرض قادمة من القسطنطينية فأهلا بالضيوف، وإنه ليسرنا جدا أنهم وصلوا بمثل هذا اليوم والأوحال ملء الأزقة، فلا تأخذهم الوحشة لفراق عاصمتهم إذ يرون من قذارة شوارعنا ما يستأنسون به لذكرى وطنهم العزيز.»
وإن من قرأ نظام البلديات وجال في أنحاء السلطنة تتولاه الدهشة لما يرى من التناقض بين القول والعمل، بل يزداد دهشة مما يراه من فضل المدن الصغيرة على الكبيرة بإنفاذ مضمون ذلك النظام، فلو جلت في شوارع مدللي البلد الصغير، ثم طفت شوارع الأستانة تلك العاصمة العظمى، هالك ما رأيت من فضل الاعتناء بالصغير على الكبير، والسبب في ذلك أن ما يجبى من المال لحساب البلديات في المدن الصغيرة لا يذهب منه هدرا إلا ما يختلسه المأمورون. وأما في المدن الكبيرة فعوامل تبديد المال محيطة بالبلديات من كل جانب؛ فهناك الاختلاس العادي، وهناك الأوامر القاضية بصرف تلك الأموال بوجهات غير مشروعة بحجج شتى، أو تقديمها للخزينة قرضا لا يخطر في البال رده. ولا ننس أيضا أن قسما عظيما من أموال البلديات يذهب بإرادات سنية معاشات للمنفيين من الأحرار أو المتزلفين إلى ذوي الكلمة العالية من المقربين، فلا يبقى في خزانة البلدية غير ثمالة لا تشفي غليلا.
فلا تعجب - بعد ما تقدم بيانه - أن تكون أكثر الشوارع قذرة، والأزقة ضيقة معوجة، يصعب المرور فيها نهارا لكثرة الازدحام وليلا لاشتداد الظلام، ولو لم تكن يد العناية قد جعلت أكثر تلك المدائن في مواقع نقية الهواء لكانت الأوبئة تجرف السكان جرفا.
أما سائر الأعمال النافعة الخارجة عن اختصاص الحكومة والبلديات والتي لا تقوم إلا بتألف الجماعات لإنفاق المال فحالتها أشر وأدهى؛ إذ لا يكاد يوجد أثر للشركات الوطنية، وحيثما وجدت طريق حديد أو شركة لتوزيع الماء أو لإنارة بلدة وما أشبه فإنما هي بيد الشركات الأجنبية، ما خلا القليل من مثل الشركة الخيرية والشركة المخصوصة التي تنقل الركاب بين الأستانة وجزر الأمراء وضفاف البوسفور أو شركة ترامواي الكاظم التي أنشأها مدحت باشا ببغداد، ولكن منافع هذه الشركات منحصرة بيد أفراد قلائل، وليست أسهمها مما تتداوله الأيدي بسهولة تداول ما لسواها من سائر الأسهم لأسباب ليس هنا موضع بسطها، فليست إذا بالمثال الذي يقاس عليه.
ومن المضحكات أنك لو قلت هذا القول في زمن الاستبداد فأقل ما كان يصيبك من أسباب المهانة أن تكذب فيه، فيقال لك إن جميع الشركات في البلاد العثمانية عثمانية بمقتضى القانون، فيقال البنك العثماني وشركة الرزي (احتكار الدخان) العثمانية، فهل كان يتاح لك حينئذ أن تقول إن نعت تلك الشركات بالعثمانية إنما هو حلية لا تفيد كونها وطنية، وكيف تكون عثمانية بالفعل ومجالس إدارتها في باريس ولندن وفينا وبرلين.
وإن بعض هذه الشركات، كالبنك العثماني، وشركات طرق الحديد، وشركات الماء؛ قد أفاد فائدة يحق لها أن تقتضي تسطيرها في التاريخ، ولكن ذلك ليس بالمانع لنا من التصريح أن الشركات الوطنية أجزل نفعا - لو أمكن تأليفها وأحسنت إدارتها ولم تقيد حريتها.
ولقد يقول أنصار الاستبداد أن المانع من إنشاء الشركات الوطنية أسباب ثلاثة لا شأن للحكومة فيها. أولها: قلة المال. وثانيها: قلة رغبة الأهالي في الإقبال عليها. وثالثها: تعذر وجود المديرين الصالحين للقيام بالعمل. وهو كلام لا يخلو من الصحة في كل وجوهه، ولكنه لولا وجود سبب رابع هو: قلة الثقة بالحكومة لتيسر تلافي هذه الموانع الثلاثة شيئا فشيئا.
فأما المال فإننا لا نزعم أنه متوفر لدينا توفره في أوروبا، ولكننا مع ذلك لو حسبنا أموال العثمانيين الموزعة في الشركات الأجنبية داخل البلاد وخارجها لكان لنا من ذلك رأس مال يعد بالملايين. وهو إن لم يكن كافيا للقيام بجميع الأعمال اللازمة فلا ريب أن بعضه يكفي للقيام بجزء عظيم منها. وأما قلة رغبة الأهالي في الإقبال على أمر لم يألفوه، فمما تقدم يتضح أن ذلك زعم فاسد وإليك مثالا يثبت فساده بأجلى بيان.
أراد المرحوم برتقال باشا سنة 1892 - وهو إذ ذاك ناظر الخزينة الخاصة - أن يسير طائفة من السفن تمخر في دجلة بين بغداد والبصرة، ثم في الفرات بين البصرة ومسكنة؛ لتقوم مقام بواخر إدارة عمان التي أنشأها مدحت باشا، وكادت تئول إلى الاضمحلال. فخطر له؛ دفعا لمظان الريب عن الخزينة الخاصة - ونعم الخاطر - أن يؤلف شركة وطنية من أهالي العراق باشتراك الخزينة الخاصة، وكنا ممن أخذ رأيه في الأمر لسابق اطلاعنا على أعمال إدارة عمان. فقلنا: إن إقبال الأهالي على الاكتتاب سيكون عظيما على شرط أن تطلق يدهم في العمل، فخوبر والي بغداد فجمع التجار، ثم أرسل تقريرا ضافيا يقول فيه إن تجار بغداد وحدها مستعدون للاكتتاب بضعفي رأس المال المطلوب، فنظم برتقال باشا قانون الشركة، وجعل من جملة شروطه أن يكون الوالي (أو ناظر الأراضي السنية ببغداد) رئيسا دائما لمجلس الشركة، وأنه هو الذي يعين مواقيت سفر البواخر، فقلنا حينئذ إننا وإن لم نكن ممن اعتاد الرهان نراهن بكل ما عز وهان أنه لا يتيسر جمع شيء مما اكتتب به ما لم يلغ هذا الشرط، فلم يقع هذا القول موقع القبول، ولما اطلع تجار بغداد على مضمون ذلك القانون نكلوا جميعا وآل الأمر إلى إنشاء تلك البواخر لحساب الخزينة الخاصة، فسيرتها في دجلة على نية أن تسير أخواتها على الفرات.
وأما القول بتعذر وجود المديرين الصالحين لإدارة العمل من كل وجوهه، فهو صحيح ولكن الإفرنج لم يخلقوا مديرين للشركات، فما المانع أن نحذو حذوهم، ونتخذ منهم معاونين نتدرب بموازرتهم على إدارتها، فلا يمر زمن يسير حتى نعتاد ما اعتادوا، ونحسن ما أحسنوا، فإن حاجتنا إليهم من هذه الوجهة ليست دون حاجتنا إليهم للأعمال الهندسية وسائر ما سبقت لهم به خبرة لم ينلنا منها بعد غير نصيب ضئيل.
ثم إن من راقب أحوال البلاد الاقتصادية في الثلاثين سنة الماضية يرى في البلاد نهضة حقيقية لتثمير المال بواسطة المشروعات العامة، وإذ لم يكن للعثمانيين ثقة بحكومتهم وحكامهم كانوا حيثما أرادوا ولوج هذه الأعمال أو تثمير أموالهم بأسهم الشركات تستروا تحت أذيال الأجانب.
وإننا لا نزال نذكر أياما تقدمت إعطاء الامتياز بمرفأ بيروت، فبحث البيروتيون في المسألة على اختلاف نحلهم فقلنا لرجل من كبار موسريهم يتلهب غيرة على الاسم العثماني ويجود للجند بمال كثير زكاة عن ماله: «علام لا تؤسسون شركتكم هنا وتحرزون كل فائدتها؟» فقال: «ومن يضمن لنا كف يد الحكومة أو الولاة عن التدخل بشئوننا، والمال عزيز نضن به أن يكون طوع أمر ولاة الأمر، فأنا الضمين بتقديم نصف رأس المال وحدي إذا كان مركز إدارة الشركة في باريس أو لندن، ولا أجازف بقرش إذا كانت الشركة عثمانية اسما وفعلا ومركز مجلس إدارتها بيروت أو الأستانة.»
وإذا أردت برهانا أعظم فانظر إلى كل صنائع «المابين» الذين كانوا ينالون الامتيازات بلا عناء، أفما كانوا جميعهم يبيعونها من الأجانب بأثمان بخسة مع علمهم أنهم لو ألفوا لها شركات أو استثمروها بأنفسهم لنالهم من الربح أضعاف ما نقدوه، ولكن أنى يتسنى لهم ذلك وثقتهم مفقودة من نفس أنفسهم، ولا يعلم الواحد منهم مع كل عظمته متى تأتي نوبته فينضى سيف النقمة فوق هامته فكيف تحصل الثقة بعد ذلك لسائر الناس.
ولقد أسلفنا أننا لسنا ممن ينكر فضل الأجانب بتأليف الشركات عندنا؛ إذ لولاهم لبقينا الآن نخترق الوديان والهضاب على البغال والجمال، ولم يكن لنا مرفأ ولا مصرف ولا شيء من وسائل العمران الحديث ولسنا أيضا ممن يقول بوجوب الاستغناء عنهم - لو فرضنا ذلك في الإمكان - فالبلاد تستفيد من مالهم وعلمهم لقاء ما يستفيدون منها، ولكننا ننكر - كل الإنكار - أن لا يكون لنا يد في شيء من تلك الأعمال في بلادنا، وإذا شاركناهم بالمال فإنما نحن شركاء متسترون بنفوذهم وسيطرتهم.
أما الآن وقد احتجب طالع الاستبداد وفتحت الأبواب للطلاب؛ فالأمل أن لا تمر برهة طويلة حتى نرى أيدي أبناء الوطن ممتدة إلى كل عمل مفيد في بلادهم، سواء استقلوا به بأنفسهم أو استرشدوا له بشريك أجنبي.
السياح والمستوطنون
لا يعجبن القارئ اللبيب إذا عقدنا لهذا البحث بابا خاصا ألحقناه بأبواب موارد الثروة، وإن كان لا يجوز حسبانه من مصادر الثروة الطبيعية، ولا سيما في بلاد لا يجد السائح الغريب فيها كل ما تتطلبه نفسه من أسباب النزهة والراحة. فإننا الآن في إبان نهضة يجب أن نتطلع من خلالها إلى كل وسيلة من وسائل العمران. والأموال التي ينفقها رواد البلاد ليست بالمبالغ التي لا يعتد بها.
وإننا لا نطمع أن يكون لنا - بزمن قريب - مراتع للنزهة الخالصة، كباريس، تلك الجنة الجامعة للهو والزهو واللطف والظرف والعلم والمال؛ فإنها لم تبلغ ذلك المبلغ إلا بقرون مضافة إلى كياسة السكان وجهادهم. ولكنه يحق لنا أن نطمع مذ الآن بجعل بلادنا نجعة الرواد، من كل طالب راحة وعافية وراغب في ترويض نظر وترويح نفس واستطلاع أثر ومن كل ورع متعبد.
وإن لنا من اختلاف مواقعها وتاريخها ميزة خاصة تجتذب السياح من كل فج سحيق.
فإن فيها مواطن الأنبياء ومهابط الوحي، فهي - بهذا الاعتبار - محجة المسلمين والمسيحيين وبني إسرائيل من كل أقطار الأرض. وليس هذا بالشيء القليل وإن لاح قليلا في الحالة الحاضرة، إذ لو نظرت إلى المعالم الدينية في أوروبا وعلمت أن زوار واحدة منها كسيدة لورد في فرنسا يربو على عدد جميع الزوار الذين ينتابون بيت المقدس من أبناء جميع الأديان؛ تحققت أننا لو أعددنا هنا من أسباب الراحة في الحل والترحال ما أعدوا هنالك لكان للبلاد من وراء ذلك مورد ثروة جديد.
ولا ريب أن أعظم حسنة يسجلها التاريخ للحكومة الغابرة إنما هي سكة حديد الحجاز؛ لأنها بعد انتهائها ومد فروعها إلى البحر الأحمر وانتظام شعبها إلى البحر المتوسط ستكون بقطع النظر عن سائر ما لها من الحسنات أعظم دعامة لهذا الركن المتين، وسيتضاعف بها عدد الحجاج عما قريب.
ومع ذلك فيبقى على أولي الأمر وأبناء البلاد ابتداع كثير من الإصلاح اللازم لمعدات الراحة في الإقامة والانتقال داخل فلسطين وما جاورها مما لا بد منه من أسباب التأمين والتشويق على ما اعتاده زوار المسيحيين والإسرائيليين في أوروبا.
ولا يجب أن ننسى سائر مقامات الزيارة داخل البلاد كالنجف وكربلاء والكاظم في ولاية بغداد وما لها من الحرمة لدى المسلمين كافة وأهل الشيعة منهم خاصة، يتوافدون إليها مئات وألوفا من إيران والهند مع كل ما يلقون من عنت الحكام وطمع المأمورين، وإن جميع أبناء بغداد وحكامها يعلمون أن هؤلاء الزوار من أعظم مروجات التجارة عندهم، يتشوفون إلى قدومهم تشوف الظمآن إلى الماء. كيف لا وهم يزيدون عن الخمسين ألفا سنويا من إيران وحدها؟ ومع هذا فقد يذيقهم الحكام من مرارة المعاملة ما يلجئ الشاه في بعض السنين إلى منع رعاياه من الزيارة، فيشعر البغداديون بالكساد، ويبسطون يد الرجاء إلى حكامهم، فيأمرون ببسط الأمن، ويبدون المجاملة؛ فيعود الزوار إلى زيارتهم مدة، ولكنهم لا يلبثون أن يروا من سوء المعاملة ما يضطرهم إلى الشكوى مرة أخرى.
فلو مهدت لهم السبل كما يرجى أن تمهد الآن وضرب على أيدي العتاة من آمر ومأمور فالإقبال حينئذ عظيم والفائدة مضمونة للفريقين.
وهو معلوم أيضا أن البلاد العثمانية تضم في أكنافها أعظم معالم التاريخ القديم، ولا يخفى ما في ذلك من مشوقات الزيارة لمستطلعي الأخبار ومكتشفي الآثار وكل سائح ضارب في الأرض عالما كان أو طالب نزهة مرتاض. ففيها مواطن البابليين والأشوريين والحيثيين والسلوقيين. وفيها قامت دول المصريين والإسرائليين والعرب والأرمن ودول اليونان الفريجية والليقية والليدية والطروادية والبمفيلية والقباذوكية وغيرهن. وفيها كثير من آثار الدول التي احتلت بعض أجزائها كالفرس والرومان، ومنها أخذت نفائس الآثار التي تزدان بها متاحف باريس ولندن وبرلين وبطرسبرج.
ولقد طالما رأينا السياح يأتون من أقصى الديار فيقطعون البوادي والقفار لرؤية تلك المعالم يعانون من المشاق ما لا يكادون يعانون أعظم منه في مجاهل أفريقيا، تنظم لهم القوافل، وتحمل لهم المطابخ والخيام، وتعد لهم المطايا فينفقون لرؤية آثار بابل وأشور ما لا ينفقونه بسياحة حول العالم. وزد على ذلك أنهم لا يبلغون جميع الأمكنة التي يقصدونها لاختلال الأمن في كثير من تلك الأصقاع، ومع هذا فلا نعدم منهم وفودا عاما بعد عام.
فإذا مهدت لهم الطرق وأقيمت وأعدت لهم أسباب الأمن والراحة، فما عسى أن يكون من إقبالهم وانتفاع البلاد بعلمهم ومالهم.
وإذ انثنينا الآن إلى سائر أسباب السياحة من طلب صحة بتبديل هواء وراحة بعد عناء ونزهة في بلاد جميلة المناظر صافية الجو عذبة الماء، ففي البلاد العثمانية كل ما يتطلبه السائح صيفا وشتاء، خريفا وربيعا، من كل ما وقع تحت سماء المناطق المعتدلة والحارة والباردة.
فإن طالب الدفء واللاجئ من زمهرير الشتاء لا يجد في نيس وما حاذاها ورومة وما وليها ملاذا آمنا من أطراف فلسطين وأرياف العراق ومدائنه وثغور طرابلس الغرب، ولا نضرب مصر مثلا؛ لأن سياح العالم أجمع عرفوا مزيتها قبل الآن، وهي قدرتهم قدرهم فاستتمت لهم المعدات، فنالت قسطها منهم ونالوا قسطهم منها، وإذا استبقوا فيها كل سنة ما يقرب من ثمانية ملايين من الجنيهات، فإنما هو كسب تحرزه رزقا طيبا ومالا حلالا.
وطالب النسيم العليل المنهزم من قيظ الهجير والجانح إلى العزلة والسكينة فرارا من ضجة المدائن أو استجماعا لقوة أنهكها توالي الإكباب على العمل لا يجدان في جبال سويسرا وأشباهها معتصما أمنع ومرتعا أبهج من الجبال المتشعبة في قلب كثير من الولايات الأوروبية والممتدة إلى كليكيا وسوريا، وحسبك منها جبال بيلان ولبنان والجبل الشرقي، قنن تتعالى بعض فوق بعض لك منها ما شئت لجميع الأمزجة من قوي وضعيف، من علو مئات من الأقدام إلى علو عشرة آلاف قدم، تنفجر منها الينابيع بالماء الزلال ولا يشوبها تقلب الهواء الفجائي الذي يعتري جبال أوروبا، وإن لك من صحة أجسام ساكنيها على شقائهم وخشونة معيشتهم دليلا على فضلها على ما وازاها من جبال أوروبا.
جرى لنا في صيف سنة 1904 حديث مع المرحوم مظفر باشا متصرف جبل لبنان، فكان يتأفف متبرما من حراجة موقفه وقصر يده عن إتيان ما يرغب من الإصلاح ونفع الجبل بما يستبقي له فيه الذكر الجميل، قال: قد كاد يبلغ اليأس مني أقصاه؛ فلا أرى وجها لإتيان أمر جديد أنفع به هذه البلاد، رغبت في إنشاء المرافئ فصدوني من الخارج، ورغبت في زيادة الضرائب لإجراء بعض الإصلاح فصدوني من الداخل. وجبلكم فقير صغير يضيق نطاقه عن معاش سكانه، يهجرونه أفواجا إلى الديار القاصية حتى خلت قرى كثيرة من السكان، ولست أرى ما سيكون من سوء المصير.
فقلنا بعد بحث طويل: وهب أنه ليس في لبنان شيء من موارد الرزق، أليس هذا موقعه على أكتاف الأراضي المقدسة، وهذا هو هواؤه وماؤه، أوليست هذه الفئة التي تقصده للاصطياف من جواره في سوريا ومن القطر المصري مورد رزق ينمو عاما فعاما. ينفق المصريون المصطافون في أوروبا زهاء خمسة ملايين من الجنيهات مع جهل كثيرين منهم طبائع الأوروبيين ولغاتهم، فلو سهلت لهم وسائل الرفاه والراحة فحسبنا منهم خمس هذا المبلغ، ولا نقول كله أو نصفه، أفلا ترى دولتكم أن كل سنة يلقون فيها بشرا وإيناسا بمرفأ بيروت تتلوها سنة أخرى يتضاعف فيها عددهم، وكل سنة يصادفون فيها عبوسا وتضييقا تتلوها سنوات لا نرى منهم فيها غير النزر القليل، فلو سعيتم لدى المراجع العالية بإكرام وفادتهم في الثغور، ثم أجهدتم النفس بإتقان الوسائل الداخلية من طرق وفنادق وأشباهها كان لكم أثر فوق كل أثر. فقال: كل هذا صحيح ولست بغافل عنه ولكن ...
ثم إن الراغب في الجمع بين النزهة والاستشفاء بانتياب ما يدعى في أوروبا بمدائن الماء، هيهات أن يلقى في شيء منها فوق ما يلقى من جودة الهواء واعتدال حرارة الماء وبهجة المناظر على ضفاف البوسفور وما قابله من جزائر الأمراء وجزر الأرخبيل وثغور البحر المتوسط.
وألحق بما تقدم ينابيع المياه المعدنية الصالحة للشرب والاستحمام، والذاهبة جميعها ضياعا ما خلا شيء من ينابيع بورصة، فما أجدرها أن تكون مجمعا للسياح يرتادونها إلى هيت، وما يليها من أراضي العراق وأطراف العمق في حلب، وغير ذلك مما هو متفرق في أطراف البلاد، وقد سبق لنا في التاريخ أن تكون بعض ينابيعنا المعدنية مجتمعا لسياح العالم الروماني كما أسلفنا عن حمامات فلسطين، ومنها تتألف المياه أنهارا تندفع إلى البحر كزرقاء معين وغيرها، فما المانع من رجوع مثل ذلك العهد على عهد الإصلاح هذا.
وإننا غير مغترين بوفرة هذه المصادر الطبيعية للثروة، ولسنا بطامعين أن تفيض ميازيبها نضارا في سنة أو سنوات قلائل، ولكنه لا بد من تنبه إخواننا العثمانيين في كل قطر من أقطارهم إلى ثروة يمكن الشروع مذ الآن في استدرارها شيئا فشيئا.
تلك خلاصة ما يقال بالإيجاز عن حالة السياحة في البلاد العثمانية، وأما المهاجرة إليها بقصد الإقامة أو الاستعمار، فعلى نوعين أحدهما مهاجرة فئة من الأجانب بمعاونة أرباب الأموال منهم، فتتوطن في بقعة من الأرض توطنها في بعض جهات فلسطين مع البقاء على جنسيتها، وليس هنا موضع البحث فيها، وخصوصا أن هذه الفئة تجد لها من نفسها من أسباب العناية بها ما يغنيها عن عناية الحكومة، والثاني مهاجرة القادمين إليها من تلقاء أنفسهم بقصد الإقامة والتجنس بالجنسية العثمانية كمهاجري بلاد الجركس وإكريت وبوسنه وهرسك وهؤلاء هم الذين يجب أن توجه الحكومة كل عنايتها إلى نفعهم والانتفاع بهم، فإن اللجنة المعروفة بقومسيون المهاجرة والمعقودة لهذا الغرض في الأستانة يحق لها جزيل الثناء لما تبذله من المساعي، ولكنها قد لا تصيب الغرض المقصود في بعض الأحوال، إذ ما الفائدة مثلا من إسكان الجماهير من هؤلاء المهاجرين، ومعظمهم من الزراع في المدن الكبيرة كأزمير أو دمشق الشام، مع وجود البقاع المخصبة التي تنعق بها غربان القفر، فإذا كانت ثمة مطالعات ماضية فقد انقضى أمرها، ثم إنه ليسوءنا أيضا أن الذين أسكنوا في الأراضي الزراعية لم ينظر الولاة بعين العناية إلى أسباب راحتهم وإمدادهم بالمعدات اللازمة وإعداد المنازل الواقية لهم من حر الصيف وبرد الشتاء؛ ولهذا فشا الموت في بعض فرقهم ممن أنزل في أعالي العراق فقلت رغبة المهاجرة بين مواطنيهم في بلادهم لما بلغهم من تلك الأخبار المؤلمة.
وإن مجال المهاجرة إلى البلاد العثمانية متسع جدا، وتناول أطراف البحث فيها مما يضيق عنه نطاق سفرنا هذا الصغير، وإنما هي نفثات عثماني محب لوطنه باح بشيء منها وادخر ما بقي منها لفرصة أخرى.
الخاتمة
نظرة عامة - مجلس المبعوثان في السنة الأولى - الدولة العثمانية بعد خمس وعشرين سنة
هذه عجالة سطرناها في شئون البلاد العامة عبرة وذكرى، وهذا ما تراءى لنا وجوب الخوض فيه إبان هذا الانتقال الغريب والانقلاب العجيب، وإن هو إلا قطرة من عباب المباحث التي يجب على كتاب العثمانيين أن يخوضوا غمارها استلفاتا لأنظار إخوانهم وحكومتهم إلى كل فرع من فروع الإصلاح مما يتناول البلاد برمتها، أو ينحصر خاصة في كل قطعة منها.
ونخالنا أدينا فرضا واجبا وتوخينا الصدق والإخلاص في كل ما تقدم، ولم نتسرع إلى بسط شيء من شئون العناصر المختلفة التي يتألف منها مجموع هذه الأمة والخطط الخاصة التي يجب أن تنتهج حتى تندمج اندماجا لا يعقبه تفرق وتخاذل، ولا إلى النظر إلى علاقات العثمانيين بمن عداهم من الأمم القريبة والبعيدة. وفي الجملة لم يكن من غرضنا الآن التعرض إلى شيء من أحوال السياسة الداخلية والخارجية، فإن لدينا من بواعث الإصلاح الداخلي بالنظر إلى موارد الثروة ودواعي التضام والتضامن لأجل إدراك حقيقة الحرية والدستور ما هو أدعى للبحث العاجل وأوسع مجالا لأقلام الكتاب.
لا يتوهمن أبناء الوطن العزيز أن الدستور نعمة أتتهم عفوا، فلئن أعلن واستقبل ولم تهرق يوم إعلانه الدماء، وقال الناس تلك أعجوبة لم يأت الزمان بمثلها، فإنما هو قول صادق بالنظر إلى منتهى أدواره وإلى الحكمة الباهرة التي ازدان بها رؤساء هذه الحركة، وما أبرزوه من التجرد عن الغايات والمطامع، فحقنوا الدماء التي كانت موشكة أن تتدفق سيولا.
وإلا فإن من تتبع سير الحوادث التي أدت إلى إعلان الدستور يعلم علم اليقين أن جهاد الأحرار لم يزل مستمرا منذ عشرات السنين، وإن دماء أبناء تركيا الفتاة ودماء أنصارهم وغير أنصارهم سالت أنهرا طامية قبل بلوغ هذه الأمنية.
ومع هذا فإننا لم نزل في أول ميدان الجهاد والعقبات الصعاب تكنفنا من كل جانب، ونصراء الاستبداد غير مائتين، وإنما هي استماتة وقتية يرتقبون الفرص في أثنائها، ولهم من أبناء التقليد البحت وحزب التقهقر الأعمى عون قوي يلتف حولهم أيان تسنى لهم الأمر، والأصفر الوضاح ما زال يبذل سرا لعرقلة المساعي التي يقوم بها دعاة الإصلاح، وللدولة من المشاغل السياسية ما يجعل أسرة البغاة بارقة أملا باستعادة شيء من ماضي رفعتهم وساقط نفوذهم.
فإذا علم العثمانيون ذلك وثبت لهم من كل أعمال حكومتهم الجديدة أنها غير ذاخرة وسعا في كل ما يئول إلى منفعة هذه الأمة، وأن رجالها - لكثرة أعمالهم - لا يكادون يملكون الوقت الكافي للاشتغال بالمهام المطروحة على بساط البحث والتدبير؛ وجب عليهم أن لا يقلقوهم بالمطالب الفارغة والتشكيات التافهة والشغب الداخلي، فالوقت ثمين والفرص فرارة، وهذا الحين حين التفرغ للإصلاح، فإذا وضعت دعائمه واستقرت أركانه فليشتغل أبناء هذه الأمة وليشغلوا حكومتهم بما شاءوا من معدات الزينة وزخرف الكماليات.
ولما كان مجلس المبعوثان ممثلا لمجموع الأمة وشعارا حيا للحكومة الدستورية كان من المنظور أيضا أن تتألب عليه قوى أعداء الدولة من الخارج وأعداء الإصلاح من الداخل، وسيتخذون لهم عونا منه عليه، ويجهدون النفس بإثارة الشقاق بين أعضائه وبينهم وبين الحكومة، ويستسهلون الأمر بالنظر إلى أنه لم يسبق لأحد من أعضائه الانخراط في مثل هذا السلك الدقيق، وأن أول ما يتذرعون به إلى نيل بغيتهم بث روح التهور ودعوة الأعضاء إلى مناهضة الحكومة.
على أننا لا نخال المبعوثين - وهم من صفوة أبناء الأمة - ينقادون إلى تلك الدسائس، ولا نخالهم إلا شاعرين جميعا أن أوقاتهم في الأربعة الأشهر من السنة الأولى لاجتماعهم لا تكاد تكفي للنظر في اللوائح الإصلاحية المعدة لهم، والتي ستطرح أمامهم للبحث فيقضون جلسات السنة الأولى في النظر إلى موارد الإصلاح العاجل، فيفيدون الفائدة اللازمة ويخدمون الخدمة الصحيحة ويستفيدون من الاختبار ما يؤهلهم إلى اقتراح ما شاءوا من الإصلاح في السنين المقبلة إلا ما تراءى لهم به حاجة ماسة إلى عدم التأجيل مما أغفلته الحكومة، وهذا - بلا ريب - أقل من القليل.
وإذ كان يرجى من مجلس المبعوثان ولا سيما في السنة الأولى أن لا يزعج الحكومة بما يصرفها عن التفرغ للإصلاح كان من الواجب أيضا على أبناء الأمة أن لا يزعجوا الأعضاء بما يصرفهم عن التفرغ لمهمتهم، فلقد أيد لنا الاختبار باجتماع المجلس الأول سنة 1876 أن أبناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدبا عن منتخبيه لا غير، ومأمورا بإنفاذ جميع رغائبهم وإبلاغ تشكيات أفرادهم مهما كانت، حتى لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر على رءوس مبعوثيها حاملة من المطالب ما لو طرحه المبعوث للبحث لما ناله إلا هزء رفاقه أجمعين، فمن طالب عزل خصم له وإحالة مأموريته إليه، ومن ملتمس رتبة ونشانا، ومن راغب في إصدار أمر لوال بإلقاء نظرة عليه أو إلى مشير بجعله ملتزما للأرزاق العسكرية، حتى كان من جملة تلك المطالب أن مكاريا سرقت دابته فكتب إلى منتدب ولايته أن يأمر بإعادتها إليه.
وإننا - بلا ريب - لم نكن نلام على ذلك الجهل في ذلك الحين، وقد يحصل مثل هذا التطرف في أعظم بلاد الحضارة. ولكننا الآن في مركز حرج لا يسعنا إلا أن نرمي فيه إلى غاية واحدة، فنعلم أن كل مبعوث هو منتدب للنظر في جميع شئون البلاد، وأن مصالح الولاية التي انتخبته - إذا كان لها مصالح خاصة - لا تأتي إلا في الدرجة الثانية. وأنه كلما خفف عنه منتخبوه من مطالبهم الخاصة زادوه مقدرة على خدمتهم ونفعهم.
وهو معلوم أيضا أن لدى الدولة من المشاكل السياسية ما لا يقتضي من الهمة والحكمة دون ما اقتضاه نيل هذا الدستور، ولقد علمنا من تاريخ مجلس المبعوثان الأول أن بعض أعضائه كانوا بتهورهم عونا لأعداء الدولة على بلوغ غاياتهم منها، وعضدا لحزب التقليد على التعجيل في فض ذلك المجلس إلى أجل غير مسمى. فكفى بما مضى عبرة لنا وعظة، ورجاؤنا أن يتخذ الأعضاء التأني والتروي شعارا متجردين عن المصالح الخاصة غير طامعين بكسب الشهرة من وراء المناقشات الطويلة التي لم يحن بعد زمنها، فإننا الآن أحوج إلى تلقي الدروس منا إلى إلقائها بالخطب واللوائح، وحسب الأعضاء مراقبة أعمال الحكومة بعين محتاطة وفكر نقاد لا يهيج إلا خطأ يبدو لديه، فيشير إليه إشارة المصلح الحكيم.
وإن جميع أبناء هذه الأمة المخلصين عالمون الآن أن المجال متسع للأعداء والحساد لتحين الفرص لتمزيق شمل هذه الشعوب التي تضامت بعد التخاذل الطويل. وإن الأيدي ممتدة من كل جانب إلى استحياء التعصب الديني والتعصب الجنسي وإيقاظ أبالسة الفتن، فإذا لم تقطع هذه الأيدي قبل أن تجد لها متمسكا تتشبث به كانت الحالة الأخرى أشر من الأولى، وإلا فإن قيض لنا الله قطعها مذ الآن كان لنا الفوز المقيم والظفر الثابت.
لم يمر على العالم منذ خلقه الله زمن خطا فيه العلم مثل خطواته في السنين الثلاثين التي انقضت، فإن عقول البشر سرحت كل مسرح، فوسعت المعارف المعقولة والمنقولة فمحصت التاريخ وضربت في مجاهل الأرض وسهلت العلوم القديمة وأوجدت علوما جديدة في كل باب من أبواب المادة والاجتماع، وفتحت للعمران سبلا لم تكن في الحسبان، وحامت حول المجهولات حومة استجلت بها الكثير من غوامض الطبيعة، واكتنفت الاختراع والاكتشاف من كل جوانبهما فطافت بهما وجه البسيطة، وخرقت قلب الأرض، وغاصت في أعماق البحار، وطارت في الهواء، وامتطت لب الأثير فتجاوزت إلى الأفلاك. وضمت كل ذلك إلى ما ادخره لها الأقدمون، وهي لا تزال دائبة ساعية إلى حيث لا يعلم إلا الله، كل هذا ونحن في هذه الحركة المستمرة جامدون خاملون يتلقاها العالم أجمع بوجه بشوش ونحن نصدها عن اجتياز بلادنا، وما هي إلا شرارات متناثرة قذفتها علينا في سيرها وتجاوزتنا إلى أقاصي الأرض، فلبثنا حيث نحن والعالم في سير حثيث.
ولرب قائل يزعم أن في القول مبالغة لأن حالة العلم عندنا الآن أرقى منها منذ ثلاثين سنة، ولكن أين هذا الترقي مما كان يجب أن يكون؛ إذ ليست الدرجة التي صعدناها بالشيء المذكور في هذا السلم المترامي إلى السماء أو لا تزال بيننا طوائف بل شعوب برمتها تائهة في بحران الجهل والغباوة، أو لا تزال طبقتها الراقية نفسها متأثرة من نتائج الضغط والعسف في هذا الزمن الطويل.
وقد كانت الدنيا تعذرنا كل العذر فيما مضى، أما الآن وقد تقوضت الحواجز فما عسى أن يكون العذر، وهذه الفرص قد حانت، فلئن لم نتشبث بأذيالها غادرتنا هذه المرة وهيهات أن تعود.
تلك أمور أدركها جميع أبناء الطبقة الراقية من العثمانيين، ولهذا نراهم متحرقين غيرة على حفظ ربط الوئام الذي لا تقوم دعامة لهذا الملك الضخم بدونه، وإنهم - بلا ريب - يقاومون بمجامع قواهم ما ربما يبدو من مساعي سفلة الغوغاء الذين يقصرون عن إدراك نبالة تلك الغاية السامية ولا نخالهم إلا غانمين ظافرين.
يقول الحساد والمبغضون من أعدائنا والقانطون الخاملون من إخواننا: هيهات أن يتسنى استحياء هذا الشبح الضئيل ، وقد عرفه العالم بالجسم العليل ، نخر الفساد عظمه وأعمى العجز بصره وغشي الجهل على بصيرته وضرب الاستبداد على مجموع قواه فانحلت، واستحكم التخاذل بين أعضائه فأوشكت أن تتمزق، فأنى له أن يستجمع قواه وتنبعث فيه روح جديدة.
فهل فات هؤلاء الشامتين والمشفقين أن داءنا لم يكن بالداء العضال على ما تصوروه، وأن علتنا لم تتجاوز الأطراف إلى القلب والدماغ، بل هي قروح غشيت أجزاء الجسم الظاهرة فشوهت منظره وأقعدته برهة عن الحركة، فخيل للناظر أنه قد قضي عليه مع سلامته من كل علة قتالة، فإذا علم أن كل تلك القروح كانت ناشئة عن وخز إبر الاستبداد، وأن تلك الإبر قد اقتلعت وكسرت وذر بلسم الدستور فألأم تلك الجراح الدامية هان علينا أن نثق بالشفاء التام والانبعاث في ميدان الحياة بقوة الجسم الصحيح.
ولا يهولن العثمانيين وأصدقاءهم ما يرون من البون الشاسع بينهم وبين الأمم العريقة في المدنية، فإن السبل التي تفتحت لأولئك بالجهد والعناء هي بادية متسعة لنا، نلج منها ما شئنا، وباب الاختيار متسع لنا أكثر منه لهم.
والعالم منذ نشأته أخذ وعطاء ودين ووفاء، فليس بالكثير علينا أن نتلقى ببضع سنين ما أدركوه بجهاد القرون الطوال، فقد سبق لهم أن اختزنوا بزمن يسير كل ما جمعه أسلافنا ذرة ذرة من علم وتمدن واختراع بسالف العصور فحفظوا منه ما شاءوا ونبذوا ما شاءوا، وهذا لم يكن بالفرض الواجب علينا أن نطبق كل تمدننا على كل تمدنهم بما له من الحسنات والسيئات، ولا يصعب علينا ونحن أول مراقيه أن نختار حسناته ونضم إليها ما وافق حالة جونا وتربتنا، فنبتدع لنا تمدنا شرقيا صافيا من شوائب الفساد والترف، الذي يعود بنا القهقرى فيؤدي إلى الانحطاط والانحلال.
وليزد أبناء الوطن ثقة وطمأنينة بعلمهم أن الدول تدول وتنقرض، وأما الأمم فلا تنقرض ولا تتلاشى، بل تبقى حية ما حيي الناس، وقد تتحول من حال إلى حال فتنحط وترتقي وتندمج بغيرها، وقد تفرق وتتوزع أفرادها في المجتمع البشري فتفقد وطنيتها الأولى. ونحن - والحمد لله - لم نزل في مواضعنا فلم نزل أمة حية، وإن جميع ما ظهر فينا من الانحطاط وفقد الوطنية إنما هو عارض زال بانقراض دولة الاستبداد، فليس في سبيلنا ما يعوقنا عن بلوغ أسمى مبالغ الأمم، وإن أعظم عقبة يتذرع بها الأعداء إلى صدنا عن بلوغ تلك الأمنية إنما هي استحياء روح التضاغن بيننا، وهي العقبة التي يسعى جميع العثمانيين الآن إلى تحطيمها ومحو آثارها، وهم بالغون مآربهم منها عما قريب - إن شاء الله.
وليست شقة الإصلاح بالشقة البعيدة على ما يتوهم الجالسون على سرر الرفاه، فالساعي اليقظ يقطع مئات الأميال والخامل الوسنان يتكئ على منصة خموله، فالزمن زمن جد وسعي. وحسب هذه الأمة أن يسعى أبناؤها فيجروا وراءهم قسرا كل متقاعس هياب. فلقد مرت على هذه الدولة قرون وهي صاعدة في سلم الارتقاء ثم عقبها قرنان تعاقب فيهما الجمود والانحطاط إلا فترات نهضة يسيرة لم تستحكم معداتها، ولقد مرت كل تلك القرون مر السحاب، فإذا حسبنا لإيناع ثمار هذه النهضة الأخيرة ربع قرن فخمس وعشرون سنة ليست بالأمد المديد في عمر أمة طوت القرون، وما هي إلا بمثابة شهور في عمر إنسان، وخمس وعشرون سنة من وجه آخر ليست بالزمن القليل لأمة ناهضة راغبة في استكمال جميع معدات الإصلاح بعد نيل حريتها، والحرية أم العجائب.
لم تكد تمر أيام على إعلان الدستور حتى انقلب وجه هذه المملكة انقلابا معنويا تاما فزال الشقاق وساد الوفاق، وانطلقت الأفكار والألسنة والأقلام وتكسرت قيود المظالم والمغارم، ولا ريب أن الانقلاب المعنوي طليعة الانقلاب الحسي. فأغمض جفنيك وانظر بعين الخيال إلى ما يكون من شأن هذه الدولة بعد ربع قرن إذا ظللنا مثابرين على السير في هذا السبيل.
أفلا ترى العائش منا بعد هذه السنين يرى جميع أبناء هذا الوطن قد أدركوا معنى الحرية الصحيحة، وعرفوا ما لهم وما عليهم وأوثقوا عرى الإخاء والسواء فأصبحوا أنفسا متعددة في جسم واحد يعمل عملا واحدا؟
أولا يرى أيضا أنه بانطلاق الحرية الشخصية المقيدة بقيود الحقوق وفروض العدل والذمة تنمو سائر فروع الحرية، فتتسع معاهد العلم لكل أنواع العلوم مما كان مباحا وما كان محظورا، وأن ربع قرن يكفي لتخريج ناشئة جديدة على نفس جديد وروح جديدة لم تتأثر بشيء من مؤثرات الاستبداد، بل تحفظ ذكراها حفظا يسهل لها الموت في سبيل الذود عن حياض أنفسها؟
أولا يكفي هذا الزمن لجعل صحافتنا وأربابها مثار الرأي العام وقادة الأفكار ترتقي الرقي الصحيح إلى ما يجعلها نبراسا يفيض نورا على أكناف هذا الملك المتسع، فيبث روح حب الاطلاع، روح المثابرة على التقدم والتضافر على العمل، وإلى جانب الصحافيين الكتاب والشعراء وقد أطلقت الحرية أقلامهم ينشئون المجلات الباحثة في جميع الشئون العلمية والاقتصادية ويؤلفون وينظمون ويزيلون جميع ما بقي من أغشية الجهل القديم. وإلى جانبهم العلماء يشتغلون اشتغالا صحيحا بالعلم فلا يروعهم إذا نظروا في تركيب كيميوي أن يتهموا بإعداد الآلات القتالة، ولا إذا نقبوا في بطن الأرض أن يقال إنهم يفتحون مدفنا لأعداء العلم، ولا إذا اجتمعوا للبحث في معضلة أن يذاع أنهم يتآمرون للفتك بأعداء الحق، وأن اشتغالهم وحريتهم لهم كل هذا الزمن ليس بالعمل العقيم؟
وما عسى أن يقال عن أعمال الجمعيات وقد خلا لها الجو ربع قرن فتتألف أنواعا وأصنافا مما يضم العثمانيين من طلبة مدارسهم إلى شيوخ ساستهم وعلمائهم، فتتناول التربية والآداب والمباحث العلمية، وتتخطى إلى النظر في موارد ثروة البلاد ووسائل استخراجها وتتطرق إلى مباحث الاكتشاف والاختراع؟
بل ما عسى أن يقال عما تبلغه المرأة العثمانية في خمس وعشرين سنة، وهي القوام الأعظم لكل تمدن حقيقي ثابت، وهي نصف هذا الجسم فلا تصح حياته إلى بصحة حياتها، وهي العون الأكبر للرجل في رجوليته ومربيته في طفوليته ورفيقه في عزلته ومؤاسيته في شدته، وإليها مرجع الفضل في تثقيف العقول النامية وإنبات غرس الفضائل فيها، ولكم حفظ لها التاريخ في الجاهلية والإسلام ودول الحضارة من مأثرة يفاخر عظام الرجال بإحراز أمثالها. وإنه يسرنا أن نفاخر أيضا أنه كان للمرأة التركية يد قوية في نهضتنا الحديثة، فلقد ناضلت وجاهدت وخاطرت بنفسها، فكان لها بذلك فخر يسطر بمداد النسب فإذا كان هذا شأنها في زمن الاستبداد، فما عسى أن يكون بعد خمسة وعشرين عاما، إذ تكون هذه النفحة الطيبة قد سرت منها إلى سائر أخواتها من بنات هذه الأمة في كل صقع وناد وأعدت المدارس للبنات إعدادها للبنين، وانقشعت غياهب الجهل المغشية بظلم الرجال على عقول النساء، فلا ريب أن المرأة العثمانية تدخر في تربية النابتة الجديدة فضلا يعم الذكور والإناث، وتحرز في توطيد دعائم هذه النهضة فضلا لا يقل عن فضل مكافحة الرجل في معترك السياسة وميادين الذود عن الأوطان.
وليست الخمس والعشرون سنة بالزمن اليسير بالنظر إلى إعداد نجباء الفتيان في مدارس الحكومة والمدارس الوطنية لتولي مناصب الحكومة عن علم صحيح ولياقة تامة في جميع فروع الإدارة والقضاء والسياسة والجندية، فانظر ماذا تكون حالة البلاد يوم تتولى المناصب أربابها الذين أعدوا لها، وما ينجم من استتباب الأمن وسيادة العدل، وما يكون من غيرة المأمورين وجهدهم يوم يعلمون أن الواحد منهم يرتقي بجده وإخلاص خدمته، وإن غيث الرتب والأوسمة المختلسة قد انحبس عن كل متزلف مداهن، وانظر بعد هذا ماذا يكون من طمأنينة الفلاح والصانع والعامل والتاجر بعد إصلاح الطريقة الشائعة في جباية الأموال ووضع حد لكل من حقوق الحكام والمأمورين.
وإذا هالك ما ترى من تباين الأخلاق والعادات بين هذه الشعوب المختلفة فاعلم أن معظم ذلك ناشئ عن اختلاف لغات القوم وسوء التفاهم مبدأ الشر والعدوان. وإن خمسا وعشرين سنة لزمن كاف لنشر مبادئ اللغة الرسمية في جميع أنحاء المملكة، وإن تعميم طريقة التعليم على نمط واحد يؤلف بين القلوب، وإذا تفاهم الناس حسن ظنهم بعض ببعض، وزالت أسباب الفتن وتسهلت طرق الوئام فأصبحت هذه الأمة أمة واحدة تسعى إلى غرض واحد.
وإذا راعك ما رأيت فيما سلف من بوادر التعصب الذميم فحسبك أن تلفت إلى نشوة التآخي التي هزت جميع العثمانيين على اختلاف مللهم ونحلهم على إثر إعلان الدستور وقيام سماحة شيخ الإسلام ناشرا لواء الوفق والسواء ، معلنا مطابقة ذلك للشرع الشريف ، ومن ورائه سائر رجال الدين يؤمنون ويصفقون طربا. كل هذا والجهل لا يزال فاشيا في أطراف البلاد، فما الظن بمآلنا الميمون بعد خمسة وعشرين عاما والعقول مستنيرة حينئذ بنور العلم والعرفان والأفكار متسعة لما هو فوق هذه المشاغل الدنيئة وجميعنا مترابطون بعرى المصلحة المشتركة.
وإذا انثنيت إلى التبصر بموارد الثروة بدا لك كأنك في حلم لكثرة ما يتراءى لك من الكنوز الدفينة - على ما أسلفنا - على أن ربع قرن زمن للمشتغل طويل، يتيسر له في أثنائه استحياء موات الأرض بجميع الوسائل العلمية والعملية فتحيا الزراعة، وتقتبس فنون الصناعة فتنشأ المعامل لجميع المصنوعات، وتروج التجارة، وتعقد الشركات للملاحة واستخراج المعادن، وتسهيل سبل الاتصال وسائر الأعمال الرابحة. فانظر بعين الخيال إلى ما يتدفق حينئذ إلى خزينة الحكومة وصناديق الأهالي من الأموال الذاهبة الآن ضياعا، فما هي إلا فترة يسيرة حتى ترى هذه المجاهل القاحلة جنانا أريضة من خليج فارس إلى ضفتي البوسفور، تفيض مياه دجلة والفرات على أرجاء العراق فترجع بها إلى زمن العباسيين وتنبت فيها المدن والقرى البائدة نبتا جديدا، فيبتسم الحضري بشرا وسرورا، ويتحضر البدوي آنسا آمنا، وقل مثل ذلك في بادية الشام وبقاع سوريا وسهول الأناضول ومنابت الروملي ورياض الغرب وسائر أجزاء السلطنة. وينقلب حينئذ سيل المهاجرة فيقف المزمعون ويعود الراحلون وتصبح هذه البلاد الفسيحة مرمى الآمال ومحط الرجال بعد أن كان الراحل عنها محسودا على الخروج سليما منها، وإن قضى حياته شريدا طريدا.
وإذا تأملت أخيرا في دعامة الهيبة والسلطة والأمن - ونعني بها: الجندية - رأيت أننا مذ الآن في موقف لا يستهان؛ فإن لدينا من الضباط المحنكين وفتية الجند الباسلة ما ترتفع الرءوس به عزا وافتخارا، فما قولك بهذا الجيش المتفاني في حفظ بيضة السؤدد والمجد بعد خمسة وعشرين عاما وقد تثقفت جميع طبقات الأمة فمشي المسيحي إلى جانب المسلم، والإسرائيلي إلى جانب اليزيدي، والبدوي إلى جانب الحضري، فألفوا جسما واحدا يرمي جميعا إلى غاية واحدة ألا وهي حفظ الذمار ودرء العار.
وإذا ساءك أن قوتنا البحرية في ضعف وعجز ظاهر، فبمدة خسم وعشرين سنة لنا متسع من الزمن لإعداد أسطول من أعظم الأساطيل وتدريب جيش بحري من أعظم الجيوش. وليست قلة المال في الآونة الحاضرة مانعا من إدراك هذه الأمنية؛ فلقد أبنا فيما تقدم ما حصل لدينا من الوفر العظيم بإلغاء رواتب الجواسيس وما يلحقها من الخرج الباهظ في أبواب أقفلتها حكومتنا الدستورية مما يحصى بالملايين، هذا خلا الزيادة التي ستستمر في الدخل بلا زيادة في الضرائب حتى تبين لنا بالإحصاء، فقلنا ولا حرج إن دخلنا بعد بضعة عقود من السنين سوف يعادل دخل أعظم الدول الأوروبية.
وحسبنا - في الختام - أن نضرب لك مثالا هذه الأجسام الصغيرة التي انفصلت عنا فألفت الممالك والإمارات وآخرها البلغار، لم يكد يمر على انفصالها ثلاثون عاما حتى جعلت لنفسها شأنا خاصا وقامت تزج نفسها في عداد الدول وسارت في طريق الترقي شوطا لا يمكن إنكاره، وألفت لها جيشا وابتنت الحصون والقلاع، ولم تكن إلا جزءا صغيرا من هذه السلطنة العظمى. وهي ليست مع هذا ملة واحدة - على ما يتوهم البعض - بل عندها ما عندنا من تشعب الملل، من السلافي إلى اليوناني إلى التركي المسلم والإسرائيلي وهلم جرا. ولهذا لا نرى غلوا في شيء مما تصورنا لحالة البلاد العثمانية بعد ربع قرن يمر من هذا التاريخ.
فيا حبذا ذلك اليوم الذي نراه مذ الآن في مسارح الخيال، يوم لا يبقى من الاستبداد إلا ألم ذكراه وطرب الفوز بدك معالمه. يوم ينتشر العلم فيسطر الفلاح حساب مزروعاته بخط يده ويتفاهم جميع أبناء البلاد بلا واسطة ترجمان، يوم تنتظم الفتيان جنبا لجنب في فرق الجندية من أبناء كل ملة ودين، يوم تخضل الأرض ولا ينال البحار من مياه الأنهار إلا فضلاتها، ويهب أرباب الأموال إلى تثمير أموالهم في بلادهم فيؤلفون الشركات ويتبارون بإنشاء المعامل وينيلون البر حظا مما رزقهم الله زكاة طيبة تنفق في كل باب ينتفع به أخوهم العاجز والفقير، يوم يخفق العلم العثماني في عرض البحر على أساطيل الدفاع وبواخر التجارة وتتشعب طرق النقل برا وبحرا تشعب العروق في الجسد، يوم يفاخر أبناء الأمة العثمانية سائر أمم الأرض.
وليس هذا اليوم ببعيد - بإذن الله.
صفحه نامشخص